السادس من أيار
06 05
عيد الشهداء
في ذكرى يوم كيوم السادس من أيار، يتوقف المتأمل ملياً أمام يوم يختصر تاريخ شعب بأكمله، تاريخ شعب امتلأت لحظات وجوده الطويل على هذه الأرض، بمرارات وعذابات لا حصر لها، غزوات واحتلال، ثورات وانتفاضات، وتمرد مستمر حتى الثمالة، تاريخ شعب أبي لم يبتلع ثمرة الظلم، ولم يقبل قيد العبودية أو الاستعمار، ولم يهادن محتلاً أو ظالماً. لقد كانت هذه الأرض على الدوام مأوى الثوار، ومخزن الأحرار، ويوم السادس من أيار يختزن في رمزيته كل ما ذكرنا، وما سنذكر.
في السادس من أيار، علق السفاح جمال رقاب الأحرار من نخبة المثقفين والسياسيين العرب فيدمشق وبيروت على أعواد المشانق، ولكنه لم يتمكن من أن يطفئ حمية هذا الشعب وشعلته الملتهبة، فإذا به ينتفض في كل مكان مطلقاً صرخة الحرية، وما هي إلا أشهر معدودة حتى أطيح بالمستعمر القديم، ولكن مستعمراً جديداً فرنسياً كان يتربص بهذه الأرض وأهلها الدوائر.
هكذا تحولت ذكرى هذا اليوم لتشمل جميع شهداء الوطن الأبرار، جميع أولئك الذين ضحوا بدمائهم وحياتهم، على أمل حياة جديدة أفضل لأولادهم وأحفادهم ووطنهم، لقد انضمت قوافل من الشهداء إلى قافلة الشهداء الأولى على يد المستعمر العثماني، منها سقطت في النضال ضد المستعمر الفرنسي أو الإنكليزي، في سبيل الاستقلال والحرية وسيادة الوطن، وبعدها قوافل من الشهداء في صراعنا الدؤوب ضد المستعمر الصهيوني وكيانه الغاصب في فلسطين، معارك طاحنة، ما تزال قوافل الشهداء تذهب في أتونها قافلة إثر قافلة، ولن تتوقف، إلا بتحقيق الحرية الكاملة لأرضنا السليبة.
مقدمة تاريخية:
كانت الدولة العثمانية مع بداية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) تعاني مشاكل بنيوية عميقة تضعها على حافة الهاوية من حيث قدرتها على المحافظة على وحدتها السياسية وتصديها للأطماع الخارجية. وكانت الدولة العثمانية التي هيمنت منذ حوالي 400 سنة (بعد هزيمة المماليك أمام السلطان سليم الأول عام 1516 في معركة مرج دابق)، قد سادت على العالم العربي بمجمله تقريباً وأخذت دور اللاعب الرئيس في منطقة الشرق الأوسط.
إلا أن هذه السيطرة المطلقة قد تخلخلت مع مرور الزمن، ومع غياب السلاطين الأوائل القادرين، وأخذ الفساد والظلم ينخران في جسد الدولة المترامية الأطراف، دون أن تتمكن السلطة المركزية من أن تفعل شيئاً، وهكذا استقل البايات والدايات في غرب الإمبراطورية الأقصى، وظهر سطوة محمد علي في مصر، حيث تمكن من إنشاء دولة قوية كادت أن تقضي على سلطة العثمانيين لولا تدخل الدول الغربية السريع والمباشر، لقطع الطريق على احتمال ظهور دولة مستقلة قوية تعارض مخططاتهم في اقتسام جسد «الرجل المريض»، وهو التعبير الذي أخذ يطلق على الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر.
وهكذا، كان للدول الاستعمارية الكبرى أطماعها الواسعة في تركة الدولة الاستعمارية السابقة والآخذة في الأفول.
من ناحية أخرى ، لم تكن سياسات الدولة العثمانية تجاه شعوبها كفيلة بضمان تأييد هذه الشعوب ضد أي خطر خارجي، فاعتمادها سياسة تقوم على نهب ثروات البلاد التي احتلتها، ووضع البلاد تحت سلطة ولاة قساة ظالمين وسفاحين، إضافة إلى سياسات التتريك وإهمال التراث الحضاري والثقافي لهذه البلاد، واعتماد سياسية التتريك اللغوي، وخصوصاً في المنطقة العربية القريبة منها (العراق وبلاد الشام)، كل ذلك أورث جذور الثورة والتمرد عند سكان البلاد العرب، الذين ينتمون إلى تراث عريق لا يمكن تجاهله.
كانت الخلافة العثمانية قد شهدت نهايتها على يد الأتراك أنفسهم، فبعد استلام السلطان عبد الحميد الثاني العرش في عام 1876 ارتفعت الصيحات المطالبة بإصلاح أحوال الإمبراطورية العثمانية، وشهدت الدولة إنشاء مجلس الأعيان (الشيوخ) ومجلس المبعوثان (النواب) الذي انتخب أعضاؤه مباشرة من الشعب، حيث عرفت بلاد الشام أول برلمان لها، وكان من أعضائه خالد الأتاسي عن حمص وأمين أرسلان عن جبل لبنان وحسين بيهم ونقولا نقاش عن بيروت ونوفل نوفل عن طرابلس. إلا أن هذه الفترة لم تستمر طويلاً إذا سرعان ما تم تعطيل الدستور، وتحول حكم عبد الحميد الثاني إلى نظام بوليسي، واشتدت أعمال البطش والقمع التي لحقت بدعاة الإصلاح السياسي، وعلى رأسهم الأدباء والمفكرين العرب الذين أخذوا يدعون إلى أن ينال العرب حقوقهم القومية والثقافية والسياسية، مما أدى إلى حركة عامة في جميع المجتمعات العربية ترنو إلى تحرير العرب من نير الاحتلال العثماني، وبدأ المثقفون العرب تأسيس الجمعيات التي قادت هذا التوجه العام.
وفي تركيا نفسها، نشأت جمعيات سياسية هدفت إلى إصلاح النظام السياسي، حيث شكلت هذه القوى حزباً سياسياً معارضاً للسلطان عبد الحميد عرف بحزب تركيا الفتاة، ثم عرف فيما بعد بجمعية الاتحاد والترقي. وقد انضم إليها بادئ الأمر بعض الضباط العرب في الجيش التركي، وتعاطف معها مثقفون بارزون من أمثال عبد الرحمن الكواكبي وأديب اسحق. وتحت تأثير هذا الضغط أعاد السلطان عبد الحميد العمل بالدستور عام 1908، فعمت الأفراح أنحاء البلاد. وعبر الشعراء والمثقفون العرب كالشيخ رشيد رضا وسليمان البستاني وأحمد شوقي عن تأييدهم للمسيرة الإصلاحية في جسم الدولة التركية.
إلا أن هذا الوضع أيضاً لم يستمر طويلاً إذ سرعان ما أعاد السلطان عبد الحميد تعطيل الدستور، فقرر مجلس الأمة خلع السلطان عبد الحميد ونفيه في عام 1909، وتسلم حزب الاتحاد والترقي السلطة، لكنه بدلاً من أن يمد يده إلى العرب الذين أيدوه في حركته الإصلاحية، عمد فوراً إلى حل جميع الجمعيات والمنظمات التي لا تنتمي إلى الجنس التركي، وأولها جمعية الإخاء العربي العثماني، واتبع سياسية العسف والاستبداد والعنصرية ضد القوميات الأخرى في جسم الدولة التركية مما دفع الأحرار العرب إلى العودة مرة أخرى إلى النضال السياسي لتحرير الأمة العربية والوصول إلى استقلالها.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تحالفت السلطة التركية الجديدة مع ألمانيا، في محاولة منها لإيقاف الانهيار المستمر لسلطتها في البلاد الخاضعة لها، والتي كانت هدفاً لأطماع الدول الكبرى السائدة آنذاك، وعلى وجه الخصوص بريطانيا وفرنسا، مما دفع بالسلطات التركية إلى خوض حرب ضروس مع هذه الدول، وتجنيد أعداد كبيرة من الجنود كانت غالبيتهم من شعوب الدول الخاضعة لسلطتها، وخاصة من بلادنا العربية، فيما عرف لاحقاً بـ«السفربرلك»، وذهبت أعداد كبيرة من شباب العرب إلى هذه الحرب، وكثير منهم لم يعودوا، ولم يعرف أحد أين ماتوا أو دفنوا.
06 05
عيد الشهداء
في ذكرى يوم كيوم السادس من أيار، يتوقف المتأمل ملياً أمام يوم يختصر تاريخ شعب بأكمله، تاريخ شعب امتلأت لحظات وجوده الطويل على هذه الأرض، بمرارات وعذابات لا حصر لها، غزوات واحتلال، ثورات وانتفاضات، وتمرد مستمر حتى الثمالة، تاريخ شعب أبي لم يبتلع ثمرة الظلم، ولم يقبل قيد العبودية أو الاستعمار، ولم يهادن محتلاً أو ظالماً. لقد كانت هذه الأرض على الدوام مأوى الثوار، ومخزن الأحرار، ويوم السادس من أيار يختزن في رمزيته كل ما ذكرنا، وما سنذكر.
في السادس من أيار، علق السفاح جمال رقاب الأحرار من نخبة المثقفين والسياسيين العرب فيدمشق وبيروت على أعواد المشانق، ولكنه لم يتمكن من أن يطفئ حمية هذا الشعب وشعلته الملتهبة، فإذا به ينتفض في كل مكان مطلقاً صرخة الحرية، وما هي إلا أشهر معدودة حتى أطيح بالمستعمر القديم، ولكن مستعمراً جديداً فرنسياً كان يتربص بهذه الأرض وأهلها الدوائر.
هكذا تحولت ذكرى هذا اليوم لتشمل جميع شهداء الوطن الأبرار، جميع أولئك الذين ضحوا بدمائهم وحياتهم، على أمل حياة جديدة أفضل لأولادهم وأحفادهم ووطنهم، لقد انضمت قوافل من الشهداء إلى قافلة الشهداء الأولى على يد المستعمر العثماني، منها سقطت في النضال ضد المستعمر الفرنسي أو الإنكليزي، في سبيل الاستقلال والحرية وسيادة الوطن، وبعدها قوافل من الشهداء في صراعنا الدؤوب ضد المستعمر الصهيوني وكيانه الغاصب في فلسطين، معارك طاحنة، ما تزال قوافل الشهداء تذهب في أتونها قافلة إثر قافلة، ولن تتوقف، إلا بتحقيق الحرية الكاملة لأرضنا السليبة.
مقدمة تاريخية:
كانت الدولة العثمانية مع بداية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) تعاني مشاكل بنيوية عميقة تضعها على حافة الهاوية من حيث قدرتها على المحافظة على وحدتها السياسية وتصديها للأطماع الخارجية. وكانت الدولة العثمانية التي هيمنت منذ حوالي 400 سنة (بعد هزيمة المماليك أمام السلطان سليم الأول عام 1516 في معركة مرج دابق)، قد سادت على العالم العربي بمجمله تقريباً وأخذت دور اللاعب الرئيس في منطقة الشرق الأوسط.
إلا أن هذه السيطرة المطلقة قد تخلخلت مع مرور الزمن، ومع غياب السلاطين الأوائل القادرين، وأخذ الفساد والظلم ينخران في جسد الدولة المترامية الأطراف، دون أن تتمكن السلطة المركزية من أن تفعل شيئاً، وهكذا استقل البايات والدايات في غرب الإمبراطورية الأقصى، وظهر سطوة محمد علي في مصر، حيث تمكن من إنشاء دولة قوية كادت أن تقضي على سلطة العثمانيين لولا تدخل الدول الغربية السريع والمباشر، لقطع الطريق على احتمال ظهور دولة مستقلة قوية تعارض مخططاتهم في اقتسام جسد «الرجل المريض»، وهو التعبير الذي أخذ يطلق على الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر.
وهكذا، كان للدول الاستعمارية الكبرى أطماعها الواسعة في تركة الدولة الاستعمارية السابقة والآخذة في الأفول.
من ناحية أخرى ، لم تكن سياسات الدولة العثمانية تجاه شعوبها كفيلة بضمان تأييد هذه الشعوب ضد أي خطر خارجي، فاعتمادها سياسة تقوم على نهب ثروات البلاد التي احتلتها، ووضع البلاد تحت سلطة ولاة قساة ظالمين وسفاحين، إضافة إلى سياسات التتريك وإهمال التراث الحضاري والثقافي لهذه البلاد، واعتماد سياسية التتريك اللغوي، وخصوصاً في المنطقة العربية القريبة منها (العراق وبلاد الشام)، كل ذلك أورث جذور الثورة والتمرد عند سكان البلاد العرب، الذين ينتمون إلى تراث عريق لا يمكن تجاهله.
كانت الخلافة العثمانية قد شهدت نهايتها على يد الأتراك أنفسهم، فبعد استلام السلطان عبد الحميد الثاني العرش في عام 1876 ارتفعت الصيحات المطالبة بإصلاح أحوال الإمبراطورية العثمانية، وشهدت الدولة إنشاء مجلس الأعيان (الشيوخ) ومجلس المبعوثان (النواب) الذي انتخب أعضاؤه مباشرة من الشعب، حيث عرفت بلاد الشام أول برلمان لها، وكان من أعضائه خالد الأتاسي عن حمص وأمين أرسلان عن جبل لبنان وحسين بيهم ونقولا نقاش عن بيروت ونوفل نوفل عن طرابلس. إلا أن هذه الفترة لم تستمر طويلاً إذا سرعان ما تم تعطيل الدستور، وتحول حكم عبد الحميد الثاني إلى نظام بوليسي، واشتدت أعمال البطش والقمع التي لحقت بدعاة الإصلاح السياسي، وعلى رأسهم الأدباء والمفكرين العرب الذين أخذوا يدعون إلى أن ينال العرب حقوقهم القومية والثقافية والسياسية، مما أدى إلى حركة عامة في جميع المجتمعات العربية ترنو إلى تحرير العرب من نير الاحتلال العثماني، وبدأ المثقفون العرب تأسيس الجمعيات التي قادت هذا التوجه العام.
وفي تركيا نفسها، نشأت جمعيات سياسية هدفت إلى إصلاح النظام السياسي، حيث شكلت هذه القوى حزباً سياسياً معارضاً للسلطان عبد الحميد عرف بحزب تركيا الفتاة، ثم عرف فيما بعد بجمعية الاتحاد والترقي. وقد انضم إليها بادئ الأمر بعض الضباط العرب في الجيش التركي، وتعاطف معها مثقفون بارزون من أمثال عبد الرحمن الكواكبي وأديب اسحق. وتحت تأثير هذا الضغط أعاد السلطان عبد الحميد العمل بالدستور عام 1908، فعمت الأفراح أنحاء البلاد. وعبر الشعراء والمثقفون العرب كالشيخ رشيد رضا وسليمان البستاني وأحمد شوقي عن تأييدهم للمسيرة الإصلاحية في جسم الدولة التركية.
إلا أن هذا الوضع أيضاً لم يستمر طويلاً إذ سرعان ما أعاد السلطان عبد الحميد تعطيل الدستور، فقرر مجلس الأمة خلع السلطان عبد الحميد ونفيه في عام 1909، وتسلم حزب الاتحاد والترقي السلطة، لكنه بدلاً من أن يمد يده إلى العرب الذين أيدوه في حركته الإصلاحية، عمد فوراً إلى حل جميع الجمعيات والمنظمات التي لا تنتمي إلى الجنس التركي، وأولها جمعية الإخاء العربي العثماني، واتبع سياسية العسف والاستبداد والعنصرية ضد القوميات الأخرى في جسم الدولة التركية مما دفع الأحرار العرب إلى العودة مرة أخرى إلى النضال السياسي لتحرير الأمة العربية والوصول إلى استقلالها.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تحالفت السلطة التركية الجديدة مع ألمانيا، في محاولة منها لإيقاف الانهيار المستمر لسلطتها في البلاد الخاضعة لها، والتي كانت هدفاً لأطماع الدول الكبرى السائدة آنذاك، وعلى وجه الخصوص بريطانيا وفرنسا، مما دفع بالسلطات التركية إلى خوض حرب ضروس مع هذه الدول، وتجنيد أعداد كبيرة من الجنود كانت غالبيتهم من شعوب الدول الخاضعة لسلطتها، وخاصة من بلادنا العربية، فيما عرف لاحقاً بـ«السفربرلك»، وذهبت أعداد كبيرة من شباب العرب إلى هذه الحرب، وكثير منهم لم يعودوا، ولم يعرف أحد أين ماتوا أو دفنوا.
تعليق