إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بقلم : جرو جمال - تحقيق التراث من الهوامش والحواشى إلى الماوس؟!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بقلم : جرو جمال - تحقيق التراث من الهوامش والحواشى إلى الماوس؟!

    تحقيق التراث من الهوامش والحواشى إلى الماوس؟!
    • بقلم : جرو جمال



    لم يعد تحقيق التراث من أجل إحياء التراث فحسب، وانما تطورت غايات التحقيق لكى تجعل التراث مكلف بمطاوعة لغة عصر تكنولوجيا المعلومات، فلم تعد القضية قضية احياء للتراث بقدر ما هى قضية وجود أو عدم وجود للتراث فى عصر ثورة الاتصالات والاوعية الرقمية للمعارف، فالتراث حالياً يواجه عصر تحول أنثروبولوجى مشابه للتحول الذى اصاب الثقافة عندما تحولت من الشفاهية إلى الكتابية، فعرفت الثقافة الكتاب كوعاء لمنتجها، فهاهى اليوم تعيش عصر التحول إلى الشفاهية الثانية فى صورة الاصدارات الرقمية، وبات المعنيون بتحقيق التراث مطالبون بتطويع مناهجهم فى تحقيقه لتتناسب مع شكل الاصدار الحديث للكتاب الرقمى، وأن يطوروا وسائلهم فى ضبط النصوص مستخدمين المميزات التى منحها لهم عصر الحواسب الآلية وشبكة المعلومات الدولية، وبرامج معالجة النصوص المختلفة.

    من الحواشى إلى الهوامش؟
    يمكن رصد التطور الذى أصاب تحقيق التراث برصد العلاقة بين المتن والحواشى من جهة، وبين المتن والهوامش، من جهة اخرى، فالحاشيةMarginal note)) هى ذلك الفراغ الموجود على جانبىّ الصفحة يميناً ويساراً، وما بينهما يعرف بالمتن، بينما الهامش(Foot note) هو الموجود أسفل الصفحة، وفى عصر المخطوطات لم يعرف النساخ ولا المؤلفون الهوامش، فكان يعمد المؤلفون إلى ترك مساحات كافية للحواشى على جانبى صفحات كتابه، من اجل تعليقات من يقرأ كتابه، ولم يكن يملك المؤلف إلا المتن حتى ليكتب فيه ما يعن له من تعليقات واضافات، فعرفت متون النصوص التراثية القديمة اصطلاحات مثل "تنبيه"، و"فائدة"، و"تعليق"، وهى اشارات لتداعيات المؤلف اثناء التأليف، وفى زمن الكتاب المطبوع لم يعد يملك المؤلف إلا متنه، ولم يعد للحواشى وجود، وانما ظهرت الهوامش إلى الوجود، ولكنها هوامش من صناعة المؤلف فى الطبعة الاصلية، ومن صناعة المحقق فى الطبعات المحققة، فتحول التراث من الحواشى إلى الهوامش، الا انه فى زمن الحواسب عادت الحواشى للظهور ولكن بشكل مختلف؟
    هوامش بالماوس!؟
    بفضل تنوع برامج معالجة النصوص الرقمية على الحواسب الآلية، وبفضل شبكة المعلومات الدولية "الانترنت"، وما بها من الاصدارات الرقمية ذات السعات التخزينية العالية للنصوص المكتوبة بصياغات مختلفة، وما توفره محركات البحث من وسائل البحث السريع فى تلك النصوص، باتت الهوامش تأخذ شكلاً مختلفاً فى العصر الحديث، فيكفى أن تضع "الماوس" الخاص بالحاسب الشخصى على كلمة معينة فى النص الذى تطالعه، لتنفتح لك على الفور صفحة هامش جديدة تحمل المعلومات الخاصة بهذه الكلمة التى وقفت عليها بالماوس، وان لم يرضيك هذا الهامش، فلك ان تؤشر عليه طالبا البحث العام فى الشبكة الدولية عن كل ما ذكر حول تلك الكلمة فى ثوان معدودة ليتحول الهامش إلى كتاب آخر قائماً بذاته فى لمح البصر، بل أن هناك نوعية خاصة من برامج معالجة الكلمات تمنح القارئ اليوم فرصة مماثلة لجده الاول فى الزمن الكتابى لعصر ما قبل الطباعة، حيث تمنحه القدرة على كتابة تعليقاته فى نفس المكان الذى يطلع منه على النص، كما انها تمنحه الفرصة لكى يجمع تعليقاته التى كتبها منفصلة فى اصدار خاص، أو ملحقة بالنص الأصلى كيفما شاء.
    مراحل تحقيق التراث
    لقد أرخ القرآن الكريم لمراحل عملية تحقيق التراث التى مرت بها الثقافة العربية، فى قول رب العزة:" وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا"( 5 الفرقان)، و" اذا تتلى عليه آياتنا قال اساطير الاولين"(15 القلم، وتكررت بنفس صياغتها بالآية13 المطففين) فهى اشارة إلى المرحلة الأولى لتحقيق التراث بنقله من المروى الشفاهى إلى المكتوب المنسوخ بفعل الاملاء، بل أن نظرة العربى المثقف الشفاهى الاول نظرت إلى النص القرآنى نظرة عكست ثقافته بموقفه من التراث فاعتبره أنه ما هو إلا كتاب محقق فى إصدار حديث لتراثهم القديم بقوله سبحانه وتعالى:" وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (الأنفال31)، بل كان الجدل الثقافى الأول حول قضية تواصلهم مع تراثهم القديم فى وجود الوعاء الثقافى الجديد كما بدى لهم فى النص القرآنى، فاثبت القرآن الكريم ذلك القلق الثقافى من تخوفهم من إحياء الماضى فى زمان مختلف عن واقعهم فى الآية القائلة :"وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ"(الآية 25 الأنعام)، بل ان القرآن الكريم نفسه سجل موقفهم هذا من قدرتهم على تحقيق التراث فى الآية "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ"(31 الأنفال)، بل ان العربى المثقف الشفاهى القديم ظل مولعاً بالنصوص الأصلية الغير محققة عندما أشار القرآن إلى ذلك الولع الثقافى بقوله:" وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى"(الآية133 طه) بل ان القرآن اثبت لهم صحة تطابقه مع النصوص الأصلية، وهى تعد اهم مرحلة فى عملية تحقيق النصوص بما يعرف حديثاً باسم المقابلة بين النصوص، وحتى عند دخول الثقافة إلى مرحلتها الطباعية وردت كنبوءة فى القرآن الكريم بقوله:" وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ"(الآية 10 التكوير)، فالنشر بالطباعة لتداول الصحف تنبأ به القرآن الكريم كتحول ثقافى، كما فى الآية" بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً"(الآية 52 المدثر)، بل انه تنبأ بما نمر به اليوم من مرحلة التخزين الرقمى للنصوص بقوله:" كِتَابٌ مَرْقُومٌ "(الآية 9 المطففين)، وهى احدث اصدار للمعرفة فى صورة الكتاب الرقمى فى عصر الحاسب الآلى، وما سيحمله المستقبل من تطورات فى هذا المجال، الا ان هذا يعنى ان المستقبل تحدد شكله على اساس هذا الوعاء الاختزالى للمعرفة الرقمية باستخدام الحواسب الآلية، فالحالة الرقمية هى الحالة التى تمكن الانسان من ان يحتوى أقصى قدر من المعرفة .
    أصول تحقيق النصوص
    انتقلت عملية تحقيق النصوص التراثية من مرحلة المجهودات الفردية إلى مرحلة أداء عمل حسب القواعد والاصول عبر جيل طويل من الرواد، منهم من مارس عملية التحقيق ذاتها، فكان عمله نموذجا للاحتذاء، ومنهم من تجاوز تلك المرحلة فقام بتنظير عمله، واسس قواعد لتحقيق النصوص، تمثل تلك القواعد اصول التحقيق، وفنيات العمل، وكشفت عما يتطلبه عمل التحقيق من مهارات، ونوعية خاصة من الخبرات، فيعد كتاب "الدر النضيد فى أدب المفيد والمستفيد" تأليف "بدر الدين الغزى الدمشقى" (ت984هـ) من اوائل الاصدارات فى الثقافة العربية والتى اسست قواعد للتعامل مع النصوص التراثية، مما دفع "عبد الباسط العلموى"(ت981هـ) لان يعيد اختصاره باسم "المعيد فى أدب المفيد والمستفيد"، حتى جاءت جهود المستشرقين لإرساء القواعد الحديثة لهذا المنهج، امثال "وليم رايت" الإنجليزى عندما قام بتحقيق "الكامل للمبرد" فى العام 1864م، و"جوستاف يان" الألمانى عندما نشر "شرح المفضل لابن يعيش" فى العام 1882م، حتى جاء المستشرق الألمانى "برجشتراسر" فى العام 1931م وقام بجمع وتنظير جهود سابقيه فى تحقيق التراث بمحاضرات القاها بكلية الآداب جامعة القاهرة، وجمعها، ونشرها تلميذه "حمدى البكرى" وطبعها فى العام 1969م، حتى جاء الجيل الاول من محققى التراث فى عالمنا العربى متمثلاً فى العلامة عمدة المحققين "عبد السلام هارون" كما يقول عنه الأستاذ "احمد حسين الطماوى" فى كتابه" رواد معاصرون":" عبد السلام هارون محقق الكتب العُمد، والاسفار الرئيسية فى مكتبة العرب"، فهو فضلا عن جهوده فى تحقيق التراث الا انه يعد اول منظر لمنهج تحقيق التراث، ووضع قواعد واصول هذا المنهل من العرض المعرفى لما انتجه الاوائل فى مختلف مجالات المعرفة، كما اوضحه فى كتابه "تحقيق النصوص ونشرها" فى العام 1954م، وظهر بعد ذلك جيل الرعيل الاول من منظرى عملية تحقيق التراث، امثال د. "صلاح الدين المنجد"، ود. "رمضان عبد التواب"، و د." عبد المجيد دياب"، و د. "محمود الطناحى"، فكادت جهودهم ان تحول عملية تحقيق التراث إلى علم قائم بذاته، ومع قيام ثورة الاتصالات أصبحت عملية تحقيق التراث تتمتع بمميزات لم يتخيل وجودها الرواد الاوائل من حجم قوائم كتب المخطوطات العربية على شبكة الانترنت عبر جميع مكتبات العالم، فاصبح عمل مثل كتاب "فؤاد سزكين"(1924م) فى "تاريخ التراث العربى"، والمكون من اثنى عشر مجلداً يمكن القيام به فى لمح البصر على الحاسوب الشخصى .
    المخطوطات فى زمن الانترنت؟!
    بفضل ثورة المعلومات، والتطور التقنى الذى حدث فى الحواسب الآلية الشخصية، متواكباً مع ثورة اخرى فى مجال البرامج التى تدير عملية التعامل مع التراث فقد تحول تراثنا العربى إلى مستندات رقمية مخزنة الصور على شبكة المعلومات الدولية الانترنت، وتضمها قوائم حصر منتشرة لكل ما تحتويه المكتبات فى أى مكان فى العالم من تلك المخطوطات، فباتت العقبة الاولى التى كانت تعوق محقق المخطوطات القديم لا وجود لها بفضل محركات البحث المنتشرة على الشبكة الدولية، كما اصبحت هناك مكتبات قائمة بذاتها على شبكة المعلومات تعلن عن تخصصها فقط فى حصر قوائم المخطوطات العربية فى جميع مكتبات العالم سواء العامة أو الخاصة، ولم يعد ينتظر محقق المخطوطات فى زمن التقنيات اليوم الا ان يتم اصدار برنامج لمعالجة النصوص العربية المكتوبة كمثيله الموجود باللغة الانجليزية، حيث يقوم هذا البرنامج المقترح بتحويل المخطوط إلى نص كتابى يمكن التعامل معه بالتعديل والاضافة عن طريق لوحة المفاتيح، وفيه يتم تخزين كل الاحتمالات التى يمكن ان تصادف عملية النسخ، وأخطاء النساخ الشائعة، كما ان مشكلة إعداد الفهارس المتنوعة للمخطوط من آيات القرآن الكريم، والاحاديث النبوية، والاعلام، والاماكن، لم تعد قائمة، فتوجد برامج توفر القيام بسهولة بهذه الفهارس مجتمعة فى أقل من ثوان، متى تم تحويل المخطوط إلى نص حاسوبى، لاشك ان الولع بتحقيق المخطوطات سوف تكون لغوايته مذاقاً مختلفاً، فسيعتمد على جيل من المحققين المحدثين، له دراية بتقنيات العصر سوف تمنح هذ الجيل من المحدثين فرص لم تمنح للرعيل الاول منهم.
يعمل...
X