إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

وقت التخلّص من الفصل بين الأنواع الأدبية، توجهاً نحو مفهوم النص المتعدي للأنواع؟-سؤال النصّ والكتاب- د. وفيق سليطين..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • وقت التخلّص من الفصل بين الأنواع الأدبية، توجهاً نحو مفهوم النص المتعدي للأنواع؟-سؤال النصّ والكتاب- د. وفيق سليطين..

    سؤال النصّ والكتابة


    د. وفيق سليطين:هل حان وقت التخلّص من الفصل بين الأنواع الأدبية، توجهاً نحو مفهوم النص المتعدي للأنواع؟
    وهل يتعيّن على الكتابة اليوم أن تكون إسقاطاً للحدود، ودفعاً لفكرة النقاء النوعي؟‏‏

    ‏‏ في تأمّل هذا السؤال ينبغي، أولاً، نقد فكرة «الوجوب»، ومقولة «الحتم» ذات الطبيعة الجبرية، التي تقود هنا إلى إقرار تخطّي وضع ما بتوثين مقلوبه، الذي سيغدو، بهذا المنظور، قابلاً للتعيّن بخاصيات ثابتة نسبياً، من حيث هو تجاوز للثبات وانقلاب عليه. وينبغي، من جهة أخرى، نقد فكرة «النقاء» نفسها، قديماً وحديثاً، فهي مجرّد أسطورة تنشط في الرؤى اليوتوبية، وتتأسس في مدارات الحجب والانغلاق.‏‏
    منذ زمن ليس بالقليل بيّنتْ الدراسات المتخصصة في الفكر النقدي والبحث اللساني أن اللغة نفسها ليست نقية. فكيف يمكن للقواعد المشتقة منها أن تكون ذات نقاء جذري؟ وكيف يمكن لصيغة أو أخرى من صيغ البناء والتركيب أن تقوم في عزلة مطلقة، تكون عاصماً لها من الالتباس والانخراط في وضعيات مختلفة يقتضيها نشاط التفاعل وإمكانات التحويل؟‏‏
    غالباً ما تنطلق دعوات التجاوز والعبور النوعي من واقع استنقاع التجارب في ضروب الكتابة الامتثالية، التي لا تعدو أن تكون صوراً حادثة مضروبة على أصل سابق تعيد إنتاجه، فتكفّ عن الوفاء بحاجات الخلق الفني والتأثير الجمالي، ويتضمن ذلك أنها تكفّ عن الاستجابة لمتغيرات الحياة وشروط الواقع في لحظته المركبة التي أفرزتها سياقات التحوّل الكوني، وتمخّضتْ عنها رؤى العالم الجديد.‏‏
    لقد سبق لأدونيس أن بشّر، منذ نحو ثلاثين عاماً أو أكثر، بمفهومات التحوّل التي تراهن على التعدي النصيّ واجتراح آفاق جديدة للكتابة تتجاوز التحديدات النوعية، بحيث يغدو النص رقعة مفتوحة لتمازجها وتفاعلها وانخراط بعضها ببعض، على سبيل العلو نحو مناطق جديدة في رؤى الكشف والإبداع. لكنّ ذلك لا يعني «وجوباً» الحذف النهائي للمفهومات النوعية.‏‏
    من هذا المنطلق ينبغي إعادة تدقيق مفهوم «التجاوز» في اختلاف طرائق استثماره بين العلم والفنّ، وهو ما يفتح على الاختلاف بين النفعي والجمالي. على المقياس النفعي تُلغي الآلة الحديثة سابقتها، أو تقلّل من سبل الحاجة إليها. لكنّ ذلك لا يطّرد على المقياس الجمالي، بمعنى أن الكتابة عبر النوعية لا تحمل، بالضرورة، فكرة التقويض النوعي، ولا تلغي إمكانية تأسيس تجارب فاعلة ضمن الأطر الموجَّهة بحدود فكرة النوع، دون رفع هذا الأخير إلى رتبة النقاء الذاتي والاستقلالية المطلقة.‏‏
    لا شك في أن أطروحة التعدي النوعي تكتسي أهمية نظرية خاصة، بما يفتح عليه من تعديل طرائق الاستجابة، وتخصيب رؤى العالم بالافتراع والاستحداث، وبما تروم التحول نحوه، إبداعياً، باشتقاق تجارب تتوخّى توسيع دوائر الكشف، وتغذية التوثب الفني على آفاق الريادة، وغزو مناطق البكارة، وتجريب الحراثة في أرض المجهول.‏‏
    وبهذا تصون الأطروحة وجاهتها التي تبقى محل تقدير، بما تنطوي عليه من قوة الدفع وطاقة النفي. ولعلّ ذلك ما جعل أدونيس يذهب إلى تأكيدها من جديد. ونسوق ههنا، على سبيل المثال، شاهداً من كتابه الموسوم بـ «رأس اللغة جسم الصحراء»:‏‏
    «يقول بعضهم هناك في الكتابة حدود لا يجوز اختراقها، أو هناك «ثوابت» لا يجوز المساس بها. ومعنى ذلك أن على الكتابة العربية، فكراً وأدباً، أن تظلّ دائماً داخل هذه الحدود. لكن هل تقدر مثل هذه الكتابة أن تقدّم للقارئ إلا مزيداً من البعد عن الحقيقة، وعن الواقع؟ وهل يمكن للكتابة المطوّقة بمثل هذه الحدود أن تكون عظيمة؟ أو أن تضيف شيئاً جديداً؟ و»تحديد الكتابة» أو «أسرها» ألن يكون أسراً للغة، وأسراً للإنسان»؟‏‏
    إن إمكانات الحذف والإضافة وتخطّي الحدود الثابتة والتعريفات المستقرّة تظلّ قائمة ومفتوحة، بعيداً عن جبروت «الحتم» أو «الوجوب»، الذي يعني، في دلالته القصوى، تحرير الكتابة المطوّقة، لإدخالها في طوق جديد محدث الصنع، ومن هنا، بالضبط، يجب إعادة تكييف السؤال، لإدارته على نحو جديد، يتجاوز به حدود «الحصر» و»المنع « و»الاختزال».‏‏
    2‏‏
    ينطلق النظر إلى أطروحة «التعدي» من درجة التعقيد التي بلغها العالم اليوم. ولا شك في أن مواجهة سبل الكتابة الإبداعية، بعضها ببعض، يفتح على استكشاف طاقات واحدها قبالة الآخر، ومن خلال مواجهته به، وينتهي، تالياً، إلى تفجير طاقات جديدة في عمليات الاستحداث التركيبي المتعدي للسبل الواحدية، ولطرائق النظر القائمة عليها والموصولة بها. فمن شأن هذا التعدي النوعي أن يخترق منظورات البعد الواحد والتصورات المصاحبة لها، ليكشف في عمق المفاعلة عن خصوبة تعددية ومنظورات متواجهة ومتجادلة تردّ فائض القيمة على ما يوازيها من طرائق الحضور الجديد في العالم، وتعضد بعائدها غنى التلاقح الفكري، وتثير أسئلته التي تبارح المراكز الثابتة والنماذج المصمتة القائمة في عزلة بعضها عن بعض، أو في وهم اكتمالها، بحيث يطوي كلٌّ منها في داخله الفجوات والصدوع، ويكتب أدلة القصور الذاتي، فيعمّي حقيقة النقصان بإشاراته النسقية التي تصون الأوضاع القديمة الحاضرة في أنموذجه على نحو أو آخر.‏‏
    إن صورة الكتابة الجديدة، التي تمخض إمكانات الأنواع، تحدث أشكالها، وتنخرط في حركة العالم، دون أن تعتاش عليه فقط. ويعني ذلك أنها تخلق هويات نصيّة جديدة، كما تخلق حركة التفاعل بين المنظومات هوياتها الحادثة، التي تعيد تعريف الهوية من داخل التركيب الجديد، أو من مقتضى التوسطات البينية التي تنشط معها فاعليات الاحتكاك والدمج والتداخل، فتلاقي بين العناصر المختلفة والخاصيات المتغايرة، كاشفة عن إمكانات العالم المظلَّلة بقوة العزل وحراسة الحدود.‏‏
    في ضوء هذا التركيب الجديد، يتبدّى المستوى الواحد من حيث هو نفسه وغيره في آن معاً؛ ذلك أنه موسوم بالعلاقة التي يستوي مكوّناً في تركيبها، وواسمٌ لغيره، بمقتضاها، وحاضرٌ فيه. وبمثل ذلك فإن الاحتكاك بين المستويات يولّد خصائص جديدة لا تكون معها في حال الإفراد، كما أنه يوسّع حدود التأمل، ويردم هوّة الانفصال التي كانت تواري علامات نقص التحقق. إنه لا يخلق نصوصاً حديثة فقط، بل يخلق معها إنسانها المنفتح على عالم حديث، يفلت من أشكال التعيين القديمة ورؤاها الموروثة، ويتعرّف بالتعدد والتنوع، على أساس من عمق التداخل وتشابك الأبعاد. ومن لوازم الحضور فيه، على مستوى البنية النصيّة الجديدة، هذا الاشتباك الذي يعتصر الإمكانات المفردة، ويمخضها في ضفيرة تنتجها على نحو آخر، وتعلو بها فوق طاقاتها المتملّكة ودلالاتها الثابتة، في هذا السياق الذي تتغيّر معه زوايا النظر إلى الذات والعالم، والذي يحمل على الهجس العميق بالمخاضات الممكنة في هذا الإطار الخاص من التداخل والتعدي النوعي.‏‏
    3‏‏
    إذا كان من شأن التداخل النوعي، على مستوى التحقق النصيّ، أن يخلّص الكتابة الشعرية من التدفق والاسترسال وهيمنة الصوت الواحد والمركز البنائي المتعين، فإن الانتقال بالشعر إلى مفهوم الكتابة عبر النوعية أنتج حقلاً من التقاطعات لا يعبأ بالتحديدات النوعية في تجريبه، وفي تشييده فضاءً متداخلاً يستثمر مختلف التقانات المتاحة والمقترحة، ويعزّز عملها بتفعيل أثر بعضها في بعض، على النحو الذي يرجّح حدّ المكانية، ويجعل من رقعة الكتابة مجالاً للاشتغال البصري الفضائي الذي يدفع منطق التراتب التقليدي بين الأنظمة والسنن، التي تحضر معاً في تشابكها، وتعارضها، والتحامها، واختراق بعضها ببعض.‏‏
    هكذا تصبح الكتابة الشعرية، في هذا المنحى، حقلاً لتقاطع الفنون، واشتراكها، وتفاعلها، ومكاناً لتعدد الأبنية، واختلاف الأشكال، وتوسع رؤى الكتابة وانفتاح آفاقها. ولا شك في أن اندراج صيغ النثر، وطرائق السرد، وفنيات التصوير، وآليات العرض والتقطيع، قد حققت قدراً من التجاوز، وأضافت إلى المنجز النوعي وتخومه القريبة، أو انتقلت به إلى مدارات جديدة تشتقّ بلاغتها الخاصة المجاوزة لحدّ الزمانية في تعويلها على خطاب متداخل، يحفل بتغاير الدوال والسنن، ويطيح بالمفهومات الواحدية والمراكز الثابتة.‏‏
    وفي نحو التقاطع هذا ما يجري على اللغة نفسها، إذ إن ضخ مستويات من لغة المعيش اليومي ونبراته الشفوية أدى إلى اعتراض جاهزيات التركيب النحوي، وإلى نقض أوضاعه المستقرّة ونظامه المغلق، وهو ما يجعل من هذه الكتابة مسكونة بالأصوات والأصداء والتجاوبات التي تحققها بصفة التقاطب في العبور النوعي، والحوار التناصي، وغير ذلك، مما هو وسيلة للتجاوز في أفعال الكشف والخلق والاجتراح، يكفّ عن أن يكون كذلك عندما يغدو غاية نفسه.‏‏
يعمل...
X