إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

من أعمال الكاتب: صفوان محمود حنّوف...- السكّين - خيط الدم..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من أعمال الكاتب: صفوان محمود حنّوف...- السكّين - خيط الدم..


    الكاتب: صفوان محمود حنّوف
    - نماذج من أعمال الكاتب

    بطاقة تعريف الكاتب

    -من مدينة حمص 1951.


    -بكالوريوس العلوم الاقتصادية من جامعة حلب دورة 1981.

    -يكتب المقالتين, الاقتصادية والأدبية. و نشرت مقالاته في الصحف والمجلات المحلية والعربية .

    -حاز على الجوائز الأدبية التالية:

    -الجائزة الثانية في مسابقة القصة القصيرة, التي أعلن عنها المكتب الفرعي لاتحاد الكتاب العرب في حمص عام 1996 عن قصته المرحوم.

    -الجائزة الأولى في مسابقة القصة القصيرة التي أعلنت عنها دار البعث عام 1997 عن قصته السكّين.

    -الجائزة الثالثة في مسابقة البحث الأدبي التي أعلن عنها اتحاد الكتّاب العرب في سوريا عام1997عن بحثه الأمثال الشعبية 00 ذاكرة و حكاية.

    -الجائزة الأولى في مجال القصّة القصيرة من المسابقة الأدبية العربية التي أعلنت عنها دائرة الثقافة و الإعلام بحكومة الشارقة في دورتها الثانية عام 1998 عن مجموعته القصصية زمن الحرائق.

    -صدرت له مجموعتان قصصيتان:

    -1- زمن الحرائق .

    -2- البيدق .

    -و كتاب عن دار المعرفة في بيروت بعنوان: الاسم الربّاني و أثره في السلوك الإنساني.

    نماذج من أعمال الكاتب

    خيط الدم

    السكين

    دائرة الموت

    اللوحة الأخيرة

    جدران الصمت

    قبلني

    أنا وصديقي باش

    رجل يخاف النوم
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ


    السكّين

    ما إن تسدل ستائر العينين الخاملتين ببطء شديد .. حتى تنفتح بسرعة مذهلة . صحيفة تتماوج بين يديّ . خبر تهتزُّ سطورُه ، تتراقصُ فيها كلمات لها رائحة الاحتراق .

    كيف ذلك ؟؟ ( العثور على سكين حجرية ، يزيد عمرها على ألفي سنة ) ، حُفرت على نصلها عبارة جعلت قلبي يسقط من أجفاني ، وشوشت عقلي ، فراح يسرح بأفكارٍ لاأجسادَ لها.

    غير صحيح ، فالقدس لنا .. لنا .

    ثم تسدل الستائر على نومٍ مضطرب بعد عناء يوم شاق . لنا .. نعم ، القدس لـ..نا .

    أحلام مذهلة تسبح فيها أجنحة الدهشة .. تنتقل بنا إلى أماكن نتحرق للوصول إليها . أليس هذا هو المسجد الأقصى ؟؟ إي والله ، هو ، لازال يعانق كنيسة القيامة ، وتعانقه ، تتداخل تضاريس الواحد منهما بالآخر .

    ماأعظمك يابيت الله . رفرفي أيتها الروح ، رفرفي والجسد في محرابه العظيم ، وحول قبتها، حلّقي .. أكثر .. أكثر ..

    ماذا أقرأ الآن ؟ عبارة مكتوبة في لافتة بالخط العريض يفهمها الجميع :

    "هنا الشمس .. أرض الحقيقة" .

    تتلقفني الاتجاهات . هل أنا هنا فعلاً" ؟؟

    كوكب متوهج بالحقيقة المفعمة بالسكون والحركة . سكونه بداية رحلتي حيث انتهى غيري .

    تجولت هنا وهناك . جلست على الأرض مكدوداً" هدني التعب . كان ثوبي ممزقاً من مكان ما. فهممت برتقه ، إذ عثرتُ بالقرب مني على خيط ، ووجد إبرة في مكان بعيد داخل كومة كبيرة من القش . لم يكن ادخال الخيط فيها ممكناً" ، إذ تصاعدت من خرمها أبخرة كثيفة ، مازالت تتباعد وتعلك بعضها إلى أن انقشعت عن مارد راح يضحك بعنف حين رآني . هرولت على راحة يده في الاتجاهات كلها ، ضحك مرة أخرى وهو يضعني على الأرض قائلاً :

    - ها . أنت جديد هنا إذاً ! ...

    ولأنني جديد - ربما - أغلق يديه على لهاثي ، فتحهما بسرعة . ناولني بطيخة أخذتها منه بيدين تؤديان رقصة خوف ، ووضعتها على الأرض . أوووه ، الأرض .... التفت إليه حائراً" فلم أر غير ذيول أبخرةٍ تتلاشى .

    جلست أتأمل البطيخة . كان لها بابٌ صغير ، ماإن نظرتُ إليه حتى أنْفتحْ . لم يكن للشمس تأثير على فضولي ، دخلت .. وانصفق الباب ورائي ، لكنني لم آبه لذلك كثيراً . دلفت إلى الداخل وقفت في طريق كبساطٍ منبسط ، يفصل بين اللابداية واللانهاية . توغلتْ .. لاأعرف في أي اتجاه ، لم أستطع أن أخلع عني ثوبَ الخوفِ والوحشة ، فقررت العودة ، لكنني لم أجدِ البابَ الذي دخلت منه ، مع أنني بحثتُ عنه في الأرجاء كلها .

    اقترب مني رجلٌ ، زادت رؤيته في ذهولي ، ماذا يفعل نابليون هنا ؟؟ ألم يدفنوه تحت أسوار عكا ؟ حاول تهدئتي ، سألني :

    - هل أنت جديد ؟

    تلفّتُ بكل عيوني علّي أجدُ البابَ الذي دخلتُ منه . لم تخف عليه حالي ، فقال:

    - تعال . نحن أصدقاء .

    - منذ متى ؟؟

    - لاتخف 0 نحن جميعا ً أصدقاء هنا .

    سألته بلسان متلعثم:

    - أحقا ُ ماتقول؟

    - هناك واحدة فقط تسكن في عزلة منا 0 هيا بنا

    تعرق جسدي ؛ احسست بشىء من النشوة 0 وصلنا إلى مكان يعج بالناس ، كلهم متشابهون، وعرفتهم كلهم . قد مني اليهم 0 رحت أتجول بينهم إلى أن سمعت أحدهم يناديني نظرت اليه بشيء من الدهشة ، كان يلبس قلبقا أسود في رأسه 0 سألني:

    - متى جئت ؟

    - لاأعرف 0 لم أعد أعرف شيئاً .

    - ستعرف كل شيء 0 هنا أرض الحقيقة0 خذ مكانك بيننا ولاتئس أننا جميعا أصدقاء هنا0

    استدار يريد الابتعاد عني ، استوقفته سائلا:

    - ألست جمال باشا السفاح ؟

    - ليس بيننا باشوات هنا 0 ولست سفاحا كما تقول0

    - وتلك المشانق ؟؟

    - نحن هنا جميعا أصدقاء .

    عم يتحدث هذا ؟ قلت في سري0 وتساءلت عمن تكون ؟ تلك التي تسكن وحدها 0 اقترب مني رجل وقال:

    -هي تسكن هناك 0 ولابد انها تتلهف للقائك

    كنت أحس خلال سيري باتجاهها ، بأن أحدا ما 00 يتبعني خلسة 0 وصلت إلى قصر كبير تحيط به الأشجار وتجري من تحته الانهار 0 اجتزت السور حتى وصلت باب القصر كانت تعلوه نجمة كبيرة تتألف من مثلثين متداخلين متعاكسين وعلى الباب كان رجل يرنو الي0 صحيح أن رجليّ كانتا ترقصان على ايقاع سريع حين رأيته ، لكنه ارتعد أيضا حين رآني 0 كان يلهو يغصن أرزة ، يثنيه حينا ، يضغط ، يحاول كسره، لكن الغصن يقاوم 000 ويقاوم

    حياني بأدب جمٍّ مفتعل، ودعاني بحركة لطيفة من يده للدخول 0 دخلت متتبعا السهام الدالة . تسمرت في ممر ضيق وطويل حين شاهدت في آخره رجالا يهرولون إلى قاعة ، تبينت حين وصلت اليها أنها خالية تماما ، الأّ منهم 0 كانوا يحملون حقائب غاية في الأناقة، عرفت فيما بعد أنها تحتوي أوراقا بيضاء خلت الا من تواقيع وأختام 0 وفوق باب القاعة قرأت لوحة صغيرة كتب فيها (غرفة الانتظار) .

    تناهت إلى سمعي حينذاك أصوات احتجاج من وراء قضبان حديدية 0 كانت تصرخ:

    أيها المنزلقون ، تمهلوا00 حاذروا الأفعى، إنها بثلاثة رؤوس ، بسبعة ، سوف تلتهم لسانكم،

    حاذروا00 حاذروا00

    الغضب الساطع آتٍ اذا0

    أسرعت الخطى في دهاليز وزقاقات ملتوية ، هطل السواد في أكثرها0 كثيرا ما أحسست خلالها بأيد تحاول خطفي ، وبعفاريت تريد أن تنتهشني 0 لم أجد الاّي أتشبث به ، حتى انتهيت إلى غرفة كبيرة ، وقفت أرنو إلى أرجائها 0

    سمعت أصواتا في الخارج تقول: جاءت العمة00 وصلت العمة 0 ثم سمعت صوتا من ورائي أعرفه0 كانت صاحبته ترحب بي على عجل ، بصوت يفور ويغلي0 دعتني للجلوس إلى طاولة مستديرة 0 لم أفاجىء حين استدرت اليها ، وبالأصح ان شيئا لم يعد يذهلني في هذه الرحلة حين رأيتها 0 إنها هي 00 العمة الشمطاء ، طويلة الانف 0

    ابتسمت ابتسامة تنم على فرح مختلط بالنصر ، ومشوبة بشيء لم أتأكد منه بعد 0 قالت كلاما مجنونا لاانتماء له ، لايقوله عادل ومنصف 0 قلت

    - لو كنت أعلم أنك هنا مادخلت 0

    حاولت أن تضمني وهي تقول بدلع واضح :

    - ياابن عم 0 تعال نختصر المسافات

    ومدت الي يدها للمصافحة 0 كانت تتناهى إلى سمعي وقتئذ دقات طبول رتيبة 0 ودون أن أمد يدي 00 وباستهزاء قلت :

    - ياابن عم ؟ ‍ ‍00 ؟ ‍000

    - تعال نختصر كل شيء0

    - والأرض ؟؟؟

    قالت بجدية وهي تدير ظهرها لي سائرة باتجاه الباب:

    - لنا

    علا قرع الطبول ، وبينما كنت أبحث من جديد عن الباب الذي دخلت منه ، دخل الرجل الذي كان بباب القصر مسرعا 0 قال معاتبا :

    - ترفض يدا امتدت اليك ؟ أنت لاتفهم للصداقة معنى

    قلت بلهجة لاتقبل الجدل:

    - أمد يدي اليوم لكف تطعنني غدا ؟00

    غادر الغرفة 0 علا قرع الطبول أكثر ، وجنَّ، لمن تقرع طبول الحرب ؟ تعاقب في لحظة ليل ونهار أسود . وعلى بعد مني رأيت اثنين من أشقائي 0 كان الاول منهما واقفا أمام مرآة يصلح وضع عقاله وكوفيته ، ويبتسم كأبله ، أما الثاني فقد بدا منهكا ، يرنو الي وعيناه ترعفان ندما على شيء ناقص قام به 0 قالت لي عيناه:

    - أحسنت الدخول 0 وان لن تحسن الخروج ، فتذكر 00 أن الأشجار تموت واقفة .

    ومن وراء ستار قليل الشفافية ، رأيت رجلين آخرين ، الرجل نفسه ، ورجلا آخر لعله الذي كان يتبعني خلسة 0 كانا يتحاوران في أمر قدرت ماذا يمكن أن يكون 0 لم أطمئن ، مع أنني وجدت لنفسي مخرجا من كل ذلك . سأبقى .. سأبحث عن ورودي وعصافيري0 إيه ياطارق00 أُغرقت الزوارق، وأُشرعت البنادق0

    تشبثت بنفسي ، وهيأتها لكل ماقد يستجد0

    دخل أحد الرجلين وقال :

    - سيكون لك ماتريد 0 كل ماتريد 0 وخرج0

    تتفاذفني الاتجاهات 0 الشمس كوكب متوهج بالحقيقة المفعمة بالسكون والحركة 0 أما الحركة 000فهي نهاية رحلتي التي سيبتدىء بها غيري0

    دخلت طويلة الأنف مادة يدها للمصافحة ، بينما كانت يدها الثانية ، واليمنى تحديدا ، خلف ظهرها ، وأكاد أجزم بأنها تخفي بها سكينا 0
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ

    خيط الدم

    انتظر هذا اليوم طويلاً ، لقد انتهت الرّحلة ، وصار أخيراً في الطريق. غمرته الفرحة حتى أعماقه ، فانفرجت أساريره . ازداد اتّساع حدقتيه وشدقيه ، لابتأثير لهيب الشمس العمودية ، وإنما بسبب ما تنهبه عيناه من مناظر يذكرها ، وأخرى يحاول أن يتذكّرها . بقي خلال الدقائق الأولى في حالة شكٍّ من أن الحياة قد دبّت فيه من جديد ، مع أن جسده النحيل يعطي مجرّد إيحاءٍ بذلك ، وظنّ أنها ستكتمل بعد نصف ساعة على الأكثر ، بعد مرور عقديْن من الغربة والعلقم .

    دفعته ذكرياته المتلاحقة إلى الإسراع،حتى إن حنينه اللاّفح سبق خطواته اللاّهثة.

    فجأةً توقف أمام هاتف للعموم ، وفكّر .. ربما كان من الأفضل أن يسقيهما خبر عودته على جرعات ، وهذا بحدّ ذاته سيخفّف من نار اللقاء التي اشتهاها ، وما تساءل عن قدرته على احتمال لهيبها .

    لا يزال يذكر أبنيةً وشوارعَ وأرقاماً ، بإصبعٍ راجفة .. لامس أرقاماً تحولت إلى نغمةٍ متقطعة تنقر حاسّة سمعه . ودون جدوى أعاد المحاولة ثانية وثالثة، … وسابعة . انتظر على الرصيف ، وأشعل سيجارة راح يمجّها مجّاً غليظاً . تقاذفته الأمواج والأفكار ، والأشخاص والأيام المقبلة . أعاد المحاولة فسمع صوتاً فتيّاً لم يسمعه من قبل ، جعله يتلعثم ويرتجف ، يبكي ويضحك معاً . كانت صاحبته قد أطبقت عينيها قبل لحظات بهدوءٍ واسترخاءٍ شديدين على أحلامٍ ورديّة .

    - آلو …

    خانته الكلمات . حبس أنفاسه ، لكنه لم يُفلح في جمع قواه . ثم قال بصوتٍ خفيضٍ متقطع :

    - لعلّك أمل !؟..

    قالت في توجّسٍ وخوف :

    - من يتكلّم ؟

    دارت في رأسه أفكارٌ وتلاطمت أمواج ، لكنه حافظ على هدوئه ، وقال :

    - لا بدّ أنك أمل . أليس كذلك ؟ ثم أردف :

    - كم تمنيت أن أراك قبل أن أموت .

    لم تسمع نحيبه لأنها أغلقت السمّاعة بشيءٍ من العصبيّة والقلق . وحين رنّ الهاتف ثانية تودّد إليها ، قال :

    - أرجو أن تسمعيني .

    - إذا اتّصلت ثانية فسأجعلك تندم .

    وقبل أن تعيد السماعة سمعته يسأل :

    - هل السيدة أمينة موجودة ؟

    - آه .. إنه يعرفني ويسأل عن أمي . من أنت ؟

    اختلطت دموعه بكلماته التالية :

    - أحبُّكما . ما بقيت على قيد الحياة إلا من أجلكما .

    تماسكت قليلاً ، وحاولت أن تستعيد هدوءها .

    - أرجوك . من أنت إذاً ؟

    - أظنّكِ في الرابعة والعشرين ، أليس هذا صحيحاً ؟

    لم تسمح لصبرها أن ينفد ، لكنها قالت مهدّدة :

    - إذا لم تخبرني من أنت فسأغلق السماعة.وصدّقني..لن تسمعني من جديد .

    - لحظة من فضلك . أليس هذا هو رقم بيت عماد ؟

    شهقت فوراً ، تحشرج صوتها ، وسألته :

    - عماد ! .. هل قلت عماد ؟؟

    - نعم . إنني أحضر لكم رسالة منه . خلال دقائق سأكون عندكم .

    - رسالة أيضاً ؟ قالت في سرّها متعجّبة .

    أحست بدوار عنيف لم تحسّه من قبل، لكن كلماته أعادتها إلى بعض وعيها . هرعت إلى صورة أبيها المعلّقة على الحائط في غرفتها بعد أن نقلتها من غرفة أمها منذ سنوات ، ورنت إلى زرقة بحرٍ في عينيه ، وإلى ملامح في وجهه ، فتذكّرت أياماً لا تنسى.أما هو،فقد اندسّ إلى جانب السائق في سيارة أجرة،وترك عينيه الجائعتين تلتهمان كل ما تريانه من خلال زجاجها .

    لم يرَ جديداً مما رآه من الشوارع والأمكنة . الناس فقط كانوا يسرعون في مشيهم خلف اللاشيء ، وبدوا له كأنهم لا يعرفون بعضهم بعضاً . دخل بنايةً لم يغب شكلها عن باله ، لكن باب الشقة لم يكن بهذا اللون .

    قرع الجرس ففتحت له صبيّة بان من جسدها أكثر من نصفه ، لكنه رآها طفلةً في حوالي الرابعة من عمرها ، حملتها عيناه فوراً فوق كتفيه ، وراح يدور بها ، ويضمّها،يرفعها بكلتا يديه إلى الأعلى، وحين تهبط يأخذها بهما ، ويقبّلها .

    تجرّع وجه الصبيّة دفعةً واحدة ، وكان يرتجف ، لم يجد كلاماً يقوله . أما هي .. فقد تسلّقته بعينين مبهورتين من " شحّاطته " إلى شعره الأشعثِ مارّة بغابةٍ كثيفةٍ نبتت في لحيته ، لملمت بعض إشفاق عليه قدمته إليه بكلمات :

    - ليس لدينا شيء نعطيك إيّاه .

    همّت بإغلاق الباب ، لكنها تريّثت قليلاً ، إذ رأت بحراً مُتعباً في عينيه ، وأحسّت أن دمها يندفع فاتراً في عروقها ، لكنه سرعان ما صار حارّاً ، حارّاً جداً . أخفقت في أن تتماسك ، وربما أحسّت أنها خُلقت من غير لسان ، هوت على الأرض مثل ورقةٍ من أوراق الخريف ، فتلّقتها أيادي روحه وجوارحه . أدخلها البيت ، اتجه من فوره إلى غرفة نومها ومدّدها على السرير ، وراح يربت على خدّيها بيدين حانيتين ، ويقبّل ربيعها الذي تغلّف بالشحوب . أحس أن أفراحه التي افتقدها بدأت تعود إليه . وبدأت هي تحسّ بأصابعه تغوص في شعرها الذهبي الطويل ، وحين ملأ أركان عينيها بكت بحرقة ، فلم يستطع تهدئتها تماماً ، لأنه كان مثلها ، إذ اشتعلت عيناه بالبكاء كما لم تشعلها السنون الماضية . ضمّها إلى صدره ، وكاد أن يعصر رأسها فيه وهو يشمّ رائحتها التي لم تفارق أنفه يوماً .

    ثم سألها عن أمها ، فقالت بصوتٍ مخنوق :

    - هذا موعد وصولها تقريباً . إنها تعمل في مكانٍ قريب . ولكن …

    فغر عينيه وقال :

    - ولكن ماذا ؟

    - لا . لا شيء . لماذا لم تخبرنا عن قدومك ؟

    - أنت مضطربة . ما الأمر ؟

    - لا شيء صدّقني. إحك لي بالتفصيل ، كيف هوت بكم الطائرة في البحر ؟ تسائل بينه وبين نفسه عن أي طائرة تتحدث ثم قال لها :

    - لم تجيبي عن سؤالي .

    - قل لي أولاً ، كيف نجوت ؟

    حين همّ بمتابعة الحديث فُتح الباب ودخلت الأم ، فركضت أمل باتجاهها ، أذهلتها رؤيته فوراً ، وانفغر فاها رغماً عنها ، مع أن روحها سُرّت لرؤيته . كانت تحبّه ، ولم تشعر يوماً أنها أحبت أحداً من بعده . وضعت يدها على صدرها وشهقت غير مصدقة :

    - عماد ! .. ؟ ..

    تقدم منها فاتحاً ذراعيه ، فأسلمت رأسها إلى صدره ، ولم تتمالك نفسها فانهمرت دموعها مطراً سخيّاً حُلواً ومالحاً ، سرعان ما اختلط بما جاشت نفسها به من منخريها . ثم تذكرت فجأة شيئاً في هذه اللحظة ، فارتدَّت عنه ببطء ، وابتعدت قليلاً . وقالت :

    - لقد فقدت كلّ أمل بعودتك .

    قال مبتسماً :

    - وها قد عدت .

    قالت في سرّها بلهجة مضطربة :

    - يا إلهي ماذا أفعل الآن ؟ ثم قالت له :

    - كيف أمضيت هذه السنين ؟

    - إنها قصة طويلة،طويلة.لن نحكي عنها الآن، فلا تحرماني لذّة هذا اللقاء .

    ثم أردف يقول :

    - سنحكي عن أيامنا المقبلة .

    - أيامنا المقبلة ؟ قالت في سرّها .

    تبادلت الأم وابنتها نظرات حيرى ، ومانعت الأم أن يضمها من جديد ، فأحسّ بغصّةٍ في قلبه ، وبأن القدر لم يكمل سخريته منه بعد ، وبدأت فرحته تتلاشى ، بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة ميتة ، وعلى وجهه أسئلة يبحث عن أجوبةٍ لها .

    انفتح الباب الخارجي ، ودخل منه رجل يعرفه تماماً ، جعل دمه يضطرب ، وعينيه تتطاولان . هرع إليه ضاحكاً باكياً مشوشاً ، أخذه بين ذراعيه وقال مندهشاً وفرحاً ، ومتسائلاً معاً :

    - لا أصدق . أخي معين ؟؟! ..

    كان أخوه في حالة ذهول أصابه لرؤيته ، توقف قلبه مشدوهاً ، لكنه سرعان ما اتّحد فيه بكلّيته ، وامتزجت دموعهما ببعضهما بعضاً ، ثم جلسا ، تعتمل في قلب كل منهما سخرية الزمن .

    كان عماد ينقل عينيه بين الجميع،تلهّفت أذناه لسماع ما أخبره قلبه عنه ، فلقد كانت مساماته تشعّ أنيناً مكبوتاً ، وأسئلة كثيرة أخرى ، أما معين فقد كان ينظر من خلال ستائر عينيه المسدلة . ثم راح الأب يرنو إلى ابنته بعينين واهنتين نائستين ، وكانت هي تنظر إلى زرقة بحرٍ هاج في وجهه ، وتتمسك بأمواجه المتلاطمة . أما أمينة … فقد كانت تنظر بقلبها الحائر إلى الأخوين وهما يتدافعان معاً نحو الباب الخارجي والدم يختلج في قلبيهما ، وقد أمسك كل منهما بقبضة الباب بيدٍ متعرقة مترددة ، في حين كانت عينا معين تخاطبان أخيه قائلة له :

    - أخي … لو كنت مكاني ؟؟ .

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
يعمل...
X