إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

للشاعر عباس ريسان -تقديم: محسن الخفاجي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • للشاعر عباس ريسان -تقديم: محسن الخفاجي

    عباس ريسان


    البيتُ الشعري
    اختزانُ المعنى وازاحة النثر
    تقديم: محسن الخفاجي
    بعد صدور ثلاث مجاميع شعرية ( سومازينا السماء )، ( ضفاف هاربة ) من دار الينابيع في سوريا، ( عصافير الجوع ) عن دار الشؤون الثقافية في بغداد، للشاعر عباس ريسان.
    تأتي المجموعة الشعرية الجديدة لترسّخ خطواته الشعرية أكثر فأكثر.
    ( صاعداً يتبعني البحرُ ) هي المجموعة الشعرية الجديدة .
    تتألف من خمس موجات متداخلة رغم إن كلّ موجةٍ من الموجات الخمس كيانٌ مكثفٌ بذاتهِ ويتواصل مع موجات المجموعة ليشكلَ ما يشبهُ كيانَ نهرٍ شعري متكامل.
    القصائدُ جميعها تنتمي الى قصائد النثر، هذا الجنس الأدبي الذي يهيمن على اساليب القصيدة المعاصرة، وهي اساليبٌ تنتمي الى مرحلةٍ جديدة لعل أهم صفاتها إنّها تتجه بالقصيدةِ الى حقلِ الأستعارة الغرائبية من أجل تخليصِ القصيدة من نثريتها وبرودها بعد تخليها عن الموسيقى والوزن والأيقاع واعتمادها على قيمٍ جديدة تزيحُ تلك النظرة المكررة لجمالية القصيدة التقليدية التي تستنجد بالوزنِ والقافية وتستفيد من الحكمة في مناقشة الحياة.
    وإذا كانت المجاميعُ الشعرية السابقة قد أكدتْ على شاعريةِ الشاعر، وكشفتْ عن بداياته الواضحة والمطمئنة في كتابة القصيدة، فأنّ ( صاعداً يتبعني البحرُ ) تقتربُ من نضج مشروع شعري يعتمدُ على تقنية قصيدة النثروعطاياها الجمالية الباهرة التي تحاول إعادة إكتشاف الدلالة اللغوية.
    لقد تغيرت اللغةُ في القصيدة وصار على السطرِ الشعري ان يفتحَ دروباً جديدة في تشكيلِ البناءِ اللغوي في القصيدة الذي يؤدي دوراً بديلاً للأيقاع والوزن والموسيقى والقافية والبحور الشعرية المستهلكة .
    لعل ذلك يعودُ الى انتشارِ الشعرِ العالمي الذي يصل الى القارئ العربي بصيغةِ النثر العميق الذي يشبه قصائد النثر.
    يمكن بسهولةٍ التعرفَ على ما تتضمنه القصيدة هنا من اجابات اّنَّها تحتوي على استعارات تخلطُ المرئي باللامرئي لتكون الأستعارة الجديدة البعيدة عن التكرار، ومنذ الموجة الأولى سنرى هذا النمط الذي يثير وعي القارئ ويقوده الى رؤى جديدة فعبارات مثل ( عيون الدرب) (ذاكرة الموت)( ضفيرة الزمان) ( وابل التفخيخ) (رذاذ مشيتك)( تطلقين سراح الأمنيات)( سمعت عطر امرأة)( روضت الرموش) هذه استعارات وغيرها الكثير تشيع اثارة المحسوس الى اللامحسوس والواقعي الى الخيالي بهدف بناء غرائبية تحفزُ ذهنَ القارئ لبناءِ وحداتٍ شعريةٍ جديدة.
    إنَّ وضائف لغوية ومفردات متنافرة يمكن ايجاد سياق لتشكيلها معاً يبهر القارئ ويحقق ما هو مطلوب من توليفة شعرية صادمة.
    وهناك صياغات تعيد بناء الجملة النثرية التقريرية ووضعها في سياق جديد لتثويرها وتحويلها من نثرٍ جامد الى شعرٍ مرهف .
    الموجة الثانية هي مشروع لقصائد قصيرة وهكذا تتواصل الموجات بين المقطع الشعري والقصيدة.
    المقاطع الشعرية تقترب من نمط الهايكو والقصائد القصيرة محاولة لأختزال أداء شعري مطول وضغط القصيدة الى ما يقترب من ومضة شعرية تختزن الكثير كما تختزن القوقعة ضوء القمر وتحوله الى لؤلة برّاقة وثمينة.
    أما الغرائبية فهي التي تمنحُ السطرَ الشعري صفته الأساسية، وبدون هذه الغرائبية تتحول الكتابة الى نثرٍ مسطّح مكرور من بناء لغوي متكرر ومستهلك فهذا الجمع بين تكوينات لغوية متنافرة يقود الى تشكيلات جديدة موحية بدلالات أخرى.
    إنَّ الشعر القديم كان يتوسل تطريب القارئ لكسبهِ أما الشعر الحديث فهو يشبه الى حد بعيد من يقلبُ الطاولةَ ويرفضُ الضيافة.
    شاعَ منذ اواخر القرنِ الماضي نمطٌ شعري يعتمدُ على البيتِ الشعري الذي يحررُ القصيدة من الإطالةِ والغرقِ في التقريرية.
    أيتُّها الرائحةُ تعقلي، ثمة وردةٌ ، هناكَ تفوحُ بالمطر
    لعل الشعراء في فرنسا في النصفِ الثاني من القرنِ العشرين هم الذين أسسوا لهذا النمط في القصيدة وممارسة الشعراء العرب متأثرين بموجةٍ شعريةٍ هادرة.
    إنَّ نظرةً متفحصةً لهذا الأسلوب الشعري تحيلنا الى اشكالٍ شعرية قديمة، كقصيدةِ ( الهايكو ) اليابانية التي تجمع بين الفلسفة والثورة على النثرِ الباردِ من خلال الصور المعقدة والاستعارات الغريبة وقلب المعنى الى معنى جديد لإعطاء المزيد من الإيحاء.
    وقد كان لمواقعِ التواصلِ الاجتماعي في شبكةِ الأنترنت الدور البارز في اشاعةِ الكتابة المكثفة التي تحفلُ بالحكمةِ والجمالِ واعادةِ صياغة المعنى الشعري بصيغٍ جديدة.
    فبسطرٍ واحد أو سطرين أصبحَ ممكناً الحديث عن ثورةٍ شعريةٍ في الشكلِ وحجمِ القصيدة.
    تستلهمُ التجارب الشعرية التي تشكل تياراً شعرياً جديداً، غذّته تجاربُ الشعراء الكبار في فرنسا، الذين أداروا ظهورهم للقصيدة الطويلة واكتفوا بشذراتٍ شعرية تختصرُ ما يمكن قوله شعرياً، بأبياتٍ طويلةٍ وقصائد تقتربُ في حجمها من الملحمة كتلك القصائد التي انجزها ( سان جون بيرس ) في الخمسينات ونالَ عنها جائزة نوبل.
    الشاعرُ عباس ريسان، له تجارب متنوعة في كتابةِ الومضات الشعرية التي تلقى القبولَ والأعجابَ والاهتمام، من قِبل القارئ أو المختص في الشأن الشعري.
    أرممُ جسدَ الظلِّ أبعثرُ وصايا خريفٍ باغتني بسماءٍ ثامنةٍ وسراب
    كما إنَّ مواصلتَهُ بكتابةِ هذا الشكلِ الجديد من القصائد جعلته يطوّرُ اسلوباً مميزاً ساعده بذلك الثراء اللغوي وتجاربه الشعرية السابقة.
    إنَّ جملته الشعرية قد تخلصتْ من الزوائد وتحررتْ من طابع النثر، وتخلت عن الإيقاع والوزن أو ما يسمى ( موسيقى القصيدة ) وهذا ما ساعدها على انجاز ملامح كثافة شعرية، تأخذ من الطابع الفلسفي الكثير، وتتمرد على الأساليب التقليدية لكتابة القصيدة.
    إنَّ المفارقة هي العنصرُ الأساسي في كتابة ومضة شعرية دالة، وهذا هو ما سعى له الهايكو ، إذ إنَّه يتخلص من الكثير من الكلمات، متجهة القصيدة الى هدفها بأقصر الطرقِ، وتعيدُ صياغة البيت الشعري برؤى جديدة كما يرد ذلك في قصيدته ( فتاوى الفاكهة ) التي تتضمن نماذج من القصائد تتراوح بين القصيرة والقصيرة جداً :
    لوّحْ بقلبِكَ للنهرِ تأتيكَ الغيوم واسكبْ جراحَكَ يخضرُّ المدى
    ................................
    أو .....
    إن قلتِ : احبُّكَ ستندلقُ الصباحاتُ في فنجانِ وجهي هي همسـةٌ، إن قُبِلَتْ جاءَ ما سواها وإن رُدّتْ تحطمَ الفؤاد
    يرينا هذا المقطع كيف يستطيع الشاعر أن يقلبَ المعنى بتوظيفِ معنى تقليدي بعد تغيّر موازينه.
    فكلمة ( فنجان ) تستدعي بالضرورة كلمة ( قهوة ) أو ( شاي) بينما في القصيدة تستدعي كلمة ( وجهي ) هذه المفارقة هي التي تمنح الومضة ألقها.
    عباس ريسان، يخوض تجربته مستلهماً أبرز منجزات هذا اللون الشعري المكثف بأدوات لغوية تلعب الاستعارة دوراً هاماً وبارزاً في تحرير المعنى.
    هناك أمثلة كثيرة على معان مقلوبة خارجة عن سياق مألوف مثل :
    انا ريشةٌ، موعدها الريح العقوقُ قِبلتي، إن كان ما تدعيه الآلهةُ بالقطيع انتِ موجةٌ، تسيحُ الى الوراء، بلا مللْ كلانا، أسئلةٌ عقيمة، لا جوابَ في المدى الأصم
    ففي هذا المقطع أشياءٌ كثيرةٌ تزيحُ المعنى المتداول.
    هناك أنسنه للموجة التي هي جماد في هيأة سائل وهناك ما يمنحها احساس بأنها تواجه الملل، ولا تهتم له وإنّها تعارض المألوف، بسباحتها في النهر الى الوراء.
    اشياء كهذهِ هي التي تمنح هذه الكتابة الشعرية الجديدة سماتها وتقربها من تخوم كتابة جديدة، لا تستند كثيراً الى الماضي ، بل إنّها تتمرد عليه، ساعية الى ايجاد نظام كلام شعري يشقّ طريقه جاهداً لرسمِ ملامح جيل شعري جديد .
    والشاعر عباس ريسان، أحد الشعراء الذين لا يتخلونَ عن بصمتهم في هذا الجيل.
    وهو ما يمنح تجاربه عمقاً ودلالة.
يعمل...
X