إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بقلم : الأستاذة شهرة بلغول - رواية" الزيني بركات" لجمال الغيطاني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بقلم : الأستاذة شهرة بلغول - رواية" الزيني بركات" لجمال الغيطاني

    تجليات هزيمة حزيران في رواية" الزيني بركات" لجمال الغيطاني
    بقلم : الأستاذة شهرة بلغول


    لعبت هزيمة حزيران 1967 دورا حاسما في حياة الغيطاني وتركت بصمة لا تمحي على صعيد تجربته الفنية ،ذلك أنها مثّلت منعرجا خطيرا في الواقع السياسي والثقافي بالنسبة لجيل بأسره، إذ يقول:" كانت نكسة حزيران1967 بوتقة صهرت تجربتي، وفي آلامها اعتصر جيلي، في تلك الأيام كنت أدور حول هذه اللحظة من التاريخ، ابتعث من الماضي لحظات تتشابه مع اللحظة التي تمر بي أو أمر بها"(1).
    ولعل هذا ما يفسر لجوءه إلى التاريخ والتراث كمحاولة لمساءلته تنبني على وعي جديد ومختلف للزمن.
    يستعين الغيطاني في كتابته لرواية "الزيني بركات" بكتاب تاريخ مصر المشهور باسم "بدائع الزهور في وقائع الدهور" لمحمد أحمد بن إياس ، والذي يصور فيه واقع مصر المملوكي بعد احتلالها من طرف العثمانيين ،إضافة إلى كتاب "السلوك للمقريزي" الذي يقتبس عنه قصة الشيخ مع الجارية.(2).
    إذا ما تساءلنا عن سبب اختيار الغيطاني لابن إياس دون غيره فإننا نجد أن ذلك يعود إلى أمرين اثنين ، أمّا الأول فكون هذا المؤرخ قد عايش مرحلة حساسة من تاريخ مصر وشهد تحولا جذريا للواقع السياسي والاقتصادي تمثّل في نهاية العصر المملوكي و بداية العصر العثماني (1448-1522م)، أمّا الثاني فيرجع إلى كون ابن إياس قد أولى اهتماما بالغا- على عكس غيره من المؤرخين- برصد واقع المسحوقين والضعفاء، إذ يقول الغيطاني في هذا الصدد :"كان ترحالي في تاريخ مصر المملوكية و الإسلامية عاماَ. لكني بعد عام1967 عدت لأصغي من جديد إلى مؤرخ مصري سبق أن استوقفني صوته الفريد، الغني الشجي. إنه محمد أحمد بن إياس صاحب "بدائع الزهور في وقائع الدهور.." كان دليلي ومرشدي ابن إياس، شدّني ببساطته وتلقائيته واهتمامه بتدوين ما جرى لبسطاء الناس، هؤلاء الذين تسقط سيرتهم بين سطور الحوليات و المدوّنات..."(3).
    إنّ الغيطاني في تعامله مع هزيمة1967 يعود إلى هزيمة أخرى شبيهة لها، وهي هزيمة المماليك أمام العثمانيين في معركة "مرج دابق" سعيا منه للوقوف على أسباب الهزيمة الأولى التي أنتجت هزيمة أخرى في زمن لاحق، وإيمانا منه بأنّ الماضي يستمر في الحاضر حيث يكمن ذلك في طبيعة العلاقة بين السلطة والرعيّة المتمثلة في سياسة القمع المستمرة والمتجددة على مر العصور ، وبذلك فالرواية " تؤول التاريخ وترفضه، وتعطي التأويل الرافض صياغات متعددة، التاريخ هو الشر المتجدد في السلطة الشريرة المتجددة"(4).
    تدور أحداث الرواية في مصر المملوكية ،وتحديدا في زمن السلطان الغوري، متّخذة شخصية محورية تدور حولها الأحداث هي "الزيني بركات" الذي يبرز للوجود بصورة مفاجئة بعد تنحية المحتسب" علي بن أبي الجود" نظرا لفساده و ظلمه للرعية.
    يتم ترشيح "بركات بن موسى" لتولي هذا المنصب إلاّ أنّه يعتذر عن قبوله بحجة تخوّفه من المسؤولية التي لا يرى نفسه أهلا لها، لكن السلطة الدينية ممثلة في الشيخ" أبي السعود" تتدخل لتقنع هذا الأخير بالعدول عن رأيه لأنها ترى في اعتذاره دليلا عن صدقه وورعه وتقواه، هكذا يوافق بركات بن موسى على تولي الحسبة انصياعا لطلب الشيخ ليلقب بعدها بـ"الزيني" كناية عن حسن سيرته وصفاء سريرته.
    لكن هذه الصورة البراقة التي كونها الناس حول هذا الشخص سرعان ما يشوبها الشك نظرا لاتصال الزيني بركات بـ" زكريا بن راضي" صاحب جهاز البصاصة في السلطنة، والذي تتمثل مهامه في التجسس على الرعية ومعرفة كل صغيرة وكبيرة عنهم فضلا عن تسليط كل صنوف العذاب على من يشك في تصرفاته، والغريب في هذا الجهاز أن لا أحد فيه يعرف الآخر فكل بصاص يراقب من طرف بصاص آخر .
    تحاول الرواية في تعاملها مع واقع الهزيمة أن تكشف عن الملابسات التي أدّت إلى وقوعها وذلك بتعرية الجوانب المختلفة للمجتمع المصري في تلك المرحلة .
    1-السلطة الدكتاتورية و الأجهزة القمعية :
    تكشف رواية الزيني بركات عن عالم مخيف يتّخذ من القمع نظاما لتسيير شؤون الملك ، ذلك أنها تنتقل بنا ضمن فضاءات مختلفة تعد في حقيقة الأمر معاقل للتعذيب واستخراج الحقيقة ويعد جهاز البصاصين النظام الذي يسخر كل الإمكانيات لتحقيق ذلك .
    تبدأ الرواية بتقديم مقتطف من مذكرات الرحالة البندقي "فياسكونتي جانتي" يصوّر من خلاله حالة القاهرة عند قدومه فيصف منظر فلاحين يقتادون للإعدام " في الطريق على مهل أليم مضى طابور من سجناء الفلاحين مربوطين من أعناقهم بسلاسل حديدية ،يبدو أنهم متجهون إلى سجن من السجون"(5). ولعل البدء بهذا الصوت الأجنبي عن الرواية يعد سعيا لإضفاء طابع المصداقية والموضوعية على ما سيأتي سرده من أحداث .
    تنتقل بنا الرواية بين رموز هذه السلطة تدريجيا ، فهذا "علي بن أبي الجود" الذي شغل منصب المحتسب قبل تولية الزيني بركات يكيل للناس صنوفا لا تحصى من العذاب ، وهذا الشهاب "زكريا بن راضي" يسيّْر جهازا ضخما من البصّاصين لرصد كل حركة في السلطنة، وله من العيون ما لا يعلمه أحد "آلاف الرجال والنساء والأطفال يتبعونه، لا يعرف بعضهم البعض، ينقلون الهمسات والحركات من البيوت والربوع، من كل شبر من المدينة إذا شذ شهيق إنسان عن البقية عرفه"(6)، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل نجده يسعى لتأليب الرعية على خصومه بالقصّاصين و المنشدين .
    ففي الوقت الذي ينبغي فيه على السلطة السهر على تنظيم حياة الرعية كأن تضمن لهم أسباب الأمن والاستقرار نجدها تسعى جاهدة للحد من حرياتهم و تضييق الخناق حول رقابهم فتتفنن في أشكال التعذيب و الاستعباد و قد بلغ الأمر درجة فرض ضريبة على ملح الطعام .على أنّ العلاقة بين الأجهزة القمعية لا تختلف كثيرا عن علاقتها بالرعية فكل شيء مسكون بهاجس الشك ، و يتجلى ذلك في طبيعة العلاقة التي تربط زكريا بن راضي بالزيني بركات إذ يضمر كل طرف لمثيله العداء سعيا لإثارة الفتن والشبهات حوله لكنّه وفي الوقت ذاته يتعاون معه لإبقاء قبضته مبسوطة على رقاب الناس .
    2-الجانب الاجتماعي :
    تنقلنا هذه الرواية إلى واقع مصر في فترة الحكم المملوكي فتقدم لنا صورة بانورامية عن طبيعة المجتمع و تقسيماته المختلفة، نلمح طبقة واسعة من الفلاحين والكادحين الذين يسكنون الحارات ويمارسون وظائف بسيطة شعبية في أغلبها ( عمال المستوقدات، باعة لبن ، باعة فول)، إضافة إلى طلبة الأزهر وكبار المشايخ الذين يجتمعون في كوم الجارح و هم في أغلبهم بسطاء وفدوا من صعيد مصر طلبا للعلم وسعيا لتحسين أوضاعهم المادية .
    وفي المقابل نجد كبار التجار الذين يحتكرون مختلف السلع سعيا لتوسيع ثروتهم على حساب الفقراء مستغلين في ذلك نفوذهم و صلاتهم بأصحاب القرار ، إضافة إلى كبار الأمراء المماليك الذين يتنافسون فيما بينهم لجمع الأموال و سلب الرعية و الإغارة عليهم كالأمير طشتمر وخير بيك وقنبك و غيرهم .
    في العموم نلاحظ تجلي الطبقية بصورة سافرة في هذا المجتمع ، حيث توجد طبقة فاحشة الثراء تستحوذ على المال والسلطة وتسخرهما في توسيع نفوذها وبسط سيطرتها على أموال المستضعفين بمختلف الوسائل كفرض الضرائب ،في حين ترزح الفئة الكبيرة من الرعية تحت أدنى مستويات الفقر وتمارس في حقهم مختلف أشكال الاستعباد.
    لعل الروائي قد وجد في هذه الصورة تماهيا مع الواقع الذي عايشته مصر في فترة الستينات حيث أصبحت النفوذ بيد فئة قليلة من الشعب تسخرها حسب ما تقتضيه مصالحها متجاهلة في ذلك كل حقوق الشريحة المتبقية .
    3-الجانب الديني :
    تبدو السلطة الدينية في هذا النص غير فاعلة ، بمعنى أنها عاجزة عن لعب أي دور إيجابي من شأنه أن يغير الأوضاع ،فهي إمّا موالية للسلطة ويتجلى ذلك في علاقة علماء الأزهر بالسلطان الذين يحجمون عن الخوض في أمور الرعية ولا يسعون لرفع المظالم عنهم ،فجلّ ما يشغلهم هو إصدار الفتاوى بتحريم الفوانيس إذ جعلوا منها مدار خطبهم ،ولم يتوقفوا عند هذا الحد بل اتهموا من ارتضاها بالخروج عن الأصول متجاهلين ما للرعية من مصالح كحفظ أرواحهم من بطش أمراء المماليك الذين يستغلون انسدال ظلمة الليل للإغارة على الضعفاء.
    ومن سخرية الأقدار أن نجد هذا الواقع ملازما للشعوب العربية على مر الأزمان ، فرغم كل ما تعيشه الشعوب العربية من ظلم سياسي... نجد معظم المشايخ يتسابقون في التحريم والتجريح دون أن يدلوا بدلوهم في تقريع ظالم أو نقده أو حتى تصويبه.
    وفي الجانب الآخر نجد مشايخ "كوم الجارح" منغمسين في العبادة والتصوف حتّى النخاع، لا يهمهم ما يحدث خارج حدود صومعتهم فكل ما يشغلهم هو صلتهم بالخالق وتطهير جوهرهم ، وفي الوقت الذي يحاول فيه الشيخ "أبي السعود"أن يتدخل بموقف إيجابي لإقناع الزيني بتولي منصب المحتسب يكون قد خدع بالظاهر ولم ينتبه لفساد جوهره ولا تنجلي له الحقيقة إلاّ بعد فوات الأوان.
    4-الشذوذ الجنسي :
    يعد من أبرز التيمات المشكلة لهذا العمل الروائي وقد سعى الروائي لإبرازه في أكثر من موضع ، إذ نلاحظ أن معظم رجال السلطة يمارسون سلوكات جنسية مشينة في الخفاء بينما يتشحون في الظاهر بالتقوى والصلاح بدءا بالسلطان، حيث تشير الرواية إلى العلاقة الغريبة التي تربطه بأحد غلمانه "شعبان" كما أنّ الجدير بالذكر انتشار ظاهرة الغلمان والجواري ،إذ يمتلك الرجل فضلا عن زوجاته الأربع ما لا يحصى من الجواري حتى أن أحدهم له ما يزيد عن سبع وستين جارية .
    فضلا عن ذلك تصور الرواية حالات التحرش الجنسي كقصة الخياط الترزي الذي اعتدى على غلام، واعتداء زكريا بن راضي على غلام السلطان" شعبان" " نزل إلى القبو، أوثق الغلام، عراه قبله في شفتيه، رأى انسحاب الدم من الوجه المليح...(7).
    تحيل فكرة الشذوذ الجنسي على عجز وتشوه في شخصية صاحبها، فمثل هذا النظام الذي يتشح ظاهره بالتجبر والقوة، هو في حقيقة الأمر عاجز ملوث بالعديد من الأمراض النفسية والجنسية، لذا نجده يستلذ تعذيب الرعية ، كما أن الأمر لا يقتصر على الجهاز السياسي فحسب بل ينسحب على رجال الدين أنفسهم من طلبة و مشايخ كعمرو بن العدوي الذي أشيع عنه ارتياد بيت للأنس و الشيخ الريحان الذي كان يرتاد بيت أحدى بائعات الهوى (8).
    ترمز هذه المسألة إلى التشوه القائم في النظام السياسي المصري في فترة الستينات الذي بدا في ظاهره سويا عادلا يردد شعارات براقة ، لكنه في حقيقة الأمر امتداد للأنظمة العربية الفاسدة .
    5- صورة المرأة :
    تبرز هذه الرواية الصورة المتدنية للمرأة في ظل مجتمع ذكوري شبقي لا يرى فيها سوى موضوعا للشهوة وممارسة الجنس ،إذ لا تحظى بأي حق من حقوقها ويتجلى ذلك في العديد من النماذج كقصة الشيخ الذي اشترى الجارية وأساء معاملتها ـ إضافة إلى إبراز علاقة زكريا بجاريته "وسيلة "... وقد استطاع الروائي أن يبرز هذا التوجه حين أحجم عن إعطاء أي دور للمرأة في تحريك أحداث الرواية ما أدى إلى تغييب صوتها .
    6-الخيانة :
    يركز الغيطاني على فكرة مفادها أن سقوط الدول والإمارات يأتي من الداخل بفعل الخيانة قبل أن تقع المواجهة مع العدو الخارجي ، إذ يرصد في عمله هذا خيانة الأمير "خاير بك" للسلطان الغوري في ساحة المعركة مع العثمانيين مما أدى إلى إضعاف مسيرة الجيش و موت السلطان كمداَ، إضافة إلى تصوير خيانة الزيني بركات للسلطان واتصاله بدولة العثمانيين وظهوره من جديد محتسبا للقاهرة في عهد الدولة العثمانية . ويعود تركيز الروائي على إبراز فكرة الخيانة إلى ما لها من حضور في التاريخ العربي .
    تنتهي الرواية بترسيخ واقع الهزيمة بمقتطف آخر للرحالة الإيطالي يصف أوضاع القاهرة وانتشار رائحة الموت في أرجائها بعد زوال نظام المماليك و استيلاء الأتراك على الحكم وقد حاول الغيطاني بهذا إضفاء طابع الموضوعية إذ يمثل الرحالة الإيطالي الشاهد المحايد على الواقع المأساوي الذي آلت إليه مصر .
    أما ما يميز هذه الرواية من ناحية البنية الفنية فيتمثل في استثمارها لتقنيات الوثائق التاريخية بحيث تفقد الرواية خصائصها لصالح التاريخ الذي يهيمن عليها ويطبعها بطابعه، فقد عمد الغيطاني إلى استحضار كتاب "بدائع الزهور..."لابن إياس وكتاب "تاريخ السلوك "للمقريزي، ولم يقتصر على استثمار المادة التاريخية فحسب بل نجده يستلهم الجانب الشكلي كذلك حين اهتدى إلى تقسيم عمله الروائي إلى سبع سرادقات بدل الفصول على غرار تقسيم ابن إياس .
    المقصود بالسرادق حسب المعجم الوسيط (مادة سردق) :"كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب، وهو الفسطاط يجتمع فيه الناس لعرس أو مأتم" وكأن الكاتب قد قصد من ذلك التنقل بقارئه عبر الفضاءات المختلفة التي تكشف العوالم الداخلية لمصر ، ويتبين ذلك أكثر حين ندرك أنه قد وضع كل سرادق تحت عنوان فرعي مثل "سعيد الجهيني، الزيني بركات...".
    يقوم الغيطاني باستعارة المادة التاريخية المتعلقة بالهزيمة من "ابن إياس" كما يأخذ منه البنية السردية التراثية لغة وبناء وتفضية وتزامنا، فيحدث التفاعل بين النصين النص الأصلي "كتاب ابن إياس" والنص الفرعي "الزيني بركات" على أساس المحاكاة والتناص والحوارية والمفارقة من خلال استعارة التراكيب والصيغ التراثية، ويختلف هذا النمط من الكتابة عن الرواية التاريخية المعروفة كما يقول "سيزا قاسم" في أن هذا النص يقيم موازاة نصية من خلال المعارضة الشكلية اللغوية للنص التاريخي، فجمال الغيطاني يحاكي قول ابن إياس التاريخي، أي أنه لا يلجأ إلى استخدام محتوى تاريخي يصوغه في لغة عصره، بل ينتقل بنصه الخاص إلى الحقبة التاريخية السالفة".
    خصائص الخطاب السردي:
    يتعلق السرد بالتجلي الخطابي للنص والذي يمثّل طريقة من طرق تقديم الحكي في العمل السردي ويقصد به وجود راو يتكفل بإرسال الحكي، أمّا النوع الآخر فهو العرض أو التشخيص بمعنى أن الأحداث تصلنا مباشرة عن طريق الشخصية، غلب على هذا العمل الروائي هيمنة السرد والمونولوج على حساب الحوار، وهو ما يعزز موضوع القمع وانعدام التواصل بين السلطة والرعية، بين الظالم والمظلوم ،ذلك أن نظام البصاصة يمثل الحاجز والمانع لتحقق مثل هذه العلاقة الحوارية وعليه يتأسس بدلا عنها نظام بيروقراطي قمعي يرسخ الفجوة بين السلطة والرعيّة ويصادر كل أشكال الحرية مما يدفع المرء إلى الانكفاء على ذاته واللجوء إلى المونولوج للتنفيس عن مكبوتاته والتعبير عن تذمره من النظام مادام عاجزا عن إشهار صوته عاليا .
    كما يتجلى حضور السرد من خلال هيمنة نبرة التسلط والتحكم والأوامر عبر عدة أساليب كالنداءات والتقارير والمراسيم والرسائل والمذكرات والخطب والفتاوى والذيول.
    إن هذا التنويع في طبيعة الخطابات داخل المتن الروائي يعكس رغبة الغيطاني في كسر الشكل التقليدي للسرد في محاولة لخلق شكل جديد تنصهر في بوتقته أنواع عدّة ، كما نلحظ تفكك البنية السردية على مستوى السرادق الواحد فبالرغم من تحديد الموضوع سلفا عن طريق وضع عنوان له إلا أننا نجد تجزؤا داخله فمثلا يندرج السرادق الأول تحت عنوان" ما جرى لعلي بن أبي الجود وبداية ظهور الزيني بركات" إذ يبدأ بالحديث عن إلقاء القبض على علي بن أبي الجود ثم ينتقل للحديث عن سعيد الجهيني ثم مرسوم ينص على تولية الزيني بركات واليا للحسبة لينتقل فيما بعد لرصد حالة زكريا بن راضي وموقفه مما يحدث واصفا طرق التعذيب التي يمارسها داخل السجون لينتقل إلى كوم الجارح ....
    وكما رأينا فالسرادق الواحد ينتقل بين عدة مشاهد منفصلة عن بعضها البعض رغبة في رصد المواقف المتباية للشخصيات من الحدث الواحد، فالرواية بهذا الشكل تقترب من التركيب المشهدي للأعمال السينمائية مما يؤهلها لتكون عملا سينمائيا ناجحا .
    أما ما يتعلق بالرؤية السردية فإن أهم ما يمكن رصده في هذا الجانب يكمن في تعدد الرواة والاستعانة بعدة أصوات في تقديم الحدث الروائي إذ تبدأ الرواية بمقتطف من مشاهدات الرحالة الإيطالي الذي يمثل الصوت الوحيد الذي يستخدم ضمير المتكلم " تضطرب أحوال الديار المصرية هذه الأيام، وجه القاهرة غريب عني، ليس ما عرفته في رحلاتي السابقة"(9). كما أن السمة البارزة في مذكراته تتمثل في توظيف تقنية الاسترجاع من أجل رصد صورة مصر بين الماضي والحاضر إذ نجده يقول "قلت لنفسي فعلا لم أر الزيني خلال الأيام التي قضيتها هنا ، الزيني يراه أهل القاهرة يوميا، ولو مرة واحدة، تدق الطبلخانة أمامه، يمشي السقاة في ركابه"(10).
    تتخذ الرواية صيغة الراوي العالم بكل شيء الذي يقدم الأحداث انطلاقا من التنقل بين مختلف الأصوات والأماكن وكذا النفاذ إلى أعماق الشخصيات والكشف عن هواجسها وآلامها.
    دون أن ننسى كسر خطية الزمن وتقطيع المتن إلى أزمنة متداخلة بطريقة جدلية حيث تتداخل البداية مع النهاية والنهاية مع البداية والحاضر مع الماضي والعكس ، وكل ذلك من أجل استشراف المستقبل ،فالسنوات المذكورة في الرواية هي 912،913،914،922،923،وفي المقابل تم حذف سبع سنوات لعدم أهميتها، كما تمّ الوقوف عند بعض السنوات بالسرد والوصف وتشغيل الإيقاع البطيء خاصة سنة 912و914هـ و انطلاقا من هذا نلاحظ كيف أن الرواية تنأى عن الطابع التسجيلي الصرف الذي تتميز به الوثائق التاريخية.
    يمكن أن نخلص إلى أن الرواية في تعاملها مع الهزيمة قد ابتعدت عن التقريرية والمباشرة وحاولت استدعاء صفحات بعيدة من التاريخ تتماهى مع الواقع الراهن، مما أحدث تحولا في موقف الروائي من ماضيه ،فانعكس صدى الهزيمة على الشكل الروائي حيث تلاشت الخيوط التي تحكم تسلسل السرد وتشظى الزمن ولم يعد الاحتفاء بالحدث بالطريقة التقليدية بل أصبح الاهتمام منصبا
    على رصد حالة التوتر والفوضى التي تعيشها الذات في ظل واقع مشوه.
    الهوامش و الإحالات :
    1-سعيد يقطين: الرواية والتراث السردي، رؤية للنشر والتوزيع،ط1،القاهرة،2006.ص170.
    2-جمال الغيطاني :الزيني بركات، عيون المعاصرة، دار الجنوب للنشر، تونس،2007.ص45،46.
    3-سعيد يقطين: الرواية والتراث السردي.ص179.
    4-فيصل دراج: الرواية وتأويل التاريخ نظرية الرواية والرواية العربية ، المركز الثقافي العربي،ط1،الدار البيضاء، المغرب،2004.ص367.
    5-جمال الغيطاني: الزيني بركات.ص140.
    6- المصدر نفسه.ص93.
    7-المصدر نفسه.ص67.
    8-المصدر نفسه. ص 203.
    9-جمال الغيطاني: الزيني بركات.ص43.
    10-المصدر نفسه. ص45.
يعمل...
X