إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

وجه الرومانسية السوداء المظلم لعصر ملؤه نور

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • وجه الرومانسية السوداء المظلم لعصر ملؤه نور

    الرومانسية السوداء: وجه مظلم لعصر ملؤه نور





    لوحة الكابوس لفوسيلي رافق عرضها تحذير لانها مروعة بحسابات ذاك الزمان
    أبو بكر العيادي
    باريس – عنوان المعرض في جزئه الأول مأخوذ من قصة لإدغر ألان بو (1809- 1849) تصور شخصا يرفض الإقرار بالجانب اللامعقول للحياة، ولكن أحد المردة يمعن في إثارته بحوادث غريبة مثيرة للسخرية تتخلل معيشه اليومي تهزّ قناعاته. أما جزؤه الثاني فمستمد من كتاب «الجسد والموت والشيطان» (1930) للكاتب ومؤرخ الفن الإيطالي ماريو براز (1896-1982)، أول من استعمل مصطلح «الرومانسية السوداء» لتحديد حركة واسعة للخلق الفني بدأت منذ أواسط القرن الثامن عشر تستثمر الجانب المعتم واللاعقلاني والموغل في الشطط الذي يتخفى تحت ستار النصر الظاهر لأنوار العقل، ثم ترامى صداها حتى مطلع القرن العشرين. ما يزيد على مائتي عمل فني لأعلام كبار ، من غويا إلى ماكس إرنست، ومن جوهان هاينريش فوسلي إلى هانز بيلمر، ومن كاسبر فريديريك إلى إدوار مونك، شكلت عالما يفيض عن إطار الرسم والنحت ليشمل بعض روائع الفن السابع، مثل فرنكنشتاين لجيمس ويل.
    عالم رأى النور في أواخر القرن الثامن عشر بإنكلترا عبر الروايات القوطية، مثل «قصر أوترانت» و«الراهب» لماتيو لويس، و»أسرار أودولفو» لآن رادكليف و«برومثيوس الحديث» لماري شيلّي، ذلك اللون من الأدب الذي انجذب له القراء لاستناد مواضيعه إلى الأسرار المغيبة والحوادث المريعة والشخصيات المرعبة. وسرعان ما سارت الفنون التشكيلية على خطاه، حيث ظهرت العوالم الرهيبة لعدد من الرسامين والنقاشين والنحاتين في سائر أنحاء أوروبا : غويا وجيريكو يستعرضان فظاعة الحروب والتطير والمعتقدات التي كانت تسود عصرهما، فوسلي وديلاكروا يجسدان الأشباح والساحرات والمردة كما صورها ميلتون وشكسبير وغوتة، فيما فريديريش وكارل بليشن يضعان الجمهور أمام مشاهد جنائزية مغلفة بالأسرار . وكمثال على ما بلغته تلك الأعمال من فنية عالية، يُروى أن لوحة «كابوس» للسويسري فوسلي، عند عرضها بالأكاديمة الملكية بلندن عام 1782، رافقها تحذير لذوي النفوس الضعيفة من الاقتراب منها.
    بلغت تلك الحركة ذروتها في نهاية القرن التاسع عشر، حيث لم يعد دعاتها يرون في الجميل الغاية النهائية والوحيدة للفن، فقد صارت «الروعة الفائقة» sublime في تصورهم نمطا في حد ذاته. وهو ما عبّر عنه الفيلسوف إدموند بيرك بـ»الهول اللذيذ»، وصار الرعب منهلا للذائذَ لا تحصى عددا. يقول فيكتور هوغو : «ليس للجميل سوى مثال وحيد، أما القبيح فله ألف». وكلاهما يستهدي بأعلام سبقوهما : دانتي في «الكوميديا الإلهية»، ميلتون في «الفردوس المفقود»، وخصوصا شكسبير الذي يجمع في أعماله بين التراجيدي والكوميدي والسخرية المفرطة. نصوص تنضح بالسرية والخوف والسخرية الفظة والإباحية المتوحشة، كإحالة على السحر وعبادة الشيطان والروائح القوطية الكريهة. أعمال تحملنا إلى عالم هذا التيار المدهش الذي غذى الأدب مثلما غذى الفن التشكيلي.
    في هذه الأرضية المتنوعة، والتي لا تعدم خصوبة، ظهرت التفرعات المظلمة للرمزية حين لاحظ الفنانون أباطيل التقدم والتباسه، فعادوا إلى الأساطير يُحْيونها وإلى الأحلام يستكشفون فيها أسرارا لم يألفها قبلهم باحث. وهم بذلك يطرحون الأسئلة المحرجة التي تضع الإنسان في مواجهة مخاوفه المستحكمة وسلوكاته المتناقضة، كالوحشية وسوء الخلق الكامنين في نفس كل فرد، ومخاطر الانحطاط الجماعي، وغرابة معيش يومي ظاهره مُطَمْئن وباطنه مثير للقلق والضيق. ثم استعادت الرومانسية السوداء بريقها عندما صحت أوروبا على كابوس الحرب العالمية الأولى، إذ أقبل السرياليون على القوى المحركة للاوعي والحلم والنشوة لجعلها أساسا للخلق الفني، مستفيدين من «الساحرات الشريرات» لِغُويا والرومانسية الألمانية والرمزية، ففاضلوا بذلك الخيال على مبدأ الواقع، وأعلوا روح الرومانسية السوداء التي ساهمت السينما في تثبيتها نهائيا في المخيال الجمعي.
    والمتأمل في لوحات «دانتي وفرجيل في الجحيم» لوليم بوغيرو، و»إبليس يستدعي أمراء الجحيم عند نهر النار « لفوسلي، و»فاوست» لديلاكروا، و»مصاص الدم» لمونك على سبيل المثال، لا يستطيع أن يمنع نفسه من التساؤل : أليس ظهور الرومانسية السوداء في قرن الأنوار مفارقة صارخة ؟
    إجابة عن هذا السؤال يقول كوم فابر مندوب المعرض : «إن فكر الأنوار لم يعلن فقط عن سيادة العقل والتقدم، بل فتح أيضا للخيال فضاءات من الحرية جديدة. كل الغرائز والاستيهامات التي كانت محظورة في السابق، صار بوسعها أن تجد لها مجالا للتعبير».
    وبذلك تبدو الرومانسية السوداء مثل نهر جوفي يسقي القرن كله، قبل أن ينتقل هذا التيار تدريجيا من أساليب الروعة الفائقة وسعة المناظر المفرطة والكوارث الطبيعية إلى المشهدية الغائمة أو الضبابية، حيث صار الغريب والمدهش يتجلى حتى في الديكور الأليف.
يعمل...
X