إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

القاص عاطف عبيد - طرفة جدي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القاص عاطف عبيد - طرفة جدي

    قامت ‏‎Azza Ragab‎‏ بمشاركة ‏صورة‏ ‏صفحة القاص عاطف عبيد‏.




    طرفة جدي : قصة قصيرة لـ عاطف عبيد
    ـ من مجموعة سماوي: دار العين ، 2010

    عشرون زوجاً من العيون تسكن داراً واسعة اشتهرت في قريتنا بدار الحاج. ولم يكن الحاج غير جدي عبدالمقصود، أكبر سكان الدار سناً ، وأكبر من يسكن قريتنا مقاماً ؛ فهو شيخ الجامع الوحيد في القرية ؛ وهو المأذون الشرعي لقريتنا وعشرة عزب صغيرة حولها ، ناهيك عن كونه الوحيد الذي يعمل له العمدة حساباً ، ولم لا ، فعندما قال جدي مرة على المنبر عن ابن العمدة حين اعتدى على إحدى بنات الغجر باغتصابها ، وأن سكوت القرية عن هذه الحادثة ينذر بخرابها ساعتها قام الفلاحون بحرق محصول القمح في جرن العمدة.. وفي مندرة العمدة البحرية عقد جدي زواج جابر على فردوس الغجرية بينما كان دخان القمح المحروق يظهر بين قضبان شباك المندرة.

    كل الناس يرون في عبدالمقصود رمزاً للهيبة والقوة وأحيانا الجبروت ، أما نحن احفاده فنكاد نكون الوحيدين الشاهدين على حنيته ، فهو معنا رجل آخر برأس مكشوفه ضربها البياض من كل ناحية ، وسروال طويل وابتسامة عريضة على وجهه ازعم أن ثلثي سكان القرية لم يروها..

    نساؤه الأربعة مختلفات الطباع ، مختلفات الشكل والطول ولون العيون والشعر ، فقط اتفقن على شيء واحد هو الفزع والرهبة من زوج يدير بيتاً وقرية واربعة نساء بكامل قوته وجبروته وهو على اعتاب السبعين من عمره.

    لا يدور على نسائه الأربعة في غرفهن كعادة الرجال ؛ بل كل واحدة يقع عليها الدور تذهب لغرفته بعد صلاة العصر وتشعل البخور ، ونغير ملاءة السرير ثم تجهز له طعامه الذي يحبه من يديها ، كان يحب أن يأكل المخروطة من زوجته مبروكه ، أما زوجته هند أصغر نسائه فكانت تغازله بالسمك البوري والأرز بالخلطة التي علمتها إياها خالتها الساكنة في مدينة دسوق شمال الدلتا.

    يدخل جدي غرفته بعد صلاة العشاء مباشرة ، وقد خلت الدار بدخوله من أي صوت غير هديل الحمام في الأقفاص المعلقة في سطح الدار ونطح الجاموسة الكبيرة لجدار الزريبة بين الحين والآخر..وقبيل أذان الفجر تدب الحياة من جديد في الدار ، حيث يسمع صوت الكوز النحاسي وهو يضرب بطرف إناء نحاسي به ماء ساخن في غرفة جدي.. صوت الماء الساخن يدل على أنه لا يزال يستحم وهو واقف، وبعد سماع صوت الماء في غرفة جدي تتوالى أصوات مشابهة تصدر من غرفة أبي وبقية أخوته المتزوجين..ثم يخرج جدي في وسط الدار وبصوته بقايا سعلة خفيفة منادياً على أولاده بأسمائهم في إشارة حازمة ليكونوا خلفه في الصف الأول في صلاة الفجر.

    وبعد الصلاة يرجع الجميع وقد امتلأت الدار بالحركة ، دخان الفرن المختلط بالسمن البلدى المسالة في اطباق الزنك البيضاء يتوسطها البيض المسلوق .. ثم يبدأ اجميع في تناول الفطور بعدها يقوم جدي بتوزيع العمل بكل حزم ثم يدخل غرفته يستأنف نومه إلى قبل الظهر بساعة مالم يوقظه أحد.

    كانت رائحة البخور الصادرة من غرفته عصر اليوم شديدة على غير العادة ؛ ففهم الجميع أنها ليلة هند أصغر زوجاته ، والبفعل صدقت النبوءة أكثر عندما بدأت تشوي السمك البوري في الفرن.. دخل غرفته بعد العشاء.. ا{ض الغرفة مرشوشة بماء مخلوط برائحة الورد.. وقبيل الفجر سمعت أنا وأخوتي وأولاد عمي صوت الماء الساخن وهو ينزل على جسده أضعف من المعتاد ، ثم خرج من غرفته رجلاً لا أعرفة ذو لحية بيضاء كثيفة ، بعدها نقلوه ملفوف في قماش أبيض إلى غرفة المسافرين حيث غطاه أبي ببطانية حمراء خرجت لتوها من كيسها؛ ثم خرج من الدارمحمولاً إلى المسجد ثم عاد ودفن في الباحة القبلية للدار بناء على وصيته..

    اشتعلت الدار صراخاً ولطماً ، رأيت دموع ابي وأخوته لأول مرة .. هند وبقية زوجاته متشحات بسواد رابطات رؤسهن بعصابة أشد سواداً.. لم يكن هناك ما يقطع الصمت غير قرآن يصدر من الردايو الكبير الذي تجمد مؤشره على إذاعة القرآن الكريم.

    كانت المشكلة كلها في مرور أول يوم من غير جدي ، مات في بداية النهار الذي مالي ميزانه الآن ناحية الغرب ، لم تظهر رائحة البخور ورفع المؤذن أربع الأذان مرتين ويستعد الآن للمرة الثالثة والكل في وجوم كيف سيمر أول يوم على الدار.. عمي يحكي لأمه مبروكة اللخبطة التي حدثت في صلاة الظهر في المسجد .. لم يتقدم أحد لإمامة الصلاة ، مما أخر أقامتها عشرة دقائق ، إلى أن دخل خميس المؤذن وصلى الناس خلفه ، ولم يكن الأمر جديد على خميس حيث كان يحل محل جدي عندما كان يذهب إلى كفر الشيخ ليساوم وليام صاحب محل الذهب في شراء ذهب لعروس من القرية.

    رفع خميس أذان العشاء ثم صمت كل شيء غير أصوات ذكور الضفادع في الأراضي المحيطة بالدار.. ثم رفع خميس أذان الفجر .. والكل غير مصدق أن نهار جديد سيبدأ دون سعلات جدي الخفيفة.. أبي واخوته صامتين حول الفطور.. ثم توجهوا جميعاً إلى الساحة القبلية حيث يرقد جدي كانت النساء قد سبقت الرجال إلى القبر وبدأ الجميع في الصراخ من جديد..

    مر أسبوعان على وفاته لم يتجرأ أحد أن يخرج من الدار قبل أن يقف على قبره ويقرأ الفاتحة ، والمؤشر لا يزال في مكانه على إذاعة القرآن.. والكلام محدود .. ولم يظهر في الدار على مدار أسبوعين ابتسامة ولو خفيفة.. ترى من سيكون صاحب أول ابتسامة بعد موته؟.. الكل يخاف أن يبدأ فيتهمه الجميع بعدم الحزن عليه.. من سيتجرأ ان يخرج من الدار دون الذهاب خلف الدار وقراءة الفاتحة لجدي؟ من يستطيع ان يحرك مؤشر الراديو من مكانه؟

    أربعة أسابيع مرت والوضع كما هو ، غير أن هناك حالة من الإرهاق تسيطر على الجميع .. الكل به بسمة مكتومة لا يتجرأ على إخراجها.. بدأت أواني بلاستيكية كبيرة تدور في الدار ، حتى لا تسمع أصوات مياه الاستحمام في غرف أبنائه المتزوجين.. وكانت مياه الاستحمام ترمى في الحمامات سراً بعد وضعها في أباريق صب المياه وكأنها ماء وضوء .. الكل يزور القبر قبيل خروجه من لدا ويجد ويجد بعض نساء الدار عنه.. الكل يمارس طقوس الحزن على جدي في تثاقل وتعب..
    استيقظت اليوم مبكرا ، وقبل أن أنهض ، وضعن الغطاء على رأسي ثم بدأت أجرب الضحك ، وكأني في شك أنني نسبته.. ثم كتمت ضكتي بسرعة مخافة أن يرفع أحد الغطاء فجأة وأصبح من أول المنبوذين الخائنين لجدهم الحنون .. ثم سمعت عمي الشقي ينادينا جميعاً على الفطور ثم قال لنا بصوت عال: هل تذكرون طرفة أبي.. ولم يكمل عمي ماقاله حتى انفلت الضحك المكتوم ، قفز المؤشر على إذاعة صوت العرب ، وسمعت أصوات المياه في غرف المتزوجين ليلاً.. وأعتاد الرجال الذهاب إلى وراء الدار صباح كل عيد فيجدوا زوجاته الثلاثة قد وقفن على القبر مبكرين.
يعمل...
X