إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بقلم : جميلة طلباوي - رؤوس الثلج

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بقلم : جميلة طلباوي - رؤوس الثلج

    رؤوس الثلج
    بقلم : جميلة طلباوي

    ككرات ثلج تتسرّب اللّحظات و تسري في دمي، يطول بي الانتظار في المحطة ، تنبعث أنفاس منعشة من أشجار السرو العالية تخفّف من قلقي، أنتبه على حركة طيور تحلّق عاليا في الفضاء . أنحني ، أتحسّس كعب حذائي العالي ، أقفز من مكاني بدفعة من موجة بشرية ، أجد نفسي داخل الحافلة ، أتحسّس معطفي ، أسند إلى دفئه الملف الذي أودعتني إيّاه، أستحضر في عيون النساء من حولي نظراتك المشرّبة بوهج الشمس و عذوبة العسل ، ألعن أنصاف الحلول و أنصاف النهود أيضا و صوته يجلد روحي بأنّه مشغول الآن ، لا وقت لديه ، رغمّ أنّني أعدت إعلان الخبر أكثر من مرّة:
    -سعاد ستجري العملية ، الطبيب قرّر استئصال نهدها.
    التزم حينها الصمت ، بعد يومين صار هاتفه خارج مجال التغطية . الأمواج البشرية تبتلعني أكثر ، روائح العرق تزكم أنفي ، أفقد في الزحام قبّعة الصوف التي نسجتها لي بأناملك الدافئة ، أصرخ: قبّعتي ، قبّعتي.
    و يأتيني صوت مجلجل:المحطة الأخيرة.
    وصلت إذن بدون قبّعة ، أفلت من جموع البشر في الحافلة ليبتلعني الشارع الشاهقة عماراته، كان يضجّ بالمقاهي و المحلات التي علّقت عليها لافتات كتبت بخطوط أنيقة و زيّنت بألوان زاهية ، الشارع رغم صخبه كان أنيقا يحاول أن يقنعني بأنّ هذا الصخب أقوى من صوت الألم داخلك و داخلي..من هذا الشارع مررت أنا و سعيد، كان يومها يحمل صندوقا به رؤوس كلاب مقطوعة . تقزّزت و هو يتحدّث عن هذا الأمر ، أغلقت فمي بكفّ أرعشته الدهشة ، ثمّ رفعته عنه قليلا لأسأله : قلتَ رؤوس كلاب؟
    ضحكته المجلجلة غسلت خوفي و هو يقترب منّي و يهمس:
    - أحد هذه الكلاب عضّ عجوزا ، العجوز ماتت، علينا أن نقدّم رأسه إلى مخبر التحاليل، إنّها كلاب مصابة بمرض الكلَب، لا بدّ من الكشف عن فيروس الكلَب في هذه الرؤوس.
    شعرت بالتقزّز ، تساءلت في صمت خانق :لماذا سمحت لهذا البيطري أن يقتحم عليّ حياتي، و أن يصير شريكا لي فيها، هل الحبّ أعمى فعلا؟
    بريق من عينيه أشعّ مبدّدا سحبا أثقلت روحي، سلّمته يدي المرتعشة ليبثّ فيها بعض الطمأنينة، و يظلّ باليد الأخرى ممسكا الصندوق الذي يحفظ رؤوس الكلاب. تزداد حساسيتي للبتر ، تساءلت حينها: أيّ كلب عضّ نهد سعاد و أصابه بالمرض كي يستأصل ؟
    سحبت يدي من يده و فاجأته بصراخي:- يا لأخبارك الغريبة يا سعيد ، كلّها محمّلة بالبتر ، المرة الماضية شاهدتك مع صديقك ممثّل الشعب و قد فقئت عينه ، صار بعين واحدة ، و بتر مستقبل الشاب الذي فعل به ذلك، و رئيس البلدية بترت رجله ، و اليوم تقطع رؤوس الكلاب و تحملها أنت في صندوق ، ارحمني من مثل هذه الأخبار.
    ابتسم و دعاني لتناول بيتزا. الجوّ يومها كان حارّا ، جلسنا متقابلين، التقزّز كان يراكم شيئا كثيفا بيني و بينه ، لم أتمالك نفسي، دفعت مقعدي إلى الخلف ، قلت له مازحة :-عندما تتخلّص من هذه الرؤوس سنأكل البيتزا ، أراك لاحقا.
    و غادرت ، تاركة إياه هيكلا حارسا للصندوق الملعون حافظ رؤوس الكلاب..عبرت الشارع ضاحكة ، كنت أعرف بأنّنا سنلتقي بعد ساعة أخرى أكون أنهيت فيها عملي و يكون هو عاد من المخبر.
    بعد الدوام عدت إلى البيت في مساء صيفي كان حارا جدا، و القهوة التي أعددتها و أثقلتها بالقرفة و توابل أمّي لم تخلّصني من قلقي. جلست وحيدة ، عبّأت حزني في زاوية نركن إليها عادة كلّما اعتصرتنا خيبة ، منها نرى البحر ممتدّا يواجه السماء ، الأزرق يقابل الأزرق ، نشعر بالامتداد الذي يمنحنا فرصة أن نحلم. أرتمي على مقعد هزّاز أهدته لنا جارتنا الإسبانية قبل وفاتها، أو أنّها تخلّصت منه بعد أن صارت مقعدة على كرسي متحرّك . أرجّ جسدي ، أتساءل لماذا تستأصل رؤوس الكلاب المصابة بالكلب ، و تستأصل القدم المصابة بالغرغرينة، و يستأصل النهد المصاب بالمرض الخبيث و لا تستأصل الأفكار الخبيثة التي تنبت فينا و تكدّر صفو عيشنا؟
    تنسحب الشمس رويدا ، رويدا و كأنّي بشيء لا مرئي يتهيّأ لاستئصالها من الأفق فيتلوّن الشفق ببعض دمها.
    صرير المفتاح يقتلعني من هواجسي ، يفتح الباب، أنتفض من مكاني ، أجري نحوه ، أجد سعيد يقف كعمود كهرباء كسرته رياح عاتية ، أرتمي في حضنه ، يمسكني بذراع و الأخرى تحمل ملفا كهذا الذي أحمله الآن.. تطلّعت في وجهه ، بدا رماديا كسحابة أضاعت طريقها في السماء، سبحت في اتجاه الجاذبية ، و تهاوت إلى هذه الأرض المتعبة بفجائعنا.فهمت حينها بأنّ نصفي الثاني سيبتر و سيراق فرحنا على عضّة فاجعة فقأت عين النهار و استأصلت شمسه،و أصابت ياسمينه بفيروس الكلب، تأكّد لي بأنّني لن أقشر له البرتقال كما كلّ ليلة ، و لن أقف أرقب طيفه من شرفتنا المسكونة بأحلام الصيف ... الصيف رحل و حلّ الشتاء باردا ليغمر الثلج مدينتي ، صار بياضه كفنا دثّر حلمها الأزرق المتماهي مع ضحكة ابتلعها ملف بارد كالصقيع.
يعمل...
X