تويت
حماد الحسن 
_المستشار:حماد الحسن - جدارية الموت -13
لمْ يكن عالمُ الموتِ مُطابقاً للنظريّاتِ التي قَرأْتها عنهُ، فهوَ عالمٌ مختلفٌ ومتباينٌ، تماماً كاختلافِ البصمةِ عندَ البشرِ، ومتجددٌ كأَشعةِ الشمسِ التي لا تكرّرُ نفسها أَبَداً منذُ الأَزلِ، ولا يمكنُ للميتِ أَن يتقن لغةً ومن ثمّ يعتبرها صالحةً للحوارِ طوالَ الوقتِ، لأنّها لغةٌ تشبهُ الهيولى المتحرّكةِ بشكلٍ مستمرٍ، أبجديّتها كالريحِ، وعلاماتُ التّرقيم فيها تقاربُ الرّذاذَ الذي ينتشرُ فوقَ صفحةِ المياهِ أَثناءَ العاصفةِ، ونحنُ الموتى رغمَ هذه المعرفةِ المتغيرةِ على الدّوام، نتقنُ كلّ شيءٍ حتى قبلَ أَن يحصلَ التغيير، الموتى لا يجمعهم يقينٌ، حتى وجدودهم في عالمِ الموتِ لا يعتبرُ يقيناً، ربما بسبب ذلك لمْ يدوّن أَيٌ منهم تجربتهُ في عالمِ الموتِ، وبمجرّدِ العبور للبوابةِ التي تفصلنا عن الأحياءِ تتشربُ روحنا تلك المعرفةِ، وتمتزجُ بنا كأَننا أَمواتٌ من أَلفِ عام، يسعدني أَننا أَمواتٌ منذُ الأَزل، ولا نجدُ بيننا واحداً ماتَ منذ لحظات، أَمْواتٌ يَأْخذنا الوهمُ بعيداً، ولَوْلا غيابُ الغرائزِ والذّاكرةِ لأَخَذَتْني الشُّبْهةُ، وناديتُ على زوجتي عاتباً :
_ أَيْنَ فنجانُ قهوتي؟!!!
أَسْمعها تضحكُ وتقولُ :
_ عليكَ أَن تسأَلني أَين فنجانُ قهوتي العاشرُ؟!!!
أَعودُ لروايةٍ بينَ يديَّ أَتصفّحها بسرعةٍ ولهفةٍ، رُغْمَ أَني سأَضطرُّ للعودةِ لقراءتها ثانيةً برويةٍ للتعرّفِ عليها بشكلٍ جيدٍ، هذا النّوعُ منَ القراءَةِ فَرَضته عليّ الروايات البوليسيةِ، كنتُ أَركضُ خلفَ الحروفِ مستعْجِلاً كشفَ الحقيقةِ، ربّما مضى معظمُ العمرِ دونَ أَنْ أَنتبه الى التّفاصيلِ بحْثاً عنْ حقيقةٍ لمْ أَتمكّنَ من إدراكها، زربَ العمرُ من بينِ أَصابعي في غفلةٍ مني، وذاتَ روايةٍ استيقظتُ وعمري تجاوزَ الخمسينَ، وعلى طاولتي تنتشرُ أَوْراقٌ كثيرةٌ تحْتاجُ للتنقيحِ، كلّها مشاريعٌ مؤجلةٌ تنتظرُ موْسمَ المطرِ، لكنَّ طلقةً واحدة خرجَتْ منَ الجانبِ الأيمنِ للعمودِ الفقاريّ، طلقةٌ واحدةٌ كانت كفيلةً بترتيبِ كلّ أَوْراقي في لحظةٍ، وبقيَ فنجانُ قهوتي العاشرِ على طاولتي بارداً ينتظرُ عودتي بلا طائل.