إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

في المخطوط السوري جدلية ما بين الزخرفة والرسم والصورة - سامر إسماعيل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في المخطوط السوري جدلية ما بين الزخرفة والرسم والصورة - سامر إسماعيل


    سامر إسماعيل
    دمشق -سانا
    علاقة جدلية لا تظهر جلية سوى في المخطوط السوري ما بين الزخرفة والرسم والصورة تنضج محترفات عالية في صياغتها للحرف العربي كبنية بصرية غاية في فرادتها وكأحد أهم الفنون التي تنتمي إلى الإشراقات العربية المعاصرة عبر شكل راق من التعبير عن مستوى ثقافة سورية التي خرجت أول أبجدية إلى الوجود فأصل الكتابة المقرؤة المطبوع على فخاريات ورقم أوغاريت كانت منبعها تلك الأبجدية وغيرها من الرموز الأولى للخط الذي أبدعه الكنعانيون في البداية فطوروه لينتشر في ممالكهم التي امتدت إلى سواحل المغرب العربي حتى أخذ الحرف تسميات مختلفة عند الآراميين الذين تابعوا مسيرة الأبجدية الألفبائية السورية والتي استندت في اشتقاقاتها الى الكنعانية كالأبجدية النبطية والتدمرية والحضرية والسريانية والآرامية المربعة.
    وشكلت المخطوطات كما الأيقونات السورية القديمة إرثاً ثقافياً هاماً كماً ونوعاً بالنسبة لمخيلة الفنان العربي السوري من حيث امتلاك سورية لهذه الثروة الحضارية التي تختزل مقومات نهضتها وعلومها إذ ميزتها من غيرها من الأمم والشعوب ودللت بوضوح على غنى ماضيها الحضاري الذي بات من الواجب اليوم وأكثر من أي وقت مضى المحافظة عليه وصونه والانتباه إلى كونه يمثل هويتها وخصوصية انتمائها.
    والملاحظ أن بعد نحو ألف عام على ظهور الخط العربي بشكله الحالي ومع تطور وسائل وأدوات الكتابة والاهتمام به كأحد أبرز الفنون التي عرفتها المنطقة العربية وبخاصة بلاد الشام برز عدد كبير من الفنانين السوريين كان الخط هاجسهم ومصدر إلهامهم فأبدعوا وأضافوا له أشكالاً وتصاميم جديدة ومبتكرة سجلوا من خلالها محطات جديرة بالاهتمام والمتابعة.
    ومن أبرز هؤلاء الفنانين السوريين كان المخضرم محمود حماد الذي عرفت أحد مراحل تجربته بالتجريد الحروفي في الكتابة العربية بحيث استفاد من جماليات ولياقة الحرف في بناء إيقاعات اللوحة لديه والتي اعتمدت على انسجام تداخل بعض الحروف من غير دلالات وتراكبها على شكل عمارة رشيقة زاد من حيوية حضورها تباين ظهورات اللون في مختلف مناطق اشتباك الحروف واستقرار نهوضها متعانقة وسط المشهد مضيفة إلى التكوين الذي يبدو حيوياً وقوياً في آن معاً ترانيم تشكيلية عالية في تناولها لأبعاد الحرف العربي والمبارزة به في المعارض الدولية كثيمة رئيسة في نسج فضاء اللوحة العربية وتغليبها عل صرعات متاحف الفن المعاصر.
    ويعتبر الفنان منير الشعراني مجود بارع للخط العربي حيث تمكن من صياغة لوحاته الحروفية بإتقان ملفت من خلال تكوينات مدهشة لمجموعة من الكلمات تؤلف مع بعضها عمارة أنيقة لبيتٍ من الشعر أو حكمةٍ أو قولٍ مأثور لينهض التكوين عند هذا الفنان من اشتهاء الأبيض لسواد الحبر معلناً ولادة اللوحة التي يجمع فيها بامتياز بين رشاقة وجمالية تجريد الحروف وبين دلالاتها من مبدأ كل فن لا يفيد علماً لا يعول عليه فالخطوط لدى الشعراني لها نبرةٌ نميز صوتها ورجع صدى موسيقى تراثية تتردد في المكان من أنين القصب على سطح الورق بل إن خطوطه تكاد تكون إيقاعات محسوبة لتوضع الحروف بدقة ورهافة وحساسية شديدة حتى تشعر المتلقي بالرهبة والشرود في مقاماتها الصوفية المستمدة من روحانيات الشرق العربي وقدسية فضاءاته المنعكسة من تلك المربعات المسكونة بالعشق.
    ويعتبر الشعراني فناناً مصمماً وخطاطاً يرسم حروف الكلمة بأناقة ظهورها وكياسة قوامها من تناغم مقاماتها وامتشاقها باستقامة الألِف وغنج التفاف الواو أو استلقاء السين براحة على السطر وغيرها من أوضاع الحروف المتباينة في شكل استقرارها أو نمط ارتكازها معلنة في كل مرة جملة تشكيلية أكثر اشتهاءً للبصر من سابقاتها حتى يصعب على المتابع التمييز بين أفضلها من حيث الحضور في هذا الفضاء التشكيلي البهي والآسر فالشعراني يمتلك القدرة الكافية لتثوير الحرف داخل موضوعات العمل الفني كعنصر أساسي من مكونات اللوحة مضفياً انسيابية مغايرة على قيم لوحاته وكتلها اللونية ومفرداتها البصرية كمعجم خالص التكوين من معاجم لغة تشكيلية راقية واستثنائية.
    إنه فضاء الحرف العربي في اللوحة السورية عبر عالم واسع من الإبداع رغم أنه اليوم يواجه أزمة من حيث استخداماته العملية في الشأن التجاري خصوصاً بعد تطور التقنيات في الحواسب الذكية التي استنسخت مجموعة من تصاميم أشهر الخطاطين وأصبحت ملك بعض الشركات التي عممتها فيما بعد ليصبح تداولها سهلاً وبمتناول الجميع إلا أن هذا التحدي يواجهه اليوم الخطاطون السوريون أكثر من الفنانين المشتغلين بالحرف كمفردة تشكيلية ضمن مشروعهم الفني كعمل إبداعي مستقل عن احتراف الخط وامتهانه كحرفة أو وظيفة ليكون من واجب فناني اليوم الدفاع عن هذا الكنز الحضاري من متحف حروفي غاية في الثراء والجدة والفرادة.
    ويعد الفنان سامي برهان من الفنانين السوريين الذين شغلهم الحرف العربي فتحول في لوحاته إلى عنصر جمالي أساسي في تكوين العمل الفني لديه منحوتة كانت أم لوحة فهو مصورٌ مبدعٌ لأشكال جديدةٍ للحروف وتوضعاتها إضافةً لكونه نحاتاً ومصمماً بارعاً لمجسماتٍ ناهضةٍ في الفراغ وجدارياتٍ كبيرةٍ لتشكيلاتٍ أو تأليفاتٍ مختلفةٍ من تلك الحروف وهي تصيغ كلماتٍ بمعانٍ ودلالاتٍ متباينة حيث تلتقي جميعها بموضوع الخيرِ والجمالِ والحب فعندما تتعثر القراءة لدى المتلقي تبقى في حدود التكوينِ والتأليفِ الأكثرَ انعتاقاً وصوفية ألا وهو التجريد بالمعنى الديني الأقرب إلى الرقش العربي الذي يعني التكوين المتآلف والمتناغم مضموناً وتشكيلاً وتلويناً.
    وتعبر لوحة الفنان برهان برأيي الناقد باسم الأيوبي عن الأصالةِ في انتمائها إلى العربية بلغتها كإسناد وأصل مفرداتها بشكلها المقروءِ الواضح أو المبهم الصامت لتبقى تمثل في الوقتِ نفسه لوحة ًحداثية ًمعاصرةً تحاكي الغربَ من منظورِ لياقةِ وحيويةِ عناصرها وتباينِ احتمالاتِ ظهوراتها في كل مرةٍ بجماليةِ التأليفِ المتحررِ من قواعد الخطِ الصارمة وبإبداع وانسجام ألوانها من جهة ثانية لتستقر بالنهاية كمنحوتة أو كلوحة سورية تحمل كل مقومات الحضور البهي في أي مكان أو زمان فالضوء المتكئ على خاصرة الحرف هو بمثابة لغة تحقق استقلالها الفني من داخل النص المشتغل عليه وليس من خارجه ووفق شيفرة لونية متشابكة في نسيجها البصري والرمزي في وقت واحد.

    ويوضح الناقد الأيوبي أن الفنان وليد الآغا هو أيضاً من الفنانين السوريين المهتمين بالحروفية كمذهب أو اتجاه فني اشتغل عليه منذ بدايات تجربته التي تنحاز إلى الغرافيك كتقنية ففي لوحاته الأحدث يقدم الفنان إضاءة جديدة بل إضافة جدية لبحثه عن المدهش في فضاءات الحرف وتجلياته تشكلياً وتقنيةً مناغماً بين الأصالة كمرجع والمعاصرة أو الحداثة كصياغة وهذا ما ساعده على تقديم موضوعه بأشكال تعبير مختلفة كانت في مجملها ملفتة للذائقة باختلاف مستوى تلقيها وثقافتها من حيث محتوى مفرداتها كمعنى ورجع صدى إيقاعها كمغنى فهذه الثنائية التي نجح الفنان في توليفها دائما على نفس السطح في اللوحة شكلت هويته الفنية خلال معظم مراحل تجربته منذ العام 1985.
    ويقول الأيوبي الذي يدير مشروعاً كبيراً لتكريم الفنانين السوريين.. إن المزاوجة المتناغمة بين الشكل والمضمون في أعمال الفنان الآغا هي دائماً بشهادة الضوء الغزير على بعض المناطق في اللوحة لتثير شهية اللون للإفصاح عن مكنونات العناصر المعتمدة في بناء عمارتها على أساس تراتبي عمودي مراعية في الوقت ذاته تداخل وانسجام المفردات أفقيا ككتلة وفراغ مناسبين في فضاء اللوحة التي غالباً ما تعكس أجواءها حالة روحانية مشرقية.
    وهناك مجموعة من الفنانين السوريين الذي حققوا حضوراً طيباً في مجال الحروفيات الرحب والممتع من الفنون البصرية التشكيلية كان أبرزهم الفنان محمد غنوم الذي وصف لوحته بأنه يتحدث من خلالها عن موسيقا الحروف وهي تلك الحركية التي تجعل من الحرف عنصراً متحركاً علماً أنه ساكن وتجعله ينهي التكوينات التي بني عليها تشكيل اللوحة وهي عائدة إلى نفس المنطلق لنكتشف عظمة الحروفية السورية من خلال ترجمتها لمقاسات خاصة بفهم عبقري لبنية الحرف العربي وقدرته اللانهائية على إغناء مفردات تشكيلية صادمة في تجريديتها وتعبيريتها عبر مخاطبة عين المتلقي وتهذيبها لذائقته.
    يقول الفنان محمد غنوم مشيراً إلى فلسفة جمالية الحرف.. عندما نتحدث عن حرف النون نحلل فلسفة تجعل من هذا الكون الذي انطلق من نقطة حددها الخالق هي نفس النقطة التي ستعود إليها فالكون الفسيح الواسع يبدأ من نقطة ثم يعود إليها لتكون البداية والمرجع وهذا الإيحاء تتلخص به الحروف في عملي التشكيلي حين أطمح عبر لوحاتي الى تجسيد جملة الصوفي الدمشقي الكبير محي الدين ابن عربي حين قال.. الحرف أمة من الأمم.
    كما عمل الفنان خالد الساعي أيضاً على تضمين الحرف العربي في لوحاته المشغولة بالألوان المائية التي تمثل حصيلة عمل وجهد قام به هذا الفنان على مدار أكثر من عشر سنوات فلديه ميول باتجاه الأدب والشعر والفلسفة كما يمتلك معرفة عميقة بالفن الحروفي وهذا ما يتوضح في أي من أعماله التي تكشف عن التكوين الأكاديمي الصارم والمتمكن من أدواته ومواده خدمة للوحة حروفية معاصرة تحمل كل مواصفات الحداثة.
    واستخدم الفنان أكسم طلاع بدوره الحروف في الفنون التطبيقية والكتابة على الأواني والمنسوجات كجزء بسيط من عالم كبير هو الخط العربي المفتوح على عالم روحاني وتربوي أي عندما تكتب حكمة أو عبارة بخط جميل فإنك تقدم رسالتين الأولى بصرية تعبر عن شيء معين والثانية قراءة فيها حكمة ليكون جمهور الفن التشكيلي في سورية والعالم أمام محاكاة لفن المنمنمات العربية الذي ازدهر في بغداد ودمشق وحلب وتونس مكتسباً طزاجة خاصة على يد الفنان طلاع عبر اشتغاله على أبعاد فنية غاية في الثراء والحيوية اللونية مقدماً شخصية الفن السوري المعاصر بنكهة مميزة ولافتة في حضورها على الساحة الحروفية العربية.
    الفنان جمال بوستان تحدث عن لوحاته قائلاً.. أنفذ أعمالي بتقنيات لونية مختلفة وبصيغة حروفية تتماهى فيها الأصول الكلاسيكية للخط العربي بالحداثة التشكيلية التجريدية حيث أجمع في معمار لوحتي بين رشاقة التشكيلات الحروفية والمساحات اللونية الشفيفة المطرزة بوحدات زخرفية هندسية تتوافق وتنسجم مع روح الحرف العربي وجمالياته التي تغرد سعيدة معبرة في فضاء التجريد هي الأخرى فأنا أفتخر بأني أبدع في جماليات الخط العربي الذي عبر بيكاسو عنه قائلا.. إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن التصوير وجدت الخط العربي قد سبقني اليها منذ امد بعيد.
    ويبقى الحرف العربي مفردة تشكيلية ساحرة بامتياز تتمتع بحيوية استقرارها واختلاف شكلها التي تمنحه احتمالات جمالية وبصرية لا نهائية من دلالاتها في كل مرة تستقر فيها ومن تنوع شكل الحرف بخصائصه مع اختلاف نوع الخط المستخدم في الجملة أو العبارة أو الكلمة في اللوحة ليكون الفن السوري من طلائع الفنون التي راهن فنانوها على الدفاع دائماً عن مقترحاتها الإبداعية لاسيما عبر إبراز طاقة الحرف العربي وقدرته على المنافسة أمام غزارة الإنتاج التشكيلي العالمي.


يعمل...
X