إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بقلم : الشاعرة رشيدة بوخشة - قصة أريد سكنا آخر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بقلم : الشاعرة رشيدة بوخشة - قصة أريد سكنا آخر

    أريد سكنا آخر
    بقلم : الشاعرة رشيدة بوخشة


    رشيدة بوخشة

    " آه يا مدينة العقبان كم أحبك " يردد في سريرة نفسه
    "سيدي المسؤول أنا فلاتة صديقة فلان إنه أكثر من صديق إنه أخ أنا على وشك الإنتحارمن هول ما أعاني ، إسودت الدنيا في عيني و لم أعد أطيق حتى نفسي ". هكذا بدأت السيدة الطاوس كلامها مع حضرة المسؤول .نحيفة ملتوية في سروال يصف تلافيف جسد متعب أنهكته السنون ، وجهها يئن تحت وطأة التجاعيد ،مكشرة عبوسة ، رغم الإبتسامة التي تحاول أن ترسمها على شفتين متمرغتين في أحمر شفاه فاجر ، عطرها يملأ المكان عبثا حاول إخفاء رائحة التبغ تفوح ، علاقاتها طيبة مع جنس الذكور ،تجالسهم و تحكي لهم مختلف القصص الحقيرة ، و النكت الخليعة .أمضت شبابها في اللهو و المجون بعد أن تطلقت في سن مبكرة ، عاشت حياتها كما تقول على أحسن ما يكون ، سهر و سمر و علاقات بأثمان باهظة لها و لصحيباتها ، تمتلك ذهبا كثيرا تحفظه في البنك .واصلت كلامها و هي تذرف دمعتين مصطنعتين " سيدي لو لم يشجعني فلان لما أتيت ، صحيح أنني ورثت بيتا عن والدي بوسط المدينة و لكن لا أحب العيش مع الورثة ، أحب الإستقلالية .إشتريت شقة عدلتها كما يجب للشقة أن تعدل، غير أن لي جارة تغار مني و تسبب لي كل أنواع المتاعب ، تحسدني على ضيوفي ، تتدخل في شؤوني ، تحرم علي حتى الإستمتاع بالموسيقى و السهر، و الحل هو هجرها .، جئتك أطمع في كرمك لأحصل على شقة تكون فيصلا ما بيني و بين متاعبها " رد المسؤول "سنساعدك قطعا لا تقلقي ، أنت تعيشين مأساة لا حدود لها ، من يحتمل هذه المتاعب ؟ أوصاني عنك صديق عزيز لا يمكن أن أرد له طلب "واصل بعد أن ترامى على كرسيه الفخم المتحرك قائلا " ها هو إسمك في قائمة المستفيدين من السكن الإجتماعي" .مبتهجة همت بالإنصراف ، إستوقفها .." إجلسي لتشربي قهوتك أولا ."أشعلت سيجارة و ارتمت على الأريكة تعرض بوقاحة بضاعة متعفنة أبلاها تقليب الأيادي.
    في قاعة الإنتظار يجلس السيد أحمد ينتظر دوره لتقديم شكواه .إنه موظف ، متزوج و أب لأربعة أطفال وسيم هاديء السريرة يتميز بالقناعة التي لا تفنى ، يؤمن بالله و بما يسوقه له من رزق طيب ، غير أن الإيجار أتعب جيبه المتواضع ، لو ...كان فقط يملك .....شقة ... لو ..إنه يرتب الكلمات في ذهنه كما يرتب الروايات و القصص التي يحكيها والده للأسرة كلما اجتمعوا حول صينية الشاي .يحكي مأساة الشعب الجزائري إبان الإستعمار الفرنسي .فرنسا طماعة ، أسالت ثروات الجزائر لعابها ، أما موقعها الجغرافي فقد أفقدها وعيها ، فاختلقت حادثة المروحة لتستعمر بلادنا . فوجئنا بجيوشها تغزو أراضينا تماما كالجراد الجائع الذي يلتهم الأخضر و اليابس ، صادرت أملاكنا ،شردت شعبنا ، رملت نساءنا ، يتمت أطفالنا ،عذبت رجالنا ،و حاولت طمس معالم حضارتنا لولا أننا فتحنا بيوتنا للقرآن مدارس فحافظنا على عروبتنا و ديننا .
    يتذكر صمود الشهيد العربي بن مهيدي و يبتسم فخرا ،هذا الرجل العظيم لقن فرنسا درسا لن تنساه
    في الصبر و الثبات أمام أبشع أنواع التعذيب ، أما الأمير عبد القادرفقد دوخها إلى أن لجأت إلى سياسة الأرض المحروقة التي أجبرته على الإستسلام بعد أن فقد الكثير من رجاله .
    يعتدل الآن في جلسته ، و يتأجج الفخر نارا في صدره ، و يتدفق الدم حارا في عروقه ، إنه يستعرض بطولات والده المجاهد ، و قصة استشهاد عميه ، يبتسم ابتسامة عريضة ،إنه إبن الرجال الذين صنعوا الثورة ، تكاثفت جهودهم عبر الوطن ، و توحدت كلمتهم و اتخدوا ليلة نوفمبر موعدا .أطلقوا أول رصاصة معلنة ثورة شعب قال لا للعبودية ، كسروا القيود ،مزقوا الذل ،صنعوا للجزائر ملحمة ، فتربعوا على كرسي المجد و الكرامة.
    يجلس السيد أحمد الآن على بساط سحري ،يحلق في أجواء الجزائر البيضاء . ،ما أجملها اا كل الكلام لا يكفي لوصف روعة مفاتنها، جبالها شامخة في عز و كبرياء ،أراضيها خضراء ،حدائقها غناء ،مرتفعاتها ، منخفضاتها ، وهادها ،شعابها ،وديانها ، أنهارها ، واحاتها ،كل الأقلام لا تكفي لتدوين سحرها و بهائها ، سبحان المبدع.بحارها على مد البصر ،أشجار الصفصاف شاهقة في السماء في صمود و تحدي .سيختار أرضا يقيم بها .لما لا؟ أليست الجزائر كلها ملكا له ؟ .سيقيم بالأوراس ، لا جرجرة بل في أقصى الجنوب يستمتع بالرمال الذهبية المفروشة للزائر كزربية من الذهب الخالص،لا سيختار سطيف أو خراطة أو قالمة ، لا سيبقى في مدينته سعيدة ، مدينة العقبان لها قصة كفاح ، و تاريخ عريق ، إنها من المدن القديمة جدا عاش بها الإنسان البدائي ، و سعد الأمير عبد القادر بالعيش فيها ،" آه يا مدينة العقبان كم أحبك "- يردد في سريرة نفسه . - سيظل إلى جانب أصدقائه و رفقاء الدرب ، إلى جانب أهله و ذويه ، سيطلب شقة من ثلاث غرف بل من أربع غرف ، غرفة له ، غرفة للولدين ، غرفة للبنتين . بدأ الآن في تأثيثها بالتقسيط ، يحب طلاءها بالأبيض ، أما الفرش سيكون قطعا متواضعا ، سيسدل الستائر وقت القيلولة ،و يرفعها ليلا يفتح النوافد يستنشق هواء الجبال المشبع برائحة العرعار و الصبار ، المعطر بشذى الزهر المسقي بدم الشهداء الأبرار ،
    سيستقبل ضيوفه في الصالون ، لن يزعج بعد اليوم أحدا سيستمتع بالحديث معهم عن حب الله و الوطن ، و عن شعب سجل التاريخ بطولاته بأحرف من ذهب لا يقدر الزمن أن يبليها.تظل منارة للأجيال تلو الأجيال ، تعلمهم قصة كفاح شعب و بطولات رجال دونتها أقلام العالم و لا زال .
    أخيرا سيستقل في غرفته ، سيعيش أجمل سويعات عمره إلى جانب زوجته يدللها يهدهدها يثني عليها صابرة تشهد معه ملحمة السفر و الترحال بين أحياء المدينة ، تلاحقهم عصا الإيجار تستنزف نصف مرتبهم ، ينسيها ألحان ناي عزف كثيرا للشجن يرقص على أوتار القلب المعطوب ،يهمس في أذنها يغني لها أغنية الزمن الآتي.
    يؤرجحها ما بين الضحكة و الإبتسامة ، يهديها ما انقضى من العمر و ما ظل ، يسكنها قلبا زاهيا بالعيش معها في فضاءات الحب المتوهجة ، في دروب منسية يذكرها نبض القلب الهيمان رضا و عشقا ،يناجيها ، حبيبة قلبي ، توأم روحي حورية يا عمري ، أخيرا سيستقر المركب ، كفاه تقلبه الأمواج و تقذفه العواصف يتمرغ في شواطيء الحرمان. تندس بين ثنايا قميصه كقطة وديعة تشتم دفء جويلية ، كندفة ثلج تنصهر على لهيب أنفاسه ، تذوبه تتوجه ملكا يأمر و ينهى ، تلبسه تاجا ، تطبعه وقارا على جبينها المرصع بالتحدي .غرفتها ستؤثثها بما فات من ذكرى يلاحقان طيف سراب ، و الخزانة بروعة و بهجة ما سيعيشانه معا يحتسيان كؤوس حب رفض أن يموت ، و لا من يدق الباب مذكرا بقرب موعد إخلاء الشقة." آه يا مدينة العقبان كم أحبك " يردد في سريرة نفسه.
    الساعة الحادية عشرة صباحا حين استفاق على أزيز الباب يفتح .إنتصب واقفا و الأمل يداعبه ،إبتسامته لا تزال مرسومة على شفتيه المرتجفتين ، نبضات قلبه متسارعة ، لا تصمد أمام الحدث ، ستعيش بعد دقائق فرحة طال إنتظارها، تمتد يده اليمنى في حركات مضطربة تتفقد بأنامل مرتعشة أزرار معطفه المتواضع إشتراه من الخردة المستوردة ، مغسول و مكوي ، حق له أن يلبس اليوم إبتهاجا بالمناسبة العظيمة ،حدقتا عينيه تضيقان و تتسعان ، ترقصان على وقع دقات قدمه اليسرى المنتظمة أحيانا و المرتبكة أحيانا أخرى . وداعا للسفر و الترحال ، وداعا للتعب ، للجري وراء السماسرة يمتصون دمه.وداعا لمذلة السؤال. "آه يا مدينة العقبان كم أحبك " يردد في سريرة نفسه.
    تخرج السيدة الطاوس مسرورة .إنها تتكلم في الموبيل بلهفة تقول " ألو ...نعم ... أين أنتم ؟ ..... في الطريق ؟ .....أنا قادمة ....ربع ساعة ..... سأوقف طاكسي ."
    خطى الخطوة الأولى طمعا في الدخول ،فوجيء بالسكرتيرة تقول ، " إنتهت المقابلات اليوم ، تؤجل المواعيد للشهر"المقبل..
يعمل...
X