إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أبي يكسب..! بقلم : صبري ح. الطويل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أبي يكسب..! بقلم : صبري ح. الطويل

    أبي يكسب..!
    بقلم : صبري ح. الطويل

    عندما أتذكر أبي - رحمة الله عليه - وقلبي يَطلُبُ من الله سبحانه وتعالى الرحمة له وأن يسكنه فسيح جنَّاته .. أكتشفُ أنني ما زلتُ طفلاً صغيرًا .. أفتقد أبي وأفتقد حُبه لنا وابتسامته العذبة .. وبطريقة تلقائية أتحسس أرنبة أنفي حيث كان يقبض عليها بإصبعيه ويطلب منى أن أردد كلمة بابا.. كنتُ أفعل ذلك وكان يضحك ويضحك .. وتنتفخ عروق وجهه .. وأرى دموعًا في عينيه .. فأندفع بكل قوتي قافزًا فوق ركبتيه .. أحتضنه وأقبله ثم أمسك أنا بأرنبة أنفه وأفعل معه نفس الشىء.
    بعدما شبَّ عودي وأنهيتُ دراستي في المرحلة الإبتدائية .. طلب مني أبي ذات مساء.. أن أجلس بجواره وأنصتُ إلى كلامِهِ جيدًا .. ما زلتُ أذكرُ الحوارَ الذي دار بيننا .. وما قاله لي بالحرفِ الواحدِ.. قال : "أنت الآن لم تَعُدْ صغيرًا .. وأنا من الآن وصاعدًا .. لن أمسك أرنبة أنفك وإنما سأفكر في طريقة جديدة للتفاهم بيننا.. وللعقاب أيضًا إذا ما أخطأتَ أو أهملتَ دروسك".. أجبته يومها ضاحكًا: "موافــقٌ يا صديقي الحبيب" .. قَبلني .. ثم أعطاني قرشان لأشتري بهما بعض الحلوى.
    كان لأبي لُغة خاصة يتعامل بها معي .. فقط كنتُ أنظر في عينيه.. فإذا رأيتُ صورة وجهي واضحة المعالم رائقة .. بدأت أطلبُ منه ما أريد.. أو أسرع في إحضار طاولة الشطرنج وأطلب منه اللعب معي كي أتعلم منه خطة جديدة أتغلب بها على أصدقائي .. أو اُحْضِرُ إليه كراستي وأطلب منه مساعدتي في حل إحدى المسائل. أما إذا رأيتُ صورتي غير واضحة .. أعلمُ أنه متعبٌ أو هناك أمرٌ هامٌ يُفكرَ فيه .. فأحضرُ له كوبًا من الماء وأسرع إلى المطبخ طالبًا من أمي كوبًا من الليمون لأبي.. وهكذا.
    كان أبي - رحمة الله عليه - يُحِبُ الطرفةَ ويحفظَ الكثير من النوادر والحكايات الفكاهية .. وكانت مكتبته زاخرة بأمهات الكتب والروايات والقصص والكتيبات المسلية.
    ذات يوم اشترى لي حصالة قيِّمة وقدمها لي هدية في عيد ميلادي.. فشكرته قائلاً : أشكرك يا أبي ولكن متى ستشتري لي النقود؟ يومها ضج الجميع بالضحكِ .. وعرف والدي أننى أقرأ في كتبِهِ وأفهم ما أقرأه.
    يومٌ آخرٌ رأيتُ في عينيه بريقًا جميلاً .. فاقتربتُ منه وقلت له : زميلي اليوم كان يغشَ من ورقة إجابتي فأوقعته في شر أعمله.. قال والدهشة تملأ عينيه : كيف أوقعته في شر أعماله يا فالح؟ قُلت بجدٍ: كتبتُ جميع إجاباتي خطأ. فإذ به ينهض واقفًا في مكانِهِ.. فتح فاه على مصراعيه .. وتحركت ذراعاه ناحيتي ببطء وبدأت أصابعه تتراقص أمام عيني.. وهمَّ بالإمساك بي من رقبتي.. ضحكتُ بصوتٍ مرتفع و جريتُ من أمامه مختبئًا في غرفته وخلف مكتبه الخشبي الكبير.. سمعته يقصُ على مسامع أمي بصوتٍ عالٍ ما رويته له عن زميلي الغشاش .. فإذ بها تصرخ بإنفعال وغيظ "أرني وجهك يا فالح" .. عندئذ خرجت إليهما ضاحكًا .. رافعًا ذراعي الأيمن إلى أعلى قائلاً : "أنا أكسبُ يا والديَّ الأعزاء.. فأنا لستُ غبيًا .. ألم تقرأ يا أبي نوادر الأشعب أو الشمقمق أو أبو دلامة أو قراقوش .. ناهيك يا أبي عن نوادر جحا".
    سألني أبي بلطفٍ : وهل قرأت لهؤلاء جميعهم؟!
    قلتُ بتفاخرٍ : نعم يا أبي .. فأنا ابنُك.. وكما يقول المثل (ابن الوز عوَّام).. وأبواب مكتبتك مفتوحة على مصراعيها ..
    قال : إذن هى طُرفة ولم تقعْ لك؟
    قلتُ مبتسمًا : بالطبع يا أبي .. فأنا كما أخبرتك لستُ غبيًا.. هذا شىء .. أما الشىء الآخر والأهم أن الامتحانات لم تبدأ بعد..!
    قال أبي بهدوءٍ: وهل يا ترى قرأتَ عن الأحمقْ؟
    أجبته بالنفي.. ثم سألته مستفسرًا : ومن يكون هذا الأحمق؟
    قال : ذات يوم جاء هذا الأحمق لأبيه الذي يحبه ويخاف عليه كثيرًا .. وأخبره بأنه قد رسب في الامتحان .. وأنه سيجتهد في العام المقبل كي ينجح ويكون من المتفوقين.
    قلت مقاطعًا : إنها الصداقة والصراحة المعهودة بين الابن وأبيه ... أراه ليس أحمقًا يا أبي!
    أشار لي أبي بكفِه أن أنتظر نهاية القصة.. ففعلت.
    قال مكملاً حديثه : نظر الأب إلى إبنه الذي كان يتوهم فيه الذكاء والنجاح نظرة واحدة .. بعدها انكفأ على وجهه فاقدًا الوعي..
    قلتُ مقاطعًا : لقد كانت الصدمة قاسية عليه ..
    قال أبي : لن أطيل عليك .. فَقَدَ الرجل النطق وتحول في لحظة غابرة إلى إنسانٍ أبكم ..
    قلت : والأحمق .. ماذا فعل؟
    قال مبتسمًا : الأحمق لم يكن راسبًا وإنما كان من المتفوقين .. ولكنه أراد أن يلهو مع أبيه ..!
    قلت وقتها مؤيدًا أبي : إنه ليس أحمقًا فقط بل غبيًا أيضًا .. أخبرني يا أبي من هو هذا الأحمق؟
    قال : أنت تعرفه..!
    قلت باستغراب : أنا لم أقرأ عنه من قبل..!
    قال أبي بزهوٍ وافتخار: بل قرأت عنه ورددت أقواله.. أنت يا صديقي تعرفه جيدًا..
    قلتُ : أخبرني يا أبي .. من يكون هذا الأحمق؟
    أجابني بهدوءٍ : أنت يا صديقي وكنت أتوّهم فيك الذكاء.. والآن من يكسب؟
    أجبته وأنا مطاطىء الرأس وقد فهمتُ قصده : أنت تكسب يا أبي .. أرجوك أن تسامحني.
    قال أبي وهو يربت على كتفي بحنوٍ: ما أحزنني يا إبني أنني فكرت في تلك اللحظة .. أن أضربك ضربًا مبرحًا.
    وقبض أبي بإصبعيه على أذني اليسري قائلاً : الآن وقد صرت في المرحلة الإعدادية .. أعتقد أن الأذن ستكون أفضل من أرنبة الأنف.
    لم يضربني أبي يومًا .. أو يقسو علىَّ .. "كيف يضرب الصديق صديقه؟" .. هكذا كان يخبرني دائمًا ويقول لي أيضًا أن الضربَ للحيوانات لتقويمها وتدريبها وليس للبشر.. وأظلُ أتحسس أرنبة أنفي كلما أتذكر أبي وأيام طفولتي.
    http://samypress.blogspot.com
    http://samypress.yoo7.com
يعمل...
X