إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

يحفر ركاطـة في أغـوار شعر الرّبـاوي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يحفر ركاطـة في أغـوار شعر الرّبـاوي



    غلاف كتاب حميد ركاطة
    ركاطـة يحفر في أغـوار شعر الرّبـاوي

    فريد أمعضـشو
    ما زالت التجربة الشعرية لمحمد علي الرباوي، الممتدة على مساحة زمنية تربو على الأربعة عقود، تثير النقد الأدبي، وتغويه للاحتفال بها ابتغاء دراستها، بعمق، للوقوف على ما تنطوي عليه من موضوعات فكرية ودلالات مختلفة، وعلى ما تختزنه من قِيم جمالية ومقوّمات فنية.
    فبعد أن حظيت تلك التجربة الغنية باهتمام كبير من لدن نقادنا وباحثينا، في شكل أبحاث أكاديمية أو دراسات نقدية، ارتأى المبدع والناقد المغربي حميد ركاطة أن يعود – مرة أخرى– إلى التجربة المذكورة، التي تأبى أن تشيخ، مُحاولا قراءتها برؤية جديدة معمقة تجري وراء ملامسة قضاياها ومرتكزاتها وأبعادها وفنّياتها، وذلك في أحدث إصداراته؛ ويتعلق الأمر بباكورته النقدية التي اختار وسمها بـ"البحث عن المعاني اللاّمرئية ودلالات الأشياء في شعر محمد علي الرباوي"، وهي صادرة مؤخّرا عن شركة مطابع الأنوار المغاربية بوجدة، في 90 صفحة من الحجم المتوسط، تزيّن غلافها الأمامي لوحة تشكيلية معبِّرة برع في نسج خيوطها الفنان الجزائري محمد سعود.
    إن التجربة الشعرية للرباوي تحمل بين طياتها أكثر من ملمحِ تميُّز؛ مما يؤهِّلها لأن تتبوّأ مكانة سنيّة في مشهدنا الشعري المعاصر، ولأن تفرض نفسها على نقدنا الذي لم يتوان في احتضانها والالتفات إليها.
    فمحمد علي الرباوي شاعر مُكثر إنتاجا، خبر دروب القصيدة ومجاهلها مستفيدا من قراءاته الواسعة في التراث الشعري العربي، ومن انفتاحه على الأشعار الغربية، وله إسهام رصين في تجديد العروض العربي ضمّنه أطروحته لنيل دكتوراه الدولة، الصادرة مؤخرا بوجدة.
    وقد قال الشعر، ونظمه، في مجالات ومواضيع من الكثرة بمكان، حتى إن قارئ أشعاره ليراها بمثابة "كوكتيل" يجمع بين الشعر الذاتي والشعر الديني الصوفي والشعر الوطني وشعر القضية، علاوة على حضور تيمات أخرى في نصوصه الشعرية؛ من قبيل الحزن والجسد والحب والمكان ونحوها. ويؤكد ذلك كله أن الشعر المعاصر اقتحم كل الميادين، وطرق كل أبواب القول مسلحا بلغة وبأسلوب فعّالين يجنحان، غالبا، إلى التلميح والتعبير بالرمز والأسطورة والانزياح عن المعيار اللغوي وتوظيف المفارقة والحكي أحيانا.
    ولعلّ من أبرز العوامل التي حفِظت لتجربة الرباوي الشعرية ألقها وفرادتها، ووفّرت لها أجواء السّيرُورة والتقبل في أوساط القراء، إضرابه عن الخوض في القضايا السياسية في فترة من تاريخ المغرب القريب شهد، بالملموس، اكتساح الإيديولوجيا وسهام التسييس جزءا مهما جدا من إبداعنا المعاصر. وبذلك نأى بأشعاره عن التأثر بذلك المدّ، وعن أن تتحوّل إلى خطابات حزبية إيديولوجية؛ على نحو ما عرفه شعر العصر الأموي الذي تجاذبته أحزاب وتيارات متطاحنة، فاستحال إلى بيانات تنتصر لإيديولوجيا هذا الحزب أو ذاك "الأمويون – الشيعة – الزُّبيريون…".
    يقول حميد ركاطة عن الربّاوي: "يعتبر من الشعراء القلائل الذين لم يسقطوا في كمين أدلجة القصيدة، أو تحويلها إلى مقالة سياسية نارية. وقد اعتبرنا ذلك ميزة مهمة في تاريخ الشعر المغربي، إلى جانب الشاعر محمد الطوبي رحمه الله، وأحمد الطريبق، وعبد الكريم الطبّال، وغيرهم من الشعراء الذين لم يخوضوا مع الخائضين لقداسة الشعر، ولنُبل رسالته في نظرهم، أو لمواقفهم الخاصة" "ص81".
    وإن ابتعاد الرباوي عن التعرض إلى مثل هذه المواضيع، التي كان ممكنا أن تُخندِق شعره في خانةٍ بعينِها، وتفقده – بالتالي – كثيرا من إشعاعه وقيمته وشعريته، لم يمنعه، مطلقا، من تناول قضايا بلده، والانتصار لها، مُنذ بدأ يراعه السّيّالُ يخط القصائد، فضلا عن قضايا أمته ككل، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. ثم إن قصائده، في طرحها للقضايا الحسّاسة على اختلافها، "بقدر ما تنتقد وتعرّي السّلبيات، تحاول رسم جانب مُشرق وصافٍ يكون بمثابة تذكير وتحفيز وإثارة للغيرة الوطنية في ظل إكراهات واقع مرير." "ص83".
    إن إقبال حميد ركاطة على الحفر في تضاريس القصيدة الرّبّاوية قاده إلى الوقوف المُستفيض عند جملة من القضايا والموضوعات البارزة في أشعار الرجل وقوفا رام من ورائه دراستها وتحليلها وتجلية أبعادها. فممّا يلفت نظر قارئ هذه الأشعار حضور الذات، بقوة، فيها، مع ما يتمحّض لها من إحساسات وإخفاقات وتطلعات، وما تثيره من أسئلة مُلحّة. وقد سبق للرباوي أن أكّد هذا الأمر بقوله: "أومن أن الشعر إذا خلا من عنصر الذات سقط. لهذا تجد عنصر الذات في كل شعري واضحا، وذلك لأني لا أكتب إلا بعد معاناة".
    وبالفعل، فإن قارئ قصائد الرباوي يلمس فيها، كما يذكر ركاطة، "حرقتها الصادقة المنبعثة من أعماق الحنايا، والحاملة لأكثر من آهة" "ص65".
    ولعل هذا ما جعل تيمات الحزن والمقاساة والاغتراب تتسلل إلى عديد من تلك القصائد التي كان مبدعُها، بلا ريب، حين نظمها، يكتوي بسياط واقع صعب أرخى بظلاله على شتى جوانب حياة الإنسان في الأمة العربية والإسلامية.
    وقد درس ركاطة هذه التيمات، وما يرتبط بها من معانٍ، في كتابه هذا، مؤكِّدا أن جملة غير يسيرة من نصوصها تتناصّ مع مِحن الأنبياء عليهم السلام "محمد صلى الله عليه وسلم – يونس – يوسف…"، وأنها تستبطِنُ مشاعر صادقة، وتعكس لحظتها الحضارية بكل خيباتها وآلامها وآمالها.
    وغير بعيد عن الموضوع الذاتي، تطرق ركاطة إلى دراسة الرثاء والإهداء في قصائد الرباوي، بحيث إن مجموعة منها كُتبت رثاء لبعض أقاربه ومعارفه الأوفياء؛ منها قصيدته في والده، رحمة الله عليه، بعنوان "عرس الدم"، التي استلهمت بعض المعاني من قصة نبيِّ الله يوسف عليه السلام، وقصيدة له في رثاء صديقه الحميم يحيى الكوراري الذي كان يعمل في إذاعة وجدة الجهوية، وعُرف ببرنامجه الاجتماعي "رُكن المتغيِّبين".
    وتجد قصائد أخرى للرباوي مُهداة إلى عدد من المقرّبين منه، أو زملائه ممّن جمعتهم به روابط الصداقة الخالصة؛ مثل ابنه زكرياء، ورفيقه في درب النضال بالكلمة الصادقة الملتزمة وفي العمل د. حسن الأمراني الذي اقترن اسمه به لدى كثير من دارسي الشعر المغربي.
    وثمة موضوعة أخرى ذات حضور جليّ في قصِيدِ الرّباوي، خصّها ركاطة بوقفة نقدية متأنّية، وهي الجسد بوصفه مكوِّنا أساسا فيه، شكّل "مرتكزا لبناءٍ مسترسل يمنع الانطباع بدوران حلزوني يبتعد عن نقطة ارتكازه كلّ مرة يتم فيها الدوران تكون الانطلاقة من الجسد"؛ على حد تعبير الباحث نفسِه "ص40".
    ولا تقل تيمة الحبّ والمرأة أهمية في شعر الرباوي من التيمة المتقدِّمة، إلا أن هذا الحب – الذي تجده يلازم تجربة الرجل الشعرية على امتدادها – يتخذ أبعادا وصُورا شتى، ويرقى، في الغالب، إلى مصافّ الحب الإلهي ذي المنزع الصوفي، متجرِّدا من بُعده المادي السطحي ليُلامس الجوهر والروح.
    وعليه، كان لزاما التنبيه إلى ضرورة التيقظ حين المرور بقصائد الشاعر الملفعة بالحب والوجد، التي تجد فيها تواتر عبارة "حبيبي"؛ مما قد يدفع بعض القراء إلى التسرع بتصنيفها ضمن خانة التغزل.
    والحق غيرُ ذلك كما يؤكد د. الأمراني الذي نبّه، في كلمة/ شهادة في حق الرباوي، نشرها في "العلم الثقافي" "عدد 20 يناير 2011"، إلى الاحتراز من مثل هذا التسرع غير المبني على قراءة واعية عميقة لقصائد الرباوي المنظومة في هذا المضمار، مؤكدا في الوقت نفسِه أن شاعرنا لم يكن استثناء في استعمال عبارة "حبيبي" في أسيقة صوفية روحانية، يقول: "لا ينبغي لنا العجلة حين تمر بنا كلمة "حبيبي" في شعر الرباوي لا بد أن نلمس المرحلة لنرى إن كانت تنصرف إلى المرأة أم عندليب الكون أو إلى خالق الكون.
    وقد استكثر بعضهم على الشاعر أن يستعمل كلمة "حبيبي" في مخاطبة الباري جلّ وعلا، غافلا أن للشاعر سندا فنيا وسندا شرعيّا. فهو في ذلك مُتّبع غيرُ مبتدع، حيث سبقه إلى ذلك كبارُ السالكين. وأما السندُ الشرعيّ فمرجعه إلى ما وصف به الحق تعالى أصفياءه: يحبّهم ويحبّونه".
    ويتبدّى لمن يتصفّح أشعار الرباوي مدى حُفولها بالمكان، وحديثها عنه حديثا ينمُّ، في جلّ الحالات، عن حب راسخ يُكِنّه الشاعر لها. ويتنوّع ذلك المكان على نحوٍ واضح؛ إذ تجد في قصائد الرباوي فضاء الصحراء البسيط الأليف، بمداشره وتجمُّعاته وتضاريسه؛ كما في ديوانه "قمر أسرير".
    وتجد فيها فضاء المدينة الموزّع بين مدائن تنجذب إليها الذات لِما نشأ بينهما من أواصر وُجدانية تبعث الذات الشاعرة على الارتياح والسّكينة بين جنباتها، وبين أخرى تنفر منها وتحسّ داخلها بالتبرُّم والضيق، بل بالتغرُّب والمعاناة الحادّة كذلك، وتجدُر الإشارة إلى أن هذه التجربة التي عاشها الرباوي في عالم المدينة المعاصرة، التي فقدت كثيرا من مقومات حضارتها وهُويتها لتنساق وراء المدنيّة الغربية الوافدة من وراء البحر، تتسم بالصدق والأصالة؛ كما سبق أن أوضحنا في دراسةٍ نشرناها بعنوان "الاغتراب في شعر محمد علي الرباوي".
    ومن مشمولات المدينة فضاء المقهى الذي يعشقه الرباوي، وما زال مواظبا على زيارته صباح مساء لِما يُلفيه فيه من راحة وانسجام مع مكوِّناته، ولِما يوحي به إليه، أحيانا، من معانٍ بوصفه "كتابا" يقرأ بين صفحاته الرباويُّ الشيء الكثير عن حياة الناس وسلوكاتهم وأفكارهم وانشغالاتهم. ولهذا الأمر، فقد خصّ المقهى بعدد من نصوصه الشعرية؛ كما هو ملحوظ في ديوانه "دم كذب".
    وتنضاف إلى هذه الأمكنة فضاءات أخرى ذات طبيعة مختلفة؛ كالوديان والأنهار مثلا، بل إنه اتخذ من الذات، كما يقول ركاطة، مكانا كذلك؛ كما في ديوانه "الرّمانة الحجرية".
    ولم يكتفِ الرباوي بالحديث عن هذه الأمكنة ممّا يقع داخل وطنه فقط، بل تناول أخرى من خارج المغرب؛ من مثل باتنة، والقدس، والقاهرة، والنيل، ولندن.
    وخلص ركاطة، عقب دراسته الفضاء في شعر الرباوي، إلى أنه شكّل، أحيانا، مصدر حزن وغربة وقلق بالنسبة إليه، نظرا لما لاحظه فيه من مظاهر الاختلال والانكسار والعُقم والبؤس.
    كما أكد تعلقه المتين بالزمان جريا على ما هو متعارف عليه في الدراسات الفكرية والأدبية، التي تُجمع على أنه "ليس ثمة فصل عملي بين العنصرين المذكورين، في سعيهما إلى استِكناه أدبية النصوص وجوهرها. ذلك بأن النص، لاسيما في مجال الأدب، إنما يدور في إطار أحداث وأزمنة يستوعبُها حيّز مكاني.
    فالزمانُ يُكسب المكان هُويته ومكانيته إن صحّ التعبير"؛ كما يقول حافظ محمد جمال الدين في مقالٍ له بعنوان "شعرية المكان والزمان" "2004". ولاحظ ركاطة، كذلك، عمد الرباوي إلى أنسنة بعض الأمكنة، وخلع أفعال وصفات إنسانية عليها، لغايات دلالية إيحائية وجمالية؛ مثلما فعل مع مدينة وجدة التي يستقرّ بها.
    تلكم، إذا، مجمل أفكار الكتاب وقضاياه ومرتكزاته، قدّمها الناقد حميد ركاطة وفق رؤية تتعمق في الأشياء، وتسافر بعيدا في أغوارها، باحثة عن معانيها اللاّمرئية الكامنة في شِغاف لُبِّها، ومتوسِّلة، إلى ذلك كله، بلغة واصفة وتحليلية رصينة.
يعمل...
X