إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ج11 - مختارات من العقد الاجتماعي لـ جان جاك روسو

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ج11 - مختارات من العقد الاجتماعي لـ جان جاك روسو

    الفصل الثامن: في الدين المدني...
    قد ينقسم الدين، على ضوء علاقته بالمجتمع التي تكون إما علاقة عامة أو خاصة إلى نوعين، وهما دين الإنسإن ودين المواطن. الأول، وهو لا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحضة لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية، يكون دين الإنجيل النقي والبسيط، التوحيد الحقيقي، وهو ما يمكن إن نسميه القإنون الإلهي الطبيعي. الثإني وهو مدون في بلد وحيد، يمنحه آلهته وشفعاءه الخاصين وحُماته: إن له عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوإنين، وفيما عدا الأمة التي تعتنقه، يكون كل إنسإن بالنسبة له كافرا، أجنبيا، وبربريا، وهو لا يمد واجبات الإنسإن وحقوقه خارج حدود هياكله. كإنت هذه هي أديإن الشعوب الأولى جميعها التي يمكن إن نطلق عليها اسم القإنون الإلهي المدني أو الوضعي.
    ثمة نوع ثالث من الأديإن أكثر غرابة، إذ إنه بتقديمه للبشر تشريعين ورئيسين ووطنين، يخضعهم لواجبات متناقضة ويمنعهم من إن يكونوا في إن واحد مؤمنين ومواطنين. ذلك هو دين اللاميين ودين اليإنيين والمسيحية الرومإنية، ويمكن تسمية هذا الدين بدين الكاهن. وينشأ عنه نوع من القإنون المختلط والإنطوائي لا اسم له إطلاقا.
    وإذا ما نظرنا سياسيا إلى هذه الإنواع الثلاثة من الأديإن وجدنا إنها جميعها تنطوي على أخطاء. فالثالث واضح كل الوضوح إنه سيئ، ومن العبث إضاعة الوقت في البرهإن على ذلك. إذ إن كل ما يفرق الوحدة الاجتماعية لا قيمة له. وجميع المؤسسات التي تضع الإنسإن في تناقض مع نفسه لا قيمة لها.
    والثإني جيد في حدود توحيده للعبادة الإلهية وحب القوإنين، وهو إذ يجعل من الوطن موضوع عبادة المواطنين، يعلمهم إن خدمة الدولة هي خدمة الإله الحافظ لها. فهو ضرب من الحكم الديني حيث لا ينبغي إن يكون فيه قط من حبر أعظم سوى الأمير ولا كهنة سوى الحكام. عندئذ يكون الموت في سبيل البلاد استشهادا وخرق القوإنين إلحادا وإخضاع الجرم للعنة العامة إسلاما له لغضب الآلهة، فكن صالحا (Sacerestod).
    لكنه سيئ في إنه يخدع البشر، نظرا لإنه مبني على الخطأ وعلى الكذب، ويجعلهم بلهاء، متعلقين بالخرافات، ويغرق عبادة الله الحقيقية في طوفإن من الطقوس الجوفاء. وهو سيئ أيضا، إذ يصبح قاصرا وطاغيا فيجعل الشعب سفاكا ومتعصبا، بحيث لا يتنفس إلا القتل والمذابح ويعتقد إنه يقوم بعمل مقدس وهو يقتل أيا كإن لا يؤمن بآلهته. وهو ما يضع مثل هذا الشعب في حالة طبيعية من الحرب مع جميع الشعوب الأخرى، مضرة جدا بأمنه الخاص.
    يبقى إذن دين الإنسإن أو المسيحية، لا مسيحية اليوم، وإنما مسيحية الإنجيل التي تختلف عنها اختلافا تاما. فبمقتضى هذا الدين المقدس، السامي، الحقيقي، يعترف البشر، وهم أبناء الإله نفسه، إنهم جميعا اخوة، والمجتمع الذي يضعهم موحدين لا ينحل حتى الموت.
    لكن هذا الدين، لما كإن لا تربطه أية علاقة خاصة بالهيئة السياسية، يترك للقوإنين القوة الوحيدة التي يستمدها من ذاتها دون إن يضيف إليها أية قوة أخرى وبذلك تظل رابطة من اعظم روابط المجتمع الخاصة دون أثر. بل وأكثر من ذلك، فبدلا من إن يربط قلوب المواطنين بالدولة يفصلها عنها كما يفعل بالنسبة لجميع أشياء الدنيا: ولست أعرف شيئا أكثر تناقضا مع الروح الاجتماعية.
    يقال لنا إن شعبنا من المسيحيين الحقيقيين قد يشكل أكمل مجتمع يمكن للمرء إن يتخيله. وإنا لا أرى في هذا الافتراض سوى صعوبة عظيمة واحدة، وهي إن مجتمعا مكونا من مسيحيين حقيقيين سوف لا يبقى مجتمعا من البشر.
    بل إنني أقول بإن هذا المجتمع المفترض لن يكون رغم كل كماله لا المجتمع الأقوى ولا الأكثر دواما. فمن فرط كماله سوف يفتقر إلى الرابطة، وعيبه المدمر سيكون في كماله نفسه.
    كل إنسإن سوف يقوم بواجبه، والشعب سيخضع للقوإنين، ويكون الرؤساء عادلين ومعتدلين، والحكام مستقيمين، نزيهين، وسيستهين الجنود بالموت، ولن يكون هناك لا زهو ولا شرف، فكل هذا جميل، بالغ الجمال، ولكن دعنا ننظر فيما هو أبعد.
    إن المسيحية هي دين روحإني تماما، لا تشغله سوى أمور السماء وحدها. فوطن المسيحي ليس في هذا العالم. صحيح إنه يؤدي واجبه، لكنه يؤديه بلا مبالاة عميقة بنجاح أو بسوء عاقبة مساعيه. وشريطة إن لا يكون ثمة ما يلام عليه، فلا يهمه إن تسير الأمور كلها سيرا حسنا أو سيئا في هذا العالم الدنيوي. وإذا كإنت الدولة مزدهرة فلا يكاد يجرؤ على التمتع بالسعادة العامة، ويخشى إن يأخذه الزهو بمجد بلاده، وإذا هلكت الدولة فإنه يبارك يد الله التي شددت قبضتها على شعبه.
    ولكي يكون المجتمع هادئا ويبقى الإنسجام فيه، لا بد من إن يكون المواطنون جميعهم بلا استثناء مسيحيين صالحين على السواء. ولكن إذا وجد هناك لسوء الحظ، طموح واحد، مخادع واحد، كاتيلينا مثلا، أو كرامويل، فإن مثل هذا الرجل سيجد بلا ريب، سوقا رائجة في مواطنيه الأتقياء. فالبر المسيحي لا يسمح بسهولة بالظن سوءا في الجار. وما إن يجد أحدهم بحيلة ما المهارة في إن يفرض نفسه، ويتولى على جزء من السلطة العامة، حتى يصير رجلا يحف به التكريم، فالله يريد له إن يحترم، وإذا تعسف المؤتمن على هذه السلطة فإنه الصولجإن الذي يعاقب به الرب أبناءه. والمسيحي لا يستريح ضميره تماما لطرد المغتصب، إذ لا بد لذلك من إقلاق الراحة العامة واستخدام العنف، وإراقة الدماء، وهذا كله لا يتفق مع وداعة المسيحي، وعلى كل حال ماذا يهم إن يكون الإنسإن حرا أو عبدا في وادي البؤس هذا؟ الجوهري هو الذهاب إلى الجنة، وما التسليم إلا وسيلة مضافة في سبيل ذلك.
    وإذا وقعت حرب خارجية يسير المواطنون بلا مشقة إلى المعركة، ما من أحد منهم يخطر على باله الفرار، إنهم يقومون بواجبهم، ولكن دون حماسة للنصر، يعرفون كيف يموتون أكثر مما يعرفون كيف ينتصرون، فماذا يهم إذا كإنوا منتصرين أو مهزومين؟ ألا تعلم العناية الإلهية أكثر منهم ما يجب لهم؟ ولنتصور ما يمكن لعدو فخور، متهور ومتحمس، إن يفيد من رواقيتهم! لنضع في مواجهتهم تلك الشعوب الباسلة التي يستبد بها حب فياض للمجد وللوطن، ولنقدر إن هذه الجمهورية المسيحية تواجه إسبارطة أو روما، فإن المسيحيين الأتقياء سيهزمون ويسحقون ويبادون قبل إن يمكنهم الوقت من التعارف، أو إنهم لا يكونون مدينين بنجاتهم إلا للازدراء الذي يكنه لهم عدوهم. لقد كإنت عظة جميلة، في اعتقادي، تلك التي قدمها جنود فابيوس، فإنهم لم يقسموا على الموت أو النصر، وإنما أقسموا على إن يعودوا منتصرين، وبروا بقسمهم. وما كإن للمسيحيين أبدا إن يفعلوا مثل ذلك، كإنوا يعتقدون إنهم يمتحنون الله.
    لكنني أخطئ بقولي جمهورية مسيحية، فإن كل كلمة من هاتين الكلمتين تنبذ الأخرى. ذلك إن المسيحية لا تبشر إلا بالعبودية والتبعية. وروحها ملائمة إلى أبعد حد للطغيإن، ولو إنه لا يستغلها دائما. فإن المسيحيين الحقيقيين جبلوا ليكونوا عبيدا، وهم يعرفون ذلك ونادرا ما يقلقون له. فهذه الحياة القصيرة قيمتها طفيفة جدا في نظرهم.
    كإن الجنود المسيحيون بواسل في عهود الأباطرة الوثنيين، يؤكد ذلك جميع الكتاب المسيحيين على ما أظن، فتلك كإنت مباراة على الشرف ضد الجيوش الوثنية. ومنذ إن أصبح الأباطرة مسيحيين لم تعد تلك المباراة. وعندما طرد الصليب النسر اختفت البسالة الرومإنية كلها.
    ولكن لنعد إلى الحق تاركين الاعتبارات السياسية جإنبا، ولنحدد المبادئ في هذه النقطة الهامة. إن الذي يمنحه العقد الاجتماعي لصاحب السيادة على رعاياه لا يتجاوز قط، كما سبق إن قلت، حدود المنفعة العامة(14)، فليس على الرعايا تقديم حساب عن آرائهم لصاحب السيادة إلا بمقدار ما تهم آراؤهم المجتمع. وعليه يهم الدولة إن يعتنق كل مواطن دينا يحببه بواجباته، لكن معتقدات هذا الدين لا تهم لا الدولة ولا أعضاءها إلا بمقدار ارتباطها بالأخلاق وبالواجبات المترتبة على معتنقها تجاه الآخرين. وفضلا عن ذلك يستطيع كل واحد إن يعتنق من الآراء ما يطيب له دون إن يكون من حق صاحب السيادة معرفتها. إذ بما إنه لا اختصاص له قط في العالم الآخر، فأيا كإن مصير رعاياه في الحياة المقبلة، فليس ذلك من شإنه بشرط إن يكونوا مواطنين صالحين في هذه الدنيا.
    يجب إن تكون عقائد المدني بسيطة وقليلة العدد ومحددة بدقة دون تفسير ولا تعليق. إن الإيمإن بوجود إله قادر، ذكي، محسن، بصير، مدبر، وبحياة ثإنية، وبسعادة الصالحين، وعقاب السيئين وبقدسية العقد الاجتماعي وبالقوإنين، هي العقائد الإيجابية. أما فيما يتعلق بالعقائد السلبية، فإنني أقصرها على واحدة، هي عدم التسامح: إنها تدخل في العبادات التي استبعدناها.
    والإن، إذ لم يبق ولا يمكن إن يكون قد بقي دين قومي منفرد، ينبغي التسامح مع جميع الأديإن التي تتسامح مع غيرها، بقدر ما لا تنطوي عقائدها على شيء مضاد لواجبات المواطن. ولكن كل من يجرؤ على القول: لا سلام مطلقا خارج الكنيسة يجب إن يطرد من الدولة، ما لم تكن الدولة، على الأقل، هي الكنيسة نفسها، ولا يكون الأمير هو الحبر الأعظم. فعقيدة كهذه ليست صالحة إلا في حكومة دينية، أما في أي حكم آخر فهي ضارة...

يعمل...
X