المســافر
سائرجهاد قاسم
إعداد : فريد ظفور
من مجموعته القصصية الفائزة من إتحاد الكتاب العرب فرع حمص
قصة
المســافر
سائر جهاد قاسم
ينعطف في الشارع و بيده حقيبة ، فيها كل أوراقه و ما جنته يداه . تطالعه الحشائش اليابسة على أسطح المنازل ، لا شيء تغير ، كل شيء كما تركه ، يصعد الدرجات ، يمد يده إلى جيبه ، ثم إلى الحقيبة ، يتذكر أنه لم يأخذ المفتاح معه .
يهبط الدرك و ينعطف يمينا ليسأل جيرانه .
يقرع أول باب ، يسمع صوتا من الداخل ، يدخل ، امرأة تجلس على المصطبة ترف بيدها :
_ من .. أنت ؟ الحمد لله على السلامة .
كان صامتا كأنه اخرس ، مكتفيا ببعض العبارات التي لم تسمعها المرأة ، لكنها لم تقف . اقترب منها بناء على طلبها ، قبلته على لحيته البيضاء الكثيفة ، عرف أن سمعها قليل :
_ كيف حالك يا ... و رفع صوته بما ينسجم و الحالة التي هو فيها .
_ ماتت و لسانها ينطق باسمك .
أحس بأن يدا تقبض على عنقه ، و ثمة دمعات نفرت من عينيه ، حاول ألا تلاحظ المرأة هذه الدموع ، وأشاح بوجهه قليلا .
قالت :
_ حين تبكي الرجال تصاب النساء بالخيبة .. لا تبكي أمامي فأنا لا أستطيع المقاومة .
كفكف دمعاته . و مدت المرأة يدها إلى عبها ، و أخرجت كيسا مصنوعا من القماش معلقا في عنقها . راحت يداها المرتجفتان تبحثان في زوايا الكيس ، و أخرجت مفتاحا ذا لون اصفر .
_ يا حسرتي .. قالت لا تعطيه لأحد غير ابني إذا عاد !. و ها أنت قد عدت .. عليك بالصبر .
لم يحسن تقديم الشكر ، انحنى إلى حقيبته ، حملها ، ثم اخذ المفتاح و عاد .
يفتح الباب ، تطير العصافير داخل البهو ، تخرج من نافذة صغيرة دائرية تستعمل لبواري المدفأة .. ثمة ثوب نسائي معلق ، يقترب منه ، يدفعه شيء بداخله لشم رائحته . الكرسي الخشبي الوحيد الذي يمكنه أن يجلس عليه ، يهزه، يتطاير الغبار مشكلا سحابات راحت تنتشر في أرجاء الغرفة تتعلق على خيوط العنكبوت المتأرجحة في الزوايا.
يفتح النافذة ، يقع نظره على أصيص الورد ثمة زنبقة كانت قد تحولت إلى يباس . يتقدم باتجاه صنبور الماء ، يحاول فتحه ، كان جافا و قد بنت الحشرات في داخله مساكن لها .
يقترب من المرآة ، ينظر بداخلها منع الغبار إظهار الصورة يرفع منديلا من جيبه يمرره على وجه المرآة ثم يدعه يتأرجح نحو الأرض ككل الأوراق الصفراء . يحدق من داخل الخط الذي مسحه إلى داخل المرآة .. رجل في الخمسين من العمر .. ذو لحية بيضاء يتخللها بعض السواد و عينين دامعتين فيهما كآبة . يرفع قبعته بدا الجبين عاليا ، أما اللحية فقد غطت الحفر غير أن كرسي الخدين ظهرا لامعين تحت عينين معذبتين . راح يتلمسهما فيما أفكاره ، رحلت إلى خمسة و عشرين عاما خلت .
هنا كانت تجلس والدته سألته :
_ أكان يجب أن تذهب هكذا و تتركنا ؟
_ أنا لا أترككم يا أمي سوف ابعث لكما ما يكفيكم لتعيشوا بسعادة .
_ نحن سعداء بوجودك .. فكر في قلب أمك .. أبوك كاد يطير عقله حين سمع قرارك هذا .
_ أبي و أنت و من لي غيركما .. أما السفر فهذا لأجلنا جميعا .. هل تريدين لابنك أن يعيش العوز فيما غيره من الشباب يؤسس حياته .
_ برضاي عليك .. لا تنسانا .
أيقظته حركة من وراء المكتبة عرف أنه فأر . كتبه ما زالت داخل الزجاج حبيسة فوق المكتبة اتكأت آلة موسيقية في زنزانتها ( حقيبتها السوداء ) .
صرخ بأعلى صوته :
_ اللعنة !
و رفع الكرسي و ضرب زجاج المكتبة فانهارت القطع صارخة ، ضحكت من داخلها الكتب ، كل كتاب راح يصرخ كان يسمع الصرخات و كأنها صرخات داخل نفسه التي امتشقت ساعتئذ . مد يده من بين الكتب إلى مصنف كان يستعمل لجمع الصور ، فتحه ، هذه صورته وجهه مجدور طلب من المصور أن لا يضع عليها أية رتوش ، هذه أمه ، و هذا أبوه . راحت الصور توقظ سيل الذكريات ، غير أن حركة الفأر ما زالت وراء المكتبة الخشبية . جثا إلى الأرض محاولا طرده ، لكنه تركه ، و فتح أول درج ( لقد تكدست رسائله التي تركتها أمه ) حمل أعلاها ، و فض الغلاف ، كانت بقايا مذكراته ، و ثمة رسالة كان قد خطها بقلمه ( إلى حبيبتي ريم ) و انفتحت شفتاه عن ابتسامة سرعان ما انكمشت ، أين أصبحت ؟ من تزوجها ؟ لا بد أنها تزوجت . فض الرسالة و قد تراخت يده وسقطت الورقة تتأرجح في أرجاء الغرفة .
خلع سترته البيضاء الأنيقة و قذف بها بعيدا ، لم يعد يهمه أي شيء ، غير أن نداءا محموما كان يسمعه من عوالم مجهولة تخيلها و كأنها صدى لأوتار كمان ، امسك به ، و أنزله ، و فتح الحقيبة ، ثم وضع ذقنه على مسنده ، واحتوته الآلة .
امسك بالقوس ، و راح يجر أولى النغمات التي لم تعزف من قبل ، كانت الآلة فرحة بتحررها غير أنها انصاعت لإرادته لتنتج صرخات اقرب ما تكون إلى صرخات ثكلى ..
و مع حركة القوس راحت الأوتار تترجم حالته ، و ترحل إلى بيوت الجيران الذين عرفوا انه عاد ، و ما أن تجمعوا و قرروا أن يرتقوا الدرجات ويقدموا له التعزية بوفاة والديه ، و يقدمون له التهنئة ، حتى سقطت الآلة من يديه ، و ثمة ورقة مكتوبة مؤرخة بتاريخ قديم منذ خمس و عشرين عاما ، و بقايا صور ، دخل الجيران .. لم يستطيعوا تقديم التعزية .
ـــــــــــــــــــــ