إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

المتمرّد : محـمــد المــاغــوط (1934ــ 2006) شاعرالعصيان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المتمرّد : محـمــد المــاغــوط (1934ــ 2006) شاعرالعصيان



    محـمــد المــاغــوط : شاعر التمرّد والعصيان (1934ــ 2006)


    ربما لم يبارك لأمه أحد بمولده. ربما لم تعرض أيٌ منهن له ثديها ليرضع في حالات جوعه وتشبث الحليب في صدر أمه، كما كانت تفعل النساء تجاه أطفال بعضهن. ربما كانت النسوة يمنعن أطفالهن من اللعب معه لكثرة ما هو أشعث ومهلهل الثياب ويبدو عليه الحمق. لكن، من المؤكد أن أساتذته كانوا يضربونه بحد المسطرة على ظهر يديه لكثرة هيجانه وبلادته. ومن المؤكد أيضاً أن أحداً لم يخطر في باله أنه ذات يوم سيدّعي أنه لعب معه في الطفولة؛ وجلس معه على مقعد واحد في المدرسة، وأنه صديق عمره. إذ لم يكن ثمة ما يشير، ولو إشارة ضئيلة، إلى أن ذلك الطفل المنبوذ، والتلميذ البليد، وبعد أقل من خمسة وعشرين عاماً، سيكون أشبه بمبشر، حيثما يسير، يتبعه آلاف من المريدين، لكنه لا يرتدي الأبيض. أشبه بنبي صغير يفتتح عصراً جديداً من الشعر، وأفقاً جديداً للمسرح، وخطاً جديداً في المقالة والكتابة السياسية الساخرة وشديدة العمق، لكنه بلا لحية، وليس على رأسه عقال.
    سوف تجتمع نساء السلمية جميعهن، ويقلن بما يشبه الصوت الواحد: بيتنا ملاصق لبيته .. ياما لعب في هذه الغرفة.. ومن هذا الثدي ياما رضع... وسيقول الرجال جميعاً، وباعتداد فائق: إنه الصديق الوحيد، أمضينا طفولتنا وشبابنا معاً.
    هكذا يفعل المبدعون فوق العادة: يغيرون الأمزجة والأنظمة، ويوجهون الرغبات...
    ***
    في أزقة السلمية الموحلة، وحاراتها المظلمة، وبين بيوتها الطينية التي يدلف الماء من سقوفها الخشبية الواطيئة، حيث تبرز علامتان ستطبعان المدينة بطابعهما لزمن طويل، ولم تنفكا تتزايدان، علامتان نافرتان بوقاحة كالأنف في الوجه: الفقر والثقافة. وكلما أمعن الفقر نهشاً في أجساد أبنائها، أمعن هؤلاء نهشاً في الكتب، حتى وقفوا: هم، والعالم الذي ينهار وجهاً لوجه، كمصارعين على حلبة. فراحوا يفكرون بطرائق شتى لمنع أو تأجيل انهياره: كأن يكتبون مثلاً، أو يشتغلون بالسياسة. الأمر الذي تكشّف - فيما بعد - عن الأمرين معاً: كثر الكتاب والمهتمون بالشأن الثقافي الذين أثروا على نحو من الأنحاء، بالثقافة السورية، بل والعربية، وكثرت –بالمقابل- الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية العلنية والسرية التي انتشرت إلى الأرجاء السورية، وأثرت - هي الأخرى - بالحركة السياسية العامة للسوريين؛ ما منح المدينة وجوداً لغزياً على امتداد الرقعة التي يقطنها العرب؛ وجعل أبناءها إلى ما بعد القرن العشرين يقدمون أنفسهم على أنهم من السلمية فحسب؛ قبل أن يقدموا أنفسهم على أنهم ذوو ذوات، ودون أن يفكروا أو يتساءلوا: ماذا بقي من هذا الرحم المقدس؟!
    في هذا المكان الكثيف، الضاج بالدلالة، الصاخب، الهادئ، المنعزل الذي ينطوي على الكثير من التنويه بالذات، والمفعم بالطموح، تحقق - بشكل فريد ومفاجئ - المثل الشعبي "ياسما إنت اللي بعتي، ويا أرض ابتليتي"، إذ ولد محمد الماغوط.
    حقاً، (ابتليت) الرقعة العربية بهذا الشاعر الذي وضع القوانين الشعرية التي صاغها التراثيون؛ وحتى تلك التي صاغها أصدقاؤه الكبار في العصر الحديث، في كيس الخيش الذي أحضره من السلمية إلى دمشق فبيروت، ورماه خلف ظهره، وابتكر قوانينه الخاصة. إذ إنه يرى أن "الشعر يكاد ينقلب إلى مورِّط بعدما كان منقذاً. لقد أصبح يكرهنا وينأى عنا، كأننا قتلة، صيادون، وهو الطائر الأليف الذي أحببناه. في كل يوم يعطونه وصفاً وقيمة لا علاقة له بهما. إنهم يزخرفونه كأنه سرج وليس الجواد، مهمتي منذ سنين أن أعيد الإلفة بيني وبينه، وأكاد أوفق، لأن الشعر يظل يحمل روح الطفل، بينما الآخرون يعاملونه كأنه شيخ عجوز يجب أن يوارى التراب للاستعاضة عنه بشعر معلب يتفق والخيانات الروحية المتفشية في هذا العصر". لقد دخل الشعر كوحش بري لا يروَّض، فحطم كل الأوزان والقوافي التي تريد ترويضه، وكتب ما ليس للشعر العربي عهد به من قبل، إذ إنه كتب آلامه الشخصية، وتاريخه الشخصي المحمول على الحزن المتطرف، والرعب المتطرف، وعلى وَلَهٍ، متطرف أيضاً، بالحرية.
    ***
    ولد محمد الماغوط عام 1934 في السلمية، التي يقول إنه اكتسب إحساسه بالظلم البشري والفوارق الطبقية من نشأته في "هذه القرية الحائرة بين الصحراء والمدينة، والمنقسمة إلى أمراء وفلاحين، وأعتقد ـ والكلام للماغوط ـ أن ماركس كان ينبغي أن يولد في السلمية وليس في ألمانيا، ليخترع نظريته في الصراع الطبقي". ويعتبر أن السلمية نمّت فيه حس التمرد، "حين تفتح وعيي على مقابر خاصة للأمراء، ومدارس خاصة لأولادهم، فيما كنا نحن أبناء الفلاحين لا نذهب إلى المدرسة، بل إلى الكتّاب". ومن هذا الخلل الطبقي أتت عزة النفس "أذكر مرة أتى أميرٌ فارسٌ ليرمي أثناء دفن أحدهم حنطة للفقراء، فضربته بحجر. ولاتزال آثار سوطه على جلدي إلى هذه اللحظة".
    فهو يعتبر أنه "في مطلع الثلاثينات لم تكن السلمية مدينة، كانت قرية نائية وباسلة، تنظر إلى وحلها ودخانها وعيونها المحمرة كما تنظر الفرس إلى أجراسها، أما التاريخ المتسلسل في المعارك الكبرى فيظل في جيب المختار" ويرى أن الموت كان طبيعياً فيها، بل ضرورياً ومتوقعاً في كل لحظة. وعلى هذا الأساس كان أطفالها شرسين كالحشرات، ورجالها لا يتورعون عن ضرب أشجارهم بالسوط لأنها لم تثمر في الوقت المحدد. حتى دجاجها كان يصرخ باستمرار كأنه مصاب بذات الرئة. يقول: "كانت السلمية نقطة زيت في ماء الوطن. ولقد فكرت السلطات المتعاقبة جدياً في تقطيعها كالحية، هي وكهولها وشبابها ومقابرها ووضعها داخل كيس، ثم قذفها إلى الجحيم". ويروي أنه "حين حاول البدو في أحد سني المجاعة والقحط غزو القرية من جهة الشرق، تم تمزيق طلائع فرسانهم تمزيقاً قبل أن تصل إلى الضواحي؛ بعد أن شطرت رؤوس أمرائهم بأطراف المعاول. ولعل هذه التقاليد البدوية التي تتحكم بتلك المنطقة هي التي أججت الثأر، فقد وجدت في عام 1900 مئات الجثث في الكروم بسبب دجاجة" .
    ربما يكون هذا الظرف القاسي وشديد الوطأة هو الذي صاغ شخصية الماغوط على نحو من الأنحاء بمزاجه الحاد والمتقلب في آن، وكآبته المزمنة، ونزقه، وحزنه الذي لا يشبهه سوى الحزن الكربلائي الذي يفترق عنه في أنّ حزن الماغوط شخصي جداً. إن أكثر ما يميز شخصيته، هو انطوائها على هذا الحزن البدوي الذي استطاع كتابته بصدق نادر حتى لا تكاد تخلو قصائده من تلك المفردة الباطشة: الدموع. ويكاد قارئ هذا الشاعر الكبير يحار أيهما صاغ الآخر: القصيدة أم الشاعر؟ وربما في هذا الظرف أيضاً، وبسببه، نشأت تلك النزعة الثأرية التي تربطه بالعالم. إن قراءة أعماله تجعلنا نكتشف، دون عناء، أن محمد الماغوط طالب ثأر.
    لم يخرج صاحب (كاسك يا وطن) من بيته إلى الحارة إلا في السابعة من عمره، إنما ليس ليلعب مع الأطفال، بل ليرعى الخراف. لذلك فإن جل ما يتذكره من السلمية هو "الوحل والبرد والأحلام والغيوم والأبقار والرياح". ومع هذا فإنه يذكرها باعتزاز باعتبارها: "معقل القرامطة والمتنبي". وفي أنها "هُدمِتْ مئة مرة". ثم يقول: "إن هذه المدينة مقيمة في دمي". ويكتب:
    "سلمية: الدمعة التي ذرفها الرومان
    على أول أسير فك قيوده بأسنانه
    ومات حنيناً إليها
    سلمية: الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا
    وهي تلهو بأقراطها الفاطمية
    وشعرها الذهبي
    وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين
    دميتها في البحر
    وأصابعها في الصحراء"
    وكما كان لتلك المدينة أثر هائل في تكوين شخصيته الثأرية، المزاجية، النزقة، وذات التطلع السوداوي الكئيب الحزين، فقد كان - كما يبدو - لأمه دور حاسم في تربيته. إذ إن غياب والده المستمر عن البيت بسبب عمله أجيراً في أراضي الآخرين، منح أمه هذا الدور المركزي. فهي قوية، وصلبة، جميلة، وشاعرية و..صارمة أيضاً. أخذ منها "الحس الساخر، الصدق والسذاجة، ورؤية العالم كحلم قابل للتحقيق" كما يقول.
    ***
    إذا كانت السلمية كونت شخصيته الإنسانية، فإن دمشق، بل أسوأ ما فيها: سجن المزه، كونت شخصيته الأدبية. سلمية جعلت منه شخصاً لا يشبه سوى نفسه، ودمشق سجن المزه جعلت منه شاعراً وكاتباً لا يشبه – كذلك - سوى نفسه.
    إن فرحة والده بشروع ابنه العاق دراسة الزراعة في دمشق - مدرسة خرابو في الغوطة عام 1948 - لم تكتمل. فهذه مدرسة داخلية تقدم الطعام والشراب والنوم مجانا. وهذا يعني لوالده، إضافة إلى إزاحة عبء التكاليف التي تحتاجها الدراسة؛ التخلص من ابنه الذي "لا يطاق" لشدة تبرمه من الحياة والعالم. إلا أن الماغوط، وفيما هو في غرفته الداخلية، أخذ يفكر فيما إذا كانت هذه الدراسة تلبي طموحه الذي كان يتشكل رويداً رويداً في تغيير العالم. هذا الطموح الذي بدا له، في الحقيقة، أشبه بمهمة، أو أنه، حقاً، مهمة، وأن ثمة قوة خفية ندبته لتحقيقها، حينها اكتشف أن "ليس اختصاصه الحشرات الزراعية، بل الحشرات البشرية"، فهرب من تلك المدرسة، ومشى 15 كيلومتراً، ولجأ إلى المكان الأثير لديه: الرصيف، وإلى الهواية المتمكنة منه: التسكع. وهذا هو قدومه الأول إلى دمشق، وكان موفقاً بالنسبة إليه، حيث اكتشف أرصفة لقدميه، وشوارع طويلة لدخان سجائره، مما لم يكن في السلمية.
    أما قدومه الثاني والأخير فكان عام 1955 – 1956 حيث بدأ حياته الأدبية والكتابية، ولم يتوقف، منذ ذلك الوقت، عن إشعال الحرائق في الثقافة العربية، وبين المثقفين العرب. وبدا كل كتاب من كتبه وكأنه الكتاب الأول من نوعه. وبدا أن التاريخ الأدبي بعامة، والشعري بخاصة، يتحدد على وقع قلمه، وضجره، وغضبه. وسرعان ما وجد الفقراء والمشردون والمنعزلون والمطرودون والمهمشون وفاقدو الأمل وقاطنو أطراف المدن... ناطقاً رسمياً بآلامهم، اسمه: محمد الماغوط. وسرعان ما وجد الشعراء الجدد - طالبو الحرية، برمثيوس يُحضِر النار والحرية إليهم، مُخَلِّصاً إياهم، عبر تخليصه الشعر، من عبودية الشكل، ومن أوزان داحس والغبراء، وقوافي البسوس، وبلاغة قس بن ساعدة الإيادي...
    لكن دمشق، آنذاك، استقبلته استقبالاً لا يليق بالشعراء. على أطرافها، وفي مكان يشكل علامة كبيرة من علاماتها يدعى المزه، حيث ثمة غرف متلاصقة، معتمة، رطبة، ومليئة بالقضبان الحديدية، أُطلق عليه، سجن المزه، في هذا المكان تم استقباله لمدة تسعة أشهر من العام 1955، سوف تطبع حياته وكتابته بطابعها. سوف يعيش حياته وهو يشعر أنه ملاحق ومهدد، سوف يعيش في ريبة وتوجس من كل نأمة: من رنين الهاتف، من طرقة على الباب، ومن تحرك الستارة في غرفته...ومن أجل ماذا؟ من أجل مدفأة؟ قد يبدو الأمر مستغرباً، لكنه حقيقي.
    في السلمية في منتصف القرن العشرين كان ثمة حزبان يتنافسان: حزب البعث، والحزب السوري القومي الاجتماعي. وإذ خرج الشاعر الكبير من بيته، وهو يكاد يتجمد من شدة البرد، انتبه إلى مقر الحزب السوري القومي فوجد فيه مدفأة، وكان قريباً من حارته، فدخل المقر والحزب معاً. ولو أنه وجد مدفأة في مقر حزب البعث لدخله وصار بعثياً. فالأمر لا يتعلق بالحزب بل بالمدفأة. وعلى هذه التهمة: الانتماء إلى الحزب السوري القومي، سجن الماغوط، دون أن يصدق جهاز المخابرات أن علاقته بالحزب لا تتعدى علاقته بمدفأة الحزب. يقول: "وأنا في التاسعة عشرة من عمري، أتساءل: ما هي تهمتي بالضبط؟" ويضيف: "لم أقرأ صفحتين من مبادئ الحزب، ومنذ أن انتهت موجة البرد الأولى، لم أحضر له اجتماعاً، ولم أقم بأي نشاط لصالحه على الإطلاق..." وهو لم ينظر إلى أنطون سعادة على أنه مؤسس ذلك الحزب، وزعيم سياسي، بل على أنه "شاعر أخطأ الطريق". لكن، كما أن للسجن جرائم، فإن له أيضاً فضائل. ففي السجن كتب أولى قصائده "القتل"، على أساس أنها مجرد مذكرات سجين، إلا أن أدونيس الكبير قرأها وسماها شعراً. وهكذا تعرف محمد الماغوط على نفسه، وتعرف عليه العالم، على أنه شاعر، إنما من طراز خاص.
    في دمشق الخمسينيات لم يكن الماغوط سوى شاب متسكع، فقير لدرجة ليس من الممكن تصورها، مهلهل الثياب، أشعث الشعر، وحزين في الحد الأعظمي، وناقم لدرجة صفيقة. إن عمله رئيساً لتحرير مجلة "الشرطة" لم ينقذه. إذ سرعان ما وجد نفسه في فترة الوحدة ملاحقاً، فما كان منه إلا أن هرب إلى بيروت.
    حين عاد من بيروت وجد نفسه – أيضاً- ملاحقاً. فاستأجر غرفة في دمشق - عين الكرش "كانت غرفة ضيقة ومسدلة الستائر كأنها غرفة تحميض: « كنت دائماً في غرفة ضيقة. كان لدي بابور كاز وفرشة ومطبخ بحجم معلف الفرس..." كما يصفها. وتصفه في تلك الفترة الشاعرة الكبيرة، زوجته سنية صالح، وتصف أيضاً غرفته، وتقول: "كان يرتعد هلعاً إثر كل انقلاب مر على الوطن، وفي أحدها خرجت أبحث عنه، كان في ضائقة قد تجره إلى السجن أو ما هو أمر منه، وساعدني انتقاله إلى غرفة جديدة في إخفائه عن الأنظار؛ غرفة صغيرة ذات سقف واطيء حشرت حشراً في أحد المباني بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن. سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم. في هذا المناخ عاش محمد الماغوط أشهراً عدة بدت الأيام الأولى كاللعبة البطولية لنا نحن الاثنين. ولكن لما شحب لونه ومال إلى الاصفرار المرضي، وبدأ مزاجه يحتد بدت لي خطورة اللعبة، كنت أنقل له الطعام والصحف والزهور خفية. كان يقرأ مدفوعاً برغبة جنونية، وكنت أركض في البرد القارس والشمس المحرقة لأشبع له هذه الرغبة، فلا ألبث أن أرى أكثر الكتب أهمية وأغلاها ثمناً ممزقة أو مبعثرة فوق الأرض، مبقعة بالقهوة، حيث ألتقطها وأغسلها ثم أرصفها على حافة النافذة حتى تجف. كان يشعل نيرانه الخاصة في روائع أدبية بينما كانت الهتافات في الخارج تأخذ من بعيد شكلاً معادياً».
    في هذه الغرفة الواطئة التي تضطر الداخل إليها أن ينحني، شعر الماغوط أن حدبة بدأت تنبت على ظهره، هو الذي لا تنطفئ رغبته في الطيران. هنا، في قلب هذا الشعور، كتب مسرحية (العصفور الأحدب) (1963): وثيقة انهيار الإنسان العربي أمام جرافة الأنظمة التي بدأت تصل السلطة السياسية شيئاً فشيئاً، وتكرس نفسها كأنظمة مستبدة. لقد تنقل بين عدة غرف على تلك المواصفات. في إحداها كتب ديوان (غرفة بملايين الجدران) (1960). إذ أنه لم يكن ليكتب إلا في حالات دمار شخصي قصوى، ومزاج مشدود كالقوس، وأعصاب متوترة كأوتار العود في ذروة أدائه، حيث يكون على مفترق أمرين: الانتحار شنقاً، أو الكتابة، ولحسن حظنا نحن القراء، ولقوة موهبته، كان يختار الأمر الثاني. والحقيقة أنّ ما ساعده على ذلك هو ثقافته الواسعة. فقد كانت سنية صالح وذلك (الحداد في وطن من الفخار): زكريا تامر، يمدانه بالكتب: إن في فترتي سجنه عامي (1955 – 1961) أو في فترات ملاحقته. وعلى هذا الأساس، فنحن لن نصدق ادعاءاته المتكررة أنه ليس مثقفاً، وأنه لا يعرف ماذا يكتب: شعراً أم غير ذلك. الأمر كله أنه كان يخفي مرجعياته المعرفية، ويسمح لتلك العفوية الباهرة (عفوية الماغوط، حصراً) أن تتدفق، وللكلام البسيط أن يحمل كل تلك التفاصيل والمهملات والمتروكات؛ ليحقنها بذلك الإكسير الذي يحول الكلام إلى شعر. وذلك على خلاف أدونيس، كمثال، الذي تظهر ثقافته الهائلة في كل ما يكتب، شعراً ونثراً على السواء، ويعتبر؛ أي أدونيس أن الشعر بلا فكر، شعر بلا قول، وهذا يحطم الشعر. فيما يرى الماغوط العكس: الفكر يخرب الشعر. في هذا السياق نتذكر أن أدونيس وصف عروة بن الورد أنه شاعر كبير لكنه ليس قائلاً كبيراً. وهذه مشكلة لم تزل قيد البحث: هل على الشاعر أن يخفي مرجعياته؟ هل على الشعر أن يبدو بلا ثقافة؟ ثم أليس ضبط الجملة الشعرية على نحو يجعلها قادرة أن تحمل الكثير من الدلالات، يعتبر بحد ذاته ناتج ثقافة ومانحها، في الوقت ذاته، أيضاً؟ وأمامنا نماذج كبيرة على الاتجاهين، أدونيس والماغوط ذاتهما... وفي التراث أمامنا المعري وأبي نواس... الأمر كان هكذا، ولم يزل.
    ***
    مرحلة خمسينيات وستينيات القرن العشرين، المرحلة التي ظهر فيها من يسمون (شعراء الحداثة) أو (شعراء الستينيات)، مرحلة تاريخية متميزة. فعلى المستوى الأيديولوجي: كانت الماركسية من جهة، والقومية العربية من جهة أخرى، في حالة استثنائية من الصعود والمد لا مثيل لهما.
    فالماركسية كانت تغطي أكثر من نصف الكرة الأرضية، على مستوى أنظمة الحكم. وكان الاتحاد السوفييتي: حامي الشيوعية العالمية، في حالة استثنائية أيضاً من القوة. وحركات التحرر العالمية نشطة جداً (ومتكاثرة) ومدعومة (أو هكذا، على الأقل، كان يُظن) سوفييتياً. ما أثر بشكل كبير على الوضع العربي، في اتجاهه الماركسي، فتكاثرت وكثرت التنظيمات الشيوعية العربية واتسع تحركها وانتشارها بشكل لافت. وبما أن الماركسية نظرية كبيرة حقاً، ولديها ما تقوله بشكل كبير حقاً، فكان أغلب متبنيها من العرب على قناعة عالية أن الشيوعية العربية قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى السلطة والسيادة السياسية لتنفيذ مشروعاتها.
    لم تكن الفكرة القومية تختلف كثيراً من حيث الانتشار والمد والتعامل والتعاطي عن الماركسية، فقد كانت هي و"جمال عبد الناصر" يمارسان سطوة سحرية على الأرض العربية، فالأرض (بتتكلم عربي) ولا حياة للفرد إلا ضمن الجماعة (الأمة) العربية التي جزأها (وخلَّفَها) الاستعمار وهاهي الآن، كما كان يطرح أصحابها، تنهض من جديد وسيدخل العرب، بعد قليل، في إطار وحدة استثنائية حيث الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع... كل واحد لدى هذه الأمة التي تبعث الآن.
    إلى جانب هذا، كان (العرق) السوري يمثل اتجاهاً فكرياً لا مثيل له على مستوى الفكر السوري القومي الاجتماعي، والذي ذهب معظم متبنيه إلى الانتظام في إطار الحزب السوري القومي الاجتماعي، حيث "أنطون سعادة" يمثل قيمة كلية. فطروحاته - كما يرونها - حل أوحد للسوريين، وكما يعلم الجميع فإن معظم شعراء الحداثة كانوا داخلين في هذه البنية: فكرياً وتنظيمياً، وذلك على المستوى الإقليمي لما يسمى: سوريا الكبرى.
    في الفترة ذاتها كان لدى العرب، على مستويات أخرى، أفراد لا يقلون طموحاً عن كل ما تقدم. لقد قامت حركة فنية وإبداعية في التاريخ العربي الحديث والمعاصر كبيرة حقاً، فمثلاً: كانت "أم كلثوم" وثن الجماهير العربية، وعلى أوتار (فريد الأطرش) تهتز العقول والأخيلة، وكان "عبد الحليم حافظ" ترمومتر الشارع العربي، حتى ليخيل أن العرب على المستوى الشعبي يقيسون تاريخهم ومستقبلهم على (آهاته) كان يشكل، حقاً، شارة كبيرة لحلم عربي (لم يتحقق أي شيء منه طبعاً) كأن كل شيء كان، بدءاً من "عبد الحليم حافظ"، والحلم العربي، يتحقق. كذلك فإن (فيروز) والرحابنة كانوا يصوغون ذوقاً عربياً جديداً، مشكلين قوة فنية وإبداعية، كانت، ولم تزل، استثناءً عربياً ربما منذ العصر العباسي.
    كل تلك المظاهر (التي أشرت لها إشارات سريعة تدل على حجم تلك المرحلة التي ظهر فيها شعراء الحداثة وشعرهم) جعلت قناعة معظم النخب العربية أن أمتهم العربية أو السورية أو الماركسية ...؟! ستنبعث من جديد، وبعد فترة ليست طويلة. (لذلك نجد الكثير من مفردات البعث: تموز مثلاً، منتشرة بكثرة في شعر الحداثة، حتى إن الثقافة العربية أطلقت على تلك المرحلة الشعرية اسم: المرحلة التموزية. وتموز لم يكن يمثل خلاصاً أو بعثاً فردياً، بل يشير في إطار التجربة إلى خلاص أو بعث أمة).
    فالحداثة التي تبنتها مجلة (شعر) كان طموحها ليس فنياً فحسب، بل أن تشمل، كما يعبر يوسف الخال: "مختلف حقول النشاط الإنساني".
    فالشعر بتعبير الحال "نهضة هدفها، رفع النفس العربية إلى مستوى الحداثة"، وكذلك "وضع هذه الثقافة (العربية) بأصولها الدينية والإلهية -كما يريد "أدونيس"- موضع تساؤل أو شك أو رفض"، فالمسألة الحداثية تخص، لدى شعراء الحداثة، أمةً. و"قضية العالم العربي الراهنة، هي قضية النهوض بعد كبوة، دامت أكثر من ألف سنة".
    إذاً، إن تلك المرحلة تمثل تباشير نهضة، كان العرب في منأى عنها لحوالي عشرة قرون، وكانت المرحلة العثمانية بمثابة الهاوية الأسطورية التي ترسب العرب في قاعها لأربعمئة سنة، كانت أشد السنوات التي مر بها العرب ظلامية وبؤساً وتخلفاً وانحطاطاً.
    في هذه المرحلة المتميزة ظهر شعراء الحداثة والشعر الحديث.
    في هذه المرحلة، أيضاً، تمت الوحدة بين سورية ومصر 1958 – 1961، وتميزت بوطأة أمنية شديدة، طالت الشعب السوري ومن ضمنه المثقفين المعارضين أو الذين يحملون آراء ومواقف معارضة لآراء ومواقف حكومة الوحدة. في هذا السياق، تمت مطاردة محمد الماغوط، فهرب إلى لبنان.
    كانت بيروت الخيمة الأخيرة التي تظلل الهاربين من بلدانهم، وفيها يجتمع الخارجون عن القانون السلطوي والاجتماعي والإبداعي، والذين يريدون أن يبتكروا طرائق جديدة للحياة والتفكير والكتابة، كانت بيروت مساحة للحلم والحرية. وفيها أسس الشاعر السوري يوسف الخال مجلة "شعر": المجلة الأكثر ثورية في تاريخ الشعر العربي، والتي ستغير ملامحه وبنيته، وتنقله من طور إلى طور آخر لم يعرفه قراء العربية قبلاً. وقد أدارها مع أدونيس. بدأت المجلة باستقطاب الشعراء العرب الذين يحلقون في هذا الفضاء والذين يهجسون بالحرية والتجديد مثل، بدر شاكر السياب. أما بشأن محمد الماغوط، فثمة قصة مثيرة وشيّقة تكتبها سنية صالح: "كان محمد الماغوط غريباً ووحيداً في بيروت. وعندما قدمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة )شعر( المكتظة بالوافدين، وقرأ له بعض نتاجه الجديد بصوت رخيم دون أن يعلن عن اسمه، وترك المستمعين يتخبطون (بودلير؟.. رامبو؟..)، لكن أدونيس أشار إلى شاب مجهول، غير أنيق، أشعث الشعر، وقال: "هو الشاعر...". لاشك أن تلك المفاجأة قد أدهشتهم وانقلب فضولهم إلى تمتمات خفيضة. أما هو، وكنت أرقبه بصمت، فقد ارتبك واشتد لمعان عينيه"، وتتابع سنية: " بلغة هذه التفاصيل، وفي هذا الضوء الشخصي، نقرأ غربة محمد الماغوط. ومع الأيام لم يخرج من عزلته بل غير موقعها من عزلة الغريب إلى عزلة الرا

يعمل...
X