السيرة الذّاتية
خلافٌ بين العربي و الغربي
أم توثيقُ المجتمع و حاجة إليها ؟
خلافٌ بين العربي و الغربي
أم توثيقُ المجتمع و حاجة إليها ؟
الوحدة - محمد صخر حيدر
طرحت جريدة الوحدة مؤخراً ، موضوعاً تناول السيرة الذاتية و تأثيرها بين الأمس و اليوم . و مما تَطَرَّقَ إليه الموضوع – كما ورد في عنوانه الرئيسي – أوجُهِ الاختلاف و التقارب بين الكتابتين العربية والغربية . و فيما يلي ، اَوَدُ أن أتوقّفَ عند بضع محطات . لا من باب النقد و الانتقاد . هي وُجهات نظر خَلصتُ إليها من خلال ما اطلعتُ عليه ، و ما أثَرَ فيَ ، و كان قد وَرَدَ في الموضوع . بدايةًً " السِيرُ" أدبٌ قديم عند العرب . و لا يمكن أن نجزمَ ، من سبقَ الآخر إليه ، أهمُ العربُ أم الغربيون ، و لا سيّما أن الموضوع لم يُشِرْ إلى ذلك زمنياً !
ما نعلمه ، إن السّيرَ العربيةَ ، يُمكنُ أنها ظهرت قبل الإسلام و بعده . و لئن عرفنا من أشهرها ، الزير سالم ، و سيف بن ذي يزن ، و بني هلال ، ثم قال أحدهم – افتراضياً – إنها سيَرٌ وهمية ، فأرُدُّ عليه : لعل شخصيّاتِها وهميّةٌ . و الجزم هنا ، لا يُمكن أن نتّكِئَ عليه . لكن لماذا لا نقول إنها سيرة مجتمعٍ من زمنٍ ما ؟
لماذا لا نقولُ ، إنها مثل الدراما التي لعبَ عليها المخرجُ و مِن قبِلُِه السيناريست ثم وصلت إلينا بالأسلوب الذي عرفناه ؟ و نأخذُ بالحسبان و بِحسابات الفن ، أن الحكايا و القصص الحقيقية في السينما و التلفيزيون ، لن يتقَبَّلها المتفرجِ ، إن خَلَتْ من الإضافات و الأخيلةِ .
مما تقدّمَ ، فإنني أؤيّد الصديقَ الشاعرَ " غسان حنا " عن رأيه في السِّير ، و أخصص قوله : " السّير الذاتية تجمعُ بين التاريخُ والأدب " .
و الشعر العربي نفسه ، وَرَدتْ فيه سِيَرٌ ذاتية لا يتّسِعُ المجال هنا للحديث عنها .
الفكرة الثانية ، إن الأدباءَ الذين قدموا معارفَهم في الموضوع ، أكثرُهم أجمعَ على أن بدايات أدب السيرة الذاتية في أدبنا الحديث ، جاءت على يدِ الأديب الدكتور طه حسين ، في كتابه " الأيام " . و حسب علمي – و آمل أنني لست مُخطِئاَ – فإن " الأيام " تحوّلَ إلى فيلم سينمائي أيضاً .
الكلامُ صحيحٌ . لكن كثيرين لم يقرؤوا أن في بلدنا " سوريا " كُتّاباً تناولوا سِيَرَهم الذاتية بأروع الأساليب ، و بشفافيةٍ عالية .
هنا أذكر ثلاثة أمثلةٍ . الأول هو الأديب الراحل الدكتور عبد السلام العُجيلي ، الذي قدّمَ إلينا سيرتََه الذاتيةَ في عديدٍ من أعماله الأدبية . و في الوقت نفسه قدم لنا في تلك السّير صوراً عن مجتمعِه الذي نشأ فيه ، و صوراً عن حياتِه في أوروبا ، و انطباعاتِه و تجاربِه . و لقد امتاز د . العجيلي في سيَرِه الذاتية التي افترضْتُها - فأنا لا أُلزم أحداً فيما أكتبه – بأنَّه كتب من أجل الجميع . مِحَقِّقاً مقولةَ د . محي الدين فاضل : السّيَرُ ترجمةُ الحياةِ الشخصيةِ ، هدفها إبراز القيم الإنساتية – و طبعاً الرفيعة .
المثال الثاني هو المحامي الراحل نجاة قصاب حسن . و هو صراحةً الأديبُ و الفنَّانُ و المحاميُّ معاً .
المحامي نجاة قصاب حسن ، قدَّم لنا سيرتَه الذاتية في مذكراته في كتبٍ ثلاثةٍ ، قرأت اثنين منها هما " حديث دمشقي ، و جيل الشجاعة " . و قد قال في مقدِّمة كتابه الأوّل ، إنه لا يكتبُ مذكراتِه بالمعنى السائد . لكنها أفكارٌ تداعت إليه ، مرَّ بها في حياته ، من مسقط رأسه إلى ثمانينيات القرن الماضي .
من يقراْ كتابَيْ قصاب حسن يَرَ نفسَه جالساً قُبالة راوٍ يسرد عليه حكايةً تناولت عاداتِ مجتمعٍ نشأ فيه الكاتبُ و تجاربَه و معاناتِه ، على المستويين الشخصي و العمومي . و فيه تجسّدت سيرةُ قصاب حسن في كل مرحلة من مراحل عمره .
و أنا شخصيّاً أرى في " حديث دمشقي ، و جيل الشجاعة " أكثرَ من مجرد سيرةٍ ذاتيةٍ . فقد جاءا دراسةً تحليليةً ميدانيةً تناولت عصراً امتد عقوداً محوره الكاتبُ ، لا بصفته البطلَ الذي يلتفُّ الآخرون حولَه ، بل بصفته شاهدَ عيانٍ حملَ قِيَماً إنسانية رفيعةً ، طرحها على خلفية حاجته و حاجة المجتمع إلى الاطلاع عليها .
المثال الثالث هو الدكتور صباح قباني ، أول مدير للتلفزيون السوري و مؤسِّسُه في 23 تموز من العام 1960 ، في اليوم الأول الذي انطلق منه البث من جبل قاسيون في دمشق ، في وقتٍ واحدٍ مع التلفزيون العربي من مصر. و الدكتور قبّاني سفير الجمهورية العربية السورية في واشنطن ، في مرحلة هامة من تاريخ سوريا عقب حرب تشرين التحريرية ، منذ العام 1974 ، يوم خالَ بعضهم أن السفراء صارت أدوارُهم شكليةً ، تقتصر على المظاهر و الاستقبالات و غيرها .
قدّمَ لنا الدكتور صباح قبّاني كتابه " من أوراق العمر " . و قد نشرته جريدة تشرين قبل طِباعته ، في حلقاتٍ أسبوعية. و أعجبُُ من أن الذين تكلموا عن السيرة الذاتية في جريدة الوحدة ، لم يذكروه على الرغم من أن جريدة تشرين نشرت آخرَ حلقةٍ من الكتاب في العام الماضي ، و يُفترضُ أن كثيرين قرؤوه ، و لاسيما المهتمين !
الظَّنُّ إثمٌ ، و الشك يُفسّرُ من أجل مصلحة المتهم ، و هي قاعدةٌ قانونية . و ما وردَ في " من أوراق العمر " مطابقٌ الواقعَ ، دليلُه ما تداوله الآخرون – الذين مع و الذين ضد – عن أخلاقية د . قباني ، أخُصُّ منهم العاملين في الهيئة العامة للإذاعة و التلفزيون ، و أنا الذي قضيت فيها سنوات . و أقترب من الخصوصية أكثر – و عذراً من القارئ – بما كان يذكره خالي الدكتور يوسف شقرا أمين عام وزارة الثقافة والإرشاد القومي آنذاك عن د . قباني ، و هو الذي ثناه عن سفره إلى الولايات المتحدة ، قُنصُلَ سوريا في نيويورك ، و كـَلَّفَه بمنصبِ مدير التلفزيون السوري .
تحت عنوان الغلاف " من أوراق العمر " كتب د . قباني : مسيرة حياةٍ في الإعلام و الفن و الدبلوماسية .
لن أستطيعً أن أعرضَ الكتاب ، لأنني أشعر بأن هناك إطالةً . لكن أوراق العمر كانت قد انطوت على تجربةٍ حارةٍ و عميقةٍ في الحياة مُوَثَّقةٍ ، بلغةٍ سليمةٍ راقيةٍ ، لا خدشَ فيها نحو المشاعر .
في كتابه " من أوراق العمر " تحدّثَ د . قباني عن معمل أبيه ، و بيته ، و مدرسته ، و حصولِه على درجة الكتوراه في الحقوق من فرنسا ، و تجربته في الرسم ، إضافةً إلى حياته في الإعلام و الدبلوماسيةِ و الفن بشكلٍ عام . و إذا كان " المكتوب يظهر من عنوانه " فإن الصدق َ ظاهرٌ جلياً في أوراق عمرِ د . قباني . وعند قراءتِه قراءةً سليمةً ، سوف يجد فيه القارئ سيرةً ذاتيةَ كُتِبتْ عن غير قصد !
خلاصةُ الموضوع ، إن المجتمع العربي في حقبةٍ من الزمن ، يختلفُ عن المجتمع الغربي في الحقبة نفسِها . و الهمومُ التي عاشها المجتمع العربي لم يشهدْها الغرب .
وإذا رأينا في السير الذاتية فنّاً أدبياً يُقال – و أؤكد على يُقال – إنه واردٌ من الغرب ِ، فمن العدلِ أن نراه من زاويةٍ أخرى ، هي الحاجةُ . . حاجة الكاتب إلى الكتابة عنها .
قالت الأديبةُ السوريةُ غادة السمان في أوراقِ عُمرِ د . قباني :
" مُذكّراتُ صباح قباني ، تستعصي على التلخيص ، لأن صاحِبَها قام بذلك و هو يَخُطُّها كَمَنْ يُـقَطِّرُ حقلاًَ من الياسمين الشامي في زجاجة عِطْرٍ " .
تعليق