زمن الأواني النحاسية
قصة/ محمد تركى
العم سيد كان يأتى إلى قريتنا أسبوعا واحدا كل عام يتخذ مكانا في الشارع الواسع عند مدخل القرية ، يقيم فيه خيمته الصغيرة ، ثم ينطلق إلى الشوارع القرية ينادى ويعلن عن مجيئه ، يضع يديه على فمه كأنها بوقا وينادى بطريقته المميزة : مبيض النحاس
كل أهل القرية كانوا يعرفون هذا النداء وينتظرونه دائما ، أوان نحاسية قد اسودت واتسخت من آثار الطهي والنار والدخان طوال العام ، نساء القرية قد حاولن واجتهدن كثيرا أن ينظفنها ولكن دون جدوى . العم سيد فقط هو الذي يستطيع أن ينظفها جيدا ويعيد إليها لمعانها وبريقها النحاسي الأصفر الجميل .
وعندما تأتيه الأواني يصفها في المنطقة الواسعة بجانب الخيمة ثم يأخذ منها واحدا وراء الآخر يضع في الإناء بعضا من الرمل والقش ثم يقفز برشاقة داخله يدوس بقدميه الاثنتين على القش والرمل ويلف بطريقة بهلوانية رائعة .
كنا نحن الأطفال نضحك ونهلل ونظنه يتراقص لكنه في الحقيقة كان يفعل هذا لكي يحك الإناء من الداخل بالرمل والقش جيدا ، ولايجد أفضل من أن يقف بكل ثقله داخل الإناء ، وبالفعل كان الإناء يلمع ويبرق ويبدو كأنه إناء جديد .
نهلل ونفرح أكثر ونتحلق حوله ، ونتأمل حين يأخذ إناء آخر شديد السواد لا يصدق أحد أنه يمكن أن يعود نظيفا ، ولكن بعون الله وهمة العم سيد يلمع الإناء ويتلألأ ويظهر معدنه الأصيل .
فيصفه بجانب الآخر رائعا إلى أن يأتى صاحبه ويأخذه ويعطى العم سيد أجره وكنا نلمح علامات الدهشة والفرح على وجه صاحب الإناء .
وبعد أسبوع أو يزيد قليلا – يفرغ العم سيد من كل أواني القرية فيحل خيمته ويرحل عنا إلى القرية المجاورة .
وكنا لانحزن لأنه سيأتينا فى العام التالى ،ولكنه لم يأتينا منذ زمن بعيد ، فقد مضى زمن الأواني النحاسية وحلت مكانها أوان من مواد أخرى حديثة لا تحتاج إلى صعوبة فى تنظيفها ولا تحتاج الى براعة العم سيد ، ولكن ما زالت صورته عالقة فى ذهنى وهو يتحدى السواد والغبار بكل جلد وإصرار وخفة .
(تمت)
تعليق