إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

عقابٌ أمْ ثوابٌ ؟ قصة / وفاء عبد الرزاق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عقابٌ أمْ ثوابٌ ؟ قصة / وفاء عبد الرزاق

    عقابٌ أمْ ثوابٌ ؟
    قصة / وفاء عبد الرزاق

    علاقتي مع التلفاز كعلاقة الغربال بالطحين أنخل برامجه التافهة وأنتظر ما تبقـَّى على سطح المنخل. في أحيان كثيرة يطفو ظلام بكذبه أو نفاقه وتزييفه للحقائق، ليس كونه النقي الصافي بل لحجمه وثقله بحيث صعب على ثقوب الغربال استيعابه وإفساح المجال له، لأنه لو رجعنا إلى التقييم من وجهة نظر الغربال لكنسهم أولاً وترك الطحين النقي يصفـِّي نفسه بنفسه، يشرب قطرة مطر مثله، يوقد فرنه بنفسه ويصبح رغيفاً وبنفسه أيضا يطعم الجوع.
    هل هو عبقريٌّ، الإنسان العلمي حين وظـَّف ابتكاراته ليعطي قيمة إنسانية للاستخدامات اليومية ويصرُّ على استقراء المستقيم منها؟
    أظنـُّه ليس متسلطاً بل بفطرة استقامته وتمتـُّعه بفضائل روحية وهبنا وقته وعقله، كما أظنه يطمح من خلال قدراته واحتياجاتنا لها لنبش بئر إشعاع ما في دواخلنا.
    بعد تجربتي شأني شأن أي إنسان لا يتمتع بحريـَّة عقله وبصره ووسيلة التصرف بحياته كإنسان اكتشفتُ أنه رجل عانس يستمتع بلذة التعويض عن فقدان أو التملّص بحكمة من الوقت.
    وأظنُّ أن التلفاز هو الآخر ملَّ وحقد على مـَن جعله يخضع لتجربة عاقر.
    أنا إنسانة عادية لها منزلها المتواضع وتلفاز بشاشة عريضة تفتحه كل صباح توصد الصوت وتترك المذيعين يتحدثون كخرس.
    أستمتع برؤيتهم يحركون شفاههم ببلاهة ويحركون العيون والأيدي وقسمات الوجه وأحياناً رفع الحواجب تعبيراً عن حركة أو كلمة، أغلق الصوت لأتفرَّج على شكلهم المضحك تماماً كاستمتاعهم بوجعي وثورتي غير المسموعة وحرقة قلبي الموجعة بمشاهد يعرضونها عليّ كل دقيقة، يدخلون صقيعهم داخل صندوقي الصدري ويحفرون، يحفرون كعميان وكرؤساء وسماسرة.
    قواّدون يتصاعد قيح وجوههم وأفواههم إلى الشاشة يخترقها ويفيض في داري يملأ الأماكن ، يغطّي الأسرَّة والستائر يفتح البرّاد يتشكلّ فاكهة وخضاراً، يدخل في أواني الطبخ له ملاعقه الخاصة وأوانيه الخاصة، خضر مثل عروقنا المخضرّة بوجعها، زرق مثل قلوبنا التي تحول أحمرها إلى أزرق وجفّ، الأقداح بنيـِّة اللون لا نرى ما نشربه، ثقيلة الوزن لا تـُشعر بخفة حركة.
    رفعتُ عيني هذه اللحظة من ورقة كتبتُ فيها بعض ملاحظات عن امرأة رغبتُ التحدث عنها، حين جاءت عيني بعين المذيع رأيته صامتاً لا ينطق، استغربتُ كيف يرضون بمثله، انتظرتُ لحظة لعله سيذيع خبراً ، لكنه أشار لي بإصبعه راجياً مني الاقتراب من الشاشة، قلت أجرّب لعل لديه سراً لي أنا بالذات ولا يريد أن يسمعه العالم كله، اقتربتُ، وشوش لي:
    - أخرجيني من هنا أنا محبوس منذ سنين.
    استجبت لطلبه، مددت له يدي، تمسّك مثل غريق يلوذ بقشّـة وأخرجته من التلفاز، أجلسته قربي على أريكة تستوعب شخصين ودخلت المطبخ أعدّ له وجبة إفطار.
    منذ زمن وعلى ما أذكر منذ دخل التلفزيون دارنا وأنا ابنة السادسة راودتني أسئلة كثيرة حوله وحول المذيعين والأخبار والبرامج، تكبر أسئلتي كلما كبر عمري وهي الآن تشيخ وتنحني، مع هذا سأفاجؤه بأسئلتي ولو محنيـَّة الظهر ولونها قاتم. من حقي ذلك فهم من أحنى ظهري لا الزمن وهم من صبغني بالسواد لا العمر.
    قدمت له سندويشاً بلحم بارد وخبز مع خس وطماطم إضافة إلى كوب حليب ساخن وعصير برتقال. شكرني بابتسامة، استخرج اللحم وشرع يأكل الخبز بالخضار مع الحليب، قلت ربما هذا سؤالي الأول لأبدأ:
    1ألا تحب اللحم؟
    أجاب بكلمة واحدة: كرهته.
    غريب لماذا لا يكمل!ربما لأنَّه جائع سأتركه يأخذ وقته في الاستمتاع وأواصل استجوابه، انتبهت أنني لم أقدم له الشاي، سألته عن رغبته أجابني: - قهوة مُرّة.
    ابتسمت كون الجواب أصبح كلمتين الآن لذا توقعت أن ردَّه يصبح شريطاً كاملاً لو بقيت أمدَّه بما لذ وطاب، وفعلا فعلت ذلك إلى حد انتفاخ بطنه، قلتُ جاءكِ الحظ الوقتُ بيدكِ الآن، سحبت كرسيـّاً وجلست قبالته أقشِّر له الفاكهة وأمطره:
    - أظنكَ متمرداً على الإدارة أو لم تعجبك الأنظمة في القناة التلفزية لذلك طلبت الخروج؟
    - نعم سيدتي كرهت العمل مع الحمقى، هم خرفان تسير خلف سيادة قطب واحد، يعبدون الواحد لأنَّهم ضعفاء، يكذب عليهم يصدقونه ويكذبون على المتفرج، قطيع بشريّ يكبر بعدد النصـّابين والمتنفذين والمستفيدين.
    استغربتُ كلمة يعبدون، راقبتُ تشابك يديه وارتباكه، ارتبكتُ أنا الأخرى، حدقتُ بعينيه ووجدت أنه لابد من معرفة ديانته:
    - هل تؤمن حضرتك بالتوحيد؟ عفوا هل أنت مسيحي أم مسلم؟
    - أنا أؤمن بالتوحيد لذلك سيدتي سجنوني بسبب اعتراضي على إيمانهم بالقطب الجديد وضربوني وقت قلت لهم: الله هو الواحد وانتم ملحدون: أحالوني بعدها على محاكمة في نفس المبنى الخاص بالقناة التلفزية.
    أدخلوني باستجواب يوميّ والنتيجة السجن.
    - حكايتك غريبة.. احكِ لي تفاصيلها أرجوك ربما أجد فيها أجوبتي التي أبحث عنها من سنين .
    تناول مناديل ورقية ومسح يديه من بقايا الفاكهة، اعتدل في جلسته، قال سأدخل معك مباشرة من جلسة المحكمة وقرارها السريع الذي حظيتُ بفضيلته:
    - ما أسمك ؟
    - اسمي مذيع، أبي أخبار، وأمّي عالميـَّة.
    - لماذا ترفض قراءة الخبر الجديد؟
    - لأنه خبر كاذب سيدي لم يظهر بالشكل الذي أعده المدير بل أضاف عليه ما يريد أو ما أُمليَ عليه وأنا لا أنقل إلى المتلقي غير الخبر الصحيح.
    - طيب أخبرني ما هو الخبر الصحيح وكيف وصل إلى قناتكم؟
    - سيدي نحن كأي إعلام مرئي له شبكة مراسلين حول العالم وصلنا خبر عن الكوارث الطبيعة في السنوات الأخيرة وازدياد حدتها بشكل ملحوظ بحيث بلغ عدد الضحايا مليونين ونصف أكثرهم من الفقراء وأكثر هذه الكوارث كارثة"التسونامي"التي أصابت دول جنوب شرق آسيا عام 2004 ، والخبر أظهر عدم اهتمام الدول واستعدادها لمواجهة عنف الطبيعة وعقابها.
    - هل الخبر كاذب؟
    - لا سيدي الخبر صحيح لكن المدير عاقبني كوني قدمت احتجاجاً حول كلمة عقاب الطبيعة، الطبيعة من مخلوقات الله والله هو المعاقب لذنوب البشرية وما الطبيعة إلا أداة تنفيذ لمشيئته، الأجدر أن يكون الخبر كالتالي:
    قدمت الطبيعة فدية بشرية في" تسونامي"إلى الله سبحانه وتعالى إرضاءً لغفرانه ذنوب النفوس والضمائر في العالم، والله يقبل الفدية بل يجازي فاديها خيراً وسيدنا إبراهيم خير فادٍ.
    - ألا تلاحظ يا أستاذ مذيع أن "تسونامي"بلد فقيرة؟
    - لماذا اختارت الطبيعة سكان هذه المنطقة فديةً؟ أليسوا فقراء؟ لماذا يكون الفقراء ضحية غنى وترف الأغنياء وديمومتهم؟
    - كلامك هذا يعني أن الله سيزيد من غنى أصحاب الأموال والعقارات ويرزقهم بفقراء أكثر بسبب كوارث أو زلازل جديدة ليقدمونها ضحية أخرى كلما ثقلت موازينهم بالزيف والرياء والكذب وامتصاص الدماء لتمتلئ أرصدتهم في البنوك وتدور عجلة الحياة بهذا الشكل، أجبني إذا كان تحليلي خطأ؟
    - بل هم في الجنة والشهداء أحباب الله، ينعمون الآن بقربه.
    - هل النعمة كونهم شهداء أم فقراء؟
    - الاثنان سيدي (هو الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)
    سيدتي ممكن أطلب كأس ماء؟ فأنا كلما تذكرت نقاش القاضي يجف حلقي.
    أحضرتُ له ماءً بارداً متشوقة لسماع النهاية، قدمته له وتوسلت الاستمرار:
    - سألني القاضي: هل الله لا يحب الأغنياء؟ وإذا كان يحب الفقراء ويدخلهم الجنة بكارثة لماذا لا يجعل العالم فقيراً كله غير قادر على قوت نفسه ويعمل بركاناً قوياً يأخذ الجميع إليه؟
    - هو قادر سيدي القاضي لكنه ليمتحن الناس خيرهم وشّرهم القوي والضعيف مريض النفس وصحيحها وكلما ارتاح الضمير كلما ارتاحت الحقيقة وسهل على نوَّاب الله فهمها وإيصالها لكفة الحسنات.
    صارت ضجة في القاعة، وقف المدير محتجاً بنعتي له بالظالم وغير العارف بحكمة الله، ضرب القاضي بمطرقته لإسكات الجميع.
    لكن المدير أصر وظل يثبت للجميع:
    - صدقوني من مصلحة المتفرج الكذب عليه لأنَّ الحقائق مرعبة والأرقام التي بحوزتنا عن الضحايا أية ضحايا سواءً في الحروب أو الكوارث غير التي نذيع، صدقني أيها القاضي نحن نكذب من أجلهم ولو قلنا ما بحوزتنا لغصّت مستشفيات المجانين بالنزلاء، ولو عرفوا مَن وراء الأحداث لأصيبوا بنوبات قلبية، أحيانا يكون الأخ أو الأب القاتل الحقيقي، بالخفاء يستأجر مرتزقاً لقتل أخيه ويمشي في جنازته، صدقوني سيصبح العالم كله مستشفى.
    سمعه القاضي جيدا وأمره بالجلوس والهدوء ثم استدار لي:
    - ما رأيكَ هل مازلتَ تبحث عن فضائلكَ الخاصة؟
    - ألا يكتفي الرب بولائم أطفال ونساء وشيوخ الحروب؟ هذه ولائم مضمخة بالجمر والنار ومعطــَّرة برائحة البارود؟
    - أعرف جرأة وخبث سؤالي كما أعرف في أجوبتك اكتشاف ونزاهة فاضلة لكن الأكثر خبثاً أن تكتب أشياء وتنفـَّذ أخرى والأدهى من هذا كله إرجاء ما يصنعه البشر إلى الخالق. الإنسان حيوان مفترس متعدد الألقاب، جريء بتزوير، فاضل بقبح، نزيه بتلوِّث، سفيه بناسك، وقوّاد متديِّن، وعلى هؤلاء متفرج واحد.
    - بما أنك لم تلب أوامر مدير القناة والتي هي في صالح البشرية حكمنا عليك بالسجن الانفرادي المؤبد، النبل الذي تبحث عنه ليس بالأفعال، فالأفعال لا تُستر أحيانا بل بالحاجة إلى نبل النفس تماما كأصحاب المشاريع الخيرية الذين يبيتون بأحضان زانية.
    - نصيحة أخيرة: وأنت في سجنك الانفرادي حين تعترف أمام نفسك أنك الوحيد في الليل والنهار ستتحول إلى كهف إن لن تؤمن بالجميع.
    بدا وجهه مصفراً إثر استرجاعه أحداثاً آلمته، رغبتُ التخفيف عنه قلتُ له:
    - لا عليك أنا أخرجتكَ من سجنك ارتح قليلاً سنتجوّل في الحدائق العامّة لعل الطبيعة الخضراء تضفي عليك بهاءً وعلى نفسك هدوءً.
    اسمح لي أستعد.
    تركته نصف ساعة أتممتُ فيها زينتي ولبسي ونزلت أدلُّه على الحمّام، وجدته طعن نفسه بسكين المطبخ وقطع وريده، فزعت لا أعرف ما أعمل وما عليَّ فعله، تذكرت صحفاً أحتفظ بها لأستعملها مفرشاً للوجبات اليومية، مددته على الأرض كفـَّنته بالصحف جيداً وأرجعته إلى قبره.
    أغلقت التلفاز وضعت عليه شريطاً أسودَ وواصلت كتابتي وبحثي عن حكاية ربما ليس فيها كارثة.
    http://samypress.blogspot.com
    http://samypress.yoo7.com
يعمل...
X