إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

نشيد الاحتمال

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نشيد الاحتمال

    نشيد الاحتمال




    يُلقي بثقل جسده المنهك على ساقه اليمنى بينما يثني اليُسرى ويسند ظهره على الحائط..ملامح الانقباض التي تكسو وجهه وذبول النظرات التي تغلف عينيه تتغاضى أشعة الشمس اللاهبة بانكسار وأسى..كل الصور تتبخر، تتطاير في السماء، هبات الريح الآتية من كل الجهات تتلاعب بتلابيبها..كل الأشياء التي تتمزق تترك وشما غائرا لايُمكن محوه من حياة الإنسان..الحب الذي يتحطم في أعين العُشاق والأمل الزاهي الذي يتلاشى من صدور الحالمين يصعب تأثيتهما من جديد..القلب لايمكن أن يحب أكثر من مرة، والأمل إن انطفأت جذوته محالٌ أن يتوقد مرة أُخرى ليضيء أعماق الإنسان المكفهرة.. يتململ في وقفته، يُمسك مرفق يده اليمنى بيده اليسرى ويسند ذقنه على إبهام يده اليمنى ويروح يلملم شـفته السفلى بالسبابة والوسطى وعيناه ترتعـدان، ربما الصور الغائمة التي تقبع في رأسه نفضت عن نفسها غُبار النسيان وتود الانفلات من عقالها ولما لا الانفلات من رأس تحتله مواعيد قديمة..ذلك رأسه وهو يدسه بين كفيه ومؤنبا نفسه يظل جامدا كصخرة، مستكينا كالفراغ، لا يكاد يرى أنوار الأرض هناك أو يصغي أمواج البحر المتلاطمة على القرب منه..اليوم لا يستطيع أن يجلس ليستريح..شيءٌ رهيب يغلي في داخله فيطل من ثنايا وجهه المتجهم، يشعر بأنه مُتعب و لا يقوى على الوقوف..الوقوف على حافة الألم، لكنه يتمسك بإصرار على المضي في وقفته ولو جمدت الريح أطرافه، وذوت أشعة الشمس الـحارقة جسده الغض، لابد أن يقف على رجل واحدةٍ ويرفع الأخرى، لابد أن يـختبر نفسه..جميلٌ أن يـختبر الإنسان نفسه ولو مرة في حياته ليعرف مدى قُدرته على الصمود والتحمل..أيستطيع أن يصمد حتى آخر الأمر! أم ينهار وتخور قواه في البدء !..المكان يبقى هو المكان..الرؤية قد تتلاشى أو تتضح..الجسد قد يسقط صريعا مدرجا في دماءه أو يتسمر في مكانه كتمثال آشوري..في نُقطة مجهولة من مكان قصي يترعرع العشق ويموت، لكن ماذا لو مات الإنسان واقفا!..المكان لا ينسلخ أو يضيق في أعين أُناسه بل هم الناس من يضيقون ذرعا بأماكنهم، تمتم وكأنه يحدث نفسه ووجهه منقبض" المكان الذي لا يسكن الإنسان مهجور، مكان بلا أُفق، بلا حدود، بلا ناس..شيءٌ غريب أن نتخيل أنفسنا بلا مكان، لا سماء فوقنا، ولا أرض تحتنا..أين هم الناس الذين كنت أعرفهم واحدا واحدا ! كلهم رحلوا بلا رجعة وعلامات اليأس ترتسم بجلاء على وجوههم، وحتى الأشجار التي كنت أستظل بظلالها أيام القيظ اجتثت من جذورها، آه لو تركوا الجذور لكبرت الشجرة من جديد، ولكبرت معها أحلامنا الصغيرة، لكن للأسف ما باليد حيلة، هي الأحلام ليست سوى أحلام، وكمن أدركه التعب يلقي بثقل جسده المبلل بالعرق على ساقه اليُسرى ليُريح الساق اليُمنى..هو الوقوف في وجه الريح كالوقوف في وجه الفراغ..الريح تهب بشدة، تصفر، تولول محملة بالغبار وبقايا أرواح خبيثة تمتزج أنفاسها بأنفاس الموتى وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، يشبك أصابع يديه ثم يضعهما وراء رقبته، يُغمض عينيه ويترك الريح تهب وتهب، يتخيل نفسه بروميثيوس واقفا بشـموخ في وجه الأنواء يفتح عينيه بعد أن سـكنت الريح، يلتفت يمنة ويسرة والدهشة تأكل دواخله، ماذا وقع! يتحسس جسده..كل شيءٍ تغير حوله إلا هو لا يزال واقفا، مثبتا في مكانه كمسمار..الناس يأتون ويروحون وهو مغروس كخطيئة تأبى أن تنمحي، ضيق عينيه وهو يركز بصره عما حوله، مرت لحظات بدت له طويلة ربما أطول من الوقت الذي وقف فيه أشعة الشمس الملتهبة وأمام جنون الريح..ألم يكن من الوقوف بد! أحس بالمرارة والخيبة وهو يضع على نفسه هذا السؤال، زفر من أعماقه ففلتت من فمه كلمات لم تكن واضحة بما فيه الكفاية، حاول أن يتذكرها لكن دون جدوى، عاد من جديد يتحسس جسده ربما يكون في حالة غيبوبة، كـح ربما يستعيد بعض صوته الذي بُحَّ، رف بجفنيه ربما يطرد ما تبقى أمامه من تفاصيل مشوهة لطفولة لا معنى لها مليئة بالقسوة والسأم..انتفض في وقفته ثم مد بصره بعيدا تمتم في كلامه" ماذا أرى ! أخشى أن تكونا عيني تخوناني ماذا يجري حولي دون أن أدري!..الطرقات تعج بالمنبوذين، البحار تتزاحم بالمنفيين وأعين الناس شاخصة ماذا ترى! لا فائدة من معرفة ماذا يرى الناس بل ما أراه أنا !نعم ما أراه أنا لوحدي..في أحيان كثيرة أُحب أن أقف بنفسي على حقيقة نفسي وحقيقة ما يُحيط بي، لكن الرؤى تختلط أمامي وتغيم في دواخلي ابتسامات الأطفال البريئة الذين لا يعرفون لماذا يبتسمون ! ولمن يبتسمون! يُرسل أصابعه في شعره الأشعث ويُلقي بجسده على ساقه اليمنى وهو يدلك فخد رجله اليُسرى الذي تورم من طول الوقوف، تنتابه قُشعريرة ينتفض لها كل جسده، يبدو أنه لـم يعد يتحمل الوقوف، يتساءل وعيناه الغائرتان تترقصان..الوقوف من أجل ماذا! مرت أمام ذاكرته صورة أمه واقفة في طابور طويل من النساء قرب الساقية تنتظر دورها الذي لا يأتي إلا بعد أن تتورما ساقاها لتملئ جرتها بالماء، يكاد قلبه أن يتحطم، يأخذ نفسا عميقا، إنه يحس بالأسى والمرارة..كانت أمه كل شيء في حياته، عالمه الذي لا ينتهي، جنونه الذي لا ينقطع،كانت تتحمل حماقاته وجموحه ثم يتردد في مسامعه كلامهاوهي تحدثه ذات مساء لم يعد يتذكره " عندما تكبر يا ولدي ستقف على حقيقة نف،سك وحقيقة العالـم الـمتوحش الـذي يحيـط بك ساعتها سـتتذكر أُمـك الـمسكينة ، الصبورة كم تحملت من أجلك..تذكر يا ولدي عندما ستقف على حقيقة نفسك وتجد كل ما حولك قد تغير، قد انقلب ظهرا على عقب، ستعرف رُغما عنك ما هو الإنسان !" وأي لإنسان سأعرفُ !يتمتم وهو يهز كتفيه دلالة اللامبالاة " من طريق إلى طريق ومن هم إلى هم لم أجد واحدا من الناي يُحـدثني عن الإنسان..آهٍ الإنـسان ضاع، سحـقته عجلات الزمن، طوحت بكبرياء ه الريح نحو المجهول..كيف انقلبت الآية بهذا الشكل الرهيب وبهذه السرعة التي لا تخطر على بال..ربما..لا لا..مجرد فكرة لا تصلح أن تكون فكرة..كل الأفكار هذه الأيام مجنونة، ناقصة، عالمٌ من الأوهام يُسلي بها الإنسان عن نفسه كرب الحياة التي لم تعد حياة"..المكان مثقل بالذكريات، مثخن بالآلام، لكنه المكان وإن قسى علينا ومرغ وجوهنا في التراب، ليس لنا من خيار عنه وليس بمقدور أحد منا أن يتنكر له وإن كان في كثير من الأحيان يكفهر في وجوهنا ويسحب البساط من تحت أقدامنا فلأننا لم نفهم كما ينبغي من يكن المكان ! ظللنا مصرين نتغاضى باستخفاف وربما مدفوعين بنوايا سيئة أننا أقوى منه، قادرين أن نتحداه حتى ينكسر عوده، أن نقف شامخين على رجل واحدة ونرفع الأخرى..صمت لحظة ثم أرخى يديه على فخديه فالإعياء قد بدأ يسري في جسده، شعر أنه لم يعد قادرا على مزيد من التحدي ربما قد ينهار، قد يتهاوى على وجهه صريعا..أليس مُخجلا ومثيرا للاشمئزاز أن يسقط الإنسان هكذا يسقط كدودة لا حول لها ولا قوة، رفع عينيه بعيدا وأثار الانكسار بادية عليها" لا فائدة من الوقوف..كل من يقف في مكانه يموت..يـموت شر موتة..لا أحد يستطيع أن يُوقف مجرى الحياة..الحياة ينبوع من الأمل يصب ويصب بلا انقطاع " وضع رجليه جنبا إلى جنب، أمال جسده يمنة ويسرة ثم سار بخطوات متثاقلة ووئيدة ليدرك بدايته حتى غاب...

    نورالدين بوصباع


    تيفلت- المغرب

  • #2
    رد: نشيد الاحتمال

    قصة معبرة و مشوقة00 و كاتب بارع
    قام بتوظيف كل لوحة فنية لخدمة قصته
    فعلا ً نشيد الأحتمال في هذا الزمن00 أسلوب شيق
    و سلس 00كلمات بسيطة و قوية كقوة الحجر
    بسيطة كمياه النهر في صلواته للبحيرة
    سمير حاج حسين

    تعليق


    • #3
      رد: نشيد الاحتمال

      مررت من هنا سيدي
      عانقت نصا" متميزا" فيه من قوة التعبير الكثير وفيه من جزالة الكلمات والمعاني الكثير
      كتابة راقية وأسلوب مميز وشيق
      سعدت كثيرا" لقرائتي نشيدك سيدي الكريم
      دام نبض يراعك نابضا" بالأبداع
      أحييك بشدة أيها المتميز

      قيمة المرء ما يحسنه

      تعليق


      • #4
        رد: نشيد الاحتمال

        استمتعت كثيرا بقراءة القصة والتعابير الجميلة ,, والصور المتقنة .
        وقد تعلم بطل قصتك عبرة من نفسه ومن وقوفه وأوصل لنا هذه العبرة بكل وضوح وجلاء,, الحياة لا تتوقف ولا تنتظر أحداً !! نحن من يجب أن نسير في ركبها
        وإلا فالموت متجمدا في المكان هو الثمن
        شكرا لك على القصة الجميلة وبانتظار المزيد

        تعليق


        • #5
          رد: نشيد الاحتمال

          شكرا لك دمت مبدعا قصة رائعة جدأ وفيها كل أشكال الجذب للقارئ من لغة سهلة وبسيطة وصور رائعة
          تحياتى لك أيها المبدع
          وعيد سعيد
          http://samypress.blogspot.com
          http://samypress.yoo7.com

          تعليق

          يعمل...
          X