إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مراد السباعي-2-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مراد السباعي-2-

    الإنسان والموت


    مسرحية خيالية بفصل واحد‏

    أشخاص المسرحية:‏

    ـ المريض‏

    ـ شبح الموت‏

    ـ الحياة‏

    ـ الطبيب‏

    الوقت: ليلاً.‏

    وفي إحدى الزوايا يجثم شيح أسود، ذو تكوين مرعب رأسه كالجمجمة وأطرافه كالأجنحة ورجلاه كالذيل وقرب السرير تقف امرأة رائعة الجمال ساحرة الأنوثة تلقي على جسمها الممشوق وشاحاً أخضر ذات تموج خلاّب، ومن بعيد تتردد أصداء موسيقى حزينة).‏

    الشبح الأسود: (بلهجة غاضبة) أوه.. لقد أملني الانتظار، ما لهذه المرأة التي تسمي نفسها الحياة لا تبتعد عن هذا العجوز المريض، الذي أصبح من شدة الوهن لا يصلح لشيء.‏

    الحياة: أنا أعرف الوقت المناسب الذي يتحتم علي فيه أن أتركه لك فلا تكن ملحاحاً...‏

    المريض: (مشيراً إلى الشبح الأسود) ما هذا الشيء الأسود الكريه الذي يجثم هناك..؟ أنني لا أرتاح لوجوده.‏

    الحياة: إنه الموت يا عزيزي.‏

    المريض: الموت...؟ ماذا تقولين أيتها الحياة..؟ ألم يبق لي ثمة أمل في الشفاء..؟ اقتربي مني.. التصقي بي.. لا تتركيني... أضرع إليك. الخوف يكاد يقتلني.‏

    الحياة: لا تخف.. فما دمت معك فلن يصل إليك... ألا تجدني قريبة منك؟ فعلام الخوف...؟‏

    المريض: آه يا سيدتي، الشيء الذي يقلق بالي وجود هذا الشيء الكريه في غرفتي لماذا لا يذهب عني...؟ أتوسل إليك أن تبعديه بأي وسيلة ممكنة.‏

    الحياة: إنه قوي وشرس وليس من السهل التغلب عليه، وحين يريد شيئاً ما فلا يمكن الوقوف في وجهه، وأنني أخافه أيضاً كما تخافه أنت... وكثيراً ما أتراجع أمام خطواته الصلبة القاسية.. نحن كائنان متناقضان متنافران ولا يمكن أن نلتقي أبداً... إنه يكرهني... ولقد سمعته يقول ذات مرة:‏

    "ما يضر الأرض لو كانت كبقية الكواكب خالية من الحياة..؟ هذه الحياة التي تزعجني بضجيجها وضوضائها وحركتها الدائمة... نعم، نعم، ولا أروع من السكون، ولا أجل من الظلام...".‏

    وعلى كل حال فالوقت لم يحن بعد.. فما زلت أيها العجوز تتمتع بشيء من القوة على الرغم من مرضك.. إنه ينتظر، وما يهم...؟ فلينتظر ما شاء فليس في ذلك ما يدعو إلى القلق والخوف...‏

    المريض: ولكن لماذا لا ينتظر بعيداً..؟ خارج الغرفة مثلاً...‏

    الحياة: أنت الآن في حالة شديدة من المرض... ومن يدري..؟ فربما...‏

    المريض: قولي بصراحة فكلمة ـ ربما ـ لا تعجبني... هل سأموت...؟‏

    الحياة: أنصحك بعدم التفكير بالموت، فالتفكير به يضعف مقاومتك، وبذلك تعطي الموت فرصة أكبر للقضاء عليك... دع الموت وشأنه أنك ما زلت تتمتع بحواسك... ألن تلتهم طعامك هذا اليوم بشهية ولذة.؟‏

    المريض: نعم، نعم... وتمنيت أن يكون طعامي أكثر تنوعاً وأوفر كمية...‏

    الحياة: أرأيت... ألم تكن سعيداً آنذاك؟‏

    المريض: السعادة دائماً مؤقتة، إنها شيء ظرفي يتعلق بحالة من الحالات وليس لها صفة الاستمرار والديمومة...‏

    المريض: وكيف أنعم بالسعادة وهذا الشيء الكريه الأسود لا يغرب عن عيني لحظة واحدة.‏

    الحياة: إن هذا الشيء الذي تخافه لم يكن بعيداً عنك في أي لحظة من لحظات حياتك، إن موقفه منك لم يتبدل منذ ولدت وحتى الآن، ومع ذلك فلقد كانت حياتك تمر بظروف مشبعة باللذة والسعادة... أليس كذلك؟.‏

    المريض: هذا صحيح، ولكن الأمر يختلف الآن عما كان عليه في السابق... أصغي إلي يا سيدتي الجميلة ولا تملي ثرثرتي، فالكبار يتحدثون كثيرا، شد ما أحبك يا حياتي.. اقتربي مني قليلاً، ضعي يدك الغضة الرحيمة على قلبي الخافق المتعب واستمعي إلى ما أقول..‏

    إنك تعرفين أنني عندما كنت طفلاً لم أكن أفكر بالموت إطلاقاً ولم يكن لصورته القبيحة أي وجود في ذهني، كنت أعرض نفسي للكثير من المغامرات والمخاطر، أتسلق الأشجار السامقة، وأسبح في الأنهار العميقة، وأقاتل من يقاتلني بشراسة وضراوة، وأصبت بالكوليرا والتيفوس والجدري فلم أهتم، ولم أفكر إطلاقاً بالموت... ولما أصبحت شاباً انصرفت إلى ألوان كثيرة من التسليات... عاشرت النساء وشربت الخمرة ولهوت مع الأصدقاء، وضحكت وغنيت ورقصت، وأحببت الطبيعة، فرحت أنشد جمالها في كل مكان، لا أكترث لشيء، ولا أهتم لما عسى أن يجيء به الغد، نعم لقد كنت أعيش للحاضر وحده، لليوم الذي ليس له غد، وللساعة التي ليس لها يوم، وللدقيقة التي ليس لها ساعة... آه، شد ما كنت سعيداً في ذلك الوقت... ألا تذكرين ذلك يا حياتي...؟؟؟‏

    الحياة: نعم أذكر... فلقد كنت تعطيني الكثير من وقتك وحبك.. وما زلت تعطيني منهما حتى الآن... أنا لا أشك في حبك فكن مطمئناً...‏

    المريض: ومرت الأيام يا عزيزتي، ومضى الشباب إلى غير رجعة، وجاءت الكهولة بثقلها والتزاماتها... وجاء معها التفكير بمستقبل الأولاد، والبناء لذلك المستقبل مما لم يترك لي أي مجال للتفكير في ذلك الشيء المرعب الذي يسيطر علي الآن على كل حواسي، نعم لم يكن لغير المادة وجمع المال أي مكان في راس وذلك خشية من المستقبل الذي لم أكن أعرف على أية صورة سيجيء... وها أنذا الآن أفتح عيني وأنا في الثمانين لأرى الحقيقة الرهيبة متمثلة في ذلك الشيء القبيح المخيف الذي يقبع في ذاكرتي كل الوقت وينغص علي عيشي، نعم لم يكن كما تقولين بعيداً عني في أي لحظة من لحظات حياتي منذ خلقت وحتى الآن، ولكن لم يكن له وجود في ذاكرتي، لقد كنت أظن أن الحياة أبدية، وكانت الأعوام تبدو وكأنها طويلة مملة... آه ما أسرع الزمن فبين الطفولة والشيخوخة ليس أكثر من لحظة واحدة يسمونها الحاضر... وما الحاضر.؟ أليس هو تلك اللحظة الزمنية التي لا ندركها إلا بعد مرورها، وما الماضي؟. أليس هو تلك اللحظات المستهلكة من حياتنا... آه يا حياتي كثيراً ما يخيّل إلي أن ليس للوجود كيان... خارج الذاكرة...‏

    شبح الموت: (بصوت قبيح) أذكر ما شئت أيها العجوز المريض من حياتك الغابرة... ولكن لا تنسى أنك قد نضجت جيداً وحان وقت قطافك...‏

    المريض: ماذا يحسبني هذا الدميم؟ أو يظن أنني نوع من الفاكهة..؟!..‏

    شبح الموت: نعم أظنك كذلك فالحياة لك ألوانها وصورها تخضع لقانون واحد... قل لي ما معنى وجودك إذا كنت لا تستطيع أن تعطي الحياة أي شيء يستفاد منه... أترك مكانك للذين يخلقون من جديد، لو كنت تعلم كم أنت ثقيل الظل على أهلك وأصدقائك لاخترت الموت ولم تتمسك بالحياة ذلك التمسك الأرعن...‏

    لقد سمعتك تتحدث منذ لحظات عن الأيام الجميلة التي أمضيتها في شبابك ولكأن تلك الأيام كانت خالية من الألم... نعم إنك لا تذكر سوى المواقف الجميلة من حياتك وتغمض عينيك عن كل ما هو قبيح ومؤلم. لقد نسيت الجوع، والمرض والحرمان، نسيت الأيام الصعبة التي كنت تتمنى فيها الموت فلا تجد ثمة حقيقة ينبغي عليك أن تذكرها دائماً وهي أن الحياة لا تعطيك اللذة إلا مقرونة بالألم بنسبة متساوية. وما دام الأمر كذلك فليس في التعادل خسارة وربح. ثم ما جدوى الحياة لمن اصبح في مثل سنك، فتعال إلي... بمحض إرادتك، ولا تأسفت على شيء...‏

    المريض: لا لا... إنني ما زلت أحب الحياة. وفي نفسي آمال كثيرة أريد أن تتحقق...‏

    شبح الموت: أنا أعرف ما هي آمالك... إنها تنحصر في أن تأكل وتشرب، في أن تمتص من الحياة مادة الحياة دون مقابل، وحتى آخر لحظة من لحظات حياتك... لا تكن جشعاًَ إلى هذا الحد.. أترك شيئاً للآخرين الذين سيجيئون من بعدك.‏

    المريض: أتسمعين ما يقول أيتها الحياة؟... إنه لا يدري مدى حبي لك فهو يتهمني بالجشع ولا يدري أن الجشع إنما هو وسيلتي الوحيدة للبقاء.‏

    شبح الموت: وماذا تريد الآن؟؟؟.‏

    المريض: أريد أن ترحل عني، لا أطيق وجودك هنا ألا تسمعني؟...‏

    شبح الموت: ولكنك مريض بداء خبيث ولا أمل في شفائك... أو ليس من الأفضل أن تتخلص من آلامك دفعة واحدة وترتاح إلى الأبد.‏

    المريض: إنني أستطيع أن أتحمل أشد الآلام ولا أستطيع أن أتحمل وجودك هنا...‏

    شبح الموت: الشيء الذي لا أفهمه أن تخاف ممن يود أن ينهي آلامك ويمنح روحك الحرية المطلقة بانتزاعها من جسدك المهترئ..‏

    المريض: (متهكماً) ما أجمل هذه الحرية التي تجيء مع الموت...‏

    شبح الموت: أين كنت قبل أن تولد؟..‏

    المريض: لا أعلم...‏

    شبح الموت: وأين ستكون بعد أن تموت...‏

    المريض: لا أعلم...‏

    شبح الموت: ثق إذن بأنك فيما ستصير إليه بهد أن تموت لن تكون أسوأ مما كنت في قبل أن تولد، فالمجهول الأول كالمجهول الثاني، كلاهما واحد، وكلاهما يحقق للإنسان عدمية سرمدية مريحة... أنصح لك أن تضرب عن الطعام وتكف عن تناول الأدوية وعندها تجد نفسك ضمن أحضاني بعيداً عن الهواجس المرعبة التي تسببها لك الحياة.‏

    المريض: (يخاطب الحياة) اسمعي يا عزيزتي، إنه يزهدني بك ويطلب إلي أن أهجرك... ولكأنه لا يعلم أن حبي لك يجري مع كل قطرة من دمائي وتمثل في كل خلية من خلايا جسدي.‏

    شبح الموت: يبدو أن لا جدوى من الكلام مع هذا المخلوق الذي أصبح كالحيوان يعيش بغرائزه لا بعقله...‏

    المريض: قل ما شئت...‏

    اشتمني... العن أبي وأمي، ولكن لا تقترب مني.‏

    شبح الموت: (يتقدم نحو المريض خطوة واحدة) لقد تأكد لي أنك لا تريد أن تستسلم لمصيرك الجميل بسهولة ويسر، ولابد من معركة بيني وبينك، كن مطمئناً، فالمسألة أسهل مما تتخيل، إنها أشبه ما تكون بغفوة قصيرة حالمة وبعدها ينتهي كل شيء وكأنه لم يكن.‏

    المريض: (يخاطب الحياة) يا حياتي الغالية: افعلي شيئاً من أجلي، ألا ترين أنه يتقدم نحوي.‏

    الحياة: (تبتعد عن المريض بمقدار ما يقترب الموت منه)......‏

    المريض: وأنت أيضاً...؟ أتتركينني في أحرج اللحظات؟.‏

    الحياة: وما عسى أن أفعل؟؟؟...‏

    المريض: ألا تدافعين عني... ألا تحاولين إنقاذي من براثن هذا الوحش..؟‏

    الحياة: هنالك من هم أجدر منك باهتمامي ورعايتي، أتعلم من هم؟.‏

    المريض: (بيأس) لا.‏

    الحياة: الأطفال والشباب.‏

    المريض: آه... أيتها الخائنة لقد عرفتك الآن على حقيقتك، فالشيء الوحيد الذي يهمك ذلك الاستمرار الزمني للحركة الحية. ولا قيمة بنظرك لحياة الأفراد.‏

    (يدخل الطبيب).‏

    الطبيب: لعلني جئت في الوقت المناسب فلقد قيل لي أن حالتك سيئة للغاية...‏

    المريض: نعم يا سيدي... إنها سيئة إلى درجة مخيفة...‏

    الطبيب: لا تخف... فلدي دواء جديد سأجربه فيك... وأعتقد أنك ستشفى في وقت قريب.‏

    المريض (مسروراً) أحقاً ما تقول يا دكتور..؟ هات أقبِّل يدك...‏

    الطبيب: ولكنه دواء شديد ولا يجوز استعماله إلا في المستشفى، وتحت إشراف طبيب مختص. وعلى هذا فيجب أن تنقل فوراً إلى المستشفى... فهل تقبل...؟...‏

    المريض: أقبل اقبل.. هات يدك. ساعدني على النهوض، أليست السيارة على الباب (يخاطب شبح الموت بتهكم) أنظر لقد أصبحت يا مسكين عاجزاً أمام عظمة العلم.‏

    الطبيب: من تكلم؟.؟.؟. ليس في الغرفة أحد غيري...‏

    المريض: أكلم... أكلم... لا ألكم أحداً، إنه نوع من الهذيان يصيبني أحياناً. خذ بيدي يا سيدي لعلني أستطيع أن أصل ماشياً إلى السيارة...‏

    (الطبيب يأخذ بيده ويخرجان).‏

    (الحياة تمشي وراءهما بعد أن ترشق شبح الموت بنظرة جانبية ساخرة).‏

    شبح الموت: (يمشي متثاقلاً نحو سرير المريض ثم يجلس عليه ببطء ويطلق ضحكة خشنة ويقول). (عش ما شئت من السنين، فأنت هالك في النهاية، فالزمن وهم، والحياة وهم، وليس من حقيقة في الوجود غير حقيقتي الخالد).‏
    ـ الستار ـ‏
    قيمة المرء ما يحسنه

  • #2
    رد: مراد السباعي-2-

    مسرحية رائعة ...تسلم ايدك انك عرفتنا عليها....

    تعليق

    يعمل...
    X