إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

المفكر ( روجيه غارودي) نبراساً للحق والصمود - عبد الله فكري الخاني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المفكر ( روجيه غارودي) نبراساً للحق والصمود - عبد الله فكري الخاني

    روجيه غارودي المفكر والفيلسوف الناقد
    هل يوزع الله الأرض بين الشعوب والملل حسب رغبتها؟


    عبد الله فكري الخاني - الوطن
    غيّب الردى، في الخامس عشر من حزيران الجاري، رجلاً ليس كمثله رجال، توفّي المفكر والعالم والفيلسوف الفرنسي المسلم رجا جارودي (روجيه غارودي) عن عمر ناهز الثامنة والتسعين بعد نضال مع المرض استمر زهاء عشر سنوات.

    درس غارودي الأديان جميعاً فوجد أن الدين الإسلامي يتجاوب مع أفكاره ومعتقداته ويجيب عن جميع أسئلته، فاعتق الدين الإسلامي ووضع عنه الكتب والمحاضرات بشكل علمي لم يسبقه إليه أحد، مستقى من القرآن الكريم ومن السنّة الشريفة، وقام بأداء فريضة الحج وتزوّج من سيّدة فلسطينية فاضلة هي السيدة سلمى التاجي الفاروقي.
    درس غارودي الحضارات العالمية وفلسفتها وأنظمتها فوجد أن الحضارة العربية التي اندثرت في الأندلس في القرن الثامن الميلادي، في زمن الأمويين والمسلمين، ولاسيما في زمن عبد الرحمن الثالث، هي أساس عصر النهضة في أوروبا وليست إيطاليا، في القرن السادس عشر، كما يدّعي الغربيون، الذين كانوا يعيشون في تلك الحقبة من الزمن، في دياجير التخلّف والجهل والقهر والظلم.
    ولإبراز قيمة هذه الحضارة العربية ولبعثها مجدداً في مركزها الرئيس وعاصمتها التاريخية «قرطبة»، أسس غارودي مؤسسة ثقافية باسمه وسعى مع بلديّة قرطبة لاستئجار القلعة التاريخية المطلّة على الجسر الروماني على نهر «الوادي الكبير»، لتسعة وأربعين عاماً- وما زالت هذه القلعة تحتفظ باسمها العربي «القلعة الحرّة» بالإسبانية «كالاهورّا»، وقد كانت في عهد الرئيس الإسباني السابق الجنرال فرنسيسكو فرانكو، سجناً للمجرمين متهدّماً ومهجوراً.
    حصل غارودي على بعض المال من اليونسكو في باريس، باعتبار أن البرج كان مسجلاً «تراثاً أثرياً»، ومن بعض المؤسسات الثقافية السويسرية التي كانت له صلة سابقة بها، بعض الدول العربية، فأعاد ترميم القلعة وتزيينها وفرشها فجعل منها متحفاً أثرياً غنياً وجميلاً يحكي قصة الحضارة العربية في عصر الأمويين ومن تبعهم من العرب والمسلمين، فأصبح البرج معلماً سياحياً جذاباً يقصده السياح، مع الجامع الكبير، من أوروبا ومن آسيا ومن الولايات المتحدة، وقليل منهم، بل نادراً من البلاد العربية، وأخيراً، قامت بلدية قرطبة بإعادة «صف الجسر الروماني أمام البرج ونظمت واجهته فظهرت العقود العربية والنقوش والزخرفات ما اكسبه جمالاً، وأعاده إلى طبيعته الأولى.
    بعد أن أنجز روجيه غارودي المتحف على هذا النحو، اتصل بمؤسسة خالد العصيمي في جنيف يقترح عليها إنشاء مكتبة تنشر كتب الأدباء والعلماء والفلاسفة العرب في أوج فترة الحضارة العربية في الأندلس، فوافق العصيمي على مدّه بالأموال اللازمة فتمّ شراء قصر بيليوّ Bailio، وكان بحالة سيئة، فتم هدمه كاملاً وإخراج آثاره من الأنقاض، وبناء مكتبة حديثة واسعة مزودة بأحدث تجهيزات الأتمتة: وفيه عدد من أجهزة الكمبيوتر والإنترنت والتجهيزات السمعية البصرية والكتب والمخطوطات التي تم الحصول عليها من مختلف المكتبات الوطنية في البلاد العربية وفي أوروبا.
    تصدى غارودي للأكاذيب الإسرائيلية ووضع كتاباً يفند فيه أساطيرهم وادعاءاتهم بأن الله قد خصهم بفلسطين، وقال: هل الله عز وجل، صاحب مكتب عقاري يوزع الأرض بين الشعوب والملل حسب رغبتها، أما ادعاء اليهود بأن النازيين قتلوا وأحرقوا منهم ستة ملايين، فقال: مع ألمي على ما حصل لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية، إلا أن هذا العدد (ستة ملايين) غير حقيقي، واعتمد في نقضه لإدعاءاتهم هذه، على شهادات من كبار الشخصيات اليهودية المشهود لهم بالصدق كاليهودي منوحيم، عازف الكمان الشهير، وعلى حاخام نيويورك وإحصاء بعض المؤرخين البريطانيين من أن العدد لم يتجاوز المليون أو تجاوزه بقليل.
    ومع أن غاردوي لم يتعرض بسوء للدين اليهودي ولا إلى ما ورد في كتب اليهود المقدسة، فإنه قد دفع نتيجة كتاباته هذه ثمناً باهظاً من حريته وماله، ذلك أن اليهود كانوا، في أعقاب الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء على ألمانيا النازية، قد استغلوا عطف العالم عليهم ليضغطوا على الحكومة الفرنسية ويستصدروا قانوناً سمّي قانون فابيوس- جيّسو يحرّم التعرض لادعاءات اليهود الكاذبة، بتهمة اللاسامية يؤدي بمن يقوم بذلك إلى السجن مع الغرامة المالية، ونتيجة لما كتبه غارودي عن الأساطير الإسرائيلية، حكمت المحكمة عليه بالسجن ثلاثة أشهر وبغرامة تبلغ مئة وخمسين ألف فرنك فرنسي.
    استأنف غارودي الحكم، فضاعفت محكمة الاستئناف الفرنسية مدة السجن كما ضاعفت المبلغ المحكوم به، نميز، وفي اليوم الذي كانت محكمة النقض ستصدر حكمها بنقض حكم محكمة الاستئناف: نقلت الحكومة الفرنسية رئيس المحكمة وعينت مكانه قاضياً آخر ثبت حكم الاستئناف.
    قال لي غارودي: سأتابع القضية لدى المحكمة الأوروبية في ستراسبورغ، إلا أن المرض العضلي عاجله فلم يفعل ذلك.
    ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تلقى غارودي عدة مكالمات هاتفية تهدده بالقتل، وتم الاعتداء على المكتبات التي كانت تبيع كتبه في فرنسا وسويسرا واليونان حتى امتنعت عن ذلك، أما المكتبة التي نشرت كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» فقد أحرقت.
    وقف غارودي بوجه الصهيونية العالمية والولايات المتحدة وحيداً لا تلين له قناة ولا يخشى السجن والاضطهاد، وقف وحيداً حيث لم يجرؤ إنسان أو دولة عربية أو مؤسسة عربية أو أجنبية في العالم أجمع أن تقف هذا الموقف الحق الجريء.
    إن دمشق تعرف روجيه غارودي جيداً، إذ زارها أكثر من مرة وحاضر فيها عن القضية الفلسطينية، التي خصها بالعديد من كتبه، وقد دعي للمؤتمر الذي أقامته في الأول من نيسان عام 2000 الأمانة العامة لاتحاد شباب العرب دعماً للانتفاضة الفلسطينية.
    وضع روجيه غارودي ما يربو على خمسة وستين كتاباً جلها في الدفاع عن القضية الفلسطينية وعن خطل الادعاءات الصهيونية وعن الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية وقضية إسرائيل وهي دراسة عن الصهيونية السياسية، وعن (الولايات المتحدة تقود العالم إلى الانهيار)، وكان آخر كتبه «الإرهاب الغربي» يبين فيه أن الإرهاب نشأ في الدول الغربية عندما استعمرت الدول الضعيفة في آسيا وإفريقيا لتنهب ثرواتها، وقد أهداني معظم كتبه بعبارات في غاية المحبة والتقدير.
    وقبل وفاته بقليل أهدى مكتبته بكاملها في باريس، والتي تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب، إلى المكتبة التي أنشأها في قرطبة (مكتبة الأندلس الحية) التي كلفته جهده وماله وحياته.
    تعود معرفتي بروجيه غارودي إلى عام 1982 عندما التقيته على العشاء الذي أقامه تكريماً له المرحوم الحبيب الشطي (تونسي) أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي في ذلك الحين، في جدة، بمناسبة عودة غارودي من الحج، وكان الشطي الذي كنت أعرفه منذ الستينيات، قد استدعاني، وكنت عضواً في محكمة العدل الدولية بلاهاي، لاستشارة قانونية للمنظمة، ثم قويت علاقتي بغارودي، وكنت أقرأ كتبه وأعجب بمضمونها وبلغتها الفرنسية الرائعة، ثم وثقت هذه العلاقة عندما عملت من خلال مؤسسة العصيبي في جنيف، وكنت عضواً فيها، على تأمين المبلغ اللازم لإنشاء المكتبة، عينتني مؤسسة العصيمي، بداية ممثلاً لها في مؤسسة روجيه غارودي، ثم طلب إلي غارودي أن أصبح عضواً في مؤسسته فقبلت، وأصبحت صلة الوصل بين المؤسستين وعملت معه في تزويد المكتبة بالتجهيزات اللازمة وبالكتب حصلت على بعضها من المركز الثقافي العربي في شارع الجلاء ومن المعهد الفرنسي ومن مكتبتي المتواضعة.
    رحم الله روجيه غارودي رحمة واسعة وجعله نبراساً للحق والصمود في الدفاع عنه، ومثالاً يحتذى.

يعمل...
X