إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الدكتور : موسى الحالول و فقه اللغة القَرَقوشية*

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الدكتور : موسى الحالول و فقه اللغة القَرَقوشية*



    فقه اللغة القَرَقوشية*


    الدكتور : موسى الحالول

    منقول - أصوات الشمال


    ﴿قال هذا فراقُ بيني وبينِك سأنبُّئك بتأويل ما لم تستطعْ عليه صبرًا﴾ (الكهف: 78)
    تُعنى الأسلوبية في تطبيقاتها الأدبية بدراسة الأسلوب اللغوي الذي يُعَوِّل عليه الكاتب في إنشاء مِعمارِه الأدبي، لفظًا، ودِلالةً، وغايةً. لذلك، فإن البحث الأسلوبي يحاول أن يجيب على ثلاثة أسئلة: ما الذي يجعل أسلوبَ كاتبٍ مُعَيَّنٍ مميزًا؟ ما الذي يدفع الكاتب لينتقي هذا الأسلوب دون سواه؟ ما الأثر الذي يمكن أن يُحْدِثَه هذا الأسلوب المميز في مُتَلَقّيه؟ " 1 " - فاللغة مُلْكٌ مشاعٌ للمجتمع يَمْتَحُ كلُّ فرد من مخزونها العام ما تُسْعِفُه به موهبته أو ثقافته أو ذاكرته، وما تُمليه عليه غايته، وما يُؤَمِّلُه بيانُه. لكن اللغة أنواع، ولكل نوع منها مُتَداوِلون. لذلك يُفَرِّق أحمد ابن فارس اللغوي في مقدمة كتابه «مُتَخَيَّرُ الألفاظ» بين ثلاثة أضْرُب للكلام: "ضربٌ يشترك فيه العِلْيةُ والدون، وذلك أدنى منازل القول. وضربٌ هو الوحشي، كان طباعَ قوم فذهب بذهابهم. وبين هذين ضربٌ، لم ينزل نزول الأول ولا ارتفع ارتفاع الثاني، وهو أحسن الثلاثة في السماع، وألذُّها على الأفواه، وأزْيَنُها في الخطابة، وأعذبُها في القريض. " 2 " إن مُتَخَيَّر الألفاظ عند ابن فارس (الذي يتألف من "محاسن كلام العرب، ومستعذَب ألفاظها، وكريم خطابها، منظوم ذلك ومنثوره" 3 " ) يصلح تعريفًا لما نسميه اليوم الأسلوب اللغوي المميز، ويُشَكِّل بالتالي مُنْطَلق الدراسات الأسلوبية. وهذا الأسلوب متاحٌ، من حيث المبدأ، للأدباء، والسياسيين، والصحفيين، بل حتى لكُتّاب الإعلانات التجارية أو العرائض، ومؤلفي النكات. باختصار، الأسلوب اللغوي المميز هو طِلْبَة كل من يتوسَّل باللغة لبلوغ مأربه. من هنا يمكن إخضاع إبداعات كل هؤلاء للتحليل الأسلوبي، لكننا سنقتصر هنا على الأسلوبية في تطبيقها الأدبي، وسنتخذ مثالاً على ذلك قصيدة أحمد مطر المُعَنْوَنة "التقرير" من مجموعته «لافتات 2» التي يقول فيها:
    كلبُ والينا المُعَظَّــــــمْ
    عضَّني اليومَ ومـــاتْ
    فَدَعاني حارسُ الأمنِ لأُعْدَمْ
    عندما أثبتَ تقريرُ الوفاةْ
    أن كلبَ السيدِّ الوالي تَسَمَّمْ
    يمكن أن تؤدي القراءة السطحية الأولى للقصيدة إلى الملخص التالي: عض كلب الوالي أحد الرعايا (المتكلم في القصيدة)، وبدلاً من أن يتأذّى المواطن المسكين (كأن يُصاب بداء الكَلَب، مثلاً)، يموت الكلب مسمومًا من عضته للمواطن، كما يُثبت ذلك التقرير الرسمي للوفاة، مما يوجب استدعاءه من قِبل حارس الأمن لِيُعْدَم لأنه تسبب في موت الكلب. لكننا نعلم أنه لا يمكن لأية إعادة صياغة نثرية أن تكون مكافئة لمعنى القصيدة، لذلك وصف الناقد الشكلاني الأمريكي كْلِيانْثْ بروكس إعادة الصياغة النثرية للشعر بالهرطقة، فكما لا يمكن للسقالة أن تكون بديلاً من المبنى، فكذلك لا يمكن لإعادة الصياغة النثرية أن تكون بديلاً من القصيدة. فمعنى القصيدة، عند الشكلانيين الأمريكيين، يكمن في وحدتها العضوية، وهذه الوحدة العضوية تتألف من ثلاثة عناصر هي: التناقض الظاهري paradox، - المُفارَقة irony، - والغموض. " ambiguity " 5 . وهذه العناصر الثلاثة حاضرة جميعًا في قصيدة أحمد مطر، كما سنبين أدناه.
    تنتمي هذه القصيدة البرقية إلى أدب الواقعية السحرية الذي ينسج فيه الأديب أحداث الواقع في إطارٍ من الفانتازيا. " 6 " - والقصيدة تمثل علامة بارزة في الشعر السياسي الساخر الذي أجاد فيه أحمد مطر، فأسخط عليه السلطات العراقية ثم الكويتية (عندما كان يعمل في جريدة القبس في الربع الأخير من القرن الماضي) إلى أن انتهى به المطاف منفيًا في لندن حيث لا يزال مقيمًا. والقصيدة بسيطة في ألفاظها، معقدة في بنيتها، متناقضة في ظاهرها، مُتَّسِقةٌ في باطنها، ساخرة في نبرتها، باكيةٌ مُبْكية في مغزاها. وهي من حيث المحتوى تصلح أن تكون إحدى طرائف قَرَقوش الذي اشتهر فيما سلف من الأزمان بمعاقبة البريء وتبرئة المذنب، لذلك سنطلق على البلد الذي تجري فيه هذه الأحداث الفانتازية اسم قَرَقوشستان.
    مِدْماك التناقض
    يبرز التناقض الظاهري في السطر الثالث من القصيدة بين توقعات الرجل المتضرر وبين الغرض الحقيقي من استدعائه من قبل حارس الأمن. ونلاحظ هنا أن مطر يَعْدِل عن استخدام كلمة "استدعاني" المتوقعة والأنسب ظاهريًا لهذا السياق من كلمة "دعاني." لكن هذا العُدول (أو الانزياح بلغة النقد المعاصر) هو من نوع الاختيار المُغْرِض a motivated choice، كما يسميه پيتر ڤيردونك، " 7 " ، يُراد منه أن الرجل، الذي وقع عليه الأذى، ظن لبراءته أنه دُعِي من قبل أحد رجال الوالي ليعتذر له أو ربما ليدفع له تعويضًا عن الأذى الجسدي الذي لحق به. لكنه لا يعلم الغرض الحقيقي من الدعوة (التي تصبح "دعوى" قضائية في القانون القَرَقوشي) إلا حين العلم لا يُجدي الفتى، على حد تعبير إليا أبو ماضي. ودليل براءته وحسن ظنه، الذي زَيَّن له الاستدعاء على أنه دعوة، واضح في استخدام الشاعر للام العاقبة في قوله "لأُعْدم." ولام العاقبة، كما هو معروف، تفيد سوءَ عاقبة غير متوقعة لفعلٍ أُتِي أو سَلَف. فهذا الرجل البريء (من الناحيتين الفطرية والاعتبارية) لم يتوقع أن تكون عاقبة دعوته من قبل حارس الأمن هي الإعدام، تمامًا كما لم يتوقع قوم فرعون أن يؤدي انتشالهم لموسى (عليه السلام) إلى ما لا يحمَدون عُقباه كما ورد في القرآن الكريم: ﴿فالتقطه آلُ فرعون لِيكونَ لَهُم عَدُّوًا وحَزَنًا﴾ (القصص: 8).
    مِلاطُ الغُموض
    أما الغموض فيسري في أوصال القصيدة من السطر الأول: فصفة "المعظَّم" فيها لَبْسٌ مُتَعَمَّد، إذ يمكن أن يكون موصوفها الكلب أو الوالي على حدٍّ سواء، وقد توسل الشاعر إلى ذلك باللجوء إلى تسكين حرفها الأخير، لضرورة الوزن بالطبع، ولحاجةٍ في نفس يعقوب أيضًا. فلو كان آخر الصفة مكسورًا، لعرفنا أن الموصوف هو الوالي، ولو كان مرفوعًا لعرفنا أن الموصوف هو الكلب. قد يعترض معترضٌ ويقول: لا يمكن للكلب أن يوصَف بالتعظيم، بل المقصود بالتعظيم هو الوالي. لكن الردَّ على ذلك هو أن هذا الأمر واردٌ في سياق قصيدة ساخرة يعتدي فيها كلب الوالي على ضحية، فيحكم على الضحية بالإعدام!
    في السطر الثاني يتبادر للذهن أن موت الكلب غير المتوقع جاء نتيجةً لِعَضِّه المتكلم في القصيدة، لكن الشاعر في الحقيقة لا يؤكد ذلك. فالواو في قوله "عضني اليوم ومات" هي واو النَّسَق، أي العطف، وهي لا تفيد السببية بتاتًا. فلو أراد الشاعر أن يثبت وجود علاقة سببية بين مُؤدّى الفعلين، لاسْتخدمَ فاء السببية وقال "عضَّني اليوم فمات." إذن، لقد تعمَّد أحمد مطر أن يستخدم واو العطف بدلاً من فاء السببية لينفي وجود علاقة بين موت الكلب وعضه للرجل. في حين يوظف الشاعر فاء السببية في السطر الثالث توظيفًا يقطع كل لَبْس حين يقول، "فدعاني حارس الأمن لأُعْدَم." وأصل الفاء عند ابن فارس "أن يكون الذي قبلها عِلَّةً لما بعدها." لذلك اقترنت الدعوة بموت الكلب اقترانًا لا مَراء فيه.
    يتابع أحمد مطر توظيف الغموض في السطر الرابع الذي قد يُوحي للوهلة الأولى أن قرار إعدام الرجل جاء نتيجة تحقيق قضائي مُسْهَب ودقيق أثبت علاقة موت الكلب بِعَضِّه للرجل الغافل. لكن المدقق يتوصل إلى استنتاج مغاير يدعمه استخدام الشاعر لكلمة "عندما" التي تفيد الظرفية لا السببية. بمعنى آخر، لا يريد أحمد مطر أن ينكر أن الكلب قد مات بالسم، ولا أن يدحض ما جاء في التقرير، بل يريد قطعًا أن يوحي، ولو من طرف خفي، أنه لا توجد علاقة سببية بين قرار إعدام الرجل الغافل ووفاة الكلب. أي إن العلاقة بين الأمرين هي علاقة ظرفية بحتة. لقد تزامنا دون أن ينعقد بينهما رابط منطقي. بل الشيء المنطقي الوحيد هو أن نستنتج أن الكلب كان في الواقع مسمومًا حين عض الرجل، وربما عضه بسبب السم، وليس العكس.
    أعمدة المُفارَقة
    أما المفارقة فهي واضحة في استخدام أحمد مطر للعبارة الاسمية "حارس الأمن" الذي استدعى المواطن الغافل ليعدمه لأن كلب الوالي قد مات. لقد ظن الضحية أن حارس الأمن، المعنيَّ بحفظ الأمن في الولاية، سيدفع له تعويضًا عن الأذى الذي أصابه جرّاء عضة الكلب، فإذا بالضحية يصبح هو المجرم الذي أخلَّ بأمن الولاية إخلالاً يوجب إنزال أقصى العقوبات. والمفارقة المضحكة/المبكية الأخرى هي أن تقع "الجريمة،" ويصدر تقرير رسمي بشأنها، ويُحكم على المتهم البريء بالإعدام، كل ذلك في يوم واحد فقط!
    أما المفارقة الكبرى فتتجلى في توزيع الأدوار التي تؤديها الأسماء والأفعال في القصيدة توزيعًا يشكل ما يُسمَّى في الأسلوبية نمط واجهة a foregrounded pattern، أي أن تتكرر سماتٌ نصية معينة لتشكل نمطًا أسلوبيًا بارزًا على وجه النص. فعلى صعيد أسماء الفاعل تبرز لفظتا الوالي وحارس الأمن، وكلاهما يدل على فاعلية حقيقية، لذلك يمكن أن نطلق عليهما، من باب التوسع في الدلالة، مسمى agentive subjects، التي يُعَرِّفها مبارك مبارك بأنها "حالة الاسم عندما يكون فاعلاً حقيقيًا بغض النظر عن رتبته قبل أو بعد الفعل." ويرتبط هذا النوع من الأسماء الدالة على الفاعلية، حسب رأي ڤيردونك، بمدلولات مثل القَصْدية، وإتيان الفعل عن وعي، والتفاعل، والسيطرة، والمسؤولية. والغريب أن لفظة الوالي لا ترد لا عاملاً لفظيًا ولا معنويًا لأي فعل في القصيدة على الإطلاق، إلا أننا نشعر بسطوته وبطشه من خلال أداتيه: الكلب وحارس الأمن. أما لفظة الكلب فترد مرتين في القصيدة، ويكون عاملاً لثلاثة أفعال هي على التوالي (عض، مات، تسمم)، إلا أنه لا يكون فاعلاً حقيقيًا إلا في الفعل (عض) حيث تجاوز ذاته وأحدث فعلاً على معمول به، أما في الفعلين الباقيين فقد جاء الفعل لازمًا، أي إنه فاعل لفظي ليس إلا. وهنا لنا أن نتساءل: هل قصد الشاعر في فِعْلَي (مات وتسمم) اللذين لم يتجاوز فيهما الفاعل ذاته أن موت الكلب وتَسَمُّمَه لم يكونا بفعل فاعل؟
    وما أداه اسما الفاعل من مفارقة، تعززه كذلك الأفعال بعواملها ومعمولاتها. استخدم أحمد مطر في القصيدة ستة أفعال، وهي على التوالي: (1) عضَّ، (2) ماتَ، (3) دعا، (4) أُعْدَم، (5) أثبتَ، (6) تَسَمَّم. في ثلاثة من هذه الأفعال (1، 2، 6) العامل هو الكلب، أما الفعل (5) فالعامل فيه هو التقرير، بينما الفعل (4) ليس له عامل، بل نائب فاعل. والمفارقة تكمن هنا في أن هذا الفعل كان يمكن أن يمثل فرصة للضحية (الذي صار مجرمًا من حيث لا يدري ولا يحتسب) يؤدي فيها دور الفاعل ولو لمرة واحدة، لكن أحمد مطر أضاعها عن عمد بلجوئه إلى صيغة المبني للمجهول ليتحول الفاعل (ضمير المتكلم المستتر) إلى نائب فاعل. ونائب الفاعل، عند بعض النحويين، ما هو في الحقيقة إلا مفعولٌ لم يُسمَّ فاعِلُه. إذن، يرمي أحمد مطر من ذلك إلى القول إنه في ولايةٍ يتحول فيها الجلاد إلى ضحية، والضحية إلى مجرم، تظل السُّلطة الفاعلة والقصدية وإتيان الأفعال عن وعي حِكرًا على الكلاب وحُرّاس الأمن وكَتَبة التقارير. أما المواطن الغافل فينحصر دوره في أن يبقى مفعولاً به كما هو واضح في الفعلين (1، 3).
    كما أن استخدام صيغة المبني للمجهول له دلالة أخرى، برأيي. لقد حاججتُ آنِفًا أن أحمد مطر لم يُثبِت تسمم الكلب نتيجة عضه للرجل، ولم ينفِ بالمقابل أن الكلب قد مات بالسم. إذن، ألا يحق لنا أن نستنتج أن قرار الإعدام هو قرار تعسفي يعاقَب فيه "نائبٌ" عن الفاعل (أي إن المفعول به هو مجرد كبشِ فداءٍ مسلوبِ الإرادة يُنْحَر ليكون عِبْرةً لمن يعتبر) بينما يبقى الفاعل الحقيقي (إن وُجد) مجهولاً وربما طليقًا؟ كما نلاحظ أن خمسة من الأفعال عاملها معروف، أما عامل (أُعْدَم) فهو مجهول. فلماذا جاء هذا الفعل دون سواه بصيغة المبني للمجهول؟ ومن الذي سيقوم بفعل الإعدام، الوالي أم حارس الأمن؟ ولماذا لم يصرح أحمد مطر بهذا الفاعل؟ مِنَ المعروف أن للعدول عن ذِكر الفاعل أسبابًا كثيرة منها لفظية ومنها معنوية، ومن بين الأسباب المعنوية الموجبة لترك ذِكْر الفاعل هو أن يُصان الفاعل عن الاقتران بالمفعول به، تعظيمًا للأول وتحقيرًا للثاني.
    كذلك يُلاحَظ تقدم عامل (الكلب) على الأفعال الثلاثة (عض، مات، تسمم)، بينما تأخر عاملُ كلٍّ من فِعْلَي (دعا) و (أثبت)، أي حارس الأمن وتقرير الوفاة، على التوالي. صحيح أن لضرورة الوزن دورًا في هذا التقديم والتأخير، ولكن الأوزان ليست قالبًا موحَّدًا تخضع له جميع الصيغ اللغوية. فالشاعر يستطيع أن ينتقي من الأوزان المتعددة ما يوافق أغراضه، تمامًا كما ينتقي مفرداته. وبناءً عليه، يمكننا أن نستشف دلالةً لتقديم الشاعر للفاعل حينًا، وتأخيره حينًا آخر. يبين الدكتور علي أبو المكارم أن تقدم الاسم أو تأخره في جملتين مثل (ضاع الحق، والحق ضاع): "مرتبط بأهمية المتقدم بالنسبة للعناصر أو الأطراف المشاركة في الموقف اللغوي، فدلالة هذا التقدم إذن ترتد إلى محاولة المتكلم تلبية احتياجات الظروف المؤثرة في الموقف اللغوي." لا شك أن الكلب هو العنصر الأبرز، ليس في الموقف اللغوي فحسب، بل في الموقف الشعري الذي تسعى القصيدة أن تخلقه منذ سطرها الأول، فلا عجب إنْ تَقَدَّم على كل فعل يكون فيه هو الفاعل، بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ. أما لماذا تأخر الفاعل في الجملتين الأخريين (دعاني حارس الأمن، أثبت تقرير الوفاة)، فيمكن القول إن الشاعر تعمَّد ذلك ليثير فضول القارئ وتَشَوَّقه لمعرفة عَمَّن ستصدر الدعوة التي تلَقاها المتكلم المعتدى عليه وما ستؤول إليه من جائزة أو جزاء، وكذلك لمعرفة ما سيثبته التحقيق في أسباب وفاة الكلب المعتدي، لِيُحدثَ الصدمة لدى القارئ الذي يكتشف أن الكلب مات مسمومًا بسبب عضه للرجل، كما يزعم التقرير.
    القاموس القَرَقوشي
    وهناك نمط آخر يبرز على واجهة النص بشكل لافت، وهو طغيان الجملة الخبرية. وما يلفت الانتباه أيضًا هو أن مصير الضحية يُقرَّر بشكل تعسفي في الجملة الخبرية الثالثة في السطر الثالث، أي في الجملة الوسطى وفي السطر الأوسط بالضبط. هذا يقودنا إلى النظر في بقية الجُمل، لنجد أنها تعج بأخبارٍ إما تحكي عن صولات الكلب وبطولاته، أو تنعيه، أو تتوعد للثأر به (إذ إن موته مسمومًا تهديد يمس الأمن القومي لولاية قَرَقوشستان)، أو تثبت، من طريق الإيحاء الموارب، أن موته كان نتيجة مؤامرة وغدر! إذن، يريد أحمد مطر أن يقول إن مصير الرعية ومستقبلها يضيعان في حمأة الخطاب الإيديولوجي المسعور في قَرَقوشستان المسكونة أبدًا بشبح المؤامرات، الباطشة بالأبرياء، لا لشيء سوى ممارسة سلطتها السيادية. أما كون هذا المصير قد تحدد في السطر الأوسط، فربما لأن معاقبة البريء هي القضية المركزية بالنسبة إلى الوالي وكلبه وحارس أمنه!
    وأخيرًا، هناك نمط واجهة آخر محوره كلمة "الوالي." فعلى الصعيد اللفظي تختال هذه الكلمة البائدة مثل شبح في ثنايا نَصٍّ قِوامُه كلماتٌ من أبرز المفردات في قاموس السياسة القَرَقوشية المعاصرة (حارس أمن، إعدام، تقرير وفاة مُلَفَّق). لذلك يخلق حضورها الغرائبي نوعًا من التجاذب بين زمنين، الماضي الغابر والحاضر المُعاش. لكن ما الذي يرمي إليه الشاعر من استخدام هذه اللفظة البائدة؟ هل عجزت اللغة عن ابتكارِ مكافئٍ معاصرٍ لظاهرة الولاية الغابرة بما توحيه من حُمولة تاريخية ثقيلة، أم هو عُدول مقصود؟ لا شك أن الشاعر أراد أن يتوسَّل بهذه اللفظة النشاز ليخلق نوعًا من التناص التاريخي، إن جاز التعبير، بين الماضي والحاضر. قد يكون "الوالي" قد انقرض لفظًا، لكنه لم ينقرض بوصفه تجسيدًا معاصرًا لسياسة بائدة.
    واستطرادًا، لنا أن نزعم أنه بإمكاننا أن نستشف من توظيف الشاعر للفظة "الوالي" في السطر الأخير، مقارنةً بوظيفتها في السطر الأول، أن الوالي الغابر خيرٌ من الوالي المعاصر. ففي السطر الأول حين يقول "والينا المعظم" نجد أنه يتصل بكلمة "الوالي" (مَرْدوفةً بلقب التعظيم له أو لكلبه) ضمير المتكلم "نا" بينما جاءت في السطر الأخير مجردةً من أي اتصال من هذا النوع. وهذا أمر لافت، وله دلالته. ففي المرة الأولى، يتحدث المتكلم عن الوالي بشيء من الحميمية أوجبت وجودَ هذا الالتصاق المورفيمي بين المتكلِّم والمتكلَّم عنه (فالوالي مضاف ورعيته مضاف إليه، تجمعهما كلمة واحدة). فالوالي لم يُعَرَّف إلا من خلال اتصاله بضمير المتكلم، ولفظة "الوالي" ليست اسم علم بل مسمَّى معرفَّ بالإضافة. بمعنى آخر، لولا الرعية (المُومأ إليها في القصيدة بضمير المتكلم) لما صار الوالي مُعظَّمًّا، إذ إن أحد الأغراض التي يُؤتى بالمُسْند مُعَرَّفًا بالإضافة إلى شيء من المعارف هو التعظيم للمضاف أو للمضاف إليه. إذن، لا عجب أن تقترن لفظة "الوالي" بضمير المتكلم، ثم تُرْدَف بلقب "المعظم" (سواءٌ له أو لكلبه) إمعانًا في تعظيم الراعي والرعية في بداية الأمر. أما في السطر الأخير حين يقول "السيد الوالي،" فيستخدم لغةً رسميةً محايدة تنتفي منها الحميمية السابقة، إذ بعد حكم الإعدام الجائر لم تعد العلاقة بين الوالي وواحد من رعيته علاقةَ مضافٍ بمضاف إليه، بل علاقةُ سَيَّدٍ بِمَسِيْد، وليس بينهما إلا القطيعة وما يصنع حارس الأمن.
    ومما يلفت الانتباه أيضًا هو أنه حين وردت لفظة "الوالي" في السطر الأول وردت مردوفة بنعت "المعظَّم" (وهو اسم مفعول، أي يحتاج فاعله إلى من يُعظِّمه)، بينما في السطر الخامس وردت مشفوعةً بلفظة السيد (وهو اسم فاعل أيضًا، فلا يحتاج إلى مفعول يُسيِّده)، لَكَأنَّ الشاعر أراد باستخدام اسمَيْ فاعل مترادفين (السيد الوالي) أن يوحي بتغير حاد في وعي الرجل الغافل الذي أدرك متأخرًا أن الوالي هو الآمر الناهي الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه. أمَا وقد تبين لهذا السادر في أوهامه حقيقة كونه أحد رعايا الوالي لا مواطنًا، فلا عجبَ إن ضحّى به هذا الوالي، وعلى نحو عاجل، حزنًا على كلبه، وبَرًّا بمكانته، وإكرامًا لذكراه. إن والي قَرَقوشستان كالمنذر بن ماء السماء في يوم تَعْسِه، ولا بد أن يضحي بأحدهم، وعلى الضحية أن يتقبل الأمر بطيب خاطر، فالمسألة ليست شخصية، حاشى وكَلاّ. فالعصر عصر الولاة الكلاسيكيين، والسلطة عندهم سلطة سيادية، ولذلك فهي لا تخلو من ممارسات وتجاوزات تعسفية، كما يرى ميشيل فوكو: "لم يكن القصد من الإعدامات العلنية خدمة العدالة بالدرجة الأولى، بل هي استعراض لسلطة الملك. ولم يكن القصد من العقاب التكفير عن الجريمة، بل تعزيز السلطة السيادية والتوكيد على حريتها المطلقة وطبيعتها الاعتباطية المجانية. ولما كانت الجريمة إهانة لسيد البلاد، فلسيد البلاد مطلق الحرية في تعليق كلٍّ من القانون والانتقام عن طريق عفو يصدره على نحو مفاجئ في آخر لحظة." فإن عفا الوالي، وَجَب على المجرم البريء أن يدعو لولي نعمته بطول البقاء، وإن لم يَعْفُ، فَحَسْبُه أن يجترَّ مُعَلَّقة الثعبان المقدس التي وجهها لشحرورٍ غريرٍ، تلك المعلقة التي تصلح أن تكون النشيد الوطني لقَرَقوشستان:
    يا أيها الغِرُّ المُثَرثرُ إنني
    أرثي لثورة جهلك الثلاّبِِ
    والغِرُّ يَعْذُره الحكيمُ إذا طغى
    جهلُ الصبا في قلبِهِ الوثّابِ
    فاكْبَح عواطفَك الجوامح إنها
    شردت بِلُبِّك، واستمع لخطابي
    إنّي إلهٌ طالما عَبَدَ الورى
    ظِلّي وخافوا لَعْنَتي وعقابي
    وتقدَّموا لي بالضحايا منهمُ
    فَرِحين شأنَ العابدِ الأوّابِ
    وسعادةُ النفسِ التقية أنها
    يومًا تكون ضحية الأربابِ
    خاتمة
    وبعد، فقد تبين لنا من خلال القراءة الأسلوبية المتأنية لواحدة من قصائد أحمد مطر كيف استطاع الشاعر أن يشيد معماره الشعري الساخر بعبارات سلسة في لفظها، عميقة في غورها، معقدة في بنائها. كما بيَّنّا التشابكات اللغوية القائمة على التناقض الظاهري، والغموض، والمفارقة ليضفي على قصيدته وحدة عضوية متكاملة تشكل مُجْمل معناها. فمن التناقض شاد الشاعر مَداميك قصيدته، ومن الغموض اتخذ مِلاطًا يُثَبِّت به لَبِناتها، ومن المفارقة أقام أعمدة لا تستطيع القصيدة أن تنهض من دونها.
    ---------------------------
    د. موسى الحالول: أستاذ مشارك، قسم اللغات الأجنبية، جامعة الطائف

  • #2
    رد: الدكتور : موسى الحالول و فقه اللغة القَرَقوشية*

    شكرا يا دكتور على هذه الايضاحات الجميلة

    تعليق

    يعمل...
    X