إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الزهرة وحقل الشوك (5) - للروائي السوري المبدع (( حنا مينا))

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الزهرة وحقل الشوك (5) - للروائي السوري المبدع (( حنا مينا))

    رواية.. الزهرة وحقل الشوك (5)
    للروائي السوري المبدع (( حنا مينا))



    من هوام الأرض.. كفى! بقية الحديث غداً يا عزيزتي الفراشة.
    قالت الفراشة:
    ـ أنت على حق.. إلا أنَّ تأجيل الكلام على ما فعلته «العتَّه» الحقيرة بالملك «سليمان» يُعَدُّ تشويقاً!
    ـ وهذا ما أردته.. تصبحين على خير يا فراشتي الجميلة في شكلها، المزوّقة بألوانها، المخملية في لمسها.
    ـ وأنت بألف خير يا زهرة الأزهار وتحية لقوة وصلابة عزمك، أمام حقارة الأشواك التي تحيط بك!
    باتت الزهرة منتصبة على ساقها الأخضر، المغروس في الأرض الطيبة إنغراساً، لا سبيل إلى إقتلاعه إلا بقوة الإرادة التي تملكها الزهرة وحدها.
    وأغفت الفراشة الأم على غصن أخضر، أخطر على الأشواك من منجلِ حَصّاد، يجيد بتر السنبلة الملأى بحبات سمر، عصيّة على الأشواك، طيّعة للعصافير الصغار، ذات الزغب التي تكرّس نفسها دفعاً لكل من يريد، ولو بحنان، فرش مخملية جناحيها، ذاكرة «الحطيئة» وما اشتهر به من هجاء مرٍّ، حتى إنَّ الصحابي «عمر بن الخطاب»، المشهور بسماحة نفسه ورقة قلبه حبسه في بئر عميقة، لحماية الناس من مرّ هجائه.
    سألت الزهرة التي «لم يطل ليلها ولكن لم تنم!» الفراشة عمّا بها من قَلَقٍ أو سهد حرمها النوم حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل، فأجابت الفراشة:
    ـ للظلم يوم وللمظلوم يومان.. إنَّ حقد هذه الأشواك التي حولنا ذكَّرني بحقد «الحطيئة»، هذا الشاعر الذي سجنه الصحابي «عمر بن الخطاب»، لكفِّ شره عن الناس، فأرسل «الحطيئة»، وهو في قاع البئر، هذين البيتين من الشعر إلى «عمر بن الخطاب»:
    زغب الحواصل لا ماء ولا شجر! ماذا أقولُ لأفراخٍ بذي مَرَخِ
    فارحم عليك سلام اللـه يا عمر!! ألقيت كاسبهم في قعْر مُظلمةٍ

    وقد تأثر «عمر» حتى دمعت عيناه، فأخرج «الحطيئة» من البئر المظلمة، وأخذ عهداً عليه بالكفِّ عن الهجاء، وإمساك لسانه عن إلحاق الأذى بالناس، وأطلق سراحه.. ترى لو كنا في زمن هذا الصحابي الذي يُساء من الظلم، ويقاوم الشر بيده ولسانه، لا في قلبه فقط، حتى لا تكون مقاومته للشرور من أضعف الإيمان، ماذا كان يفعل بهذه الأشواك التي تتآمر عليك يا زهرتي الجميلة، وصولاً إلى قتلك إن استطاعت!
    قالت الزهرة:
    ـ أتظنين، يا فراشتي أنه كان يأمر بحرقها جميعاً؟
    ـ حرقها؟ لا إنه يقتلعها من شروشها دفعة واحدة، ومن المؤسف أن الفساد الذي شرّش في الأرض هذه الأيام، لا يجد من يقتله، لأن الفساد لا يكون إلا نبت الفاسدين، وللفاسدين مصالح مع هذا الفساد، فهل يهملون مصالحهم؟ هل يقلعون عينهم بإصبعهم؟ لكن مهلاً، فالله سبحانه يمهل ولا يهمل، ومنذ دخولنا في قميص الليل وأنا أردد: للظلم يوم وللمظلوم يومان!.
    ـ ولمن هذا التعبير الجيّد والمختصر عن الظلم والظالمين؟
    ـ لشاعر قال يوماً:
    ويا وطناً بالحب نكسو أديمه فيحرمنا حتى رضاه ويمنع
    أكذّب نفسي عنك في كل ما أرى وأُسمع إذني منك ما لا يسمعُ

    قالت الزهرة:
    ـ ما تقولينه عن الفساد خطيراً جداًَ!
    قالت الفراشة:
    ـ وما تضمرينه أنت عن قسوة الأشواك، وعن كيدها رغبة في قتلك أكثر خطورة!
    قالت الزهرة وبرودة الليل تئدها وأداً، وهي تضم أوراقها التي ستتفتح صباحاً، بعد أن انغلقت ليلاً:
    ـ إذ مضينا في الكلام على الفساد فنخسر قضيتنا، فالأشواك فساد من الفساد، بل هي التعبير الصارخ عن كل هذا الفساد، والإغضاء عنها إغضاء عن الفساد بدوره، وهذا ما يريده أصحاب الكراسي من المدراء فما فوق، هل أدركتِ الآن خطورة الموقف!؟.
    ـ أدركته تماماً، لكن علينا ألا ندير ظهورنا إلى الشر، فالطعنة في الظهر قاتلة، وليس الأمر كذلك مع الصدر، لأن المواجهة أقل ضرراً، وأوفر حظاً في النجاح، والمثل القائل «إذا كان عدوك يحمل سكيناً، فلا تحمل أنت أمامه وردة» يبقى صحيحاً!.
    قالت الزهرة:
    ـ ما تقولينه يا توْءمي، صحيح من حيث المبدأ، لكن الحرب خدعة، وحتى الكثير من السياسة لا بد له من الدهاء قليلاً، إن سياسة بغير دهاء سياسة ساذجة، تفي أن نكشف كل أوراقنا للخصم وعندئذ تصبح الخسارة مؤكدة.. أنت، يا فراشتي العزيزة، صغيرة بعد، ضئيلة التجربة بعد، وفي مواجهة هذه الأشواك التي تنزّ فروعها حقداً، لا تكفي الشجاعة وحدها، بل الاحتياط معها، وما الاحتياط في السياسة وفي القتال؟ إنّه عدم تمكين العدو من رؤية الأوراق التي في أيدينا، والسعي بذكاء لمعرفة أوراق هذا العدد، الموضوعة فوق الطاولة أو تحتها، لا فرق فالمهم الوصول بطريقة ما لمعرفة أوراق خصمنا.. إن البرازيليين هم الأبرع في لعبة «البوكر».
    ـ وما هي لعبة «البوكر» هذه؟ أنا لم أسمع بها من قبل!
    ـ هناك أشياء كثيرة لم نسمع بها، لم نرها، لم نلعبها، لكنها موجودة، وهي لعبة من لعب القمار، بل هي الألذ والأخطر بين ألعاب القمار، لأنها متفشية بين الرجال والنساء، وأمهر من يلعبها هم البرازيليون، والسبب في إطالة ظفر الأصبع الأصغر في اليد اليمنى، بدأ بها كل برازيلي مقامر أولاً، لأنه بهذا الظفر الطويل «يقرص» الأوراق، أي يخدشها بخفة فائقة، قد لا تجارى، وقد شاعت موضة إطالة ظفر الإصبع الأصغر حتى عندنا، لكنها غير ناجحة، ويُستخدم الظفر الطويل، بين شبابنا، ليس لخدش ورقة «الشدة» تماماً، بل لنكش الأسنان أحياناً!.
    ـ «أعوذ برب الفلق من شر ما خلق، خلق الإنسان من علق»
    أضافت الزهرة:
    ـ وعلم الله سبحانه وتعالى هذا الإنسان بالقلم «علمه ما لم يعلم» لكن القمار، وهو أشهر لعبة في التاريخ، تعلمها الإنسان من الشيطان لا من الرحمن، ومثل ذلك الدعارة فإنها، كما يقال، أقدم مهنة في التاريخ، وقد ابتعدنا، في حديثنا الليلة، عن موضوعنا الأصلي، وكان يدور عن العدو وأفضل طريقة للانتصار عليه.
    قالت الفراشة:
    ـ كما يشط القلم، يشط اللسان، غير أن بعض الشطط، في حديثك، يا كبيرتي الزهرة، أفادني كثيراً هذه الليلة.
    ـ أفادك بعضه فقط، أما «البوكر» وإطالة الظفر، فقد كانا جديدين عليك كما أظن، ولا حاجة لك بهما، أو بغيرهما من الأحاديث التي أبعدتنا عما نحن فيه من قصد، وهو الانتصار على شوك هذا الحقل!.
    قالت الفراشة:
    «يا بائع الصبر لا تشفق على الشاري»
    ـ جميل هذا الشعر، فمن قائله؟
    ـ المعلم «بطرس البستاني» من القرن التاسع عشر.
    ـ الصبر جميل، والصابر محتسب، يصل إلى حدِّ النبوّة، كما هي الحال مع النبي «أيوب» الذي يُضرَب به المثل!
    ـ كيف ذلك مع أن «أيوب» هذا من العهد القديم؟
    ـ الحكمة الأنقى من بياض الياسمين، حكمة البقاء، مهما تقادم معها العهد.. الحكمة ضالة المؤمن إن وحده! التقطها.
    أضافت الفراشة:
    ـ المعلم «بطرس البستاني» حضّ على الصبر، بيت الشعر لا يكتمل بشطره الأول، أو بالصدر دون العجز كما يقول اللغويون، وقد كان المعلم «البستاني» شاعراً حكيماً فقال:
    يا بائع الصبر لا تشفق على الشاري فدرهم الصبر يسوى ألف دينار

    ـ جميل ولكن انظري يا صديقتي الفراشة إلى هذه الشوكة الدنسة التي نبتت فجأة، هل تعرفينها؟
    قالت شوكة عصبية فاجرة:
    ـ هذه صديقتي، وهي تعيش حياتها بصدق وإخلاص، وقد تخرجت من مدرسة الشبق في أعلى درجاتها، فاتحة جسدها لمن يدفع من النساء.
    قالت شوكة أخرى:
    ـ إنها جديرة بالتكريم، ولكن لماذا النساء وليس الرجال؟
    ـ لأنها سحاقية، وذات سطوة على النساء السحاقيات، ولا قدرة لأيما امرأة على مخالفتها، إنها أستاذة في فنها، بارعة في انتقاء زبوناتها من الصبايا اليافعات المراهقات، الجميلات، ذوات النهود الكاعبات وحلماتهن الوردية، أو الحمراء كمنقار الحجل.
    صاحت الشوكة الفاجرة:
    ـ وما اسم هذه الفرس الأرِنَة، صاحبة المدرسة السحاقية؟
    ـ «لورانس شعلول»!
    ـ لم نسمع بهذا الاسم من قبل، زيدينا أيتها الشوكة التي تعرف ما لا نعرف، لأننا نتشوَّق إلى سماع قصص النساء اللواتي نبذنا العادية وقتلنها، فكل ما ليس مألوفاً في الجنس يجعلنا نلعن طريقة الآباء والأجداد.
    حطّ في هذه اللحظة باشق على الشوكة المقلمة، المفتونة بقصص الشذوذ الجنسي، وقضى عليها بمنقاره وأظفاره المعقوفة الرهيضة، وطار بعد أن أدى مهمته النبيلة هذه.
    تنفست الزهرة التي آلمها الحديث عن كل هذه المباذل، إلا أن الفراشة، الطالعة، قالت في ذاتها:
    ـ لا حياء في الدين.. ما سمعته كان قذراً، غريباً، إلا أنه كان مغرياً.. ترى يحدث هذا بين الفراشات من ذكر وأنثى؟ ولماذا نرفض سماع ما هو جديد، ومفيد، والجنس هو الجنس بين جميع الكائنات الحية؟
    قالت الزهرة بحنان:
    ـ هل أثارك ما سمعت!؟ هذا يحدث بين البشر وهو من عيب الكلام!
    قالت الفراشة:
    ـ أصارحك، يا عزيزتي الزهرة، إن ما قيل كان مغرياً.
    تَبَرت الزهرة:
    ـ مغرياً!؟ هذا الاسفاف كان مغرياً؟ وما الإغراء فيه؟
    ـ الجديد! كل ما هو مفيد، هذا قانون الحياة، علينا أن نتجدد!.
    ـ نتجدد بالفضائل لا بالرذائل.
    ـ لولا الرذائل ما كانت الفضائل، أجدادنا قالوا «بالغمد يعرف الصدّ»
    ـ دعينا من الجدلية هذه، نحن في حقل الشوك، وفي الكلام عن «ابن ديب» المحتال، عن اللطف واللطفاء، الذين علينا أن نخشى لطفهم لأنه في ملاسة الإفعوان، لكنه عند التقلُّب في أنيابه العطب، «ابن ديب» هذا هو الإفعوان الذي في أنيابه العطب، فقد خان والده الطيب وجلب العار لبيت «الديب» كلهم.
    قالت الفراشة:
    ـ يا زهرتي العزيزة الكلام عن «ابن ديب» هذا له أوانه، نحن في موضوع الجديد والتجديد، كنت أقول علينا أن نتجدد!
    ـ أنا أرفض أن يتجدد هذا الزمن الرديء.
    ـ وأنا كذلك، إنما علينا أن نتجدد ونُجدِّد، وأنت تخافين التجديد فلماذا؟
    ـ حتى لا يتجدد ما هو رديء.
    ـ الرديء كالحرباء، يُغيِّر لونه بسرعة، وما الرداءة إلا هذا الفساد الذي تجذَّر في أرضنا الطيبة الخيرة.. وفي جو الرداءة الذي يخيم علينا كالغمامة السوداء، تصبح الرداءة رغيفنا اليومي!.
    ـ مادامت الرداءة تتجدد، على البراءة أن تتجدد أيضاً، وإلا تخلّفت عن زمنها.. فاتها القطار كما يقولون!
    قالت الزهرة بهدوء وكياسة:
    ـ أيتها النحلة الصديقة، علينا أن نتذكر دائماً إننا في حقل الشوك، وأن الأشواك من حولنا، تتحين أية فرصة سانحة لتنقض علينا، هذه هي المسألة الخطرة التي علينا ألا نغفل عنها، أما الجديد والتجديد فله وقتٍ آخر.
    ـ إذا لم نكن مع الجديد والتجديد نتخلَّف، ويكيفنا ما نحن فيه من تخلف، ثم لماذا أنت تنقزين من كل ما يتعلق بالتجديد؟ هل تخافينه، واغفري لي إذا ما كنت قد تجاوزت حدودي، أو تخطيت الخط الأحمر، حسب التعبير الدارج سياسياً هذه الأيام.
    ـ الخط الأحمر تجاوزناه.. نحن في صراع مع الأشواك من حولنا، فما دخل السحاق والسحاقيات و«لورانس شعلول» هذه؟
    ـ لولا الرداءة، التي اتفقنا على تسيُّدها هذه الأيام، ما كان لأولاد «ديب» المحتالين أن تنبت لهم أظافر، الرداءة صارت خيمة، وتحت مظلتها يتلطوُّن، لولا خيمة الفساد لما وجد المنافقون ملاذاً، ولما كان هذا الفساد الذي له ما شئت من الأسماء، ومنها اسم «لورانس شعلول» السحاقية، التي مرد شذوذها إلى الفقر، ففي غرفة واحدة تسكن عائلتها، وفي هذه الغرفة كان والدها يمارس حقه الزوجي مع أمها، وكانت «لورانس شعلول» تسمع ما يدور من كلام فيه فحش بين هذين الوالدين، ومن هنا، من غرفة الفقر الوحيدة، نمت في وقت مبكر حواسها الجنسية، فمارست العادة السرية أولاً، ثم كبرت وخرجت تبحث عن ثمن الرغيف، من خلال الاتجار بجسدها، وعندما التقطتها امرأة ثرية، ووجدت لديها ما يُشبع رغباتها إلى المال والجاه، طاوعتها فيما تريده منها، وهو الممارسة السحاقية، ثم تركتها بعد أن تتلمذت على يديها، وراحت تشبع هوايتها السحاقية، مع هذه أو تلك من النساء ذوي الميول المنحرفة، والغنى الفاحش، إلى أن توفرت لها إمكانية العمل لحسابها الخاص، ففتحت بيتاً للشذوذ، هو الجامعة التي صارت لها كليات بعد ذلك، والدافع إلى هذا كله كان الفقر أساساً، ثم الهواية ثانياً، ثم الاتجار ثالثاً، ثم الجشع رابعاً!.
    قالت الزهرة للنحلة والأسى يرتسم على محياها:
    ـ شيء مؤسف! لكنني غير راضية عن الإطالة.. كان يمكن الاختصار، القول إن الفقر هو السبب، وكنت أوافق وأطلب الغفران لكل من خرج عن الطريق القويم!
    ـ الطريق غير القويم هو الفساد، والرداءة من نسله، والاحتيال من نسل الرداءة، وأنا، إذا سمحت لي بهذا، تعمَّدت الإطالة، كي أضع الإصبع على الجرح، على مكان المسمار، حتى يكون اليقين مبنياً على الحقيقة، وعندئذ ينتفي الشك، وهذا الشك، في الزمن الرديء هذا لا ينتفي إلا بالكشف عن جذور الواقع، وقد أطلت حتى تعبت من الجهد الذي بذلته للكشف عن الجذور، عن الأساس الذي هو الحامل لبناء الضلال، لبناء العمارة الرديئة كلها.
    قالت الزهرة للفراشة:
    ـ هل سمعت بالمثل القائل «اللبيب من الإشارة يفهم».
    ـ سمعت بهذا المثل، لكنه كان كافياً في الزمن الجميل الغابر، وليس في الزمن القبيح هذا!
    قالت الزهرة في محاولة تبريرية:
    هلاّ سألت الخيل عني يا ابنة مالكٍ إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
    يخبرك من شهد الوقيعة إنني أخشى الوغى وأعفُّ عن المغنم

    أجابت الفراشة:
    هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهُّمِ
    يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحاً دار عبلة واسلمِ

    تابعت الفراشة:
    أخطأ عنترة، فقد غادر الشعراء بعده الكثير من المتردمات، وإلا أين «البحتري»؟ وأين «أبي العلاء المعري»؟ وأين الشاعر الفحل «المتنبي»؟ إنما لا عيب في الخطأ، كلنا خطاؤون، كلنا نحتاج إلى الحجة والبرهان.. أنا، يا زهرتي، بعيدة عما فعلته «لورانس شعلول»، وبعيدة عن الانحراف في الجنس وغيره، إنما القول الذي لا برهان عليه، لابدَّ له، مهما يطل الزمن، من برهان، وكل خبيء سيبان، وكل منطق يحتاج إلى ردة الحجة بالحجة، وهذا هو علم المنطق باختصار!
    أجابت الزهرة:
    الزبد يذهب جفاء، هذا من التنزيل الحكيم، إلا أن الزبد ينثر رذاذاً، والرذاذ، في اصطدام الموجة العتية بالصخرة الأعمق، يصيب من يقترب منه ببعض الرذاذ، قصة «لورانس شعلول» قصة تروى، وقد أخذتك الحماسة في روايتها، فلماذا؟ هناك، في علم النفس، ما يُسمّى بخبث اللاشعور وفي إلتماعة عينيك ما ينطبق عليه القول الكريم «خائنة الأعين وما تخفي الصدور»، فما جوابك على القولين الآنفين!؟
    قالت الفراشة:
    ـ جوابي هو التالي:«إذا فسد الملح بماذا نملّح؟» هناك ملحٌ فاسد هذه الأيام، ورأس قانون الجزاء: «البادي أظلم» فمن الذي بدأ في دفع «لورانس شعلول» إلى ما اندفعت إليه من انحراف، أنا أم الفقر!؟ الجواب واضح: الفقر! حسناً من الذي تسبب في هذا الفقر؟ قال أحد الصحابة المكرمين «ما اغتنى غني إلا بفقر فقير» وفي عام المجاعة رفض «عمر بن أبي الخطاب»، كرَّم الله وجهه وعطّر مثواه، قطع يد السارق! ثم تابع طريقه في هذا الصائب من الحكمة عندما جاءه «أعرابي» وقال له: «يا عمر إبلي عَمَّها الجرب» فسأله عمر: «وما أنت صانع بها؟» أجاب الأعرابي: «إني أدعو لها الله» فقال له عمر: رفيقاً حدباً «حسناً تفعل، ولكن امزج الدعاء بالقطران».
    وقال «علي بن أبي طالب»، جزاه اللـه الجنة على ما قال: «لا تقسروا أولادكم على عاداتكم، فقد خلقوا لزمان غير زمانكم»، وأنا مع هذا القول الصائب، ومع هذا الزمن الذي تحكمه الرداءة، فهل نستكين لها؟ هل نترك هذه الأشواك تفتك بنا؟ أم ندفعها بالتي هي أحسن؟ أم نقاومها بما ملكت أيماننا؟ أم نتحالف مع «الباشق» عليها؟ أم نصبر ونصابر، وفق مقولة المعلم «بطرس البستاني».؟ أنا مع «الباشق» الذي بترها بتراً بمنقاره ومخالبه!.
    صاحت الزهرة:
    ـ ياللقسوة! أليس من طريقة أخرى لا قتل فيه ولا دمار؟
    قالت النحلة:
    ـ الشوكة لا دم فيها أولاً، وسلاحها الوخز بغير رحمة ثانياً، والمعركة معها لم تبدأ بعد ثالثاً، وفي التردد، عندما تبدأ المعركة، نخسر، علينا أن نتحالف مع «البواشق»، كي نقطع أعناق كل شوكة عتية قطعاً باتراً!
    قالت الزهرة:
    ـ أنت، يا صديقتي النحلة، تفضلين «القتل والقتال وجر الذيول».
    أجابت النحلة:
    ـ كتب «القتل والقتال» علينا، وعلى الغانيات جر الذيول، هذا هو بيت الشعر الذي يعبر عن كل منا.
    ـ ماذا تقصدين!
    ـ القصد واضح، فالزهر للتأنق، للجمال، لفتنة الرجال ورحم اللـه من قال:
    تزين الورد ألواناً ليفتننا أيحلف إنا ما فتناه

    نحن نقف أمام وردة ما، جورية أو شامية، فننفتن بها، لكن ألا تنفتن الوردة بنا بدورها؟.. أيحلف الورد أنا ما فتناه؟ أنت، أيتها الزهرة العزيزة، خلقت فتنة للقلوب، وأنا، النحلة، خلقت «للقتل والقتال» دفاعاً عن مناحلنا، وإلا ما كان الشهد، ولا العسل، أن بيت النحلة هو منحَلَتُها، فلا يدافع الكائن الحي عن بيته، في الجواب: نعم!
    يدافع، أي يقاتل، وهنا الفارق بين الزهرة والنحلة، أنت للفتنة، وأنا للقتال، لذلك لا بد من التحالف مع «الباشق» في المعركة الدائرة بيننا وبين الأشواك، وبذلك وحده ننتصر.. في الحرب، يكون الجندي قاتلاً أو مقتولاً، ولا مناص، إلا أن الحرب خدعة، وهذا معروف في تاريخ الحروب، فالفيلسوف الإغريقي «ارسطا طاليس»، أو «أرسطو» بإيجار، الذي رافق «الإسكندر المقدوني» في حروبه، علمه، في حروبه كلها، أن يعتمد مقولة «فرق تسْدْ» ولا تزال هذه المقولة معمولاً بها حتى اليوم، وقد دخلت في قاموس الحروب بكل أشكالها..
    قالت الزهرة:
    ـ وهل علينا أن نفرق بين الأشواك في صراعنا ضدها؟
    ـ هذا هو ما ينبغي.. نفرق بين الأشواك، لأنها ليست كلها على درجة واحدة من السعار في عداوتها لك.. الأشواك أيضاً ليست على درجة واحدة من الحقد والكيد، والشر، وعلينا أن نلاحظ ذلك بدقة المراقبة، ودقة الملاحظة، وأن نسعى لبث الفرقة بين هذه الأشواك.
    ـ وما هو دور «الباشق» في هذه الحال؟
    ـ دوره أن يقتل الشوكة القوية، القائدة، فينخلع قلب الشوكة الجبانة، التابعة..
    ـ هذه الأفعال لها نسب كبير في الشر.. أنا لا أريد أن أكون شريرة حتى مع أعدائي.
    ـ وإذا كان هؤلاء الأعداء من الأشرار فما نفعل.. نطلب لهم الرحمة والمغفرة؟
    لا نطلب لهم الرحمة أو المغفرة تسرعاً.. هذه تكون بعد التدقيق والاختبار.. في الحرب، يا زهرتي، لا بد من استعمال كل الأسلحة، وبينها السلاح النفسي.
    فالعدو يعرف هذا السلاح وقد يستخدمه ضدنا، لذلك علينا أن نفرق بين الشوكة القوية المتغطرسة وبين الشوكة الذابلة، الملتوية الساق، أو الناحلة من مرض أو خوف، فقد قال «عنترة العبسي»: «أضرب الضعيف فينخلع قلب الجبان، واضرب القوي، فارساً فوقه، فلا يبقي للقوم سوى الهرب من المعركة، تاركاً المغانم التي أعفُّ أنا عنها، لقد كنت عبداً عند «مالك العبسي»، وكان لي أخ يسمى «شيبوب»، من أم حبشية كانت جارية عند «مالك» هذا، فلّما هاجمه بعض أعدائه وأخذوه بغتة، كان «مالك»، والد «عبلة» بحاجة إلى من يحارب معه، ضد هؤلاء الأعداء المغيرين، وكان يعرف قوة شكيمتي التي لا تلوي، وجرأتي، وفروسيتي في ركب الخيل، ومهارتي في ضرب السيف، واستخدام السنان، لذلك قال لي:
    ـ يا عنترة كرّ
    فأجبته:
    ـ إنما أنا عبد، والعبد لا يغرف سوى «الحلب والصرّ»
    عندئذ قال لي الكلمة التي أريدها وأنتظرها وأراني جديراً بها:
    ـ كرّ يا عنترة وأنت حر!
    فكدت أنتشي فرحاً.. لقد أعتقني «مالك العبسي»، أمام وجهاء قومه، وأعتق معي أمي وأخي، فصرنا أحراراً وانتهت عبوديتنا وصرت جديراً بابنته «عبلة» التي أحبها، ومن أجلها اندفعت إلى المعركة بعزم.

  • #2
    رد: الزهرة وحقل الشوك (5) - للروائي السوري المبدع (( حنا مينا))

    مشكور المفتاح و مميز في اختياراته

    تعليق

    يعمل...
    X