إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الشرق العربي يسحر التشكيليين الغربيين ويحرض ملكاتهم الإبداعية بأساطيره وعوالمه اللونية الفريدة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشرق العربي يسحر التشكيليين الغربيين ويحرض ملكاتهم الإبداعية بأساطيره وعوالمه اللونية الفريدة

    الشرق العربي يسحر التشكيليين الغربيين
    ويحرض ملكاتهم الإبداعية بأساطيره وعوالمه اللونية الفريدة




    دمشق - سانا
    إذا كان الاستشراق في الأدب من أكثر الظواهر الثقافية والتاريخية مدعاة للتأمل والدراسة ولاسيما بعد الصدى الواسع الذي لقيته ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة فإن الاستشراق الفني لم يكن أقل قيمة منه وقد ظهرت أهميته عند فنانين عالميين أمثال دولا كروا وماتيس وبول كلي وغيرهم كثير.
    وقد وقف هؤلاء الفنانون مدهوشين أمام سحر وجمال وشمس الشرق العربي وأمام الخصائص البيئية والحضارية والمعمارية والإنسانية التي يتميز بها فقاموا بتسجيل دهشتهم وانبهارهم في لوحات فنية شهيرة بعضها نقل عن الواقع مباشرة وبعضها الآخر نسجه الخيال المشبع بأساطير وحكايا الشرق.

    ويربط الدكتور محمود شاهين عميد كلية الفنون الجميلة بين ترجمة الكتب التي تتحدث عن الشرق إلى لغات أوروبية ولاسيما ألف ليلة وليلة وبين ظاهرة الاستشراق الفني بقوله لوكالة سانا.. إن الفنانين الغربيين استخلصوا من هذه الكتب صوراً وتخيلات حول الشرق البعيد المسكون بضوء الشمس والأساطير الساحرة وحكايا الغموض والأسرار والعوالم المجهولة التي طالما هفت إليها عقولهم وأرواحهم لكونهم لمسوا فيه نكهة مختلفة تماماً عما هو سائد في بلادهم.
    بينما يرى الناقد الفني سعد القاسم أن الكتب المترجمة خلقت فضولاً عند الأوروبيين أن يعرفوا أكثر عن الشرق بدليل أن قسماً كبيراً منهم بنى فهمه لهذه المنطقة من خلال كتاب ألف ليلة وليلة.
    وتشير الدراسات الفنية إلى أن اللقاء الأول بين الشرق والغرب على صعيد الفنون التشكيلية حصل من خلال واقعة تاريخية حيث شجع التوسع الأوروبي في القرن التاسع عشر على الاهتمام بالشرق في الميادين الأدبية والفنية فابتكر الرسامون أعمالاً شكل الشرق فيها عنصراً أساسياً بالاعتماد على رحلات بعض كبار الرسامين كرحلة غرو وجيروديه إلى مصر وديلا كروا إلى المغرب عام 1832 وشاسيريو إلى الجزائر عام 1846 والتي كان لها أثر حاسم على إبداعهم الفني.
    وهنا يصنف الناقد التشكيلي أديب مخزوم الرسامين الأوروبيين في مجموعتين الأولى نظرت إلى الحياة والحضارة العربية نظرة ناقصة واستعمارية ومبتورة ومجموعة أخرى حملت لوحاتها شحنات كبيرة من الصدق وقدمت شهادة حقيقية عن الحياة العربية وخصوصيتها المتفردة وقال.. إن بعض الفنانين المستشرقين الأجانب رسموا مقاومة العرب للغزاة وأبرزوا أجواء السجون وفضحوا الظلم والقهر وشراسة الاستعمار.
    ويدعم القاسم هذا التصنيف بقوله.. إن المجموعة الأولى جاءت بغايات سياسية لإظهار الشرق بحالة متخلفة وبأن الغرب يتحمل مسؤولية تحضيره بينما جاءت المجموعة الثانية برغبة المثقف العارف والمستطلع عن ماهية الشرق وما يضمه مضيفاً.. إن الفنانين الغربيين الموضوعيين قدموا الشرق بحقيقته أمثال الفنان الفرنسي دولا كروا الذي ذهب إلى شمال أفريقيا وصور الفرسان المغاربة والجزائريين وصراعهم مع الحيوانات الضارية في تبيان للشجاعة التي يتصفون بها إضافة إلى بعض الفنانين الذين رافقوا نابليون في حملته على مصر.
    وتؤكد الأبحاث والدراسات أن الفنانين المستشرقين الذين حاولوا في أعمالهم تكريس النظرة الاستعمارية الغربية صوروا الشرق دون أن يأتوا إليه وبالتالي فإنهم كانوا يرسمون ما يهدفون إليه من نوايا معتمدين على خيالهم وتخميناتهم لا أكثر.
    وفي هذا الإطار يبين القاسم أن المتلقي يمكنه التمييز بين الفنانين المستشرقين الموضوعيين والآخرين أصحاب الغايات من خلال التمعن في المناخ اللوني لمنتوجاتهم الفنية ولاسيما لجهة سطوع النور.
    من جهة أخرى يعزو الدكتور شاهين هاجس اتجاه فناني الغرب إلى خارج بلادهم وبحثهم عن رؤى مختلفة إلى قيام الثورة الصناعية فيها وسطوة الميكانيكية على حياتهم وتكالب الحروب على بلادهم وقال.. إنهم وجدوا في سحر الشرق المفعم بالحكايا والأساطير والغموض المثير مادة غنية لفنهم ونبعاً لقيم إنسانية زاخرة متجددة افتقدها الغرب في زحمة تطوره التكنولوجي المتسارع والمخيف.
    وعدا عن بحثهم في مواضيع مختلفة فإن الفنانين الغربيين بحسب القاسم كانوا يبحثون عن عوالم لونية جديدة ولاسيما مع انبهارهم بالضوء الساطع والصريح الذي يتميز به الشرق وقال.. إن السطوع الذي يمكن لحظه في اللوحات المنجزة خلال تلك الفترة هو ما يميز الفنانين الذين عاينوا الشرق بشكل حقيقي وهذا الأمر يمتد حتى الآن ولم يقتصر فقط على بداية مرحلة الاستشراق الفني.
    أما المواضيع التي عالجها الفنانون المستشرقون في أعمالهم الفنية فكانت متعددة ومتنوعة حيث نجد المساجد والحارات ومظاهر الفروسية والصحارى والطبيعة والإنسان العربي بلباسه التقليدي إلى جانب المدن كالقدس ودمشق والقاهرة وبيروت إضافة إلى تصوير مشاهد الطرب المستوحاة من حكايا ألف ليلة وليلة ويضيف إليها القاسم مجالس التدريس وحلقات العلم أوما يسمى بالكتاتيب والصناعات الشرقية الخاصة كالسجاد والنحاسيات وغيرها.
    وفي أكثر من تجربة استشراقية رائدة ازداد تعلق الفنان الأوروبي بالأجواء العربية المعمارية والشعبية والزخرفية كما صور الشخصيات النبيلة العربية والخيول المطهمة مع التأكيد على اللون الشرقي الساطع القادم من تأملات المشهد الريفي أو البحري أو الصحراوي.
    ومع ذلك فإن الفنان الأوروبي وفق ما يقوله الناقد مخزوم كان سباقاً في إعطاء المعطيات البيئوية والمعمارية والزخرفية نفحة تلوينية عفوية ومتحررة وهذا ما نجده بشكل واضح في أعمال الفنان الفرنسي هنري ماتيس الذي ساهم إلى حد بعيد في إزالة الحدود الفاصلة بين الفنون الزخرفية الهندسية التقليدية وبين معطيات الفنون الأوروبية حين أعاد صياغة تلك الزخارف والنقوش معتمداً على اللمسة اللونية العفوية والتلقائية والمرتجلة والبعيدة كل البعد عن الرصانة العقلية التي استمرت في الفنون العربية لعدة مئات من السنين وبذلك فإن أعمال ماتيس تشكل نهاية لتقاليد فنية بكاملها أي التقاليد الزخرفية الهندسية غير أنه بداية لتقاليد جديدة في الفن الاستشراقي الأوروبي.

    ويبرر الدكتور شاهين التفات فناني الغرب نحو محرضات الشرق التي لا تحصى لإبداعاتهم ومعالجتهم الدقيقة لعناصر الشرق وموضوعاتهم لكونهم راوحوا قروناً طويلة في موضوعات وأشكال الفن اليوناني والروماني.
    ويستشهد عميد كلية الفنون بما جاء في كتاب الدكتور عفيف بهنسي أثر العرب في الفن الحديث فيقول... إن العمارة العربية وتاريخ الفن الإسلامي كانا ومازالا موضع اهتمام الغربيين فمنذ عام 1480 فتن الفنان الإيطالي الشهير جنتيلي بلليني بعد أن عاش معالم الحضارة العربية بعادات شعوبها والأزياء وطرز العمارة والزخرفة والمنمنمات الفنية فكانت مصدر إلهامه وزاد الكثير من الفنانين الذين جاؤوا بعده أمثال كارباشيو الذي رسم الناس بالأزياء الشعبية العربية وفيرونير الذي كسا شخوصه بقماش البروكار إضافة إلى لارجيليه الذي استهوته الملابس العربية البهية والأنيقة.
    كما تخير فنانون آخرون موضوعات متنوعة كما في لوحة المدافعون عن القاهرة للفنان جيروديه والمصابون بالطاعون في يافا للفنان لغيرو.
    هذه المظاهر رصدها الفنانون الغربيون بلغة فنية كلاسيكية رصينة شديدة الإتقان ويقول القاسم إنهم استخدموا الأسلوب الواقعي الكلاسيكي الذي كان سائداً حينها كما استخدموا تقنية الألوان المائية بشكل واسع لأنها كانت الأقدر على إظهار الضوء الذي طالما بحثوا عنه.
    ويبرر القاسم غلبة الاتجاه الواقعي الكلاسيكي على منجز الاستشراق الفني بأن التيارات المعاصرة لم تكن قد نشأت بعد ففي تلك الفترة كانت بدايات المدارس الرومانسية والواقعية والكلاسيكية الحديثة وقال.. بعد أن انتهت موجة الاستشراق وتحديداً في نهايات القرن التاسع عشر بدأت مدارس الفن الحديثة كالانطباعية وما تلاها.
    بينما يجد الناقد مخزوم أن الاستشراق لم يكن في كل مرحلة من مراحله المتعاقبة منذ عصر الاستشراق الرومانسي الذهبي في النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى الاستشراق التجريدي مروراً بالاستشراق الانطباعي إلا الجسر الذي عبرت من خلاله مجمل الاتجاهات والتيارات التشكيلية الأوروبية الحديثة والمعاصرة إلى المحترفات والمعارض الفنية العربية.
    والاستشراق الأوروبي بحسب الناقد مخزوم كان بمثابة الشرارة التي أطلقت عبر الانطباعية الفرنسية وما بعدها موجات التجديد والحداثة في فنون القرن العشرين كما أن هذا الاستشراق أوجد خصائص لونية جديدة للوحة الشرقية منطلقها واحد ما جعل الفنان التشكيلي العربي فيما بعد يكتشف أن ثمة لوناً بيئوياً تأثر بمناخ لوني وضوئي واحد وتغيرات لونية متماثلة مستمدة من أضواء ونورانية الشرق.
    وعلى صعيد آخر يحدد الدكتور شاهين عام 1860 تاريخاً أساسياً لتبدل الرؤية الاستشراقية بعد أن تحدث إدغار كينيه عام 1842 عن نهضة شرقية حاملة للإنسانية الجديدة وافتقاد الحلم الرومانسي لسحره وجاذبيته وقال.. إنه مع تطور الأبحاث الخاصة بالضوء واختراع آلة التصوير تنامى التيار الواقعي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ما أدى إلى التجديد في الرؤية والتعبير عن الشرق بالرسم والتصوير الضوئي ووضحت الرغبة في فهم وتحديد مشهد ما على حقيقته دون تجميل أو تزييف.
    واعتبر شاهين أن فناني الغرب اهتموا خلال تلك الفترة بتقديم مشاهد حقيقية بتفصيلات وتركيبات محددة أمينة وصادقة ومع بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر تغلب التيار الواقعي للتصوير الاستشراقي وتبدلت المفاهيم والمعاني فكان للتيار الرومانسي سمة بارزة.
    ولا يختلف الاستشراق المعاصر وفق الناقد القاسم عن الاستشراق في ملامحه الأولى وقال.. إن الاستشراق المعاصر هو في الغالب امتداد للاستشراق السابق وينهل من المنهل نفسه حتى إننا نجد نفس الصورة النمطية الشرقية الموجودة في الغرب.
    وصنف القاسم الفنان الغربي المعاصر في فئتين الأولى رسمت صورة متخيلة عن الشرق إذا زارت الشرق تبحث عن عناصر تتناسب مع الصورة المسبقة التي كونها أما الثانية وهي نادرة تتجه إلى مضامين حقيقية ومعاصرة عن الشرق وبرر ذلك بأن المعاصرة نادراً ما تغري الفنان الذي يميل في الغالب إلى أشياء لها علاقة بالخصوصية الجمالية التي أكثر ما تكون في البيئة المحلية.
    وإذا كان الفنانون الغربيون الكبار أمثال بول كلي ودولا كروا أعادوا تنشيط بعض علامات الخزان الرمزي والجمالي للشرق وإذا كان أغلبهم جعلوا من الشرق موضوعاً لتفكيرهم ولمعرفة مقوماته ونقاط ضعفه وقوته فإن ما يمكن تأكيده أن الرسامين الغربيين جاؤوا إلى الشرق لإغناء مخيلتهم وللاشتغال على أشياء مختلفة غير موجودة أساساً في ثقافتهم ومداهم البصري ولاسيما أن التراث العربي كان ولا يزال مليئاً بالكثير من الصور والرموز والأشكال والإحالات الفنية والجمالية.
    باهل قدار
يعمل...
X