إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التايه - قصة قصيرة - للأديب القاص محمد يوسف الزهرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التايه - قصة قصيرة - للأديب القاص محمد يوسف الزهرة

    قصة قصيرة
    التايه
    محمد يوسف زهرة

    كان اسمه دائماً يثير فضول المتلقي:
    ( معيطي ولد التايه .. المظلوم الملقب بالساجد ) أليس غريباً هذا الاسم ..؟ أجل ..! لا يقل غرابة عن تلك الشخصية العجيبة التي غابت عني في النصف الأول من العقد التاسع من القرن العشرين حين دار نقاش عنيف بيننا . في السياسة , و الفلسفة و الدين و الجنس و التاريخ . نقاش أشبه بمن يحطم شيئاً في أعماقه بناه بجهد السنين و عرق الكدح , و تراكم الكتب التي كانت على حساب اللقمة اللذيذة والقميص والبنطال الجديدين، أو رحلة ترفيهية مع الأصحاب والخلان، على حساب هذا وذاك كنا نشتري الكتاب و الخمرة , فنقرأ و نحتسي و نبني عالماً و أحلاماً , لذلك كان النقاش حاداَ و عاصفاً , كمن يقبض على معولٍ و يهدمُ قصراً بناهُ مكيلاً اللعنات على الماضي و الحاضر ..!
    يومها تكلم واحدنا مع الآخر كلاماً لم يكن من أخلاقيات تعاملنا . كان في الأعماق ندم مرعب ينهشنا معاً , ليس من أجلنا بل من أجل الأطفال الذين لم نفكر بهم أو بنا إلا في ضوء المصلحة العامة , ندم كذاك الندم الذي ينتاب الحفيد حين تلقنه جدته دروساً في بطولات جده الوطنية . حين كان فارساً يقتحم على جواده صفوف الأعداء , و يتلقى الطعنات في صدره , حتى جلا آخر جندي مغتصب عن أرض الوطن .
    ينمو الحفيد و تنمو معه قدسية الجد نمواً أخطبوطياً يرسل أذرعه الماصة عميقاً في الذاكرة حتى أن روح الجد تتقمص الحفيد , و فجأة يبدو العملاق صعلوكاً جباناً , و بعد معاينة الجثة وجد مطعوناً في ظهره ..! وذلك الألم الذي أصاب الحفيد أصابنا عندما سقط كل شيء و بدأ العالم يهتز كيوم الحشر , و راحت الناس تلجأ إلى خالقها مسبحة باسمه ليل نهار خاشعةً خاوية .
    لكن الوعي لم يستسلم , على الرغم من سقوط الركيزة الفلسفية , راح ينبش من أعماق الذاكرة أملاً يشبه أمل الصحابي الذي خطب في الناس قائلاً :
    ( أما بعد : من كان منكم يعبد محمداً , فإن محمداً قد مات ! و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ..!).
    ذلك الأمل كان يمدنا بطاقة الديمومة و بقاء الحواس تعمل بالتلقائية الكونية لمخزون الذاكرة المعرفي ذلك الأمل الشحيح من كان يخلق بعض التوازن في أرواحنا المتهالكة .. التعبى .. و المرهقة باللاجدوى , و بسقوط المقدس الذي كان يمد أحلامنا و أوهامنا بطاقته التي انهارت كلياً في عام 1990 .
    * * *
    كان ذلك في الوطن , حين افترقنا في يوم بارد جداً ... لم يودع أحدنا الآخر .. فقط وقف صديقي بجوار الباب بمعطفه الرمادي العتيق .. و قبل أن يدير مغلاق الباب بيده ذات القفاز الأسود نصف المهترئ ألقى علي نظرته الغامضة .. نظرة الأستاذ إلى مريدٍ جاحد.. نظرةً غاضبةً عاتبةً تلوح خلف أفقها عاطفة التسامح و التبرئة , لكن النظرة في ظاهرها كانت قاسية لينة متشائمة متفائلة , ثم أشاح بوجهه كمن يقول لي :
    - عليك اللعنة ...
    ثم انحني بكل حنان و كبرياء الإنسان المسلوب حتى أعمق أعماقه أمام قدسية شيء جليل... انحني ثم جثا على ركبتيه أمام ولدي الصغير الذي كان يحبه جدا و قال لي مازحا:
    - الولد أفضل من أبيه!.
    تغيرت تعاليم وجهه صارت ابتهاليه ... صارت مؤمنة أشبه بناسك يصلي لأيقونة آملا بأن تدب الحياة فيها، و يخرج الوعد من الأيقونة .. أية انطباعات طبعت في ذاكرة ذلك الطفل الذي كان ينظر إليه بعينين حائرتين جاحظتين و جريئتين لأنهما بلا ذاكرة ... ؟
    ترى أكان يتلقى حرفية المشهد بذاكرته اللا متناهية..؟!.
    قبل الطفل أخيرا و مضى دون أن ينظر إلي .. لا انكر أن رحيله أراحني و آلمني , و لكن ... أية راحة تلك التي تودع فيها حبيبا مكرها وقد ذهب للعلاج، فبقاؤه مؤلم و رحيله مؤلم.
    كان ذلك في الولايات المتحدة في الأشهر الاثنين و الثلاثين القلقة من أواخر القرن العشرين. يد تربت على كتفي . عندما كنت أملأ خزان وقود السيارة من إحدى المحطات في ( شيكاغو ) تهيؤاً للسفر إلى ( مشغن ) .. أذهلتني المفاجأة , بل أرهقني نبش الصور من ركام الذاكرة التعبى لأتأكد من هو ذلك الشخص الذي تجتاح وجهه ابتسامة ساخرة تطل من خلف حجبها ملامح عاطفة شامتة , و لكن لا يسعك إلا أن تقرأ ما بين إطارها شوقا و حنينا و مفاجأة , و ذلك ما مسح شاشة ذاكرتي عن آخر مشهد رأيته فيه قبل أن نلتقي ثانية حينما جثا أمام ولدي الصغير الذي كان يخطو خطواته الأولى و قبله و مضى بمعطفه الرمادي و قفازيه الأسودين المهترئين .
    بلا كلمات تعانقنا بقوة , ثم ابتعدنا بتلقائية كي ينظر أحدنا في عيني الأخر ليس توقعا لسماع كلمات العواطف التي تقال في مثل تلك المناسبات , بل ليقرأ كل منا التعابير التي تعجز الكلمات أن تصورها , ثم تعانقنا ثانية بقوة كأنما يريد أحدنا أن يدخل في الأخر و يذوب فيه مما أثار فضول زبائن المحطة الأمريكان . بل تجرأ أحد السود أن يعلق بعض التعليقات في إطار اخلاقيات المجتمع الامريكي... لكننا لم نعبأ بأحد ... كل ما كان يهمنا أننا التقينا , و تعانقنا مرارا و ضحكنا مثل ضحكات الأطفال الفرحين ... أو اقل مثل ضحكات مجنونة كانت تتدفق من الأعماق مجدولة بالألم الدفين من ماض قهرنا معا ... انسابت قطرات دمع , و تموضعت قرب الأخدود الصغير الفاصل بين أرنبة الأنف و الخد ثم اجتازت الأخدود لتنسفح على مساحة من الشفة العليا المتشنجة ثم كفكف كل منا خزي الرجولة بسرعة و سرية ... تلك الرجولة التي طبعت البادية ملامحها في ذاكرة كل منا.. كلانا كان يتمنى أن يقول شيئا , لكننا لم نستطع , و بعد أن ارتوى الموقف من سيول العواطف الصامتة المخزونة في الذاكرة قال لي :
    - أخيرا التقينا أيها الكاتب الصغير ... !
    - فقلت بارتياح :
    - أجل يا صديقي .. بل يا أستاذي المظلوم ..!
    * * *
    كانت الطريق الفاصلة بين ( شيكاغو و دترويت ) طويلة تزيد عن الساعات الأربع في السيارة , لكنها مضت مثل حلم جميل أملا بان نعيش معا في شقة واحدة بعد أن يصفي علاقاته في شيكاغو , و يرحل إلى مشغن . لقد كانت فرحتي لا تحاط .. ليس لأنني التقيت صديقاً حميما يشاطرني أفكاري فقط , بل لأني أملت ألا أشعر بالغربة القاتلة التي أعيشها بين من هم من أبناء جنسنا العرب .
    بدأت بترتيب الشقة حال وصولي , و بشكل خاص الغرفة التي سيشغلها صديقي , فقد اشتريت بعض الأثاث الجديد و بعض صور و لوحات صغيرة علقتها على جدران غرفة الاستقبال . و مزهرية وضعتها فوق التلفاز , و اشتريت القهوة العربية و الدلال رغم أنني لست شغوفا بالقهوة , و ابتعت أشياء أخرى من التراث من محلات العرب في مدينة ( ديربورن ) ليس من اجل صديقي ( معيطي التايه ) الذي سوف يمد محاولاتي الأدبية بشخصية فريدة و متميزة , بل من أجل أن أعطي انطباعا متميزاً لصديقته الأمريكية التي وعد أن يصطحبها معه لزيارتي حينما يأتي . أو ربما كي أقلب رملة على ضفاف ذاكرة الإنسان الغربي , و ما تحمله من قناعات تشل حركة العربي في الاغتراب .
    لا أدري لماذا ذهبت ثانية إلى ( ديربورن ) و اشتريت سجادة صلاة، رغم أنني لا أصلي , و لست متدينا لكنني في الوقت ذاته أحترام كل مقدسات الكائنات على السواء . و لا أخفيكم أنني اشتريت مجسما لبعير وضعته قرب دلال القهوة على طاولة الوسط في غرفة التلفاز , و لست أدري لماذا أوليته عناية خاصة على الرغم من أن الجمل عارٌ علي في بلاد الاغتراب فأنا في ذاكرة الأمريكي.. عربي / راكب الجمل / اجل أوليته عناية خاصة فاقت كل الترتيبات الأخرى حيث نقلته من مكانه مرارا, مرة أضعه أمام الدلال و تارة خلفها، وأخرى إلى اليمين أو اليسار , و رحت أتساءل في سري:
    - لماذا الجمل تحديدا ؟ ترى هل هو هوية يجب الدفاع عنها , أم أنه أحد رموز التراث البدوي الذي انطلق من جزيرة العرب يدب على أربع و فوقه أطفال و نساء تهتز مع إيقاع خطواته المرجوحية , ناشدات أغاني و قصائد الهرب من جزيرة الخواء و الجدب عبر شاطئ الأحمر إلى شواطئ المتوسط حيث الحياة أكثر أمانا , و هناك على ذاك الشاطئ شاءت المصادفة أن نكون و نحيا .. ترى هل أوليت ذلك المخلوق عناية خاصة لان في داخلي شيء من التحدي , أم ردة الفعل ....! ؟ ربما ... و من ردات فعلي أنني ذهبت أيضا إلى محلات العرب و اشتريت مجسما لحصان يمتطيه فارس يحمل سيفاً و ترساً , و يقف على بوابة القلعة في وضع من ينوي الاقتحام , و لا أخفيكم أنني أحتقر الغزو و أمقته , و لا أحب الحروب . و عندما أنظر خلفي عبر ذاكرة الخلية البشرية أبصق على قعقعة السيوف و حوافز الخيول , و عندما أصحو على الحاضر أوجه لعنتي على كل الرؤوس النووية , و أكره حتى العظم من يدير الحروب في نهاية القرن العشرين , لكنكم قد تسألونني لماذا اشتريت الحصان و الفارس رمز الحرب و الدمار ... رمز هولاكو و يتمورلتك و( ..... ) و جنكيز خان و أمثاله كثر في الإمبراطوريات القديمة و الحديثة ؟ قد لا استطيع إقناعكم عندما أقول لكم : هل شتم أحد عمدة قريتكم الذي تكرهونه و رددتم على الشاتم بالمثل .. ؟ ترى لماذا دافعتم عن العمدة الذي تكرهونه .. ؟
    أليس لان العمدة أضحى انتم في زمان و مكان مختلفين ... أي أنكم في الحقيقة دافعتم عن أنفسكم .
    تبدلت عاطفة الكره في الذاكرة مؤقتا ... أخذت شكلا آخر أشبه بحب كاذب. فسرعان ما تتبدل العاطفة و تعود إلى أصلها مع ذوبان الدافع و تلاشيه في غياهب الذاكرة مثل نيزك يضيع في فضاء .
    كانت فرحتي بمجيء صديقي و صديقته كبيرة، لكنها مقرونة بالحذر . تشبه تلك الفرحة التي تتشبع بها روح أم العروس في شرقنا الحزين . ذلك الفرح الممزوج بالخوف من مفاجأة الضجعة الأولى ... رقعة من جلد شفاف و قطرات من دم زهري اللون . تذكرت عمي عندما تزوج و جاءت أم العروس , فوقفت جدتي مثل نمرة تريد الانتفاض , فالويل للعروس و لأمها إن لم تحفظا المطلوب لابن جدتي . تلك الأحاسيس مما أشبعت فيها ذاكرتي من ماض بعيد عمره فوق الثلاثين عاما ... ! رغم أن صديقي و (ماجي) صديقته لم يأتيا لزيارتي. كانت تلك المتفرقات في الذاكرة تنمو مثل فطور أسطورية , تطفو على بحيرة الذاكرة التي إليها يعود تحديد مسارنا في حياتنا ... تناولت من البراد قنينة بيرة مثلجة أتيت عليها جميعها في جرعتين ... كانت باردة و لذيذة أطفأت لهبا ً كان يهدد أحراش أعماقي المليئة بكائنات ليست من هذا العالم !!
    اجل كانت تلك الكائنات تتكاثر بسرعة فائقة , لكن أعصابي هدأت بعيد البيرة المثلجة .. عدت أرتب الأشياء من جديد بأعصاب أكثر برودة من قبل , و لست أدري لماذا ربطت بين الفارس و القلعة , و بين عمي و جدتي , و العروس و أمها .. و ترددت في أن أرمي كل هذا الأشياء التي تعبر عن ماض غير حضاري في سلة القمامة و قلت في داخلي:
    - فكر جيدا يا هذا ... كل الشعوب لها ماض ذو وجهين ..أبيض وأسود. يجب علي ألا أرفع شعارات الماضي بوجهه الأسود و ألا أقول: كان جدي... ! و لا أحمل فكرة أحد و أتبناها ... علي أن ألاقح الأفكار جميعا كي تحبل الذاكرة بوليد جديد , و عندما يأتي ذلك الوليد فليتم تلاقح جديد كي يأتي ذلك الكائن الأكثر روعة من كل المواليد .
    15 آذار 1998 – East Pointe


    محمد يوسف زهرة
    العنوان البريدي للأستاذ الروائي : محمد الزهرة

    MichaeL YZ004&Yahoo.com

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
    التايه - قصة قصيرة - للأديب القاص محمد يوسف الزهرة
يعمل...
X