رد: شرح ثلاثة الأصول
وبعدها أُمر بالهجرة إلى المدينة.
والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
والهجرة فريضة على هذه الأمَّة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة.
والدليل قوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا{
[النساء: 97-99].
وقوله تعالى: }يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ{ [العنكبوت: 56].
قال البغوي رحمه الله تعالى: (سبب نـزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان).
والدليل على الهجرة من السنة قوله r: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».
ـــــــــــــــــــــــــــ
المعنى العام:
أي أنَّ النبي r بعد الثلاث عشرة سنة من بعثته أُمر بمفارقة المشركين وأوطانهم لأنه لم يتمكَّن من إظهار دينه والدعوة إلى الله تعالى.. وإظهار الدين فرض واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والنبي r لا يستطيع أن يقوم بواجب الدعوة إلى الله وتوحيده والإنذار عن الشرك كما أمر الله في قوله }قُمْ فَأَنْذِرْ{ [المدثر: 2] إلا بالهجرة، وكذلك صحابته رضي الله عنهم أُمِروا بالهجرة ليتمكنوا من إظهار دينهم.
«فأعلم الله نبيه r بما أراد المشركون حينما عزموا على قتله وأذن له بالهجرة وكان أبو بكر t قد تجهَّز للهجرة إلى المدينة فقال له النبي r: «على رِسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي»، فتأخَّر أبو بكر t ليصحب النبي r، قالت عائشة رضي الله عنها فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار إذا برسول الله r على الباب متقنعًا، فقال أبو بكر: فداء له أبي أمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر فدخل النبي r وقال لأبي بكر: «أخرج من عندك»، فقال: إنما هم أهلك، بأبي أنت وأمي. فقال النبي r: «قد أُذِن لي في الخروج»، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله. قال: «نعم»، فقال: يا رسول الله، فخذ إحدى راحلتي هاتين. فقال النبي r: «بالثمن»، ثم خرج رسول الله r وأبو بكر فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وكان غلامًا شابًا ذكيًا واعيًا، فينطلق في آخر الليل إلى مكة، فيصبح من قريش فلا يسمع بخبر حول النبي r وصاحبه إلا وعاه، حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام، فجعلت قريش تطلب النبي r من كلِّ وجه وتسعى بكل وسيلة ليدركوا النبي r، حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مائة من الإبل، ولكن الله كان معهما يحفظهما بعنايته ويرعاهما برعايته، حتى أنَّ قريشًا ليقفون على باب الغار فلا يرونهما. قال، أبو بكر t: قلت للنبي r ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا. فقال: «لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»، حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلاً خرجا من الغار بعد ثلاث ليال مُتجهين إلى المدينة على طريق الساحل.
ولَمَّا سمع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار بخروج رسول الله r إليهم، كانوا يخرجون صباح كلّ يوم إلى الحرة ينتظرون قدوم رسول الله r وصحبه حتى يطردهم حرَّ الشمس، فلمَّا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله r وتعالى النهار واشتدَّ الحرُّ رجعوا إلى بيوتهم، وإذا رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة ينظر لحاجة له، فأبصر رسول الله r وأصحابه مُقبلين يزول بهم السراب، فلم يملك أن نادى بأعلى صوته: «يا معشر العرب، هذا جَدُّكم - يعني هذا حظكم - وعزُّكم الذي تنتظرون»، فهبَّ المسلمون للقاء رسول الله r معهم السلاح تعظيمًا وإجلالاً لرسول الله r وإيذانًا باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه رضي الله عنهم، فتلقوه r بظاهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين ونـزل في بني عمرو بن عوف في قباء، وأقام فيهم بضع ليال وأسَّس المسجد، ثم ارتحل إلى المدينة والناس معه وآخرون يتلقَّونه في الطرقات.. قال أبو بكر t: خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون «الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد»([1]).اهـ
والدليل على أنَّ الهجرة فريضة على هذه الأمَّة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وأنها باقية إلى أن تطلع الشمس من مغربها.. قوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا{ [النساء: 97-98]
وقوله تعالى: }يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ{ [العنكبوت: 56].
وقوله سبحانه: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ{..
يعني ملك الموت وأعوانه، أو ملك الموت وحده، فإنَّ العرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع([2]).
و«التوفِّي»: قبضُ الرُّوح..
}ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ{ بالشرك أو بالمقام في دار الشرك، أو بخروجهم مع المشركين يوم بدر وتكثير سوادهم حتى قتلوا معهم.
}قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ{ سؤال توبيخ وتقريع.
}قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ{ عاجزين عن الهجرة.
}قَالُوا{ أي: قال لهم الملائكة.
}أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا{ أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من بين أظهر المشركين في مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، فأكذبهم الله في قولهم: كنا مستضعفين، وأعلمنا بكذبهم.
}فَأُولَئِكَ{ يعني: مَن هذه صفتهم.
}مَأْوَاهُمْ{ منـزلهم.
}جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا{ أي: بئس المصير مصيرهم إلى جهنم.
وسبب نـزول هذه الآية:
أنَّ قومًا من أهل مكة أسلموا، وتخلَّفوا عن الهجرة مع رسول الله r، وافتتن بعضهم وشَهِدوا مع المشركين حرب يوم بدر، فأبى الله قبول عذرهم، فجازاهم جهنم([3]).
روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ ناسًا من المسلمين كانوا من المشركين، يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله r يأتي السهم فيرمي به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنـزل الله: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ{([4]) الآية.
قال ابن كثير رحمه الله:
«هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حرامًا بالإجماع»([5]).اهـ
ثم استثنى الله سبحانه أصحاب العذر الذين علم الله ضعفهم منهم فقال: }إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ{ استثناء منقطع..
}مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً{ أي: لا يقدرون على حيلة ولا نفقة، ولا قوة لهم على الخروج؛ لفقرهم وعجزهم.
}وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا{ أي: ولا يعرفون طريقًا يسلكونه يوصلهم إلى مكان هجرتهم.
وتتمة الآيات: }فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا{ [النساء: 99]، أي: يتجاوز عنهم بفضله وإحسانه.
و}عَسَى{ وإن كان للإطماع فهو من الله تعالى واجب؛ لأنَّ الكريم إذا أطمع أنجز.
وفي الحديث «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله»([6]).
قال ابن عباس رحمه الله: كنت أنا وأمي من المستضعفين، وكان النبي r يدعو للمستضعفين.
تنبيـه:
نَقَلَ المؤلف كلام البغوي في تفسير قوله تعالى: }يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ{ [العنكبوت: 56] قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
«الظاهر أنَّ الشيخ رحمه الله نقل عن البغوي بمعناه – هذا إن كان نقل من التفسير؛ إذ ليس المذكور في تفسير هذه الآية بهذا اللفظ»([7]).اهـ
قلت: هذا هو الواجب تجاه نقل أهل العلم ألاَّ يُجزم بخطئهم أو وهمهم.
ويتعلَّق بكلام المؤلف مسائل:
المسألة الأولى:
الهجرة لغة: الترك، قال الراغب في «المفردات»:
«الهَجْرُ والهجْران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن أو باللسان أو بالقلب، والمهاجرة في الأصل: مُصَارَمةُ الغير ومُتَاركتُه، من قوله عز وجل: }وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا{ [الأنفال: 74]، }وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ{ [النساء: 100] فالظاهر منه: الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان، كمن هاجر من مكة إلى المدينة.. وقيل: مقتضى ذلك هُجران الشهوات والأخلاق الذميمة والخطايا وتركها ورفضها»([8])اهـ
والهجرة شرعًا: ترك ما لا يحبه الله ويرضاه والانتقال منه إلى ما يحبه ويرضاه.
ويدخل في هذا المعنى: ترك الكفر وترك البدعة وترك المعصية وترك بلد الكفر وترك كلّ ما لا يحبه الله ويرضاه.
أمَّا في الاصطلاح فكما عرَّفها المؤلف رحمه الله حيث قال: الهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
قال ابن القيم رحمه الله:
«ولله على كلِّ قلب هجرتان، وهما فرض لازم له على الأنفاس: هجرةٌ إلى الله سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والعبودية، وهجرة إلى رسوله r بالتحكيم له والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه وتلقِّي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته، فيكون تعبُّده به أعظم من تعبُّد الركب بالدليل الماهر في ظُلم الليل ومتاهات الطريق.
فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحثْ على رأسه الرماد، وليراجع الإيمان من أصله، فيرجع وراءه ليقتبس نورًا قبل أن يُحال بينه وبينه، ويقال له ذلك على الصراط من وراء السور، والله المستعان([9]).اهـ
وفي الحديث: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»([10]) فالهجرة لا يحرز فضلها إلاَّ من أعرض بقلبه وجوارحه عن كلِّ ما نهى الله عنه من ظاهر الإثم وباطنه.
وإنما سكت في هذا الحديث عن هجرة المكان لعلم السامعين بها، أو تنبيهًا على أنها أهون الهجرتين عملاً، على أنَّ تعريف الهجرة يشمل الهجرتين الحسِّية والمعنوية؛ لأنَّ كلمة: «ما نَهى الله عنه» تتناول الإقامة في دار الشرك أيضًا، والله أعلم.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
«فأصل الهجرة أن يهجر ما نهاه الله عنه من المعاصي، فيدخل في ذلك هُجران بلد الشرك رغبةً في دار الإسلام، وإلاّ فمجرَّد هجرة بلد الشرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامة كاملة، بل الهجرة التامة الكاملة هي هجران ما نهى الله عنه، ومن جملة ذلك: هجران بلد الشرك مع القدرة عليه»([11])اهـ
المسألة الثانية:
سبب مشروعية الهجرة: إنَّ المؤمن يجب عليه أن يُظهر دينه([12]) معتزًّا به، ففي هذا الإظهار والاعتزاز بيان للناس عن هذا الدين وإخبار لهم بشهادة الحق «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، فالإخبار بهذه الشهادة يكون بالقول ويكون بالعمل.
يقول ابن القيم رحمه الله:
«الإعلام والإخبار نوعان: إعلام بالقول وإعلام بالفعل، وهذا شأن كلِّ مُعلِم لغيره بأمر، تارة يُعلِمه بقوله وتارة يُعلِمه بفعله، فمن فعل الطاعات وتقرَّب بأنواع القربات فإنه مُخبِرٌ ومُعلِمٌ بشهادته لله أنه لا إله إلا هو»([13]).اهـ
تنبيـه:
بعضهم قال: الهجرة إلى المدينة هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهذه الهجرة أشدّ وجوبًا لأنَّ سببها أن يجتمع المسلمون في مكانٍ واحد.. وهذا القول لا دليل عليه، فسبب مشروعية الهجرة إظهار الدين لا أن يجتمع المسلمون.
المسألة الثالثة: حكم الهجرة:
إذا لم يستطع المسلم أن يُظهر دينه في بلد كفر وجب عليه مفارقة ذلك البلد والانتقال منه إلى غيره، وإذا كان يستطيع إظهار دينه في ذلك البلد استُحبَّ له أن يهاجر، وقد لا يُستحب له إذا كان في بقائه مصلحة دينية من دعوة إلى التوحيد والسنة وتحذير من الشرك والبدعة علاوة على إظهار دينه([14]).
أما قوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ{ [النساء: 87]، يعني لم يستطيعوا إظهار دينهم، فهذا هو معنى الاستضعاف..
}قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا{ [النساء: 97] فدلَّ على وجوب الهجرة لأنه توعَّدهم بالنار على تركها.
فالقصد الأول من الهجرة أن يتمكَّن من إظهار دينه ويعبد الله تعالى على عزَّة كما قال في الآية الأخرى }يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ{[العنكبوت: 56]
والاستفهام في قوله }أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا{ [النساء: 97] للإنكار، ومعلوم أنَّ ضابط الاستفهام الإنكاري أن يكون ما بعده غير صحيح، فإذا أزلتَ الهمزة وقرأتَ ما بعدها ووجدته باطلاً وغير صحيح فإنَّ الاستفهام للإنكار.
واستثنى الله جلَّ وعلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يقدرون على الهجرة والانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام أو لا يمكنهم معرفة الطريق ولا يهتدون إلى السبيل أو ما عندهم ما يركبون ونفقة السفر فهؤلاء قال الله عنهم }فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا{ [النساء: 99].
وهنا تنبيهان:
الأول- الهجرة من حيث وجوبها أو استحبابها أو غير ذلك متعلِّقة بالمسلم من جهة استطاعته إظهار دينه أولاً، وهذا يغنينا عن البحث حول تعريف دار الكفر ودار الإسلام في هذا الموطن.
الثاني- حُكم من ترك الهجرة مع القدرة ولا يستطيع إظهار دينه: ظالم لنفسه مرتكب لكبيرة وليس بكافر لقوله تعالى: }ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ{ ولقوله: }يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ{ [العنكبوت: 56].
«فأفاد أنَّ تارك الهجرة بعد ما وجبت عليه ليس بكافر لكنه عاص بتركها، فهو مؤمن ناقص الإيمان عاص من عصاة الموحدين المؤمنين»([15]).
المسألة الرابعة:
الهجرة من جهة مكانها هجرتان: عامة وخاصة، أما العامة فهي التي عرَّفها الإمام محمد بن عبد الوهاب بقوله: «الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام».
فهذه تبقى إلى قيام الساعة، ولكلِّ بلد يظهر فيه الشرك ويكون غالبًا، فإنَّ الانتقال منه يُسمى «هجرة».
أمَّا الهجرة الخاصة فهي الهجرة من مكة إلى المدينة، فالانتقال من مكة إلى المدينة في زمنٍ معيَّن انتهى بانتهاء كون مكة دار شرك، ولَما صارت دار إسلام بفتحها فإنه كما قال r: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»([16])، يعني لا هجرة خاصة من مكة إلى المدينة؛ لأنَّ الدار تحوَّلت إلى دار إسلام يستطيع المسلم أن يظهر دينه فيها([17]).
المسألة الخامسة:
ذكر الفقهاء من الحنابلة وغيرهم هجرة أخرى غير التي نتحدث عنها هنا وهي الهجرة من بلد يكثر فيها البدع والمعاصي إلى بلد تقلُّ فيها أو لا تظهر.
وذكر أهل العلم أنَّ مثل هذه الهجرة مستحبَّة؛ لأن بقاء المسلم في دار أهلها متوعَّدون بنوعٍِ من العذاب بسبب ظلمهم يعُرضه لتلك العقوبة.
قال الشيخ ابن قاسم رحمه الله:
«وكذلك يجب على كلِّ من كان ببلد يُعمل فيها بالمعاصي لا يمكنه تغييرها أن يهاجر منها»([18]).اهـ
وقد هاجر جمعٌ من أهل العلم من بغداد كالخرقي لَما علا فيها صوت أهل البدع وكثرت فيها المعاصي وظهرت، كالزنا وشرب الخمر([19]).. وبعض أهل العلم بقي هناك قائمًا بالدعوة إلى الله جلّ وعلا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأيضًا ترك بعض العلماء مصر لَما تولت عليها الدولة العبيدية فخرجوا منها إلى غيرها، وهجرة من كان في مصر قد تُحمل على أنها واجبة وقد تُحمل على أنها مستحبَّة على حسب من كان فيها هل يُظهر التوحيد والسنة ويتمكَّن من ذلك أم لا.
المسألة السادسة:
«الهجرة باقية إلى قيام الساعة» يعني إلى قرب قيامها وهو كما جاء في الحديث «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»([20])، فما دامت التوبة باقية فإن الهجرة باقٍ حكمها وهو الوجوب، وهو المعنى بقوله تعالى: }يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا{
[الأنعام: 158].
وقول المؤلف: (إلى قيام الساعة): أي طلوع الشمس من مغربها، وهذا الحدث قريب من قيام الساعة.
أمَّا ثبوت الهجرة من بلد الشرك إلى بلاد الإسلام وبقاؤها فمعلوم بالنصِّ والإجماع، جاء في الحديث «أنا بريءٌ من مسلم مات بين ظهراني المشركين»([21])، وقال r: «لا تراءى ناراهما»([22])، وقال: «الهجرة باقية ما قوتل العدو»([23]).
المسألة السابعة:
إظهار الدين لم يكن واجبًا أول دعوة محمد r، ثم أُمروا بإظهار الدين في قوله تعالى: }فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ{ [الحجر: 94] فابتُلي من ابتُلي من المؤمنين، ولم يستطيعوا إظهار دينهم، واستأذنوا النبي r بالهجرة إلى الحبشة فأَذِن لهم بالهجرة إليها الهجرة الأولى ثم الثانية، وقيل بأنَّ هناك هجرة ثالثة.
ثم لَمّا تبيَّن أنه لم يعد بالإمكان إظهار الدين بمكة بدليل تآمر قريش على قتل محمد r تعيَّنت الهجرة إلى المدينة.
فائـدة:
ابتدأ التاريخ الهجري بعد هجرة النبي r، قال السيوطي رحمه الله:
«روى ابن أبي خيثمة في تاريخه عن ابن سيرين أنّ رجلاً من المسلمين قدم من اليمن، فقال لعمر رأيت باليمن شيئًا يُسمُّونه التاريخ، يكتبون من عام كذا وشهر كذا، فقال عمر: إنَّ هذا لحسن فأرِّخوا.
فلمَّا أجمع على أن يؤرِّخ شاوَر: فقال قوم بمولد النبي r، وقال قوم بالمبعث، وقال قوم حين خرج مهاجرًا من مكة، وقال قائل: بالوفاة حين توفي، فقال: أرِّخوا خروجه من مكة إلى المدينة.
ثم قال: بأيِّ شهر نبدأ فنُصيِّره أول السنة، فقالوا رجب فإنَّ أهل الجاهلية كانوا يُعظمونه، وقال آخرون شهر رمضان، وقال آخرون ذو الحجة فيه الحج، وقال آخرون الشهر الذي خرج فيه من مكة، وقال آخرون الشهر الذي قدم فيه؛ فقال عثمان: أرِّخوا من المحرم أول السنة، وهو شهر حرام. وهو أول الشهور في العَدِّة، وهو مُنصرف الناس عن الحج؛ فصيَّروا أول السنة المحرم، وكان ذلك في سنة سبع عشرة.
وقد روى سعيد بن منصور في سُننه بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: }وَالْفَجْرِ{ [الفجر: 1] قال: الفجر شهر المحرم وهو فجر السنة.
قال شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله في أماليه:
«بهذا يحصل الجواب عن الحكمة في تأخر التاريخ من ربيع الأول إلى المحرَّم بعد أن اتَّفقوا على جعل التاريخ من الهجرة، وإنما كانت في ربيع الأول»([24]).اهـ
المسألة الثامنة: حكم السفر إلى بلاد الكفار([25]):
«السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلاَّ بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجًا إلى ذلك.
فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لِما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة وفيه إضاعة المال لأنَّ الإنسان يُنفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار.
أمَّا إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده عِلم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به».
المسألة التاسعة:
«الإقامة في بلاد الكفار خَطرها عظيم على دين المسلم وأخلاقه وسلوكه وآدابه، وقد شاهدنا نحن وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك»، فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فُسَّاقًا، وبعضهم رجع مرتدًا عن دينه وكافرًا به وبسائر الأديان والعياذ بالله، حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي - بل يتعيَّن - التحفُّظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهوى في تلك المهالك.. فالإقامة في بلاد الكفر لا بدّ فيها من شرطين أساسين:
الشرط الأول:
أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العمل والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ، وأن يكون مُضمرًا لعداوة الكافرين وبُغضهم، مبتعدًا عن موالاتهم ومحبتهم، فإنَّ موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان قال الله تعالى: }لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ{ [المجادلة: 22].
وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ{
[المائدة: 51-52]
وثبت في الصحيح عن النبي r «أنَّ من أحبَّ قومًا فهو منهم»([26])، و«أنَّ المرء مع من أحب»([27]).
ومحبَّة أعداء الله من أعظم ما يكون خطرًا على المسلم؛ لأنَّ محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم، ولذلك قال النبي r: «من أحبَّ قومًا فهو منهم».
الشرط الثاني:
أن يتمكَّن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يُمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يُصلي جماعة ومن يقيم الجمعة، ولا يُمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين، فإن كان لا يتمكَّن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ.
وبعد تمام هذين الشرطين الأساسين تنقسم الإقامة في دار الكفر إلى أقسام:
القسم الأول: أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه، فهذا نوعٌ من الجهاد، فهي فرض كفاية على من قدر عليها، بشرط أن تتحقَّق الدعوة وألاَّ يُوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها، لأنَّ الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين، وهي طريقة المرسلين، وقد أمر النبي r بالتبليغ عنه في كلِّ زمانٍ ومكانٍ فقال r: «بلِّغوا عنِّي ولو آية»([28]).
القسم الثاني: أن يُقيم لدراسة أحوال الكافرين والتعرُّف على ما هم عليه من فساد العقيدة وبطلان التعبد وانحلال الأخلاق وفوضوية السلوك؛ ليحذر الناس من الاغترار بهم، ويُبيِّن للمعجبين بهم حقيقة حالهم، وهذه الإقامة نوعٌ من الجهاد أيضًا لِما يترتَّب عليها من التحذير من الكفر وأهله المتضمّن للترغيب في الإسلام وهديه، لأنَّ فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام، كما قيل: «وبضدها تتبيَّن الأشياء»، لكن لا بدّ من شرط أن يتحقَّق مراده بدون مفسدة أعظم منه، فإن لم يتحقَّق مراده بأن مُنع من نشر ما هم عليه والتحذير منه فلا فائدة من إقامته، وإن تحقَّق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسبِّ الإسلام ورسول الإسلام وأئمَّة الإسلام وجب الكفِّ لقوله تعالى: }وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [الأنعام: 108].
ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عَينًا للمسلمين ليعرف ما يُدبِّرونه للمسلمين من المكائد فيحذرهم المسلمون، كما أرسل النبي r حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم.
القسم الثالث: أن يُقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتها مع دولة الكفر كموظفي السفارات، فحُكمها حُكم ما أقام من أجله، فالملحق الثقافي مثلاً يقيم ليرعى شئون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويدرأ بها شرًّا كبير.
القسم الرابع: أن يُقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتُباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نصَّ أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
القسم الخامس: أن يقيم للدراسة وهي من جنس ما قبلها وهي الإقامة لحاجة، لكنها أخطر منها وأشدُّ فتكًا بدين المقيم وأخلاقه، فإنَّ الطالب يشعر بدنوِّ مرتبته وعلوِّ مرتبة معلِّميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل، ثم إنَّ الطالب يشعر بحاجته إلى معلِّمه فيؤدِّي ذلك إلى التودُّد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال.
والطالب في مقرِّ تعلمه له زملاء يتَّخذ منهم أصدقاء يُحبُّهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله، فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسين شروط:
الشرط الأول:
أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميِّز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد، فأما بعث الأحداث (صغار السِّن) وذوي العقول الصغيرة فهو خطرٌ عظيمٌ على دينهم وخُلقهم وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإنَّ كثيرًا من أولئكم المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في دياناتهم وأخلاقهم وسلوكهم، ودخل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلومٌ مشاهَد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية.
الشرط الثاني:
أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكَّن به من التمييز بين الحقِّ والباطل، ومقارعة الباطل بالحقِّ لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقًّا أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل.
وفي الدعاء المأثور «اللهم أرني الحقَّ حقًّا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علي فأضل».
الشرط الثالث:
أن يكون عند الطالب دينٌ يحميه ويتحصَّن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله، وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم، فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوِّعة، فإذا صادفت محلاًّ ضعيف المقاومة عملت عملها.
الشرط الرابع:
أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من أجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من أجله لِما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة.
القسم السادس: أن يُقيم للسكن، وهذا أخطر مما قبله وأعظم لِما يترتَّب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودَّة وموالاة وتكثير لسواد الكفار، ويتربَّى أهله بين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم، وربما قلَّدوهم في العقيدة والتعبُّد، ولذلك جاء في الحديث عن النبي r: «من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله»([29])، وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر؛ فإنَّ المساكنة تدعو إلى المشاكلة، وعن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله t أنَّ النبي r قال: «أنا بريءٌ من كلِّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين»..
قالوا يا رسول الله، ولِمَ؟ قال: «لا تراءى ناراهما»([30]). رواه أبو داود والترمذي وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن أبي حازم عن النبي r.. وقال الترمذي: سمعت محمدًا – يعني البخاري – يقول الصحيح حديث قيس عن النبي r مرسلا.اهـ
وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلَن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده، ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دِينهم وأخلاقهم.
هذا ما توصَّلنا إليه في حُكم الإقامة في بلاد الكفر، نسأل الله أن يكون موافقًا للحقِّ والصواب.
وبعدها أُمر بالهجرة إلى المدينة.
والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
والهجرة فريضة على هذه الأمَّة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة.
والدليل قوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا{
[النساء: 97-99].
وقوله تعالى: }يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ{ [العنكبوت: 56].
قال البغوي رحمه الله تعالى: (سبب نـزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان).
والدليل على الهجرة من السنة قوله r: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».
ـــــــــــــــــــــــــــ
المعنى العام:
أي أنَّ النبي r بعد الثلاث عشرة سنة من بعثته أُمر بمفارقة المشركين وأوطانهم لأنه لم يتمكَّن من إظهار دينه والدعوة إلى الله تعالى.. وإظهار الدين فرض واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والنبي r لا يستطيع أن يقوم بواجب الدعوة إلى الله وتوحيده والإنذار عن الشرك كما أمر الله في قوله }قُمْ فَأَنْذِرْ{ [المدثر: 2] إلا بالهجرة، وكذلك صحابته رضي الله عنهم أُمِروا بالهجرة ليتمكنوا من إظهار دينهم.
«فأعلم الله نبيه r بما أراد المشركون حينما عزموا على قتله وأذن له بالهجرة وكان أبو بكر t قد تجهَّز للهجرة إلى المدينة فقال له النبي r: «على رِسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي»، فتأخَّر أبو بكر t ليصحب النبي r، قالت عائشة رضي الله عنها فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار إذا برسول الله r على الباب متقنعًا، فقال أبو بكر: فداء له أبي أمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر فدخل النبي r وقال لأبي بكر: «أخرج من عندك»، فقال: إنما هم أهلك، بأبي أنت وأمي. فقال النبي r: «قد أُذِن لي في الخروج»، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله. قال: «نعم»، فقال: يا رسول الله، فخذ إحدى راحلتي هاتين. فقال النبي r: «بالثمن»، ثم خرج رسول الله r وأبو بكر فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وكان غلامًا شابًا ذكيًا واعيًا، فينطلق في آخر الليل إلى مكة، فيصبح من قريش فلا يسمع بخبر حول النبي r وصاحبه إلا وعاه، حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام، فجعلت قريش تطلب النبي r من كلِّ وجه وتسعى بكل وسيلة ليدركوا النبي r، حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مائة من الإبل، ولكن الله كان معهما يحفظهما بعنايته ويرعاهما برعايته، حتى أنَّ قريشًا ليقفون على باب الغار فلا يرونهما. قال، أبو بكر t: قلت للنبي r ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا. فقال: «لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»، حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلاً خرجا من الغار بعد ثلاث ليال مُتجهين إلى المدينة على طريق الساحل.
ولَمَّا سمع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار بخروج رسول الله r إليهم، كانوا يخرجون صباح كلّ يوم إلى الحرة ينتظرون قدوم رسول الله r وصحبه حتى يطردهم حرَّ الشمس، فلمَّا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله r وتعالى النهار واشتدَّ الحرُّ رجعوا إلى بيوتهم، وإذا رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة ينظر لحاجة له، فأبصر رسول الله r وأصحابه مُقبلين يزول بهم السراب، فلم يملك أن نادى بأعلى صوته: «يا معشر العرب، هذا جَدُّكم - يعني هذا حظكم - وعزُّكم الذي تنتظرون»، فهبَّ المسلمون للقاء رسول الله r معهم السلاح تعظيمًا وإجلالاً لرسول الله r وإيذانًا باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه رضي الله عنهم، فتلقوه r بظاهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين ونـزل في بني عمرو بن عوف في قباء، وأقام فيهم بضع ليال وأسَّس المسجد، ثم ارتحل إلى المدينة والناس معه وآخرون يتلقَّونه في الطرقات.. قال أبو بكر t: خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون «الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد»([1]).اهـ
والدليل على أنَّ الهجرة فريضة على هذه الأمَّة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وأنها باقية إلى أن تطلع الشمس من مغربها.. قوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا{ [النساء: 97-98]
وقوله تعالى: }يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ{ [العنكبوت: 56].
وقوله سبحانه: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ{..
يعني ملك الموت وأعوانه، أو ملك الموت وحده، فإنَّ العرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع([2]).
و«التوفِّي»: قبضُ الرُّوح..
}ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ{ بالشرك أو بالمقام في دار الشرك، أو بخروجهم مع المشركين يوم بدر وتكثير سوادهم حتى قتلوا معهم.
}قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ{ سؤال توبيخ وتقريع.
}قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ{ عاجزين عن الهجرة.
}قَالُوا{ أي: قال لهم الملائكة.
}أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا{ أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من بين أظهر المشركين في مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، فأكذبهم الله في قولهم: كنا مستضعفين، وأعلمنا بكذبهم.
}فَأُولَئِكَ{ يعني: مَن هذه صفتهم.
}مَأْوَاهُمْ{ منـزلهم.
}جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا{ أي: بئس المصير مصيرهم إلى جهنم.
وسبب نـزول هذه الآية:
أنَّ قومًا من أهل مكة أسلموا، وتخلَّفوا عن الهجرة مع رسول الله r، وافتتن بعضهم وشَهِدوا مع المشركين حرب يوم بدر، فأبى الله قبول عذرهم، فجازاهم جهنم([3]).
روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ ناسًا من المسلمين كانوا من المشركين، يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله r يأتي السهم فيرمي به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنـزل الله: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ{([4]) الآية.
قال ابن كثير رحمه الله:
«هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حرامًا بالإجماع»([5]).اهـ
ثم استثنى الله سبحانه أصحاب العذر الذين علم الله ضعفهم منهم فقال: }إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ{ استثناء منقطع..
}مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً{ أي: لا يقدرون على حيلة ولا نفقة، ولا قوة لهم على الخروج؛ لفقرهم وعجزهم.
}وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا{ أي: ولا يعرفون طريقًا يسلكونه يوصلهم إلى مكان هجرتهم.
وتتمة الآيات: }فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا{ [النساء: 99]، أي: يتجاوز عنهم بفضله وإحسانه.
و}عَسَى{ وإن كان للإطماع فهو من الله تعالى واجب؛ لأنَّ الكريم إذا أطمع أنجز.
وفي الحديث «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله»([6]).
قال ابن عباس رحمه الله: كنت أنا وأمي من المستضعفين، وكان النبي r يدعو للمستضعفين.
تنبيـه:
نَقَلَ المؤلف كلام البغوي في تفسير قوله تعالى: }يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ{ [العنكبوت: 56] قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
«الظاهر أنَّ الشيخ رحمه الله نقل عن البغوي بمعناه – هذا إن كان نقل من التفسير؛ إذ ليس المذكور في تفسير هذه الآية بهذا اللفظ»([7]).اهـ
قلت: هذا هو الواجب تجاه نقل أهل العلم ألاَّ يُجزم بخطئهم أو وهمهم.
ويتعلَّق بكلام المؤلف مسائل:
المسألة الأولى:
الهجرة لغة: الترك، قال الراغب في «المفردات»:
«الهَجْرُ والهجْران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن أو باللسان أو بالقلب، والمهاجرة في الأصل: مُصَارَمةُ الغير ومُتَاركتُه، من قوله عز وجل: }وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا{ [الأنفال: 74]، }وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ{ [النساء: 100] فالظاهر منه: الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان، كمن هاجر من مكة إلى المدينة.. وقيل: مقتضى ذلك هُجران الشهوات والأخلاق الذميمة والخطايا وتركها ورفضها»([8])اهـ
والهجرة شرعًا: ترك ما لا يحبه الله ويرضاه والانتقال منه إلى ما يحبه ويرضاه.
ويدخل في هذا المعنى: ترك الكفر وترك البدعة وترك المعصية وترك بلد الكفر وترك كلّ ما لا يحبه الله ويرضاه.
أمَّا في الاصطلاح فكما عرَّفها المؤلف رحمه الله حيث قال: الهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
قال ابن القيم رحمه الله:
«ولله على كلِّ قلب هجرتان، وهما فرض لازم له على الأنفاس: هجرةٌ إلى الله سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والعبودية، وهجرة إلى رسوله r بالتحكيم له والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه وتلقِّي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته، فيكون تعبُّده به أعظم من تعبُّد الركب بالدليل الماهر في ظُلم الليل ومتاهات الطريق.
فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحثْ على رأسه الرماد، وليراجع الإيمان من أصله، فيرجع وراءه ليقتبس نورًا قبل أن يُحال بينه وبينه، ويقال له ذلك على الصراط من وراء السور، والله المستعان([9]).اهـ
وفي الحديث: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»([10]) فالهجرة لا يحرز فضلها إلاَّ من أعرض بقلبه وجوارحه عن كلِّ ما نهى الله عنه من ظاهر الإثم وباطنه.
وإنما سكت في هذا الحديث عن هجرة المكان لعلم السامعين بها، أو تنبيهًا على أنها أهون الهجرتين عملاً، على أنَّ تعريف الهجرة يشمل الهجرتين الحسِّية والمعنوية؛ لأنَّ كلمة: «ما نَهى الله عنه» تتناول الإقامة في دار الشرك أيضًا، والله أعلم.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
«فأصل الهجرة أن يهجر ما نهاه الله عنه من المعاصي، فيدخل في ذلك هُجران بلد الشرك رغبةً في دار الإسلام، وإلاّ فمجرَّد هجرة بلد الشرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامة كاملة، بل الهجرة التامة الكاملة هي هجران ما نهى الله عنه، ومن جملة ذلك: هجران بلد الشرك مع القدرة عليه»([11])اهـ
المسألة الثانية:
سبب مشروعية الهجرة: إنَّ المؤمن يجب عليه أن يُظهر دينه([12]) معتزًّا به، ففي هذا الإظهار والاعتزاز بيان للناس عن هذا الدين وإخبار لهم بشهادة الحق «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، فالإخبار بهذه الشهادة يكون بالقول ويكون بالعمل.
يقول ابن القيم رحمه الله:
«الإعلام والإخبار نوعان: إعلام بالقول وإعلام بالفعل، وهذا شأن كلِّ مُعلِم لغيره بأمر، تارة يُعلِمه بقوله وتارة يُعلِمه بفعله، فمن فعل الطاعات وتقرَّب بأنواع القربات فإنه مُخبِرٌ ومُعلِمٌ بشهادته لله أنه لا إله إلا هو»([13]).اهـ
تنبيـه:
بعضهم قال: الهجرة إلى المدينة هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهذه الهجرة أشدّ وجوبًا لأنَّ سببها أن يجتمع المسلمون في مكانٍ واحد.. وهذا القول لا دليل عليه، فسبب مشروعية الهجرة إظهار الدين لا أن يجتمع المسلمون.
المسألة الثالثة: حكم الهجرة:
إذا لم يستطع المسلم أن يُظهر دينه في بلد كفر وجب عليه مفارقة ذلك البلد والانتقال منه إلى غيره، وإذا كان يستطيع إظهار دينه في ذلك البلد استُحبَّ له أن يهاجر، وقد لا يُستحب له إذا كان في بقائه مصلحة دينية من دعوة إلى التوحيد والسنة وتحذير من الشرك والبدعة علاوة على إظهار دينه([14]).
أما قوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ{ [النساء: 87]، يعني لم يستطيعوا إظهار دينهم، فهذا هو معنى الاستضعاف..
}قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا{ [النساء: 97] فدلَّ على وجوب الهجرة لأنه توعَّدهم بالنار على تركها.
فالقصد الأول من الهجرة أن يتمكَّن من إظهار دينه ويعبد الله تعالى على عزَّة كما قال في الآية الأخرى }يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ{[العنكبوت: 56]
والاستفهام في قوله }أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا{ [النساء: 97] للإنكار، ومعلوم أنَّ ضابط الاستفهام الإنكاري أن يكون ما بعده غير صحيح، فإذا أزلتَ الهمزة وقرأتَ ما بعدها ووجدته باطلاً وغير صحيح فإنَّ الاستفهام للإنكار.
واستثنى الله جلَّ وعلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يقدرون على الهجرة والانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام أو لا يمكنهم معرفة الطريق ولا يهتدون إلى السبيل أو ما عندهم ما يركبون ونفقة السفر فهؤلاء قال الله عنهم }فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا{ [النساء: 99].
وهنا تنبيهان:
الأول- الهجرة من حيث وجوبها أو استحبابها أو غير ذلك متعلِّقة بالمسلم من جهة استطاعته إظهار دينه أولاً، وهذا يغنينا عن البحث حول تعريف دار الكفر ودار الإسلام في هذا الموطن.
الثاني- حُكم من ترك الهجرة مع القدرة ولا يستطيع إظهار دينه: ظالم لنفسه مرتكب لكبيرة وليس بكافر لقوله تعالى: }ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ{ ولقوله: }يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ{ [العنكبوت: 56].
«فأفاد أنَّ تارك الهجرة بعد ما وجبت عليه ليس بكافر لكنه عاص بتركها، فهو مؤمن ناقص الإيمان عاص من عصاة الموحدين المؤمنين»([15]).
المسألة الرابعة:
الهجرة من جهة مكانها هجرتان: عامة وخاصة، أما العامة فهي التي عرَّفها الإمام محمد بن عبد الوهاب بقوله: «الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام».
فهذه تبقى إلى قيام الساعة، ولكلِّ بلد يظهر فيه الشرك ويكون غالبًا، فإنَّ الانتقال منه يُسمى «هجرة».
أمَّا الهجرة الخاصة فهي الهجرة من مكة إلى المدينة، فالانتقال من مكة إلى المدينة في زمنٍ معيَّن انتهى بانتهاء كون مكة دار شرك، ولَما صارت دار إسلام بفتحها فإنه كما قال r: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»([16])، يعني لا هجرة خاصة من مكة إلى المدينة؛ لأنَّ الدار تحوَّلت إلى دار إسلام يستطيع المسلم أن يظهر دينه فيها([17]).
المسألة الخامسة:
ذكر الفقهاء من الحنابلة وغيرهم هجرة أخرى غير التي نتحدث عنها هنا وهي الهجرة من بلد يكثر فيها البدع والمعاصي إلى بلد تقلُّ فيها أو لا تظهر.
وذكر أهل العلم أنَّ مثل هذه الهجرة مستحبَّة؛ لأن بقاء المسلم في دار أهلها متوعَّدون بنوعٍِ من العذاب بسبب ظلمهم يعُرضه لتلك العقوبة.
قال الشيخ ابن قاسم رحمه الله:
«وكذلك يجب على كلِّ من كان ببلد يُعمل فيها بالمعاصي لا يمكنه تغييرها أن يهاجر منها»([18]).اهـ
وقد هاجر جمعٌ من أهل العلم من بغداد كالخرقي لَما علا فيها صوت أهل البدع وكثرت فيها المعاصي وظهرت، كالزنا وشرب الخمر([19]).. وبعض أهل العلم بقي هناك قائمًا بالدعوة إلى الله جلّ وعلا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأيضًا ترك بعض العلماء مصر لَما تولت عليها الدولة العبيدية فخرجوا منها إلى غيرها، وهجرة من كان في مصر قد تُحمل على أنها واجبة وقد تُحمل على أنها مستحبَّة على حسب من كان فيها هل يُظهر التوحيد والسنة ويتمكَّن من ذلك أم لا.
المسألة السادسة:
«الهجرة باقية إلى قيام الساعة» يعني إلى قرب قيامها وهو كما جاء في الحديث «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»([20])، فما دامت التوبة باقية فإن الهجرة باقٍ حكمها وهو الوجوب، وهو المعنى بقوله تعالى: }يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا{
[الأنعام: 158].
وقول المؤلف: (إلى قيام الساعة): أي طلوع الشمس من مغربها، وهذا الحدث قريب من قيام الساعة.
أمَّا ثبوت الهجرة من بلد الشرك إلى بلاد الإسلام وبقاؤها فمعلوم بالنصِّ والإجماع، جاء في الحديث «أنا بريءٌ من مسلم مات بين ظهراني المشركين»([21])، وقال r: «لا تراءى ناراهما»([22])، وقال: «الهجرة باقية ما قوتل العدو»([23]).
المسألة السابعة:
إظهار الدين لم يكن واجبًا أول دعوة محمد r، ثم أُمروا بإظهار الدين في قوله تعالى: }فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ{ [الحجر: 94] فابتُلي من ابتُلي من المؤمنين، ولم يستطيعوا إظهار دينهم، واستأذنوا النبي r بالهجرة إلى الحبشة فأَذِن لهم بالهجرة إليها الهجرة الأولى ثم الثانية، وقيل بأنَّ هناك هجرة ثالثة.
ثم لَمّا تبيَّن أنه لم يعد بالإمكان إظهار الدين بمكة بدليل تآمر قريش على قتل محمد r تعيَّنت الهجرة إلى المدينة.
فائـدة:
ابتدأ التاريخ الهجري بعد هجرة النبي r، قال السيوطي رحمه الله:
«روى ابن أبي خيثمة في تاريخه عن ابن سيرين أنّ رجلاً من المسلمين قدم من اليمن، فقال لعمر رأيت باليمن شيئًا يُسمُّونه التاريخ، يكتبون من عام كذا وشهر كذا، فقال عمر: إنَّ هذا لحسن فأرِّخوا.
فلمَّا أجمع على أن يؤرِّخ شاوَر: فقال قوم بمولد النبي r، وقال قوم بالمبعث، وقال قوم حين خرج مهاجرًا من مكة، وقال قائل: بالوفاة حين توفي، فقال: أرِّخوا خروجه من مكة إلى المدينة.
ثم قال: بأيِّ شهر نبدأ فنُصيِّره أول السنة، فقالوا رجب فإنَّ أهل الجاهلية كانوا يُعظمونه، وقال آخرون شهر رمضان، وقال آخرون ذو الحجة فيه الحج، وقال آخرون الشهر الذي خرج فيه من مكة، وقال آخرون الشهر الذي قدم فيه؛ فقال عثمان: أرِّخوا من المحرم أول السنة، وهو شهر حرام. وهو أول الشهور في العَدِّة، وهو مُنصرف الناس عن الحج؛ فصيَّروا أول السنة المحرم، وكان ذلك في سنة سبع عشرة.
وقد روى سعيد بن منصور في سُننه بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: }وَالْفَجْرِ{ [الفجر: 1] قال: الفجر شهر المحرم وهو فجر السنة.
قال شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله في أماليه:
«بهذا يحصل الجواب عن الحكمة في تأخر التاريخ من ربيع الأول إلى المحرَّم بعد أن اتَّفقوا على جعل التاريخ من الهجرة، وإنما كانت في ربيع الأول»([24]).اهـ
المسألة الثامنة: حكم السفر إلى بلاد الكفار([25]):
«السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلاَّ بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجًا إلى ذلك.
فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لِما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة وفيه إضاعة المال لأنَّ الإنسان يُنفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار.
أمَّا إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده عِلم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به».
المسألة التاسعة:
«الإقامة في بلاد الكفار خَطرها عظيم على دين المسلم وأخلاقه وسلوكه وآدابه، وقد شاهدنا نحن وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك»، فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فُسَّاقًا، وبعضهم رجع مرتدًا عن دينه وكافرًا به وبسائر الأديان والعياذ بالله، حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي - بل يتعيَّن - التحفُّظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهوى في تلك المهالك.. فالإقامة في بلاد الكفر لا بدّ فيها من شرطين أساسين:
الشرط الأول:
أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العمل والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ، وأن يكون مُضمرًا لعداوة الكافرين وبُغضهم، مبتعدًا عن موالاتهم ومحبتهم، فإنَّ موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان قال الله تعالى: }لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ{ [المجادلة: 22].
وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ{
[المائدة: 51-52]
وثبت في الصحيح عن النبي r «أنَّ من أحبَّ قومًا فهو منهم»([26])، و«أنَّ المرء مع من أحب»([27]).
ومحبَّة أعداء الله من أعظم ما يكون خطرًا على المسلم؛ لأنَّ محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم، ولذلك قال النبي r: «من أحبَّ قومًا فهو منهم».
الشرط الثاني:
أن يتمكَّن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يُمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يُصلي جماعة ومن يقيم الجمعة، ولا يُمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين، فإن كان لا يتمكَّن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ.
وبعد تمام هذين الشرطين الأساسين تنقسم الإقامة في دار الكفر إلى أقسام:
القسم الأول: أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه، فهذا نوعٌ من الجهاد، فهي فرض كفاية على من قدر عليها، بشرط أن تتحقَّق الدعوة وألاَّ يُوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها، لأنَّ الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين، وهي طريقة المرسلين، وقد أمر النبي r بالتبليغ عنه في كلِّ زمانٍ ومكانٍ فقال r: «بلِّغوا عنِّي ولو آية»([28]).
القسم الثاني: أن يُقيم لدراسة أحوال الكافرين والتعرُّف على ما هم عليه من فساد العقيدة وبطلان التعبد وانحلال الأخلاق وفوضوية السلوك؛ ليحذر الناس من الاغترار بهم، ويُبيِّن للمعجبين بهم حقيقة حالهم، وهذه الإقامة نوعٌ من الجهاد أيضًا لِما يترتَّب عليها من التحذير من الكفر وأهله المتضمّن للترغيب في الإسلام وهديه، لأنَّ فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام، كما قيل: «وبضدها تتبيَّن الأشياء»، لكن لا بدّ من شرط أن يتحقَّق مراده بدون مفسدة أعظم منه، فإن لم يتحقَّق مراده بأن مُنع من نشر ما هم عليه والتحذير منه فلا فائدة من إقامته، وإن تحقَّق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسبِّ الإسلام ورسول الإسلام وأئمَّة الإسلام وجب الكفِّ لقوله تعالى: }وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [الأنعام: 108].
ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عَينًا للمسلمين ليعرف ما يُدبِّرونه للمسلمين من المكائد فيحذرهم المسلمون، كما أرسل النبي r حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم.
القسم الثالث: أن يُقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتها مع دولة الكفر كموظفي السفارات، فحُكمها حُكم ما أقام من أجله، فالملحق الثقافي مثلاً يقيم ليرعى شئون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويدرأ بها شرًّا كبير.
القسم الرابع: أن يُقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتُباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نصَّ أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
القسم الخامس: أن يقيم للدراسة وهي من جنس ما قبلها وهي الإقامة لحاجة، لكنها أخطر منها وأشدُّ فتكًا بدين المقيم وأخلاقه، فإنَّ الطالب يشعر بدنوِّ مرتبته وعلوِّ مرتبة معلِّميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل، ثم إنَّ الطالب يشعر بحاجته إلى معلِّمه فيؤدِّي ذلك إلى التودُّد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال.
والطالب في مقرِّ تعلمه له زملاء يتَّخذ منهم أصدقاء يُحبُّهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله، فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسين شروط:
الشرط الأول:
أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميِّز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد، فأما بعث الأحداث (صغار السِّن) وذوي العقول الصغيرة فهو خطرٌ عظيمٌ على دينهم وخُلقهم وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإنَّ كثيرًا من أولئكم المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في دياناتهم وأخلاقهم وسلوكهم، ودخل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلومٌ مشاهَد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية.
الشرط الثاني:
أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكَّن به من التمييز بين الحقِّ والباطل، ومقارعة الباطل بالحقِّ لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقًّا أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل.
وفي الدعاء المأثور «اللهم أرني الحقَّ حقًّا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علي فأضل».
الشرط الثالث:
أن يكون عند الطالب دينٌ يحميه ويتحصَّن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله، وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم، فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوِّعة، فإذا صادفت محلاًّ ضعيف المقاومة عملت عملها.
الشرط الرابع:
أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من أجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من أجله لِما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة.
القسم السادس: أن يُقيم للسكن، وهذا أخطر مما قبله وأعظم لِما يترتَّب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودَّة وموالاة وتكثير لسواد الكفار، ويتربَّى أهله بين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم، وربما قلَّدوهم في العقيدة والتعبُّد، ولذلك جاء في الحديث عن النبي r: «من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله»([29])، وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر؛ فإنَّ المساكنة تدعو إلى المشاكلة، وعن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله t أنَّ النبي r قال: «أنا بريءٌ من كلِّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين»..
قالوا يا رسول الله، ولِمَ؟ قال: «لا تراءى ناراهما»([30]). رواه أبو داود والترمذي وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن أبي حازم عن النبي r.. وقال الترمذي: سمعت محمدًا – يعني البخاري – يقول الصحيح حديث قيس عن النبي r مرسلا.اهـ
وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلَن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده، ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دِينهم وأخلاقهم.
هذا ما توصَّلنا إليه في حُكم الإقامة في بلاد الكفر، نسأل الله أن يكون موافقًا للحقِّ والصواب.
* * *
([1]) من كلام ابن عثيمين في شرحه على ثلاثة الأصول حيث سرد مختصرًا لحادثة الهجرة ص(128، 129).
([2]) ينظر حاشية ثلاثة الأصول لابن قاسم ص(84).
([3]) البخاري في صحيحه كتاب التفسير (4320).
([4]) صحيح البخاري كتاب التفسير باب: }إنَّ الَّذين توفَّاهُم الملائكَة ظَالمي أنفسهم قَالوا فِيم كُنتم قالوا كنا مُستضعَفين في اِلأرض{.
([5]) تفسير ابن كثير (2/389).
([6]) رواه أبو داود (3/93)، والحاكم (2/141، 142) بلفظ آخر وطريق أخرى، قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، قال العلامة الألباني: «فالحديث عندي حسن بمجموع الطريقين»اهـ السلسلة الصحيحة (5/436)، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة 1405هـ.
([7]) شرح ثلاثة الأصول لابن عثيمين ص(131).
([8]) ص(833).
([9]) مدارج السالكين (2/463).
([10]) رواه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
([11]) فتح الباري (1/39).
([12]) حاشية ثلاثة الأصول لابن قاسم ص(83).
([13]) مدارج السالكين (3/452).
([14]) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91).
([15]) ينظر حاشية ثلاثة الأصول لابن قاسم ص(85).
([16]) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: فضل الجهاد والسير.
([17]) ينظر فتح الباري (4/484).
([18]) حاشية ثلاثة الأصول ص(85).
([19]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/484).
([20]) رواه النسائي في الكبرى (5/217) وأبو دود (3/3).
([21]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (2/303).
([22]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (2/303).
([23]) رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/17)، ت: محمد عبد القادر عطا، مكتبة الباز، مكة المكرمة 1414هـ, وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (5/251).
([24]) تدريب الراوي (2/508، 509).
([25]) هذه المسألة والتي تليها من كلام ابن عثيمين في شرحه على ثلاثة الأصول ص(131-139).
([26]) لم أجده في الصحيح ووجدته عند الطبراني في المعجم الكبير (3/19)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/281) عن رواية الطبراني: فيه من لم أعرفه اهـ
([27]) رواه مسلم (4/2034).
([28]) رواه البخاري في صحيحه: كتاب الأنبياء، باب: ذكر بني إسرائيل.
([29]) رواه أبو داود (3/93).
([30]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (2/303).
([2]) ينظر حاشية ثلاثة الأصول لابن قاسم ص(84).
([3]) البخاري في صحيحه كتاب التفسير (4320).
([4]) صحيح البخاري كتاب التفسير باب: }إنَّ الَّذين توفَّاهُم الملائكَة ظَالمي أنفسهم قَالوا فِيم كُنتم قالوا كنا مُستضعَفين في اِلأرض{.
([5]) تفسير ابن كثير (2/389).
([6]) رواه أبو داود (3/93)، والحاكم (2/141، 142) بلفظ آخر وطريق أخرى، قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، قال العلامة الألباني: «فالحديث عندي حسن بمجموع الطريقين»اهـ السلسلة الصحيحة (5/436)، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة 1405هـ.
([7]) شرح ثلاثة الأصول لابن عثيمين ص(131).
([8]) ص(833).
([9]) مدارج السالكين (2/463).
([10]) رواه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
([11]) فتح الباري (1/39).
([12]) حاشية ثلاثة الأصول لابن قاسم ص(83).
([13]) مدارج السالكين (3/452).
([14]) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91).
([15]) ينظر حاشية ثلاثة الأصول لابن قاسم ص(85).
([16]) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: فضل الجهاد والسير.
([17]) ينظر فتح الباري (4/484).
([18]) حاشية ثلاثة الأصول ص(85).
([19]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/484).
([20]) رواه النسائي في الكبرى (5/217) وأبو دود (3/3).
([21]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (2/303).
([22]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (2/303).
([23]) رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/17)، ت: محمد عبد القادر عطا، مكتبة الباز، مكة المكرمة 1414هـ, وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (5/251).
([24]) تدريب الراوي (2/508، 509).
([25]) هذه المسألة والتي تليها من كلام ابن عثيمين في شرحه على ثلاثة الأصول ص(131-139).
([26]) لم أجده في الصحيح ووجدته عند الطبراني في المعجم الكبير (3/19)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/281) عن رواية الطبراني: فيه من لم أعرفه اهـ
([27]) رواه مسلم (4/2034).
([28]) رواه البخاري في صحيحه: كتاب الأنبياء، باب: ذكر بني إسرائيل.
([29]) رواه أبو داود (3/93).
([30]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (2/303).
تعليق