إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

المتنبي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المتنبي

    مقدمة أبي العلاء المعري


    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين ،وصلّىاللّه على سيدنا محمد وعترته المنتخبين . قال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي - من أهل معرّة النعمان-:
    سألني بعض الناس أن أنشئ مختصرا في تفسير شعر أبي الطيب، فكرهتُ ذلك، وسألتُه الإعفاء، فأجاب. ثم تكرر السؤال، فأصبحت، فكأني في القياد، وأنا كما قيل: "مكرَه أخوك لا بطل" وكم حلّى فضلُه العطل"، وأمليتُ شيئا منه، ثم علمتُ أنني في ذلك من الأخسرين أعمالا، لا أكتسب به في العاجلة ولا الآجلة إجمالا، لأن القريض له زمان، ومن بلغ سنّى فما له من الحتف مآل، وذكر لي المجتهدُ في خدمة الأمير عزيز الدولة وغرسها، أبي الدوام ثابت، ابن تاج الأمراء فخر الملك، عُمدة الإمامة، وعدة الدولة ومعزها، ومجدها، ذي الفخرين، أطال الله بقاءه، وأدام أيامه، أبو القاسم عليّ بن أحمد المقري: إن الأمير أبا الدوام أمره أن يلتمس لدى شيئا من هذا الفن، فنهضت نهضة كسير، لا يقدر على المسير، وأنشأت معه شيئا عنِى مقداري من مقدار الآمر، ولست في المناصحة بالمخامر، وتقاضاني بالمراد، مخلص فيما كلف مُبِرّ، على أني بالمعجزة مُقِرّ، فكان كما قال القائل:

    إذا ما تَقَاضَى المرء يَوْمٌ وليلةٌ تَقاَضاه شئٌ لا يُمل التقاضِيَا
    وأتممتُ ما كنتُ بدأتُ فيه. والله المستعان، وبه التوفيق.
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: المتنبي

    مقدمة العكبري


    الحمد لله العظيم سلطانه، الجزيل إحسانه، الواضح برهانه، الذي قدر الأشياء بحكمته، وخلق الخلق بقدرته، فمنهم المريد، ومنهم البليد، الذي جعل العلم أربح المتاجر، وأشرف الذخائر، ورفع به الأصاغر على الأكابر. أحمده على ما أسبغ من نعمه المتواترة وعم من مننه الوافرة، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تمنع قائلها من لمس النار ومسها، وتجادل عنه " يومَ تَأتي كُلُ نَفْسٍ تجادلُ عن نفسها" وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسله بأحسن اللغات وأفصحها، وأبين العبارات وأوضحها، أظهر نور فضلها على لسانه، وعظم شأنها إظهار لها ولشانه، وجعلها غاية التبين، وخصه بها دون سائر المرسلين، ورد على من قال من الملحدين: "لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلاة دائمة إلى يوم تدعى كل أمة إلى كتابها، ويسوى بين عجم الأمة وأعرابها، يوم تخرس الألسنة عن إعرابها.
    أما بعد: فإني لما أتقنت الديوان، الذي انتشر ذكره في سائر البلدان، وقرأته قراءة فهم وضبط، على الشيخ الإمام أبي الحرم مكي بن ريان ، الماكسيني بالموصل، سنة تسع وتسعين وخمس مئة، وقرأته بالديار المصرية على الشيخ أبي محمد عبد المنعم بن صالح التيمى النحوي. ورأيت الناس قد أكثروا من شرح الديوان، واهتموا بمعانيه، فأعربوا فيه بكل فن وأغربوا. فمنهم من قصد المعاني دون الغريب، ومنهم من قصد الإعراب باللفظ القريب، ومنهم من أطال فيه وأسهب غاية التسهيب ، ومنهم من قصد التعصب عليه، ونسبه إلى غير ما كان قد قصد إليه، وما فيهم من أتى فيه بشيء شاف، ولا بعوض هو للطالب
    كاف، فاستخرت الله تعالى، وجمعت كتابي هذا من أقاويل شراحه الأعلام، معتمدًا على قول إمام القوم المقدم فيه، الموضح لمعانيه، المقدم في علم البيان أبي الفتح عثمان، وقول إمام الأدباء، وقدوة الشعراء، أحمد بن سليمان أبي العلاء، وقول الفاضل اللبيب، إمام كل أديب، أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب وقول الإمام الأرشد، ذي الرأى المسدد، أبي الحسن علي بن أحمد ، وقول جماعة كأبي علي ابن فورجة، وأبي الفضل العروضي، وأبي بكر الخوارزمي ، وأبي محمد الحسن بن وكيع، وابن الإفليلي وجماعة. وسميته: بالتبيان، في شرح الديوان وجعلت غرائب إعرابه أولا، وغرائب لغاته ثانيًا، ومعانيه ثالثًا، وليس غريب اللغة بغريب المعنى. فالله تعالى يعصمنا من ألسن الحساد، ويوقع في قلب ناظره وسامعه القبول، إنه كريم جواد.
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: المتنبي

      مقدمة البرقوقي

      بسم الله الرحمن الرحيم وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد: فهذا شرح ديوان المتنبي أخْرِجُهُ بعد شرحي ديوانَ حَسَّان الذي أَخرجته في العام الماضي، ورآه القراء وعرَفوا من مقدمته ما كابدت فيه وفي الحق إني لم أعانِ في المتنبي ماعانَيت في حسان- على بُعد ما بينهما - وذلك أن المتنبي رَبُّ المعاني الدقاق -كما قال- فَللذهن في شِعره جولان وما دامَ هناك ذِهن يَلفف، وذوق يستدقّ، وملكة بيانية، وبَصَر‎ بمذاهب الشعر: أمكن إدراكُ ما يَترامَى إليه مِثلُ المتنبي، ولو بشيء من الجهْد اللذّ، والتعب المريح، ذلك إلى أن المتنبي مخدوم، وشروحه متُوافِرة، ومادته زاخرة، فإن شرحه لذلك يكاد يكون هينا لينا، لا إرهاق فيه لخاطر، ولا إعنات لروية. وهنا قد يبدو لك أن تقول: وإذا كان المتنبي مخدومًا وشروحه متوافرة - كما تزعم- فعلام هذا الشرح وما حاجتنا إليه؟ فعلى رِسلك ياهذا. فالمتنبي وإن كانت شروحه كثيرة إلا أنها كثرة قِلة.. ذلك أن المتنبي وإن كان من حسن حظه أن شَرَحَه وعلق عليه، ونقده وتعصب له وعليه، نَيِّفٌ وخمسون أديبا، بَيدَ أن المتداوَل من شروحه إنما هو العكبَرِي والواحدي واليازجي حَسْبُ: أمّا الواحدي: فلأنه لمُْ يُطبع إلا في أورُبه وفي الهند فقط، كانت لذلك نسخة قليلة التداول في أيدي الناطقين بالضاد لندْرَتهِ وغلاء ثمنه، ومن ثمّ كان في حكم غير المتداوَل. ثم هو- الواحدي- وَمِثلهُ العُكبري كلاهما موضوعٌ ذلك الوَضعَ الخلق الباليَ العقيم- بَعثرَة الأبيات وإثباتَ البيت ثم شرحَه، وهكذا دَوَاليك- وَضْعٌ لا يتّفق ومزاج هذا الجيل، ولا سيما من يبتغي حفظ الديوان واستظهاره، هذا إلى التحريف الكثير الذي ألمَّ بالواحدي والعُكبري معا، وهنا لا يسع المرء إلا أن يأسف كل الأسف وتتقطعَ نفسْه حَسَرَاتٍ جَرَّاء ذلكَ الداء الخبيثِ العُياء الذي ألم- ولا يزال يُلِم- بالمطبوعات العربية- داء التصحيف والتحريف- حتى لا يكاد يسلم مِنه كتاب عربي، فذهب بجمال التواليف وشوَّه خَلْقَها وصارَ بها إلى حَيثُ تنبو عنها الأحداق، وتتجافى عن قراءتها الأذواق، ويتخاذل الذهن، ويتراجع الفكر. ولست أدري: ما مصدر هذا الداء، ولا مَن تقع عليه تَبعَةُ هذا الجرم: هل هو الناسخ؟ - بل الماسخ- [ولقد حاولت- أخيراً- أن أَنسخ رسالة في سرقات المتنبي بدار الكتب المصرية، وكلفت أحد النساخين في تلك الدار بنسخها، ولما أتمّ نَقل الكُرّاسة الأولى ذهبت إليه وأخذنا نقابل ما نسخ على الأصل، فوجدت الأصل لا يكاد يوجد فيه بيت صحيح، ووجدت ما نسخ منه ضغثا عَلى إبّالةٍ... فما كان إلا أن انصرفت نفسي عن المسألة برُمتِها].. أم هو الطابع وجهله وتهاونه؟!

      وقد لقيت الألاقي في تصحيح "بروفات" - أو تجارب - المتنبي، ومن قبله حسان، حتى لا أكون مغالياً إذا قلت: إنّ الجهد الذي يُبذَلُ في سبيل التأليف أهونُ على المرء من الجهد الذي يقاسي سبيل التصحيح.
      وتصور مقدار ما يَعرو الإنسان من المضض والامتعاض حين يرى الكتاب- بعد هذا العناء الذي يبذل في التصحيح- لم يسلم من الأغاليط. ولا تنس أن المؤلف قد لا يفْطن إلى الخطأ المطبعي أثناء التصحيح ويمرّ به مرَّاً، وعذره في ذلك واضح: وهو أنه إنما يقرأ ما في ذهنه، لا ما هو بين عينيه؛ ومنْ هُنا كان له - للمؤلف- هو الآخر نصيب من هذا الخطأ وإن كان عذره في ذلك قائما...
      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: المتنبي

        مقدمة اليازجي


        يقول راوي هذا الشرح ومتمّمه الفقير إليه عز وجل إبراهيم بن ناصيف اليازجي اللبناني: هذا آخر ما أثبت الرواة من شعر أبي الطيب المتنبّي، رحمه اللّه تعالى. وقد اخترتُ له أشهر الرّوايات وأمثلها بعد أن وقفت فيه على غير نسخةٍ من النّسخ الموثوق بها وبالغتُ في ضبطِه وتحريره ما أعان عليه الإِمكان والله ملهم السداد.
        وكان أبي رحمه الله قد شرع في تعليق هذا الشرح على هامش نسخةٍ من الديوان بخطِّه كان يثبت فيها ما يعنّ له من تفسيرٍ أو إعراب أو شرح بيتٍ تذكرةً لنفسه مع ذكر كثيرٍ من وقائع النظم وتراجم بعض الممدوحين وغيرهم مما يسنح له في أثناء مطالعاته، إلا إنه لم يتقص في شيءٍ من ذلك ولا تتبع أبيات الديوان على التوالي وخصوصا المواضع المستغلقة التي تدعو إلى إطالة الرَّويَّة والاستنباط ممّا لم يرضِه كلام الشراح فيه، فإنه كان يتجاوزها في الأغلب ويترك موضع الكلام فيها مخرًّجاً على الهامش كأنه كان ينوي معاودة هذا الشرح والتوفّر على إتمامه، ثم لم يُفسح له في الأجل فبقي الشرح على علاًّته.
        ومعلومٌ ما لهذا الديوان من الشهرة الطائرة بين خاصًّة الناس وعامًّتهم لكثرة ما فيه من موارد الحكمة ومضارب الأمثال الشائعة على الأقلام والألسنة مع ما هو مشهور في شعر المتنبّي من عَوَص التراكيب وبُعد مُتناوَلِ المعاني، ومع قلّة ما في أيدي الناس من شروحه على كثرتها وعزّة الظّفر بالمحكَم منها كشرح الواحديّ ومَن في طبقته. ولذلك اشتدًّت حاجة المتأدبين والدًّارسين في هذا العصر إلى شرحٍ يُعتَمَد عليه في استخراج مكنونه والكشف عن غامضِه، وكَثُرَ تقاضي الناس لهذا الشرح الذي ذكرتُه عندي وأنا أدافع في الإجابة لعلمي بأنّ نشرَه على الحدّ المُشار إليه غيرُ جديرٍ بأنّ يتلقَّى هذه الحاجة بقضائها لوقوفه في كثير من المواضع من دون مبلغ الطلب وتفاوت الحال فيه بين موضع وآخر بحيث لا يجمل ظهورُه على صورته تلك إلى أن لجَّ الداعي ولم يبقَ في قوس الاعتذار منزع، فاستخرتُ الله سبحانه في تولّي إتمامه وسدِّ ما بقي من خلِله على نحو ما تسعُه الطاقة ويبلغ إِليه العلم القاصر، وتابعتُ الكلام على بيتٍ بيتٍ بما تقتضيه الحال من تفسير غريبه وإعراب المشكل من تراكيبه، وقد تتبعتُ الغريب في الأبيات كلّها من غير استثناء - وربما تكررت اللفظة الواحدة مراراً في الديوان ففسرتها في كل موضع وردت فيه - ليكون كلّ بيتٍ مستقلا في تفسيره لا يُحتاج معه إلى مراجعةٍ أو كدّ ذاكرة، واستقصيتُ في الإعراب بحيث لم أدع مشكلاً يتوقّف عنده البصير إلاَّ تلقيته ببيانه خصوصًا إعراب الظروف؛ فإنها من أصعب العقبات التي تعترض في وجوه المعربين لخفاء وجه الإعراب فيها ولكثرة ما يتعاورها من التقديم والتأخير على ما هو معلوم من توسّعهم في الظروف، وذكرتُ معنى كلّ بيت على عقب الفراغ من مفرداته ملتزمًا في الأكثر أن أشرحَه بحلّ ألفاظه عينها بحيث أصوّر للطالب المعنى الشِّعريّ في ضمن المعنى التركيبّي وفي جميع ذلك من النَّصَب وإعمالِ الرويّة ما لا يخفى على الخبير.
        وإنما أبقيت عنوان الشرح باسمه رحمه الله تعالى رعايةً لكونه هو الواضع الأصيل، فلم أُؤثر أن أتطفَّلَ عليه في نسبة الكتاب وإن تطفَّلتُ عليه في التأليف. وإني لأرجو الله أن يكون قد وهبني السلامة في ذلك كلِّه وأنزلَني من هذا الشرح منزلةً توجب استدرار الرحمة على واضعه ولا تكون مدرَجَةً لنقض برّي به بأن أجرَّ عليه تَبِعَةً تلزمني دونه أو يُنسب إليَّ فضلٌ هو أحقُّ به مني ومعاذ الله أن أدعي لنفسي في جنبه فضلاً أو علمًا فإني إنما اهتديتُ بمنارِه واقتديت بآثاره وإنه لا علم لي إلا ما علَّمني.
        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: المتنبي

          نظَـرَاتٌ في المتنبّي

          جورج حسون معلوف
          من العصبة الأندلسية


          هو أبو الطيَّب أحمد بن الحسين الكندي شاعر العربية الأكبر وعلَمها العالي وبدرها الأغرّ وحكيمها الذي تدفقت الحكمة من جنانه وجرت آياتها البينات عَلَى لسانه مجمَّلة بروعة بيانه
          حمل علَم الشعر فيها عَلى علم من البيان وأَطلَّ من شاهق يلوح به عَلى العصور السابقة فيحيل له نورها وتُخسف أمامه بدورها. وما كانت محاكُّ النقَّاد إلا لتزيده صقلاً ورواءً، ومغامز الحسَّاد إلا لتزيده مجدًا وعلاءً. وما كانت مئات السنين إِلا لتعليه منارًا وتزيده اشتهارًا
          أنشد الشعر منذ ألف سنة وما زال صدى إِنشاده يتردد في آذان الدهور فيسمعها الحكَم الرائعة والعظات البالغة تارةً كسجع العندليب وطورًا كهزيم الرعد وآنًا كهينمة النسيم وآونة كزئير الأسد وحينًا كخرير الباكي وآخر كدمدمة الخضمّ الهائج
          وقد مرَّت عَلَى العربية عصور ظلمة كان شعر المتنبي يتوقَّل شعاف جبالها الدكناء حتى يطلَّ من عَلَى قممها ساطعًا متألقًا هاديًا
          ومرَّت عليها عصور نور كان المتنبي فيها جنَّتها الغناء وكوثرها العذب وهزارها الصدَّاح وبلبلها الغرّيد
          ومرَّت عليها عصور حروب كان المتنبي فيها النافخ في الصُّور وباعث الإقدام في الصدور ثم جاءَت أيام المحنة والبؤس، شديدة الوطأة ثقيلة الخطى، حالكة الليالي مديدتها، صاخبة الأنهر. فلما يزل المتنبي مرشدًا الفتيان بحكَمه الرائعة ومذكيًا في الرجال الشجاعة والعزيمة بأَهازيجه الناريَّة ومعزّيًا الكهول بعظاته البالغة التي لم تخلق السنون جدتها
          مرَّت عَلَى شعر المتنبي من الزمان حالات شتى وحاله واحد في كل حال
          مرَّت عليه عصور ظهرت فيها شعوب وبادت شعوب وغاصت مدنيات وطفَت مدنيات ونقضت علوم وشدت أُخرى وهو يرافقها كالفلك السيَّار ويتغلغل في أحشائها كالماء وله في كل حادث قول وفي كل كارثة عظة
          هو متنبي العربية كان ملء سمعها ونظرها ولما يزل، وسيبقى ما دامت العربية لغة ينطق بها أبناؤها سواء أَتسعت معارفهم أو ضاقت وعلا قدرهم أو انحط وقويت شوكتهم أو خضدت والتأم شملهم أو تشتّت وسادة كانوا أو عبيدًا
          هو متنبّيهم. يتغنون بغزله ويتعظون بحكمهِ ويفخرون بمديحه ويهجون بهجائه ويتهكمون بلواذعه ويتأَسّون بمعزياته
          هو متنبي مصر والعراق والشام وكل بلد كان لأَلسنة بنيه حظٌ من العربية. وها إِحدى فسائل العربية النابتة وراء البحار، تحمل في قلبها المتنبي وتقيم في بلاد الأعاجم مهرجان ذكرى وعظة وإكرام لشاعر العربية الخالد
          علَّ ما قيل فيه من الشعر وما تلي من سور الإكرام يعبق بخورًا ذكي العرف يرتفع دخانه إلى طبقات الأثير العليا وينعقد صلوات حارَّة تدخل هيكل الوحي ومرقد شعراء الخلود فيتململ رفات المتنبي المسجي تحت ألف سنة من المجد ويعلم أن العربية هي العروة الوحيدة التي تربط هذا الشعب الذي ذرَّته الأقدار في الجهات الأربع وسفته كما تسفي الزوبعة رمال الصحراء فتعدَّدت ميوله واختلفت نزعاته وتفرَّعت مشاربه وتباينت أهواؤه
          ليت شعري أَيبقى بعد ألف سنة أخرى من الناطقين بالضاد مَن يقيم للمتنبي مثل هذا المهرجان أَم تصبح العربية إذ ذاك لغة طوت صفحتها يد الدهر وحجبتها في أحشاء الفنـاء ظلماتٌ متلبدة طبقات طبقات لا تخترقها لا العين ولا الفكر؟
          وُلد المتنبي بالكوفة في محـلة يقال لها كِندة وتخرَّج عَلَى أكابر العلماء في عصره كأبي بكر محمد بن دُريد وأبي عليّ الفارسي والزجَّاج وابن السرَّاج وأبي حسن الأخفش فاقتبس علومهم اللغوية حتى فاق أهل عصره علمًا وأدبًا ووعى من مفردات العربية وتعابيرها ومنقولها ومصطلحاتها واشتقاقاتها وأمثالها من بادٍ وحاضرٍ ما عجز عنه علماؤها مجتمعين فكان له من ذلك حللٌ لفظية بهيَّة كسا بها عذارى أفكاره وأطلقها بين الناطقين بالضاد فتَّانة خلاَّبة ساحرة لا تُرام ولا تُنال
          وقد أدخله نقدة الشعر في معترك المفاضلة والترجيح مع كبار الشعراء وفيهم أبو تمَّام والبحتري فأَقرّه أوسع النقّاد علمًا وأطولهم باعًا وأقرعهم قدمًا أنه أكبر ملوك الشعر بلا منازع وأجلسوه من القريض عَلَى أريكته السامية ووضعوا في يمينه صولجان الخلود الذي ما زال الشعراء يمسُّونه كلما عبست في وجوههم ربة الشعر وأجفلت من أمامهم عرائس الخيال وانفرطت في أذهانهم عقود القوافي فيستمدُّون الوحي من معانيه والرونق من قوافيه
          كان أبو الطيّب صُلب العود المراس في خلقه كُبارة وأنفة وفي طبعه نزق اشترك والدهر عَلَى تلطيفه ولكن ثورانه أحيانًا كان يهدم من مجده ما بنـاه وكان ما تبقى منه مما لم يتمكن من كبح جماحه عاملاً للقضاء عليه بعد أن سكن ما بينه وبين الدهر وكاد يبسم له وجهه العبوس، فضرب بعرض الحائط حكمته المأثورة:

          الرأي قبل شجاعة الشجعان _________________________
          هو أولٌ وهي المحل الثاني _________________________

          وقال لناصحه أبي نصر الجملي. أبنجو الطير تخيفني ومن عبيد العصا تخاف عليَّ؟
          وهكذا هوى النجم متألق من البيان في كبد السماء ويبست تلك الشجرة وهي في إبان جناها وكانت ضربة فاتك بن أبي جهل أقتل ضربة في سويداء العربية. ولو أمدّ الله في عمر المتنبي من السنين عشرًا أُخرى لكان غنم العربية منه أجزل خمسين ضعفًا
          وُلد أبو الطيّب في بيت وضيع وجاءَ أن أباه كان سقاءً ولما شبّ أخذ ينقد نفسه كما ينقد الجوهري الحجر الكريم فوضعها في كفة من ميزان ذكائه وعلمه ووضع في الكفة الأخرى من عرفهم من ملوك وأُمراء وعلماء وشعراء فرآها ترجح عليهم جميعًا وأنس في خلقه الأقدام وفي قلبه الشجاعة وفي عزيمته المضاء فرأى أنها تنسج عَلَى ضعة مولده درعًا تتكسر عليه سهام الدهر
          كان عصره عصر أدبٍ وثقافة ما عرفت العربية قبله عصرًا داناه بازدهار الأدب وعلوّ شأنه وقد نضجت فيه العلوم من طب وتاريخ وجغرافية وفلسفة وكان الأدب أجمل ما تتحلى به ملوكه ويباهي به أمراؤه ووزراؤه
          فمن ملوك العروش والأدب في ذلك العصر كان سيف الدولة ابن حمدان العدوي وجاءَ في وفيات الأعيان لابن خلكان أنه كان شاعرًا مجيدًا محبًا لجيَّد الشعر شديد الاهتزاز له. ومن شعره في جارية كانت له من بنات ملوك الروم وكان شديد المحبة لها حتى خاف من بقية الجواري عليها أن يقتلنها حسدًا فنقلها إلى مكان آخر احتياطًا وأنشد:

          راقبتني العيون فيكِ فأشفقـ _________________________
          ـت ولم أخلُ من إشفاقِ _________________________
          ورأيتُ العدوّ يحسدني فيـ _________________________
          ـكِ مجدًا بأنفس الأعلاقِ _________________________
          فتمنَّيتُ أن تكوني بعيدًا _________________________
          والذي بيننا من الحب باقِ _________________________
          ربَّ هجرٍ يكون من خوف هجر _________________________
          وفراقٍ يكون خوف فراقِ _________________________

          ومنهم عضد الدولة بن بويه الديلمي وقيل إنه أول من خوطب بالملك في الإسلام وأول من خُطب له عَلَى المنابر ببغداد بعد الخليفة وكان شاعرًا مجيدًا محبًا للفضلاء مشاركًا في عدَّة فنون
          ومنهم ابن العميد، وجاءَ لابن خلكان أنه كان متوسعًا في علوم الفلسفة والنجوم أما الترسُل والأدب فلم يقاربه فيهما أحد في زمانه وكان يُسمى الجاحظ الثاني، وقال الثعلبي في كتاب اليتيمة: كان يُقال بُدئت الكتابة بعبد الحميد وخُتمت بابن العميد
          وكان من ذلك العصر أبو فراس الحمداني والسري الرفاء والنامي والببغاء والوأواء وابن نباتة السعدي وابن هانئ الأندلسي وغيرهم. وكان ذلك العصر أيضًا عصر دعاوي ومغامرات ومضاء عزيمة وإقدام
          وكانت الشكوك تنهش الضمائر والعلوم تنزع الغشاية عن العيون وأخصها الطبّ وعلم النجوم وعلوم الأرقام. وكانت الزندقة والكفر والسفسطة والإيمان تعدو جنبًا إلى جنب كأفراس الرهان
          فسوَّلت لأبي الطيب نفسه أن يستغلّ تلك الحالة الفكرية القلقة وفوضى الشك المادّة رواقها وكانت الزيدية التي أثّرت عليه في صباه وبعدها مذهب القرامطة قد فتّـا في عقيدته وغيّـرا عقليته
          ورأى أن الطبيعة حبتهُ من القوى المعنوية بسخاءٍ وإفراط وسلحته بالعدَّة الكافية لنيل العلى، من ذكاء خارق وعزيمة دونها السيف مضاءً وطموح تضيق به الدنيا
          فهنا أمير حاز الإمارة بشجاعته وإقدامه وهناك وزير نال الوزارة بأدبه وثقافته وهنالك زنجيٌّ خصي استولى عَلَى الملك بدهائهِ ومكره
          فوثب وثبته الكبرى وأراد أن يقبض عَلَى الثريا بيديه وادعى النبوّة وهو يردد حينًا تلك الاختلاجة التي قالها فيما بعد شعرًا:

          إذا غامرتَ في شرف مروم _________________________
          فلا تقنع بما دون النجومِ _________________________
          فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ _________________________
          كطعم الموت في أمرٍ عظيمِ _________________________

          جاءَ في الصبح المنبي عن حياة المتنبي للبديعي. قال أبو عبد الله معاذ بن إسمعيل:
          قَدِمَ أبو الطيب المتنبي اللاذقية سنة نيف وعشرين وثلاث مئة وهو فتىً، فأكرمته وعظمته لما رأَيتُ من فصاحته وحسن سمعته، فلما تمكن الأنس بيني وبينه وخلوت معه في المنزل اغتنامًا لمشاهدته واقتباسًا من أدبه قلتُ والله إنك لرجلٌ خطير تصلُح لمنادمة ملك كبير. فقال ويحك أتدري ما تقول. أنا نبيٌّ مرسل. فظننتُ أنه يمزح. ثم تذكرت أني لم أسمع منه كلمة هزل قطُّ منذ عرفته. فقلتُ له ما تقول. فقال أنا نبيّ مُرسل كما ذكرت. فقلت مُرسل إلى مَن؟ فقال إلى هذه الأمة الضالة المُضلة. قلت ماذا تفعل. قال أملأ الدنيا عدلا كما مُلئت جورًا. قلتُ بماذا. قال بإدرار الأرزاق والثواب العاجل والآجل لمن أطاع وأتى، وضربِ الأعناقِ لمن عصى وأبى. فقلتُ له إِن هذا الأمر عظيمٌ أخاف عليك منه أن يظهر، وعذلته عَلَى ذلك فأَنشد يقول:

          أبا عبد الإِلاه معاذُ إِني _________________________
          خفيٌّ عنك في الهيجا مقامي _________________________
          ذكرتُ جسيم ما طلبي وأنَّا _________________________
          نخاطرُ فيه بالمهج الجسامِ _________________________
          أمثلي تأخذ النكبات منهُ _________________________
          ويجزعُ من ملاقاة الحمام _________________________
          ولو برز الزمان إلي شخصًا _________________________
          لخضَّب شعر مفرقه حسامي _________________________
          وما بلغت مشيئتها الليالي _________________________
          ولا سارت وفي يدها زمامي _________________________
          إذا امتلأَت عيون الخيل مني _________________________
          فويلٌ في التيقظ والمنام _________________________

          وما لبث أمره أن فشا فخرج إليه لؤلوءٌ أمير حمص واعتقله. فلما طال اعتقاله في الحبس كتب إلى الوالي مستعطفًا تائبًا:

          بيدي أيها الأمير الأريبُ _________________________
          لا لأمر إلا لأني غريبُ _________________________
          أو لأمٍ لها إذا ذكرتني _________________________
          دم قلبٍ بدمع عين يذوبُ _________________________
          إن أكن قبل أن رأيتك أخطأ _________________________
          تُ فإني عَلَى يديك أتوبُ _________________________
          عائب عابني لديك ومنهُ _________________________
          خُلقت في ذوي العيوب العيوبُ

          وعندي أن أبا الطيب لو لم يعاجله لؤلؤ ويخنق نبوءَته في المهد لكان لها شأن كبير ولكان أتباعها لا يقلُّون عن أتباع المسيحية أو المحمدية أو البوذية أو الكنفوشية
          تقلّب المتنبي في حالات شتى ففاخر ومدح وهنأَ ورثى وعاتب واستبطأَ وهجا وتهكّم ووصف
          وقد أَغدق عَلَى ممدوحيه ديمًا هتانة من خياله الواسع وبيانه الفتَّان وخلع عليهم من المكرمات حلـلاً كثيرًا ما كانت فضفاضة حتى خيل إلى الكثيرين أنه كان تاجر شعر حانوته مملوء بسلع البيان يعطي الطالبين منها عَلَى قدر ما يدفعونه من المال بحيث تتفاوت تلك الحلل بتفاوت الأثمان وتتساوى بمساواتها فأَلبس الملوك ثوبًا من المجد كان قد ألبس مثله الملك الغازي وضفر لرأس الرعديد إِكليلاً من الشجاعة كان قد وضع مثله عَلَى مفرق الشجاع وأسال كفّ الشحيح ديمًا من الجود كان قد أهطل مثلها كف الجوَّاد
          وعندي أن ذلك وهمٌ تسلط عَلَى النزر القليل من الخاصة وانتشر بين العامة حتى أحلوه محل الحقائق الراهنة وهو ولئن أيدته الظواهر تدحضه عند البحث براهين ناصعة تتجلى لمن تعمَّق في درس شخصية المتنبي وأدركَ كنه خلقه الكامن في كل ما نظمه. تلك الشخصية التي ما تغيَّرت قط وذلك الجوهر الذي ما اعتراه قط تحوُّل
          فالمتنبي ما كان إِلا طموحًا ذا آمال ما عرفت حدًا. أراد أن ينصف نفسه وينيلها ما هي له أهل من المراكز السامية فأَفنى عمره سعيًا وراء هذه الأمنية وسخَّر لنيلها كل ما أُوتيه من ذكاء وأدب وبيان وإِقدام وحزم وما عفا من تلك الصفات إلاَ عما عجز عن تذليـله وهي شممه وإباؤه واعتداده بنفسه وكبرياؤه وترفعه فوضعها ضمنًا فوق ممدوحه مهما علا قدره

          أتاجر أدبٍ من يعزّي ملكًا بقوله:
          لا يحزن الله الأمير فإنني _________________________
          لآخذ من حالاته بنصيب _________________________

          كأنه يقول: تعزَّ أيها الأمير عَلَى فَقد من فقدته لأن الخطب الذي أصابك كان عظيمًا حتى شعرنا به وشاطرناك إِياه وإن لك من أخذنا بنصيب من حزنك ما يعزّيك عَلَى مصابك ولك من الاهتمام بتعزيتنا ما يلهيك عن الحزن عَلَى مفقود مهما علَت منزلته في قلبك وكبر شأنه في دولتك
          أتاجر شعر من يخاطب أعظم ممدوحيه شأنًا وأعلاهم قدرًا بقوله:

          يا أعدل الناس إلاَّ في معاملتي _________________________
          فيك الخصام وأنت الخصم والحكم _________________________
          أعيذها نظرات منك صادقة _________________________
          أن تحسب الشحم مَن في لحمه ورم _________________________
          وما انتفاع أخي الدنيا بناظره _________________________
          إذا استوت عنده الأنوار والظَلم _________________________
          سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا _________________________
          بأنني خير من تسعى به قدم _________________________

          إلى أن يقول:
          إذا رأيت نيوب الليث بارزة _________________________
          فلا تظنن أن الليث يبتسمُ _________________________
          كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم _________________________
          ويكره الله ما تأتون والكرم _________________________
          ما أبعد العيب والنقصان من شرفي _________________________
          أنا الثريا وذان الشيب والهرم _________________________

          أتاجر شعر من يشترط عَلَى ذلك الملك، قبل أن يقول فيه بيتًا من الشعر، أن لا ينشده إِلا وهو جالس ولا يكلف تقبيل الأرض بين يديه فيدخل الملك تحت اشتراطه
          ومن شأن التجار أن يحسنوا استقبال طالبي سلَعهم ويخفضوا لهم الجناح ويُعدوا لهم المجالس اللائقة ويغرقوا في ترغيبهم بتلك السلع ليقبلوا عليها، وما رأيت قط طالب بضاعة يأخذ بيد بائعها ويبرّ به ويستعطفه ويلحُّ عليه ببيعها منه إلحاحًا دون طلب الهبة
          وقد روي أن الشريف أبا القاسم طاهرًا العلوي رجا أن يمدحه المتنبي وبعث إليه في ذلك فأَبى، فأَحال عليه الأمير أبا محمد طغج. وكان قد وفد عليه المتنبي فألحَّ عليه الأمير وهو لا يزداد إلا إباءً. ويقول ما قصدتُ غير الأمير ولا أمدح سواه. فقال له أبو محمد إذن فانظم قصيدة في مدحي ثم اجعلها له. فقبل بعد صعوبة. قال محمد بن القاسم الصوفي. فسرتُ أنا والمطلبي برسالة طاهر إلى أبي الطيب فركب معنا حتى دخلنا وعنده جماعة من الأشراف. فلما أقبل أبو الطيب نزل طاهر عن سريره والتقاه مسلمًا عليه ثم أخذه بيده فأجلسه في المرتبة التي كان فيها وجلس هو بين يديه. وتحدَّث معه طويلاً ثم أنشده أبو الطيب فخلع عليه للوقت خلعًا نفيسة. قال أبو القاسم الكاتب: كنتُ حاضرًا هذا المجلس فما رأيت ولا سمعت أن شاعرًا جلس الممدوح بين يديه مستمعًا لمدحه غير أبي الطيب
          أتاجر مدح من يعرض عن مدح اليهودي التدميري بن ملك ويقول لكافور الإخشيدي وقد أرسل يستقدمه إليه: لا أقصد العبد، وإن دخلت مصر فما قصدي إلا ابن سيده. حتى إذا بلغ كافورًا وصول المتنبي الرملة يقول لأصحابه: أترونه يبلغ الرملة ولا يأتينا؟
          أتاجر شعر من يعرض عن مدح الصاحب بن عبَّاد وقد عرض عليه أن يقاسمه نصف ماله وأمره معه مشهور، ومثله مع الوزير المهلبي وكتب إلى الصابي وكان قد راسل أبا الطيب في أن يمدحه ووسط بينه وبينه رجلاً من وجوه التجـار فقال أبو الطيب للوسيط: قل لأبي إسحق والله ما رأيت بالعراق مَن يستحق المدح غيركَ ولا أوجب عَلَى أحد في هذه البلاد ما أوجبته. وإن أنا مدحتك تنكر عليك الوزير وتغيَّر عليك لأني لم أمدحه فإن كنت لا تبالي هذه الحال فإني أجيبك إلى ما التمست وما أريد منك مالا ولا عن شعري عوضًا
          ولا حاجة إلى التدقيق في شخصية ممدوحي المتنبي لتدرك ما كانوا عليه من رفعة الشأن والسؤدد ولا ما تحلُّوا به من العلم الواسع والأدب الرفيع والثقافة العالية وما فطروا عليه من دماثة الخلق وكرم الطبع وكانت دالة المتنبي عليهم دالة الأنداد الذين تجمعهم جامعة الأدب ولئن تفاوتَ نسبه وأَنسابهم من حيث الضعة والارتفاع فإِن عبقريته رفعته إلى مستواهم وله مع كثير منهم مساجلات الأكفّاء
          وكان المتنبي يرجو أن ينال عَلَى أَيديهم، بعد أن أَخفقت نبوَّته، ما كانت تطمح إليه نفسه من المراكز العليا ويرى أَن الحجر الكريم لا يدرك قيمته إلا الجوهري الخبير والفضل لا يعرفه إلاّ ذووه
          ومَن كان أحقّ من سيف الدولة بالأوصاف الحسناء التي كان خيال المتنبي يجيش بها من شجاعة وإقدام وسيف الدولة كان أَغزى أهل زمانه حتى أنه كان قد جمع من نفض الغبار الذي كان يجتمع عليه في غزواته شيئًا وعمله لبنة بقدر الكف وأَوصى أَن يوضع خدُّه عليها في لحده
          وعدا الرُبط الروحية التي كانت تربط المتنبي به فإنه كان رفيقه في حروبه. وجاءَ في كتاب العمدة لاِبن رشيق أنه كان لا يريد أن يصف الوقائع التي لم يشهدها مع سيف الدولة
          ومَن أجدر منه في ذلك العصر ومن عضد الدولة وابن العميد بخيال المتنبي الفيَّاض الوثاب وحلل بيانه الرائع الفتَّان. وأن حبس ذلك عنهم فعلى مَن يغدقه؟
          ما الشاعر إلا دمية لا بدَّ أن تصبّ فتنال منها الرياض الغناء ما تنال مثله الأرض الموات
          ما الشاعر إلا الزهرة العطرة تبعث أريجها في الفضاء إلى كل ناحية سيرًا مع الريح فتهرب منها الجعلان وتهفو إليها الفراش والنحل
          ما الشاعر إلا البلبل الغرّيد يطلق أَلحانه ويرددها مترنمًا ليسمعها هو وليسمعها أبنـاء نوعه ولا يهمه طربت لها جنادب الليل وبومه أم لا
          الشاعر شاعرٌ سواء أَكان شعره في الأسود الخصيّ أو في الأمير الشجاع، فانظر إلى ما قاله لا إلى في مَن قال، فالعقد الفريد لا يعيبه أن تتقلَّده زنجية ولا يزيد رونق لآلئه أن تزين به نحرها كاعب حسناء
          سَل المؤرخ أن يورد لك الحقائق التاريخية مجرَّدة من أصباغ الأهواء والكذب، وسل الشاعر أن يكشف لك كنوز خياله ويحملك عَلَى أجنحة التصوُّر إلى جنان الخلود حيث الجمال غير الموصوف ولا المحدود
          وهل يعيب هذا الشعر أن يكون قد قيل في معرض مدح زنجي:
          أبى خلقُ الدنيا حبيبًا تديمه _________________________
          فما طلبي منها حبيبًا تردُّه _________________________
          وأسرع مفعول فعلتَ تغيُّرًا _________________________
          تكلُّف شيء في طباعك ضده _________________________
          وأتعب خلق الله من زاد همُّه _________________________
          وقصَّر عما تشتهي النفس وجده _________________________
          فلا مجد في الدنيا لمن قلَّ ماله _________________________
          ولا مال في الدنيا لمن قل مجده _________________________




          وصف غير الثقـاة من الرواة أن كافورًا الإخشيدي كان عبدًا أسود خصيًا مثقوب الشفة السفلى عظيم البطن مشقَّق القدمين ثقيل البدن، وأن مولاه كان يربط في رأسه حبلاً إذا أراد النوم فإِذا أراد منه حاجة يجذبه بالحبل لأنه لم يكن ينتبه بالصياح، وأن غلمان ابن طغج كانوا يصفعونه في الأسواق كلما رأُوه فيضحك، فقالوا إن هذا العبد خفيف الروح
          ولا ريب في أن الكثيرين قرأُوا وسمعوا هذا الوصف وقابلوه بمـا قاله فيه المتنبي من الشعر السائغ فرأوا مسافة الخلف بعيدة بين الوصف والموصوف وأَيقنوا أن المتنبي إنما قبِل دعوة كافور ومدحه طمعًا برفده
          وعندي أن كافورًا لم يكن ذلك العبد الخصيّ فحسب بل كان ذا ذكاءٍ ودهاءٍ وحزم ولولا ذلك لما تمكن من القيام بأعباء الملك زهاء ثلاث وعشرين سنة. ورويَ أن محمد بن طغج ولاَّه قيادة جيشٍ حارب به سيف الدولة عندما استولى عَلَى دمشق في ولاية أبي قاسم وانتصر عَلَى سيف الدولة
          وخير شهادة هو ما قاله المتنبي بعد أن جفَّ الثرى بينه وبين كافور وتهكم عليه بلواذعه المشهورة. قال أبو الفداء المؤرخ الحموي، حكى المتنبي قال: كنت إذا دخلت عَلَى كافور أنشده يضحك لي ويبشُّ في وجهي إلى أن أنشدته:

          ولما صار ودُّ الناس خبًا _________________________
          جزيتُ عَلَى ابتسامٍ بابتسام _________________________
          وصرتُ أشكُّ فيمن أصطفيه _________________________
          لعلمي أنه بعض الأنام _________________________

          قال: فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرَّقنا. فعجبتُ من فطنته وذكائه
          ومن الغني عن البرهان والحالة هذه أن المتنبي لم يقصد كافورًا طمعًا في أن يبيع منه الشعر بالمال لأن هذا كان موفورًا لديه من خزائن سيف الدولة ولكن مراجل الأطماع كانت تزداد في صدره غليانًا وعلَّل نفسه بأَن ينيلها عَلَى يد الخصيّ ما لم تنـله عَلَى يد سيف الدولة
          وبالرغم عما كان قلب المتنبي مشربًا به من كره كافور لعداوة بينه وبين سيف الدولة رأى من الحكمة والسياسة أن يتوجَّه إليه ويقبل دعوته ويمدحه فسار إلى الكنانة تحدوه مطامعه الكبيرة ويملأ نفسه من المرارة واليأس ما يوازي تلك المطامع وأَرى أبلغ وصف له مطلع أُولى القصائد التي مدح بها كافورًا. وهو:

          كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا _________________________
          وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيـا _________________________

          وقيل أنه كان ينوي تحريض كافور عَلَى سيف الدولة وحمله عَلَى محاربته فيوليه قيادة الجيش وتنفتح أمامه باب العلياء عَلَى مصراعيها فيلجها بأَدبه وثقافته وعبقريته وشجاعته ويحقق من المجد أحلامه الذهبية ولا بدع فقد كان فارسًا محنكًا وشجاعًا مغامرًا وكيف لا وهو القائل:

          ذرِ النفس تأخذ وسعها قبل بينها _________________________
          فمفترق جاران دارهما العمرُ _________________________
          ولا تحسبنَّ المجد زقـًا وقينةً _________________________
          فما المجد إلا السيف والفتكة البكر _________________________
          وتضريب أعناق الملوك وأن ترى _________________________
          لك الهبوات السود والعسكر المجر _________________________
          وتركك في الدنيا دويًا كأنما _________________________
          تداول سمعَ المرء أنمـله العشر _________________________

          وقد ظهر ذلك التحريض جليًا واضحًا في قوله:
          وغير كثير أن يزورك راجل _________________________
          فيرجع ملكًا للعراقين واليا _________________________

          وفي قوله:
          إذا كنت في شكّ من السيف فابلهُ _________________________
          فإما تنفّيه وإمـا تعـده _________________________
          إذا لم يفارقه النجاد وغمده _________________________
          وما الصارم الهنديّ إلاَّ كغيره _________________________

          ولكن كل هذه الأقوال لم تكن إِلا أكفانًا لبقية أماني المتنبي التي كان يئدها واحدة واحدة ويرثيها بروائع شعره ودرر فلسفته وحكَمه وآماله العذاب التي غابت كنجوم الليل وقد أدركها نور الفجر. وما أَليق هذه الأبيات لتلك الآمال:

          لحى الله ذي الدنيا مناخًا لراكب _________________________
          فكل بعيد الهمّ فيها معذَّب _________________________
          ألا ليت شعري هل أقول قصيدة _________________________
          فلا اشتكي فيها ولا أتعتب _________________________
          وبي ما يذود الشعر عني أقله _________________________
          ولكنّ قلبي يا ابنة القوم قُلّب _________________________
          أبي المسك هل في الكأس فضل أناله _________________________
          ................... _________________________

          ومثل هذه:
          لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي _________________________
          شيئًا تتيّمه عين ولا جيدُ _________________________
          يا ساقييَّ أخمرٌ في كؤوسكما _________________________
          أم في كؤوسكما همٌ وتسهيد _________________________
          أصخرة أنا مالي لا تحركني _________________________
          هذي المدام ولا هذي الأغاريد _________________________
          ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه _________________________
          إني بما أنا شاكٍ منه محسود _________________________

          إلى أن يقول:
          وذاك أن الفحول البيض عاجزة _________________________
          عن الجميل فكيف الخصية السود _________________________

          وهكذا خلُد فتى العربية الأوحد بثقافتـه وأدبه وبيانه وخياله لا بالمهندات والقنى وأقحاف الجماجم وخلّد معه كل من علق بردائه الذي ينتشر منه صنان كافور وضبة وفاتك بن أبي جهل كما يتضوع منه عرف سيف الدولة وعبير عضد الدولة وابن العميد وغيرهم

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: المتنبي

            غَزَلُ المتنبّي

            أنطون سليم سعد

            من العصبة الأندلسية في الأقطار العربية نهضة مباركة تغمر قلوب المتأدبين بشعاع الاعتزاز، وهي تخليد ذكرى نوابغنا والتغني بمآثرهم، وليس أدل عليها من الاحتفالات التي أقيمت تذكارًا لانقضاء ألف عام على موت المتنبي. وما المتنبي سوى ذلك الشاعر العربي الفذ الذي استهوى النفوس وسحر العقول بسمو خياله، وجزالة ألفاظه، وروعة بيانه. إن المتنبي ذلك الغلام المطل من بين أطمار الفاقة والناشز في بادية "سماوة" لهو مفخرة العرب ومجدهم الخالد إذا ما فخرت أمم الأرض بنوابغها وفحول شعرائها، ففي كل بيت من قصائده الحكم المثلى المرتدية برود الفصاحة، والشافّة عن أرقّ المعاني وأجمل صور الخيال ما يقصر عنها الكثيرون من أكابر الشعراء الذين قبضوا على صولجان الشاعرية في العالم.
            في كنوز أدب المتنبي نفائس لو عرضت في متاحف الأدب الغربي لكانت مدعاة لإجلال الأدب العربي وإحلاله المنزلة العليا، ولكن الأدب تبع للسيف وما ضعفت أمة وضيمت في عصبيتها إلا ضعف أدبها وانخفض شأنه.
            لم يتناول الناقدون شاعرًا من شعراء العربية المبرزين تناولهم المتنبي، إلا أنهم صدفوا لأمر لا نعلمه عن درس ميوله وتحليل منازعه وما أحاط بتلك الشخصية الكبيرة من مفاعيل الحياة. على أنهم لو فعلوا لدخلوا منه في شعاب منبسطة الرحاب بعيدة المرامي ولأشرفوا على قمم من نفسه تكاد تناطح الجوزاء، وليس الذنب ذنبهم ولكنه ذنب الثقافة التي لم تنل منها العربية قسطها لا سيما وأن الذين تصدوا للمتنبي كانوا في عصر سادت فيه الصناعة اللفظية، وما يعرف اليوم بالعلم النفساني لم يكن له ثمت من أثر، لذلك نرى معظمهم كالقاضي أبي الحسن الجرجاني، و أبي الفتح عثمان بن جني، و أبي العلاء المعري، و أبي علي بن فوزجة البروجردي، من أكابر الأئمة والعلماء لم يجاوزوا في نقدهم مبنية واستعاراته ومصادر الاستقاء منها. وإذا علمنا أن الحقد والحسد رانا على تلك الأقلام فلم تعن بغير الخفض من شأن الرجل والتنقص من كرامته بدا لنا وجه التقصير في درس شاعرية المتنبي وفنه، ولعله هو الذي أثار بتعاظمه وكبريائه حسد الحاسدين ونقمة الناقمين وقفل بيده باب التاريخ لمن أتى في هذا العصر يتخبط من حقيقته في ليلٍ دامس. يجمع المتنبي في شعره المدح والرثاء والفخر والهجاء والحماسة والحكمة والوصف والغزل، وقد أفاض في كل هذه الأبواب إلا الغزل فقد كان نصيبه يسيرًا من شعره، وإذا وقعت على ما يشوقك من رائع غزله وخالب تشبيبه فذلك إنه عادة الشعراء في ذلك العصر، ولعل إقلال المتنبي من الغزل وأعراضه عنه له صلة بخلقه، فقد كان مأثورًا عنه الزهد بالنساء والتحرُّم في الخمر، وفي الأبيات التالية دليل بيّن على ذلك. قال:


            وغير فؤادي للغواني رمية _________________________
            وغير بناني للزجاج ركاب _________________________
            تركنا لأطراف القنا كل شهرة _________________________
            فليس لنا إلا بهنَّ لعاب _________________________
            أعزُّ مكان في الدنى سرج سابح _________________________
            وخير جليس في الزمان كتاب _________________________

            وفي أبيات سواها قال:
            تروق بني الدنيا عجائبها ولي _________________________
            فؤاد ببيض الهند لا ببيضها مغرى _________________________

            ولكن غزل المتنبي على قلته قد ازدان بدقة المعنى ولطف المبنى وجمال التصور ورقة الحس، وامتاز ببعده عن مواطن التبذل فبدا كالروضة الناضرة لا تأنف أية خريدة من أن تستأنس بشدو طيرها، وتستروح بأنفاس زهرها وريحانها.
            لم يتكلف المتنبي الغزل بل جاءه عفوًا وفاضت به نفسه فيضانًا. قال وهو فتى:
            أبلى الهوى أسفًا يوم النوى بدني _________________________
            وفرق الهجر بين الجفن والوسن _________________________
            روح تردد في مثل الخلال إذا _________________________
            أطارت الريح عنه الثوب لم يبن _________________________
            كفى بجسمي نحولاً أنني رجل _________________________
            لولا مخاطبتي إياك لم ترني _________________________

            ففي هذه الأبيات إغراقٌ في الخيال وإبداع في وصف النحول لم يسبقه إليه الشعراء الجاهليون والمخضرمون وعجز المولدون عن اللحاق به، وما صيغ على منواله إنما كان قبسًا من نوره، ووشلة من بحره.
            قال ابن الفارض:

            قل تركت الصب فيكم شبحًا _________________________
            ما له مما براه الشوق في _________________________
            خافيًا عن عائد لاح كما _________________________
            لاح في برديه بعد النشر طي _________________________

            وقال صفي الدين الحلي:

            أنحلتني بالصدود منكِ فلو _________________________
            ترصدتني المنون لم ترَني _________________________

            وللمتنبي قوة روحية في غزله تفتن القلب والوجدان وتسيطر على النفس حتى لا ترى سوى ألوان ميوله ونزعاته. وهذا لظى حبه يلهبك في أبياته التي يعاتب فيها مستعطفًا:
            كفي أراني ويك لومك ألوما _________________________
            همٌّ أقام على فؤاد أنجما _________________________
            وخيال جسم لم يخل له الهوى _________________________
            لحمًا فينحله السقام ولا دما _________________________
            وخفوقُ قلبٍ لو رأيت لهيبه _________________________
            يا جنتى لظننت فيه جهنما _________________________
            وإذا سحابة صد حب أبرقت _________________________
            تركت حلاوة كل حب علقما _________________________

            أكثر المتنبي من التشابيه في شعره فكانت حسنة المطابقة ورائعة المعنى، فقال وقد ترشف ريق الحبيب فخاله خمرًا، وضم قده فظنه غصنًا، وقبل ثغره فتوهمه برقًا:

            أريقك أم ماء الغمامة أم خمرُ _________________________
            بفيَّ برود وهو في كبدي جمرُ _________________________
            أذا الغصن أم ذا الدعص أم أنت فتنةٌ _________________________
            وذيَّا الذي قبلته البرق أم ثغرُ _________________________

            ومن بدائع تشابيهه ورقيق تشبيبه الذي يختلس عواطفك اختلاس النسيم عبق الأزهار، ويستلبك استلاب الشمس رضاب طل الأسحار، قوله:

            رأت وجه من أهوى بليل عواذلي _________________________
            فقلن نرى شمسًا وما طلع الفجر _________________________
            رأين التي للسحر في لحظاتها _________________________
            سيوف ظباها من دمي أبدًا حمر _________________________
            تناهى سكون الحسن في حركاتها _________________________
            فليس لراءي وجهها لم يمت عذر _________________________

            إذا عز اللقاء على العشاق قضوا لياليهم سهدًا يراقبون الكواكب ويستودعون أحشاء الدجى تنهداتهم وزفراتهم. قال المتنبي:

            ليالي بعد الظاعنين شكول _________________________
            طوال وليل العاشقين طويل _________________________
            يبنَّ لي البدر الذي لا أُريده _________________________
            ويخفين بدرًا ما إليه سبيل _________________________
            وما عشت من بعد الأحبة سلوةً _________________________
            إن الحسن منحة سماوية ومدعاة للإعجاب، وما كان يشوق المتنبي من صوره وألوانه يشوق كل إنسان في كل عصر، فمن منا لا يفتنه بياض الطلى وورد الخدود وحور العيون. قال المتنبي في مطلع قصيدة تجمع قوافيها إلى دقة المعنى ونضارة الفن صفاء الديباجة وروعة الإيقاع:

            كم قتيل كما قتلت شهيد _________________________
            لبياض الطلى وورد الخدود _________________________
            وعيون المهى ولا كعيون _________________________
            فتكت بالمتيَّم المعمود _________________________


            ويتلو هذين البيتين حنين وشوق إلى أيام الصبا وتذكارات مذيبة لمواقع غرام انقدت نيرانها بينه وبين حسان مشرقات الوجوه، فاتكات اللواحظ، ناحلات الخصور، حالكات الشعور، ضمخت بالعنبر وماء الورد، وعبقت نوافح المسك بغدائدها. قال:

            درَّ درُّ الصباء أيام تجريـ _________________________
            ـر ذيولي بدار أثلة عودي _________________________
            عمرك الله هل رأيت بدورًا _________________________
            طلعت في براقع وعقود _________________________
            راميات بأسهم ريشها الهد- _________________________
            ب تشقُّ القلوب قبل الجلود _________________________
            يترشفن من فمي رشفات _________________________
            هنَّ فيه حلاوة التوحيد _________________________
            كل خمصانة أرقَّ من الخمر _________________________
            بقلبٍ أقسى من الجلمود _________________________
            ذات فرعٍ كأنما ضرب العنبر _________________________
            فيه بماءٍ ووردٍ وعود _________________________
            حالك كالغداف جثلٍ دجوجي _________________________
            وأثيث جعدٍ بلا تجعيد _________________________
            تحمل المسك عن غدائرها الريح _________________________
            وتفترُّ عن شنيبٍ برود _________________________

            وللمتنبي أبيات في فراق الأحبة لم يدانه برقتها ورشاقة معناها كثيرون من أمراء الشعر، فإنك تحس وأنت تطالعها بنار الشوق تحرق أحشاءه، ودمع الأسى يقرح أجفانه. قال:

            حشاشة نفس ودَّعت يوم ودعوا _________________________
            فلم أدرِ أي الظاعنين أُشيّع _________________________
            أشاروا بتسليم فجدنا بأنفسٍ _________________________
            تسيل من الآماق والسم أدمع _________________________
            حشاي على جمر ذكي من الهوى _________________________
            وعيناي في روض من الحسن ترتع _________________________
            ولو حملت صم الجبال الذي بنا _________________________
            غداة افترقنا أوشكت تتصدَّع _________________________

            مهما تكتم المحبون في حبهم فالدمع يفضحهم عند الوداع. وقد أجاد المتنبي في وصف ذلك إجادة بينة، قال:

            حاشى الرقيب فخانته ضمائرهُ _________________________
            وغيض الدمع فانهلت بوادرهُ _________________________
            وكاتم الحب يوم البين منهتكٌ _________________________
            وصاحب الدمع لا تخفى سرائرهُ _________________________

            نعيم المحبين في القبلة، وألذ قبلة في عرف العشاق هي المختلسة. قال المتنبي:

            قبَّلتها ودموعي مزج أدمعها _________________________
            وقبَّلتني على خوفٍ فمًا لفم _________________________
            قد ذقت ماء حياةٍ من مقبلها _________________________
            لو صاب تربًا لأحيا سالف الأمم _________________________

            وعرَّف المتنبي الحب وما فيه مرارة نفس وأوصاب قلب وعذاب لب بأبيات تلمس الرقة تنساب في مقاطيعها كالجدول الرقراق، قال:

            عزيز اسًا من داؤه الحدق النجل _________________________
            عياء به مات المحبُّون من قبلُ _________________________
            فمن شاء فلينظر إليَّ فمنظري _________________________
            نذير إلى من ظنَّ أن الهوى سهل _________________________
            وما هي إلا لحظةٌ بعد لحظة _________________________
            إذا نزلت في قلبه رحل العقل _________________________
            جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي _________________________
            فأصبح لي عن كل شغل لها شغل _________________________
            سبتني بدل ذات حسن يزينها _________________________
            تكحل عينيها وليس لها كحل _________________________
            كأن لحاظ العين في فتكه بنا __
            ووصف المتنبي عادات إحدى قبائل العرب اشتهرت بالحسن الفتَّان، فجاء ما يسحر به السحر، ويطيب به الزهر. قال:

            لولا ظباء عدي ما شغفت بهم _________________________
            ولا بربربهم لولا جآذرهُ _________________________
            من كل أحور في أنيابه شنب _________________________
            خمر يخامرها مسكٌ تخامرهُ _________________________
            نعجٌ محاجره دعجٌ نواظره _________________________
            حمرٌ غفائره سودٌ غدائرهُ _________________________


            ومن أروع ما قيل في وصف الجمال والحسن المتناهي، قوله:

            وفتَّانة العينين قتَّالة الهوى _________________________
            إذا نفحت شيخًا روائحها شبا _________________________
            لها بشر الدرّ الذي قلدت به _________________________
            ولم أر بدرًا قبلها قلد الشهبا _________________________

            ويكثر الشعراء في غزلهم من ذكر الضم والعناق والوصال. وأما المتنبي فكان يتباهى بتعففه وحيائه. قال:

            وأغرى الصبابة بالعاشقين _________________________
            وأقتلها للمحب العميد _________________________
            وألهج نفسي لغير الخنا _________________________
            بحب ذوات اللمى والنهود _________________________

            وعندما يقف المحبون على أطلال الأحبة تبعث بين جوانحهم ميت وجدهم وتثير دفين أحساسهم فيذرفون دموع الشوق والحنين ويكون أسىً وشجى. قال المتنبي:

            دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا _________________________
            لأهله وشفى أني ولا كربا _________________________
            عجنا فأذهب ما أبقى الفراق لنا _________________________
            من العقول وما رد الذي ذهبا _________________________
            سقيتهُ عبراتٍ ظنها مطرًا _________________________
            سوائلاً من جفون ظنها سُحبا _________________________
            دار الملم لها طيف تهددني _________________________
            ليلاً فما صدقت عيني ولا كذبا _________________________
            أنأيتهُ فدنا أدنيته فنأى _________________________
            جمشته فنبا قبَّلته فأبى _________________________

            وتطرق في القصيدة ذاتها إلى وصف محبوبته والإشادة بتعففها وصيانتها. قال:

            مظلومة القد في تشبيهه غصنًا _________________________
            مظلومة الريق في تشبيهه ضربا _________________________
            بيضاء تطمع في ما تحت حلتها _________________________
            وعزَّ ذلك مطلوبًا إذا طلبا _________________________
            كأنها الشمس يعيي كف قابضه _________________________
            شعاعها ويراه الطرف مقتربا _________________________

            ومن ساحر غزل المتنبي البيتان التاليان، فمن بين تضاعيف حواشيهما تنتشر نوافح المسك ويسطع وهيج الشمس. قال:

            أمن ازدياركِ في الدجى الرقباء _________________________
            إذ حيث كنت من الظلام ضياءُ _________________________
            قلق المليحة وهي مسكٌ هتكها _________________________
            ومسيرها في الليل وهي ذكاءُ _________________________

            ويثملك المتنبي في غزله بوصف خود يرفلن بمطارق الخز والديباج وذوات بهاء كالشموس وغنج ودلال ينهبن العقول والقلوب بنضر وجناتهن وبضاضة أجسادهن. قال:
            بأبي الشموس الجانحات غواربا _________________________
            اللابسات من الحرير جلاببا _________________________
            المنهبات عقولنا وقلوبنا _________________________
            وجناتهنَّ الناهبات الناهبا _________________________
            الناعمات القاتلات المحييات __
            وقد أبدع المتنبي في وصف ذله وخضوعه في الحب وما يكابد من الشوق والصبابة ويهيمن على نفسه من اليأس والأمل والأسى والطرب في حالات رضى الحبيب وإعراضه وقربه وبعده. قال:

            لعينيكِ ما يلقى الفؤاد وما لقي _________________________
            وللحب ما لم يبقِ مني وما بقي _________________________
            وما كنتُ ممن يدخل العشق قلبه _________________________
            ولكن من يبصر جفونك يعشقِ _________________________
            وبين الرضى والسخط والقرب والنوى _________________________
            مجالٌ لدمع المقلة المترقرقِ _________________________
            وأحلى الهوى ما شكَّ في الوصل ربه _________________________
            وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقى _________________________
            وغضبي من الإدلال سكري من الصبى _________________________
            شفعت إليها من شبابي بريق _________________________
            وأشنب معسول الثنيات واضح _________________________
            سترت فمي عنه فقبَّل مفرقي _________________________


            ومن وثبات خيال المتنبي القصيدة التالية، فهي من أروع ما نظمه الشعراء الأفذاذ في الغزل، ففي كل مقطع من مقاطعها معنى يسكن إليه القلب وتخلد إليه النفس، وإنا لنجدها تحفل في لوعة المضني، وطيف الخيال، وفناء الحب، وسيف المقلة، وحمرة الخد. قال:

            أوهِ بديل من قولتي واها _________________________
            لمن نأت والبديل ذكراها _________________________
            أوه لمن أرى محاسنها _________________________
            واصل واهًا وأوه مرآها _________________________
            شاميةٌ طالما خلوتُ بها _________________________
            تبصر في ناظري محياها _________________________
            فقبَّلت ناظري تغالطني _________________________
            وإنما قبلت به فاها _________________________
            فليتها لا تزال آوية _________________________
            وليته لا يزال مأواها _________________________

            ومنها:
            تبلُّ خدي كلما ابتسمت _________________________
            من مطرٍ برقه ثناياها _________________________
            ما نفضت في يدي غدائرها _________________________
            جعلته في المدام أفواها _________________________

            ومنها:
            كل مهاة كأن مقلتها _________________________
            تقول إياكم وإياها _________________________
            فيهن من تقطر السيوف دمًا _________________________
            إذا لسان المحب سَّماها _________________________

            ومنها:
            حيث التقى خدها وتفاح لبـ _________________________
            ـنان وثغري على محياها _________________________

            هذه بعض أبيات المتنبي في الغزل، وقد استخرجتها من قصائده في المدح وسواه للدلالة على مبتكراته وبديع تخيلاته، لو أنه انصرف إلى الغزل لأتى بمعجزات باهرات ورائعات محاسن بز بها أمراء الشعر الغزلي كالبهاء زهير وصفي الدين ومجنون ليلى وابن زريق وابن نباتة وغيرهم كما بز شعراء العربية قاطبة بمتانة سبكه وقوة نحته في أرق الصور وأشف المراءي وأدق المشاهد، ولكن المتنبي كان يرى أن في الشعر العربي فراغًا حاول أن يملأه، فبرزت قصائده بحلة تزري بحلل العرائس تزينها آيات بينات ومبتكرات معان خالدات.
            كان الشعر عند شعراء العرب الأسبقين الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، ومن نسج على غير هذا المنوال عدوه خارجًا على أساليب العرب، ولكن لما حدث الانقلاب الكبير بانتقال الخلافة الإسلامية من الأمويين إلى العباسيين ترجمت كتب العلم والحكمة إلى لسان العرب فبدا لها تأثير في توسيع أفكار الشعراء المسلمين وظهر منهم طبقة جديدة على رأسها المتنبي، فجاء شعره مشتملا على آراء فلسفية وسياسية ومباحث عقلية وعلمية، غير أنه خرج عن أساليب القديم ووضع من عنده أساليب مخصوصة، ولذا قام عليه المتعصبون وسلقوه بألسنة حداد وشددوا عليه النكير، ولو عادت الحياة إلى هؤلاء وأطلوا من ظلمات لحودهم لأدركوا أن المتنبي خاتمة محاسن الشعراء وأن معانيه كالخمرة المعتقة كلما طال عليها الزمان طاب طعمها._______________________
            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: المتنبي

              بعد ألف عام
              سر الاحتفال بالمتنبي


              بقلم الدكتور محمد حسين هيكل بك
              </b>
              يعني عالم اللغة العربية هذا العام بإقامة حفلات لمناسبة انقضاء ألف عام على وفاة أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي. أقيمت أُولى هذه الحفلات بدار الجامعة الأمريكية ببيروت في اليوم الثاني من شهر يونيو سنة 1935 بناء على دعوة جمعية العروة الوثقى بالجامعة المذكورة.
              وهذه الجمعية تضم الشباب الذي يتكلم العربية من المنتسبين إلى الجامعة المذكورة. وينتظر أن تقام حفلات لهذه المناسبة
              بحلب في أغسطس سنة 1935. وطبيعي أن تذكر حلب الشاعر الذي خلد ذكرها وخلد أميرها سيف الدولة بمدائحه العظيمة. وربما أقيمت حفلة أخرى ببغداد وحفلة رابعة بالقاهرة . فقد أقام المتنبي بمصر زمنًا مدح فيه كافورًا الإخشيدي طمعًا في أن يوليه ولاية يجلس على عرشها مجلس سيف الدولة على عرش حلب. وانقلب المتنبي عن مصر حين أخلفه كافور وعده فذهب إلى بغداد ثم إلى شيراز حيث مدح عضد الدولة. فلا عجب أن أقامت مصر وبغداد حفلات كالتي أقامتها بيروت والتي تقيمها حلب تذكر بها هذا الشاعر العربي الذي ملأ الدنيا دويًا منذ حياته. ولا عجب أن يتحدث أبناء اللغة العربية عن شاعر ترك للغة العربية ميراثًا عظيمًا.
              على أن من حق كل إنسان أن يسأل: أفتقام حفلات المتنبي هذه في
              الشام و العراق و مصرتقديرًا للأثر الشعري الذي تركه المتنبي في الحياة؟ أم هي تقام تقليدًا للحفلات التي أقيمت لمناسبة انقضاء ألف عام على شاعر الفرس الفردوسي - هذه الحفلات التي أقيمت في فارس وفي لندن وفي كل مكان به من المستشرقين من يعني بشاهنامة الفردوسي ويعجب بها.
              وهل تقام حفلات
              المتنبي هذه إعجابًا بشعر المتنبي وفنه فيه؟ أم تدفع إلى إقامتها اعتبارات ليس الفن وليس الشعر أقواها في حفز النفوس إلى إقامتها؟ وما هي هذه الدوافع التي تجد في شعر المتنبي ما يشجعها على الظهور للاحتفاء بشاعر من شعراء العربية اتصلت الخصومة في شأن شعره ومبلغ ما يسمو إليه من مراقي الفن وما يهبط إليه من دركاته منذ حياته إلى عصرنا الحاضر، بينا من شعراء العربية من انقضى على وفاتهم أكثر من ألف عام فلم يفكر أحد في الاحتفاء بهم مع أن ما خلفوا من التراث الشعري لا يقل روعة وجلالا عما خلف المتنبي؟
              أما أن الاحتفال بانقضاء ألف عام على المتنبي إنما هو مجرد تقليد للاحتفال بالفردوسي فذلك ما لا يصدقه الواقع. فالتفكير في المتنبي والاحتفال بانقضاء ألف سنة على وفاته تفكير قديم يرجع إلى عدة أعوام. والاحتفال بانقضاء ألف عام على منشآت أو رجال تركوا على الزمان أثرًا، هو اليوم بعض ما يجول بالخواطر. وها نحن أولاء عما قريب سنشهد الاحتفال باليوبيل الألفي للأزهر. وسواء أكانت هذه الفكرة قد نبتت أو ما نبتت للاحتفال بالأزهر أو بالمتنبي أو بالفردوسي فهي فكرة طبيعية أجدر بأن تساور النفوس من الاحتفاء باليوبيل الفضي أو باليوبيل الذهبي لحي من الأحياء أو عمل من الأعمال، وأجدر بأن تساور النفوس من الاحتفال بانقضاء مائة عام على مولد عظيم من العظماء أو على وفاته. فالعظيم الذي صمدت عظمته للزمان ألف سنة تباعًا جدير حقًا بأن يذكر وبأن تخلد ذكراه. وهو كذلك ما مست هذه الذكرى نفوس الأحياء على نحو يثير فيها عواطف تحدث بها هذا العظيم وخلدها على الدهر.
              وهذا هو في رأينا سر الاحتفاء
              بالمتنبي دون غيره من شعراء العرب الذين انقضى على وفاتهم ألف عام. فليس ريب في أن من هؤلاء الشعراء من يضارع المتنبي قوة ومن يفوقه رقة ومن يعلو فنه على فن المتنبي علوًا كبيرًا. وكثيرون من الضليعين في الشعر وفنونه يفضلون أبانواس على المتنبي في سمو خياله ورقة تعبيره وحلاوة أسلوبه وعذوبته الموسيقية في شعره. ومن الناس من يفضل ابن الرومي على المتنبي. لكن هؤلاء جميعا لا يعبر شعرهم عما يجول بخواطر الذين يتكلمون بالعربية اليوم كما يعبر عنها المتنبي. هؤلاء يصفون الطبيعة ويصفون الحياة ويصورون متعها ويستشفون حكمتها من خلال هذه المتع. وهذا كله لا يتصل بعاطفة الذين يتكلمون العربية من أبناء اليوم. إنما يتصل بعاطفتهم هذا الألم لفقد حريتهم ولضياع استقلال بلادهم.
              ويتصل بعاطفتهم هذا الاعتزاز بالنفس اعتزازًا هو السبيل لاقتناص الحرية من جديد ولتحقيق استقلال البلاد العربية المختلفة. ولم يعبر أحد عن هذه المعاني بمثل ما عبر المتنبي من قوة. ولم يكن عصر اضطربت فيه أمور البلاد العربية اضطرابا يكاد يشبه ما هو حادث اليوم كعصر المتنبي. فلا غرو أن استفز شعر
              المتنبي همة الشباب. ولا عجب أن سارع الشباب الذي يتكلم العربية للاحتفاء بذكرى المتنبي بمناسبة انقضاء ألف عام على وفاته.
              ومن الخبل أن نذهب مع البعض إلى أن الأدب القومي عرض زائل والأدب العالمي جوهر خالد. فخلود الأدب العالمي ذي النزعة الإنسانية لا يجرد الأدب القومي من طابعه وقوته وأثره الواضح في تصوير منازع الأمم تصويرًا يظل بارز الأثر مهما تصرمت السنون والأجيال. وهذا الأدب يشغل مكانه السابق في نهضات الشعوب وكفاحها. وهذه النزعة الهتلرية قد قضت أو كادت على كل أدب لا يصور النزعات القومية. ومثل هذا تجده في تركيا الكمالية وفي إيطاليا الفاشيستية. و المتنبي الشاعر الذي كان يتخذ المدح وسيلة للتحدث عن نفسه وتصوير ألوان الانتكاس في عصره، والذي كان يرسل آراءه السديدة في طباع البشر، كان من ناحية ثانية، ينضح عن نزعة قومية صارخة. وهذا ما يجب أن يلتفت إليه الشباب في دراستهم شعر المتنبي. ودراسة شعره كدراسة حياته تهدي الشباب إلى الكثير من هذه الشكوك التي تعترضهم في كفاح الحياة. وشكوك الشباب في عصرنا هكذا كثيرة: أينكمشون في عزلة أم يتصلون بالعالم؟ أتكون حياتهم حياة ترف وميوعة أم جهد وجلاد؟ أيغامرون أم يكتفون بالتافه الحقير من أغراض الدنيا؟ إن شاعرنا الحكيم الذي كان يصرخ من أعماق قلبه:
              عش عزيزا أو مت وأنت كريم _________________________
              بين طعن القنا وخفق البنود _________________________

              والذي كان يرتفع بنفسه وشعره عن حياة الوهن والضعف والميوعة إلى حياة القوة والمغامرة والكفاح والنضال وما إلى ذلك مما يطويه هذا البيت الذي يمثل نفسيته الطامحة أصدق تمثيل:
              يقولون لي ما أنت في كل بلدة _________________________
              وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى _________________________

              والذي كان "يطلب من زمنه ما لا يطلبه الزمن نفسه" - هذا الشاعر الذي يمثل في حياته روح المغامرة والجرأة والرجولة القوية - جدير بأن يكون رفيق الشباب ومنارتهم الهادية في كفاح الحياة - هذه الحياة التي تتطلب من الشباب في عصرنا هذا الثقافة الواسعة والوثوق من النفس والمغامرة والتضحية في سبيل فكرة - وهذه هي الرجولة الحقة التي يلمسها الشباب واضحة الألوان والخطوط في حياة أبي الطيب وشعره.


              من حكم المتنبي</b>


              صحب الناس قبلنا ذا الزمانا _________________________
              وعناهم في شأنه ما عنانا _________________________
              وتولوا بغصة كلهم منــ _________________________
              ـه وإن سر بعضهم أحيانا _________________________
              ربما تحسن الصنيع لياليـ _________________________
              ـه، ولكن تكدر الإحسانا _________________________
              وكأنا لم يرض فينا بريب الدّ _________________________
              هر حتى أعانه من أعانا _________________________
              كلما أنبت الزمان قنــــاة _________________________
              ركب المرء في القناة سنانا _________________________
              ومراد النفوس أصغر من أن _________________________
              نتعادى فيه وأن نتفانى _________________________
              غير أن الفتى يلاقي المنايا _________________________
              كالحات ولا يلاقي الهوانا _________________________
              ولو أن الحياة تبقى لحي _________________________
              لعددنا أضلنا الشجعانا _________________________
              وإذا لم يكن من الموت بد _________________________
              فمن العجز أن تكون جبانا _________________________
              كل ما لم يكن من الصعب في الأنـ _________________________
              ـفس سهل إذا هو كانا _________________________
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: المتنبي

                عبرة الشباب
                لمحة عن المنازع القومية في المتنبي


                بقلم الأستاذ سامي الكيالي

                عاش المتنبي عمره وهو يحمل في صدره عزم الشباب. نفس طموحة، وروح مغامرة، وقلب قلق وثاب، وجنون بالمجد والتعالي والعظمة، وإيمان الواثق من نفسه، وما إلى ذلك من هذه الألوان التي تتلاقى ظلالها في حياة العصاميين الذين يرتفعون بنفوسهم من الضعة إلى قمة المجد وذروة العلاء.. هذا هو المتنبي وهذه أظهر خصائص نفسيته. فقد نشأ نشأة الفقراء، وعاش حياة ضنكة مغمورة بألوان الشقاء.
                ولكن فقره لم يحل دون تفتح مواهبه، وما كان الشقاء ليحيل ذكاءه بلهًا وتوقد ذهنه خبلا، أو ليقعده في أرض الكوفة مغمور الاسم لا يدوي صداه في الآفاق. فقد تطلع المتنبي وهو في مقتبل عمره إلى الأمجاد ولم تصدمه الأحداث التي جابهته بل احتملها أبي النفس قوي الإرادة هادئ الضمير. وظل في طريقه يقتحم المصاعب ويواجه الأهوال. يجالد ويقارع ويناضل ويسير من بلد إلى بلد حتى همد جسمه بعد أن ترك في دنيا الأدب العربي دويًا رن صداه حتى في آداب الأمم الحية.
                دخل المتنبي غمار الحياة وهو خلو إلا من هذا الخافق بين جنبيه، ومن هذه النزعات الصلبة القوية التي امتزجت بدمه وأعصابه. دخل غمار الحياة وكأنما كل شيء يعلن له "أن الدنيا لمن غلب". عصر يعج بالاضطرابات والدسائس، إمارات تتقاذفها الأيدي في كل
                مصروصقع، متغلبون تضطرم نفوسهم بالأهواء والشهوات. وشهوة المجد في نفس شاعرنا لم تكن أقل منها في نفس غيره من الطامحين وهو القائل:
                وفؤادي من الملوك وإن كا _________________________
                ن لساني يرى من الشعراء _________________________

                فلم ينكمش في عقر داره، ولم يشغل نفسه بالتوافه، ولا عرف الضعف والوهن بل زج نفسه في هذا الأتون الملتهب، وأخذ يجوب البلاد ويبلو أخلاق الناس ويتصل بالأمراء. وكان الشعر وسيلته في المدح، فإذا مدح أشاد بنفسه وقوته وأدبه، وأشار إلى مطامحه، وصرح أنه ليس كغيره من شعراء المديح الذين يكتفون بالتافه اليسير من أغراض الدنيا:
                وفي الناس من يرضى بميسور عيشه _________________________
                ومركوبه رجلاه والثوب جلده _________________________
                ولكن قلبا بين جنبي ما له _________________________
                مدى ينتهي بي في مراد أحده _________________________

                وفرق كبير بين الشاعر الذي يرتمي بين أعتاب ممدوحيه ضعيف النفس ذليلها، وبين الذي يرسل شعره قوي النفس عزيزها، ويعلن عن شخصية لها طمحات ورغبات لا حد لها ولا أمد. هذا هو المتنبي في مجموعه. فما الذي يستفيده الشباب من دراسة حياته؟. والشباب في عصرنا هذا يملأ الدنيا ويشغل الناس - على حد تعبير ابن رشيق في المتنبي - نعم، يملأ الشباب الدنيا بميوله ونزعاته، بواجبه نحو نفسه ووطنه، بتحمله وقر النهضات وتضحيته بسخاء، بمدى صلته بحاضره وربطه بين ماضيه وحاضره ومستقبله. فهل يستطيع المتنبي أن يكون هدى الشباب إذا ما تلمسوا بعض شكوكهم في حياته وشعره؟.. إن طابع هذا العصر يختلف عن عصر مضى عليه ألف عام. ولكن نفسية العصاميين في جوهرها ومنازعها وطمحاتها هي هي مهما تباينت العصور. وقبل أن نجيب على هذا السؤال الذي فرضه "الهلال" الأغر نريد أن نقول إن النزعة الجديدة في دراسة الأدب لم تعد لترتضي هذه "السطحية" في درس الأدب العربي بل لا بد من درسه بتعمق واستقصاء وكشف لهذه القوى الدفينة التي تكمن في قصيده ومنثوره. فأنا مثلا لم يعد يهمني من قصائد المتنبي في سيف الدولة هذه البهرجة اللفظية والأساليب القوية والحكم الغوالي، بل أبحث فيها - وأنا أدرس عصر الحمدانيين - هذه الألوان التي أرى في أصباغها نقع المعارك التي خاضها سيف الدولة في حروبه مع نيقفور البيزنطي، هذه المعارك التي تكاد تشبه معارك هوميروس في إلياذته. وأخرج من دراستي إلى أن أدب المتنبي لم يكن أدب الحكمة والمديح فحسب، بل كان صورة حية لهذا "الأدب القومي" الذي تكاد ترتفع دعوته الصارخة في هذه الأيام على "الأدب العالمي". وأنه من الزراية بأدبنا القديم أن نقف عند هذه النظرة الضيقة التي لا ترى في أغراض الشعر العربي سوى المديح والغزل والنسيب والرثاء والفخر. مع أن قليلا من البحث في شعر المتنبي يكشفنا على منازع قومية حية تنبثق من قصائد المديح، التي تجمع بين نظرته الإنسانية الشاملة، وعاطفته العربية الزاخرة.
                وإذا نظر إلى ما قبل هذا البيت دل على المدح خاصة لارتباطه بالمعنى الذي قبله. وكثيرا ما كان يعمد المتنبي إلى هذا النوع في شعره، وأكثر ما كان ذلك في قصائده الكافوريات.. وحكى ابن جني قال: قرأت على أبي الطيب ديوانه إلى أن وصلت إلى قصيدته التي أولها:

                "أغالب فيك الشوق والشوق أغلب"</b>
                أتيت منها على هذا البيت:

                وما طربي لما رأيتك بدعة _________________________
                لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب _________________________

                فقلت يا أبا الطيب: لم تزد على أن جعلته أبا زنة - أي قردا - فضحك لقولي: أما غير الضدين فكقول المتنبي من قصيدته في عضد الدولة:
                لو فطنت خيله لنائله _________________________
                لم يرضها أن تراه يرضاها _________________________

                فإنه يستنبط منه معنيان غير أن: أحدهما أن خيله لو علمت مقدار عطاياه النفيسة لما رضيت له بأن تكون من جملة عطاياه لأن عطاياه أنفس منها. والثاني أن خيله لو علمت أنه يهبها من جملة عطاياه لما رضيت ذلك إذ تكره خروجها عن ملكه.. وهذا النوع المسمى الموجه تراه كثيرا في شعر الفحول المتقدمين منهم والمتأخرين. فمن ذلك باب الكناية وهو باب واسع في العربية حتى أفرد له المتقدمون الكتب والأسفار.
                وبحسبك كتاب الكنايات للثعالبي. ومن ذلك المغالطات المعنوية وهي بسبيل من التجنيس وليست به، وذلك أن يذكر معنى من المعاني له مثل في شيء آخر أو نقيض والنقيض أحسن موقعا وألطف مأخذًا، وذلك مثل قول المتنبي:

                يشلهمو بكل أقب نهد _________________________
                لفارسه على الخيل الخيار _________________________
                وكل أصم يعسل جانباه _________________________
                على الكعبين منه دم ممار _________________________
                يغادر كل ملتفت إليه _________________________
                ولبته لثعلبه وجار _________________________

                فالثعلب هو هذا الحيوان المعروف والوجار اسم بيته والثعلب أيضًا هو طرف سنان الرمح فلما اتفق الاسمان بين الثعلبين حسن ذكر الوجار في طرف السنان. وهذا نقل المعنى من مثل إلى مثله.
                أسباب الغموض في شعر المتنبي</b>
                أما بعد فلك أن تقول بعد هذا التمهيد إن هناك ألوانًا من الغموض تعد من محاسن الكلام.
                فليس يعاب بها الشاعر إذ هي من بنية الشعر العربي ومقوماته. وأظن أنه لا يخلو منها منظوم في أي لغة من اللغات، بلى ولا يخلو منها منثور. وعدنا إياها من ألوان الغموض إنما هو تجوز وتوسع وإلا فهي كما قلنا من محسنات الكلام ودلائل على براعة الشاعر وصدقه، والجهل بدقائقها جهل بالشعر ومآزقه الضنكة المتلاحمة. على أن
                المتنبي وإن كان في حقيقته مطبوعا إلا أنه كسائر الشعراء الفحول يضطر إلى الصنعة في بعض الأحيان شأن الفنانين في كل فن وحرفة، فليس يؤاخذ الفنان بذلك ولا هو مما يغتمز فيه، اللهم إلا في الندرة وحين يجعل الصنعة وكده وديدنه. أما الغموض الحقيقي الذي أوردنا من ألوانه وأمثلته ما أوردنا فلك أن تقول إن المتفقد لشعر المتنبي المتتبع لظروفه وملابساته يتجلى لها أن هذا اللون من الغموض كان يعرو شعره في حالات تكاد تشفع له، فإنك ترى هذا الغموض أكثر ما يكون في صباه وأوائل شعره. ويظهر أن مثله الأعلى في أول أمره كان شعراء الصنعة أمثال مسلم بن الوليد و أبي تمام، فكان يقفو أثرهما ويحتذي على طريقتهما فيحتفل ويتنطس فيغمض.
                وكذلك تراه يحتشد ويبلغ أقصى مجهوده إذا هو مدح مثل
                ابن العميد وهو من هو أدبا وفضلا وجهبذة وأستاذية حتى أن له على المتنبي مآخذ. وكذلك إذا هو مدح سيف الدولة لأول اتصاله به والشعراء متوافرون على بابه وسيف الدولة نفسه من الأدب والشعر بمكان. وتراه كذلك إذا هو رجز - قال رجزا - كأنه يحاول أن يطول رؤبة والعجاج ويغبر في وجوههما. فتأتي أراجيزه حافلة بكل غريب غليظ ممعن في اليعربية. هذا ومما يجمل أن يلحظ هنا أن عصر المتنبي كان شأن اللغة فيه غير شأنها اليوم وأن البيئة التي نشأ في أحضانها أدباء ذلك العصر هي غير بيئتنا. وهذا أبو الطيب تراه نشأ في البادية وتلقى اللغة من الأعراب الخلص، ثم ظهر في بيئة - هي الكوفة - غاصة بالرواة وعلماء اللغة وأساطين البيان، وهو رجل بطبيعته طموح بعيد مرتقي الهمة، أفتراه ونشأته هذه النشأة وبيئته هذه البيئة وطموحه هذا الطموح لا يحتفل في شعره كل الاحتفال ويأتي بالغريب الوحشي وبالتراكيب الغريبة في بعض الأوقات وبالمعاني الدقاق والتوليد العجيب الدقيق؟
                وإذا ما عرفت هذا وتفطنت إليه تبين لك أن ليس هناك ما يصح أن يسمى تعمدا للغموض. وإنما هو الاحتفال والاحتشاد واستنباط القريحة لحوافز نفسية وانفعالات طارئة، وظروف واعتبارات عارضة. وإنما هو الطراز الأول من الشعر تظاهر على إنتاجه عصر غير عصرنا ولغة تكاد تتناكر مع لغتنا كما تتناكر لغة شكسبير مع لغة هذا الجيل من الإنجليز لا يدرك دقائقها إلا الأفراد أوتوا من الوقت والاستعداد ما يجلدهم على معاناتها، ودراسة آدابها وآلاتها. وإنما هو المثل الأعلى من المعاني الدقاق لا يلهمه إلا مثل المتنبي في شاعريته وعبقريته وتوليده العجيب. ذلك التوليد الذي هو سر من أسرار شاعريته.



                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق

                يعمل...
                X