إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الطعام والعيون : قصص

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الطعام والعيون : قصص

    الطعام والعيون

    - أبو العيد دودو -

    قصص - من منشورات اتحاد الكتّاب العرب - 1998
    الطعام والعيون
    ضارب الرمل
    الصك الأزرق
    الغزال
    ضريبة الشحن
    البركة
    لعنات على أعواد الكوخ
    الدوّارة
    دفاعاً عن الوطن
    سياج البنفسج
    - ثم ماذا؟!
    وجوه من سحاب

    وليمة في مغارة‏
    حماية الضمير
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: الطعام والعيون : قصص

    الطعام والعيون
    -1-‏
    أتذكر يا غراب ذلك اليوم الذي دخلت فيه مدينتنا؟ لا، لا أظنك تذكر ذلك، بل لا يمكنك أن تذكره أبداً. فقد اختفت عنك الذاكرة، مسحها الظلام من رأسك. ألم تكن رسولاً للظلام؟ أجل، كان ذلك اليوم رطباً خانقاً، ولم تكن في السماء كلها بادرة مطر واعدة. وأقول السماء كلها، لأن السماء كانت سماءنا أيضاً.. مثل المدينة".‏
    حين خطوت فوق شارع الثروة.. وهل كان مجيئك دونما سبب من ثروة؟ كان وقع خطاك صدى عابراً، وكانت ابتسامة عينيك مؤقتة، وذلك ما لم تكن تفكر فيه في الوهلة الأولى، كنت تحسب أن الطريق الذي كنا قد بدأناه، لم نشقه إلا من أجلك. لقد كنت مخطئاً كل الخطأ، كان كل ما أحاط بك زائلاً.. زوال ظل غيرك!‏
    لقد كان يوماً صرخت فيه عصافيرنا في فزع وكانت تبح أصواتها وهي صامتة! فما كان لغنائها من جدوى، وهاجرت بقايا حماماتنا. وفي اليوم نفسه ترددت أصداء أجنحة النسور في آذاننا من بعيد.. بعيد! فلم نكد نسمع نعيق الغربان.. ويلك.. الغربان التي أرسلتها بين يديك، حتى تأكد لدينا أنك تريد ما في حوزتنا. عرفنا أن صوت غصاب يمتزج بصوتك وأن دقات قلبك من فيض دقات قلبه.. هذا إن لم تكن أنت قلبه؛ وعندئذ لفظتك مشاعرنا، وتلقتك ثورة عيوننا. وقد كشفت لنا عن فرحك وكبريائك، وعن خضوعك وخنوعك، عن طموحك وضيق أفقك في آن واحد، عن رغباتك وتناقضاتك.. وها هي ذي مذاكراتك تروي ذلك بوضوح..‏
    ".. وشكل دخولي اليوم موكباً فريداً، لم يعرف التاريخ له مثيلاً، فقد كانت ألواني منتشرة على امتداد نظرتي، ونظرتي واسعة جداً، كانت تحمل يدي لتركزها في الأبعاد، وكم لأبعادي من قدم. كان وصولي فرحة طاغية.. عارمة. فقد تعالت على جانبي الطريق هتافات حادة، أتاحت لي أن أتذوق سحر الجماهير، فرفعت يدي لألم أصواتها وقبلاتها، وكانت الحماية قد أحاطت بي وكان ذلك وعداً صادقاً منها، حافظت عليه كما ينبغي لأمثالها‍. فقد اقترب مني غصاب، وأدى لي التحية، ثم مد يديه لمصافحتي، وعلى فمه ابتسامة نيرة، فشددت عليها، وخاطبني قائلاً:‏
    - قدوماً مباركاً، يا صاحب السعادة.‏
    وقويت الهتافات في تلك اللحظة، وزمجرت وتعالت لحظات، فترددت أصداؤها فوق أبعادي. واحتفظت بيد مستقبلي بضع ثوان، لأن الفرحة أربكتني، وكادت تجمد يدي، وتوقف لساني، وبعد حين شعرت بها تلتحم بيده، وتستقطرها أمناً وسلطاناً. كانت يدانا تجسمان خطاً واحداً أفقياً.. واليد الواحدة قمة. وأوشكت أن أضع شفتي فوق اليد التي رفعت يدي، ورسمت بها أفقياً. فقد غمرتني موجة تأثر سمحة. ونظرت في عينيه الزرقاوين، وسمائي مع زرقته، في شبهِ ولهٍ ، وقلت بصوت ممتن:‏
    - شكراً لك، يا سيدي غصاب، ألف شكر‍‍!‏
    قلت له ذلك وأنا أعلم أن أي عدد لا يكفي لشكره على الثروة، التي بسطها أمامي، ونصيبي من بعض نصيبه! وأذكر أني أغمضت عيني في أثناء شكري له كمن يتعبد في خشوع! كانت تلك غمضة الفرحة الهنيئة. وسرت بجانبه في خفة وحيوية، وكان يتباطأ ليوازي ظلي ظله، والخطى المتوازية شركة بشكل ما! وكنت في الواقع لا أصدق أن رجليّ تطآن أرض الثروة.. فعلاً، لم أكن أصدق ذلك. كان الصدق نفسه هبة! ورفعت يدي محييا الجماهير المتطلعة إلى موكبي، تلوح بأعلامي، وتنثر الورد والزهر على طريقي. كان كل ذلك في الحقيقة قد فاق جميع تصوراتي. وذلك ما جعلني أسأل سيدي غصاب مندهشاً ومبتهجاً في وقت واحد:‏
    - أهذه الهتافات كلها من أجلي.. من أجلي أنا؟‏
    حول غصاب وجهه نحوي، ورفع حاجبيه، وأجابني بنبرة تجاوزت شموخي:‏
    - فلنقل أنها من أجلنا جميعاً.. إنها شركة بيننا أيضاً.. كالثروة! إلا أن نصيبك أنت من الهتافات أكثر بحكم القرابة.. وأنت بالنسبة إلينا رأس الشجرة!‏
    وضحك برقة، وأخذ يحرك يده برشاقة، والحق أن كل شيء فيه كان رشيقاً.. حتى صوته وكلماته ونظرة عينيه، ثم أضاف قائلاً:‏
    - الشجرة المثمرة طبعاً!‏
    وضحكت بدوري، وأعجبني أن أستعمل أسلوبه، فسألته وأنا أنظر إلى وجهه:‏
    - هل يعني هذا أن فروعي أصبحت عقيمة؟‍!‏
    وفكر غصاب قليلاً، ثم قال:‏
    - بعد حضورك أنت لم يعد أمرها مهماً بالنسبة إلينا!‏
    وهنا أسرعت أقول:‏
    - هذا صحيح. أن أمرها الآن بيدي.‏
    وشعرت بصدري يمتلىء عزة وفخاراً و.. ثروة! وواصل ركبي مسيرته عبر مدينتي، التي كانت فروعي تهتز على جانبيها أهازيج وزغردة، إلا أن فرعاً بارداً أخذ يكتنف ظهري ببرودته فجأة، فقد لاحظت عيوناً متفرقة في هذه الجهة وفي تلك.. وفي الطريق وفي النوافذ والسطوح، تنظر إلي غاضبة حانقة رافضة.. رفضاً ما كنت أتوقعه، وتهيأ لي في الحين أنها ستنغص علي ما كنت أحلم به دائماً من متع الموائد والمجالس. ورحت أتتبعها في رهبة، ويبدو أن غصاب لاحظ علي ذلك، فقد قال لي مطمئناً:‏
    - لا تهتم بها. إنها لا تخيف ولا تؤذي! ولهذا فنحن نقدمها لك على غضبها هدية. العيون شيء والغضب شيء آخر. وسيكون لك معها مسلك خاص.. يليق بفروعك!‏
    وضحك مرة أخرى، ولم أفهم ما عناه بالجملة الأخيرة، فسألته مستوضحاً:‏
    - ماذا تعني بهذا، يا سيدي غصاب؟‏
    نظر أمامه وزم شفتيه، ثم قال:‏
    - معناه يا صاحب السعادة..‏
    وتوقف قليلاً، وأضاف بعد حين:‏
    - سأوضح لك هذا الأمر فيما بعد.‏
    وبدأ عدد العيون يقل، ولكني كنت أشعر أنها تطاردني دون أن أراها وترغمني على أن أعيش في غربتها..".‏
    -2-‏
    "... كانت المأدبة التي أقيمت على شرفي، فخمة رائعة، حفلت بكل ما كانت تتمناه نفسي، قرب أو بعد. وكانت كل العيون رائقة وصافية. لقد حرص غصاب على أن تكون كلها فاتنة! فلم تفتقد نفسي شيئاً. كنت في الثروة حقاً! وبعد المأدبة أخذت فوق حاجتي من الراحة، وجلست في وقت متأخر مع غصاب في قاعة بديعة، يحيط بكل منا رجاله ومساعدوه. واعترتني رجفة حين عدنا إلى حيث العيون، وكان غصاب هو الذي أثار موضوعها، وقال لي:‏
    - أنت تعلم، يا صاحب السعادة، أن مشاعر العصر.. مشاعر عصرنا تتطور، فلم يعد في استطاعتنا أن نحرم العيون من الضوء، وأن نزيل عنها الغضب. ممارسة العنف لم تعد مجدية بالنسبة إلينا، فهي تمس بإنسانيتنا، وقد أحضرناك لتقوم بهذا الدور، فأنت لا تهمك مشاعر العصر كما تهمك.. الإنسانية! كل ما يهمك يتعلق بمشاعر الطاعة والخضوع.. خضوع العشيرة لك! وفي ذلك تتجسد ثروتك.. وهي ثروتنا معاً! بل لك أن تقول.. سمادنا الفوسفاتي! أعتقد أن الأمر الآن واضح جداً. لا أشك في أنك فهمتني.‏
    وفهمته بالفعل، فلا أقبل أبداً أن ينصب فوقي غضب عيون العشيرة. وأدرت أن صراعي معها قد بدأ في ذاتي نفسها!..".‏
    ***‏
    "... وسلم إلي اليوم غصاب مفتاح مكتبه، وقد تم ذلك طبعاً في أثناء حفلة أقيمت لهذا الغرض، وكانت بداية طيبة. وسمح لي أن أنعم بكل ما فيه.. ومن ذلك بعض سلاحه! ودخلت المكتب معه، ورحت أتأمله في انبهار. كان مناسباً لرغباتي وتطلعاتي.. به حققت مكسباً في طريق أبعادي، سيزيد من خيري ومن خيرات موائدي. وتقدمت من الكرسي وجلست فوقه، وكان غصاب ينظر إلي مبتسماً، وأخذت أتحسس بيدي ما فوق المكتب، فاقترب مني غصاب، وقال لي:‏
    - إنه الآن ملكك. تصرف فيه كما يحلو لك.. ولن يكون بيننا حساب إلا في نعيم الثروة! لقد تنازلت لك عنه، ولم يعد يخصني فيه شيء. نظمه كما تشاء، وإذا احتجت إلى مساعدتي، فإني قريب منك.. تحت تصرفك!‏
    وقبل أن يتجه إلى مكتبه خلف مكتبي، أضاف قائلاً:‏
    - ولا إخالك إلا ستحفظ ذكراي فيه!‏
    وضحكنا ضحكة لم تكن متوقعة. وبعد خروجه مباشرة، خامرني شعور حاد بأن مكتبه يمتصني امتصاصاً..".‏
    ***‏
    "... وألقى رجالي اليوم القبض على شيخ، كان جالساً على قارعة الطريق، ينظر إلى الشمس، التي كانت قد غطت صفحتها سحابة ونشرت ظلالها فوقه. وقد حدثوني أنه كان قد جمع حوله عدداً من الشبان، وراح يحدثهم وهم يخطفون كلماته خطفاً.. كان يقول لهم إن أسرة اللصوص قد اكتملت، ولكننا نؤمن بأن الشمس تشرق على الجميع، وما تلك إلا سحابة ستزول بعد حين.. والحين في عمر اللصوص قصير! وسألت غصاب عنه، فأخبرني أنه شيخ مخرف وأنه يكفيني أن أضعه في سجلاتي بهذه الصفة كما هو في سجلاته.. ومع ذلك لم أطمئن إليه ونقلته إلى حماي!..".‏
    ***‏
    "... بدأ الشيوخ المخرفون يتكاثرون في حماي.. بشكل مخيف! وقد أخطأ رجالي حين تركوا شباب الشيخ الأول ينعمون بأداء حديثه.. ثم ينقلونها بعيداً.. بعيداً! وأصبحت أ سمع أصواتهم وأسمع لهم أنفسهم دوياً رهيباً، يجعلني أحياناً أثور عن كرسي مكتبي! صارت العيون الغاضبة تقتلني. إني لأراها حتى في سحنات الأطفال والنساء والعذارى. عيون تطعنني بطناً وظهراً، وتستنزفني داخلاً وخارجاً. لكنني لن أتخلى عن كرسي هذا عن.. ثروتي! سوف أضرب ضرباً ساحقاً.. مروعاً. ولن أتراجع عن ذلك إلا عندما تسترجع عيوني صفاءها وإلى فترة طويلة جداً وتستقر يدي فوقها بكل ثقلها..".‏
    -3-‏
    وهكذا رحت تكابر، يا غراب، وتتحدى العيون، التي رفضتك، وتعد نفسك بالهدوء و... الثروة! وقد تحدثت عن تلك العيون بهدوء كبير، ولم تضع في مذكراتك أي علامة من علامات التعجب.. فاضطررت أنا إلى وضعها حسب مدلولها عندي.. عندي أنا وحدي.. أنا الشيخ الآخر المخرف! وعندما استطعت أن تخنق بعض الأصوات، وتخترق بعض العيون، بعضها فقط.. ولعلك أرغمتها على ذلك تحت وطأة مآدبك، تصورت أنك انتصرت، واستقربك الكرسي.. الذي قدمه لك غصاب هدية ليزداد من ورائك ثراء، ولتفعل أنت بفروعك، على حد تعبيرك ما تشاء أن تفعل!‏
    ثم جاء اليوم الآخر، الذي لم تتوقعه أيضاً، وتركته لنا نتصور شكله.. وأقبلت على الطعام بنهم.. وحجمه من حجم ثروتك كما كنت تحلم بذلك..‏
    وإذا بالصحون تتحول إلى عيون كبيرة، العيون نفسها التي أخافتك منذ الوهلة الأولى، فتحديتها وأخذت تنتقي ألذ الأطعمة، ولم تعرف أنها حارسة أمينة إلا حين شعرت بخناجر تقطع أحشاءك. لقد كانت عيون الشيخ وعيون شبابه. وأني لأذكر ملامحه، فقد كنت بجانبه يوم عبور تلك السحابة.. وشبابي شيخوخة فكر وتجربة ثورة! وفي يومك الأخير أمطرت السماء بغزارة!‏

    8/11/1975.‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: الطعام والعيون : قصص

      ضارب الرمل
      سيدي، اجلس، اجلس، يا سيدي! سأحدثك عن ماضيك وعن حاضرك وعن مستقبلك، فالماضي له بقاؤه مهما خفي، والأيام تكشف الأسرار وتعري الأفكار! سأروي لك ما يحدث في دنياك هذه وآخرتك، فكلتاهما أحوال وأفعال.. وإن كانت لهما طبيعتان مختلفتان. وإني لأرى في وجهك أنك من الطيبين.. من أشد الناس إيماناً بالآخرة، بل ربما أنت من أهل الآخرة. عيناك تحدثان عن بعض ما في أعماقك.. هما الآن بالذات تقولان.. أنك تفكر في الآخرة ليل نهار! هذا ما يظهر عليك، ولكن الرمل هو الذي سيقول كلمته فيك. فأصابعي، وهي تخط الرمل، تستطيع أن تحدثك عن كل شيء.. عن ظواهرك وعن خوافيك، عن أسنانك وعن أنيابك. قد تقول لك ماذا نهشت يوم أمس وما قبل الأمس، فلذلك كله بقايا! في عصري وعصرك هذا لا حق في العيش لمن ليس له أنياب. ولك أنيابك فيما أرى، وهي أنياب ذهبية، ومن ثم فطاقتها على النهش أكبر.. في عصر الجوع والحرمان والقهر و.. الموت! ومن البشاعة أن تكون الأنياب ذهبية في مثل هذا العصر المروّع! أصابعي تتحدث بصدق ولا تكذب. فهي تخط في الرمل ما تتلقاه من ذبذبات طالعك.. بخيره وشره! والرمل.. هذا الرمل رمل الصحراء الناعم الجاف لا رمل الشاطىء المبتل. وأنت تدرك- ولا ريب- الفرق بين الجفاف والبلل في هذه الحالة. وكيف لا ومثلك يعيش ريان مبلولاً؟ نعم، إنه رمل الكثبان الناعم. له النعومة التي تهواها يدك العاشقة في بعض ما تلمسه! لا تدع نفسك ينقطع لذكر النعومة! دع الرمل المُخْبِر.. يواصل حديثه! فهو لم يقل بعد الكثير. حين تمتد أصابعي في الرمل يتضح لها مصيرك كله ويغدو صافياً كعينيك.. بل كعينك اليمنى، فالعين اليسرى تبدو عندك غائمة بعض الشيء.. تختصر قرب الأبعاد مثل العدسة المضببة! أصابعي تجد طريقها إذن إلى آمالك وتطلعاتك.. وما أسرع ما تتحول إلى مرآة أرى من خلالها حياتك في كل أطوارها.. عارية! ولا عيب في النظر إلى عرى الحياة فوق خطوط الرمل وبينها.. فقد تكيَّف مع الرمل. لذا لا أريد أن أخفي عنك شيئاً. الرمل لم يتعلم الخداع.. الخداع بعيد عن طبيعة الرمل، لا يرضى عنه الله ورسوله. وهذا ما تردده أنت في كل حين. فهل أنت تردده عن يقين؟ هذا مجرد سؤال عن اليقين! فلا ينبغي أن يصفر وجهك كثيراً. إذا تجاوزت صفرته صفرة الرمل فقد يفقد الرمل مفعوله ونفقد معه ما نأمله منه! فلتتوقف أنظارنا عند هذا الرمل الذي بين أيدينا. دعني أحدثك بما يقوله لي بصراحة. فالرمل لا يستحي! وقد تعلمت منه ألا أستحي أيضاً.. فهو يكشف لي عن أسرار الناس بصفائه وشفافيته! وظيفتي أنا أن أكشف للناس عما أراه. ولا أظن أنك تعتبر نفسك من خارج الناس! لا شيء فيك يدل على ذلك. إني أكشف أسرار الناس من خوفي.. عليهم ومن خشيتي على مصيرهم. وما أكثر ما أحس أن مصائر الناس في أصابعي التائهة في ملامس الرمل الناعمة! لا أراك الله، أنت المستشفع بالرمل لمعرفة مستقبلك، أقول.. لا أراك الله مستقبلاً لا ترضاه لنفسك ولا يرضاه لك محبوك.. وثق أن أصابعي المبحرة في نعومة الرمل من محبيك أيضاً! فأنت لا يبدو عليك غير الخير.. وأي منا لا يحب الخير لنفسه ولسواه؟. وأنا في هذه اللحظة أحب أن أخبرك بما تحدثني به إصبعي، وهي جادة كل الجد، فالحياة ليست لعباً! أنظر إلى هذا الخط، يا سيدي.. أتدري بماذا يحدثني؟ أتعرف ماذا يقول لي؟ كلا.. لا يمكنك أن تعرف ذلك! أنه يقول لي أنك تحب.. تحب فتاة تعترض طريقك كل يوم دون أن تبادلك هي الحب! أتدري لماذا؟ لأنها لا تحب الرجل الذي يرى المرأة من خلال ذاته.. ذاته وحدها ويرى نفسه المنبع، أجل المنبع الذي لا يتوقف عن الفيض! واعذرني إذا أنا قلت لك هذا الكلام، فأنا كما قلت لك صريح.. وللرمل بين أصابعي صراحته الناعمة! وأنا أعترف بالصراحة ولو كانت قاتلة.. ولكنها لن تقتلك أنت على أية حال. فأنت حي تنعم بكل ما في الحياة من قوة! وليس من طبيعتك أن تهتم بغير حياتك.هذا ما تخطه اصبعي... سبابتي أرجوك، لاتتصور أنني أوجهها كما أريد لا، إنها تسير وحدها. توجه نفسه بنفسها، فلها حساسيتها الخاصة. لها رؤيتها الخاصة ولها كذلك حركتها المحددة. وها هي ذي الآن تقول من جديد.. قارئةً الخط الثاني.. أنك تحب أن تجلس في مكتب جميل، به مدفأة وضوء ساطع ينير ما تكتبه بشكل متقن وإن كان ذلك مجرد كلمات متقاطعة.. ولكم ودت أن تقطع يدك الكسلى! أرجوك مرة أخرى لا تدع الصفرة تطغى على وجهك. فالصفرة كما أرى لا تليق بوجهك أبداً! فلك القوة، ولك الجاه، ولك المال، ولك السلطة، وكل ذلك تختصره لفظة.. المجد! نعم، أيها الماجد! ذلك واضح في نظراتك. هذا حديث الرمل عن وجهك، ووجهك مغرم أصلاً بنضارته وبملامحه الحليقة! وحديثه عن عينيك كذلك.. وفي عينيك الآن نوع من الخوف.. أراه ينتشر في اليمنى واليسرى على السواء.. وهو شيء جديد لم يكن يبدو لإصبعي قبل! وحديث الرمل قد يسر وقد يحزن.. قد يطمئن وقد يخيف، وكل حديث لا يخرج عن هذا! وسأرى الآن ماذا تقوله إصبعي عن سلطتك.. آه، وآه. يا لك من إنسان طالعه ميمون! ويا لنباهة حظك.. ويا.. ويا! فقد أقبل عليك الحظ قبل أن تقبل عليه! فعلمتك الوظيفة التي شغلتها حتى لحظة جلوسك أمام الرمل.. علمتك كيف تستبد وكيف تناور وكيف تدوس على كل صداقاتك ومقدساتك وكيف وكيف وهلم جرا! وكل ذلك من أجل مكتب تجلس فيه أنت وغمامة.. عينك! مكتب.. لو عرفت قدر عينك الغائمة هذه لوجدته تافهاً! لقد جلست في المكتب، وبعضك متراكم فوق بعض.. وكم في تاريخك الوظيفي من تراكم، ورحت تستعمل وظيفتك في قمع الكثير ممن يتعامل معك، وفيهم الزميل والصديق، والأخ والرفيق. تقول إصبعي.. إنك تنكرت وتتنكر حتى لمن يجمعك به منبع ثقافي واحد.. وانتماؤك إلى المنبع أكثر بكثير من انتمائك للثقافة! ومن ثم ضحيت وتضحي بالمنبع الثقافي من أجل كرسي ومكتب أجمل مطل على البحر! واعذر إصبعي الصغرى..‏
      إنها تتساءل الآن وهي تمر على الخط.. هل وهل وهل.. ومعذرة عن هذه الهلهلة، فهي هلهلة الرمل.. وحركة الرمل انصباب وهلهلهة، تتساءل هل لك على الإطلاق منبع ثقافي تركن إليه عينك الغائمة؟ لا شيء من ذلك يبدو لها واضحاً! وأعود بك اللحظة إلى البداية. سيدي، اجلس، اجلس سيدي! لا ينبغي لك أن تبقى قابعاً هكذا. يظهر أنك تمارس رياضة ما منحت قدميك قوة كبيرة! ومع ذلك فإني أطلب منك أن تجلس فالجلوس قد يمثل السلطة في مواجهة الأصبع الرملية الكاشفة ؛ اجلس، فإن هذا الخط الذي رسمته سبابتي طويل.. بقدر طول ظهرك.. فأنت في الأصل طويل القامة كما ترى إصبعي لا كما أرى أنا.. إذ أنني لا أرى في الحقيقة إلا ما تخطه إصبعي، فاتبعها معي الآن لترى مدى طول ظهرك. أرأيت كيف تضرب إصبعي الرمل وتبعد ما تراكم على جنبي الخط لتبرز طول ظهرك المعنوي.. وما فوقه من أشياء تعرفها أنت! أنظر الآن إلى عيني.. وسوف ترى أنهما تنظران إلى إصبعي في الرمل.. وهما تقرآن في هذه اللحظة بالذات ماضيك وحاضرك، أواه، إن ماضيك لسيء كل السوء، ومع ذلك فإن حاضرك جيد جداً. هكذا تتحدث إصبعي! تقول إن ماضيك تعلم الحقد ثم نشره على حاضرك وجعلك تمارس أعمالاً سرية ضد كل من تحقد عليه في نطقك وصمتك. وهل هناك مواطن أصيل لم ينله حقدك؟ إنك في وظيفتك المتجددة على الدوام تصر على أن تطرد وتطرد وتطرد كل من لا يلعب لعبتك! والرمل يقول.. إن لعبتك كانت قذرة بشكل مطرد.. يشوبها ما يشوب عينك اليسرى على وجه ما. لهذا أقول.. لا وعفواً، الرمل هو الذي يقول قولته.. وقولته عرض حال وحكم.. فها هو ذا، وجه بئيس أخرجه حقدك من منصبه دون أن يرتكب ذنباً، بل قد يكون ذنبه أنه عرف وظيفتك السرية.. عادتك السرية التي تقمع وتقتل.. قرباً وبعداً؛ لا تدع، سيدي الماجد، وجهك يأتلق، فهذا القرب والبعد.. كلاهما يتراكم في حاضرك.. الرمل يؤكد ذلك! عجباً. إني لأرى ذلك.. الرمل يرى ذلك الوجه البئيس نفسه، يراه قريباً منك وأنت تمد يدك لمصافحته في موقف من المواقف.. ولكن يده ترفض يدك المنافقة بينما تنغرس نظرته الصافية في عينك الغائمة! وعندها تعلو الصفرة وجهك.. وتصبح أنت البئيس البئيس.. كل هذا تراه إصبعي في مستقبلك.. وهل مستقبلك إلا تاريخ حاضرك. دورة الأيام ستؤكد لك ذلك، والحظ يذهب كما يأتي، فيعود إليك البؤس الذي نفحت به غيرك في.. سخاء! وما المستقبل ببعيد عن حاضر مائج! ولسوف يتغلب عليك الوجه الثقافي البئيس.. ويجعل حياتك غائمة كعينك اليسرى، التي لن تعرف، لما فقدته من صفاء، قوس قزح وهو يغمر أفق الشاطىء ويربط البحر بالجبال.. وبالأعماق البعيدة المخضرَّة. لا. لا أحب أن تقاطعني الآن. كان بإمكانك أن تفعل ذلك قبل أن أصل إلى حكاية البحر والجبال والأبعاد. المؤتلقة! دع إصبعي تعلن الحقيقة.. حقيقتك! كل أصابعي تقول أنك تجرى و.. تجرى و.. تجرى وراء أهدافك وغاياتك الخاصة.. وكم هي وسيعة أهدافك وغاياتك. لا مبدأ ولا وطن. لا إيمانَ إلا بوجه الدينار والدرهم. ترى ألم يقع دينار أو درهم في عينك اليسرى فغيمها؟ أرأيت كيف عرفت أصابعي طريقها إلى دخيلتك.. حتى دخيلتك لها أغوارها العميقة؛ لا. لا تخف! إن يدي لا تسجل عليك شيئاً. إنها ترسم في الرمل خيوطاً.. بل خطوطاً تقرؤها أصابعي وينطلق بها لساني الطليق. هي خطوط لا يقرؤها سواي. وإذا كان لك موقف منها فإني أود أن تعلن هذا الموقف عندما تنتهي أصابعي من حديثها. وقد تنتهي أصابعي ولا ينتهي حديث الرمل عنك.. أواه! إن الرمل يقول لك إنك تستمع إلي والحقد يتضخم في أعماقك. فأنت لا تستطيع أن تحقد إلا بلذة. الحقد لذتك في كل الظروف وفي كل الأوقات، هادئة كانت أم مضطربة. لا. أرجوك، لا تكور قبضة يدك! فأنا إنسان مسالم لا أحب الحركة الضاربة إلا إذا كانت في الرمل، ولا أبتغي أي نوع من العراك.. لا فوق الحلبة- وأنت الحلبة!- ولا تحتها؛ أنا أؤمن بحديث أصابعي وبمنطقها الصريح. فهي لا تقول ما هو خارج عن المنطق وعن الحقيقة. لكنك أنت لا تؤمن إلا بحقيقتك في وظيفتك الذاتية. يتساءل الرمل.. وهل لك من وظيفة غير وظيفتك الذاتية؟ أليس من الغريب أن تكون الذات نفسها وظيفة؟ لا، لا تجب عن تساؤله! إنه لا ينتظر منك جواباً. فهو بصدد تأكيد ما يراه.. وما أراه أنا. أعني أصابعي التي تخط وتسطر وتكشف عن رأي الرمل. الرمل وأصابعي شيء واحد. والتهمة قائمة على أية حال! إني لأراك تحرك أصابعك فوق ركبتيك. أنا لم أنْسَ أصابعك أنت، فلها هي الأخرى عظام ومفاصل مدربة.. تمتاز بالسرعة في الخطف والسطو والنهب والاختلاس، ومع ذلك فهي ترتعد الآن أمام الرمل! الرمل صديقك.. كل من يقول لك الحقيقة صديقك. لا تلمني، يا سيدي! فهذا مرسوم في خطوط الرمل بوضوح، آه، آه وآه! هنا تبتعد أصابعي عن الرمل وتنغمض كذلك عيناي فزعاً. واحسرتاه! إن هذا الخط، الذي أراه وعيناي مغمضتان، يتسلق كثيباً صغيراً، لم تسوِّه أصابعي، يقول إن شأنك سيعلو كثيراً. ومن عليائك لن ترى غير أهلك وذويك وعشيرتك.. ثم قبيلتك الواسعة! أقول واحسرتاه! لأنك ستتنكر حتى لأصابعي هذه التي تخط مستقبلك في الرمل. أرى أنك ستنسى نعومة بساط الرمل. أرجوك، لا تنهض بهذه السرعة! لا تستعد للوقوف! فلا يحتاج إلى الوقوف بسرعة إلا من يقع من عل.. يسقط من غفلة، وأنت لم تسقط.. إنما أنت جلست طواعية، والجلوس.. راحة! جدد ثقتك بالرمل ما دمت قد جلست أمام أصابعي! انظر إلى الرمل كيف ينفرج بينها.. بين أصابعي معلناً حقيقتك! هذا الخط المحدودب لم يعد يقول قولته بصوت عادي.. أصبح يصرخ صراخاً.. كم من تجارة لك، كم من عُملة لك وكم منْ عملة لك. كم من ليلة لك تختار أنت ألوانها.. وما أسعد من يختار- مثلك!- لليل ألوانه! كم من ولد لك في ملاجىء الأيتام.. كم من ضحية مات النور في عينيها قبل أن ترى الدنيا؟ اصغ إلى الرمل! أنه يردد صدى السؤال كم، كم كم، كم كم.. كم! لا. لا! لقد بلغت صفرة وجهك حدَّها الأقصى وغمرت حتى عينك اليسرى الغائمة! لا ترفع يدك ولا تضربني! عيني في عينك وإصبعي في.. الرمل! الحقيقة في الرمل! ماذا تقول؟ تتهمني بأنني أتحدث عن نفسي.. عنك؟ عني وعنك؟ ترفض حقيقة الرمل وتتهمني بالدجل؟ تتهمني بالسياسة؟ كلا. إن أصابعي غير مسيسة.. هي تحمي السياسة! ماذا تقول مرة أخرى؟ تريد أن تقودني إلى مركز الشرطة؟ كيف؟ إن الرمل يتساءل في دهشة.. أيهون عليك أن تفعل ذلك بزميل لك؟ أرجوك، لا تزدد تنمراً.. ولا.. غضباً! فها هي ذي هويتي وعليها بصمة أصابعي الرملية!‏


      25/12/1975‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: الطعام والعيون : قصص

        الصك الأزرق
        أخيراً جمعت قصائدي وقدمتها إلى دار النشر.. والنشر حلم كل كلمة قلقة! وكنت قد كتبتها بدماء قلبي.. بجراحه، وبآلامي من أجل حبيبة أهينت مدة طويلة.. أطول من الطول في مشاعري نحوها! اخترت لها أجمل الألفاظ وأعذبها.. أغناها وأكثرها إيحاءً وعنفاً وثورةً. وشخصت من خلالها ما في تلك الحبيبة من فتنة وجمال وثروة وثورة وعطاء. فقد كانت على الدوام خَلْجة النفس وخَطْرة القلب، ونْفَثة الوجدان، ووثْبَة الروح، وتغنيت بها جرحاً راعفاً، وحُلماً مُتعباً. لم أدعْ شيئاً فيها لم أتخذه رمزاً، صورةً، لحناً، مُنْطَلقاً وهديراً!‏
        وانتظرت يوم صدور ديواني بفروع صبر.. لأني كنت أريد أن يعرف الناس ما قلته في حبيبتي، ما مجَّدتها به عبر أوتار جوانحي خلال سنوات عديدة. وكان العُمْقُ فيَّ يَوَدُّ أن يدخل عالم المؤلفين.. وأيةُ فرحة تعادل فرحة مؤلف يرى فكرهُ ووجدانه وعصارة أعصابه، بل صَفْو دموعه، وصافيَ فرحته بين يدي حبيبته الغالية؟ آه! لكم كنت أحلم باليوم الذي أضم فيه ديواني بين يدي!‏
        وها هي أمنيتي تتحقق أخيراً.. وها هم أطفالي حولي كقصائدي! حين رأوا ديوان أبيهم تفتحت عيونهم كعباد الشمس! ها هو ديواني بين يدي. يا للونه الأزرق! إنه لون عيون حبيبتي. وبدأت أقلب أوراقه، أتلمس صفحاته بأنامل فرحةٍ نَشْوى. إن كلماتي وألفاظي لتشرئب تحت عيني.. بديعةً فاتنةً نيرةً زاهرةً. فهي تجسم حبيبتي في أجمل ثوب ارتدته مدى حياتها كلها، حياتها التي امتدت عبر الزمان والمكان. كان الزمان والمكان صِنْوين لها، وكنت أنا بين صحوها وامتدادها عبر الزمان.. كنت لها طائراً مُتْعباً يُجِهد جناحيه نحو هدفه.‏
        واستمرت فرحتي به أياماً وأياماً، لم أفكر أثناءها في شيء سواه.. فلم يكن لسواه وجود! كنت أعيش نشوةً تفوق نشوة المتصوفة! حتى أعمالي الوظيفية كنت أهملها أحياناً.. وكيف لا أفعل ذلك وقد كنت أشعر على نحو خاشع أنَّ كلماتي بدأت رحلتها عَبْرَ الزمان والمكان تَنُوب عني في تقديم هويتي ووظيفتي؟ ولم ترتبط فرحتي في البداية بأي شيء يباعد بيني وبين نشوتي هذه. وأخذت أوزع النسخ القليلة، التي استلمتها من دار النشر، على أصدقائي من أصحاب الذوق الرفيع.. وممن كنت أعرف فيهم هذه الصفة، ليشاركوني في فرحتي وفي نشوة الكلمة. فقد كانوا يشاطرونني في حب حبيبتي ويعرفون أنني جعلت لها قلبي سكناً أبدياً!‏
        ومع مرور الأيام وتوالي الساعات أخذت أشعر بالحرج، فقد كان عدد الأصدقاء أكثر من عدد النسخ.. من تلك النسخ الزرقاء، فاشتريت نسخاً أخرى بما لي لإهدائها إلى عدد آخر منهم. لقد كان يهمني أن أعرف رأيهم في ديواني.. في حبي لحبيبتي! اشتريت خلال أسبوع واحد خمسين نسخة من حُرِّ ما لي.. رغم إني كنت في ضائقة مالية.. وكنت أقول لنفسي.. لا تهتمي، يا نفس! سنسترد هذا المال من حقوق كلماتي.. من ثورتها العارمة في حب الحبيبة! لم تكن لي أية حقوق حين نشرتها في الجرائد والمجلات أول مرة.. في أيام الغربة، ولكن لي حقوقاً في ديواني سآخذها من دار النشر!‏
        وما إن عرفت من أصدقائي ومن غير أصدقائي بطريقة شفوية لا غير.. أن لكلماتي قيمة فنية وفكرية كبيرة، ولم يحسن بعضهم التعبير عن هذه القيمة فأعرب عنها بسيل من.. لا بأس به، لا بأس، والله لا بأس به- ما إن عرفت ذلك حتى بدأت أشعر بقيمتي الأدبية.. وبأن ديواني فوق القيمة التي أعطيته أنا إياها. وشجعني ذلك على شراء نسخ أخرى، اشتريت خمسين نسخة بعد الخمسين الأولى. لقد تكاثر المحبون لشعري والمعجبون بديواني.. حتى من باب الكلام! وسرعان ما نفد ما اشتريته أيضاً.. انتهى بعد حين.. حل محل الورد عند الزيارات العائلية، فهو أبقى من الورد! وقد سببت لي سرعة التوزيع اضطراباً.. أربك حماستي لديواني وملأ قلبي غماً.. فالأيدي لا تزال تمتد نحوي تطلب ديواني!‏
        وعز علي بعدئذ أن أترك أولادي من غير خبز.. وأنا لما أزل في منتصف الشهر. فعزمت على الاتصال بدار النشر. لابد أن يكون بيني وبينها حسابُ.. حقوقٍ! هذا ما جرت به العادة في دور النشر في جميع أنحاء العالم.. وإن اختلفت صور المعاملة بين دار وأخرى في هذا البلد أو ذاك. فكل يتعامل على أساس ما يفهمه من المصلحة بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى المؤلف أو بالنسبة إلى كليهما معاً.. تلك هي الأصول!‏
        واتصلتُ فعلاً بمدير النشر، وحين دخلت عليه في مكتبه الفخم، وضع نظارة سوداء فوق عينيه، وقام يرحب بي، فصافحته بحرارة وأنا أتساءل في أعماقي عما إذا كانت شمسي قد بهرت عينيه أو كسوفي! وسألني مبتسماً في تلطف:‏
        - كيف حالك مع ديوانك؟‏
        فأجبته ضاحكاً دونما رغبة في الضحك:‏
        - أصبحت أنا نفسي ديواناً!‏
        فعدل من نظارته فوق عينيه وقال في شبه استغراب:‏
        - أصبحت ديواناً؟‏
        قلت وأنا أركز نظري في نظارته السوداء:‏
        - نعم، ولكني ديوانٌ لا شِعْرَ فيه!‏
        أسند ظهره إلى أريكته، وتثاءب كالقط، ثم قال ضاحكاً:‏
        - ظننتك جئتني بديوان جديد!‏
        فقلت له:‏
        - فلننته أولاً من هذه الباكورة الأولى ونتذوق حلاوتها.‏
        قال وهو يَهزُّ حاجبيه:‏
        - الباكورة الأولى انتهينا منها وذقناها!‏
        قلت بنبرة جادة:‏
        - أظن أن هناك جانباً فيها لم ننته منه بعد!‏
        سألني:‏
        - وما هو يا ترى؟‏
        قلت بكل بساطة:‏
        - هو ما ينتظره المؤلف من نشر إنتاج له عزيز عليه!‏
        مال فوق أريكته في الجهة الأخرى منها وقال:‏
        - الديوان معروض للبيع.. قد تساعد شهرتك على رواج الكتاب!‏
        رددت عليه قائلاً:‏
        - لا أحمل لهذا هماً الآن. لست أعني هذا.‏
        فأسرع يسألني:‏
        - ماذا تعني إذن؟‏
        أجبته قائلاً:‏
        - إني أتحدث عن الحقوق.. حقوقي بصفتي مؤلفاً.‏
        قال برزانة ظاهرة:‏
        - الحقوق محفوظة!‏
        قلت له:‏
        - أعرف هذا، ولكن لمن؟‏
        ابتسم ليقول:‏
        - لنا.. للدار طبعاً!‏
        سألته:‏
        - لكن فقط؟ أنا لا أفهم كثيراً في هذه الأمور.. فقد طبعتم الديوان على نفقتكم! اختفت ابتسامته حين رن الهاتف، وقال لي وهو يمد يده إلى السماعة:‏
        - ولك أيضاً.. بالطبع!‏
        وعرفت من حديثه أنه يتكلم مع شخص ما عن كتاب نشرته الدار، ولكنه لم يوزع في مناطق كثيرة من البلاد، وسمعته ينفي عن نفسه أية مسؤولية في ذلك، ويؤكد له أن الأمر يتعلق بقسم التوزيع. وسد خط الهاتف بقوة، والتفت إلي، فبادرته متسائلاً:‏
        - فأين حقوقي إذن؟‏
        قال مطمئناً إياي:‏
        - حقوقك ستصلك قريباً.‏
        وعدت أسأله:‏
        - عن أي طريق؟‏
        تناول غليونه، وراح ينفخ فيه، ثم قال لي:‏
        - سنرسل لك صكاً.‏
        قلت:‏
        - الصك يتأخر!‏
        أجاب:‏
        - وماذا نفعل؟ ليس هناك حل آخر. نحن لا ندفع الحقوق يداً بيد. لابد من الصبر. عليك بالانتظار كباقي المؤلفين.‏
        وشعرت بحركة في صدري عندما سمعت كلمة المؤلفين ، لقد صرت إذن مع البقية! وسألته:‏
        - الانتظار مدة طويلة؟‏
        قال لي:‏
        - بعد الانتهاء من الجرد.‏
        قلت:‏
        - ومتى يكون الانتهاء منه؟‏
        وأشعل غليونه، وسحب دخانه ثلاث مرات، ثم قال:‏
        - قد يكون قريباً.‏
        ابتسمت رغماً عني، وقلت:‏
        - قد يكون..‏
        ونشر فوق أريكته سحابة كثيفة من الدخان، وأجابني قائلاً:‏
        - قد يكون فعلاً!‏
        وتذكرت القط حين تثاءب من جديد، فقمت ومددت يدي أصافحه، فصافحني دون أن يتحرك في أريكته. وخرجت من عنده وأنا على يقين بأن ذلك لن يتم خلال الأيام القليلة القادمة. وشعرت أن عليَّ أن أستدين من أحد أصدقائي.. من المعجبين بديواني، لأتغلب على نصف الشهر المتبقي. سآخذُ.. من أحدهم ألف دينار.. على حساب حقوقي التي لابد أن تكون محترمة.. ما دام ديواني عملاً محترماً بشهادة مدير النشر و.. بشهادة الأصدقاء وغير الأصدقاء ممن أتيح لي أن أجتمع بهم في مناسبة من المناسبات القليلة قلة النسخ التي يتسلمها المبدع من دار النشر!‏
        وأخذت في الطريق الطويل أطمئن نفسي.. قد لا يكون القريب بعيداً. وقد تسمح الظروف بإنجازه. وعندئذ تتولى الحقوق.. حقوق كلماتي دفع ديوني كلها.. أو بعضها على الأقل. فمن الضروري أن أحتفظ بشيء منها لأطفالي..! لابد أن يأكلوا ويلبسوا شيئاً من فكر أبيهم، من قصائده، من شعره، من ذوبان أعصابه وسهر لياليه العصيبة.. من شروده في عوالم لا تصل إليها الآن مداركهم، ومن ألفاظه التي تلدها في لحظةٍ ما دموعُ عجزه ويأسه!‏
        وعدت إلى بيتي.. والصك بين عيني يعرض نفسه ستراً لديوني. كنت أول وهلة أتصوره مجرد تصور، ثم شعرت أن يديَّ تقتربان منه.. أنهما تلمسانه. سيكون أيضاً أزرق.. وربما قزحياً، من ألوانه زرقة عيني الحبيبة، وشفق شفتيها، وخضرة ثوبها، وبياض بسمتها، وصفرة شالها! وجعلتني أتصور كل هذه الألوان وغيرها في صورته.. صورة الصك، الذي سيجبر الخاطر الأسيف ويمسح الدين المقيم!‏
        وحدثت أطفالي عن الصك، وأخبرتهم بفخر أنه لن يكون شيئاً آخر غير ألفاظ أبيهم.. غير كلماته الأنيقة، تحولت إلى صك أزرق ومنه أوراق نقدية زرقاء. ذلك ما سيحدث قريباً، وأخذت ديواني الأزرق ورحت أقرأ عليهم قصائده، وأتنقل بهم من هذه إلى تلك. وكانت الحاجة إلى المال تدفعني إلى أن أُقوِّم قصائدي في ذهني وأنا بصدد شرحها لهم، وأضع لها أسعاراً.. وأتجاوز ذلك وأقول لهم.. هذه تساوي كذا، وهذه أغلى منها على قصرها.. لو وجدت من يضع لها السعر الحقيقي! كانت الحاجة في تلك اللحظة تجعل لكل قصيدة أو مقطوعة ثمناً مناسباً.. والحاجة أم البضائع والأسعار!‏
        ووجدتني في النهاية قد وصلت إلى مبلغ محترم.. يفي بالديون وزيادة. وتصورت أن ثمة عطراً ما يتصاعد من ديواني.. ما هو إلاعطر حبيبته. وسيكون لأم الأولاد عطرها منه! هذا العطر سيبعد عني مصاعبي المالية إلى حين وجيز!‏
        وعدت ذات مساء من عملي، فوجدت فوق مائدة غرفة الأكل رسالة، اهتز لها شعر رأسي بشكل خفي تقريباً.. وهذا حين قرأت فوقها، فوق غلافها اسم دار النشر. لم أصدق حينها عينيَّ، وأخذتها بين يدي، وبسطت راحتي فوقها، وضغطتها إلى فمي، ثم إلى قلبي، ورحت أعيش فرحتها قبل أن أفتحها، وشعرت أن ثقل الديون يزايل عاتقي مَدْحُوراً وصارت أنفاسي تتصاعد في صدري حرةً طلقةً!‏
        وفي النهاية شعرت برغبة عارمة في فتحها، فالقلب لم يعد يحتمل الإطالة ولا اليدان والعينان.. لابد من الاحتفاء بالآتي فعلاً! كنت أريد أن أعرف المبلغ الذي يتضمنه الصك. وقرأت الرسالة قبل أن أقرأ الصك الأزرق. وفرحت.. ها هو مدير النشر يتحدث عن حسابي وحقوقي.. ثمة اعتراف لي بحقوق! وقرأت المبلغ في الرسالة أيضاً.. وأنا أقول في نفسي.. هذه مزحة ولابد! وتأكدت في ثوان معدودة من المبلغ وأنا أرتجف.. خمسون ديناراً ولا شيء غيرها! وتراءى لي قمر حزين يصب أشعته الباهتة في عيني عاشق حزين!‏
        وازداد جسمي ارتجافاً ودبدبة وأنا أسجل عنوان دار النشر فوق ظرف أزرق حال لونه!‏


        6/1/1976‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: الطعام والعيون : قصص

          الغزال
          قام هلال عن المائدة بعد أن لعبت برأسه الجعة، وأخلت بحركات جسمه، وهو يهتف- والهتاف ميزته- متمايلاً:‏
          - انظروا، يا أحبائي! أنتم، يا أفكاري الأبية، لا، دعونا الآن من الأفكار الأبية.. فالذي يهمني الآن هو مشاعري العنترية..‏
          وعاد إلى مائدته، وتناول الكأس بيديه الاثنتين، وعب منها عبة طويلة كادت تفرغها، واستمر في هتافه:‏
          - انظروا إلى هذا الجو المعتق، هذا الفضاء الحالم. أواه، ما أروع الأحلام! لقد تعلمنا أن نحلم بماض.. لا لقد أخطأت. تعلمنا أن نحلم بمستقبل أفضل ونرجو دائماً أن يكون المستقبل لنا والفضل لغيرنا.. وقد يكون النصيب غيرنا! نحن من المؤمنين بالنصيب والقدر.‏
          وراح يتمايل بشدة أكثر، فحاول أن يتطامن، ولكن رأسه غلبه، فنفضه بشدة، وتنفس الصعداء بقوة، وتوجه إلى كرسيه مخاطباً إياه:‏
          - ليس الآن.. لا.. لا أريد أن ألبي رغبتك الآن، أيها الكرسي.. لا أريد أن تحتضنني.. أحب أن.. نعم، أحب أن أكمل حديثي.. بل خطبتي.. نحن أقدر من غيرنا على الخطب.. أكمل خطبتي.. ماذا كنت أقول؟ آه.. حقاً حقاً! مازال لدي مقدار من الوعي.. الخطبة تزيد من وعينا بالخطبة.. فمن الوعي بالذات الفردية أن تخطب.. كنت أتحدث عن هذه الأجواء الشاعرية.. لكم يحلو لي أن أنام فوق هذا الفضاء الشاعري.. وتحتي كل فتيات المرقص! من المؤسف أنني لست ساحراً! لو.. لو كنته لأنمت الجميع هنا تحت أجنحتي! ورفع يمناه نحو رأسه، وقوس ظهره، ثم رفع رأسه إلى أعلى، وأشار إلى أصدقائه قائلاً:‏
          - إن عنتر جدي وجدكم.. لكن دعوني استقل باسمه هذه الليلة.. أنا أحب الليلة.. أحب أن أنشر أجنحتي لتمتلىء.. أحب أن تفيض بذوري.. فأنا عنترة الفحل!‏
          ووقعت نظرته الغائمة فوق لكحل، فقال مخاطباً إياه وهو لا يكاد يراه:‏
          - أليس كذلك، يا غزال؟‏
          فابتسم لكحل، بوشطحة، ومسح بيده على رأسه بيديه كلتيهما، وتمايل بدوره ليقول:‏
          - إني جعفر مثلك.. لا تستحوذ على هذه الصفة الليلة وحدك..‏
          ضحك هلال وقال:‏
          - يبدو أنني لم أعرفه.. ما زلت أجهله بعد. أنا أحدثه عن عنتر وهو يحدثني عن جعفر. فمن جعفر هذا؟ لاشك أن الغزال يريد أن يَتَبَرْمَك! الغزال محذور.. أقصد معذور.. هو لا يعرف غيره.. لم يعلم الجو الذي نشأ فيه سواه!‏
          قهقه لكحل وقال:‏
          - لحديث الجعة بقية!‏
          وكان أبو سيف، الذي امتلأ به كرسيه بشكل بارز، جالساً قبالة هلال، ينظر إلى كأسه في شرود، فرفع يديه المكورة نحوه وقال له:‏
          - بارع أنت في الكلام!‏
          فصاح هلال:‏
          - لا تنتقد ميزتي.. فما لعنتر غير الكلام!‏
          اهتز أبو سيف في كرسيه، وأجابه:‏
          - صدقت والله. عنتر المتمثل فيك لا سيف له ولا شعر!‏
          فأسرع هلال يقول:‏
          - اللسان يغني عن السيف! ثم إني لا أريد أن أكون عنترك الجاهلي.. فأجهل جهله! عليك أن تؤمن بي..‏
          رد أبو سيف قائلاً:‏
          - إيه والله! علي أن أومن بعنتري الحَضَري!‏
          رفع هلال إصبعه وقال:‏
          - عنتر زمانك!‏
          وتدخل لكحل قائلاً:‏
          - وجعفر أيامك‏
          فقال هلال ثائراً:‏
          - لعنة الله على جعفرك!.. عنتر قيمة حاضرى!‏
          ضرب لكحل بيده على الطاولة وقال:‏
          - وعلى عنترك.. آمين يا رب العالمين!‏
          فبادره هلال:‏
          - ها هو لسانك، يا غزال، يلعق كلام العجائز.. هذا أنت..‏
          وضجت الطاولة بالضحك دفعة واحدة، وجلس هلال وهو ينظر بعيداً، ثم توقف عن الضحك فجأة، وقال:‏
          - أرى هناك، يا إخوتي، عينين شرقيتين.. فيهما فتنة.. انظروا معي.. وأية فتنة.. الفتنة جالسة.. وطلائعها تلتقط العيون والقلوب.. ها هي هناك.. كأنها تقول لي.. إن لم تجئني جئتك..‏
          فهتف أبو سيف:‏
          - سأشنق نفسي على حلمة ثدي عربي!‏
          قال لكحل:‏
          - لقد ولدت طاولتنا شاعراً!‏
          فاحتج طلال:‏
          - كلنا شعراء.. حتى ولو جردني أبو سيف من الشعر!‏
          ورأى الفتاة، صاحبة العينين الشرقيتين، تأخذ خوخة وتقضمها ممتصة إياها، فصرخ هلال:‏
          - آه، إن خدي يُؤلمني!‏
          فقال لكحل:‏
          - ساعدوا أحمر الخد! وسأبحث أنا الآخر عمن تفتنني بنظرتها الفاترة.. يخيل إلي أني أرى هناك عينين فرنسيتين.. وميزتي إسناد الصدور.. لي ميزتي، يا هلال!‏
          وبدأ الرقص بعد الانتهاء من تناول الطعام، وكان المهم بالنسبة للمجموعة الشرب لا تناول الطعام. وذهب لكحل إلى صاحبة العينين الفرنسيتين وأعماقه تهتف.. هل هناك ما هو أجمل من إسناد صدر فرنسي وفتور عين فرنسية حتى ولو كان فتورها مصطنعاً؟ وتردد قليلاً خشية أن ترفضه، لكنه تشجع عندما رأى من بعيد هلال يحتضن صاحبة العينين الشرقيتين، فاقترب منها وانحنى أمامها وقد أحس أنها فارس من فرسان المائدة المستديرة، وطلب منها مراقصته، فوافقت بابتسامة عذبة.. ففكر.. يا لها من عذوبة فرنسية! وتلقاها بذراعيه المفتوحتين، وهو لا يفتح ذراعيه إلا ليحتضن.. وقد شعر أيضاً أن الاحتضان من اختصاصه.. الرقص حركة الدم، وانفعال العصب.. والضم سكينة هائمة!‏
          والتقى لكحل مع هلال فوق حلبة الرقص، فنظر إليه؛ ثم أغمض عينيه فوق كتف مراقصته، وهو يبطىء من حركته، وقال:‏
          - إنها عمري! هذه فاتنتي.. لكم أود أن أنام فوق هذا المخمل!‏
          وتوقف هلال ليقول له:‏
          - أراك أقل شاعرية مني، يا غزال! فأنا أقول.. بودي أن أنام فوق هذه الرموش السود!‏
          قال لكحل معترضاً:‏
          - ما تقوله مجرد خيال!‏
          ضمن هلال مراقصته، وقال له:‏
          - هنا الشعر! وأنا أعي ما أقول! فهو خيالي الخاص. هذا ما يجعل خيالي يختلف عن خيالك، يا غزال!‏
          وصاح لكحل، وهو يضغط خده فوق خد مراقصته.. وقد تصور أنه يسند الدم بالدم.. وفي نيته أن يعاند هلال:‏
          - ليس خيالي أضعف من خيالك، يا هلال!‏
          قال هلال:‏
          - لست أعني أنه أضعف.. قد يكون.. أوف.. يعتريني شبه دوار في بعض الأحيان.. أوف.. قد يكون أقوى، ولكنه بلا أصالة!‏
          وكانت حركاتهما بطيئة، والفتاتان تصغيان إليها باهتمام، وعندما وقع نظرهما على أبو سيف، رفع كأسه مبتسماً من بعيد.. فهو سعيد بمراقصتها بفمه كما هي سعيدة بانصرافه إليها. وسأل لكحل هلال:‏
          - ماذا تعني بالأصالة؟‏
          دار هلال بمراقصته دورتين حالمتين، فقد كان يخشى السقوط إن هو أسرع في الرقص وتتبع الإيقاع بدقة، وقال:‏
          - الأصالة تبدأ من اللغة. وأنا لا أستطيع أن أتحدث معك باللغة التي تجمعنا وتوحدنا.. إني أخاطبك بلغة أجنبية. أتفهمني؟‏
          قال لكحل:‏

          - وماذا في ذلك؟ المهم أن نتفاهم، فما اللغة إلا وسيلة!‏
          فرد هلال:‏
          - التفاهم لا يكون إلا بين شخصين يختلفان انتماءً ولغةً. ولا اختلاف بيني وبينك في الانتماء واللغة! فاللغة هي كل شيء!‏
          واعتذرا لمراقصتيهما، وقاداهما إلى المقصف، وطلبا لهما مشروباً.. على الاختيار، وتبادلا معهما شيئاً من الحديث، ولكن كلام هلال ظل يشغل ذهن لكحل، فقال له:‏
          - ولكني أختلف عنك؟‏
          - وفيم تختلف عني؟‏
          - في اللغة بالذات! فأنا لا أفهم لغتك!‏
          قال هلال:‏
          - ولا أنا أفهم لغتك. ولو أنك تعلمت اللغة التي تجمعنا لفهمتني بطريقة ما.‏
          فرد لكحل قائلاً:‏
          - اللهجة عندي هي الأساس من ناحية الحديث..‏
          فقاطعه هلال:‏
          - واللغة الأجنبية من حيث العلم والمعرفة! هنا الزيف، يا غزال! ليس هناك لغة تخلو من لهجات. لكن الأم تحتضن كل أطفالها!.. تحتضنهم مهما باعدت بينهم الأوساط!‏
          نفض لكحل رأسه وقال:‏
          - كلام فارغ! أنا أحب أن أكون غيري من حيث اللغة. فالتقدم في عصرنا لغة!‏
          - والتقدم لغة.. ولكن.. لكي تكون أنت يجب أن تتقدم بلغتك الخاصة بك.‏
          وانتفض لكحل في نرفزة وقال:‏
          - آه، أنا كل لغة أحسنها. هذه هي لغتي الخاصة. والآن دعني أنعم بفاتنتي الفرنسية.. أريد أن أنام على خدها.‏
          قال هلال:‏
          - أمرك، يا غزالي!‏
          وضحك ضحكة طويلة، فأثارت ضحكته لكحل، وقال بوجه، حاول أن يمنحه جلد النمر:‏
          - ولماذا تدعوني دائماً بالغزال.. ألا تعرف اسمي؟‏
          قال هلال يجيبه:‏
          - هكذا أنت.. تجهل كل شيء.. لا تعرف حتى أقرب الناس إلى موطنك!‏
          وأخذ هلال مراقصته، وابتعد عنه دون أن يوضح له الأمر، وقد شعر أن نشوته قد خفت، ولكنه لم يكن يرغب في الشراب ثانية. وظل لكحل يفكر في كلمة الغزال، التي جعل منها هلال اسماً له خلال هذه السهرة على غير عادته.‏
          والتقيا ثانية حول المائدة بعد أن أعادا مراقصتيهما إلى مكانهما، فعاد لكحل يتساءل عن اسم الغزال، إلا أن هلال لم يجبه، وتظاهر بأنه لم يسمع من تساؤله شيئاً، وفكر في العينين الشرقيتين، وفي تلك اللحظة قال لكحل فجأة:‏
          - آه، ما أحلى عينيها، هي فرنسيتي! وما أحلى فمها. لم أشبع من تأمله بعد. أنا ذاهب للجلوس معها. فقد أجني حلاوته. حتى إني لم أعرف اسمها أيضاً.‏
          فضحك هلال، وقال:‏
          - سمها تود.. يا غزال، مثل جدك!‏
          وضحك أبو سيف على حين غرة دون أن ينبس.. وكان يشرب وينظر ويدخن ويحلم وقد يرحل بنظراته خلف سحب الدخان، التي كانت تخرج من فمه ومنخريه الكبيرين ثم تنطلق صعدا. وانصرف هلال عن المائدة قبل أن يتمكن لكحل من سؤاله عن هذا اللغز الجديد.. عن تود هذه. انطلق هلال إلى فاتنته أيضاً ليجلس معها.. وينام فوق الرموش السود.. وللسواد فيها عمق لا يدرك بسهولة! انطلق نحوها وهو يدفع رأسه إلى الأمام وقد بدا له أن النشوة تعاوده دون أن يشرب.‏
          وتعالت نغمات الموسيقى من جديد، بشكل حاد في هذه المرة، وكان كل منهما قد وصل إلى جَنّته، وأخذ يراقصها، يتباعدان طوراً ويتقاربان طوراً آخر. ورجعا إلى الحوار الذي دار بينهما سابقاً. وراح لكحل يلاحق هلال بأسئلته عن الغزال وعن تود.. فالكلمتان مازالتا تخزان رأسه وصدره.. الاسمان كلاهما غريب بالنسبة إليه. إن هلال يعرف اسمه الحقيقي منذ مدة، فما الذي يجعله يدعوه هكذا يا ترى؟‏
          وبعد الحاحه الشديد على هلال أوضح له الأمور وكشف له عن سر الاسم وعن تود.. فقال:‏
          - أنت لم تسمع بطبيعة الحال بيحيى الغزال الذي أرسله الخليفة الأندلسي عبد الرحمن بن الحكم إلى ملك الدنمارك!‏
          تساءل لكحل مستغرباً:‏
          - هكذا الأمر إذن؟ وماذا فعل هنا؟‏
          قال هلال ضاحكاً:‏
          - جاء رسولاً.. ولرقة عواطفه، ورهافة حسه أحب الملكة وأسماها في شعره تود.. وبين ذراعيك الآن حفيدته.. حفيدة الغزال! قد تكون هي هذه الفاتنة التي تظنها فرنسية.‏
          - ولكنها تحاول- حين أحدثها- أن تناقشني في قضية فلسطين!‏
          فصاح هلال:‏
          - وذلك ما تفعله فاتنتي الشرقية تماماً. عرق الأحفاد واحد. إنهما تهتمان بمشكلتنا الأولى. وهذا يزيدنا منهما قرباً. فليتمتع كل منا بالحفيدة. ليتك كانت لك أصالة الغزال حتى يكون لتمتعك بها ما يبرره!‏
          قال لكحل:‏
          - المهم أنها ذات ملامح فرنسية.. ذات عينين فرنسيتين ساحرتين! فرفع هلال إصبعه، وحركها في الهواء.. وقال:‏
          - من يدري؟ قد تكون حفيدة عبد الرحمن.. لكنك لا تعرف هذا أيضاً. فأنت محدود بفرنسيتك هذه!‏
          وانصرف كل منهما إلى فاتنته، وحين توقفت الموسيقى، أخذاهما إلى مائدتهما، فانزعج أبو سيف، ولم يطمئن لنظرة الفتاتين، فقد حدثه قلبه أن وراء ذلك شيئاً ما غير مريح، فخرج على أن يعود إليهما في وقت متأخر. وعاد هلال ولكحل إلى الشرب والرقص، وأكثرا منهما معاً.. فقد كان في الجميلتين ما يشجع على ذلك.. وطال بهما الشرب والرقص إلى ساعة متأخرة، بعد منتصف الليل بفترة طويلة.‏
          وفي فترة الاستراحة ذهبا معاً- واليد في اليد- لافراغ الزائد من مياههما.. فقد أصبح الحريق لا يحتمل.. وكانا قد دفعا قبل ذلك ما طلبته الفاتنتين، لأن الحفل كان على وشك الانتهاء. وعندما رجعا لم يجدا للفتاتين أثراً، فبحثا عنهما في زوايا المرقص المختلفة دون جدوى. وأخذ الجميع يتفرقون وهما لا يزالان يبحثان عن فاتنتيهما. ولم ينفعهما سؤالهما النادلَ عنهما. ولم يكونا يدركان في البداية لماذا يبحثان عنهما.. فقد كان رأساهما ثقيلين.‏
          وخرجا إلى الشارع، وراحا يتحاوران بكلمات متلعثمة. ولمس هلال جيبه، فعبر جبينه خيط الصحو، وقال في فزع:‏
          - نسيت محفظة نقودي.. وعلبة سكائري!‏
          فلمس لكحل إثر ذلك هو الآخر جيبه وصاح:‏
          - جواز سفري.. هويتي! ربما وقع مني هناك حين نزعت سترتي.. من حر الرقص! بفعل الشراب!‏
          وأسرعا إلى المرقص، ووقفا أمام المائدة متمايلين إلى حد ما، وسألا النادل والنادلة.. وهما يرتبان الكراسي والموائد.. ولكنهما نفيا أن يكونا قد عثرا على شيء ما.. لا على محفظة نقود ولا على جواز سفر.. ولا علبة دخان على قلة أهميتها في هذه الحالة. ووقفا لحظة أمام المائدة.. وكأنهما يطالبانها بإرجاع المحفظة وجواز السفر.. الهوية! وعندما يئسا عادا إلى الشارع مرة أخرى. وجلسا فوق الرصيف، وراحا يتحاوران، ولكن حوارهما كان في هذه المرة من نوع آخر. وقال هلال وهو يكاد يبكي:‏
          - لابد أن تكون هي.. تلك الحفيدة الملعونة! حرمتني في حالتي هذه من لذة التبغ.. ومن متعة المال!‏
          فعلق لكحل، وهو يكاد بدوره يبكي:‏
          - وأنا أخذت مني هويتي، لعنة الله عليها!‏
          ومر بهما أبو سيف وهو عائد إلى بيته في نشوته، وعرف حالهما، فأخذ يضحك من كل قلبه، ثم تصلبت ملامحه فجأة، وقال:‏
          - لقد شعرت بالأمر دون أن أعرف حقيقته.. الآن عرفت. خدعتكما يهوديتان!‏
          28/8/1977‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: الطعام والعيون : قصص

            ضريبة الشحن
            عندما دخلت عليه متهادية، نظر إلى صدرها، ثم إلى شفتيها فأهدابها السود، وقال في امتعاض:‏
            - ماذا تريدين؟ عجلي. لا أريد أن أسمع كلاماً كثيراً، فبيني وبين الكلام عداوة، وأنت تعرفين ذلك. وأعباء الإدارة كثيرة.. أعباء حياتي!‏
            وغرز فيها نظرته، فمالت برأسها، وصعدت كتفها اليمنى، وابتسمت، فشعر هو بليونة تجتاح مفاصله.. أحس براحة دافقة لذيذة. وخفت لهجته الجافة نوعاً ما وقال:‏
            - تذكرت. والورد يذكر بالرياح العاصفة!‏
            وقام يقبل يدها. تقبيل اليد عنده نوع من الحضارة. وكانت عينه تدور وتسارق صدرها النظر. وشعر بالاضطراب.. لا يدري ماذا يفعل. أيمد ساعديه ويضمها إلى صدره ويلصق شفتيه بفمها لحظة شبه سرمدية، أم يكتفي.. يكتفي بماذا؟ باللمس والمداعبة بالعينين المشتهيتين؟ لقد كانت اللحظة التي تعمقها فيها حالمة.. حلم القمر في ليلة شتوية بإضاءة حبيبته.. الأرض! كانت أريكة مكتبه الوثيرة سحابة تطير.. مثقلة بنداها الفضي، مليئة بنجومها الخاصة! ما كان أروع الدفء الذي عرفه في تلك اللحظة! الدفء في الذهن، في العصاب، في الشرايين، في الألياف، في الصدر، في الأنفاس التي كان يستنشقها وفي المسام المتفتحة للنشوة! أواه لكم خطير هو الدفء حين يمتزج بالعطر!‏
            كان قد شاهدها في الممر، فأعجبته.. والإعجاب مشاهدة! وقد دفعه هذا الإعجاب إلى ممارسة اللطف.. إلى أن يكون لطيفاً، ربما لأول مرة في حياته الإدارية. وسألها هل تريد مقابلته، فزمت شفتيها ومدتهما إلى الأمام، وكأنها تستعد لمنحه قبلة؛ ثم هزت رأسها إيجاباً، وأشار لها أن تسير أمامه في اتجاه مكتبه، فأسرعت الخطو، وسار خلفها كمن يثب.. ولأول مرة أيضاً أحس أنه يشبه التيس تبختراً وخصوبةً!‏
            وروعته جلستها أمامه. ما هذه الملاسة العذبة الشهاء؟ ما هذه المزلقة الناعمة التي أتاحتها له الإدارة؟ ولم يسألها آنئذ ماذا تريد منه.. يغدو كل كلام لغواً حين يتضح للقلب هدفه. ألم يعبر شكسبير عن فلسفة الصمت حين قال.. وفي قوله ما فيه من عمق، حين قال.. والبقية صمت! فكلما همت بالكلام، رفع يده طالباً منها أن تصمت.. أن لا تقول شيئاً، وكأنه يدعوها إلى أن تنظر إليه كما ينظر إليها. فالتقاء النظرات في مثل هذه المواقف لابد أن يتسم برخاوة قد يعقبها عنف شهي. وهو لا يحب الكلام. إنه يحرص على أن يفهمه الناس من نظرته، من حركة فمه الصامتة. وأكرم به من فم! فهو لا يبدو سوياً إلا حين يصمت! وأخذ يمتص صمتها في نهم.. حتى صمتها لذيذ عنده. الدنيا كلها تغدو شاعرية حين يلتقي الصمت بالصمت وتنفتح دنيا الأحلام العسجدية. هذا يتيح له أن يدرسها، يدرس نظراتها، حركات شفتيها. وكم يتمنى أن تكونا له قبراً دافئاً. فلن يعدم الدفء والنور مدى حياتها. وكان الصمت في شفتيها، وهل هناك ما هو أروع من الصمت؟ جمال الطبيعة في صمتها البديع. وها هي ذي طبيعة أمامه يود أن يحتوي صمتها وينعم به. نعمة الصمت لم يكتشفها الكثير بعد.. لاسيما السَّاسَة!‏
            لم يكن يبدو عليها أنها تمانع في الاحتفاظ بالصمت.. ولعلها أحست هي نفسها بأنها الطبيعة التي يتصورها في ذهنه على نحو ما. وبما أن الطبيعة تبتسم وتضحك من خلال تفتح وردها، وزهرها، وسوسنها، ونرجسها وبنفسجها، فقد ابتسمت هي أيضاً وضحكت دون أن تدري لذلك سبباً.. لعلها تذكرت أن الطبيعة حية وأن الإنسان حي في ابتسامتها.. والروح لا تتألق إلا في صمت. وتفاهم الصمت والصمت وتألقا في صمت! وكل ما تبادلاه بعدئذ من كلمات وعبارات كان أقرب إلى الصمت.. خاصة بالنسبة للذكرى!‏
            كان هذا قبل فترة ما، ترى ما الذي أعادها إليه الآن؟ إنه يريد في هذه المرة أن يصمت.. ولذلك سألها بسرعة عما تريد. ولكن ابتسامتها مست خيوطاً في ذاكرته مساً كهربياً. فانصرف عنها لحظات قصاراً، ثم عاد إليها. حقيقة هناك مشاكل إدارية تقلقه.. ينبغي أن ينتهي من هذه التي طلبت مقابلته بسرعة.. حتى يتفرغ لحل مشاكله. آه، إن ابتسامتها لتغرقه دوماً في فجوة لا قرار لها، وحسه بلا قرار أيضاً كصمته. هذه الابتسامة تربكه وتجعله في الوقت نفسه.. يشبه قطاً يتأهب للوثوب. إنها تكاد تتيمه، والنوم قد يكون حلماً جميلاً، وما به رغبة في النوم. النوم عنده يسلمه إليها.. هذا ما يرغب فيه الآن. على أن مشاكله- وأكثرها مشكلة الراهن- أحوج إليه من رغباته الفياضة.‏
            ومن ثم قرر أن يسيطر على الموقف، فتطلع إليها وقال لها:‏
            - إني أسألك ثانية ماذا تريدين؟‏
            قالت في شبه تحد.. متسائلة:‏
            - ما هذا المشكل الذي أثير في إدارتك؟‏
            لوح بيده في قلق:‏
            - أي مشكل تعنين؟ هناك مشاكل كثيرة.‏
            فنظرت إليه بحدة، ثم قالت:‏
            - أتسألني أنا أي مشكل؟ هذا تساؤل غريب!‏
            وضحكت في سخرية، فقال:‏
            - نعم. أي مشكل تعنين؟‏
            قال في ثقة:‏
            - مشكل تسرب الأسئلة!‏
            واعتلت وجهه سحابة حزن خفيفة، وقال وهو يحدق فيها بحدة:‏
            - حقاً ذلك مشكل. لست أدري كيف تسربت الأسئلة إلى الطلبة. لابد أن أبحث عن المجرم الذي سربها إلى الطلبة.‏
            وضحكت فجأة، فسألها:‏
            - مالك تضحكين؟‏
            - ولم لا أضحك؟ أجاد أنت في سؤالك؟‏
            - نعم. كل الجد. لماذا تضحكين. ليس هناك في علمي ما يضحك.‏
            - بلى. هناك ما يضحك فعلاً.‏
            - كيف؟‏
            - أنا أضحك من تجاهلك.‏
            - تجاهلي؟‏
            - أجل. أنت تتجاهل.‏
            - لم يحدث لي أن فعلت هذا.‏
            - أحقاً ما تقوله؟‏
            - ألف حق وحق.‏
            - وإذا أنا أثبت لك خطأ ما تدعيه؟‏
            - لن تستطيعي ذلك.‏
            - لن أستطيع؟‏
            - هكذا الأمر. لا يمكنك ذلك أبداً.‏
            - أتريد حقاً أن أخبرك بذلك؟‏
            - إني أريد هذا وألح عليك في ذكره بسرعة!‏
            - طيب. تريد أن تعرف كيف تسربت الأسئلة إلى الطلبة؟‏
            - طبعاً. أريد ذلك.‏
            - أ ليس من الأحسن أن أصمت.. وأنت تحب الصمت؟‏
            - لا. الآن لا أريدك أن تصمتي.. أخبريني إذن إن كنت تعرفين من سلم الأسئلة إلى الطلبة!‏
            - إذن أخبرك أنك أنت الذي سلمها إلي!‏
            - أنا سلمتها إليك.‏
            - نعم أيها التيس المخصب!‏
            - التيس المخصب؟‏
            وطفت على صفحة وعيه في اللحظة نفسها.. وتراءت له لذاذات ومتع وطيبات تفوق الوصف، وقال:‏
            - قد يكون هذا صحيحاً.‏
            قال في عناد:‏
            - هذا صحيح مائة في المائة.‏
            وشعر أن عليه أن يأمرها بالصمت مرة أخرى، فقال لها:‏
            - اصمتي الآن!‏
            قالت وهي تنظر إليه من جانبي عينيها:‏
            - أتريد أن تترحم على ذكرانا؟ ومن يستطيع العيش بلا ذكرى؟ الحياة ذكرى وحنين إلى الذكرى!‏
            - حقاً. إني أترحم عليها طبعاً. الفرصة ليست ملائمة.‏
            - كيف تترحم عليها وأنا هنا بين يديك؟‏
            فنظر إليها في اضطراب، وقال:‏
            - فعلاً. ليس ذلك في وسعي.‏
            وسحبت فستانها عن ركبتها، وقالت:‏
            - لقد أدركت إذن لماذا جئتك.‏
            قال لها:‏
            - إنك لتريدين الاعتذار عن خيانتك.‏
            نظرت إليه بشيء من الغضب وقالت:‏
            - خيانتي؟ ألا تستحي من قول كلام من هذا القبيل؟.. أنت من يحب الصمت؟‏
            - أظن أنك لم تفهميني!‏
            - وكيف أفهمك وحديثك يشبه الصمت؟‏
            - كنت أعني أنك كنت خائنة عندما أخبرت زملاءك وزميلاتك بالأسئلة.‏
            - ولم لا أفعل ذلك؟ أني أعزهم جميعاً. وكلنا نريد أن ننجح ونرفع مستوانا.‏
            - لكني أردت أن أرفع مستواك أنت فقط.‏
            - لو أني رضيت بذلك لكنت أنانية إلى أبعد الحدود.‏
            - هذا موضوع لا دخل للأنانية فيه. المسألة كرامة وحفظ الكرامة.‏
            - الكرامة.. تقول أنت الكرامة؟ دعك منها، يا صمتي! الكل يريد النجاح بلا كرامة!‏
            - لقد وضعتني بذلك في مشكل.‏
            - أنت لا تتحدث إلا عن المشاكل. لكن هذا المشكل قد حل.‏
            - لقد حل حقاً. وأرغم الطلبة على إعادة الامتحان.. إلا أنه كان مشكلاً على أية حال وأثار زوبعة من ا لانتقادات.‏
            - أنت سببها!‏
            - بل أنت! المهم أنهم نجحوا رغم.. الإعادة.‏
            - حقاً. على أية حال.. أنا لم أجئك لأناقشك في هذا الموضوع.‏
            - علي إذن أن أسألك للمرة الثالثة.. ماذا تريدين؟‏
            - أريد أن أكون الأولى.. أن أنجح بتفوق!‏
            وأطرق قليلاً، وتنفس بعمق، ثم قال:‏
            - أهذا كل ما تريدين؟‏
            وابتسمت وهي تهز رأسها وتغمز بإحدى عينيها.. بيسراها على التحديد، فقد كانت أقدر على الغمز بها، وقالت:‏
            - وأريد..‏
            - طيب.,. لك ما تريدين. هذه ضريبة الشحن!‏
            - والأمر بيدك وحدك!‏
            وصمتت قليلاً، ثم همت بمواصلة الكلام، ولكنه أسكتها بوضع يده على فمه. والتقى الصمت بالصمت!‏

            25/12/1975‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: الطعام والعيون : قصص

              البركة
              استقبلها الشيخ مرحباً... وبفرح كبير. فالشيخ يفرح حين يريد أن يفرح وحين يريد أن يضيف جديداً إلى فرحه وإلى مايريد في آن واحد، كان يتوقع أن تعود إليه قبل هذا اليوم، ولكنها تأخرت لسبب قد يعلمه بعد حين، وتكلف الوقار عند مالاحظ الحيرة في ملامح محياها. وسألها بوقاره:‏
              - تأخرت. مالذي أخرك؟ لقد تتبعت أخبارك!‏
              فقالت في رجاء:‏
              - اعذرني، ياسيدي. كنت مريضة، وقد جئتك لتقرأ لي على الطفل!‏
              ونظر إلى ماتحمله بين ذراعيها، وقال متلطفاً:‏
              - اسم الله عليه.. اسم الله عليه.. معذورة، ياصبية! أراك تحملين بركتي!‏
              جلست أمامه في حيرة. صباها من النوع الخجل، فقد زوجوها في سن مبكّرة. وقد أثارت كلماته في نفسها وخزة، فنظرت إلى طفلها ولم تقل شيئاً، وعندئذ قال لها:‏
              - دعيني أروجه بركتي!‏
              قربت البركة منه، فكشف عن وجهه، فالطفل في حاجة إلى الدفء، دائماً، فابتهج الشيخ وضرب بيده على ركبتيه، وقال:‏
              - ها.. إنه يشبهني، له ملامح صورتي، أليس كذلك؟ قولي، ياصبيتي! ألست على صواب؟‏
              ولم ترد على سؤاله بالسرعة التي كانت ينتظرها منها، فألحَّ قائلاً:‏
              - لا تستحيي! ألم يتخل عنك حياؤك بعد وأنت قد أصبحت امرأة... وأماً؟ قولي أهو يشبهني؟‏
              وحركت شفتيها، ولكنها لم تستطع أن تخرج كلمة، فثار الشيخ:‏
              - لا تنسي أنك متزوجة، ولا فائدة من حياء المتزوجة أمامي. الحياء لا يدخل صومعتي! وأحست كأن قوة تدفعها إلى الكلام، فقالت وهي تنظر إلى البركة وعلى فمها شبه ابتسامة:‏
              - لقد نظرت إليه بنفسك، فهل وجدت حقاً شبهاً؟‏
              رفع الشيخ رأسه، وهو يوسع من نظرته، ثم أحناه نحو البركة وقال:‏
              - لقد قلت لك من جهتي أنه يشبه صورتي!‏
              قالت بلهجة قاطعة:‏
              - كلا. أنه لا يشبهك.‏
              واعترت الشيخ رجة:‏
              - ماذا تقولين؟ لا يشبهني؟‏
              وسكتت مرة أخرى، فهي تخشى أذاه، وقد ظنت أنها أخطأت بهذا الجواب، فقال في عصبية:‏
              - افصحي عما تعنينه؟‏
              وجمعت نفسها وقالت:‏
              - كلامي واضح!‏
              ونظر في عينيها مهدداً‏
              - تعنين أن البركة من زوجك؟‏
              قالت بعد تردد:‏
              - نعم . أنه يشبه زوجي!‏
              قام الشيخ يدور في غرفته.. التي يسميها الصومعة! يدور حول الصبية وهو ينظر إلى البركة.. بركته.. من عل.. والبركة نائم يحلم ويبتسم للملائكة. وراح الشيخ يعمل فكره في الأمر من أوله إلى آخره، لابد أن يحصل منها على جواب شاف. أن تجد هذا الشبه بزوجها. إن الذي يبدو له أن البركة من صلبه لا من صلب زوجها. وعاد يسألها من جديد:‏
              - أين تجدين هذاالشبه؟‏
              مسحت بيديها أكثر من مرة على كتف البركة النائم، ثم قالت:‏
              - في وجهه طبعاً.‏
              فسألها:‏
              - وهل لديك دليل آخر؟‏
              قالت:‏
              - ربما.‏
              نظر الشيخ إليها، وسوى العمامة بيده فوق رأسه، وعدل من جلسته، وأخيراً قال:‏
              - تقولين ربما. الطفل لا يزال صغيراً.. ها!‏
              أجابت:‏
              - نعم. هذا ما أردت قوله.‏
              وعرف الشيخ من جوابها أنها مصرة على ماقالته، فعاودته ثورته:‏
              - هل يعني هذا أنك متأكدة؟‏
              فرفعت نظرها إليه وقالت بهدوء:‏
              - قلت ربما، ملامح الطفل قد تتغير هذا كل شيء!‏
              وخطرت بذهنه فكرة، فسألها:‏
              - كم عمر البركة الآن؟‏
              قالت:‏
              - شهران!‏
              ***‏
              شعر الشيخ بنوع من الاطمئنان، وانطلق مع أفكاره.. كانت قد جاءته قبل مايزيد على عام في أول الخريف.. في يوم بارد مطير. بهرته برونق محياها، وبياضها الناصع وبرشاقة جسمها، فأحس بالدفء، وعقد النية على أن يمنحها بركته على نحو خاص. كان قد مر على زواجها أكثر من ثلاثة أشهر دون أن تشعر بشيء، فبدأت الوساوس تغزو وجدانها الصبي، وعندئذ أغرتها صديقة لها بالذهاب إليه.. فلن تجد في أي مكان آخر البركة التي تجدها عنده. ورافقتها بنفسها إليه.. حتى تكون لها عنده سنداً، لكن الشيخ لا يمنح بركته إلا على انفراد، لذلك أرسل الصديقة إلى غرفة الانتظار، وعندما خلا بها وهي جالسة قبالته، صارحها وهو ينظر إلى محياها الطفلي الوديع.. بأنها لن تشعر بشيء دون بركته.. تماماً كما كان الأمر مع صديقتها التي صاحبتها إليه، فآمنت الصبية ببركته، وابتهجت لما قاله لها، وقالت له، وهي تنظر إلى الأرض:‏
              - لقد جئت إلى بركتك، ياسيدي!‏
              فابتسم الشيخ:‏
              - يسرني أن تفهمي بهذه السرعة، ياصبية، لن يكون لك مني إلا مايطيب خاطرك. عندي لك بركة خاصة!‏
              فنظرت إليه في توسل:‏
              - لابد أن تكتب لي حرزاً.‏
              فامتعض الشيخ من هذا الطلب. وقال لها:‏
              - أكتب لك حرزاً؟‏
              فهزت رأسها وهي تقول:‏
              - هذا ماأريده منك.‏
              ابتسم الشيخ عندما طرأت على ذهنه فكرة في تلك اللحظة، وقال:‏
              - أظنك لم تفهميني.‏
              فسألته:‏
              - كيف لم أفهمك؟‏
              أجاب مبتسماً:‏
              - أعني أنك لم تفهمي طبيعة بركتي.‏
              قالت بعد أن جمعت أطراف أثوابها:‏
              - أليست بركة سيدي في الحرز؟‏
              فرد الشيخ قائلاً:‏
              - كلا.. إنك لم تفهمي تماماً. في حالة كحالتك أنت.. لا بركة في الحرز.‏
              فاندهشت لقوله، وبادرت تسأله:‏
              - في أي شيء إذن هي هذه البركة؟‏
              قال الشيخ بسرعة:‏
              - في القراءة فوق البطن ، ياصبيتي.‏
              توسلت الصبية:‏
              - ليكون النجاح مضموناً أريد أن أحقق -إن شاء الله- أمنيتي بالاثنين معاً.‏
              فاحتج الشيخ:‏
              - لا.. لا. فلنترك أمر الحرز الآن، الكتابة بالنسبة إليك.. قراءة.‏
              وأعجبته عبارة ... الكتابة... قراءة، ورددها في نفسه حين سمعها تقول:‏
              - كما تشاء ياسيدي! ولو أنني أفضل البداية بالحرز، فهو معروف عندي.‏
              قال الشيخ:‏
              -هل فهمت الآن ماقصدته؟‏
              قالت الصبية:‏
              - أظنني فهمت... القراءة فوق البطن.. وأنا مستعدة.‏
              حرك الشيخ رأسه:‏
              - لست أراك مستعدة، لم تتصوري بعد معنى القراءة عند بركتي!‏
              فسألته:‏
              - ماذا تعني عندك؟‏
              وعلق الشيخ نظره فوق فمها، ثم تركه ينسحب فوق جسمها الغض، وجلس أمامها على ركبتيه، وأجابها قائلاً:‏
              - ستفهمين معناها شيئاً فشيئاً، والآن ابتدئي الفهم معي... ياصبيتي!‏
              وأمرها أن تتعرى في حجره، ففزعت وبرزت عيناها خوفاً، ولكن الشيخ استطاع أن يقنعها بلباقته.. أن الكلمات، التي سينطق بها فوق بطنها في أثناء القراءة، لا تكتب إلا بالأنفاس.. يجب أن يلامس جسده كله من خلال أنفاسه الدافئة.. ذلك شرط النجاح وضمانة. وأكد لها أن عليها أن ترضى بذلك إذا كانت تريد أن يدخل نور البركة بطنها. وكرر أكثر من مرة:‏
              - لاحياء في البركة.. لا حياء في البركة!..‏
              واهتز الشيخ، وهو يقرأ كلمات وكلمات.. وعدل من وضعها ومن وضعه.. وأنهى قراءته الطويلة فوق بطنها.‏
              ***‏
              حسب الشيخ الأيام والشهور... وهتف فجأة من أعماقه... وماذا يهمك أنت الآن، ياشيخ؟ أتحرص على أن يكون لك هذه البركة بالذات؟! أمجرد أن تفخر أنه منك؟ لعل حملها تأخر لسبب ما... لمرض مثلاً. لعلها تناولت دواء ما، وقد يكون باريها قد رزقها دون أن تكون في حاجة إلى سواه، دعك من هذا إذن وفكر في شيء آخر أنفع لك. والتفت إليها أخيراً، وقال:‏
              - هذا أحسن، ياصبية. لا يهم أن يكون ابن زوجك!‏
              وفكر لحظة ثم أضاف قائلاً:‏
              - على أية حال لقد عدت إلي... وجئت معك بالبركة. إنه ثمرة قراءتي كيفما كان الأمر. وتوقف لحظة، وكان يطارد فكرة لم تتضح في ذهنه بعد كما ينبغي. ودارت في ذهنه فجأة عبارات محددة، لم يلبث أن هتف بها في نفسه، من قرأ كتب، ومن زرع حصد، ومن غرس.. أكل غلته!.. وسألها وهو ينظر إلى صدرها:‏
              - وكيف هو الحليب؟‏
              فتساءلت مستغربة:‏
              - أي حليب؟‏
              أوضح الشيخ قوله:‏
              - حليبك طبعاً.‏
              فأجابت:‏
              - جيد...له.. للرضيع مايفيه وزيادة.‏
              قال الشيخ:‏
              - لن يعيش البركة طويلاً، أقول قد لا يعيش طويلاً.‏
              برزت عيناها فزعاً:‏
              - يامصيبتي. لن يعيش طويلاً!‏
              وضع سبابته اليمنى فوق صدغه كمن يفكر، ثم قال:‏
              - ربما. إلا إذا نحن حميناه من العين.. الضاربة.‏
              فقالت بسرعة:‏
              - احمه أنت، ياسيدي!‏
              قال الشيخ وعينه على الصبي النائم:‏
              - ذلك ممكن، ولكن بشرط.‏
              تساءلت في لهفة:‏
              - وماهو هذا الشرط ياسيدي؟‏
              قال الشيخ:‏
              - الشرط أن أمنحه بركتي.‏
              فتضرعت إليه:‏
              - امنحه، ياسيدي، ولك ماتطلب من مال.‏
              فحرك يديه إلى أعلى، وقال:‏
              - المال مفروغ منه، فأنا أعرف ذلك من المرة السابقة، لكن...‏
              فقاطعته في لهفة:‏
              - لكن ماذا، ياسيدي؟‏
              قال ببطء:‏
              - لكن الأمر يتعلق بشيء آخر.‏
              حضنت ابنها النائم، وقد عاد يبتسم مع الملائكة..بيدها اليمنى، وقربته من صدرها الدافئ، وسألته:‏
              - ماهو هذا الشيء، قل لي، ياسيدي!‏
              فطمأنها:‏
              - لا تفزعي. إنه شيء بسيط، لا يستحق أي خوف أو فزع!‏
              شعرت بالاطمئنان فعلاً، وقالت له:‏
              - لك ماتريد . المهم أن يعيش ابني. حياته حياة أبيه، فهو فخور به جداً.‏
              قال الشيخ في فرح:‏
              - أنت تعرفين بركتي!‏
              قالت بلهجة حازمة:‏
              - طبعاً أعرفها القراءة على بطن الطفل في هذه المرة.‏
              وضحك الشيخ حين شرعت في فك قماط الطفل، وقال لها:‏
              - لا لا ياصبيتي! أعطيني الطفل!‏
              وأخذ الطفل منها ووضعه على مقربة من مجلسه، وأضاف قائلاً:‏
              - القراءة حقاً، ولكن ليس على بطن الطفل، ويضاف إليها شيء آخر.‏
              فتنهدت وقالت:‏
              - ألا ينتهي هذا الشيء الآخر؟ وماهو هذا الشيء، قل لي!‏
              ولم يفكر الشيخ طويلاً، بل أسرع يقول:‏
              -الحليب!‏
              واعترتها الدهشة من جديد، وسألته:‏
              - ماشأن الحليب ؟ لقد أخبرتك بذلك. فيه كفاية والحمد لله.‏
              حرك الشيخ شفتيه كمن يتلمظ، ثم قال:‏
              - لابد أن أبارك أيضاً الثديين ، اللذين يخرج منهما غذاء الرضيع.‏
              قالت وهي تكاد تتفجر بكاء:‏
              - هذا أيضاً!‏
              مسح الشيخ بيدها على وجهها، وقال مهدئاً إياها:‏
              - ألم تقولي أن لديك منه الكفاية؟ ألا تريدين أن يعيش ابنك؟ ألم تقولي إن حياته حياة أبيه؟‏
              وأطرقت تفكر، فرفع رأسها إليه، وأضاف قائلاً:‏
              - حياة لأبيه وبركة لي!‏
              وغمرها حبها لزوجها، وحبها لفلذة كبدها، فخيل إليها أن كل هذا من أجلهما، كل هذا الذي تفعله لهما. واغرورقت عيناها حباً لهما، وكأنها لم تعد ترى غيرهما عبر هذه الدموع!‏
              وبعد خروجها حاملة بين ذراعيها طفلها كما دخلت، بقي الشيخ جالساً في مكانه يضحك. وتجشأ بحدة، ثم ضرط بحدة أكثر، وحين دخلت الزائرة الموالية، ظهر له أن يؤدي فريضة الصلاة قبل أن يحقق رغبتها ويمنحها بركته!‏


              28/12/1975‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: الطعام والعيون : قصص

                لعنات على أعواد الكوخ
                اعتبر نفسه إطاراً خاصاً... اعتبر نفسه، لسوء حظه أو لسوئه، أديباً، ومن ثم صعب عليه أن يعيش في بلد أجنبي ويترك له الحرية في الاستفادة من لغته ومعارفه وثقافته، ويمكنه أن يستغله حتى ضد بلاده في أي موقف سياسي، وذلك بحكم أنه يعيش فيه ويخضع لمصالحه في مثل هذه الأمور. حبه لبلاده أكثر من أن يجعله يقف ضده مهما كانت طبيعة القضية المطروحة سياسياً أو فكرياً. حقاً، كان يعتبر نفسه، وربما لا يزال.. من يدري. أديباً، فوقر في ذهنه لذلك أنه لا يمكنه أن يكتب قصصاً عن بلاده وهو بعيد عنها. خيل إليه أن من واجبه أن يعيش بين من يكتب عنهم، بين من يتخذهم موضوعاً لكتاباته كلما رفع القلم ليكتب، إذ هو لا يستطيع غير ذلك. فصلته بمن يعيش بينهم في البلد الأجنبي لا تتعدى الكلام والتعامل معهم في إطار الوظيفة التي يشغلها بينهم.. فأفكاره كلها لبلاده..‏
                وهكذا عاد إلى وطنه.. وهو يحمل بين جوانحه هموماً جساماً، هي الحصول على عمل، وهي الحصول على سكن، يأويه مع أهله، وهي الوصول إلى الاستقرار، إضافة إلى هموم أخرى تتصل بما يسميه موهبته الأدبية، ويوم وصوله قضى أول ليلة في بيت أخيه الأكبر، لكنه لم يستطع أن ينام عنده أكثر من يوم واحد، فقد استطاع في اليوم الموالي، بناء على مراسلات سابقة، الحصول على عمل في ميدان التعليم الجامعي، وكان عليه أن يستعد لعمله، ويهيء محاضراته، ولم يكن ذلك ممكناً بعد تلك الليلة.. التي كانت له فيها تجربة مروّعة.‏
                كانت أمه، بعد غيبته الطويلة عنها في بلاد الغربة، قد أصرت هي الأخرى على أن تنام قربه في بيت أخيه، وكانت أمه امرأة كبيرة السن، فقد خرجت في الليل لسبب ما، وعندما رجعت تركت الباب مفتوحاً. وإذ كانت الغرفة أرضية طويلة تشبه الدهليز، فقد دخل قط وأخذ يصرخ بكل قواه... باحثاً عن طعام أو عن شيء آخر.. عن قطة مثلاً، وراح يجول هنا حيناً، وأمه تهتف به فيما بين النوم واليقظة:‏
                - ايصب، ايصب، ياالقط، كش ، اخرج! ايصب!‏
                ويثب فوقه حيناً آخر، يطارده، وهو يردد كلمات أمه، وكان قد نسيها:‏
                - ايصب، ايصب، ايصب. كش!‏
                ورمى برجله نحوه في الظلام، وأضاف:‏
                - ايصب! كش! الباب مفتوح، ياهرّ!‏
                وابتسم حين سّيدَه من غير قصد، فكلمة الهر في الألمانية تعني... السيد!‏
                وغلق الباب، وعاد إلى فراشه لينام، ولكن النوم فارقه حتى الصباح، فقد كان الأطفال يبكون بين الفينة والفينة في الغرف الصغيرة المجاورة. فقام في الصباح متعباً منهك القوى. وعندئذ قرر أن يذهب إلى فندق مافي المدينة.‏
                واختار فندقاً قريباً من مركز عمله، وحين دخل غرفته في الليل، كاد ينخلع قلبه، ويتوقف عن حركته، فقد خيل إليه لأول وهلة أن القط - وتذكر أن لونه في الظلام كان أسود- قد مسخ دوابَ صغيرةً ذات أحجام مختلفة، ذلك أنه رأى بنات وردان تلعب بمجساتها فوق فراشه وتتأهب للفرار بمجرد أن تصدر حركة عنه. كان قد نسيها هي الأخرى. ولم يكن ليخطر بذهنه- حتى ولو لم تغب صورها عن ذهنه- أن يجدها في فراشه. وعندما ضرب بيده على الفراش، أسرعت في كل اتجاه متسللة تحت الفراش، وكان بعضها يقوم بعملية انتحارية، فيلقي بنفسه من فوق حافته ثم يمضي في مختلف الاتجاهات بسرعة فائقة. وازداد خوفه عندما اكتشف اثنتين منها أو ثلاثة في زاوية من زوايا الغرفة في حجم خنصره. وتشجع وذهب إليها ليطردها، على أنها كانت أسرع منه، فاختفت تحت الخزانة، ونام نوماً خائفاً، ثم لم يلبث أن عرف أنها مسالمة!‏
                كان هذا قبل أن تلحق به أسرته، فقد كان لا يزال معه شيء من المال، يسمح له بالسكن في فندق متواضع... كبنات وردان! غير أن ذلك أصبح غير ممكن عندما قدمت أسرته بعد مايقرب من شهر. ومن هنا لم تقم معه إلا بضعة أيام، ثم أرسلها إلى قريته لتعيش في بيت أخيه الأصغر حسب ماتسمح به ظروف القرية إلى أن يحصل على السكن، الذي وعد به في إطار عمله، ولم تكن ظروف عمله لتسمح له بمرافقتها طبعاً، وقد اقتسم معها ماتبقى من مال. وهكذا انتهى رصيده بعد مدّة وجيزة. وكان له أصدقاء، ولكنهم كانوا يختفون عند الحاجة، بالمناسبة كان أحدهم قد دعاه للسكن عنده مع أسرته.. فعنده ثماني غرف، ولكن زوجة الصديق اعتذرت بأن البيت تابع للمدرسة.. ولا حق لها في التصرف فيه خارج أسرتها، ولم يكن للصديق إلا أن يعتذر... مَحْزُوناً!...‏
                وغادر الفندق، ونام عند أخيه بضعة أيام، لم يستطع خلالها.. لصياح الأطفال بالنهار ومواء القطط في الليل.. تهيئة محاضراته فضلاً عن كتاباته الإبداعية.‏
                فعزم على البحث عن مكان آخر، لا يدفع ثمناً لسكنه فيه.. ومن أين له أن يدفع شيئاً وموعد راتبه لا يزال بعيداً، فملفه لما يغادر المكان الذي يعمل فيه.. وكل المتاهات في انتظاره! فخرج إلى ضواحي المدينة، واختار مكاناً هناك ليبني كوخاً مؤقتاً، يعيش فيه بمفرده ويجعل منه صومعة للنوم والإبداع!‏
                وكانت الضاحية التي اختارها لإقامته جميلة فعلا، مناظرها خضراء ملهمة، وكانت أشجارها من النوع الذي عرفه وأحبه في قريته، ولاسيما أشجار السرو والبلوط...تلك الأشجار التي عاشت في وعيه وذاكرته كلما هم أيام غربته بكتابة قصة، واغتنم فرصة أيام العطل الأُسبوعية، وجمع بمساندة أخيه، وبنيه في بعض الأحيان، بعض الأخشاب ولوحات من الصفيح من هنا وهناك إلى أن أتم عدته.‏
                وبنى كوخاً مناسباً إلى حد ما، لم يكن متيناً بطبيعة الحال، وخاصة أنه كان قد عاد إلى وطنه في الشتاء، ولكنه كان، كيفما جرت الأمور، في إمكانه أن يغطي رأسه كما يقال في التعابير الشعبية، ويقيه برد الشتاء وصقيعه. فقد حفر في وسطه كانوناً، وأحضر ماكان في حاجة إليه من حطب للتدفئة وللطبخ عند الضرورة في آن واحد، كما أحضر -بمساعدة أخيه وبعض أقاربه على رقة حالهم- شيئاً من الفحم وبعض المواد الغذائية، والغريب أنه لم يفكر في أسرته في أثناء ذلك... ربما لأنه كان مطمئناً إلى أنها في كفالة أخيه الأصغر.. لن تضيع وهي معه.‏
                وفي مساء اليوم، الذي انتقل فيه إلى كوخه، كان أول من زاره قط ضائع، فرحب به.. وسيده أيضاً:‏
                - مرحباً بك، ياهر!‏
                وراح يمسح على ظهره، وهو يتمدد، ويحني ظهره، ويموء، فكلاهما في حاجة إلى الآخر في هذه المرة، يضمن له فيها الطعام وعليه هو نفسه أن يبحث لنفسه عن قطة تليق بالهر! وزاره أخوه أيضاً وحمل معه مصباحاً قوياً لضوئه درجات يغيرها كما يريد. وطلب منه في مقابل ذلك أن يهدي إليه نسخة من أول قصة يكتبها في هذا الكوخ، فقد كان يحسن العربية إلى حد ما.. وهذا يعني أنه لم يتعلمها في المدرسة..وإنما علمته الثورة إياها أيام العز والمجد!‏
                وكان قد قرأ أن المؤلف يستطيع أن يهدي قصته إلى من يعز من الإخوة والأقارب والأصدقاء. ووعد أخاه بأنه سيفعل ذلك ويذكر اسمه في الإهداء صراحة، وفرح الأخ بذلك، إذ أحس بأنه سيخلد في مطلع عمل من أعمال أخيه الأدبية، ولم يكن من حقه أديباً ومتأدباً أن يبخل عليه بذلك. كان مؤمناً بأن على كل إنسان أن يعترف بأي جميل يكون لشخص ما عليه.. سواء أكان أخاً أم مجرد صديق. فكل محسن أخ وإن لم يكن حقيقياً. والإحسان قيد كما يقال، ولم يكن ذهنه مستعداً للكتابة من أول اليوم، فاكتفى بتهيئة المحاضرة القادمة، ونام بعدها نومة لم تخل من برد.. من شعور بالبرد، ولكنها كانت هادئة هدوء الجو المحيط به.. ونام القط معه داخل الكوخ... فقد شعر بشفقة عليه وعز عليه أن يتركه في الخارج.‏
                واستيقظ في وقت متأخر، فتناول طعام الفطور، وشرب القهوة، وبدأ يعد طعامه وطعام قطه، وأكل عند الظهيرة بلذة، ولم يكن ماطبخه لذيذاً، إلا أنه كان مما يؤكل. المهم أنه وفر على نفسه الذهاب إلى بيت أخيه لبعد المسافة من جهة ولشعوره بالتعب من جهة أخرى، كان يريد كذلك أن يخلو إلى نفسه، ويفكر في ظروفه الخاصة ومايمكن أن يكتبه عنها. كما فكر في أسرته وأطفاله.. وكم ود لو يستطيع أن يطير إليهم، ولكن... تُرَى من يعيره جناحه؟‏
                وشعر بعد الغداء بتعب... أترى ذلك آتياً من عادته، حين يأكل، أن يأكل بسرعة، أن يحشو بطنه حشواً؟ وعن له أن يتمدد، ولكنه قاوم الدفء المنتشر في جنبات الكوخ بفعل النار التي كان قد أشعلها في الكانون ولم يدعها تنطفئ.‏
                وقاوم النوم الذي تسبب فيه -فيماظهر له- الدفء، فوقف خارج الكوخ قليلاً، ثم عاد إلى داخله، وقد أحس بنشاط، واقترب من باب الكوخ، وتناول القلم ليكتب قصته وَيسجل بعض الخواطر والأفكار على الأقل، فقد تعود أن يسجل وقائع حياته في شكل قصص أو مذكرات أو يوميات مستمرة، واستقر رأيه على أن يكتب قصة، يصور فيها بناءه لكوخه، وقلقه على أهله في بعض الأحيان، واضطراب فكره، فلعل أجمل قصة يكتبها هي تلك التي يكتبها وهو مضطرب الأفكار، لأنها ستكون عندئذ صادقة معبرة عن واقع يعيشه!‏
                ومسك الدفتر في يده، وراح يفكر محركاً إياه قبل أن يبدأ في الكتابة، وكانت ساعة يده تشير إلى الثانية والنصف. وما أن واتته فكرة من الأفكار، فهم بتسجيلها، وعيناه منصبتان على الدفتر، حتى شعر بظلام يجتاح باب الكوخ المفتوح، فرفع رأسه عن الدفتر ونظر مندهشاً، لم يكن يتوقع أن يعود أخوه لزيارته بهذه السرعة، ولكنه لم يكن ليستغرب عودته، غير أن نظره وقع على بذلة سوداء.. ممازاده اندهاشاً، لم ير وجهه في البداية، فلم ير منه غير أزرارها الصفراء، فخمن في الحال أنه شرطي من شرط البلدية القريبة، وعندما أحنى الشرطي رأسه، ونظر إلى الداخل، لاحظ أول مالاحظ قبعته السوداء وشاربه الأسود، وصاح وهو يهز رأسه:‏
                - السلام عليكم .‏
                - وعليك السلام.‏
                ونظر إليه لحظة وقد كاد وجهه يكون أسود كبدلته، ثم قال:‏
                - تعال، يامحمد! اخرج إلى، اخرج إلي!‏
                وضع الدفتر والقلم جانباً، وخرج إليه، وهو يتساءل في نفسه.. ترى ماذا يريد منه هذا الشرطي البلدي، وبمجرد أن وقف أمام الباب وظهره إلى الكوخ، بادره الشرطي يسأله:‏
                - ماذا تفعل هنا، أيها السيد!‏
                وأعجبه أن يُسّيَّدَ أيضاً كالهر، وقال، وهو يحاول أن يبتسم، لأنه توقع شراً، وحاسة التوقع عنده كثيراً ما تَصْدُقه:‏
                - السيد يكتب!‏
                فهز الشرطي رأسه وقال:‏
                - ليس هناك من جن.. إلا إذا كنت أنت! أتخشاه!‏
                - لست من الجن ولا أخشاه.‏
                - هل زارك أحد اليوم!‏
                فأجابه:‏
                - لا.. لم يزرني أحد.‏
                فسأله مستغرباً:‏
                - لماذا تكتب إذن؟ ولمن؟‏
                ابتسم وقال له:‏
                - أكتب لأني أديب!‏
                فانتفض:‏
                - لا.. لا يكذب أحدنا على الآخر، ولا يسخر منه، لا توجد هنا ذئاب إطلاقاً. لم يشعر بأية رغبة في الضحك، وقال له:‏
                - أعرف هذا، إني لا أكتب للذئاب، وأنا لا أخشاها.‏
                قال بلهجة احتجاج:‏
                - لا.. لا.. الذئب يكتب للذئاب!‏
                قال له بهدوء:‏
                - أنت مخطئ، ياأخي، أنا أكتب الكتب!‏
                فسأله الشرطي:‏
                - لمن..‏
                فرد قائلاً:‏
                - لنفسي.. وللناس!‏
                وضع الشرطي يديه في خاصرتيه، وقال:‏
                - هذا غير معقول. هذا لا يقبله العقل.‏
                سأله:‏
                - ما الذي يمنع من ذلك؟‏
                قال الشرطي:‏
                - تكتب لنفسك أنت ورأسك، وتكتب كذلك لامرأة، لرجل، لطفلة، لطفل. أما أن تكتب للناس كلهم، فهذا غير معقول.‏
                أدرك الأديب أنه.. هو الشرطي البلدي.. لم يفهمه، ولا يمكن أن يفهمه، لا يمكنه أن يفهمه ببساطة على الأقل. لقد حمل ظهوره إلى رأسه أفكاراً.. كان يريد أن يسجلها ليستفيد منها في فرصة أخرى، فقال له متسائلاً:‏
                - ماذا تريد مني؟‏
                حرك الشرطي رأسه متعجباً، وقال:‏
                - ماذا أريد منك؟ أريد منك ألا تكتب هنا. هذا الكوخ لم يكن موجوداً هنا قبل أيام. هل أخرجته الجن؟ وإلا.. من بناه...؟‏
                قال له وهو ينظر إليه:‏
                - أنا بنيته.‏
                - ومن سمح لك بذلك؟‏
                فأجابه الأديب:‏
                - لا أحد. بنيته ريثما أعثر على سكن. فعملي يتطلب الاستقرار ولو في كوخ. ثم إني بعيد عن الأكواخ الأخرى... لا أقلق أحداً.‏
                - هذا من حقك. ولكن بإذن!‏
                - كيف؟ من حقي، ولكن أحتاج إلى إذن؟ ممن؟‏
                - منا. نحن البلدية!‏
                - طيب، سأذهب إلى البلدية وأطلب هذا الإذن!‏
                - هذا غير ممكن.‏
                - ولماذا؟!‏
                - لأنك لم تأخذ منها الإذن قبل بنائه.‏
                - وهل تقدم لي البلدية سكناً؟‏
                - كلا أنت ورأسك!‏
                - وما العمل في هذه الحال.؟‏
                - تترك الكوخ حالاً.‏
                - أتأخذه البلدية مني؟‏
                - لا البلدية في غنى عنه!‏
                - يا أخي، قلت لك أنا أديب! أحب...‏
                لكن الشرطي قاطعه:‏
                - ظننت نفسك ذئباً فوجدت ذئباً مثلك. الذئاب لا تأكل معي! اخرج منه في الحين العاجل!‏
                كان قد تعود، حين كان يعيش في بلد أجنبي، احترام القانون، ومن لم يستطع مقاومته.. وآلمه إلى ذلك أن يكون قد خلق.. مسالماً.. فجمع أمتعته القليلة، ونادى مؤانسه، الذي كان نائماً..‏
                - تعال، أيها الهر. لا حظ لنا.. أنت وأنا... حتى في هذا الكوخ.. على حقارته، ووقف على مقربة من الكوخ الذي أبدعته يده بمساعدة، وراح يكتب قصته في خياله ورجلا الشرطي ويداه تعمل عملها في كوخه!..‏
                29/1/1976‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: الطعام والعيون : قصص

                  الدوّارة
                  أحنى قامته الطويلة ومد يده يصافحه، وفي عينيه ابتسامة متعبة، ثم قال له:‏
                  - ياسيدي الطيب!‏
                  وتوقف عن الحديث، ومسح وجهه بيده العريضة مرة، وواصل حديثه في نفسه أولاً.. حقاً، أنت طيب، وطيبتك هذه ستقضي عليك وتساعد على انتشار فساد أمثالي على درب الوظيفه الخفيف... هذا شيء أعترف به لنفسي الحميمة! ثم وجه الحديث من جديد إلى الطيب:‏
                  - ياسيدي الطيب! لقد عيناك مديراً للمهد.. أقصد المعهد طبعاً، أنت تعرف أن للكلمات العربية على ألسنتنا طعم النطق الفرنسي! نعم، عيناك.. فكن على استعداد تام كما يرجى من أمثالك!‏
                  فأحس الطيب ببرودة في صدره، ولم يصدق ماسمعه، فرفع صوته معترضاً:‏
                  - ولكن... معذرة، ياسيدي الصائب! كيف أعين في منصب من غير أن أستشار مجرد استشارة؟ أنفاجأ هكذا ببساطة؟‏
                  قال الصائب:‏
                  - نحن لا نستشير أحداً. نحن نعين! اقبل واسكت! هكذا تمشي الأمور، هذا أمر وزاري، والوزارة لا تقبل الازورار، وإلا عد ذلك عصياناً! لم يبق هناك سواك طبعاً. عليك أن تتحمل المسؤولية، فنحن لا نشك في طيبتك وكفايتك، حقاً أنك لطيب جداً!‏
                  رفع الطيب رأسه في شبه توسل، وقال:‏
                  - لذلك فأنا لا أصلح للإدارة، إنها تتطلب إنساناً حازماً، ولست أرى في نفسي مثل هذا الحزم... ومامن قدرة لي عليها.‏
                  مسح الصائب وجهه مرةأخرى بحركة خفيفة، وابتسم ثم قال:‏
                  - ولذلك عيناك في هذا المنصب!‏
                  قال الطيب:‏
                  - لا أستطيع أن أقبل بهذه السهولة. ينبغي أن أستشار وأن أعطى فرصة للتفكير. هذا أمر لم أكن أتوقعه.‏
                  لكن الصائب أصر على قوله:‏

                  - هذا أمر وزاري. لقد عدت من الخارج إلى الوطن فارضَ بأحكام الوطن.‏
                  وحدد نظره فيه وأضاف:‏
                  - أمر لا يغير منه قبولك أو رفضك.. الأمر أمر وكفى! ثم لا تنسَ العصيان. فهو مناهضة للسلطة، هناك طرق كثيرة لمن يريد أن يتعلم، والاهتداء إلى الطريقة علم!‏
                  وقال الطيب في نفسه.. إنها الطريقة مرة أخرى، ولكنها من نوع مغاير! ثم قال له:‏
                  - هذا القول يشبه الحكمة.. أهو منك؟‏
                  ضحك الصائب، ودلّى صدره العريض مرتين إلى الأمام، وعدل من جلسته فوق الكرسي الوثير، وقال:‏
                  - لقد جعل منا الوظيف حكماء!.. والسابق أكثر من اللاحق!‏
                  - أكثر حكمة طبعاً!‏
                  - لقد بدأت تفهم قصدي، أنت مدير المهد!‏
                  - تعني المعهد.. مرة أخرى!‏
                  - نعم، نعم. الكلمات تضيع منا وتختلط، يدخل بعضها في بعض. من الصعب كما قلت، أن نتعود نطق العربية بالعربية!‏
                  - الطريقة... علم!‏
                  ولم يفهم الصائب الإشارة، وهز رأسه إعجاباً بنفسه، وقال:‏
                  - دائماً.. دائماً، نحن نعرف صومعتك!‏
                  وابتسم الطيب رغماً عنه، وقال:‏
                  - لا صومعة لي ولا طريقة! تقصد أنك تعرف سمعتي!‏
                  - هو هذا... هو هذا.. الأمر سيان.. ها.. ها .. ها!‏
                  وصرفه ليلحق باجتماع ما.. في مكان ما، بأمر إداري أو وزاري.. لا فرق! ووقف الطيب في الممر حائراً شبه تائه.. وقد سيطر على وعيه اغتراب الإدارة وغربتها عنه.. عن حياته وعالمه. فقد كان يخاف الإدارة خوفاً شديداً، كان يخشى مشاكلها الكثيرة، ورتابة أعمالها، وكثرة اجتماعاتها الفارغة، وأعباءها الكبيرة. وانتبه إلى نفسه أخيراً، فشق طريقه بين الطلاب والطالبات، واتجه إلى خارج المؤسسة، لا يمكن أن يكون زميله الصائب صائباً حقاً، صادقاً في عرضه، إنه يريد أن يختبره ليعرف مبلغ طموحه وتطلعه إلى منصب المدير.‏
                  فإذا اتجهت الإدارة مباشرة إلى شخص معين وعرضت عليه منصباً، فاعلم أنها لن تعينه في ذلك المنصب! لقد سبقت له تجربة من هذا النوع.. مع الصائب بالذات قبل فترة بعيدة.. حين تولى منصب العميد الذي يشغره.. بل يشغله الآن!‏
                  وحدث الطيب أهله وأصدقاءه، عن الموضوع في حياء وخوف.. من غير أن يُبدي اهتماماً كبيراً به، ومع أن بعض زملائه شجعه على قبوله وهنأه على الاختيار الذي وقع عليه! لقد حاول أن ينساه وينسى الحديث عنه بسرعة كبيرة، فذلك لا يشكل حلماً من أحلامه. وتمنى من أعماقه أن يكون زميله الصائب.. صاحب الطريقة والمهد والصومعة.. مخاتلاً، مخادعاً، مناوراً، فمامن شيء في هذا يبعده عن طبيعته! على أن الأمر بدا وكأنه يتجه اتجاهاً آخر، فقد جاءه زميله الربيع، وهنأه بذلك ووعده بالوقوف إلى جانبه في عمله، وعرض عليه كل مساعداته، ومع ذلك لم يطمئن الطيب إلى قوله، فقد كان آنئذ على صلة متميزة بالصائب!‏
                  وذات يوم دعي الطيب إلى اجتماع سيعقد بعد يومين في المعهد. وإذا به يفاجأ في الموعد المحدد بحضور الأساتذة وأكابر المسؤولين في الجامعة.. ويفاجأ كذلك بتنصيبه مديراً للمعهد. وأخذ يتلقى التهاني، وهو يحاول أن يغطي حياءه وحيرته واضطرابه، وهو يعاني دوماً كل هذا عند دخوله إلى طلبته فيتألق حيناً ويشعر بالخزي حيناً آخر، حاول أن يغطيه بستار من الابتسامات المتكلفة الباهتة.. جعلت لها حمرة وجهه مظهراً خاصاً، وكان قد ألقى قبل ذلك كلمة خجلى.. والحيرة لا تفارقه، تلعثم في أثناء إلقائها غير مرة.. رتّبها على كلمات من نَصَّبه... فلم يكن من عاداته ولا مما يدخل في رغبته أن يقف موقفاً من هذا النوع.‏
                  ومرت به أيام في إدارته، ومامن يوم تلقى فيه تهنئة إلا وطلب من صاحبها أن يعزيه، فهو غير فرح بمنصبه. ولا هو مبتهج به... وعلى استعداد للتنازل عنه وتسليمه لمن يسعى إليه ويرغب فيه. كان أكره شيء إلى نفسه المناصب الإدارية الجوفاء ومايتبعها من مظاهر فارغة.. تفرغ من يتقلدها من محتواه، إن كان له محتوى! ومن شأنها أن تشغل مثله عن عالمه المفضل، عالمه الفكري والأدبي، تشغله عن كتبه وإنتاجه العلمي والفني. كان يعتقد أن سطرين يكتبهما في بحث أو دراسة أدبية أكثر فائدة لوطنه.. من زاوية تصوره له.. من عشرة أيام يقضيها في الأعمال الإدارية التافهة.‏
                  وظل قرابة أربعة أسابيع لا يعرف وضعه بالذات في هذا المهد.. على حد تعبير الصائب! لم يكن في يده سوى وثيقة تعيينه مديراً بقرار من الوزير. أما كيف يعمل، وعلى أي أساس يعمل، وما هي صلاحياته ومامداها، ماهي امتيازاته وحقوقه، إن كان ثمة امتيازات وحقوق، وماهو ممن يبحث عن هذه... وماهي حدود إمكانياته، فإنه لم يعرف عن ذلك أي شيء. وأقلقه ماهو فيه، فاتصل بالصائب، ودخل عليه وهو في عزف، بل في اجتماع، منفرد.. ولم لا يخطئ كما يخطئ الصائب و... يغترب في اللغة على شاكلته، فالاختلاط عدوى، وإن كان اغترابه ذا طبيعة أخرى! وقال له في لهفة:‏
                  - أخبرني، بربك..‏
                  فقاطعه مغترباً:‏
                  - أترك ربي جانباً، فلا دخل له في هذا!‏
                  - وابتسم الطيب لاغترابه وبعده عن.... هذا القسم العربي الأصيل.. وقال:‏
                  - فليكن ماتريد، ولكن أخبرني، ياسيدي، ماذا أفعل؟‏
                  فقال.. وهو يبرز عينيه دون أن ينظر إليه:‏
                  - لا تفعل شيئاً!‏
                  وظنه لم يصدقه القول.. رغم الأمر الوزاري، فسأله:‏
                  - لا أفعل شيئاً؟ ألا يحتاج هذا الأمر إلى إيضاح؟‏
                  ونظر إليه هذه المرة، وقال:‏
                  - قلت.. لا تفعل شيئاً. دع الأمور كما كانت تسير!‏
                  فحرك الطيب رأسه في حيرة، وعاد يسأله:‏
                  - وإن هي لم تسر.؟‏
                  قال الصائب:‏
                  - أبدأ من حيث أنت!‏
                  قال الطيب:‏
                  - ولكني ليس لي.. حيث!‏
                  فرد الصائب قائلاً:‏
                  - الصفر.. حيث!‏
                  ولم يصدق الطيب أذنيه من جديد، فتساءل:‏
                  - أتعني أن علي أن أبدأ من السفر.. أقصد من الصفر..من الصفر؟‏
                  - ذلك ما أعنيه، سؤالك طيب مثلك، السؤال... فهم!‏
                  - ولكني لم أفهم، ياسيدي!‏
                  - الفهم.. عمل!‏
                  - وماذا أعمل؟‏
                  - عد إلى الصفر.. كما قلت لك!‏
                  - أتقصد أن أحطم مابناه السابق.. الأكثر حكمة...؟‏
                  - من يأتي بعدك سيكون أقل حكمة.. يكفيك هذا فخراً، ها أنت قد فهمتني، وهذا يسرني جداً. أنت مدير.. فانظر إلى نفسك على هذا الأساس. أنت حر التصرف!‏
                  - في أي شيء؟‏
                  - في كل شيء. أنت الآن تحتل المكان الذي كنت أنا فيه خلال السنوات الماضية. كان ذلك قبل أن أدعى إلى هذه المهمات الكبريات! تصرف في كل شيء!‏
                  - ليس في يدي أي شيء، ياسيدي!‏
                  - بل في يدك كل شيء.. ماعليك إلا أن تطبق مبادئي.‏
                  وتذكر الطيب كلمة الاغتراب...وقال:‏
                  - أعني ليس في يدي أي شيء من المراسيم والتعليمات.. باختصار من الأوامر الوزارية وما أشبهها.. فكيف أعمل؟ أعطل سير المعهد العادي؟ أزيل ما أقامه غيري؟ أعود إلى الأصل.. أعني الصفر؟‏
                  - مهمتك أنت إدارية لا تربوية.. والمعهد يسير الآن كما يسير. ولا شأن لك بالمراسيم الوزارية، فهي خاصة بنا... بي وبرئيسي وحدنا، وستصل إليك تعليماتنا عند الضرورة.. عندما نريد منك شيئاً تفعله! لا تهتم للأمر كثيراً، يكفيك أن تتصرف، اتفقنا؟ وإدارتنا هنا في كل وقت مع السلامة!‏
                  خرج من عنده ورأسه يدور.. بل يعتصره مايشبه الليّ الداخلي العنيف.. وفي أذنيه وشوشة كادت تتحول إلى دمدمة صامتة. لقد وجد نفسه في دوّارة مروّعة قاتلة، أنت حر التصرف بناء على الأمر الوزاري، لكنك لا تتلقى الأمر الوزاري.. ذلك من شأننا، وعد إلى الصفر، وحطم كل ماهو إداري.. أما ما هو تربوي فيسير آلياً! مرحى، مرحى! كل هذا لم يكن يهتم به قبل اليوم.. فلا إدارة ولا إلغاء ولا عودة إلى الصفر، ولا الصفر.. حيث! ولا السؤال فهم ولا الفهم عملِ.ِ. ولا يكفيك أن تتصرف مع السلامة!‏
                  وكانت وجوه زملائه تطالعه.. منذ أن تولى إدارة المعهد.. في أيام الاستقبالات والاجتماعات الفردية والعامة، تتوسل طوراً، وتأمر طوراً آخر، وقد اتخذت مطالبها الصور التالية على التقريب:‏
                  - نحن معك في الهيئة الإدارية.. عينا بمرسوم وزاري... فعليك أن تفرد لكل واحد منا مكتباً، فالمكاتب أربعة ونحن أربعة، لابد أن نكون أعضاء كاملين في الإدارة، وإلا فلا معنى لوجودنا فيها. هذا هو المهم الآن، السعي إلى الحصول على مكتب، بل الصراع من أجله إذا لزم الأمر. لا عمل من غير كرسي هزاز إطلاقاً!‏
                  - أنا في الحقيقة... سئلت عنك وعن أخلاقك وتصرفاتك وطيبتك.. فاقترحتك لتشغل هذا المنصب رئيساً علينا، وجاءت الموافقة بفضل تقريري الشفوي عنك! وكان هذا من حسن حظنا جميعاً، أريد أن تأمر بتلخيص محاضراتي... بعبارة أخرى أن تأمر بجمعها في يوم واحد، فهمتني ها! تجمعها في يوم خميس مثلاً، فهمتني ها! أريد أن أحضر مرة واحدة في الأسبوع. أشغالي الأخرى لا تسمح لي بغير هذا، فهمتني ها!‏
                  - أنا.. الله يخلي لي إياك! عندي طالبة، أطال الله عمرك وعمرها! هذه الطالبة، ياسيدي، قضت في المعهد عشر سنوات، وتشكو من أنها أكلت أولادها في بطنها، وكل الناس يعرفون شكواها! وهي تريد الآن أن تتزوج.. فزوجها.. دخيلك أنا... أقصد اطلب من جماعتنا.. من الأساتذة أن يخلصوا المعهد منها.. أن ينجحوها! وفي هذه الحالة يكون نجاحها زواجاً لها! لا أطلب منك غير هذا المعروف.. أقصد طبعاً هذه المساعدة. أبوها من أحبائنا الأعزاء!‏
                  - سيدي المدير! أنا أدخل في الموضوع مباشرة، عندي ابن أخي، أخرج من المدرسة بشكل لم يكن متوقعاً، يبدو أن من هو أشطر منه استولى بماله من وساطات على علاماته ومكانه في الصف الأعلى. فلي رجاء بخصوصه. حاول أن توظفه هنا.. أن تجد له أي عمل في المعهد. ولك خير الجزاء... يعز علي أن يضيع مثله.. فهو عزيز العائلة!‏
                  - أنا من مناصريك.. قلت لك هذا منذ البداية، وأنا لا أزال عند كلمتي، لست ممن يخون كلمته، والرجل يلزم نفسه بكلمته، أنا من هذا النوع. لذلك أريد مفتاح مكتب ما، أراجع فيه محاضراتي في يومها..وأضع فيه أشيائي أيضاً. الأستاذ شيء بأشيائه، بكتبه، بأدواته وما يتبعها، بصراحة.. أنا لا أريد أن تتلقفني وتتقاذفني الممرات والدهاليز المظلمة، ينبغي أن يكون للإنسان احترامه، ويجب أن تصان كرامته!‏
                  وكان الطيب في كل مرة.. يعد ويهز رأسه بصورة آلية، وفي أعماقه كلمات، وجمل وأصداء تدوي ويخلف بعضها الآخر: فهمتني ها! أبوها من أحبائنا! فهو عزيز العائلة! الأشياء أستاذ بشيء.. بل الأستاذ شيء بأشيائه! وحين ينتهي الدوي نوعاً ما، يهز رأسه بشكل أسرع ويجيب في أعماقه أيضاً:‏
                  حاضر، ياسيدي، فهمتني ها! اطمئن، عيني فدى لأحبائنا وأحباء أحبائنا! وهو كذلك، نحن نرحب بعزيز العائلة! حقاً، حقاً، أنتم شركاء في التعيين الوزاري، والأمر.. وزاري! وأهلاً بكل وزاري من.. بعيد!‏
                  وتوزع المعينون المكاتب المتوافرة، وبقيت الوعود الأخرى معلقة. ولم يكن منها ماهو مستعجل سوى وعد واحد. فقد جاءه الربيع ذات صباح لم يكن نيراً بالنسبة إليه، وطلب ماوعده به سابقاً، فاعتذر الطيب عن عدم وفائه بوعده، فقد شغلت المكاتب القليلة كلها، وبقي بعض المعاونين الإداريين بلا مكاتب، غير أن الربيع لم يفهم ذلك أو هو لم يرد أن يفهمه، فثار به ثورة عارمة و... أرسل سيلاً من الكلمات الجارحة.. وكأنه لا يعي مايقول. فانصرف عنه الطيب متألماً وغاضباً في الوقت نفسه، فهو لم يكن يريد أن يفقد مودته بهذه الصورة من جهة، وكان يأمل أن يفهم وضعه المتأزم ويتكيف معه من جهة أخرى.. فقد كان يلتقي معه في أكثر من جانب وفي أكثر من فكرة. ولكن الإدارة تخلق العداوة.. وتقتل الميول. وكيفما كان الأمر فقد كان للثورة والغضب مايسوغهما من الجانبيين، فمن وعد وفى، ولكن في.. ظروف طبيعية!‏
                  ومرت أسابيع أخرى والطيب لا يعرف عن وظيفته في المعهد شيئاً محدداً.. ولم يكن يدعى إلى أي اجتماع.. فهو غير موجود بالنسبة إلى الجانب الآخر من المؤسسة.‏
                  وإذا حدث له لقاء عابر مع مسؤول في الحاشية.. وسلطة الصائب تسمح بالعديد من الأحشاء.. وكانت في ذهنه كلمة الحواشي. ولكن اللسان.. لسانه سبق.. فما من حاشية بينها تمتاز بالرقة! إذا حدث له مثل هذا اللقاء وسأل... قيل له أن.. انتظر! تربع في مكتبك واسترح.. نحن نزودك بكل شيء عند الضرورة. لابد أن يكون السير.. ضرورة! وليست لنا الآن أية ضرورة، الضرورة تأتي وحدها، فلا معنى للبحث عنها في دائرتنا... وهي التي تأتي إليك في مكتبك!‏
                  ولم تأتِه الضرورة في مكتبه، ولكن المشاكل أتته تترى، كانت إحداهما قاصمة الرأس.. لا الظهر! فقد كانت له زميلة، عينتها التجربة.. تجربتها في المكتبة، ولكنها صارت زميلة بين عشية وضحاها بقدرة الضرورة على الأغلب!‏
                  جاءت إليه وطلبت منه رخصة الغياب، لتستفيد منها في أمر من الأمور العلمية، فوافق على ذلك استجابة لرغبة.. الربيع، الذي كان قد ساندها في ذلك. ووقَّع الأوراق دون أن يتأكد من محتواها.. ولم يقرأ منها سوى ما كتب أعلاها، وكان يؤكد ماقالته له شفوياً، وماكادت الأوراق تصل إلى المدير، حتى جاءت الضرورة إليه ركضاً! فقد دعاه المدير، وراح يؤنبه، وهو يهز يديه كلتيهما في وجهه، قائلاً:‏
                  - كيف توافق على رخصة الغياب ورخصة الخروج... من غير موافقة الصائب؟‏
                  فقال له:‏
                  - ليست لدي تعليمات في هذا الأمر.‏
                  - ليس لديك تعليمات؟‏
                  - أجل. لقد قال الصائب.. إن في إمكاني أن أتصرف.. أن أقوم بالمبادرات، هذا ماكان يعنيه. والموافقة نوع منها!‏
                  - مبادرات دون موافقتي أنا؟‏
                  - موافقتك فوق جميع الموافقات، فالأوراق بين يديك الآن ومن حقك أن ترفض.‏
                  - من حقي أن أرفض؟ طبعاً من حقي أن أرفض، ولكن لماذا وافقت أنت.. لماذا؟.. ماهو عذرك؟‏
                  - لا عذر لي.. ياسيدي، سوى أنني لا أصلح للإدارة.‏
                  - لا تصلح؟ أنت لا تصلح؟‏
                  - نعم. وقد قلت هذا للصائب!‏
                  - هذا كلام يستطيع أن يقوله أي شخص آخر إلا أنت!‏
                  وابتسمت أعماق الطيب.. على النقيض مما يتطلبه الموقف، وصاح داخله.... يامصيبتي! ثم تساءل:‏
                  - إلا أنا؟‏
                  - نعم .. إلا أنت!‏
                  - كيف؟ لست أفهم!‏
                  وأسند ظهره إلى كرسيه، وقد ظهرت الجدية على ملامحه، وقال:‏
                  - لست تفهم؟ سأفهمك.‏
                  - طيب ، فهمني، ياسيدي! أنا معترف بأني أخطأت، فهمني!‏
                  ونظر إليه المدير بحدة:‏
                  - تريد أن تفهم الآن!‏
                  - نعم أليس ذلك من حقي؟‏
                  - تقول.. من حقك؟‏
                  - أعتقد ذلك!‏
                  وأصبحت ملامح المدير أكثر جدية، وقال:‏
                  - هل تعرف ماهو حقك؟‏
                  - ربما. إني لا أدري ماذا تفهم منه أنت في هذه اللحظة بالذات.‏
                  - ماذا أفهم منه؟‏
                  - حقاً لكل إنسان رأيه في الموضوع الذي يخصه.‏
                  - أتريد أن تفهم أو تريد أن تتفلسف؟‏
                  - لم يسبق لي أن درست الفلسفة، ياسيدي! أنا بعيد عنها كل البعد. لا أريد أن أفهم، وكلامي هذا مستوحى من واقعي!‏
                  - وهل تعرف ماهو واقعك؟‏
                  - طبعاً. واقعي أنني مدير لمعهد لم أسع إلى تولي شؤونه.. وأنني أخطأت وتجاوزت حرية التصرف في كل شيء!‏
                  - حقك وواقعك أنك لا تصلح أن تكون مديراً.. ولا حر التصرف!‏
                  - ذلك هو ماقلته أنا نفسي منذ البداية.‏
                  - لو لم تقل هذا آنذاك لما عيناك في منصب المدير!‏
                  - لست أفهم مرة أخرى.‏
                  - ولن تفهم. هذه ضرورة الوظيف!‏
                  - مادمتم هكذا على يقين بأنني لا أصلح للإدارة، فإني أطلب الإعفاء من هذه اللحظة.‏
                  - ليس هناك إعفاء من اللحظة!‏
                  - أقصد، ياسيدي، الإعفاء من الإدارة!‏
                  - أفهم هذا، لكنك لن تعفى من منصبك في الإدارة.. وفي الوقت نفسه لن تعفى من خطئك!‏
                  - إذن.. علي أن أنتظر حكماً صارماً.. الإعدام مثلاً ‎.. على نحو ما!‏
                  وارتخت ملامحه، وتخللتها ابتسامة باهتة، وقال:‏
                  - هناك ضرورة المهمات الكبريات.‏
                  ونهض عن كرسيه، وقال في حزم:‏
                  - سأنقلك إلى جانبي!‏
                  5/7/1994.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: الطعام والعيون : قصص

                    دفاعاً عن الوطن
                    عاد من عمله متعباً، وبعد أن اجتاز باب المدخل، لاحظ ورقة تبدو من الثُّقْبة المستطيلة في صندوق بريده، ففتحه وأخرج منه ظرفاً، بدا عليه أنه ذو طابع رسمي فتوجس خيفة منه. لقد كان دائماً يخشى ما تتضمنه مثل هذه الظروف سواء أكانت من مركزالبريد والهاتف أم من دائرة من الدوائر الرسمية، وذلك لما كانت تفاجئه به عادة من أمور لم تكن مما يريح باله ويطمئن خاطره..‏
                    كما لو أن هناك طالعاً سيئاً يترصده دون هوادة كلما تعلق الأمر بما يرد إليه من رسائل. وفتح الظرف بسرعة، وإذا بمحتواه مطابق تماماً لما توجسته مشاعره الخائفة، لقد تضمن شيئاً لم يكن يتوقعه إطلاقاً: عليه أن يلتحق بخدمة العلم لصد عدوان دولة مجاورة تخطط لاجتياز حدود وطنه.‏
                    وتحامل على نفسه، وصعد السلم على مهل، وقدماه لا تكادان تحملانه لفرط مااعتراه من هم وقلق، وسرحت به أفكاره بعيداً حتى اعتراه مايشبه الشرود، ولم يعد إلى نفسه إلا حين لاحظ أنه اجتاز الطابق الثالث الذي يسكنه. فرجع أدراجه، ودق الجرس، ففتح الباب واستقبلته زوجته وأطفاله بفرحة كبيرة، ولكنه لم يجلس معهم طويلاً، فاستأذنهم ليستريح قليلاً مما يشعر به من تعب، وكان يعاني فعلاً تعباً على تعب، وانسحب إلى مكتبه، وتمدد فوق الفراش، الذي ينام فوقه ابنه ليلاً، وأغمض عينيه لا لينام، فقد كان يعرف ذلك سابقاً، وإنما ليسرح وراء شريط أفكاره ماضياً وحاضراً.. ولا مندوحة عن التفكير في ظروفه وظروف أهله مستقبلاً أيضاً.‏
                    كان حميد قد تزوج، أيام دراسته بأوروبا بأجنبية، وأقام معها في بلادها ما يقرب من عشر سنوات، ولكن فكره كان يعيش به دائماً في وطنه، لم يتخل عنه أبداً، حتى لم يكن في أيامه مايلهيه عن ذكره والحنين إليه لحظة واحدة، كان يعيش أحداث وطنه السياسية، وقضاياه الاجتماعية من خلال الصحف التي كان يرسلها إليه بعض أصدقائه فيه من حين لآخر رغم طول سنوات الغربة. ولذلك كان يقلق زوجته على الدوام بحديثه عن العودة إلى وطنه الذي ينتظر من شهادته العليا وكفايته الكثير في حقل الأدب والثقافة والمعرفة. وكانت زوجته ترفض مثل هذا الحديث، لأنها كانت تعرف أنه ينتمي إلى عالم وصف بالعالم الثالث تأدباً، إذ هو في الحقيقة يتجاوز هذا الرقم عند المقارنة- والمقارنة أساسها الفكر والعلم والاختراع- بدرجات أخرى على ماله من ثروات مادية. وكانت قد زارت معه وطنه ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت تزداد اقتناعاً بأن وطنه لا يزال خاضعاً للروح القبلية، متمسكاً بالتقاليد القديمة البالية المعادية للعلم والعمل والتقدم، سهل التقبل لكل ماهو أجنبي جاهز. وكل هذا جعله يرى أن الحياة في منطقه وعرفه لا تفضي به إلى أي غاية أبعد مراماً وأكثر نفعاً بالنسبة إليه في العصر الحديث بكل مكاسبه واختراعاته.‏
                    على أن هذا كله لم يكن ليحول بينه وبين العودة إلى وطنه، فقد كان يتصور أن كيانه كله بما قد يحتوي عليه من ذخائر علمية أو أدبية أو فكرية أو غيرها ملك لوطنه وحده. وهذا ينطبق أيضاً على ممتلكاته الأخرى ومنها زوجته وأطفاله، فقد كان له منها ثلاثة أطفال، كان يحس فيهم رائحة الوطن مع أنهم ولدوا كلهم في الخارج. وكانت زوجته تحبه أبعد الحب. وكانت تريد أن تحتفظ به وبأبنائها، ولذلك قررت أن تسافر معه أو تلتحق به إن هو أصر على العودة إلى وطنه بشكل نهائي، فما كانت لتريد أطفالاً بلا أب على الرغم من حبها لوطنها ورغبتها الكبيرة في العيش فيه، لا لأنها كانت هي نفسها تريد أن تحيا حياة سعيدة، فلا سعادة لها من غير زوجها، وإنما كانت تريد أن تضمن لأبنائها مستقبلاً زاهراً هادئاً في كل الظروف والأحوال.. وذلك ما لا يستطيع العالم الثالث أن يضمنه لأحد. فأبرز سمات هذا العالم الانقلاب والثورة والأحلام والموت.‏
                    وجاء اليوم الذي عاد فيه فعلاً إلى وطنه بما يملك، ولم يكن يملك غير كتبه الأجنبية - وبعض الكتب العربية- وآماله ورغبته الصادقة في العمل والبناء على قدر ماتسمح له بذلك إمكانياته الذاتية. وتبعته، هي زوجته، مع أطفاله بعد شهر، وعاش مع أسرته في وطنه، فعرف الجوع والتشرد والألم والعذاب والقهر والهوان، واحتملت كل ذلك معه سنوات، أنجبت له في إحداها طفلاً، أراده أن يرى الدنيا فوق تراب وطنه، ويشرب ماءه، ويستنشق هواءه وتغمره أشعة شمسه الرائعة، وكان يريده ذكراً أيضاً، ولكن المولود كان صبية ذات عينين تشبهان زنبقتين مائيتين، وكانت هاتان العينان تشبهان من ناحية أخرى عيني أبيه، الذي مات وهو لما يزل طفلاً صغيراً، بناء على ماحدثته به والدته.‏
                    ولم يكن ذلك يعني أن حياته قد تغيرت، فقد استمرت على الوتيرة نفسها ، فيها الألم والفرح، والسعادة والشقاء، والحياة كثيراً ماتحلو بعد فترة من فترات الشقاء حتى إن هي لم تدم طويلاً، فقد ترقى خلال ذلك في منصبه الجامعي واستقرت وظيفته، وأصبح عضواً في منظمة وطنية، لأن ثقافته كانت مما يسمح له بذلك في ظروف معينة شبه إلزامية.. يقبل بها المرء خوفاً من الضدية وتهرباً من كل ماقد يترتب عنها من مشاكل هو في غنى عنها، وماله على أية حال طاقة بها لا مادية ولا معنوية،' وكانت العضوية فيها شرفية على الإطلاق.. شبه إضاعة لكل وقت ثمين، وقد كان هو ممن يحرصون على أن يخصص الوقت لمايفيد إفادة حقيقية، تتجاوز اللقاء المحض والاجتماع الفارغ.‏
                    وقبل أن تبلغ ابنته العامين، حدثت مشكلة مع دولة مجاورة، ووقع في القضية الكثير من الأخذ والرد، ولم تُفْض المفاوضات والتدخلات إلى نتيجة مقبولة، ولاح في الأفق السياسي أن الحرب واقعة لا محالة، وهاهو اليوم يدعى إلى التجنيد للدفاع عن حدود الوطن، فكيف يخبر زوجته بذلك؟ هل يقول لها ببساطة.. إنه سيذهب إلى الحرب ويتركها في وطنه مع الأطفال؟ تُرى ماذا ستفعل بدونه.. وهي غريبة في وطنه لا معين ولا قريب لها فيه باستثناء عدد قليل من أفراد أسرته، وهم أعجز من أن تجد لديهم حلاً لأي مشكل كان.. ولكم هي كثيرة مشاكل عالم متخلف..؟ كيف يجبهها بذلك بعد حين؟ وهل يترك الأمر إلى وقت آخر؟ لا يزال لديه شيء من الوقت، فعليه الالتحاق بالثُّكْنة خلال خمسة أيام.‏
                    هناك وقت كاف لإبلاغها هذا الأمر، وليعيش مع أسرته الأيام الأربعة القادمة، وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق، يعيشها أياماً تكون له ذكرى عزيزة غالية على نفسه ووجدانه. ولكن لم لا يحسم القضية فوراً، فيخبرها اليوم ويلتحق غداً.. ويمضي كالمتطوع بأيام ثلاثة من أجل الوطن أيضاً؟ ألم يكن التطوع أمله في فترة مضت من حياته؟ إذن لم التأخير والتأجيل والعذاب أياماً أخرى؟‏
                    وبينما كانت هذه الأفكار والأسئلة وغيرها تتوالى على ذهنه، دخلت عليه زوجته، وجلست على حافة السرير، ووضعت يدها فوق صدره وقالت وهي تنظر في وجهه:‏
                    - أرى أنك لم تنم رغم تعبك.‏
                    فأجاب وهو يضع يده خلف ظهرها ويتكلف الابتسام:‏
                    - حقاً ، إني لمتعب تعباً منعني النوم.‏
                    فحركت رأسها حركة مَنْ لم يقتنع بما سمع، وقالت:‏
                    - لا أظن أن التعب هو السبب وحده.‏
                    حاول أن يطمئنها:‏
                    - كلا. ليس هناك من سبب آخر.‏
                    لكنها أصرت:‏
                    - بلى. فهذا اليوم ليس من الأيام التي تتعب فيها في عملك.‏
                    وعاد يحاول التهرب:‏
                    - مامن اجتماع إلا وهو متعب.‏
                    فاعترضت:‏
                    - لم تخبرني أمس ولا في هذا الصباح أن لديك اليوم اجتماعاً.‏
                    فقال متنهداً:‏
                    - تعرفين أن الحضور وحده قد يكون مدعاة لعقد اجتماع طارئ.‏
                    وابتسم دونما رغبة حقيقية وأضاف:‏
                    - كل شيء عندنا طارئ... حتى حياتنا على نحو ما..‏
                    ونظرت بعيداً وكأنها تستطلع شيئاً ما:‏
                    - لدي إحساس يؤكد لي أن في الأمر ماتريد إخفاءه عني.‏
                    ونظرت إليه، ثم استمرت تقول:‏
                    - وملامحك تؤكد لي هذا أيضاً. وما أنت بمن يخفي عني أمراً. لم أعرفك على هذه الصورة، وإني لأعرفك -فيما أظن- بما فيه الكفاية، فاصدُقْني القول ولا تحاول مغالطتي.‏
                    ولما لاحظت عليه شيئاً من التردد، قالت:‏
                    - أظنك دُعيت إلى الالتحاق بالجبهة. أليس كذلك؟‏
                    ففزَّ واسْتَوى قاعداً في الفراش، وسألها:‏
                    - كيف عرفت ذلك؟‏
                    فأجابت، وقد بدا عليها شيء من الحزن:‏
                    - مقارنة سلوكك اليوم بما يتحدث به الناس، فلا حديث لهم سوى هذه الحرب الوشيكة الوقوع، فلا داعي للإنكار إذن.‏
                    ولم يجد بداً من أن يؤكد لها ما توصلت إليه بنفسها، وقد خيل إليه أنها ستبكي وتندب حظها، وتعاتبه على المجيء بها إلى بلد كل شيء في موقعه متوقع، وكل شيء في محيطه مشروع.. يخضع لقوانين ومواصفات أخرى محلية قد لا يتسع ذهن متحضر لفهمها وإدراك خفاياها وبواعثها، غير أنها لم تلتجئ إلى شيء من ذلك، وإنما أطرقت قليلاً، وراحت تفكر ونظرها ملصق بأرضية الغرفة، ثم قالت:‏
                    - على كل إنسان أن يؤدي واجبه نحو وطنه.. وإلا فما معنى أن يكون للإنسان وطن لا يدافع عنه؟‏
                    فكبرت في عينه، وسألها وهو يحضنها بكلتا يديه:‏
                    - ألست نادمة على مجيئك معي إلى وطني؟‏
                    فالتمعت عيناها، وقد خالطهما حزن حاولت أن تخفيه عنه بالنظر بعيداً عنه، وقالت:‏
                    - لقد توقعت كل شيء، عندما اتخذت قراري بالمجيء معك إلى وطنك وربطت مصيري بمصيرك وبمصير أولادنا، ومثل هذا الربط لا انفصام له في نظري على الأقل. إن في حياتي نوعاً من الخضوع لقدري.‏
                    وهمَّ بأنَّ يقول لها شيئاً ما، ولكنها أسرعت تقول:‏
                    - لاتحاول أن تقنعني بضرورة ذلك. فهذا الوطن، الذي ستذهب للدفاع عنه، إنما هو وطني أنا أيضاً، ولا أقول وطني الثاني. وطني الأول والأخير هو وطن أطفالي وزوجي، هذا هو الحب في أعرافه الصحيحة. ويليه في الدرجة حبي لجمال وطني وشمسه وبحره وجباله وصحرائه وفضائه الرائع... المثل الحي لما للطبيعة من جلال وجمال.‏
                    وقام يعانقها... يعانق وطنه في وطنه، وقضى آخر ليلة له مع أسرته، ستعيش معه طويلاً إلى أن يتم اللقاء من جديد في أول عطلة له. وودعها في صبيحة اليوم الثاني، ولم يتمالك أي منهما دموعه.. حتى بكى الأطفال معهما، فقد تصوروا أنَّ في الأمر شيئاً يستحق البكاء، عندما رأوا الأبوين يتعانقان بيد ويضمانهم بيد أخرى. لقد كان دائماً من الصعب عليه أن يعيش مثل هذا الوداع، وتذكر اليوم الذي ودعها فيه مع الأطفال على لقاء حين عاد إلى وطنه، وابتعد وقد امتلأت عيناه بالدموع حين تصوّر أن أولاده أصبحوا يتامى، ثم مسح دموعه وراح يطرد من رأسه هذه الفكرة، فالمهم أن يكون لهم وطن، تحترم حدوده، وتصان قداسته، وتسلم حرمته، فماهم إلا جزء من هذا الوطن النعيم، الذي عاش في الخارج له وبه.‏
                    وانتقل إلى الحدود بعد فترة تدريبية، وكان يكتب إليها رسائله أسبوعياً، يحدثها عن حياته بين رفاقه في السلاح، وعن اختراق الحدود من هذه الجهة أو تلك في غفلة من أصحابها، استعداداً للحرب، ثم العودة بسرعة إلى ماخلف الحدود. وكانت تكتب إليه هي الأخرى، وتحدثه عن أطفاله الصغار، ولاسيما عن الصغرى ذات العينين الزرقاوين... عيني أبيه وفيهما أجمل وطن، وتتمنى له السلامة والعودة إليهم بسرعة.. وكانت تختم رسالتها في كل مرة بعبارة: واسلم لنا، فنحن في انتظارك بشغف.‏
                    وذات يوم أخبرها أنه قادم، فقد تمت تسوية مشكلة الحدود، من غير لجوء إلى القوة، فأكد لها بذلك ماكانت قد سمعته في وسائل الإعلام، فبدأت تهيء الجو وتعد العدة لاستقباله. من الضروري أن يكون يوم مجيئه شبيهاً بيوم التحاقها به في وطنه من حيث السعادة والفرحة والبهجة، مع فارق واحد وهو أن عددهم صار أكبر والانتظار أكثر حرارة واتقاداً. وزينت الأطفال ليوم وصول أبيهم وحضر بعض أقاربه لاستقباله، ولم يصل في الموعد الذي حدده لها، فأخذ القلق يساورها، ويحز في صدرها فشيئاً فشيئاً، وفي المساء سمعت اسمه في نشرة الأخبار، فتجمدت أوصالها، ومدت يديها نحو أطفالها دون أن تشعر: لقد انفجر فيه لغم الجار وهو يتقدم في طريق جانبي نحو الطريق الرئيس لامتطاء الحافلة.‏
                    الجزائر.‏
                    5/7/1994‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: الطعام والعيون : قصص

                      سياج البنفسج

                      أسطورة شعبية‏

                      وقف الراعي متكئاً على عصاه فوق قمة الجبل، وراح يتأمل قطيعه، وهو يقضم العشب الطري حيناً، ويرفع بعضه قائمتيه الأماميتين ليقضم أغصان الأشجار الصغيرة حيناً آخر، وقد يرفع رأسه أو يلتفت إليه لينظر كلما ندّ عنه صوت أو صدرت عنه حركة. وعندما أحس بالتعب، ظهر له أن يستريح، فجلس فوق الأرض، ومد عصاه إلى جانبه، وأخرج شبابته من جيب سرواله ووضعها في حجره، وصدره يمتص شذى الربيع، الذي كانت تنثره الأزهار المنتشرة هنا وهناك، ولما سرح نظره بعيداً، عاوده الشعور بدم الشباب يفور في جسمه. كانت عيناه حالمتين، كأنهما تبحثان عن شيء غريب في هذا الصمت، الذي يسود القمة بصورة بديعة، فقد بدأ منذ مدة ليست بالطويلة يحس بسطوة رجولته تزداد حدة، وأصبح التفكير فيها يسد عليه مسالك نفسه ويتعبه ويشعره بنوع غريب من شقاء نفسه، وعذاب أيامه.‏
                      استقرَّ نظره فوق قمم الجبال الأخرى، التي كثيراً ماكانت مرعى له أيضاً، لكنه كان قد فضل في هذا اليوم رعي قطيعه فوق هذا الجبل. بدت له تلك القمم حزينة، وتساءل في نفسه أهي حزينة حقاً أم أن ذلك كان محض تصور منه؟ وكانت تبدو له صغيرة الحجم أيضاً،' فهل كانت نظرته الحزينة سبباً في تقلصها؟ وهل النظرة الحزينة تقلص حجم الأشياء في عين الناظر إليها فعلاً؟ كان الجبل يغمره بسحر خاص، ويملأ نفسه بدفء حالم. واعتراه شوق غامض موجع، فتناول شبابته، وتأملها كما يتأمل الطفل لعبته الجديدة، فقد كان شعوره بها متجدداً على الدوام، ولاسيما حين يقربها من عينيه وينظر إلى فتحاتها، ويمسح عليها بيده في حب، كان بعض الأحيان يقربها من فمه، ويريح أصابعه فوق فتحاتها الثماني، ويعزف عليها في وعيه أولاً، ثم يستنطقها ويزرع فيها ألحانه. وتذكر اللحن، الذي كان يفضل البدء به حين تكتنفه رغبة في العزف على شبابته، فنفخ فيها وحرك أصابعه، فسالت منها نغمات عذبة، ملأت نفسه نشوة، كاد يحس بها إحساساً حقيقياً، حين راحت أصداؤها تنتشر فوق القمم وتمتزج بأشعة ملونة تمتد كالبحر، وتجعل السماء تبدو له وكأنها تختصر أبعادها وتقترب من الجبال في نسيج من اصفرار الشمس المنحدرة نحو المغيب، وتختلط بأصوات الطيور وهي تنتقل من شجرة إلى شجرة فوق المنحدر وتقوم بحركات خفيفة توشك أن تجعلها تتخذ مظهر الراقصة بكل ما لجسدها من تثنيات وتموجات حالمة.‏
                      وحين هم بجمع قطيعه للعودة إلى البيت، برزت أمامه ملفوفة في أشعة الشمس الغاربة امرأة يافعة، جميلة الوجه، ناعمة البشرة، لينة الأعطاف، لا تفارق البسمة شفتيها كأنها طبيعة فيها، ترتدي ثوباً أبيض، تنسدل فوقه غلالة بنفسجية، يبرز منها عنق في لون العاج، ونعومة المخمل، وملاسة الزمرد. وكانت تحف بها نسمات ربيعية جميلة، فشعر الراعي بشيء يمتد في أعماقه أشبه مايكون بالربيع في امتداد مروجه وحدائق أزهاره. وخيل إليه أنه يعيش لحظاته في ضباب بنفسجي مبطن بالفضة. فقد شده إليها جمالها، ورأى فيها حلم روحه الهائمة، وشعر بانتفاضة تهز جسده كله، واهتزت عروقه، وأليافه، وعضلاته فجأة كما تهز عضلات من يتعبه الجري السريع أو يرهقه الصراع الحاد، الذي يقدم الإنسان فيه آخر مالديه، فتنهد دون شعور تقريباً. وجد نفسه مدفوعاً نحوها برجولته الممتلئة البكر، وقد بدا له كل شيء مشرقاً فيها متألقاً بديعاً، وابتسمت له عيناها زيادة على ابتسامة فمها، فشعر أنهما أول عينين تبتسمان له في حياته كلها، وتنظران إليه كما لو أنهما كانتا مدفوعتين بدورهما بقوة الحب أو بقوة أخرى لا يعرف طبيعتها، فشعر بهما في أعماقه... شعر بهما يتخللان جسده كله كما يتخلل ماء الحياة الغصن الطري.‏
                      ومع ذلك لم يتجرأ على الاقتراب منها. كان قد تدرب طويلاً على إخفاء مشاعره أمام سيده. ثم إنه لم يكن في هيأته مايشجعه على الوقوف على مقربة منها ومخاطبتها بصورة من الصور، من أين له أن يحظى بالحديث مع امرأة لها كل هذا الجمال والتألق والإشراق؟ لكن نظراته ظلت موصولة بها، وتساءل في نفسه تساؤل من يجد نفسه في موقف كموقفه على هذا النحو المفاجئ.. من أين خرجت ياترى؟ لماذا تنظر إليه باسمة، بل إنه ليرى كل مافيها يبسم له.. يطل على مثله ويشرق عليه؟ وعندها طفر إلى ذهنه سؤال لم يسبق له أن طرحه على نفسه، ولم يفكر فيه مجرد التفكير، ربما لأنه لم يكن قبل قد وصل إلى المرحلة التي يطرح فيها عادة مثل هذا السؤال، مع أن الأمر لم تكن له علاقة بسنه. فتساءل ماذا ينقص مثله؟ أليس المهم، كل المهم رجولته.. رجولته هذه، التي يشعر بها فجأة وهي على أشد ماتكون يقظة وحيوية وعنفواناً؟‏
                      في تلك اللحظة رآها تقترب منه.. أتراها قرأت ماجال في ذهنه عن فكرة رجولته؟ وسبقها البريق إليه، وكانت نظراتها تمسح وجهه بأنامل أثيرية، فتشعره بنوع من الحرارة والدفء... دون أن يتخلى عن ابتسامتها الملتهبة. ومدت يديها نحوه، فداخله الاضطراب حين لمسهما وسرت في جسده حركة غريبة. كان ثمة ضوء ينبعث منها ويوشك أن يستل منه عينيه ضوء ينطلق من قرص يشبه قرص الشمس وقد لفه ضباب بنفسجي رقيق، يظهر لعين خياله مفاتن لا تحصى. أيمكن أن تكون من هذه الدنيا؟ إنها جديدة على دنياه على أية حال. وراحت نظراته تحوم حولها تائهة... كنظرات الطفل يبحث عن شيء أمامه ويذهل عنه.‏
                      وفي ذهوله شعر بأنفاسها تلهبه، فانبعث من أعماقه فيض من الرجولة والنشوة، وسألها دون أن يفكر في الاستقامة، وقد يكون للاستقامة عنده معنى الرجولة:‏
                      - أتريدين أن تكوني زوجة لي؟‏
                      وقبل أن يتلقى الجواب تسارعت في ذهنه أفكار كثيرة، كان من بينها.. امرأة كهذه لا يمكن أن يمتلكها الإنسان للحظة عابرة حتى عند توافر الظروف المناسبة لامتلاك من هذا النوع العابر. وساوره شعور بالخوف من أن ترفضه رغم ما تضمنه سؤاله من صدق. ولكن المرأة البنفسجية، التي توسمت فيه ماتوسمت، أجابته بفرحة ظاهرة:‏
                      - أنا لك منذ اللحظة!‏
                      لاحظ الصدق في كلمتها أيضاً، فود حينئذ أن يحتضنها، أن ينتهي فيها. كلا. لا يريد أن ينتهي. يريد أن يشرق فيها ويحيا بها.. زوجة له وخادمة مطيعة! ولم يجد مايقوله لها سوى أن يشد على يدها وينقل إليها كل مشاعره لتحاور مشاعرها! وسار معها، فراحت تخطو إلى جانبه بكل جلالها. وكان القطيع يسبقهما، وشعر بلذة السير إلى جانبها ويدها في يده، فاختفى الطريق أمامه، واختفى الزمن والمسافة! وصل الراعي إلى بيت سيده، فأسرع إليه، ويد المرأة في يده، فوجده جالساً فوق أريكة ذات لون ذهبي، وقد ضم رجليه فوقها، فقد كانت هذه جلسته المفضلة، وأمامه مائدة صغيرة، فوقها بعض الفواكه، كان سيده في تلك الساعة، التي يخلو فيها إلى نفسه، ليراجع حساباته ومصارفه اليومية مراجعة ذهنية! وقال لسيده مباشرة، وقد شعر لأول مرة أنه مساوٍ له:‏
                      - أريد أن أتزوج هذه المرأة.‏
                      كان السيد قد وضع رجليه فوق الأرض عندما رأى المرأة تدخل عليه مع راعيه، فعلق نظره، وقد طار عنه ماكان به من خمول، بابتسامتها الساحرة، ومن ثم لم يسمع في بداية الأمر ماقاله الراعي، وحين أعاد عليه ماقاله دون أن يطلب منه ذلك، استفسره السيد قائلاً:‏
                      - ماذا قلت؟!‏
                      قال الراعي، ونظره معلق بالمرأة، ويده تضغط في رفق على أصابعها الناعمة:‏
                      - قلت.. أريد أن أتزوج هذه المرأة.‏
                      نهض السيد وقد شعر بذلك الانزعاج، الذي كان ينتابه كلما اختفت الشمس خلف جبل ما، وتصور أن الراعي ينعم بها فوق قمة الجبل طوال النهار، ومع ذلك أحس ببسمة تتسرب إلى فمه، وبشيء من الحسد في هذا المقام أيضاً ينسحب من عينيه على وجهه، وقال في سخرية:‏
                      - مثلك يريد أن يتزوج بهذه المرأة!‏
                      فشعر الراعي في أعماقه بمايشبه مفعول السم، ورد على سيده بنوع من التحدي والسخرية في الوقت نفسه، وهو يغالب مشاعر الغيرة في نفسه:‏
                      - ما الذي يمنعني من ذلك؟‏
                      برزت عينا السيد على عادته عند الكلام إلى خدمه في ظرف مثل هذا الظرف، وأجابه، وهو يواصل النظر إلى المرأة:‏
                      - تقول... من يمنعني من ذلك؟‏
                      قال الراعي في تحد أكثر:‏
                      - من يمنعني من الزواج بها؟‏
                      نظر إليه السيد مهدداً، وقال:‏
                      - أنا أمنعك من ذلك.‏
                      حضن الراعي المرأة بإحدى يديه، وسأل سيده:‏
                      - بأي حق تمنعني منها؟ أنا لم أسألك إلا لأنني أعمل عندك وأسكن عندك!‏
                      قال السيد في كبرياء:‏
                      -بحق العمل والسكن والسيادة!‏
                      وأحس الراعي بكرامته، فآلام الحياة لم تستعبده، ثم إنه يحس اليوم بسيادته هو نفسه على نحو لم يعهده في نفسه، وقال:‏
                      - لا سيادة لك في أمري هذا!‏
                      ضحك السيد ورد ساخراً:‏
                      - تقول لا سيادة لي في أمرك هذا؟ بلى إنها لي. وما أنت إلا راع عندي.‏
                      قال الراعي:‏
                      - كنت راعياً عندك حقاً، ولا أزال، ولكن ذلك سيكون ابتداء من اليوم بمعنى آخر.‏
                      فسأله السيد في سخرية:‏
                      - وماتعني بمعنى آخر؟‏
                      أجاب الراعي قائلاً:‏
                      - أنا منذ اليوم راع لهذه المرأة، ثم راع عندك إذا شئت أنت.‏
                      واصل السيد سخريته منه:‏
                      - وإذا لم أشأ؟ أتظنها تقبل بك لتعيش معك في الهواء الطلق؟‏
                      فأكد له الراعي:‏
                      - مجيئها معي يعني قبولها بي. وهي لم تسألني عنك ولا أين أسكن.‏
                      عاد السيد يضحك، وقال:‏
                      - قبلت بك قبل أن تراني! ألم تر أنها تبتسم لي؟‏
                      قال الراعي:‏
                      - إنها تبتسم منذ رأيتها. البسمة عندها سلوك طبيعي! هذا ما اتضح لي.‏
                      والتقى نظر السيد بها وببسمتها، فاتجه إليها، وقرب وجهه من وجهها، لكن الراعي سحبها مبتعداً بها عنه، وصاح به:‏
                      - لا تقترب منها هكذا! خاطبها من بعيد.. إن كان لك سؤال توجهه إليها! إني أسمح لك بتوجيه مثل هذا السؤال!‏
                      أحس السيد بما في كلامه من الاعتداد بالنفس، فنظر إلى عضلاته القوية، وقاس قامته الطويلة بنظرة خائفة نوعا ًما من غير أن يدعه يلمح ذلك عليه، وقال:‏
                      - ليس من عادتي أن أسأل المرأة!‏
                      ألقت عليه المرأة نظرة ساخرة، واقتربت من الراعي أكثر، فقال الراعي لسيده:‏
                      - هاهي قد أجابتك دون أن تسألها!‏
                      راح السيد عندئذ يتوعد بلهجة خاصة قائلاً:‏
                      - فكر في عاقبة هذا الأمر! فلست...‏
                      قاطعه الراعي قائلاً:‏
                      - لا تقل إنني لست أهلاً للقيام بشؤونها!‏
                      أسرع السيد يقول:‏
                      - لا مال لك ولا جاه ولا سند. فكيف تقوم بشؤونها؟‏
                      قال الراعي:‏
                      - لا تهتم لهذا الأمر! فهي مالي وجاهي وسندي.‏
                      قال السيد ، وهو يشير إلى المرأة بأصبعه:‏
                      - إذا كنت قد عثرت عليها في أراضي، فهي ملك لي!‏
                      رفع الراعي يده، وحرك سبابته حركات أفقية متلاحقة، ثم قال:‏
                      - كلا. لم أعثر عليها، بل لم ألتق بها في أراضيك، وإنما التقيت بها فوق قمة الجبل. وهي التي برزت لي على صورتها هذه.‏
                      قال السيد:‏
                      - إذا كان الجبل يشرف على أرضي، فهو ملك لي أيضاً!‏
                      قال الراعي:‏
                      - ملكية الجبل تتجاوز ملكية الأشخاص.‏
                      نظر إليه السيد مفكراً، ثم قال:‏
                      - أتريد أن تقول... إن الجبل ملك لها هي؟‏
                      أجابه الراعي، وكأنه قد أعد الجواب سابقاً:‏
                      - لك أن تفهم هذا الأمر كما تشاء!‏
                      هز السيد رأسه، وقد عاوده التوعد:‏
                      - يبدو أنها أنستك كل مالدي من جاه ومال، سأطردك وآخذها منك باسم القانون!‏
                      ابتسم الراعي في سخرية، وقال وهو يضم المرأة إليه:‏
                      - تقصد باسم التحايل علىالقانون!‏
                      قال السيد ملوحاً بيده:‏
                      - لايهم، المهم أن يفتح مالي وجاهي طريقي إليها، وعندئذ أفتكُّها منك!‏
                      قال الراعي بلهجة مستنكرة، وقد طغت عليه وطأة الشعور بالظلم فجأة:‏
                      - تفعل ذلك معي أنا الذي خدمتك بإخلاص وتوقعت، حين أحضرتها معي، أن تساعدني على اتخاذها حليلة لي؟‏
                      رد السيد قائلاً في كبرياء:‏
                      - مامن خدمة اعترف لك بها غير تنازلك لي عنها الساعة!‏
                      قال الراعي في إصرار:‏
                      - لن أتنازل لك عنها، مصلحتي الآن تمحو مصلحتك!‏
                      هنا راح السيد يهدده بسبابته، وهو يقول:‏
                      - أقول لك مرة أخرى.. إن مالي وجاهي سيحسمان هذا الأمر لمصلحتي!‏
                      فأسرع الراعي يرد على التهديد في تحد:‏
                      - لن أدعك تأخذها مني وليكن لك ماتريد!‏
                      قال السيد، وهو يهز يديه كلتيهما في وجه الراعي.‏
                      - ستعرف حجمك يوم غد.. وتقر بمصلحتي صاغراً!‏
                      ***‏
                      احتد الجدال بين الراعي وسيده، وكانا قد بدآه من جديد قبل دخولهما على القاضي، كل منهما يدعي أنه أحق بها من الآخر. الأول يعيد بعض عبارات الحديث الماضي عن المرأة، ويؤكد سبقه إليها، والثاني يصر على أهليته لها بحكم ماله من مال وجاه ومقام، وكان كل منهما يمسك بإحدى يديها، ويحاول أن يدفع يد خصمه بيده الأخرى... والمرأة تبتسم على عادتها، وعلى هذه الصورة وقفا أمام القاضي، الذي بدا لهم فيه كل شيء منتفخاً من أول وهلة! وبعد أن سمع القاضي قصتهم مع المرأة، وهو يتأمل ملامحها في إعجاب تجاوز حده، وجه نظره إلى الراعي، وسأله بنظرة خبث:‏
                      - أنت راع؟‏
                      أجاب الراعي بلطف:‏
                      - نعم ، سيدي!‏
                      أمال القاضي رأسه وقال، وقد صدرت عن يده حركة مهددة:‏
                      - أنت تقر بأنك راع؟‏
                      بدت الدهشة على وجه الراعي، وقال:‏
                      - وهل تراني أنكرت ذلك ياسيدي؟‏
                      قال القاضي:‏
                      - أردت أن أسمع ذلك منك فقط!‏
                      هنا أسرع السيد يقول:‏
                      - إنه راع عندي، ياسيدي!‏
                      فنهره القاضي قائلاً:‏
                      - اسكت! سيأتي دورك أنت.‏
                      استغرب السيد أن يخاطبه القاضي بهذه اللهجة، مع أنه كان قد نظر إليه وهو يربت على جيب صدره، وكان قد تتبع حركة يده، وهو متأكد من ذلك تماماً، وقال وكأنه يعتذر عما بدر منه:‏
                      - أردت أن أذكرك فقط ياسيدي!.‏
                      ألقى عليه القاضي نظرة رافضة، ووضع شفته العليا بين أسنانه مفكراً، وهو يحرك رأسه، ثم بلَّ شفتيه وقال:‏
                      - قلت لك اسكت!‏
                      ومسح جبينه بيده، ووجه الخطاب إلى الراعي قائلاً:‏
                      - مادمت راعياً فما أنت لها بأهل!‏
                      امتعض الراعي من قوله، وقال له بلهجة احتجاج:‏
                      - أظن أن مثل هذا الحكم لا يمكن أن يكون منصفاً.‏
                      ابتسم القاضي، وقد شعر برغبة في مجاراته، وقال:‏
                      - بل هو منصف، أيها الراعي!‏
                      فسأله الراعي:‏
                      - منصف لمن؟‏
                      بسط القاضي يديه فوق المنصة، وهو ينظر إلى ابتسامة المرأة، وقال:‏
                      - منصف لمستقبل المرأة!‏
                      قال الراعي:‏
                      - لم أفهم.‏
                      رد القاضي قائلاً:‏
                      - لا تحاول أن تفهم. ودع الإنصاف لأهل الإنصاف!‏
                      وهم الراعي بالكلام، ولكن القاضي أسكته بلهجة صارمة:‏
                      - كفى! لم يبق لك من كلام تقوله.‏
                      وانتبه إلى أن الراعي يمسك بيد المرأة، فأضاف قائلاً:‏
                      - اترك يدها، فلا حق لك فيها!‏
                      صاح الراعي، وهو لا يزال ممسكاً بيدها:‏
                      - بل لي فيها كل الحق!‏
                      انتفض القاضي في مكانه، وقال له بلهجة أشد عنفاً:‏
                      - قلت لك اسكت، إياك أن أسمع منك كلمة أخرى دون أن أطلب منك ذلك. انزع يدك من يدها، وإلا أمرت بإخراجك!‏
                      همهم الراعي حانقاً:‏
                      - من يبقى إذا أخرج صاحب الحق؟‏
                      وامتثل لأمره، وهو يضغط أسنانه حتى لا يصرخ بما قاله. لم يكن يتوقع أن يقف القاضي إلى جانب سيده، ويضن عليه بالحق في امرأة، التقى بها وعرض نفسه عليها، فقبلته. أطرق القاضي قليلاً، ثم قال بصوت لم يسمع غيره:‏
                      - الجمال لمن ينصفه، لمن يصون صفاءه وبهاءه!‏
                      كان السيد في أثناء ذلك يبتسم في زهو، ونظر إلى راعيه في تشف، وقال للقاضي:‏
                      - شكراً لك، ياسيدي القاضي!‏
                      فسأله القاضي في استغراب:‏
                      - علام تشكرني، أيها السيد؟‏
                      فأجاب السيد، وقد امتلأت نفسه هو الآخر ببسمة المرأة:‏
                      - أشكرك على أنك أنصفت مستقبل المرأة وأنصفتني بذلك.‏
                      ضحك القاضي، وقال:‏
                      - وكيف عرفت ذلك؟ إنني لم أصدر حكمي بعد!‏
                      ربت السيد على جيب صدره مرة أخرى، وقال:‏
                      - بعد أن نفيت عن الراعي مايدعيه من حق وأسكته، أصبح حكمك واضحاً.. لم يخف حتى على الراعي!‏
                      سأله القاضي:‏
                      - من أنت؟‏
                      استوى الرجل في جلسته، ورفع رأسه. ثم قال:‏
                      - رجل ثري، وصاحب ونفوذ!‏
                      ضحك القاضي، وضرب بكف يمناه الغليظة في الهواء، ثم قال:‏
                      - لم أسألك عن هذا، وإنما سألتك عن قيمتك.‏
                      قال السيد:‏
                      - قيمتي هي ماقلته لك!‏
                      حرك القاضي رأسه حركة نفي، وقال:‏
                      - لا أنت هذا، ولا أنت ذاك.‏
                      شعر السيد بقامته تتقلص، وهو يتساءل:‏
                      - ماذا يعني هذا، ياسيدي؟‏
                      حرك القاضي رأسه مرتين إلى الأمام وإلى الخلف، وقال:‏
                      - أعني أن مالي أكثر ونفوذي أعظم.‏
                      شعر السيد بشيء من التحدي، وسأل القاضي بنبرة لا تخلو من سخرية:‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: الطعام والعيون : قصص

                        - ثم ماذا؟!
                        أحس القاضي بهذه السخرية، فثبت نظره فيه، وقال له:‏
                        - لاشيء بالنسبة إليك، وكل شيء بالنسبة إلي!‏
                        فشعر السيد بالإهانة، وقال له:‏
                        - وضح ماتريد قوله، فأنت قاض!‏
                        قال القاضي:‏
                        - كلامي واضح، وقد سبق لك أن اعترفت بوضوحه! أنا أولى بالمرأة من الراعي، راعيك، صاحب الحق فيها، كما يدعي، وأولى بها منك كذلك!‏
                        ثار السيد، واحتقن وجهه، فقد أحس أنها ستفر منه، بعد أن تصورها بين يديه بناء على ماكان فهمه من حديث القاضي مع الراعي- تفر منه كما يفر الظل، وقال:‏
                        - بأي حق تكون أولى بها؟‏
                        أجاب القاضي بكل هدوء:‏
                        - لا تسأل عن الحق. لقد كنت تعرف أنني قاضٍ عندما جئت إلي، تطلب مني الفصل فيما وقع لك مع راعيك، وأكدت لي هذه الصفة أنت نفسك قبل حين، ولذلك كان عليك أن تنتظر مني هذا الحكم المنصف كل الإنصاف! ثم ألم تلاحظ أنها تبتسم لي منذ أن دخلت قاعتنا هذه!‏
                        قام السيد بحركات، لفتت انتباه المرأة إليه، وما أن رأى بسمتها، وشعر بها تسيل فوق وجهه صبيباً من ماء الورد المنعش، حتى صاح:‏
                        - لقد ابتسمت لي قبل أن تبتسم لك، وماهذا الإنصاف، الذي تتحدث عنه إلا إنصافك لنفسك. والقاضي لا يليق به مثل هذا الإنصاف! ولذلك فالمرأة لي، ولن أسمح لأحد بأخذها مني ولو وصلت من أجلها إلى القمة!‏
                        فانتفض الراعي قائلاً:‏
                        - كنت السابق إلى كل هذا، وقد جئت بها من القمة، ولن أدع أحداً يأخذها مني، وإذا ماهو استعمل القوة، فإن لي أنا أيضاً قوتي، وهي قوتي!‏
                        نقل القاضي نظرة بينهما، وقال بلهجة حاسمة:‏
                        - سواء كانت المسألة مسألة قوة أو مسألة إنصاف، فهي لي وليست لأي منكما.. وسأريكم مبلغ قوتي ونفوذي عند من نحتكم إليه بعد وقت قصير!‏
                        ***‏
                        احتد النزاع بين القاضي والسيد والراعي، وهم في الطريق إلى الحاكم، واشتد بشكل خاص قبل أن يدخلوا البناية، التي تعود أن يجلس فيها لاستقبال البعض من رجاله والمقربين إليه لضرورة ولغير ضرورة... والضرورة لا تكون في الغالب إلا لزيارة وداع أو لزيارة مجاملة- احتد النزاع حتى كاد يصل في أثناء ذلك إلى استعمال العنف، فقد تطور الأمر إلى هذا حين غلت الدماء في العروق، وتحولت إلى رغبة عارمة، وشرارة اشتهاء موقدة والمرأة تبتسم للجميع!‏
                        ودخلوا على الحاكم، والمرأة تسير أمامهم، وقد خيل لكل واحد منهم أنها تضع بساطاً من بسمتها إلى من سيحكم له وينصفه، وكان الحاكم قد جلس في بهو واسع جميل، امتدت فوق أرضيته بُسُط وطنافس ذات ألوان زاهية، وانتصبت فوقها أرائك وكراسي مذهبة، وبدت على الجدران لوحات تتوسطها صورة جميلة، رحب الحاكم بالقاضي، ولم يستغرب أمر زيارته له، فما أن رأى المرأة وابتسامتها الفاتنة حتى خمن أن لديه قضية تتصل به شخصياً، قادته إليه مع مرافقيه الثلاثة، فهو لم يكن من عادته أن يأتي لمقابلته إلا إذا كان الأمر يتعلق بأي منهما من قريب أو بعيد. وأشار إلى المرأة بالجلوس أمام مكتبه، فجلست، وهي تنظر إليه مبتسمة، وطلب من القاضي أن يوضح له الأمر، وهو يسارقها النظر. لقد أدرك هو الآخر مالها من سحر وجمال، جعله يتململ في مجلسه!‏
                        ولما انتهى القاضي من كلامه، طلب من السيد، وعينه تنتقل بينه وبين المرأة، أن يشرح له الأمر من وجهة نظره الخاصة، وحاول السيد أن يطيل في الشرح والتوضيح، غير أن الحاكم. طلب منه أن يختصر فأنهى كلامه بقوله:‏
                        - القضية، ياسيدي الحاكم، بيني وبين راعيّ، ولكن القاضي أبى إلا أن يتدخل ويجعل من نفسه طرفاً ثالثاً فيها. وأنا أريد من سيدي الحاكم أن.....‏
                        رفع الحاكم يده، وقاطعه قائلاً:‏
                        - طيب.. طيب.. سنرى هذا الأمر فيما بعد.‏
                        واتجه بعدئذ إلى الراعي، وأمره أن يروي له هو الآخر القصة من أولها إلى آخرها كما وقعت له مع المرأة أولاً ثم مع سيده. وتكلم الراعي وروى قصته بإيجاز كبير، إيماناً منه بأن الحق لا يحتاج إلى أدلة كثيرة وشرح مسهب طويل أمام حاكم يسهر على تطبيق القانون وإشاعة العدل والإنصاف.‏
                        ولما انتهى من كلامه، أطرق الحاكم مفكراً لفترة قصيرة، ثم رفع رأسه، وأخذ ينظر إلى وجه المرأة نظرة اشتهاء، قبل أن يوجه نظره -وكم ود في أعماقه ألا يفعل ذلك- إلى القاضي، وقال له:‏
                        - لماذا دخلت في الصراع وأنت قاض؟‏
                        لمعت عينا القاضي وهو يجيب:‏
                        - تدخلت في الصراع لإنهاء الصراع!‏
                        قال الحاكم يخاطب نفسه:‏
                        - دائماً التدخل في الصراع لإنهاء الصراع، ولكن لمن؟‏
                        وابتسم بعد ذلك للمرأة، وهو ينظر إليها نظرة متثائبة:‏
                        - ولكن القاضي لا يتدخل في الصراع ليكون طرفاً فيه.‏
                        أجاب القاضي، وهو يضغط على مخارج الكلمات:‏
                        - هناك، ياسيدي الحاكم، حالات تتطلب مني هذا النوع من التدخل، وهذه حالة من تلك الحالات!‏
                        وتوقف قليلاً، ثم أضاف:‏
                        - الحقيقة أنني ماكنت أنتظر منك أن تناقشني في أمر يخص وظيفتي وحدها!‏
                        حدق الحاكم في وجهه، ثم ثبت نظره في عينيه، وقال في سخرية:‏
                        - تقول في أمر يخص وظيفتك؟ ولكنك احتكمت في تدخلك هذا إلى الطبيعة ولم تحتكم إلى القانون!‏
                        فقال القاضي معترفاً ومؤكداً قوله في الوقت نفسه:‏
                        - أجل، ياسيدي! احتكمت إلى العادة كما كانت العادة حين يتصل مثل هذا الأمر بأي منا! وماعودتني أنت على تدخلك إلا في إطار هذا الحد!‏
                        ابتسم الحاكم، وقال:‏
                        - هناك حالات، أيها السيد القاضي، تتطلب التدخل أو المناقشة حتماً!‏
                        أسرع القاضي يقول، وقد استغرب جوابه:‏
                        - لكن هذه هي المرة الأولى!‏
                        قال الحاكم:‏
                        - وهي الحالة الأولى من هذا النوع بالنسبة إليك شخصياً أيضاً.‏
                        فقال القاضي مبتسماً:‏
                        - لقد فهمت ماذا تعني. ولكن...‏
                        قاطعه الحاكم قائلاً:‏
                        - القضية منتهية، أنا راض بحكمك مسبقاً!‏
                        هنا نطق السيد، وقال وقد بدا عليه أنه لم يفهم ما لمح إليه كل من القاضي والحاكم:‏
                        - لم ينتهِ أي شيء. فأنا أطلب أن يترك الأمر بيني وبين الراعي كما كان في السابق.‏
                        قال الحاكم ببطء وكأنه يتهجى الكلمات:‏
                        - كل سابق يعد منتهياً، لقد أخرج القاضي الأمر من يدك حين أظهر أنه الأقوى.‏
                        حرك السيد رأسه مستغرباً:‏
                        - في أي شيء هو الأقوى؟‏
                        فأجابه الحاكم:‏
                        - في المركز، في الوجاهة، وفي العلم!‏
                        سارع السيد يقول:‏
                        - كل هذا لا قيمة له. فلا شيء من هذا لمن لم يعرف الحق! والرجل رجل بمعرفته.‏
                        ضحك الحاكم، وقال:‏
                        - وهل عرفته أنت؟‏
                        وهنا تدخل الراعي، وقال موجهاً الخطاب إلى السيد:‏
                        - والشاب رجل يعرف الحق أيضاً.. بل أكثر من رجل. أنت أيضاً لم تعرف حقي. والسؤال، الذي وجههه إليك السيد الحاكم في محله. وأنا أصر على أن يرجع حقي إلي.‏
                        واستدار السيد إليه، وقال حانقاً:‏
                        - كل هذا بسببك!‏
                        فصاح به السيد:‏
                        - أسكت، أيها الراعي!‏
                        قال له القاضي:‏
                        - واسكت أنت، يارجل!‏
                        فاهتز الحاكم في مقعده، وقال:‏

                        - واسكت أنت، أيها القاضي! فالمرأة من نصيبي! وكفاكم نزاعاً وملاحاة!‏
                        ***‏
                        أراد الحاكم بعد ذلك أن يفرض سلطته، وأخذ يهدد ويتوعد إن لم يتنازل الرجال الثلاثة عن رغبتهم في المرأة، ولكن الرجال أصروا على موقفهم. كان كل منهم يدعي أن الحق بجانبه، ويؤكد أنه غير مستعد للتنازل عن حقه.. وقد سيطرت عليه فكرة التملك، وتراءت له جوانب النعيم المتعددة، واحار الحاكم، وفكر أول الأمر في استدعاء الحراس لإبعاد الرجال الثلاثة والاحتفاظ بالمرأة عنده، ثم عدل عن هذه الفكرة خوفاً من أن يفلت الأمر من يده، ويصل إلى المركز الأعلى، فينفتح الباب لطرف آخر ويغدو أكثر تعقيداً، ويحرم من بعض حقوقه وصلاحياته، منها هذا الحق الجميل! وأخذ يفكر مرة أخرى، بينما كان الرجال الثلاثة ينظرون إليه في قلق، وتوقع. وفجأة توجه إليه القاضي قائلاً، وكأنه قد قرأ أفكاره وعرف اتجاهها:‏
                        - ليس من حقك، ياسيدي الحاكم، أن تكون طرفاً في الموضوع، فما بيدك أنت ليس بيدي.‏
                        فسأله الحاكم:‏
                        - ولماذا يكون من حقك ولا يكون من حقي أنا؟‏
                        فرد القاضي قائلاً:‏
                        - أنت تعرف أنه ليس من حقك أن تسألني هذا السؤال، فالجواب عندك!‏
                        وتدخل السيد ليقول:‏
                        - سيدي الحاكم.. بيدك أنت وبيد القاضي ماليس بيدي. فاتركا المرأة لي!‏
                        وشعر الراعي أنه نسي، وطرح بعيداً عن قضيته، فهتف بدوره:‏
                        - أنا أحق بها منكم جميعاً، ياسيدي الحاكم! لكم كل شيء ومالي أنا من شيء على إطلاق الإطلاق!‏
                        قال الحاكم ساخراً:‏
                        - أسكت أنت! نحن لا ندخلك في حسابنا، ما أنت إلا راع!‏
                        فانتفض الراعي:‏
                        - نعم. لا أنكر أنني راع، ولكني رجل مثلكم وسأرعى هذه المرأة كما يفعل الرجال! فردوا الحق لصاحبه! أهكذا يكون حكم القاضي وحكم....؟!‏
                        بادر القاضي إلى إسكاته بحركة من يده، ونظر الثلاثة إليه في احتقار، وكانت المرأة تنظر إليه في إعجاب، والحاكم يحاول أن يلفت نظرها إليه بصوته الآمر وحركاته الرزينة، كان حريصاً على أن تكون له، غير أن تصلب الرجال الثلاثة يعد منافسة في المركز الذي هو فيه. فوضع يده على جبينه وكأنه يبحث فيه عن فكرة أقرب إلى المنطق والمعقول.‏
                        وحين ظن أنه اهتدى إليها التفت إليهم وقال في شبه اقتناع دون أن يحرك نظره عن المرأة، وقد خيل إليه في أثناء ذلك أن هناك بريقاً ينطلق من عينيها وينتشر فوق بياض وجهها، ليشده إليها على نحو أكثر عمقاً ونفاذاً:‏
                        - عرفت الآن أن كلاً منكم حريص كل الحرص على أن تكون المرأة له وحده، ومادام الأمر قد وصل إلى هذا الحد، فقد قررت أن نحتكم إلى المرأة! أاا أة! فليكن لها هي أيضاً حق الاختيار!‏
                        فاهتز القاضي في مجلسه:‏
                        - أعتقد أن هذا الأمر يخصني أنا، فأنا الحكم في مثل هذه الأمور. صلاحياتك، ياسيدي الحاكم، على كبرها، لا تمتد إلى هنا!‏
                        قال الحاكم:‏
                        - لم يعد يخصك شيء.. فقد خرجت عن وظيفتك ودخلت في طبيعتك!‏
                        وأيد السيد الحاكم في رأيه، وكذلك الراعي، فأذعن القاضي دون إرادة منه لقرار الحاكم. سأل الحاكم المرأة:‏
                        - هل تقبلين أن نحتكم إليك؟‏
                        وسعت المرأة من ابتسامتها، وقالت:‏
                        - ها أنتم قد شعرتم بوجودي أخيراً!‏
                        شعر الحاكم بصوتها يصل إليه كنفحة من عبير، وعاد يسألها:‏
                        - أتقبلين إذن أن تكوني حكماً بيننا وأن تختاري لنفسك واحداً منا؟‏
                        فأسرع الراعي يقول:‏
                        - لا تنسي أنني كنتُ أول من اخترتِ من الرجال!‏
                        قالت المرأة:‏
                        - ليس هناك ماهو أحب إلي من ذلك!‏
                        فهم السيد أنها ترد على سؤال الحاكم، فنهر الراعي قائلاً:‏
                        - اسكت! اختارتك، لأنها لم تكن قد رأت غيرك! دعها تتكلم!‏
                        قال القاضي موجهاً الخطاب إلى السيد:‏
                        - واسكت أنت أيضاً. لقد نسيتك بعد أن رأتني! دعها تتكلم!‏
                        قال الحاكم:‏
                        - اسكتوا جميعاً، كنت آخر من ابتسمت له، دعوها تتكلم!‏
                        ونظر إليها وابتسم لها، وقال:‏
                        - اختاري الآن واحداً من بيننا!‏
                        قالت المرأة بصوت فيه دفء ونعومة:‏
                        - سبق أن اخترت من جئت معه، ولكنكم لم توافقوا على اختياري، وأسقطتموني من حسابكم، ونسيتموني في أثناء صراعكم من أجل الظفر بي كل النسيان على قربي منكم. ومن الصعب علي الآن أن أختار بهذه السرعة، ولكني أقترح عليكم حلاً معقولاً:‏
                        فسألوها بصوت واحد:‏
                        - وماهو هذا الحل المعقول، أيتها السيدة؟‏
                        فقالت المرأة، وقد كادت ابتسامتها تتحول إلى ضحكة:‏
                        - يسرني أن تجعلوني سيدة!‏
                        فهتف الرجال الأربعة:‏
                        - أنت سيدة الجميع!‏
                        - وماهو هذا الحل ؟‏
                        فأجابت المرأة بهدوء:‏
                        - سأقف في المكان الذي عثر علي فيه الراعي في قمة الجبل، وهو مكان يحجبه سياج من البنفسج. سأقف خلفه، وهناك أيد كثيرة تمتد حولي. وعلى كل واحد منكم أن يثب فوق السياج ويلقي بنفسه في الجهة الأخرى، فمن تلقته تلك الأيدي ووضعته بين ذراعي، كنت له! وستذهبون معي هكذا كما أنتم دون حراس أو مرافقين، فأنتم في حمايتي! فلنذهب إذن!‏
                        قال الراعي:‏
                        - فليكن الأمر كذلك!‏
                        قال السيد شبه معترض:‏
                        - أنا لم أتعود صعود الجبل، لكني لن أتخلى عن حقي.‏
                        وقال القاضي:‏
                        - السيارة كفيلة بإيصالنا إلى سفح الجبل ثم نصعد!‏
                        قال الحاكم:‏
                        - الطائرة العمودية أسرع. فإلى القمة!‏
                        فقالت المرأة:‏
                        - لا السيارة ولا الطيارة! على من يصعد الجبل أن يسير على قدميه.‏
                        فعاد الحاكم يقول:‏
                        - إذن، فلتكن لنا روح رياضية، ونحاول السير على الأقدام مرة في عمر الحكم!‏
                        قال الراعي:‏
                        - لقد تعودت السير شبه حاف!‏
                        فقال السيد:‏
                        - تلك طبيعة فيك!‏
                        فرد عليه الراعي قائلاً في فخر:‏
                        - من أجلها اختارتني!‏
                        فنهره الحاكم، ومده يده نحو المرأة، فهمت بأخذها بحركة لا شعورية، ثم انتبهت إلى نفسها، فتراجعت عن ذلك، وألقت نظرة على الراعي، وقالت:‏
                        - فلنسر إذن!‏
                        وساروا فوق طريق ملتو، تنتصب أشجار الزان والبلوط على جانبيه في شموخ حيناً، وتقوم الصخور والحجارة على جانبيه حيناً آخر، وتباطأت خطاهم عندما بدؤوا يصعدون منحدرات وعرة رغم وجود الطريق المرسوم فيها بوضوح. وكان كل واحد منهم يشعر بسمو السياج الذي سيثب فوقه، والأيدي التي ستتلقاه، وبسمو الذراعين اللتين ستنضمان عليه، ويتراءى له في آخر الأمر سموه هو نفسه محمولاً فوق قمة الجبل، وكان السيد يهمهم ويدمدم أحياناً لاعناً راعيه، الذي لم يمتثل لأمره ويحقق رغبته، وقد طغى هذا الشعور بالسمو على ما يشعر به الإنسان عادة من مشقة صعود الجبل، وكانوا فوق ذلك يتكلمون، ويتناقشون حتى تكاد تنقطع أنفاسهم، ويشعرون بالعرق يسيل مع كل كلمة ينطقون بها، لكنه كان عرقاً يمنح أجسامهم على نحو ما برودة ورطوبة‍‏
                        حين وصلوا أمام سياج البنفسج، كان أول مالاحظوه أنه متناسق في أعلاه، ولكنه مليء بالحسك وبعض النباتات السوداء الغريبة، اختلطت به وأفسدت منظره الكلي، ففكر أحدهم في تنقيته وإصلاحه، بينما فكر البقية في أن الأمر لا يعنيهم ماداموا سيثبون فوقه ولا يرون بوضوح لا وسطه ولا أصوله ولا ما يختلط بها من أعشاب تبدو لطراوتها كالعفنة، وأراد الحاكم أن يكون أول من يثب بناء على رتبته في وظيفته الحالية، غير أن المرأة أفهمته أن عليهم أن يثبوا دفعة واحدة، فالأيدي كثيرة والسواعد قوية إن دعت الحاجة إلى ذلك، وهو مالا تتوقعه شخصياً، وأن يتم هذا الوثب من أماكن متقاربة، ومتساوية العلو تساويهم في نظرها على الأقل في اللحظة الراهنة، على أن يكون الانطلاق بعد ذكر الرقم الأخير من العد التنازلي، فالعد التصاعدي لم يعد من شيم هذا العصر، وسماع الإشارة، التي ستصدر عن أحدهم بناء على اتفاقهم فيما بينهم!‏
                        واختفت المرأة خلف السياج بعد ذلك مباشرة، فوقف الرجال الأربعة في صف واحد ضمن مساحة تكفي للزيادة من شدة الجري، وحدة السباق، وقوة المنافسة. واتفقوا على أن يكون الراعي هو الذي يعطي إشارة الانطلاق، فلعل إعطاء الإشارة يقلل من انتباهه وسرعته ويؤخره عن الوثوب معهم في الوقت نفسه، وشعر كل منهم أنه مقبل على مغامرة رائعة، كانت روعتها آتية من يقينه بالفوز بالمرأة الجميلة. وما أن ارتفع صوت الراعي في الجبل، حتى ركضوا بسرعة فائقة، ثم وثبوا، واختفوا في الجانب الآخر دفعة واحدة.‏
                        وساد الصمت لحظات قصاراً، ثم ارتفعت أصوات وتعالت هتافات، تتخللها صرخات خافتة، تعبر عن الوجع والألم، كما تتعالى وسطها من وقت لآخر أنات أشبه ما تكون بالبكاء، وفجأة انفتح باب سياج البنفسج، فخرجت المرأة، وهي تضحك ضحكة تردد صداها فوق القمم والوهاد والأودية، وبين ذراعيها راعي بنفسجها، وقد نما ظله مع صوت ضحكتها وصداها فوق القمم القريبة والبعيدة!‏
                        الجزائر‏
                        6/7/1996.‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: الطعام والعيون : قصص

                          وجوه من سحاب
                          قادته قدماه إلى شارع الحرية عن قصد، ووقف أمام رقم معين، وصدره حافل بالغضب. وطحن أسنانه: حتى الحرية جعلوا لها رقماً... شارعاً وجريدةً! وقد وصل هو إلى هذا الرقم أو اعتقد أنه وصل إليه منذ أشهر! ألم يراسله مرات عديدة؟ ألم يرسل إليه مقالاته وقصصه، التي كان يخطها بعصارة ذهنه وذوب وجدانه؟ أليس اسمه نوار، وليس له إلا أن ينوِّر، وهل هناك من نَوْره غير نَوْراه لهذه الجريدة التافهة، التي لم يزودها بإنتاجه إلا احتراماً لاسمها المقيم في كل قلب يعمره الوعي والحس المرهف؟ ورفع رأسه لينظر إلى اللافتة، التي كتب عليها اسم الجريدة، فتذكر أنه قصير القامة إلى حد ما، وراح يقيس المسافة بينه وبينها، ثم همهم بينه وبين نفسه:‏
                          - في الحياة لحظات يحس فيها الإنسان أن قامته تضيق بمشاعره!‏
                          وحرك رأسه مهموماً، ثم تنهد وأضاف:‏
                          - مع ذلك قد يكون في الذكاء... في فعل الكتابة تعويضاً عنه!‏
                          وفكر أنه لم يكن مبالغاً في وصفه لأعماله الأدبية، فقد التزم في كتابة مقالاته وقصصه الأصول والقواعد، التي تنبع من نفسه، من شعوره بالنوع الأدبي، يسجل فيها كل مايتصل بمجال مامن مجالات اهتماماته، قد يصعب على البسطاء إدراكها، بل قد يصعب ذلك حتى على الواعين أنفسهم! لقد كان يكتب مقالاته وخواطره وقصصه دون أن يتصور قارئاً أمامه، وإن تصوره، فإنما يتصوره من طرازه، وهذا بناء على تصوره لنفسه في شكلها الجديد.. في تهويماتها الحديثة.‏
                          لماذا لم تنشر إذن؟ لماذا حيل بينها وبين النور في شارع الحرية؟ لكم هو ملعون هذا الرقم الذي تحمله الحرية وإن كان هو رقم سنه العشرين! إنه رقم الخواطر والنصوص والمقالات، التي أرسلها إليه ولم تنشر.. لم يفتح لها المجال لتصل إلى نفسه التي أبدعتها أسطراً وأعمدةً تضيء صفحة من صفحات الجريدة. لقد جعلوه شارعاً للألم والضياع والموت، فصار طريق العبقرية في بلده محفوفاً على الدوام بالأشواك والعقبات والحواجز المروّعة. وامتلأ رأسه بخواطر قاتمة رانت على صفحة وجدانه وعمرت فمه بمرارة طحلبية.‏
                          كان قد عوَّد نفسه منذ مدة شراء الجريدة يومياً وقراءة الصفحة الثقافية منها، عله يجد فيها -بعدما يئس من نشر ماكتبه- خاطرة من خواطره. سرقها منه أحد محرري الجريدة ونسبها إلى نفسه، بعد أن أصبحت السرقة الأدبية أمراً شائعاً، وصار الارتزاق واقعاً ملموساً، لا ينكره ذو ضمير وأنفة. وكثيراً ماكان يخرج من جيوبه مسودات مقالاته أو خواطره أو قصصه ويقارن بينها وبين ما يقرؤه في تلك الصفحة الثقافية. فهل هناك ياترى من لص تستر بعمله، تستر بكتابة أبدعتها عبقريته؟ ولكن أنى له أن يعرف ذلك؟ قد ينتقل مايكتبه إلى صحفية أخرى بحكم الزمالة والعمل الصحفي حتى لا يكتشف مصير خواطره؟ أيبحث عن ذلك في كل الجرائد على قلة عددها؟ كلا، لن يشتري اليوم حتى جريدة "الحرية"، التي تفتقد الحرية في شارع الحرية!‏
                          كان اليوم الشتوي مشرقاً جميلاً، ولم يكن نوار يحب أن يعرف الكآبة في يوم كهذا. كان يحب دائماً أن يعثر على شيء يفرحه... وما يفرحه ينحصر في النزهة والتفكير والكتابة. لا ينبغي له اليوم إذن أن يحمل ضعف مايحمله غيره من آلام وأحزان ويذرع الشوارع والطرقات يائساً مهموماً، فليذهب للقيام بجولة بمفرده.. ماهو بحاجة إلى أحد. غير أن نفسه كانت في ذلك الحين تنازعه إلى الجريدة، لابد أن يعرف ماتحتوي عليه.. ولو من العناوين فقط، وهو كل ماكان يقرؤه منها في أيامه الماضية، والحق أنه لم يكن يهتم بها إلا حين بدأ يرسل إليها خواطره وقصصه.‏
                          استقر رأيه أخيراً على أن يشري الجريدة على الرغم من الخيبة، التي كان ينتظرها منها، فهي ترفض بعد أن تعترف باسمه وبكلماته وأفكاره. وتوقف أمام بائع الجرائد، وأخذ يتأمل الجريدة، ويتساءل في نفسه: أتراني سأجد فيها خواطري أو شيئاً من كتاباتي؟ وغمره سوء الظن بها، لكنه وجد يده تمتد إليها وترفعها رغماً عنه. فهل له أن يكتفي بتصفحها؟ إن ذلك قد لا يرضي البائع، وقد يقول له كلمة تؤذي سمعه وصدره، خصوصاً بعد أن شرع منذ مدة يحس بقيمته الذاتية... بعبقريته في فن الكتابة الأدبية مع أنه لم يجد بعد من يؤمن بهذه العبقرية، التي ستشغل المستقبل.. فذلك مايؤمن به هو إيماناً جازماً!‏
                          قر رأيه على أن يشتري الجريدة... من أجل العادة لا أكثر ولا أقل، والعادة قد تصبح ضرورة بشكل ما، يتصفحها ثم يرميها في سلة المهملات إن وجدت أو يتركها على كرسي من كراسي المقاهي أو مقعد من مقاعد الحديقة، التي اعتاد الجلوس فيها ليعاود قراءة مسودات كتاباته، والجريدة التافهة تستحق أكثر من مجرد الإهمال، إلا أنه لم يكن من عادته أن يمزق ورقة مكتوبة.. حتى تلك التي يكتب فيها خواطره.. كان يعتقد، دون أن يعرف من أين له ذلك، أن الورقة المكتوبة لا تستحق أن تمزق، فانسحب إيمانه هذا على ورق الجريدة!‏
                          دفع ثمنها وابتعد مسرعاً بعد أن طواها ووضعها في جيب سترته، وظل سائراً، فقد صعب عليه في اللحظات الأولى أن يجد الجرأة على فتحها. كان يخشى فظاعة خيبة الأمل المتوقعة حين لا يجد فيها مايبحث عنه! وعندئذ يتخلص منها في غضب، ويتركها تنزلق من يده، فيلحقه بعض الطيبين -فالدنيا لم تخل بعد منهم تماماً!- ويعيدها إليه، وهو يخجل أن يقول له.. خذها، فقد انتهيت منها! من يدري، فلعله رآه وهو يشتريها قبل لحظات دون أن يلقي نظرة على محتواها؟ لا مفر إذن من الاحتفاظ بها، ولكن لم لا يتوقف - أو يظل سائراً إذا شاء- ويجرب فتحها وإلقاء نظرة على صفحتها الثقافية؟ إنه لن يخسر سوى ثورة أعصابه، وكم من مرة خسرها!‏
                          فتح الجريدة، فتعثرت أصابعه في صفحاتها، وتخطتها مندفعة بحثاً عن الصفحة الثقافية، وإذا بنظرته تتجمد، وتتجمد معها رجلاه، فتوقف في وسط الطريق، لم يصدق مايراه، وشعر بدبيب في قفاه، بدأ يمتد تدريجياً في شعر رأسه ويوشك أن يقفه، واعتراه ما يشبه الدوار، واهتزت في صدره دوامة سريعة، فصب كل قواه البصرية على الصفحة... على جانب منها، يمسحه مسحاً.. يجرده جرداً، ويقتلع الحروف من أماكنها، ويختزنها في ذهنه وفي أعماقه، دون أن يدري ماتعنيه! لم يعِ في بداية الأمر إلا عنوان قصته واسمه، وكأن ماكتب تحتهما لا يعنيه إطلاقاً، أو هو لا يعنيه مؤقتاً على الأقل. كانت ثمة نجوم تلتمع تحت نظراته، ويحس لنظراته نفسها التماعاً وصفاء ينتشران على الصفحة كلها، وكان هناك صفير عذب يتصاعد في أذنيه.‏
                          صدمه أحد المارة، فانتبه إلى نفسه، واعتذر له معترفاً بخطئه لبقائه في وسط الطريق. واقترب من أحد الأبواب وأسند ظهره إليه، وانطلق عندئذ يقرأ ماكتب. وقد أحس أن الدبيب، الذي كان قد غمر رأسه، يعود مرة أخرى بشكل أقوى محدثاً في أعماقه لذة ناعمة. فهو يقرأ كلمات خرجت من صدره، انبعثت من وجدانه، انصبت من فيض قلبه انصباباً، يالها من عذوبة تنسح فوق لسانه! وياله من بريق يغمر ذهنه! على ذهنه النابض أن يتمهل ليستقبل البريق الذي صدر عنه وعاد إليه.. أن يحتفي بأفكاره البراقة وعباراته الصافية. وبورك الذهن، الذي يبدع مثل هذا البريق!‏
                          انتهى من قراءة ماكتب، وأعاد قراءته مرة أخرى، ومافتئ متكئاً بظهره على الباب دون أن يشعر بمن يدب حوله من المارة. رجلاه لم تشعرا بعد بالحاجة إلى الحركة. تكفيه حركته الذهنية مع أفكاره وجمله وألفاظه ومعانيه -مع عبقريته! لقد اكتشفت الجريدة أخيراً قيمته، واعترفت الحرية بحريته المبدعة. وتعطف رقم الحرية على سنه... عليه، وأتاح له أن يواجه نفسه، ويقف أمام أفكاره، هناك فرق بين أن يتأمل هذه الأفكار وهي في ذهنه وبين أن تشربها عيناه من الجريدة.. أن تقرأها مع الغير. لعل هذا الغير يقرأ في هذه اللحظة بالذات، في مكان ما، في آلاف الأمكنة، ماخطته يده ويحاور هذه الأفكار بدوره. الفكرة لا قيمة لها إلا إذا قرأها الغير سواء قبلها أو رفضها. وهل هناك من يرفض أفكاره؟ المهم أن يطلع عليها كما اطلع عليها هو الآن، لكن الغريب في الأمر أنه يحس اللحظة بقرابته من هذا الغير. أيكون حقاً هو الذي كتب هذا؟ إنه لم يقتنع بعد بذلك تمام الاقتناع. الموضوع فوق مايمكن أن يتصوره ذهنه في هذه الآونة، إلا أن عليه أن يؤمن بانتمائه إلى هذه الزاوية في الجريدة، هناك كلمات وجمل وعبارات لا يشك في أنها منه.. من فنه ومن عبقريته، وماهو بحاجة إلى من يثبت له ذلك. حسبه اسمه وعنوان قصته من شاهدين على عبقريته! هذه حقيقة لا يمكن أن يكذبها أحد. ما أروع أن يجد الإنسان نفسه أديباً! تلك هي الصفة الباهرة! وتحول الدبيب إلى حركة سريعة امتدت حتى رؤوس أصابعه، فحركها كمن يشعر بموسيقى خاصة!‏
                          ومر في الشارع بواجهة أحد المحلات، فرأى صورته في مرآة طويلة فيها، فوقف يتأمل قامته.. عله يكتشف أنه قد طالت قليلاً، ولما لم يلاحظ مايجلب الانتباه، رفع عقبيه، وقال في سره:‏
                          - ومع ذلك فقد طالت حقيقة وتصوراً!‏
                          وذهب إلى مقهى بإحدى الساحات العامة، كان من عادته أن يجلس فيه مع من خانهم الحظ مثله، فلم يوفقوا في نيل الشهادة الثانوية، ومن لم يجدوا من يمهد لهم الطريق إلى وظيفة ما، فلا وظيفة من غير صلة من الصلات الموصلة، مع أنه في غنى عن الوظيفة مؤقتاً! لم يجد في المقهى أياً من معارفه، لكنه لم يكن يشك في أنهم سيحضرون مثلما حضر هو نفسه، فأخذ كرسياً وجلس إلى مائدة، شغل جانباً منه بعض الشبان، لأنه لم يكن يرغب في الجلوس في مكان منعزل، وحرص في الحين على أن يعرف من خلال حديثهم نوع ثقافتهم، أعربية هي أم فرنسية، ولم يكن المشكل بالنسبة إليه مطروحاً، فهو متمكن من الثقافتين أو من اللغتين، لكنه فضل الكتابة بالعربية، لذلك فمن حقه أن يبحث عمن يفهمه. إنه يحمل جريدة في يمناه، والجريدة تحمل اسمه، وظهور اسمه فيها يقتضي منه أن ينضم إلى غيره، أن يعيش بين الناس، لا ليستمد منهم موضوعاً يكتب عنه فقط، وإنما ليعرفوا منه أيضاً أن له اسماً في الجريدة، واسمه يعني الآن، بعد ظهوره فيها، القوة، بل يعني الوزن والقيمة، والامتياز، وعلى من يحقق لنفسه ذلك فليبتعد عن الكتابة!‏
                          أدار الجريدة بين يديه عدة مرات، عل من بين الشباب من يعرف اسمه دون أن يبادله الحديث قبل اليوم، ويتعرّف هذا الاسم حين يقرؤه تحت عنوان قصته، وتمنى عندئذ لو أن صورته -وكان قد أرسلها إلى الجريدة غير من مرة... خوفاً من عدم وصولها أو ضياعها بين الصفحات- كانت منشورة مع القصة حتى تسهل على من يراه معرفته.‏
                          لكن ذلك كله لم يكن ممكناً، فوجد نفسه في النهاية مدفوعاً إلى أن يبدأ حديثاً مع أقربهم إليه... مع جاره، وهو شاب انعقدت ملامحه، وبهت وجهه وغارت عيناه، فسأله:‏
                          - هل قرأت جريدة اليوم؟‏
                          نظر إليه الشاب في ارتخاء، وقال:‏
                          - لا أحب قراءة الجرائد. فهل في جريدة "المناضل" من جديد؟‏
                          شعر نوار بامتعاض، وقال:‏
                          - لست أحدثك عن "المناضل". المناضل بالنسبة إلي صحيفة فاشلة، قلما تقدم شيئاً ذا قيمة، وإذا هي قدمت شيئاً، فإن ماتقدمه يظل محصوراً في ناحية معينة.. في سياسة مرسومة بصورة اعتباطية، إنما أعني جريدة "الحرية" الواسعة الانتشار، فهمتني؟‏
                          قال الجار الشاب:‏
                          - الحرية لا تأتي بجديد. إنها مجرد حاك يعيد ماسبق أن سمعناه من مصادر مختلفة.‏
                          انتفض نوار:‏
                          - إن "الحرية" تأتي بجديد حين لا ننتظر منها ذلك. ومن ثم فعليك أن تتصفحها كل يوم. ولو أنك اطلعت على عدد اليوم مثلاً، لعرفت أن هناك جديداً تحت الشمس. فانظر فيها أولاً، فهمتني؟‏
                          وقدم له الجريدة، فأخذها الجار الشاب منه وراح يتصفحها ويقلب الصفحة تلو الأخرى دون توقف، ثم قال:‏
                          - مجرد عناوين سياسية فارغة، ليس فيها عنوان واحد يغري بالقراءة، وبقية العناوين لا تعني شيئاً!‏
                          أسرع نوار يعترض عليه قائلاً:‏
                          - يجب أن تتصفح الجريدة دون أحكام مسبقة، لقد قضت الأحكام المسبقة على كل جديد لدينا. إقرأ أولاً، ثم احكم! فهمتني؟‏
                          نظر إليه الجار الشاب في استغراب، وقال:‏
                          - ماذا أقرأ؟ ليس هناك مايقرأ. كل ما أجده فيها ميت. لا حياة في جريدة "الحرية"! ولا في غيرها -على قلته- إطلاقاً، أترانا عرفنا معنى الحرية حين نسمي باسمها شارعاً أو جريدة؟ ليس فيها غير الأخطاء الفكرية واللغوية والنحوية.. والصرفية!‏
                          قال نوار في عصبية:‏
                          - هذا من جملة الأحكام المسبقة. الحكم الصحيح يتطلب أن تقرأ الصفحة الأخيرة! فهمتني؟‏
                          نفد صبر الجار:‏
                          - أنا لا أقرأ الصفحة الأخيرة أبداً. فما يكتب في ذيل الصفحة لا قيمة له!‏
                          - لكنها الصفحة الأدبية! فهمتني؟‏
                          - الأشياء القيمة، أدباً كانت أم غيره، تنشر في قلب الصحيفة.. في وسط الجريدة. ومادام هذا الأدب ينشر في الصفحة الأخيرة فهو تافه، فعندما يصل القارئ إليه، يكون قد ملَّ تصفح الجريدة! تلك هي حقيقة ماينشر من أدب في جريدتك هذه!‏
                          حاول نوار أن يتمالك أعصابه، وقال:‏
                          - هذا يدل على أنك لا تتبع مايكتب أصلاً، فهمتني؟‏
                          - وهو كذلك. أنا فوق ما يكتب. ولا أحب المرض!‏
                          - أي مرض تعني؟‏
                          - أنا لا أحب أن أقرأ لأمرض، التفاهة تمرضني، وما أتعس البلد الذي تصبح فيه التفاهة مرضاً مقيماً! وما لنا نحن شعار غير شعار الزمانة!‏
                          - اسمح لي أن أقول لك.. إنك لا تعيش بيننا.‏
                          - ومن قال لك إني أريد ذلك؟ أنا لا أزال أعيش في العالم، الذي كنت أعيش فيه. أنا مازلت أحلم.. أعيش باستمرارية الحلم!‏
                          - ولكنك لن تستطيع نقل حلمك إلى حاضرنا.‏
                          - وهل عرفت أنني أرغب في ذلك؟ فلنترك هذا! أرجوك فهمتني؟ فهمتني؟ فهمتني؟‏
                          وأعاد الجريدة، التي كان قد أبقاها بيده حتى تلك اللحظة، فقال نوار:‏
                          - عفواً، كنت أريد أن أحدثك عن اسمي، الذي ظهر اليوم في جريدة "الحرية" لأول مرة.‏
                          مال أحد الشبان على الجار الشاب، وهمس في أذنه:‏
                          - كل هذا مقدمة لدعاية ذاتية!‏
                          ابتسم الجار الشاب، وقال لنوار:‏
                          - ولِمَ؟ هناك أسماء كثيرة تظهر بين فترة وأخرى، ولكنها لا تهمني بأي شكل كان! والأسماء عندنا أسماء!‏
                          - أرجو أن تغفر لي تطفلي عليك، فقد كنت في حاجة إلى مناقشة مثقف لمعرفة رأيه في قضية تخصني.‏
                          قال الجار الشاب، وهو يحرك سبابته:‏
                          - أنا أكثر من مثقف! وأنا لا أجالس الأصدقاء هاهنا إلا لأن الجلوس في المقهى ليس ثقافة! ثقافة المقهى ارتخاء! للثقافة أمكنتها الخاصة، ونحن نجد المكان ولا نجد الثقافة، كفانا تفاهة!‏
                          قال نوار في ألم نوعاً ما:‏
                          - أجل، كفانا تفاهة الأحكام المسبقة! فهمتني؟‏
                          أسرع الجار الشاب يؤكد ماقاله بحركة من يده:‏
                          - تفاهة ! وفهمتني تفاهة!‏
                          وأشاح بوجهه عنه. وظل نوار جالساً في مكانه لحظة، ثم أخذ قهوته، وانصرف إلى جماعة أخرى، بدت له أكثر إيناساً وبهجة. وسحب كرسياً وطلب الإذن ثم جلس، وكان يعرف أحد أفراد تلك المجموعة معرفة سطحية، وبمجرد أن أخذ مكانه بينها، قدم إليه الجريدة، لأنه توسم فيه الخير والتقدير، مشيراً بإصبعه إلى مكان قصته من الجريدة. وكان يدعى صائماً، وتمنى في أعماقه ألا يكون صائماً عن الكلام! فالصوم عن الكلام يعني ضياع الحق، وضياع المجد الناتج عن الأدب والفكر، وهو يعد نفسه منذ اليوم أديباً ومفكراً.‏
                          تناول الصائم الجريدة، وقرأ القصة بسرعة وهو يمسح جانبي شاربه المقوسين.. متجاوزاً بعض السطور إلى أن وصل إلى نهايتها، فقال في نفسه: " شاب يستحق التشجيع!"، ثم قال له:‏
                          - أجدت وأحسنت! الوطن في حاجة إلى مثلك. عليك أن تواصل الكتابة، سنفتح باباً جديداً في باب الفكر إذا أنت عالجت مثل هذا الشكل.. مشكل النوم والموت على عتبة باب مؤسسة عمومية!‏
                          شعر نوار أنه ينتفخ كالقربة، وقال:‏
                          - شكراً لك على شعورك الطيب، شكراً! هل يعني أن ما كتبته يعني شيئاً بالنسبة إليك؟ فهمت سؤالي؟‏
                          - طبعاً. كل مايكتب يعني بالنسبة إلي شيئاً!‏
                          - كل مايكتب؟‏
                          - أعني كل مايكتب بالعربية! ومن يكتبه صديق، وأنت صديق مادمت قد كتبت!‏
                          - أنا أحترم مثل هذه الصداقة! لك مني كل الاحترام! فهمتني؟‏
                          - هذا واجبي، على الصديق أن يعجب بمايكتب الصديق!‏
                          وكان إلى جانبه شخص آخر، لا يعرفه نوار، استمع إلى مادار بينهما، فأخذ منه الجريدة، وأخذ يقرأ القصة في الصفحة الأخيرة، وهو يحك جبينه بصورة مستمرة، بينما واصل الآخران حوارهما حول أفكار مماثلة، وأخيراً حرك رأسه حركات سريعة، ثم نظر إلى نوار وقال له:‏
                          - لقد تسرعت في نشر قصتك، لقد كان نشرها ملء فراغ.‏
                          مرت بنوار لحظة قلقة من الصمت. ثم سأل المتحدث:‏
                          - كيف؟!‏
                          قال المتحدث، وقد التمعت عيناه ببريق حاد:‏
                          - أفكارك هذه...‏
                          فقاطعه نوار:‏
                          - أكنت تريدها أن تكون أفكار غيري؟ فهمتني؟‏
                          - أفكارك هذه غير ناضجة، لو كانت لغيرك لكانت ناضجة!‏
                          - هل يمكنك أن تخبرني كيف تنضج الأفكار؟‏
                          - تنضج الأفكار حين تكون واضحة!‏
                          - ومايعني هذا؟ فهمت قصدي؟‏
                          - يعني أن أفكارك بلا مقدمة ولا نتيجة.‏
                          - فهمت قصدي؟‏
                          - يعني في قصدي أنا أنها.. هلوَسة!‏
                          شعر نوارَ بغضب شديد استولى على نفسه، وملأ قلبه، لكنه وجد نفسه مضطراً إلى ضبط نفسه، فهذا الشاب الذي يكبره بسنوات قليلة، يسخر منه، فسأله:‏
                          - اسمح لي، ماهي مهنتك؟‏
                          فأجابه المتحدث:‏
                          - تاجر قدير!‏
                          سارع نوار يسأله:‏
                          - فهمت، التاجر تاجر، ولكن بماذا تتاجر، فهمتني؟‏
                          - لدي متجر للأفكار!‏
                          - بيعاً وشراءً! فهمتني؟‏
                          - قد فهمتك. بيعاً، إذا شئت أنت!‏
                          - ومادخلي أنا في الموضوع؟ بيني وبينك مسافة أطلسية! فهمتني؟‏
                          - ومن لا يفهم فهمتني؟ إنها لكذلك إذا شئت أنت أيضاً!‏
                          - وإذا أنا لم أشأ، أيها التاجر؟‏
                          - قل التاجر المستشار! فهمتني؟‏
                          - لك ذلك، أيها المستشار! أرجو ألا تكون لك هذه الوظيفة في الجحيم!‏
                          - تأكد أنني سآمر هناك بحرق أفكارك الفجة! فهمتني؟‏
                          وهنا تدخل الصديق، وقال لجليسه:‏
                          - إنك تبالغ في الممازحة!‏
                          قال المتحدث بنبرة جادة:‏
                          - لست أمازحه! فهمتني أنت؟‏
                          - ونظر نوار حوله، فلم ير أياً من معارفه، فقام وغادر مقهى التمتمة غاضباً، إنه لم يجد من يفهمه، من يقرأ قصته، التي كتبها بمشاعر صادقة، ويحاول أن يسبر أغوار أفكاره البعيدة، فأحد الذين قرؤوها أمامه، رفضها، وأخر جامله لكتابته بالعربية، بينما سخر منه الثالث، وأصر على جدية سخريته! ومضى إلى البيت والجريدة في يده. لم يرد حملها تحت إبطه، اسمه يجب أن يحمل في اليد، ولا ينبغي أن يركن تحت الإبط! اليد تبارك ما تحمله... احتراماً لمعاناة الخلق، وعنواناً للقيمة الكبيرة.. للمكانة النيرة في مجتمع لا يقدر الأديب والفنان!‏
                          كان الوقت ظهراً، وأطلع أهله على الجريدة، وكان يردد:‏
                          - انظري، ياأمي، انظروا، يا إخوتي، أرأيت يا أبي: هذا اسمي في الجريدة!‏
                          فامتدت الأيدي إليها وكادت تمزقها فرحاً به وباسمه. وطلب من أحد إخوته أن يذهب لشراء أعداد أخرى حتى يكون هناك عدد لكل فرد من أفراد الأسرة. وتناول طعامه والصفحة الأخيرة من الجريدة لا تفارق ذهنه.‏
                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #14
                            رد: الطعام والعيون : قصص

                            وليمة في مغارة

                            جالت بذهني أبيات شعرية أجنبية، فحواها:‏
                            كل البراعم تسعى‏
                            بحيوية راجفة‏
                            إلى الموت في صدرك‏
                            إلى الاحتراق في جمالك‏
                            تعالي.. امضي معي‏
                            لا تدعيني أنتظر حزيناً‏
                            سأقودك إلى مهجة‏
                            حديقتي.‏
                            ولكني لم تكن لي حديقة حتى تكون لها مهجة، وكانت هي واقفة معي في الباب، ولكم أحس بالضياع عندما أقف بالباب، خاصة إذا كان ضيقاً، وهو يعني عندك فوق ذلك أنني غير منتمٍ! فقلت لها بصوت مسموع:‏
                            - تعالي معي.. سأقودك إلى مطعم، فقد تعلمنا ألا نجد أنفسنا إلا في المطاعم، تكاد تكون سيرة حياة بالنسبة إلينا! تعالي لتتناولي معي شرائح اللحم.. و تكتشفي فيها ذاتك!‏
                            وقد أصرَّت في البداية على أنها هي التي تدعوني، فقد سبق لي أن دعوتها مع صديقة لها شاعرة إلى أكل البيزا في محل كان عبارة عن ممر يتسع لشخصين ممشوقين. وحين ذكرتني دعوتي إياها مع الصديقة، عادت إلى ذهني ملابساتها وظروفها بكل تفاصيلها وإن غاب عني تاريخها، وتراءت لي وهي تحني نظرها وتأكل وكأنها لا تأكل... كانت تأكل ببطء شديد.‏
                            وقد خيل إلي وأنا أنظر إليها آنئذ أنها تقرأ مستقبلها في البيزا الإيطالية، بينما كانت صديقتها تأكل بشهية، لأنها كانت على يقين من أنه لا شعر والجوع يغزل أمعاءها غزْلاً. كانت كأبطال هومير يتناولون طعامهم ثم يدفنون موتاهم، ولكنها هي لا تدفن موتاها، وإنما تتناول طعامها، ثم تكتب شعراً حداثياً، وتتغنى بدموع... كالسمك. الشعر عندها غناء الألم أو هو غناء روحٍ ترتدي عباءة الطعام والتشرد و... العذاب!‏
                            ولم تلبث داعيتي اليوم وضيفتي في ذلك اليوم... أن انتهت من البيزا بعد أن قرأت تصوراتها الهائمة في عجينها ولحمها وزيتونها وحشائشها الخضراء، وفي عيون بيضها بوجه خاص. وقد أسفت لذلك، لأني كنت قد دعوتها لتأكل لا لتقرأ طالعها في عيون البيض وماجاوره! فالكرم كرم، ومكافأة الكرم الأكل بلذة بيّنة، فالمضيف كالطاهي الذي يشعر بنشوة حين يرى الضيوف يتبارون في أكل ماطهته يداه، ففي ذلك الدليل على مهارته في فنه وإتقانه له. وأظن أن إحداهما- هي أو صديقتها الشاعرة لا أذكر، والمرجح أن تكون هي -طلبت مني مساعدتها في ذلك، غير أنني لم أفعل خشية أن أكون مثل رجل حمل بيزا إلى صديقه كرماً منه، ثم نَاصَفَه في أكلها نهماً وعينه على مابيد الصديق!‏
                            عندما دعتني هي في هذه المرة، لم تنسَ أن تدُسَّ ورقة نقدية في جيبي كي أؤدي الحساب نيابةً عنها، فهممت بإعادتها إليها وأنا أقول:‏
                            - ادفعي أنت الحساب، كي تعيشي المفاجأة!‏
                            ولكنها رفضت أن تأخذها مني، فلا يليق بالمرأة أن تدفع ولو كان النادل امرأة، فسألتها:‏
                            - ولِمَ ؟! ألا تؤمنين بالمساواة؟!‏
                            فأجابت وقد رفّت رموش عينيها رفيفاً باسماً:‏
                            -بلى.. ولكن ليس في دفع الحساب!‏
                            قلت لها:‏
                            - حقاً إن إيمانك بالمساواة ليس قوياً.‏
                            ضحكت ضحكة كان لها مايشبه رنين الفضة أو هو رنين الفضة. ودخلنا بعدئذ مطعماً قريباً، وكنا طالبي رحمة من ناديه، فلم يكن معنا الكثير من المال في ذلك اليوم بالذات.. والأسعار سفافيد حامية. وصعدنا إلى الشرفة الداخلية المربعة، التي صفت في امتدادها كراسيّ وموائد من طراز واحد تتسع لشخصين مثلما تتسع لأربعة أشخاص، فالمسألة مسألة تكيف مع عدد الزبائن فرقاً وجمعاً!‏
                            وجلسنا في أول مائدة من المطعم، الذي كان أعلاه في الحقيقة يشبه مغارة على نحو ما، زرعت في جدرانها الأربعة مصابيح على مسافات متقاربة، وكانت هذه المصابيح عبارة عن مجموعات ثلاثية، تبدو وكأنها تخرج من فقاقيع مفرطحة الشفاه.. وهي إلى الآذان أقرب منها إلى الشفاه. وكانت أضواؤها الحمراء والصفراء والخضراء توهم بأشباح، تعبر أجواء المغارة من حين لآخر في صورة ظلال يصعب تبين أشكالها المحددة، قد تجعل المرء يتهم خياله بالإسراف. وقبل أن أعلق على ذلك. وكنت قد صعدت إلى شرفة هذا المطعم الداخلية لأول مرة، قالت وهي تبتسم ابتسامة مشعة تبهر القلب والعينين:‏
                            - إن هذا المطعم، الذي كنت قد ترددت إليه قبل اليوم، ليذكرّني بالعصور الحجرية.‏

                            فقلت لها:‏
                            - أنا إذن إنسانك الحجري!‏
                            فأسرعت تقول وفي رموشها رعدة:‏
                            - ولكنك من مرمر!‏
                            وعاد رنين الفضة يتردد في الجو... فتَمْتَصّه المغارة وكأنه يختفي في فضاءات غير منظورة. فقلت ضاحكاً بدوري:‏
                            - مرمر زماني. لكم أودّ أن أرسم شيئاً على جدرانه لأخلّد يوم لقائنا في هذه المغارة كما كان يفعل الإنسان الأول.. لكن جدرانها مدبّبَة، ربّما حرصاً على نظافة المطعم.. فالنظافة تعيش منفاها في أيامنا المهتزّة.‏
                            لم يكن في الذي قلته مايدعو إلى الضحك، ومع ذلك فقد ضحكتُ من جديد وكشفت عن أسناني دون صوت، وقد خيّل إلي أنّ البسمة ترتسم في عيني كما ترتسم في عيني عازف الناي. وضحكتْ وهي تنظر إلى الصورة التي كان قد اتخذها عازف الناي في وجهي في جو المغارة! وطلبتُ مانأكله.. سلطة وشرائح مشوية. وكانت هي قد أحنت رأسها، والظاهر أنه كان قد ثقل عليها عندما كوتها سفافيد الأسعار. وتذكرت الورقة النقدية، التي كانت قد دستها في جيبي عند الباب. وأخذت أحدثها عن مراحل من حياتي، أردت أن تعرف تاريخي.. فالتاريخ اكتشاف ومودة، وربما.. حب! فكانت تنظر إلي وهي لا تبدي حراكاً، ثم تغرس نظرها في سفرة المائدة البيضاء، كما لو أنها تقرأ فيها شيئاً يخص رابطة مستقبلية، فيتراءى لي محياها بنصاعة ورقته كلوحة ضوئية في إطار أسود... يتعاورها الحزن حيناً والوقار حيناً آخر.‏
                            وعندما جاءنا -بعد دهر شعرنا بطوله على الرغم من كل شيء- طبق السلطة، أخذت الشوكة، وراحت تصطاد حبات الزيتون السوداء- وكنت أراها تصطاد عينيها - وتأكلها، ولم تهتم بالسلطة، فرحت أنا أصطادها - فقد كانت نحيفة رقيقة الحواشي والأطراف- بالشوكة وأقضمها.. فأنا من فصيلة الأرانب فيما يتصل بالخضروات النيئة. وقلت في نفسي... إنها تسارع في أكل الزيتونات السوداء لتفرغ بعد ذلك للنظر إلى زيتونتي.. إلى عيني في خضرة السلطة، ثم والحديث عنهما، لكنها لم تحدث، على العكس مما كنت أتوقعه، عن عيني، وإنما تحدثت عن شَعْري، الذي يخلع علي - في ظنها- طابعاً معدياً، فالشعرة تعدى ببياضها جاراتها السوداء. لم أكن أعرف قبل تلك اللحظة أنها كانت مهتمة بتاريخ الشيب في شعري! ثم قالت لي:‏
                            - كنت في السنة الثانية عندما وقع نظري عليك.. على شعرك لأول مرة، وقد تساءلت يومها... من هذا القادم من الضفة الأخرى؟ قد لا تتصوركم فرحت...‏
                            فأسرعت أقاطعها ضاحكاً:‏
                            - تصورت أنا أكثر مما تصورت أنت، من.. فرحي!‏
                            فواصلت حديثها قائلة:‏
                            - كم فرحت عندما أكد لي زميل أنك مواطن مثلي.. عمقاً وانتماء. وأنا الآن معك في المغارة.‏
                            وسكتت، فانتظرت أن تضيف شيئاً آخر، ولما لم تفعل ذلك، تسللت إلى فكرها، وإذا بي أجد شريط أفكارها يمتد على الصورة الموالية:.. منذ ذلك اليوم خطفت قلبي، ولكني لم أظهر ذلك لأحد أبداً.. كتمت حبي الدفين في حديقة الأعماق. وكم كانت نضرة - على حزنها- هي حديقة أعماقي.. وقد سرني أن أعرف اليوم أنني خطفت قلبك أيضاً فقدتني إلى هذه المغارة الواعدة، فما من مرة التقيتك فيها.. في أعماقي إلا نظرت إلي نظرة مبحرة.. من قلبك إلى حديقتي، وجهي يشدك إلي شداً عنيداً، وكم تجنبت أنا النظر إليك فراراً من شد وجهي لك. إلا أنني كنت أرى كل شيء، وإن فاتني شيء، كنت أدركه ببصيرتي اليقظة أبداً. فالحياء له بصيرة، قد يعجز الكثير عن إدراك طبيعتها.. وللقلب فضلاً عن ذلك أشعته الكاشفة. لكم فتح لي صفحات وصفحات عن حياة من أحب ومشاعره ونظراته وسرحات فكره ونبضات وجدانه الحي.. وفي أقصى حد ود الشفافية تصبح البصيرة قلباً مضيئاً كالقمر.. ياقمري!‏
                            واستمرت تنظر إلي حين جاءتنا أخيراً شرائح اللحم المشوية، فشرعت أنا آكل، فقد كنت جائعاً، وكان لابد من دفن الجوع فوراً أو التخفيف من حدته على الأقل. وقد خيل إلي أن نظراتها تعكس أفكاراً تدور في رأسها المنتصب في شبه شموخ بجو المغارة. فتباطأت في الأكل وتسللت ثانية إلى أفكارها، فوجدت فيها ماراعني بعض الروعة! وجدت فيها:.. إني أنظر إليك وأنت تأكل، فأكتم ضحكتي... لأني أتصورك وَعْلاً على ظهر المغارة يقضم الحشائش الخضراء... وبينكما أساس مشترك في الدعة والهدوء. إنك صامت، وصمتك يحملني إلى تلك الفترة التي سبقت اختراع الإنسان للغة، ويجعلني إلى ذلك أتصور أنك تأكل وكأنك تؤدي طقساً من الطقوس الحضارية.. فالصمت لغة وممارسة كما أن الفكر لغة وممارسة. أنت كل هذا أمامي، ولكن..‏
                            وجلب انتباهي أنها لا تأكل، فتوقفت عن مواصلة قراءة أفكارها عن اللغة والصمت والفكر، وكنت قد شعرت مصادفة في تلك اللحظة أنه ليس من السهل علي أن أحرز مابعد كلمة لكن.. على أساس عاطفي أكيد من جانبها.‏
                            وطلبت منها أن تأكل، فأكدت لي أنها تأكل وتأكل. وتناولتْ قطعة لحم ملمومة كفمها، وراحت تنظر إلي، وفمها يلتم طوراً وينفرج طوراً آخر عن ابتسامة خاطفة يزيد السواك من قوتها على الجاذبية... نحو محطات الدفء الواسعة. ولما ألححت عليها في تناول الطعام، اعتذرت بأن مواعيد الدراسة قد قزمت شهيتها وقت الظهيرة بشكل دائم. فقلت لها ضاحكاً:‏
                            - ليس الأمر كذلك. وجودي معك أغناك عن الطعام، مع أني لست مطعماً!‏
                            فالتمعت شفتاها في شبه غضب -ولربما التمع السواك- لم يخل من تحد. ولما شرحت لها قولي. فأنا لم أكن أسخر منها، وإنما كنت أمزح، أكدت لي دون رنين فضي أنني على حق. ومرت فترة صمت دون أن تأكل، وخطر بذهني أن غلاء الوجبة نسبياً هو الذي دفن شهيتها. وأعدت إليها ورقتها النقدية، فقالت في خجل:‏
                            - أعرف أنها لا تكفي. لكني أعدك بأني سأدعوك مرة أخرى لتناول الطعام على حسابي.‏
                            فابتسمت وأنا أقول:‏
                            - عليك أن تدْعيني لتناول طعام العشاء حتى تأكلي معي، فأنا لا أحب العزلة في المطاعم، فهي تشعرني بالوحدة.. في مثل هذه المغارة!‏
                            وأعقب ذلك صمت طويل، تعانقت خلاله نظراتنا، وتلامست ابتساماتنا فوق بياض سفرة المائدة. وكانت في شفتيها الاختلاجة نفسها ، التي كنت أحس بها في شفتي. وخيل إلي أن الحزن يتوسط المائدة ويغرز عينيه في أعماقنا. كانت تبدو وكأن شوقاً مكتوماً يطبق على فمها.. وكنت أنا أيضاً أشعر بما يشبه ذلك، ولكن في فضاء آخر، بل في سماء أخرى أكثر حميمية وألفة. وتغلبنا أخيراً على جاذبية المغارة... على مايشدها إلى مائدتها وكراسيها المتجانسة، وقد كنا فوقها متجانسين أيضاً.. في قراءة الأفكار على أقل تقدير، وكان في ذهن كل منا أن هذه الدعوة آخر دعوة.‏
                            فهي ماضية إلى مدينتها.. قد لا تواصل الدروب معي.. ومن يدري ماوراء ذلك؟‏
                            وعندما وصلنا إلى باب المغارة، التفتنا في آن واحد، كما لو أننا كنا قد اتفقنا على ذلك، ونظرنا إلى المكان الذي كنا جالسين فيه بمفردنا، ولم نشعر بمن كان في المطعم من رواده، وكأنه أعد لنا وحدنا.. لوليمتنا الخاصة، التي كانت على نحو شاعرية غائمة.. من جانبها على الأقل. وكان كل منا يتساءل في عمق أعماقه أو في حديقة أعماقه.. ترى من ترك منا قلبه بلهفة أكبر ها هنا أم ترانا تركنا معاً قلباً واحداً في وليمة منسجمة؟. ومع ضياع القلب أضاع كل منا الآخر في قلب المغارة!‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #15
                              رد: الطعام والعيون : قصص

                              حماية الضمير

                              لقد نام ذات ليلة، وهو يعاني من آلام إقالته،‏
                              وحين صحا من نومه، وجد نفسه من جديد،‏
                              مدير شركة أخرى، فحمد سعي الجنود الخفية!‏

                              جلس زين الدين في مكتبه الفخم، وتناول ملفاً كان موضوعاً أمامه، ونظر فيه فتجهم وجهه، ومد يده إلى جيب سترته، وأخرج سيكاراً طويلاً غليظاً، وقضم رأسه بأسنانه وتفل في سلة المهملات القريبة منه، وقد تراءت في ذهنه صورة أحد رعاة البقر، وأشعله ونفخ الدخان بقوة، فتطاير حول خديه الممتلئين، وأنفه القابع فوق فمه كمنقار النسر، وشاربه الكثيف، وجبهته الناتئة، وصلعته الملتمعة، التي تدلت على حوافيها شعرات سود، تقوست رؤوسها، فصارت صلعته هذه تبدو كقمة جبل جرداء، انحسرت عنها أشجار صغيرة داكنة كظلال أشعة الشمس الغاربة!‏
                              وعاد ينظر في الملف، ثم رفع رأسه عنه، وفكر قليلاً، وهو ينظر إلى سقف المكتب على عادته حين تتصل الأمور -وهو يفضل استعمال جموع الأسماء- به شخصياً ويفكر فيها بجدية، ثم دق الجرس، ولما دخلت عليه كاتبته، طلب منها أن تدعو إليه عبد الكريم، مقتصد الشركة، وعادت به أموره إلى التفكير الجاد ومخططاته العنيدة!‏
                              وحضر المقتصد عبد الكريم بعد حين، وهو شاب في حوالي الثامنة والعشرين من عمره، بني الشعر، أبيض البشرة، ذو شارب رقيق، ونظرة صافية هادئة، ووقف أمامه، فلم يدعه زين الدين إلى الجلوس، وقال له بغضب، اهتز له شاربه، وبصوت أجش، بدت به آثار ليلة ساهرة:‏
                              - لماذا لم تفعل الأمر، الذي أمرتك به؟‏
                              فتساءل عبد الكريم بهدوء، وكأنه لا يعرف شيئاً عن هذا الأمر الذي سأله عنه، وسأله هو بدوره:‏
                              - أي أمر تعني، أيها السيد المدير؟ أنت تأمر بأمور!‏
                              عض زين الدين على سيجاره، ومصه ثلاث مرات حتى امتلأ خداه بالدخان، ونفخه، وسحب الكرسي إلى الوراء قليلاً، ووضع رجلاً فوق أخرى، واتكأ وهو يرفع بيده السيكار إلى رأسه، وفي ذهنه يمثل عصابة فردية، ثم حدق فيه من خلال سحب الدخان، وقال:‏
                              - هناك أمر واحد مهم في هذه المرة، فلا مسوّغ لتجاهله!‏
                              فامتعضت ملامح عبد الكريم، وسأله:‏
                              - أتراك تعني السيارة؟‏
                              أغلق زين الدين الملف ووضعه جانباً، ونهض بعد ذلك وهو يحرك يده اليمنى، التي كانت أصابعها تنضم على السيكار بعصبية، وراح يتمشى في المكتب، وأراه ظهره لحظة، واقترب من النافذة، وألقى نظرة على البحر المنبسط على مسافة قريبة فبدا أمامه كمرآة رمادية اللون تعلوها بقع بيض كالسحب، لكنه لم يلبث أن استدار من جديد، وخطا بضع خطوات، وقد تصورها أيضاً شبيهة بخطوات المبارز استعداداً لإطلاق النار، ولكنه هو لا يطلق سوى كلمات تصحبها النار! وعاد يحرك يده، ووقف أمام المقتصد، ونظر إليه من أعلى إلى أسفل، ودَّ أن يختصره بها ويلصقه الأرض لو كان ذلك في استطاعته، وقال:‏
                              - ذلك ما أعنيه بالضبط، لقد لاحظت أنك لم تسجل سيارة من السيارات الخمس، التي اشترتها الشركة... لم تسجلها باسمي في قائمة خاصة مع أنني كنت أكدت عليك في ذلك.‏
                              رد عليه عبد الكريم، بهدوء كان يحسده عليه دوماً، قائلاً:‏
                              - قلت لك لن أفعل ذلك، أنا لا أتعامل بالكلام أولاً، كل معاملاتي تتم كتابة، ثم إن السيارات طلبت باسم شركة الصناعات الورقية، ويجب أن تبقى باسم الشركة، وليس من حقنا أن نتحول إلى شركة تبيع سياراتها الجديدة لموظفيها.‏
                              وجحظت عينا زين الدين، وهو يقول له:‏
                              - ستفعل ذلك رغماً عنك، فأنا مدير الشركة، وصاحب الحل والربط فيها.‏
                              قال عبد الكريم وقد علت فمه ابتسامة:‏
                              - قد يكون ذلك صحيحاً فيما يتصل بك شخصياً، فحُلّ واربط كما تشاء!‏
                              وجد المدير نفسه يصرخ:‏
                              - بل يخص كل من أنا مسؤول عنهم. هم تحت أوامري!‏
                              أسرع عبد الكريم يقول:‏
                              - لا تنسَ أيها السيد المدير أن الأوامر لها حدود أيضاً.‏
                              فرد المدير، وهو ينفض يديه معاً:‏
                              - أنا الذي يقرر هذه الأوامر.. ولو كان ذلك بالإرغام!‏
                              قال المقتصد:‏
                              - ليس بالنسبة إلي، أنا مقتصد الشركة، وليس هناك من شيء يرغمني على كتابة السيارة باسمك الشخصي، والعاقل لا يرغم أحداً على شيء لا يرتضيه لنفسه.‏
                              ابتعد زين الدين عنه، واتجه إلى مكتبه، وجلس فوق كرسيه وأعماقه تغلي. وقال:‏
                              - أتظنني مجنوناً؟‏
                              فأجابه عبد الكريم بهدوء:‏
                              - إنك لم ترغمني بعد!‏
                              ضرب عز الدين بيده على مكتبه، وقال:‏
                              - اطمئن! سأرغمك على ذلك. اطمئن!‏
                              بقي عبد الكريم على هدوئه وقال له:‏
                              - أنت مخطئ كل الخطأ، فليس في يدك أي شيء ترغمني به.‏
                              قال المدير، وقد زادته برودة أعصاب المقتصد ثورة:‏
                              - بل أنت المخطئ ففي يدي كل شيء فصلاحياتي كمدير تسمح لي بذلك.‏
                              تراجع عبد الكريم نحو الباب، وقال:‏
                              - في هذه الحالة ماعليك إلا أن تسجلها باسمك أنت شخصياً، وبذلك تحتفظ بصلاحياتك في يدك!‏
                              أسرع زين الدين يقول:‏
                              - لكنك أنت المقتصد، أتطلب مني أن أقوم بعملك؟‏
                              قال عبد الكريم:‏
                              - هذا صحيح، ولكن ماتطلبه مني لا يدخل في دائرة عملي، عملي أن أسجل السيارة وغيرها من صادر ووارد باسم الشركة، ولا أتجاوز ذلك.‏
                              التمع الغضب في عيني زين الدين، واحتقن وجهه، وأخذ يحك رأسه، وقد تكور في أعماقه حقد مرير، اكتنفه فجأة، وقال:‏
                              - ستعرف قوة يدي الضاربة بعد حين!‏
                              نظر إليه عبد الكريم مبتسماً، وهز رأسه، وقد شعر فجأة باحتقار له ممزوج بالشفقة عليه وسأله:‏
                              -ماذا تريد أن تفعل؟‏
                              - سترى كيف أدمرك تدميراً.‏
                              ركز عبد الكريم نظرته في وجهه، وقال له في ثقة مبتسمة:‏
                              - قد ينعكس الدمار على نفسه، إني لا أخشى أحداً ومابي حاجة إلى أحد. فلي حماية من ضميري.‏
                              وانصرف عنه، وتركه يغلي ويضرب بكلتا يديه على مكتبه، وراح يفكر كيف يعاقب المقتصد على وقاحته، فما من مقتصد عنده إلا وهو محتال، يعرف كيف يختلس الأموال ويحولها إلي حيث يريد، ومثله لا يعدم الشريك.. بل سلسلة من الشركاء، وها هو مقتصده يرفض أن يحقق له مصلحة خاصة وهو مديره.. وهو مايدل على احتياله! وهذا في الوقت، الذي لا ينفك فيه يخدم مصلحته الخاصة به، وهو لم يطلب منه الشيء الكثير.. سيارة تكتب باسمه لا أكثر ولا أقل! مادام الأمر هكذا، فإنه من السهل عليه الآن أن يكتشفه ويثبت عليه الاختلاس بالدليل القاطع، سيجلب مراقباً مالياً من وزارة ما، وبعد ثبوت الحجة عليه من خلال تقرير المراقب المالي سيوجه إليه ضربته المدمرة.. تهمة الاختلاس، ويدخله السجن، فذلك مايستحقه كل مقتصد يتسم بمثل هذا الهدوء وهذه البرودة.‏
                              وأخذ يدير الموضوع من جوانبه المختلفة، ويفكر في الطريقة المثلى لإتمام ذلك، فلا بد أن تكون التهمة محكمة لا تقبل الشك ولا تحتمل أية مراوغة.. ولا يعتريها الأخذ والرد. وطرأ على ذهنه سؤال محير... أين يجد المراقب المالي، الذي يستطيع الاطمئنان إليه؟‏
                              المواطن، أي مواطن في أيامنا هذه، عرضة للوقوع في فخ الاختلاس وقبول الرشوة.. والاشتراك في المآدب، ومن ثم خشي أن يؤثر مقتصده في أي مراقب محلي آخر، فيفوت عليه فرصة الانتقام منه، ولم يفكر في الأمر طويلاً، فقد قرر أن ينتدب مراقباً مالياً لمراجعة حسابات الشركة.. ويحضره من الخارج لهذا الأمر خاصة ، ففي الصدق الخارجي قضاء على المآدب وكشف لوسائله المستورة!‏
                              ودعا كاتبته في الحين وأملى عليها رسالة، وجهها إلى شركة فرنسية، كانت شركته تتعامل معها، يطلب منها فيها أن تمده بمراقب مالي لفترة من الزمن، قد تمتد إلى شهرين أو ثلاثة أشهر حسب ماتقتضيه مراجعة حسابات الشركة.. شركته! وأنهى رسالته بعبارات الود والتوسل والرجاء والتعبير عما في نفسه من إجلال لكل خبير فرنسي وثقته الكاملة فيه، فهذه المراجعة ضرورية بالنسبة إليه... وحضور المراقب سيعيد إلى نفسه طمأنينتها، وإلى قلبه هدوءه ورضاه.. فقد افتقد كل ذلك في الآونة الأخيرة، وسيرى مقتصده أنه ثابت في مركز إصدار الأوامر كصخرة المرجان، التي لا تحني رأسها للرياح والأمواج.‏
                              ولم يمضِ على ذلك أسبوع حتى حضر المراقب المالي، وذهب زين الدين بنفسه إلى المطار لاستقباله، وقد سره أن يجده رجلاً وسيماً رشيقاً، شعر بالغيرة من رشاقته منذ اللحظة الأولى، في نحو الثلاثين من عمره، من ذلك النوع الجنوبي الفرنسي، الذي عرف أمثاله في جنوب فرنسا أيام إقامته فيه في المرحلة الأخيرة من دراسته، وأحس بالقرابة المتوسطية، التي تشده إليه برباط وثيق! غير أن الفرنسي لم يبد اهتماماً كبيراً بما أبداه نحوه من لطف حفاوة، بل استغرب إلى حد ما أن يحضر المدير بنفسه لاستقباله، وفكر رأساً في الأهمية، التي يمكن أن يعلقها المدير على حضوره دون أن يعرف موضوعها، وحمله بسيارة الشركة إلى فندق من أرقى فنادق المدينة، ليقيم فيه إلى أن ينتهي من مهمته. وتركه فيه بعد أن تواعدا معه على أن يأتي بنفسه أيضاً في صبيحة الغد لمصاحبته إلى مكتبه. ونام عز الدين في ليلته تلك نوماً هادئاً، لم يعرفه منذ مده ، وتراءت له في نومه أحلام وردية: سيارة بيضاء، في داخلها قلب من أزهار، يطل منه وجه فتاة كالربيع! وشعر في الصباح بنشاط غريب لم يعهده في الآونة الأخيرة.‏
                              وحضر في الموعد المتفق عليه، وجلس معه في المطعم ليشاركه فطور الصباح، وشرح له الأمر في أثناء ذلك، وانطلق يحدثه حديث خبير يعرف معرفة جيدة مايشفي الغليل، ويحيل لحظات المعاناة إلى أضعافها من اللحظات السعيدة، وتجنب أن يطلب منه الدقة في المراجعة، والأمانة في التحري، والصدق في نقل كل مايسجله أو يلاحظه على المقتصد، فمثل هذه الأمور لا تطلب في نظره من أجنبي، يشغل وظيفة في شركة ذات سمعة عالمية، لأنه يعتبر الشركة شركته، سمعتها سمعته، وأمانتها أمانته، ومجدها مجده، يسعده أن يكون واجهتها في مكان من العالم، يؤدي فيه مهمة باسمها وباسمه الشخصي وباسم مديرها، الذي يطيعه كما ينبغي أن تكون الطاعة له! ثم إن الراتب الشهري الذي اقترحه عليه، يغنيه عن الطموح إلى الحصول على أي مبلغ آخر يعرض عليه للتغرير به وإخفاء الحقيقة عنه، وبعد الفطور ذهب به إلى الشركة، وقدمه للموظفين، ومن بينهم المقتصد، الذي لم يظهر عليه أنه يهتم كثيراً بهذا الأمر أو يبدي عناية كبيرة بهذا المراقب المالي الأجنبي، فالقضية تعد إلى هذا الحد قضية مديره! وأوضح لهم المدير المهمة، التي سيقوم بها هذا المراقب مدعياً أن مصادر معينة، لم يكشف عن حقيقتها، هي التي طلبت منه ذلك.‏
                              وبدأ المراقب المالي عمله في اليوم الموالي، وقد هيء له مكتب مجاور لمكتب المقتصد، وكان هذا يقدم له كل مايحتاج إليه من وسائل ومعلومات تتعلق بالدفاتر والملفات المختلفة. فكان يجلس إليه، ويطلعه على كل رقم وعلى كل مبلغ في جميع السجلات، ويناقش معه المبالغ المالية، ووجوه صرفها، فقد شعر أن مديره -هو بحجمه- يشكل المصادر المعينة، التي طلبت إجراء مراجعة جميع الحسابات، الوارد منها والصادر منذ إنشائها قبل بضع سنوات، ولذلك كان حريصاً على أن يثبت له أنه ليس مثله.. أنه لا يطمح إلى ماليس من حقه، ولا يتعدى حدود وظيفته بشكل من الأشكال، وهو لم يفعل ذلك منذ أن دخل الشركة.. وهو يؤمن كل الإيمان بأنها شركة حكومية كما هي في جوهر الأمر وواقعه، وكان يبتسم استغراباً كلما مرت بذهنه نماذج من الموظفين الذين يعتبرون ما للدولة ملكاً خاصاً لهم، يتصرفون فيه حسب الرغبة والمزاج!‏
                              وطال عمل المراقب المالي، وماكان يهمه أن يطول عمله، المهم أن يقوم بالمهمة كما ينبغي له أن يقوم بها، سواء تطلب منه ذلك شهرين أو امتدت الفترة إلى ثلاثة اشهر. ثم إنه لم يكن لديه مايدعو إلى السرعة، فالبلد رائع، والمدير لا يبخل عليه بشيء، بحيث لا يكاد يتركه يدفع شيئاً من جيبه كلما ذهب معه خارج الفندق، فهو يدعوه إلى الخروج معه، ويدعوه إلى بيته وإلى بيوت أصدقائه، من حين لآخر لحضور أنواع المآدب والسهرات، ويمكنه من كل مايرغب فيه، كان الجوهري بالنسبة إليه أن يحقق له مايطلبه منه.. أن يثبت له أن مقتصده مختلس وفيّ لطبيعة فيه. فقضية إثبات هذا الاختلاس تكدر صفو حياته، وتشغل فكره ليلاً ونهاراً، وكم تمنى وصول يوم يتم فيه الكشف عن المختلس المناور، الذي تحدى إرادته، ومنعه من تحقيق رغبة في الحصول.. في هذه الشركة بالذات.. على سيارة رابعة، تنضم إلى السيارات الثلاث وإلى القارب، الذي اشتراه لابنه البكر، يقدمها لابنته في عيد ميلادها المقبل! ألم يرها في حلمه وجهاً محفوفاً بقلب من الزهر وسط سيارة! إن أفضل الأمور عنده ليس ثلاثة، فعددها يخضع لعدد أطفاله، لذلك أخذ يلح على المراقب المالي في التحري واليقظة.. وحذره من أن يدع للمقتصد فرصة لإخفاء أي شيء أو محاولة التهرب من الأجوبة الصريحة أو القيام بأية مناورة كيفما كانت طبيعتها.. فبذلك فقط يشد قبضة يده عليه، الحصول على السيارة الرابعة أمر لابد منه، فهي تعني رؤية ابنته شمسا... تقود سيارة!‏
                              وتوالت الأيام والمراقب المالي يواصل عمله ببطء، ولكن بتحر شديد. وكاد يطير من شدة الفرح عندما أخبرته كاتبته أن هناك إشاعة.. تناهت إليها. فقد سمعت الموظفين يتحدثون عن قضية تتصل بالمقتصد، هي أنه اشترى سيارة بأموال اختلسها من الشركة، وأن المراقب المالي على وشك إثبات ذلك عليه، وأنه قد يطرد من الشركة ليحاكم ويزج به في السجن لتجاوزه القوانين الرسمية والداخلية للشراكة. واستغرب زين الدين أن يسمع الموظفين بذلك قبل أن يسمع بهذا الأمر من المراقب المالي، مع أنه كان هو الذي استدعاه بنفسه من فرنسا. وتساءل كيف سمح لنفسه بالحديث عما كان بينهما معاً وأباح له أن يوسع دائرته إلى غيرهما.‏
                              وقبل أن يستدعي المراقب المالي، حضر هذا إليه شخصياً، وأخبره أنه على وشك الانتهاء من عمله.. قد يكون ذلك مع تمام الشهرين تماماً، وأنه سيقدم له التقرير قبل نهاية الأسبوع الجاري، فانزعج المدير قليلاً، دون أن يظهر انزعاجه أو يعبر عنه صراحة. كان قد شعر أن عمل المراقب المالي قد طال، وأخشى ماكان يخشاه فوق ذلك أن تكون النتيجة سلبية، على أنه لم يفقد الأمل، كان يدفعه إليه اقتناعه باختلاس عبد الكريم لأموال الشركة تحايلاً وتزويراً، وأخذ ينتظر التقرير على أحر من الجمر كما يقال. فقد تصور أنه سيحتوي على تفاصيل دقيقة، تؤكد ظنونه وتزيدها ثباتاً، وسيعرف منه عمليات الاحتيال السابقة والراهنة بأعدادها وتواريخها.. فيصبح المقتصد ناضجاً لدخول السجن ومحاكمته بجريمة اقتصادية وتدميره في النهاية تدميراً كاملاً.‏
                              ودخل عليه المراقب المالي في آخر يوم، فقام يرحب به مبتسماً ضحوكاً، ولكن وجهه عبس إلى حد ما عندما دخل عبد الكريم بعده بلحظات، وازداد عبوساً حين رأى بريق الانتصار وفرحته يلوحان على وجهه، وتمنى لو أنه لم يحضر معه ليدور الحديث بينه وبين المراقب المالي على انفراد. وحاول أن يصرف عبد الكريم، فقد شعر أن حضوره يزعجه، ولكن المراقب أفهمه أن من حقه أن يبقى، فالأمر يتصل به في النهاية، ومع ذلك فقد نظر عبد الكريم إلى مديره نظرة منتصرة، واتجه نحو الباب بخطى ثابتة، وغادر المكتب، وبعدئذ سأل المدير المراقب المالي:‏
                              - هل توصلت إلى نتيجة؟‏
                              وعوض أن يجيبه المراقب المالي، قدم له تقريرين، أحدهما مختصر جداً، والآخر مفصل إلى حد ما، فقرأ المختصر بسرعة، ولم يلبث أن شحب وجهه، وأحس بحرارة تجتاح جسمه، وتفصد العرق من جبينه، ووضع التقرير فوق المكتب أمامه، دون أن يحول نظره عنه، ورفع يديه كلتيهما، ومسح بهما على صلعته، وقد بدا عليه أنه نسي وجود المراقب المالي. كان ماورد في التقرير بمثابة شهادة على صحة حسابات الشركة. المصبوبات في حسابها والمدفوعات على حد سواء، وبمثابة دليل على نزاهة عبد الكريم، لم يصدق ذلك، وماكان باستطاعته أن يفعل ذلك... ألم تحدثه كاتبته عن إشاعة؟ أيكون المقتصد نفسه مصدر تلك الإشاعة التي تحدثت عن شرائه لسيارة بأموال مختلسة.. بثها بين الموظفين نكاية به وسخرية منه؟ وسأل المراقب المالي وهو ينظر إليه في ضراعة:‏
                              - هل تأكدت من كل شيء؟‏
                              فابتسم المراقب المالي وقال:‏
                              - بكل تأكيد، ياسيدي المدير! لم أترك قائمة واحدة.. ولا رقماً واحداً من الأرقام، التي تضمنتها السجلات العديدة المتنوعة.‏
                              وشرع بعد ذلك يطري النظام الممتاز، الذي اتبعه عبد الكريم في تصريف شؤون الشركة المالية وما تجلى في ذلك من براعة وفطنة ونظام ممتاز، ثم قال له:‏
                              - ليس للسيد عبد الكريم مايؤخذ عليه في سلوكه، شخص من الدرجة الأولى. يعرف مهنته تمام المعرفة.‏
                              وشعر المدير بنظرات عبد الكريم تسحقه في مكانه مع أنه لم يكن موجوداً في المكتب، واعتراه ارتباك كبير، حاول أن يخفيه أو يخفف من حدته على الأقل بقوله، وكأنه نسي أو تناسى ماقاله له في السابق عند مجيئه:‏
                              - إني لم أتهمه.. وإنما دعوتك لمراجعة الحسابات حتى أعرف إلى أي حد يمكنني أن أثق به وأعتمد عليه في المستقبل.‏
                              قال المراقب المالي:‏
                              - هذا أمر غريب في الحقيقة، عمل معك ثلاث سنوات ولم يكسب ثقتك حتى اليوم!‏
                              فاحمر وجه زين الدين، وقال له: وهو يضحك:‏
                              - نحن نؤمن بأن الإنسان يتطور، ومغريات الحياة المعاصرة كثيرة.‏
                              ضحك المراقب المالي بدوره، وقال:‏
                              - أنتم تؤمنون إذن بأن طبيعة الإنسان خيرة، وإذا ما تطور، فإنه يتطور تطوراً عكسياً!‏
                              وقال المراقب المالي:‏
                              - هذا صحيح أيضاً، غير أن الطبائع تختلف من شخص لآخر.‏
                              أصابته كلمة المراقب الأخيرة في الصميم، وقد خيل إليه أنها تهمة له، وقال مردداً، وفي حلقه جفاف حارق:‏
                              - مافي ذلك شك! مافي ذلك شك!‏
                              ونهض عن مكتبه، فنهض المراقب المالي معه، وهو يمد يده إليه:‏
                              - علي أن أسافر يوم غد، لك مني ألف شكر، ياسيدي! وأتمنى لك حظاً سعيداً في المستقبل. إذا ما احتجت إلى خدماتي في فرصة أخرى، فأنت تعرف عنوان الشركة، وهي في خدمتك في أي وقت تشاء!‏
                              اكتفى المدير بهز رأسه، وصافحه بفتور، وهو يقاوم رغبة في حك صلعته بيسراه! وسافر المراقب المالي في اليوم الموالي، ولم يذهب إلى المطار لتوديعه في هذه المرة، مدعياً - وقد أخبره بذلك هاتفياً بدافع العاطفة المتوسطية!- أن كثرة أشغاله لا تسمح له بمغادرة المكتب في صباح الغد، وكلف السائق مرافقته إلى المطار، ولم يرافقه السائق في حقيقة الأمر، إنما رافقه المقتصد نفسه، وكان قد دفع إليه في اليوم السابق -بموافقة مديره- ما تبقى من مستحقاته على الشركة بالعملة الصعبة، واتفق معه على مرافقته، وما أن عرف ذلك زين الدين، حتى أخذت أعماقه تغلي من جديد، ورفضت أن تقتنع بعبث مسعاه، وبدأ الشك يساوره في صحة مانقله إليه المراقب المالي، أيكون المقتصد قد صادقه؟ أيكون قد رشاه دون أن يعلم؟ إنه خبيث لا يستبعد ذلك منه على الإطلاق.. ليس في طبيعته خير! أيحضر مراقباً مالياً آخر نزيهاً! وسألته أعماقه.. وأين تعثر اليوم على نزيه تطمئن إليه كل الاطمئنان؟ الخبث يستقطب كل نزاهة! لابد أن يجد طريقة أخرى لطرده... لابد من إدانته بصورة من الصور، وإذا لم تكن الإدانة فلتكن الإهانة، فقد تكون الطريقة الوحيدة لتحرير نفسه منه.. لطرده قبل أن يهيء له شركاً يوقعه فيه، وهو ما لم يفكر فيه حتى الآن. ولكن تفكيره هذا جاء متأخراً إلى حد كبير، فبعد أيام قليلة تلقى هاتفاً من وزارته، كان فيه الكثير من الإهانة، التي كان ينوي إعدادها للمقتصد. وليس هناك من إهانة تعادل إقالة موظف سام بالهاتف! لكنها لم تترك أثراً كبيراً في نفسه.. فقد تبعه هاتف آخر بعد حين فوجد نفسه يعتدل في كرسيه، ويبتسم عبر السماعة ومن خلال الصوت المرح.. للمساعي الخفية، ويفكر في الطريقة المثلى، التي سيتبعها مع مقتصده في منصبه الجديد.. في حالة ما إذا هو تجرأ....!‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق

                              يعمل...
                              X