إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو

    يوجـين يونسكو

    - تأليف : كلود ابسـتادو - ترجمـة: قيس خضّور - مراجعة: حسيب كاسوحه -

    دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1999
    مقدمــــــــــة:
    السقوط، الموت، المكان الآخر
    مسرح الحلم
    تطور وإيقاع الكابوس:
    هجاء سياسي
    حياة: "التجوال في الغابة"
    البحث عن المطلق.
    جمهــــــــــور:
    فكر نقدي وتجارب في الأسلوب
    يونسكو والنقد
    حوار مع أوجين يونسكو
    فكر نقدي وتجارب في الأسلوب
    البحث عن المطلق.
    جمهــــــــــور:
    يونسكو والنقد
    حوار مع أوجين يونسكو

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو

    مقدمــــــــــة:
    هل بإمكاننا أن نحدّد "الحضور الأدبي" لاوجين يونسكو ونحن في عام 1970؟‏
    ذلك أمر مشكوك فيه لأن أوجين يونسكو لم ينه أعماله الأدبية، ولا يمكن التنبؤ بالتوجهات المستقبلية، ولا توقّع التحولات الخفية في "دروب الإبداع الأدبي".‏
    أكثر من ذلك، فإن نجاح كاتب في زمنه من شأنه أن يشكل درجةً لا أكثر؛ فالمواضيع التي يعالجها، والتقنيات التي يستخدمها والأسلوب الجديد الذي يلجأ إليه قد توافق حساسية الجمهور، تمتدح ذوقه، وقد تخدع أيضاً، وغالباً ما تكون الغرابة قانوناً جمالياً، ومعياراً ذا قيمة عظيمة.‏
    إن شروط ممارسة النقد مشبوهة في نهاية الأمر، فهل تعبّر الشروحات المستفيضة للأعمال الأدبية المعاصرة عن شيء غير الموقف الشخصي والالتزام لدى الناقد؟‏
    ظهرت مسرحية المغنية الصلعاء منذ عشرين عاماً، ومنذ أكثر من خمسة عشر عاماً لم تفارق مسرح لاهوشيت. الأمر إذن ليس نجاح موضة عابرة، إنه عمل "كلاسيكي"، ومن الصعب تعداد عروض مسرحيات "اميديا" "الكرامسي" "الكركدن" "الملك يموت". كل مساء وفي كل مكان على الكرة الأرضية، وفي مختلف اللغات، يرتفع الستار عن مسرحية ليونسكو.‏
    تضم أعماله أكثر من ثلاثين مسرحية واسكتشاً؛ نكتشف فيها ثوابت واتجاهات راسخة لا أقوالاً معادة وثرثرة. لا يعالج يونسكو الأفكار نفسها ولا يلجأ إلى نفس الأسلوب. إنه لا يكرر أبداً، فمن مسرحية إلى أخرى نراه يعمّق فهمه للعالم وبحثه الجمالي. إنه يقدّم تصوّره للعالم في أشكال مسرحية متجددة.. إنه يسجل الوعي العميق لعصره. فمسرحه، ذو المغزى، الذي يمثل عصره، عبارة عن بحثٍ دؤوب عن الواقع وتحديدٍ لنظام من القيم.‏
    من المناسب إذن أن نتجاوز الموقف الشخصي الهجومي للنقد المعياري الذي أدرك، مع مرور الزمن، قيمة الخلق الأدبي، وتكرار تقديم العمل المسرحي. إن دراسة أهداف الكاتب والمؤثرات التي كوّنت احساسه وخياله تمثل مفتاحاً للتفسير والتوضيح. إن دراسة وتحليل المغامرة المسرحية التي عاشها يونسكو يسمحان بتحديد فن مسرحي أعاد الأشكال التقليدية إلى قفص الاتهام، كما يسمحان بفهم منهج عملي تطبيقي يريد البحث من جديد عن أصول المسرح، والكشف عن مغزى هذه الرسالة الغامضة.‏
    لقد تفضّل السيد أوجين يونسكو مشكوراً بقراءة هذا العمل وهو في مرحلة الإعداد وقد أرشدني إلى فكرة للكاتب هنا، أو طرفة ثمينة هناك، تُساعدان في فهم المسرح، وهنا أتوجه إليه بالشكر الجزيل.‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو

      السقوط، الموت، المكان الآخر
      يترجم هذا التعاقب الشعوري - للقلق والنشوة - الشعور بالسقوط، ففردوس الطفولة عالم دائم لا يتغير، تجري الحياة فيه في حاضر مطلق. كان يونسكو يشعر أنه المركز الثابت للأشياء، وذات يوم شعر أن قوة هائلة قذفته إلى المحيط، لقد فرّ العالم منه: "أركض وراء الأشياء، أركض مع الأشياء، أسيل"(3) . الزمن يمضي ومرور الزمن نوع من التقهقر: إنه السقوط، الأعياد تصبح كئيبة، والأفراح تتلاشى عندما يستمتع بها المرء، وكل شيء موسوم بالإثم الخفي الذي لا سبب له. لم يعد العالم الكوكب الذي يتمتع بحضور شامل لا نهائي - بل أصبح متاهة. كل شيء فيها محدود قليل الاتساع: جدار يكشف عن جدار آخر ننطح برؤوسنا وندق عليه بقبضاتنا: "عالم جديد، عالم جديد دوماً، عالم دائم، عالم دائم الجدّة، والشباب، هذا هو الفردوس. فالسرعة ليست جهنمية فحسب بل هي الجحيم ذاته، إنها التسارع في السقوط. كان الحاضر موجوداً، وكان هناك الزمن ولم يعد هناك لا حاضر ولا زمن، إنها متوالية هندسية في السقوط تقذفنا إلى العدم"(1) .‏
      هروب الزمن، التقهقر، السقوط: تلك هي علامات الموت، موت العالم، موت الإنسان الذي ينقش على صفحة الوجود التساؤل العظيم: "ما جدوى ذلك؟ ما جدوى إذن أن نتألم، ما جدوى الكتابة؟ سيكون باستطاعتنا أن نحتمل أي شيء لو كنا خالدين" كما يقول بيرانجيه في مسرحية الماشي في الهواء. لكن الموت في كل مكان: الأمس يموت في اليوم، والذكريات تموت في النيسان، والإنسان يموت مع ذكرياته، يموت من ذكرياته، لا ينتهي المرء من الموت أبداً، إنه مرض لا شفاء منه.‏
      لكن هل وسواس الموت دفعٌ له أم رغبة فيه؟ الخوف من الموت عند يونسكو يخفي رغبة غامضة. الموت قفزة في المجهول؛ ربما هدمت تلك الجدران التي ترتد عنها الصورة الملحاحة التي يذكرها في حكايات الأحلام في يومياته: الجدار الذي يفصله عن ذاته، الجدار الذي يقطع الإدراك الضيّق للأفكار الشاملة، الجدار الذي يمثّل حداً بين هنا وهناك(2) . يتساءل يونسكو:ماذا يوجد خلف هذه الجدران؟ الفوضى، العدم، أم "نسغ القوة، الطاقة الكونية التي نشارك بها ونشترك فيها"(3) . هل الفردوس الذي وجدناه من جديد، واخترناه، دفعة واحدة؟ يمكن للغواية أن تكون قوية.‏
      أين نجد الجواب؟ هل الدين رمز لشيء آخر؟ هل يخفي الدين أشياء أخرى؟ ليس هذا ما أريد قوله، لا أجرؤ على ذلك، لا أملك من الجرأة والإقدام ما يكفي لكي أؤمن"(4) . كان يونسكو يفكّر كثيراً بشكوكه وتردده: "حاولت دائماً أن أؤمن بالله، لكنني لست ساذجاً بما يكفي، ولا ذكياً بما يكفي أيضاً، هناك بعض التصور الميتافيزيائي؛ لكنني لم أهدم الجسور تماماً بيني وبين الله"(5) .‏
      لكن الحقيقة لم توهب أبداً، والأرض الموعودة يجب أن تُغزى.. لقد استلهم يوميات كافكا فوصف مسيرته الروحية في أمثال: "في اللحظة التي لم يكن عليّ فيها سوى القيام بخطوة واحدة لأعبر تلك النقطة التي لا عودة بعدها، كنت أتردد، ثم أصاب بدوار، ثم أشعر بحسرة ممزقة عظيمة، إنها نداء العالم أجمع الذي يمتصني: أصوات، أذرعة طرية، الكون كله يغدو طرياً، ألوان لطيفة، ثم موسيقى، ثم هناء فرخاوة، فبوادر غبطة، وقوة طاغية لا توصف تشدني إلى الأسفل [..] واليوم يُخيّل لي أن المسيرة الضرورية هبوط وليست صعوداً كما من قبل. في هذه اللحظة كان يتراءى لي أن علي أن أتخلص من ثياب رصاص لأستطيع الصعود، يُخيّل لي اليوم أن عليّ أن أغوص في أعماق خانقة، وأن اجتازها"(1) .‏
      الزمن "في فتات"‏
      اجتياز الأعماق للرد على نداءات القمم، ورفض الطريق المباشر الذي يقضي بالتمسك بالحياة في لحظتها الراهنة. إرادة الحياة الفورية واقتناص الملذات بلهفة، وامتلاك الخيرات، هذه كلها دروب مسدودة، لا يستطيع المرء أن يشفي غليله من خلالها. "الحياة الحقيقية في مكان آخر".‏
      الحياة الحقيقية تكمن في إدراك شامل للديمومة. "هناك في الأعماق، ينبوع بارد، هو نور الطفولة"(2) . هناك النشوة والألم متلازمان تلازم السمت والنظير، هناك الذكريات كلها: "بلدان، قارات، عوالم غرقت بصمت في الهاويات اللانهائية"(3) . يجب النزول إلى الهاوية، والبحث في العتمة، يجب "أن يكون المرء مثل إنسان يدور في الظلام ومعه مصباح لا ينير سوى مساحة صغيرة حوله تسمح له بالتقدم. تنتقل تلك الدائرة الصغيرة ويرجع كل ما عداها إلى أحلك العتمات من جديد. إدراك الحاضر وحده، إدراح لحظة الاستيقاظ هو وحده الذي يضيء"(4) .‏
      الغوص في أعماق الذاكرة ممكن إذا اعتبرنا الماضي هو الحاضر، ويكتسب هذا الغوص في أعماق الذاكرة خاصيّة الكشف إذا ما تجاوز البحث عن الذكريات النوادر والحكايات الصغيرة وتوقّف عند المغزى، عند علامات الوعي واللاوعي، وإذا ما اكتشف المنطق السرّي للحياة. آنذاك يعطي الماضي معناه للحاضر.‏
      لتوضيح معنى الحياة، يُعتبر الحلم أحد المفاتيح التي يملكها يونسكو. يبعث الحلم الماضي ويكشف دروب المستقبل. إنه عنصر كشف مزدوج: "إنني أعطي للحلم أهمية عظيمة لأنه يعطيني رؤية أكثر دقة وأكثر نفاذاً لنفسي. أن أحلم، يعني أن أفكر، وأن أفكر بطريقة أعمق وأصدق وأصحّ لأنني أكون كما لو انطويت على نفسي.‏
      الحلم نوع من التأمل والخشوع والاعتزال.. إنه فكرة في صورة.. أحياناً يمتاز الحلم بطاقة قصوى على الكشف؛ يكون قاسياً عنيفاً؛ يمتاز بوضوح ساطع مُبهر"(1)
      هنالك التفكير الواضح، المرتبط بالكائن الشامل، التفكير الصافي، الأكثر صفاء من حالة اليقظة، غير أن الحلم هو "الطريق الملكي" لمعرفة الإنسان. إنه يحسب حساب اللاوعي، أو بالأصحّ، يمثّل ما يعتبره يونسكو الصورة الخفية للأشياء. "ليس هناك وعي ولا وعي بالمعنى الدقيق للكلمة. في الحلم، أكون واعياً، لكن المقصود نوع آخر من الوعي. في الحلم، إمّا أن أعرف أنني أحلم، وإمّا لا أعرف ذلك، فإذا كنت لا أعرف فهذا يعني على كل حال أن ما يبدو لي هو ما وراء الأشياء؛ أو غورها - أي أنني أرى الأشياء من الداخل‏
      فيكون مجال الرؤية مختلفاً(2) .‏
      رغم ذلك، تهرب الحقيقة منا، ويبدو أنها تنتقل من الصحو إلى الحلم، ومن الحلم إلى "حلم الحلم": "أحلم أنه قيل لي: لن تستطيع الحصول على مفتاح الألغاز، ولن تستطيع إيجاد الجواب على تساؤلاتك كلها إلا بالحلم. يجب عليك إذن أن تحلم هذا الحلم. أنام إذن في الحلم وأحلم، في الحلم، أنني أحلم هذا الحلم الخالص الكاشف للأسرار، استيقظ في الحلم، أذكر، في الحلم، حلم الحلم؛ فأنا أعرف الآن، ويتملكني فرح صافٍ عظيم. عند الاستيقاظ، الاستيقاظ الحقيقي، أتذكر جيداً أنني حلمت الحلم الكاشف للأسرار لكنني لا أذكر شيئاً عن مضمونه؛ وهكذا يهرب مني، من جديد، الحلم الذي يفسر كل شيء، حلم الحقيقة المطلقة"(1) .‏
      يُقال هناك مستويان من الرقابة: رقابة في حياة اليقظة ترفض الرموز ورقابة في داخل الأحلام لا تسمح لها إلا بكشف جزء مما يمكنها كشفه: مما تريد كشفه، رقابة على الأحلام، هناك لا وعي في اللاوعي"(2) .‏
      ترتكز الأهمية العظمى المعطاة للحلم على تصور أن الزمن لم يعد موجوداً. بالنسبة ليونسكو ليس هناك ماض أو حاضر أو مستقبل، تنفصل وتتحد في آن واحد: لكن هناك ديمومة تجري فيها كل الأزمنة معاً. الحاضر يحتويه الماضي، والماضي حاضر، والمستقبل مرسوم من قبل، إنها بنية مكانية للواقع تعيد التتابع الزمني المشتت: "لقد عرف علماء النفس منذ القدم الأحلام التي تنبىء بالمستقبل وتعرض الملامح بوضوح، أما في الغرب فلا أحد يؤمن بها لأن الأحداث، بالنسبة لنا، تجري في الزمن؛ أي أننا نتمتع بتفكير سببي. هناك قبلُ، وبعدُ، والثاني ناتج عن الأول. قبلُ، بعدُ، سببية، زمن. الغربيون لا يفهمون الشرقيين لأن الشرقيين يرون الأشياء في مجموعة من العلاقات المتبادلة، والمعاني! هذه طريقة أخرى في فهم العالم، وكل حقيقة ما هي سوى التفسير الذي يمكن أن نعطيه عن شيء ما، أو عن الأشياء. ولكي نقبل هذه الظواهر التي تبدو لنا شاذة، لا معقولة، يجب علينا إذن وبكل بساطة، أن نستبدل بالتفكير التاريخي، السببي تفكيراً مكانياً إنه تشكل مكاني، وليس زمنياً".(3)
      منذ ذلك الحين، وعلى هامش السيرة الذاتية، ظهرت أحداث مُعاشّة يوماً بيوم. إن عالماً بإيقاع فكر مكاني تشكل في أعماق نفسه الحياة الحقة. من هنا، لم تعد التعاقبات متعارضة، والتعارضات أخذت تتكامل وتنسجم في حاضر مطلق. الذكريات ترتبط بالمستقبل، وأصبحت الأحلام ورموزها الجزء الواقعي الذي له معنى ومغزى، وتوهّج الليل بالوضوح.‏
      الوصول إلى حلم الأحلام، اكتشاف المعنى الأساسي، اجتياز الظلمات، الوصول إلى الكشف، لكن أين الطريق؟ وكيف نفهم؟‏
      ظن يونسكو أن ذلك كله يتم عن طريق رفض المنهج المنطقي، فالمنطق آلية عقلية لا علاقة لها بالحياة. إنها تفتقد الواقع الذي لا تستطيع أن تحسب حسابه، ويمكن أن تصبح تلك الآلية، حسب الظروف، جنوناً وتتصرّف ضد الحياة. الحياة المفككة، الفوضوية ظاهرياً، يسيرها نظام آخر يجب معرفته؛ لذا يجب التخلي عن التفاسير، والتمسك بعلاقات تعتمد على الأحلام باستخدام منهج وصفي غني بالتوريات: "معظم الناس، عندما يحاولون التحدث عن أحلامهم فإنهم يترجمونها، يفسرونها، يقولونها، يتدخلون فيها. الحلم حكاية أو موقف يجب أن تعرض بأكثر الأشكال وضوحاً أو أن توصف. على العموم، يجب أن لا نروي الأحلام، يجب أن نحاول وصفها. الحلم ليس كلاماً، إنه صور" (1) إنه أسلوب قصصي، إنه طريق التحليل النفسي الذي "يطهّر، وينقّي، ويطرد الأرواح الشريرة"(2) كما أنه طريق المسرح أيضاً حيث تصبح التجرية المعاشة خلقاً وإبداعاً.‏
      "شيطان الأدب"‏
      الكتابة بالتحديد، هي وصف الأشياء وذكر طموحات العالم الداخلي. إنها الابتعاد عن التفكير المنطقي واماطة اللئام عن نظام جديد للفوضى. "هناك لحظات يفكر المرء فيها بطريقة منسجمة، منفتحة، لحظات أمتلك فيها مجموعات من الصور الحرّة الطليقة، لحظات أشعر فيها بمحرضّات متنوعة للكتابة قد تنسجم وقد تتعارض. عندما أمرّ في مثل هذه الحالة القريبة من الفوضى، غالباً ما تكون هي تحرير اللحظة التي يجب أن أكتب فيها مسرحية: يجب أن تأخذ الفوضى شكلاً، وأن يخرج منها عالم واضح منسجم متماسك. على عكس ذلك، عندما أكتب دراسات، وأبحاثاً، ومقالات يسيطر عليّ انطباع أنني سيّد نفسي أكثر، وأكثر يقيناً مما أعتقد معرفته. أعرف، ولا حاجة للبحث عن مزيد من المعرفة. آنذاك أعجزُ عن كتابة مسرحية"(1) .‏
      الكتابة هي "تحرير للمكبوت في النفس"(2) و "الأدب ظاهرة عُصاب"(3) ، لكن يونسكو يقصد، باستخدام هذه الصيغة، التعبير عن الوساوس والقلق الوجودي، والضيق الميتافيزيقي. العمل الأدبي يمثل ذلك كله، بحث عن المغزى؛ إنه يُعطي معنى للوجود"(3) .‏
      الكتابة أخيراً، هي محبة الكلمات. "يجب أن تحب كيفية رواية الحكاية أكثر من محبتك لما ترويه"(4) وهي إعطاء الفوضى الداخلية نظام علم النحو؛ هي نقل التحليلات من خلال مدلول الكلمات والتغلب على مقاومة اللغة من أجل صياغة ما لا يقال "إنها معركة مع الملاك" الذي ندعوه الدعوة إلى الكتابة موهبة).‏
      يحب يونسكو أن يصوّر نفسه موزّعاً بين إغراءات الكسل ونداءات الخيال. "من الواضح حقاً صعوبة كتابة مسرحية. ذلك يتطلب جهداً عقلياً هائلاً: يجب على الكاتب أن يقف، وهذا عمل مرهق.. يجب أن يجلس في اللحظة التي اعتاد فيها تماماً على البقاء واقفاً، يجب أن يتناول قلمه الثقيل جداً، ويجب أن يفتش أخيراً عن أوراق غير موجودة. ويجب أن يجلس أمام طاولة غالباً ما تتداعى تحت وطأة المرفقين... من السهل، نسبياً، أن تؤلف مسرحية دون أن تكتبها، من السهل تخيلها، أن تحلم بها، وأنت ممدد على ديوان بين النوم والصحو.."(5) .‏
      النداء الباطني عند يونسكو، هو في الحقيقة، نداء قاهر ملحاح. "ها أنذا أبدأ الكتابة، الكتابة، الكتابة. طوال حياتي وأنا أكتب. لم أعرف أبداً شيئاً آخر"(1) . الحاجة إلى الكتابة "مثل التنفس" تلبّي أكثر الطموحات تعقيداً. "الدوافع المتناقضة تماماً، أو التي تكمل بعضها تدفعني للكتابة: كل شيء يحملني على الكتابة: الكبرياء، إرادة القوة، الكره، الرغبة في خلاص نفسي، الحب، القلق، الحنين، الفوضى، الثقة، فقدان الثقة، اليقين فيما أؤمن به، عدم اليقين، الرغبة العنيفة في أن أكون مثقفاً، والرغبة في التثقيف، في التسلية، الخشوع".(2)
      لكن الكتابة تعني أن يسأل الكاتب الناس وأن يسأل نفسه، إنها صياغة هذه الأسئلة. رغم ذلك فإن مسرحية "العطش والجوع" هي مسرحية الأجوبة؛ ففي خاتمة البحث والتفتيش بقي هناك شعور كئيب حاد لا طائل تحته وحنين أشد إيلاماً "لماذا ارهقت نفسي إذن إذا كان أدبي الشخصي [..] لم يساعدني على التقدم خطوة واحدة على دروب المعرفة والإشراق والصفاء؟"(3) .‏
      من هنا يولد رعب الكاتب: "سابقاً، سابقاً، حدث شيء ما من هذا القبيل كنت أجلس بفرح أمام طاولتي لأكتب [..] أما اليوم فإن فكرة الكتاب تملؤني رعباً. اليوم، عندما أبدأ الكتابة، يستيقظ في داخلي ذلك الشعور الذي صار أكثر حدة، شعور لا يطاق، شعور بالمأساة، والخطر، والقلق الشامل، فأحاول الهرب والتسلية والنسيان"(4)
      كيف الانقطاع عن الكتابة؟ كيف الاستمرار؟ في قلق هذه "المهنة النارية" انطلق من يونسكو هذا النداء: "إنه الموت الذي أريده؟ لماذا؟ لأنه وحده يستطيع أن يغلق، وهو وحده من سيغلق فمي"(5) .‏
      مغامرة مسرحية‏
      1- دراسة تحليلية للمسرح‏
      إذا ما صدقنا يونسكو، فإنه كتب مسرحية "المغنية الصلعاء" بطريق المصادفة: لقد بدأ في المسرح "بطريقة متخلفة جاهلة"(1) . تعتبر هذه المسرحية نقداً لاذعاً للمسرح الرائج في أيامه، كما أنها كشفت الرغبة لديه في أن يهب الحياة لبعض الأشخاص وأن يجسّد بعض تصوراته. بدأ "يحب المسرح، ويكتشفه في داخله، ويفهمه ويشغف به".(2) خلال خمسة عشر عاماً، كتب أكثر من خمس وعشرين مسرحية،وصار مسرحه أربع مجلدات، وأكثر من ألف صفحة من مطبوعات دارغاليمار. مثلت مسرحياته، وترجمت في العالم أجمع، كما أن إنتاجه النقدي، الموازي لانتاجه الأدبي، يكشف عن مجادل لاذع ومنّظر واضح دقيق. تحوّلت اللعبة إلى جدّ. ذات يوم بينما كان يغادر السفينة ليطأ القارة الأمريكية، اعترضه صحفي وسأله عن تصوّره للحياة وللموت. وضع حقيبته أرضاً، جفّف عرق جبهته ورجاه أن يمهله عشرين عاماً ليفكر في السؤال، قال: "هذا ما أسأله لنفسي بالعقل، وأنا أكتب لأسأل نفسي عن ذلك"(3) .‏
      هذه الصورة الساخرة التي يقدّمها لنا يونسكو عن نفسه، يجب، مع ذلك، أن ندقق في تفاصيلها. كان كل شيء يدفع يونسكو نحو مستقبله ككاتب مسرحي: ثقافته، حساسيته، رغبته في المطالعة التي اكتشفها منذ الطفولة وهو يقرأ روايات فلوبير، رغبته في الكتابة التي ظهرت في فترة مراهقته من خلال قصائد ورواية وحواريات وبدايات مسرحية، وآراء نقدية حول الأدب، ويوماً بعد يوم، راح يكتب صفحات وصفحات من "يومياته" الخاصة التي كانت تدل على موهبة لا يمكن قهرها.‏
      هكذا إذن، فإذا كانت كتابة مسرحية "المغنية" قد حدثت مصادفة تقريباً فإن يونسكو كان يشعر في أعماقه أنه كاتب منذ زمن بعيد، كاتب مسرحي بالتحديد. فالمسرح يوافق خياله المتميز بالصور البصرية المرتبطة بالأحلام، فالحلم صورة قبل أن يكون كلاماً حكاية الحلم الني تعتمد على ترابط النحو ومنطقه هي نوع من التغيير في الحلم). إضافة إلى ذلك فإن تتابع الصور أو تبدّلها هو نوع من الحركة. الحلم إذن تمثيل ودراما، ولهذا السبب لم تكن المغنية الصلعاء لقاءً عرضياً مع المسرح، إنها اللقاء.‏
      خلال أربع سنوات كتب يونسكو حوالي عشر مسرحيات، وقد حدث أحياناً أن باشر كتابه مسرحيتين في وقت واحد، انتقل يونسكو، في المسارح الصغيرة التي قدّمت مسرحياته، من فشل إلى كارثة، دون أن تضعف عزيمته.. ومن مسرحية إلى أخرى، كانت خطته تتغيّر، وتقنيته تتطور، وكان يربك المعجبين به على قلة عددهم. اندفع يونسكو، عام 1949، في هجاء عنيف ضد المسرح، وفي عام 1964، في مسرحية "العطش والجوع" يتساءل يونسكو عن مصير الإنسانية، واليوم، ومع عملية تقهقر استمرت عشرين عاماً، فإن تبدلاته تكتسب شيئاً من التماسك والانسجام، كما أصبح في الإمكان تحديد الخط البياني لفكره.‏
      السخرية من المسرح:‏
      لقد دمّرت المسرحيات الأولى، عن طريق تحريف أشكال التعبير التي يمكن أن تبدو غير ملائمة للنص المسرحي، العقدة، والشخصيات، وأسلوب الحوار: وفي الوقت ذاته اكتشف يونسكو منابع المسرح، ففي اسكتشات: صبية للزواج، المعلّم، معرض السيارات، المستأجر الجديد، بُني كُل منها على عنصر من عناصر التقنية المسرحية: الحركة، الإيقاع، المفاجأة، الأخطاء اللغوية، التسارع الحركي أو الكلامي؛ تراكم الأشياء وتكاثرها. لقد لجأ يونسكو إلى أساليب تقليدية في المسرح، كما استخدم طرائق توحي بها موسيقى القاعات الكبرى، والسيرك، ومسرح العرائس، والكابريه.‏
      أعماق الوعي:‏
      لكن سرعان ما غدا المسرح بالنسبة ليونسكو طريقة لاكتشاف أعماق الوعي. لقد كشفت كتابة الأحلام، على المسرح، أفضل مما فعلت في "اليوميات" أو القصص القصيرة، الغرائز العميقة، والوساوس، والقلق. ففي مسرحيات: الدرس، جاك، الكراسي، ضحايا الواجب، اميديه، يتخذ البحث شكل التحليل النفسي، ويستند على نظرية فرويد - أو يونغ - في علم النفس، وبهذا الاعتبار يكتسب تحليل الذات قيمة دائمة.‏
      بيرانجيه والناس‏
      شعر يونسكو شعوراً متزايد الحدّة، عاماً بعد عام، أنه يستطيع، من خلال المسرح، أن يسأل نفسه، يستطيع أن يتحدث عن نفسه وعن العالم. لقد اتسع مجال تفكيره‎: المسرحيات الثلاث الأولى من "مرحلة بيرانجيه" - قاتل بلا أجر، الكركدن، السائر في الهواء - تعرض بحثاً أكثر منهجية، كما أن يونسكو يعالج مواضيع جديدة ويواجه مشاكل الجماعات، ويتصدّى لصراع الأيديولوجيات ويقدّم الأحداث الراهنة الأكثر وضوحاً في عرضه للواقع من خلال الحلم.‏
      أمّا وقد تحاشى "فخ الرصانة الجدّية" فقد عاد في أعوام 1959 - 1962 إلى المسرحيات القصيرة المبنية على حيلة لغوية أو على خبطة مسرحية. ففي مسرحيات: مشهد رباعي، تعلّم المشي، الغضب، هذيان ثنائي الثغرة، البيضة المسلوقة، عرض يونسكو "التصورات المسرحية" في حالته الصافية دون أن يعبّر عن أي تساؤل حول العالم.‏
      عند أسفل "السلم الفضي"‏
      مع ذلك، فالرصانة، والوضوح ليسا مصيدة، إنهما نوع من التعميق والإغناء. تابع يونسكو بحثه عن معنى الوجود، تنتهي "مرحلة بيرانجيه" بمسرحية "الملك يموت" حيث يتعرض يونسكو للمسألة الانطولوجية، وبعد ذلك بعامين صور في مسرحية "العطش والجوع" الترحال والشعور بالمطلق الذي يقود الإنسان، في لحظات الشفق، إلى أسفل "السلم الفضي" الذي يشعّ في حديقة الفردوس.‏
      ***‏
      "المغنية الصلعاء"‏
      شراء كتاب لتعلم اللغة الانكليزية، والحقائق التي اكتشفتها يونسكوفيه، والإشراق الذي انبثق منه، واتخاذ القرار في نقل تلك الاكتشافات، ثم تقطيع أواصر الكلام الذي صار ضرباً من الجنون.. هذه الحيثيات كلها ارتبطت - منذ أمد قريب - بأسطورة المسرح الجديد.‏
      عندما ارتفعت الستارة في 11 أيار 1950، في مسرح نوكتامبول، رأى المشاهدون القلائل بعض قطع الأثاث على المسرح الخالي تقريباً، مما يوحي بوجود صالة بورجوازية، وشاهدوا شخصين يرتديان بدلتين من طراز "اهتمّ أنت باميلي". لوحة تفتقد الهوية، لكن صوتاً نادى "ابدأ" أكد أن كل ماعلى المسرح إنكليزي أصيل: المقعد المريح، الأخفاف، الغليون، الجريدة، شوارب السيد سميث، النار وساعة الحائط، السيدة سميث التي تطرز.. كلها انكليزية.. هذه الأمسية الانكليزية تبدأ "بلحظة صمت انكليزية طويلة".‏
      دقت الساعة سبع عشرة دقة - "انكليزية" - فعرفت السيدة سميث أن الساعة هي التاسعة، وبينما كانت تغرز إبرتها راحت تذكر برضى أصناف وجبة العشاء، وتشرح الطريقة المثلى لتحضير البطاطا مع شحم الخنزير، وتقارن بين زيت بقال الناصية وزيت البقال المقابل مع زيت البقال عند الشارع الجانبي؛ وتؤكد ضرورة إضافة كمية مناسبة من الملح مع الحساء، كمية لا كبيرة ولا قليلة، وتوضّح طريقة إعداد كعكة السفرجل، وتعدّد بالتفصيل منافع السمك، واللبن البلغاري، كما أن هناك لبن ولبن..‏
      راح طوفان ثرثرتها التافهة يلطم أسوار الجريدة المفتوحة إلى أقصاها التي يحتمي خلفها، فلا يُرى، السيد سميث برباطة جأش تذكرنا بفلياس فوغ(1) . وفي شلال الكلمات يسيل هنا وهناك تعابير مبتذلة مقلقة:‏
      "لاشك أن ولدنا الصغير كان يريد أن يشرب بيرة، ويود لو يملأ معدته، إنه يشبهك".‏
      "اللبن الرائب نافع جداً للمعدة والكليتين والتهاب الزائدة، ولتألق العظماء".‏
      أخيراً، مدّ السيد سميث رأسه ليؤكد أن الطبيب الجيد يجب أن يموت مع مريضه مثلما يغرق قبطان السفينة مع سفينته؛ كما أنه أصيب بالذهول، من ناحية أخرى، لأنه قرأ في الجريدة أن دائرة السجل المدني تذكر دائماً عمر المتوفين بينما لا تذكر إطلاقاً أعمار حديثي الولادة.‏
      خيم صمت طويل دقت الساعة أثناءه سبع دقات، ثم خيّم صمت آخر دقت خلاله ثلاث دقات، وفي فترة الصمت الثالثة لم تدق الساعة أبداً.‏
      راح السيد والسيدة سميث يتناقشان بتأثر وانفعال عن بوبي واطسن المسكين، لقد توفي منذ سنتين أو ثلاث، وقد تم دفنه منذ ثمانية عشر شهراً.‏
      "إنها أجمل جثة في بريطانيا العظمى! لم تكن تكشف عن عمر صاحبها الحقيقي، مسكين بوبي، لقد توفي منذ أربع سنوات، وكان لايزال دافئاً عند دفنه، إنها جثة حقيقية حية، كم كان ظريفاً!".‏
      كانت زوجة بوبي واطسن تسمي بوبي واطسن مثله، ولذا كان الأمر يلتبس على من يراهما معاً. كان لهما ولد اسمه بوبي، وبنت اسمها بوبي بالطبع. في عائلتهم إذن كان الجميع يدعون بوبي واطسن: العم، العمة العجوز، ابن العم، والجدة، والعم الثاني، وابن العم الثاني، حتى الكلب كان اسمه بوبي واطسن. كانوا جميعاً وكلاء جوالين، عدا ثلاثة أيام في الأسبوع: "الثلاثاء، الخميس، الثلاثاء".‏
      رغم حماس السيدة سميث فإن آل بوبي واطسن لم يكونوا موضوعاً لحوار لا ينتهي وسوف ينتهي هذا الحوار الانكليزي عندما تظهر ماري - امرأة ذات إغراء لا يقاوم لكنها فتاة حمقاء.‏
      أعلنت ماري عن وصول السيد والسيدة مارتان: كانا ينتظران عند الباب ولم يدخلا عند اختفائها داخل البيت. أدخلتهما ماري بينما راح السيد والسيدة سميث يرتديان ثيابهما.‏
      جلس السيد والسيدة مارتان بخجل، كل منهما قبالة الآخر وراحا ينظران لبعضهما خلسة، ويحاولان الابتسام دون كلام؛ ثم يتبادلان النظرات من جديد. أخيراً قرر السيد مارتان أن يبدأ الكلام:‏
      - أرجو قبول اعتذاراتي يا سيدتي، لكن يخيّل لي، إن لم أكن مخطئاً، أنني قابلتك من قبل في مكان ما.‏
      - وأنا كذلك يا سيدي؛ يخيل لي أنني قابلتك من قبل في مكان ما.‏
      لقد اكتشفا باندهاش أنهما من مانشستر، وأنهما غادرا المدينة قبل خمسة أسابيع في قطار "الثامنة والنصف صباحاً" وقد وصل القطار إلى لندن "الخامسة إلا ربعاً" وأنهما سافرا في الدرجة الثانية في المقصورة السادسة من العربة الثامنة. "ما أغرب ذلك، وكم هو مثير للفضول، يا للمصادفة!" ومنذ أن وصلا إلى لندن سكنا في الشارع نفسه، والبناية نفسها، والطابق نفسه، "ما أغرب ذلك!" لقد ناما في الغرفة ذاتها، عند نهاية الممر، بين الحمام والمكتبة، "ما أعجب ذلك!" لقد ناما في السرير عينه. "يا للمصادفة العجيبة!" وبعد صمت طويل من التفكير العميق دقت الساعة خلاله تسعاً وعشرين دقة، نهض السيد والسيدة مارتان بطريقة احتفالية:‏
      - إذن، يا سيدتي العزيزة، أعتقد أن لا مجال للشك بأننا تقابلنا من قبل وأنك زوجتي.. لقد وجدتك من جديد يا إليزابيت!‏
      - دونالد، هذا.. أنت يا حبيبي!‏
      ماري - وهي في الحقيقة شرلوك هولمز - تعلّق على المشهد: ثم عاد آل سميث. لقد تعثر الحوار قليلاً في البداية: تفاهات، سعال مصطنع، فترات طويلة من الصمت، ابتسامات عريضة، كلام عن الطقس.. ثم رنّ جرس الباب. قامت السيدة سميث لتفتح الباب. لا أحد هناك.. ولمّا حدث ذلك ثلاث مرات سمح لها المنطق التجريبي أن تستنتج ما يلي: "علمتنا التجربة أنه عندما نسمع جرس الباب فذلك يعني أن لا أحد هناك"، وفي المرة الرابعة، قام السيد سميث ليفتح الباب.. وعاد ومعه رئيس فرقة للإطفاء.‏
      روى الرجل بعض النكات السخيفة، و"حكاية تجريبية" ليس لها أساس من راس.. كان يضحك ملء شدقيه، وحده، ثم انتهى بحكاية عن الزكام، وختم حكايته بجملة طويلة، مؤلفة من عدة جُمل وصلية، ومعترضة، تتسلل وتنزلق بين ردود وشروحات الشخصيات الأخرى:‏
      - "كان لأخ زوجتي، من ناحية الأب، ابن عم ألماني، أحد أعمامه، من ناحية الأم، كان له أخ زوجة كان جدّه لأبيه قد تزوج مرة ثانية صبيّة من المنطقة كان أخوها قد التقى، أثناء إحدى أسفاره فتاة، فشغف بها، ومعها..".‏
      راح رئيس فرقة الإطفاء يتكلم ويتكلم ويتكلم ثم توقّف فجأة عند أربع فواصل، أربع انقطاعات في موجة تبخرت فجأة:‏
      - .. وكان والده قد عاش في كندا عند سيدة عجوز، كانت ابنة أخ الخوري الذي كانت جدته تُصاب، غالباً، في فصل الشتاء، مثلها مثل جميع الناس، بالزكام.‏
      راحت ماري تنشد بدورها قصيدة حماسية على شرف رئيس فرقة الإطفاء، لكن هذا الأخير ترك السهرة لأن حريقاً شبّ في طرف المدينة كان موعد الحريق مسجلاً في مفكرته منذ عدة أيام) حريق لا قيمة له: "نار في كومة قش وحرق بسيط في المعدة".‏
      عاد الحوار من جديد بين آل مارتان وآل سميث والأصح أن يُقال أن كل واحد منهم كان يتحدث لنفسه ويعلن حقائق أساسية:‏
      - يمكنني أن أشتري سكين جيب لأخي بينما لا يمكنك أن تشتري ايرلندا لجدك.‏
      - يسير المرء على رجليه لكنه يستمد الدفء من الكهرباء أو من الفحم[...]‏
      - عندما أكون في الريف أحب العزلة والهدوء.‏
      هذه الحقائق تتشوه والكليشهات تختلط، والردود لم تعد أكثر من مقاطع صوتية رنانة، والعلاقات المنطقية اختفت وحل محلها ترديد سخيف لما يقوله الآخرون:‏
      - إنني أحب عصفوراً في حقل أكثر من جورب في نقّالة.‏
      - شبكة في شاليه خير من حليب في قصر.‏
      ثم يتسارع الإيقاع وتغدو اللهجة عنيفة، ويبدو الأشخاص كأنهم يختصمون:‏
      - لا تلمس بابوجي.‏
      - لا تحركْ البابوج.‏
      - المسْ الذبابة، الذبابة لا تلمس.‏
      - الذبابة تتحرك.‏
      - امسحْ فمك.‏
      - امسحْ مضرب الذباب، امسح مكشّة الذباب.‏
      - مناوش مناوش.‏
      - سكاراموش المناوشة)‏
      - سانت نيتوش البراءة المزيفة)‏
      - لديك سرير!‍‏
      - أنت تلجمني‏
      - سانت نيتوش تلمس خرطوشتي.‏
      - لا تلمسوها، إنها محطمة(1)
      تنتهي الجُمل بالتفتت، والكلمات تتفجر صراخاً وضجيجاً، تتحول إلى مقاطع، إلى حروف رنانة وحروف صوتية يتقاذفها الأبطال في سورة من الغضب وهم يركضون على المسرح.‏
      ليل، نور، السيد والسيدة مارتان يجلس كل منهما على مقعد مريح. السيد مارثان يقرأ جريدته والسيدة مارتان تطرز. تدق الساعة سبع عشرة دقة فتعلن السيدة مارتان أن الوقت هو الساعة التاسعة، ثم وهي تغرز أبرتها..‏
      الكلمات والأشياء‏
      لا يمكننا أن نحلل مسرحية المغنية الصلعاء كما نحلل مسرحية "حلاق اشبيلية" أو "روي بلاس".. لا وجود للعقدة، ولا يمكن رواية المسرحية، وكل مايمكن فعله هو وصف المشاهد المتتابعة لقد التزم يونسكو بالتقسيم التقليدي) التي يشكل كل مشهد منها لوحة حيّة.‏
      يسمح تحليل الحوار بإيجاد جُمل كتاب تعلّم اللغة الانكليزية. دروس المفردات مترابطة، يمكن أن نستخرج منها العناوين التالية: الطعام، البيت، أواصر القرابة، الحوار حول بوبي واطسن والحديث عن الزكام - الوقت، الرحلات، كما يمكن ملاحظة تمارين القواعد حول حالتي النفي والإثبات وحول درجات المقارنة والتفضيل.‏
      -.... البطاطا جيدة جداً مع شحم الخنزير، وزيت السلطة لم يكن حاداً؛ زيت بقال الحي أجود من..‏
      هكذا أعاد يونسكو نسخ جُمل الكتاب، لكن وهنا يكمن جوهر المسرحية) بدلاً من أن تكون وسيلة لتقوية الذاكرة من أجل حفظ المفردات والقواعد فإنها تقابل مواقف حية، إنها تحلل الواقع، تعبّر عن حقائق. تأكيدات الشخصيات بديهية، واستنتاجاتها منطقية تماماً، في البداية على أقلّ تقدير.‏
      هذا المنظور جعل الحوار جهنمياً، وقد كشف نسيج التفاهات ابتذال الواقع. فالحقائق الأساسية، التي لا نفع فيها تحرف بشكل ساخر نظاماً كاملاً من القيم.‏
      في النصف الثاني من المسرحية تختلط الفصول، وتمتزج السجلات، وتتداعى البديهيات ويصبح العنصر الكوميدي المقيم عند حدود اللامعقول تراجيدياً، والواقع، الذي كان كلامه ضمانة له، يتهدّم.‏
      كوميدي؟ تراجيدي؟ لقد دُهش يونسكو عند سماعة ضحكات الجمهور: أثناء كتابة المسرحية، اضطر للتوقف، إذ أصابه دوار وغثيان. كانت المسرحية بالنسبة له "تراجيديا اللغة".‏
      في الحقيقة، إن انهيار الواقع مأساوي، كما أن المسرحية تسبب بعض القلق والانزعاج، أما الضحك فإنه يتفجر في اللحظة التي تتعطل فيها آليات اللغة وتقدم صوراً مشوهة: مازال في الإمكان تحديد الواقع لكنه تعرّض من قبل لعملية تزوير وتشويه. وهكذا فإن الصيغة البديهية للجملة مازالت باقية أما محتواها فقد أصبح فظاً مبتذلاً.‏
      - زوجتي هي الذكاء بعينه، بل إنها أذكى مني، وعلى كل حال فهي أكثر أنوثة بكثير، كما يقولون [..].‏
      - ساعة الحائط تعمل بشكل رديء، لديها روح المشاكسة، إنها تشير دائماً عكس التوقيت الصحيح.‏
      - يمكن البرهان على أن التطور الاجتماعي يكون أفضل بكثير إذا أضيف السكر إليه[..].‏
      - لا يلمع المرء نظارته أبداً بشمع الأحذية [..].‏
      ينكمش الواقع أكثر عندما يعيد يونسكو للصور المستهلكة قيمتها أو عندما يعيد للكلمات معانيها الأولى، معانيها الواضحة، كما حدث في التعليقات التي رافقت قصيدة ماري أو أفكار السيدة سميث حول السأم من أحاديث الصالونات.‏
      تصبح الورطة في النهاية بلا حدود، والسخرية تصبّ في البلاهة، وما عادت الكلمات تعبر عن شيء. إنها تتكاثر وتبدو كما لو أنها تغزو الفضاء المسرحي.‏
      قوالب الحوار، وتمزّق التراكيب اللغوية يعيدان من جديد طرح مسألة الواقع أو بعض مظاهر هذا الواقع: الحركات تصبح إيماءات، والأشخاص يتحولون إلى دُمى، وباختصار يتحول الواقع إلى عالم "بورجوازي صغير". يجب أن نفهم من ذلك أن ليس المقصود هذا المجتمع أو ذاك النظام الاقتصادي لم يقصد يونسكو ذلك أبداً) بل المقصود عقلية موجودة في جميع الأنظمة، عقلية امتثالية تتغذى على أفكار مسبقة جاهزة، المقصود ببغائية تكوّنت من قوالب لغوية، وترديد آلي للغة، وللأشخاص الذين "يتحدثون ولا يقولون شيئاً" لأن ليس لديهم ما يقولونه، وليس لديهم ما يتبادلونه مع الآخرين ولأنهم محرومون من الحياة الداخلية فاكتفوا بآلية الكلام اليومي: "لم يعد آل سميث وآل مارتان يعرفون الكلام، وما عادوا يعرفون كيف يفكرون لأنهم لا يعرفون كيف ينفعلون، وليس لديهم مشاعر، ولا يعرفون كيف يكونون، ويمكن أن يصبحوا أي شخص أو أي شيء لأنهم، وقد فقدوا وجودهم الخاص، ما عادوا سوى الآخرين، عالم اللاشخصي، وأنهم قابلون للمبادلة: يمكن أن يحلّ مارتان محل سميث، والعكس بالعكس، وما عاد المرء يتوقف عند ذلك"(1) . أصداف فارغة، رنانة، جوفاء، تتهادى شخصيات "المغنية الصلعاء" مع تهاوي اللغة التي أوجدتهم، إنهم كوميديون لكن رخاوتهم تكشف عن حقيقة تراجيدية.‏
      لقد تحقق التباس النغم والمعنى من خلال أداء الممثلين. يمكن أن نتخيل أداءً مجنوناً على طريقة" ماركس براذر أو هيلزا بوبان". تقترح الإرشادات المسرحية إلقاءً رتيباً وتلاوة خالية من أي تعبير. اختار نيكولا باتاي تمثيلاً "جاداً" جعل عنصر الاضحاك في النص، من خلال التضاد والمفارقة، أكثر وضوحاً. هناك إيقاع يفرض نفسه على كل حال: التسارع الذي يؤدي إلى الانفعال، والعنف، يؤدي إلى الانفجار. ذكر يونسكو إلى الكاتبة سيمون بن موسى أن "الحالة النموذجية هي أن نرى رؤوس وأقدام الأشخاص مثل نتوءات تبرز من أرض المسرح وهذا مستحيل للأسف. ربما كان من الأفضل ألا يكون هناك سوى دُمى مقطعة الأوصال لأن تلك الشخصيات ليس لها أي وجود حقيقي"(2) ، وبالتأكيد فإن لعبة كهذه اللعبة المسرحية تؤكد واحداً من معاني المسرحية.‏
      تحريف المسرح:‏
      إضافة إلى إثارة قضية العالم "البورجوازي الصغير" فإن مسرحية "المغنية الصلعاء" تعتبر نقداً لاذعاً للمسرح واعتداء سافراً على الجمهور.‏
      مسرحية تحريفية ساخرة، لكنها أيضاً سخرية لاذعة من المسرح، وضع لها يونسكو عنوان "مسرحية مضادة". ليس فيها عقدة، شخصياتها مترددة حائرة، وما تقوله تلك الشخصيات لا فائدة منه، وفي النهاية يجب على المتفرج أن لا يحاول الفهم أو الاستماع، وهذه علامات مسرحية رديئة.‏
      العنوان يصدم. إنه لا يوضح أي شيء، إنه نقيض العنوان. لقد فكر يونسكو أن يسميها على التوالي: "الساعة الانكليزية" "تعلم الانكليزية دون تعب" "جنون بيغ بن" "السماء تمطر كلاباً وهررة" لكن هذه العناوين كلها تحدد المسرحية ضمن حدود هجاء الحياة الانكليزية؛ وخلال إحدى التدريبات تحدث الممثل الذي كان يؤدي دور رئيس المطافيء، خلال حكايته عن الزكام، عن "مغنية صلعاء" بدلاً من أن يتحدث عن "معلمة شقراء". تم العثور على العنوان النهائي ولم يبق سوى إضافة جملتين في اللحظة التي يغادر فيها رئيس المطافيء منصة المسرح: "والمغنية الصلعاء؟ - إنها تسرّح شعرها دائماً بنفس الطريقة". لاشك أن المصادفة هي التي سمحت بإيجاد العنوان وقد أدّت إرادة التحدي إلى الاحتفاظ به.‏
      أراد يونسكو أن يصدم الجمهور الذي اعتاد على مسرح البوليفار(1) . كانت هذه العدوانية أكثر وضوحاً في الخاتمة التي تخيلها بونسكو أول الأمر: كان المطلوب قتل المشاهدين بكل بساطة. خلال الشجار بين آل سميث وآل مارثان، تدخلت الخادمة لتعلن عن وقت العشاء فيترك الأزواج الأربعة منصة المسرح. يبدأ بعض المتواطئين بالصفير والصياح في الصالة آنذاك يصعد إلى المنصة مدير المسرح وقائد الشرطة ومعهما شرطيان ويبدأون إطلاق النار على الجمهور المتمرد ويصدرون الأوامر لإخلاء الصالة تحت تهديد المسدسات. اقترح يونسكو خاتمة أخرى: يتقدم المؤلف على المنصة ويمد قبضته باتجاه الجمهور ثم يصرخ: يا عصابة الأنذال، سأسلخ جلودكم" تتطلب النهاية الأولى أدوات كثيرة، وعدداً إضافياً من الممثلين، من أجل عدة دقائق، أما الاقتراح الثاني فلا ينسجم مع طابع المسرحية، لكن كلا النهايتين تبينان إلى حد ما الاغتيال الرمزي لجمهور المسرحية الهزلية(1) .‏
      موضوعات وتقنية‏
      إن رفض نوع محدّد من المسرح والاعتداء على جمهور معيّن هما الوجهان المدمران في المسرحية؛ لكن "المغنية الصلعاء" تقدم في الوقت ذاته موضوعات وأساليب تقنية طوّرها يونسكو في مسرحياته التالية.‏
      آل سميث وآل مارتان أسرتان استهلكتا الحب كله. نلمح علامات الفشل الخفي عندما يتبادل آل سميث التّهم حول أخطاء الأولاد، أمّا آل مارتان، وهما أكثر شباباً بالتأكيد، فلا يزالان يغدقان العواطف على "صغيرتهما أليس" لكنهما يعيشان الواحد قرب الآخر دون أن يعرفا بعضهما. لم يتوقّف يونسكو عن تعميق وتنويع هذا التصوير للحياة الزوجية.‏
      من ناحية أخرى، فإن التضخيم، والكاريكاتور هما شكلان من أشكال الإضحاك التي يلجأ إليها المهرَّج، وقد أدخلهما يونسكو إلى المسرح. كما أن البناء الدائري للمسرحية الجملة الأخيرة تعيد الجملة الأولى) يبين لامعقولية الحياة التي كُتب عليها التكرار: في مسرحية المغنية الصلعاء، هناك، فوق ذلك كله، تطوّر للحدث دون وجود عقدة:آلية المسرح تعمل في فراغ. كان من الممكن الكلام عن "مسرح غير تمثيلي" "مسرح تجريدي" لكن إيقاع التسارع والإنفجار لم يُحمّل بأي عنصر يخفي دلالته. التوتر موجود بلا هدف، وهذه هي ملامح ومحركات المسرح الأصيل.‏
      "الدرس"‏
      بينما كانت عروض "المغنية الصلعاء" تغرق في اللامبالاة كان يونسكو يكتب مسرحية "الدرس" التي عُرضت للمرة الأولى على مسرح الجيب في 20 شباط 1951. لم تلاقِ أي نجاح، لكن عند إعادة عرضها عام 1956 مع المغنية الصلعاء، التصقت بلوحة الإعلانات ولم تفارقها.‏
      إذا لم يكن في المغنية الصلعاء موضوع ولا مغنية فإن "الدرس" يبرر العنوان: هناك مدرّس وطالبة ودرس خصوصي، لكنه ليس درساً خصوصياً تماماً - رغم ما يقول جاك لومارشان - إنه "إعادة أمينة لدرس يعطيه الماريشال فوش في الكلية الحربية"(1) إذ أن هناك درس ودرس.‏
      تمثّل منصة المسرح غرفة عمل المدرّس. أدخلت الخادمةُ طالبة جديدة: مراهقة، أو مكتملة الأنوثة ربما كانت في الرابعة عشرة أو الثامنة عشرة) محتشمة، مهذبة، لكننا نشعر أنها تضجّ بالحيوية ظريفة، واثقة من نفسها، غبيّة قليلاً.‏
      جاء المدرّس، في العقد الخامس من عمره، ظهره محنيّ قليلاً، خجول، ذو حركات بليدة، ثيابه رثّة، يتحدث بصوت خافت، إنه مرتبك أمام التلميذة، يعتذر، يتلعثم، يفتش عن موضوع للحديث، يخوض في توافه الكلام، يتورّط، يتشبثّ بالجُمل الجاهزة. تؤدي ردود الأفعال المهنية دورها وتيسّر له إمكانية التصرّف:‏
      - أنت تعرف باريس إذن؟‏
      - كلا يا آنسة، لكن لو سمحت، هل يمكنك أن تقولي لي، باريس، هي عاصمة.. يا آنسة؟‏
      - باريس.. إنها عاصمة فرنسا؟‏
      - طبعاً يا آنسة، أحسنت، جيد جداً، عظيم، تهانيّ، أنتِ تعرفين جغرافية وطنك حق المعرفة.‏
      في مثل هذا الموقف يكون الطقس الملاذ الأمثل:‏
      - ... الطقس جميل هذا اليوم.. أو ليس جميلاً تماماً.. أوه، إنه جميل على كل حال، في النهاية، ليس الطقس رديئاً، هذا هو المهم.. إيه، إيه.. المطر لا يهطل ولا يسقط الثلج.‏
      - لو حدث ذلك لكان أمراً مدهشاً لأننا في فصل الصيف.‏
      - أعتذر يا آنسة، كنت سأخبرك بذلك.. لكنك ستتعلمين كيف تتوقعين كل شيء.‏
      "يمكن أن نتوقع كل شيء": تفاهة عبثية فيما يتعلّق بالمطر والطقس الجميل، لكن إذا طُبّقت هذه القاعدة على الحياة فإنها تمتليء بالتهديدات والأخطار. أثناء الحركة الدرامية تصبح التفاهات نوعاً من النبوءات.‏
      قالت التلميذة إنها تريد متابعة دراساتها العليا "لأن ثقافة بسيطة عامة لا تكفي في عصرنا هذا". إنها تعرف من قبل أسماء الفصول - أو جلّها - وقد حصلت على الثانوية الفرع العلمي وعلى الثانوية الفرع الأدبي وتريد أن تتقدم، بعد ثلاثة أسابيع - إلى مسابقة "الدكتوراه العامة". يجب إذن الانصراف إلى العمل دون إبطاء.‏
      في اللحظة التي يجلس فيها الأستاذ والتلميذة لبدء الدرس، تدخل الخادمة، تفتح أحد الأدراج، تتباطأ، ثم توجّه إلى المدرّس تحذيراً غامضاً.‏
      يبدأ الدرس بمادة الحساب. كان المدرّس في غاية الراحة وهو يؤدي دور المعلّم: تلاشى خجله، لم يعد يتلعثم، صار يستخدم مفردات ذكية، لكن التلميذة ردّت الكرّة إلى مرماه فراحت تمزح وتجيب على الأسئلة بطريقة أخاذّة، دون تردد:‏
      "اثنان وواحد؟ - ثلاثة. ثلاثة وواحد؟ - أربعة ..[..] سبعة وواحد؟ - ثمانية". لقد ذُهل المدرس لكنه أثناء حماسه واندفاعه ارتكب أخطاء لغوية تدعو للدهشة. "رائع، أنت رائعة، أنت لذيذة ساحرة، أهنئك بحرارة يا آنسة".‏
      بدأت المتاعب مع عملية الطرح: فلم تتمكن التلميذة من طرح ثلاثة من سبعة. بدّل المدرس الأرقام، وفتّش عن أمثلة، تناول قضباناً، وأعواد ثقاب، كتب على السبورة، عدّ على أصابعه، وراح ينظُّر فتحولت شروحاته لعملية الطرح إلى فلسفة عملية.‏
      - ليس الأمر كذلك، ليس الأمر كذلك أبداً. لديك ميل دائم للجمع، لكن يجب أن تتعلمي الطرح أيضاً. يجب أن لا نقتصر على الدمج فقط، يجب أن نفتت أيضاً، هذه هي الحياة، هذه هي الفلسفة، هذا هو العلم، هذا هو التطور، هذه هي الحضارة.‏
      توترت أعصابه وراح يصرخ، وهذه العدوانية الكلامية مرتبطة برغبة أكثر سريّة فضحتها الأمثلة الجديدة: "لو كان لك أنفان، وجدعت لك واحداً.. كم أنف يبقى لك؟ [..] لك أذنان فإن صرمت واحدة، لو أكلت واحدة، كم أذناً يبقى لك؟"‏
      لم تعد التلميذة تعرف ما تفعل أو ما تقول، صارت تخطيء في كل شيء فأصابها الرعب والذهول. ارتبكت وراحت تتخبط كأنها وقعت في مصيدة. فقدت ظرفها وثقتها. بدأ الحزن يسيطر عليها من وطأة التوبيخ. صارت تتحدث بكلمات من مقطع واحد: "نعم، يا أستاذ.. لا، يا أستاذ" وبدأ الإرهاق يظهر عليها أكثر فأكثر.‏
      يجب أن تتخلّى عن مشروع الدكتوراه العامة وتكتفي بالدكتوراه الجزئية. ترك الأستاذ الحساب وانتقل إلى معالجة العناصر الأساسية في اللسانيات وفقه اللغة المقارن للغات الإسبانية الجديدة، عندها ظهرت الخادمة من جديد وسحبته من طرف كمّه: "يا سيدي، أعط أي علم تريد إلا فقه اللغة، ففقه اللغة يؤدي دائماً إلى الأسوأ".‏
      "لقد بلغتُ سن الرشد يا ماري" أجاب الأستاذ إنه منتصب الآن، يتكلم وهو يقطع الغرفة، يدور حول التلميذة المتهالكة على كرسيها، في منتهى السلبية، كأنها منوّمة مغناطيسياً، ومشلولة، إنها تبذل، عبثاً، جهوداً لتسمع وتفهم، إنها تتألم.‏
      استرجع المدرّس الأصول التاريخية للغات الإسبانية الحديثة وأوضح أنها تتميز: "بأوجه التشابه المذهلة التي تجعل من الصعوبة بمكان التمييز بين لغة وأخرى". كانت الحصّة عبارة عن سلسلة من المقاطع تزداد طولاً وسرعة، وهذياناً. صار صوت المدرّس قاسياً عنيفاً. لم يعد يسمع التلميذة التي تتأوه: "أسناني تؤلمني" وها هو يزجرها بفظاظة. "لا أهمية لذلك؛ ولن نتوقف من أجل هذه التوافه، لنتابع..".‏
      كانت تلك الفترات الطويلة من محاضرة "المعلّم" تتقطّع بكلام مختلف تماماً: تهكمات، وقاحات، مخاطبة سوقية بصيغة المفرد، وسواها مما يقطع طوفان ذلك الحديث:‏
      - اسكتي وإلا حطمت جمجمتك! [..]‏
      - .. بلا وقاحة؛ أيتها الصغيرة؛ أو انتبهي لنفسك.‏
      تابع المدرس شروحاته بلهجة غاضبة. انتقل إلى مسألة الترجمة العسيرة، ولكي يعطي مثالاً، تناول سكيناً ضخمة راح يلوّحها أمام عيني التلميذة. طلب منها أن تردد كلمة سكين في مختلف اللغات وهي تحدّق بتلك الأداة عن قرب شديد. ارتجفت التلميذة آخر ارتجافة تمرّد ثم استسلمت، على إيقاع متقطع، لاهث، رتيب، راحت تردد مع المدرس: "سك..كين.. سك.. كين.. سك.. كين" وأخيراً قالت وقد اعتصرها الألم والذهول: "نعم، نعم.. السكين تقتل" ثم عرضت صدرها لطعنة السكين.‏
      رجعت الخادمة وراحت توبّخ الأستاذ بلهجة أمٍ قاسية وتنتقد سلوكه وقد غدا من جديد خجولاً متلعثماً. صفعته بعنف عندما حاول أن يطعنها خلسة، ثم حصلت منه على وعد بأن لا يعود إلى ذلك أبداً وساعدته في نقل الجثة لوضعها في تابوت.. مع تسع وثلاثين تلميذة كان قد قتلهن من قبل.‏
      دقّ جرس الباب، ذهبت الخادمة لتفتح، إنها تلميذة جديدة جاءت لتأخذ درسها..‏
      إيقاع الكلام:‏
      يمكن أن نقول إن عنوان المسرحية يحدد "موضوعها"، كما يمكن أيضاً الحديث عن عقدة لأن شخصاً يقتل شخصاً آخر، وهناك جريمة سادية، لكن المسرحية ليست هناك.‏
      مسرحية "الدرس" حركة درامية دون هدف، إيقاع محض مبنيّ على ميكانيكية الكلام، تصعيد يُخرج من الظلمة حقائق مخيفة. التوتر المتزايد ملموس أكثر من مواجهة البطلين على مدى المسرحية، وهما وحيدان ظهور الخادمة يشير إلى مراحل التطوّر، كما أن غياب الفصول والمشاهد يؤكّد الاستمرارية.‏
      ليست ميكانيكية الكلام في مسرحية "الدرس" هي ذاتها في "المغنية الصلعاء"، فبدلاً من الجُمل والقوالب التي تتخلع وتتفجر وتتناثر شظايا - أصواتاً، مقاطع، حروفاً، فإن اللغة هنا، تتبلور ثم تضيع من الشخص الذي يستخدمها. في بداية المسرحية، كانت أجوبة التلميذة كلاماً موزوناً، فما كانت تقوله ينطبق تماماً مع ما تريد التعبير عنه، ويعكس بدقة شخصيتها الواعية، على عكس المدرس العاجز عن تشكيل أفكاره، الذي يتحدث بنتف من جُمل فارغة. لكن تبدّل كل شيء خلال درس الحساب: الكلام ينتظم، يتماسك بدقة بواسطة الجمع: الكلمات، والجُمل تلتحم وتتراصّ لأنها وجدت في عالم اللاوعي مبدأ توحّدها. أصبح الحديث مستقلاً؛ وتضاعف نتيجة حيويته الذاتية. لم يعد المدرس يوجه أقواله "والدرس يسير في مجراه الذي تمّ تحضيره"، أو على الأصح أنه موجود ليكشف أسراراً جهنمية، علاقات عدائية مخفية تنشأ بين المدرس والتلميذة، ونتف ذلك "النقاش القصير" تندمج مع الحوار. بعض الأحاديث تكشف عن صراع مبهم تخوضه النزوات والغرائز. "أنت شهية" "لو جدعت أنفك" "ولو أكلت إحدى أذنيك". لم يعد للحوار من مهمة سوى توضيح عدوانية المدرّس وخضوع التلميذة. الكلمات تجسّد السكين. في مسرحية المغنية الصلعاء اغتيلت اللغة أما في مسرحية "الدرس" فإن اللغة هي التي تغتال.‏
      يفسر هذا التطور مناخ المسرحية. البداية هزلية لكن الجو العام يدعو للقلق لما كشفته الكلمات وأفصحت عنه. "دراما كوميديه" كما يشير العنوان الفرعي للمسرحية؛ لكن يتعذر تبرير ذلك العنصر الكوميدي: تتجمّد الضحكة على القلق والانزعاج، وهذا أمر مقصود لكي يصدم الجمهور ويضطره لرؤية ما يتظاهر أنه جاهل له، وإذا كانت المسرحية قد قوبلت في بارس عام 1951 بطريقة سيئة فإنها أثارت فضيحة في بروكسيل: لقد طالب المتفرجون باستعادة نقودهم، كما أن مارسيل كوفلييه، الذي لعب دور المدرّس، اضطر للهرب من باب خلفي.‏

      اعتداء اللغة‏
      تبيّن مسرحية "الدرس" بكل وضوح إغراء الفكر وسلطانه. كل انتقال للمعرفة يستوجب علاقة سيطرة وخضوع، وقوة طاغية ينتج عنها إذعان واعٍ.. إن تفوّق منْ يُعلّم يترافق مع لذة ترقى بلا شك ببعض أشكال السادية، وبغموض شديد، ينشأ بين المدرس والطالب، بين المعلّم والتلميذ حالة من الحب: الحديث التربوي غواية واعتداء جنسي.‏
      إن المطلق في المعرفة يقتضي التأمل في الحب: أليس هذا ما طلب أفلاطون من سقراط إعلانه في كتابه الوليمة"؟‏
      لكن الحب في مسرحية "الدرس" فسد وتشوّه. إنه اغتصاب. بل إن يونسكو يتحدث، في إحدى مقابلاته، عن ذلك الانجذاب المرضي نحو الجثث: "إنه رجل صغير، مصاب بالروماتيزم، مقوّس الظهر قليلاً، يؤدي دور المدرّس، أما شريكته، التلميذة، فإنها في صحة جيدة، وعافية. كان الإخراج رائعاً. كانت الأنوار الكاشفة تقطع على الجدار ظلال البطلين ممّا أعطى انطباعاً قوياً، خصوصاً عند مشهد تبدّل الموقفين. تلك الصبية التي تفيض صحة وقد امتصها عنكبوت ضخم هو المدرّس"(1) . هذا التقهقر، هذا الاعتداء السادي الذي لم يحفظ شيئاً من الحب، يأتي، في رأي يونيسكو من أن المفردات والكلام ليسا صيغة المعرفة، بل وسيلة لنقل الايديولوجيات، وأداة للتسلط، والقيد الذي تلجأ إليه كل أنواع العبوديات.‏
      هذا المعنى لمسرحية "الدرس" واضح - بل في غاية الوضوح، ومنذ ذلك الحين يصبح مختزلاً - فعند نهاية المسرحية تُخرج الخادمة من جيبها سلسلة عليها صليب معقوف وتقول للمدرّس: "خذْ إذا كانت خائفاً ضعْ هذه السلسلة، فلا يبقى شيء تخافه". لقد حُذف هذا المشهد من المسرحية، بقي إذن أن الكلام يستر - ويفضح في الوقت ذاته - الغرائز الكامنة.‏
      وجوه ملحّة:‏
      تشير شخصيات "الدرس" إلى موضوعات تناغمت وتكررت في المسرحيات التالية، ويؤكد تحوّل الأبطال الدور الذي تلعبه الوظيفة الاجتماعية في سلوك الفرد: أعني إن موقف المدرّس أو التلميذة يغيّر في صفات الشخصية.‏
      نجد، من ناحية أخرى، أن دور الخادمة غامض، فهي الضمير الأخلاقي لدى المدرس، إنها "الأنا العليا" بشكل ما؛ لكنها أيضاً الأم المتسامحة التي تؤنب ولدها على أفعاله السيئة، وتخضع لنزواته.. أما التلميذة فهي الحبيبة إلى حدّ ما. هاتان الصورتان تنتقلان من مسرحية إلى أخرى، تمتزجان حيناً ضحايا الواجب) وتنفصلان حيناً آخر الملك يموت) ويشكّل ظهورهما أحد خيوط الاستمرارية السريّة في مسرح يونسكو.‏
      أخيراً، فيما يتعلّق بالأساليب التي استخدمها يونسكو، يجب أن نشير إلى البناء الدائري للمسرحية، والتضخيم المضحك. لم يكن هذا التضخيم، في فترة تقديم المسرحية، أسلوباً مسرحياً مقبولاً من الجمهور، أو من المخرجين. يروي يونسكو، في هذا المجال، الحادثة التالية: "عندما قدّم بيترهال المسرحية في لندن رفض رفضاً قاطعاً أن يقتل المدرّس كل يوم هذا العدد الهائل من التلميذات. تلميذة واحدة أو اثنتان أمر لا يدهش أحداً، أمّا أن يقتل إحدى وأربعين تلميذة.. "بعد مساومات كثيرة توصّلنا إلى اتفاق يقضي أن يقتل المدرّس أربع تلميذات يومياً، أربع تلميذات هذا ممكن أما إحدى وأربعين فذلك مستحيل"(1) .‏
      تبين هذه الطرفة الصعوبات التي كان يواجهها الكاتب ليفرض شكلاً أو أسلوباً أدبياً جديداً - وفي هذه الحالة، باعتبار المبالغة مصدراً للضحك والقلق - وهكذا نرى كم كان "المسرح الجديد" يصدم، في بداياته، حتى أكثر الناس جرأة.‏
      "جاك أو الامتثال"‏
      في الفترة التي كتب فيها يونسكو مسرحية "الدرس" كان يكتب أيضاً مسرحية "جاك أو الامتثال". كان ينتقل من مسرحية إلى أخرى في اليوم الواحد تدفعه الرغبة في اكتشاف المسرح مستخدماً أساليب تتصف بالجرأة والعفوية.‏
      يمثّل الديكور غرفة رديئة الأثاث: مقعد مائل كرسي عتيق، أريكة مهترئة، حذاء قديم على الأرض، أغراض لا اسم لها، جاك متهالك على المقعد، قبعته على رأسه، صامت، منزعج. حوله شخصيات حزينة ذابلة - والد جاك، والدة جاك، جدّ جاك، جدّة جاك.. أخته جاكلين - يرددون لحن السخط على ذلك المتمرد، العاق، الذي تناسى كل التضحيات وخيّب كل الآمال.‏
      - والدة جاك: [..] أنا، يا ولدي، أول من ضربك على قفاك، وليس والدك الموجود هنا مع أنه كان قادراً على ذلك أفضل مني فهو الأقوى، لا، كنتُ أنا من فعل ذلك لأنني أحببتك كثيراً. أنا أيضاً من كان يحرمك من الحلوى، وكنت أضمك إلى صدري وأعتني بك، وأروِّضك، وأدرّبك على التطوّر، وأعلّمك الرفض، ولثغ الراء. أنا من كان يجلب لك أشياء لذيذة. درّبتك على ارتقاء الأدراج عندما توجد الأدراج، وكيف تفرك ركبتك بالقرّاص عندما تستدعي الحالة وخزك بالأبرة. كنت لك أكثر من أم، وصديقة حقيقية، وزوج، وبحّار، وكاتمة أسرار، وأوزة. لم أتراجع أمام أية عقبة أو أي متراس، لألبّي رغباتك الطفولية كلها. آه، أيها الابن العاق ما عدت تذكر عندما كنت أضعك على ركبتيّ لأنزع لك أسنانك الصغيرة اللطيفة؛ وأقصّ لك ظفر إبهام قدمك وأجعلك تخور مثل عجل صغير محبوب.‏
      رفض جاك الامتثال لأن هذا التأنيب لم يؤثر فيه. سيطر الرعب على العائلة من جرّاء هذا العناد فانسلّ أفرادها على رؤوس أصابعهم. بذلت جاكلين محاولة أخيرة، بعيداً عن الآذان المنصتة، والنظرات الفضولية - لكن كان أمام نظرات التاريخ، هذا صحيح - وأخبرت أخاها أنه "دقيق التوقيت". سيطر الخوف على جاك من هذا الاكتشاف فراح يتجوّل في الغرفة، ثم تداعى على المقعد، وغرق في تأملات عميقة، وبعد صراع عنيف قرر الامتثال وأعلن استسلامه: "حسناً، حسناً، نعم، أنا أشتهي البطاطا مع شحم الخنزير‍!".‏
      تعود العائلة، جميع أفرادها مبتهجون، يحتفلون بالابن التائب. تبالغ الأم في ملاطفته، ويقبل الأب أن يسامحه، ويدندن الجدّ بأغنية اعتاد تردادها السكارى، وراحت جاكلين، مثل رئيس الجوقة في المسرح اليوناني القديم، تشرح مزايا الاتفاق، بينما كان جاك يتعرّض للاهانات، ويترنم على جميع الأنغام: "اشتهي البطاطا مع شحم الخنزير.. أحبها.. أشتهيها..".‏
      لم يعد هناك وقت يضيّعونه، جاك جاهز، مستعدّ؛ ويجب تزويجه، يصفّق الأب بيديه: "لتدخلْ الخطيبة". تدخل عائلة روبير: الأم روبير، والأب روبير، سعيدان راضيان، ثم تدخل روبرتا في ثياب الزفاف، تغطي الطرحة وجهها، خجولة. يتفحص والدا جاك الخطيبة، يلمسانها، يجسّانها، يشتمانها، وتعلن جاكلين: "المستقبل لنا"، ثم يتمّ تعداد مزايا روبرتا بالتفصيل لكن جاك يقاطعهم، وعندما رُفعت الطرحة التي كانت تخفي وجه روبرتا ذا الأنفين، يعترض جاك ويطالب بخطيبة لها ثلاث أنوف: "لا أرضى بأقل من ثلاثة أنوف". يأخذ الأب روبير الخطيبة" ذات الأنفين" ثم يعود ومعه روبرتا بثلاثة أنوف، رغم ذلك استمر جاك في خلق الصعوبات وراح يناقش ويؤكد أن الخطيبة ليست بشعة بما يكفي، ثم تراجع عن خضوعه وامتثاله.‏
      ذهول وذعر، راح كل منهم يبتعد عن المرتدّ وهو يتمتم تعابير الاحتقار، أو بكاء الألم. روبرتا أيضاً تحاول الهرب لكن إشارة من والدها جمّدتها. إنها منذ الآن "الزوجة المفترضة" وحُكم عليها بالبقاء.‏
      جلست روبرتا أمام جاك، متواضعة، صامتة؛ ثم حاولت شيئاً فشيئاً أن تثير اهتمامه، وتغويه. راحت تصف نفسها وتروي قصتها: إنها الفرح والحزن، السلام والحداد، الحياة والموت، راحت تعدد مزاياها المتناقضة:‏
      ليس هناك امرأتان مثلي في هذا العالم‏
      أنا طائشة، تافهة، أنا عميقة‏
      لست جادة ولا هازلة‏
      أعرف نفسي في أعمال الحقول‏
      كما أعرف أيضاً أعمالاً أخرى..‏

      راحت تروي أيضاً أحلامها: خنزير الهند في مياه البانيو. على جسده تنمو زوائد كالفطر تتحوّل بدورها إلى خنازير هندية صغيرة، غباء الطحّان الذي كان يظن أنه أغرق القطط الصغيرة، وأحضر بدلاً منها مهاراً صغيرة، وألقى في المستنقع طفله الغالي: "جن الطحان، قتل زوجته، حطّم كل شيء، أشعل النار، ثم شنق نفسه".‏
      لقد روى جاك قصته الشخصية بعد أن شعر بالأمان، أما روبرتا فقد ذكرت المتناقضات: الخيول التي غرقت في المستنقعات؟ حصان مدينة الرمال، بينما كانت تروي حكايتها أصبح جاك فحل الصحراء، وإمام الشهوة: ينطلق مسرعاً على الأراضي المحرقة، في هواء جاف، وغبار أحمر، يدور حول المدينة التي تلتهمها النيران، يدور حول روبرتا، يصهل، يرتجف، يشبّ، لقد أصبح مشعلاً يفيض بالحياة، إنه يستنفذ قواه، ثم راح صهيله يضعف في الصحراء. آنذاك صارت روبرتا ماء، ماء من نبع أو من بركة راكدة، ثم أحاطت جاك بذراعيها:‏
      - تعال.. لا تخشَ شيئاً، .. أنا رطبة.. لديّ عقد من طين، ونهداي يذوبان، وحوضي غضّ، وفي ثغري نبع ماء إنني أغوص وأغرق. اسمي الحقيقي أليزا، في أحشائي مستنقعات وبُرك راكدة.. عندي بيت من فخّار..‏
      ينتهي هذا المشهد من الغواية بلعبة تعتمد على حزّورة المقطع الصوتي: شا:‏
      - روبرتا: ماذا يوجد على رأسك؟‏
      - جاك: احزري! إنه نوع من القطط، أضعه على رأسي منذ الفجر‏
      - روبرتا: هل هو قصر؟‏
      - جاك: إنني أبقيه طوال النهار على رأسي، أثناء الطعام، وفي الصالونات، لا أرفعه أبداً، إنه لا يفيدني في إلقاء التحية.‏
      - روبرتا: هل هو جمل؟‏
      - جاك: إنه يضرب بقوائمه لكنه يعرف كيف يشتغل في الأرض‏
      - روبرتا: إنه المحراث.‏
      - جاك: إنه يبكي أحياناً.‏
      - روبرتا: هل هو الحزن؟..‏
      ثم تستمر اللعبة: "سمك الأنهار، الضجيج، الزبون الدائم، الشاليه، زورق الإنقاذ، المداعبة.."(1) روبرتا‍‍‍! أمه، يا قطيّ!‏
      - جاك: يا قطتي، يا سيدة قصري..‏
      يحضن جاك روبرتا ويقبّلها على أنوفها الثلاثة بينما تحيط العائلتان الزوجين بدائرة تفتقد التهذيب والاحتشام. يشتد الظلام، ثم يُسمع مواء، وأنين، ونحيب، ثم تختفي الأشباح. يسود الليل، ثم يليه نور خفيف من جديد. نرى روبرتا جالسة القرفصاء، يكسوها ثوبها، تحرّك رأسها برفق، وتجمع الأصابع التسعة في كفّها كما لو أنها من الزواحف. ‏
      3 يوميات مفتتة، ص34.‏
      1 يوميات في فتات ص34.‏
      2 راجع مثلاً يوميات في فتات ص110-1127-197-212-240...‏
      3 حاضر ماض ماض حاضر، ص79.‏
      4 يوميات في فتات ص99.‏
      5 حاضر ماض ماض حاضر، ص59.‏
      1 حاضر ماض ماض حاضر ص228.‏
      2 ربيع 1939 ص236.‏
      3 المصدر السابق ص228.‏
      4 حاضر ماض ماض حاضر، ص40.‏
      1 محاورات مع كلود بونفوا ص10.‏
      2 يوميات في فتات، ص54.‏
      1 يوميات في فتات، ص239.‏
      2 المصدر السابق ص211.‏
      3 المصدر السابق ص188.‏
      1 يوميات في فتات، ص227.‏
      2 المصدر السابق ص95.‏
      1 محاورات مع كلود بونفوا ص77.‏
      2 تصريف الطاقة: ظاهرة مؤداها انطلاق الطاقة الانفعالية المكبوتة.‏
      3 محاورات مع كلود بونفوا ص42، 80.‏
      3 محاورات مع كلود بونفوا ص42، 80.‏
      4 المصدر السابق ص29.‏
      5 من مقدمة "الممسوسون" ص28.‏
      1 ربيع 1939، ص181.‏
      2 المؤلف ومشاكله.‏
      3 يوميات في فتات، ص30.‏
      4 المصدر السابق ص43.‏
      5 المصدر السابق ص43.‏
      1 ملاحظات وملاحظات مضادة.‏
      2 تجربة المسرح.‏
      3 المؤلف ومشاكله.‏
      1 فيلياس فوغ، بطل رواية حول العالم في ثمانين عاماً.‏
      1 هذا المقطع لا قيمة له من حيث المعنى، لكن كلماته كلها تحوي المقطع الصوتي Ouche): couche, Nitouche,mouche,babouche,touche... وهذا برهان على ما ورد سابقاً.‏
      1 تراجيديا اللغة.‏
      2 سيمون بن موسى، يونسكو، ص87.‏
      1 مسرح البولغار: المسرح الذي يقدم الأعمال الهزلية التي تتحلق عامة الشعب.‏
      1 الغودفيل: مسرحية هزلية خفيفة.‏
      1 من مقدمة كتاب "المسرح" دار نشر غاليمار).‏
      1 محاورات مع كلود بونفوا. ص120.‏
      1 محاورات مع كلود بونفوا. ص111.‏
      1 تعتمد هذه الحزورة على المقطع الصوتي "شا cha" في كلمات: chat - chateau- chameau- charrue- chagrin- chabot الخ.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو

        مسرح الحلم
        يستكشف يونسكو في هذه المسرحية عالم الأحلام، إنه يستخدم جميع أشكال الأحلام والعلاقات التي يمكن أن تربط الحلم بالمسرح.‏
        روبرتا هي قطب الحلم في المسرحية إذ أنها بأنوفها الثلاثة، وكفّيها ذات الأصابع التسعة تكتسب غرابة صورة ليلية، كما أن كل ما ترويه خلال مشهد الإغراء، وكل ما يقوله جاك لها، ينبثق ذلك كله من رؤى النوم. خنازير الهند، الطفل الغريق، العصافير الميتة، حصان الصحراء، المرأة - المنظر: هذه الصور، وحكايات الأحلام نقلها يونسكو مباشرة. بعضها قديم: صورة الحصان وردت أيضاً على صفحات "مذكرات 1938". إنها سلسلة من الأحلام تشدّها إلى بعضها صبغة واحدة: الغبار، الجفاف، النار، الأشعة الحمراء، المشعل.. ليس هناك أي بناء روائي أو أي ترتيب وصفي. بما أنه يتبع بدقة سير الحلم فإن يونسكو يرصف الصور البدائية، ولكي يجعلها مناسبة للمسرح اكتفى بأن، جعل جاك يرافقها بحركات إيمائية. هناك أحلام أخرى نالت عناية أكبر فأخذت شكل الحكاية؛ تشكّل عناصرها سلسلة زمنية، لكن في مختلف أنواع الأحلام خضع الترتيب لمنطق الحس.‏
        لم يحمل أي من الأحلام المذكورة بُعداً رمزياً واضحاً، ولم يكتسب أي منها مغزى خاصاً، إذا كان جاك قد شرح، بلا تردد، حلم خنزير الهند - "لكن هذا هو السرطان، إن السرطان حقاً هو ما رأيته في حلمك! إنه ذلك حتماً!" - فإن هذا النوع من الشروحات الجاهزة، وهذه اللهجة الحاسمة تقلّدان موقف المحلل النفساني. الصور المعروضة صور نموذجية: النار، الماء، لا يظهر مغزاهما الجنسي إلاّ إذا وضعتا في موقف محدّد: مشهد الإغراء، والرجل والمرأة، والإيماء الذي يرافق الحوار. بذلك تتجه الصور نحو معنى واحد يربطها إلى بعضها البعض، فمن ناحية هناك اللهب والحديد المحميّ، والنار عبر جلد شفاف، وصراخ الرعب والألم.. ومن ناحية أخرى رطوبة الماء، ونعومة الزبد، والظلال، والطين، والمستنقعات: وهنالك الصنم والغوص في العمق.‏
        أساليب السيرك‏
        مقابل الحلم، نجد القطب الآخر للمسرحية، ألا وهو الهزل الذي يقدّمه مسرح العرائس والسيرك.‏
        لا يتطابق التمثيل في مسرحية "جاك" مع النص، فحركات الممثلين في البداية، وطريقتهم في تقدير مفاتن روبرتا، وخصوصاً الرقص الفاحش حول العريسين المتعانقين ما هي إلا مشاهد إيمائية حيث يصبح الحوار، إذا ما وُجد، تافهاً، لا قيمة له، عندها يحمل الإيماء مغزى المسرحية.‏
        في مشهد الغواية يصبح الإيماء نوعاً من المسخ، يتحّول جاك إلى فحل، عندما أدّى جان -لوي ترئتينيان الدور على مسرح لاهوشيت كان يعدو ويصهل قبل أن يرتمي على قدمي روبرتا، منهكاً، وقد دفن رأسه في طيات ثوب الزفاف، كان الوهم مزعجاً حتى الدوار.‏
        من ناحية أخرى، اقترح يونسكو في إرشاداته المسرحية أن تضع كل الشخصيات أقنعة، عدا جاك. عند تقديم المسرحية اكتفى الممثلون بتبديل سحنتهم وكان ذلك كافياً لسلبهم إنسانيتهم. إنهم شخصيات كاريكاتورية، يؤكد تمثيلهم لا واقعيتهم ويجعل الجمهور يفكر بالمهرجين أمّا قناع روبرتا فكان ساحراً تشير رمزيته إلى آلهة الخصب والجنس في بلاد الشرق).‏

        مسخ اللغة‏
        تابع يونسكو في هذه المسرحية ما يمكن أن ندعوه: "تمارين في الأسلوب" إنها دراسة في تشوهات الكلام، مسرحية "جاك" مسرحية "مكتوبة" بإتقان.‏
        في المغنية الصلعاء تفجّرت المفردات، أما هنا فإنها تكشّر، والحوار بدّل سحنته، مثل الوجوه، ومن هذا التشويه المزدوج يولد الضحك: "أنا أم تعيسة، لقد وضعت في هذا العالم مسخخاً مسخاً) un mononstre "يا أخي العزيز أنت كررّيه vilenain" "باختصار لست هنا لأنشد له المددائح المدائح) égloge" "لقد نشأ نشأة لا غبار عليها مثل أرسنقراطي، arishograve"..‏
        من التشويهات الأكثر براعة استخدام كلمة بدلاً من أخرى، وينشأ الضحك آنذاك من الالتباس في الدلالات: "لقد نشأ.. في أسرة من علقات حقيقية" "كم أنت كريم.. أوه، أيها الأب الفقير". "أطلبُ إصلاحات، واعتذارات، وإيضاحات، وغسيل شامل لشرفنا" "لا تربت على دماغك، فذلك لا يساوي مجرفة" "هذا الابن، هذا العار، قصة أخرى من قصص النساء".‏
        كما أن تماثل صوت الكلمات يشكل وسيلة للإضحاك: "تقول إن ذلك كله ما هو إلاّ لامتاع جوبتير"(1) . "على كل حال ليس هناك ما تخشاه إنها جمجمة من الكريما"(2) "إنه أجنبي عنيد"(3) . رغم ذلك، فإن التلاعب بالجرْس والرنين غالباً ما يكون نوعاً من السحر أو صيغة لتعويذة شعرية. يخلق السجع مجموعات من صور غير متوقّعة، وهذا شكل من أشكال الإغراء عند روبرتا: "إنك تغوص وتذوب في شعري الذي ينسدل كالمطر، كالمطر. ثغري يقطر، ساقاي تقطران، كتفاي العاريان يقطران، شعري يقطر، كل شيء يقطر، يسيل، كل شيء يقطر، السماء تقطر، النجوم تسيل، تقطر، تتجمد.." نجد أيضاً تلاعباً بالألفاظ والأصوات في نهاية الحوار بين جاك وروبرتا.‏
        أخيراً، فإن يونسكو يُدخل في الحوار بعض اللصاقات collages. إنه يورد في أشدّ اللحظات ابتذالاً استشهادات تاريخية أو أدبية. إنه يستعيد تفاهات "حكمة الشعوب" فيُعيد عنصرُ الإضحاك الناتج عن ذلك طرحَ مسألة الأحكام الجمالية أو الأخلاقية التي لا خلاف حولها: "برهني أنك أخت جديرة بأخ مثلي.." "أيتها الكلمات، كم من جرائم تقترف باسمك!" "ليس للحقيقة سوى وجهين، لكن وجهها الثالث هو الأفضل".‏
        تمرّد مزدوج‏
        مسرحية "جاك" صورة ساخرة للمسرحية المسلية وموضوعاتها المفضّلة: عودة الابن الضال، العائلات المشغولة بتزويج أبنائها، عقدة تنتهي بزواج يرضي الجميع.. لكن هذه السخرية تعكس تمرداً مزدوجاً.‏
        جاك متمرد على أسرته، أي أنه متمرد على الكذب، والتفاهة، والخسّة، والخيانة - "الطيبة" كلمة على كل لسان، السكين الدامية بين الأسنان" - لقد صرّح لروبرتا أنه حين ولادته لم يكن "قد تجاوز الرابعة عشرة بكثير". سن الرابعة عشرة، إنها السن التي يبدأ فيها المرء اكتشاف العالم إذا كان العمل الأدبي ينقل تجربة حياتية)، وإنها سن يونسكو عندما سافر إلى رومانيا. رفض جاك الخضوع والامتثال وقد عبّر عن ذلك: "لقد أكدوا لي أن في الزواج علاجاً؛ وعدوني بالأوسمة، وإمكانية نقض الاتفاق، وعدوني بالزينات، بأزهار جديدة، بسجاجيد أخرى". ثم جاءت الاغراءات والدعوة إلى التعقل، واستخدام العواطف، الشفقة والحب، ثم جاءت المصيدة. استسلم جاك وأعلن عن قبوله لعالم الكبار: يشكل اعترافه لروبرتا الارتعاشة الأخيرة لتمرده ونقائه: "لقد سدّوا الأبواب والنوافذ، لقد أخذوا السلالم.. ما عاد أحد يهرب عن طريق العنبر. لم تعد ثمة وسيلة للهرب من الأعلى.. قالوا لي، رغم ذلك، أنهم تركوا فتحات في كل مكان تقريباً.. ليتني أكتشفها.. إنني أتحرّق للهرب..". وعدت روبرتا أن تساعده، فهي تعرف تلك الفتحات، وقد نالت ثقة جاك، لكن هي الأخرى ما هي إلا مصيدة.‏
        أما المغزى الثاني للمسرحية فهو التمرد على الملذات الجسدية الساحرة الكريهة في آن معاً. المتعة الجنسية مصيدة للزوجين وقد عُرضت هنا بصورتها البيولوجية، يشير العنوان الثانوي للمسرحية إلى ذلك "كوميديا طبيعية". لقد أيقظت روبرتا جاك على الملذات الحسية عن طريق الإيحاء أو باللجوء إلى الصور التي تعبّر عن ماديّة الرغبات الجسدية: حلم الحمّى، حلم العطش والانجراف، في بيت الفخار، هناك ذبابات ضخمة، وصراصير، وبقّ، وضفادع، كما أن ذراعي روبرتا حيّتان.. يستبعد هذا الحلم كل الصور التي تترجم روحانية العلاقات العاطفية.‏
        انجذاب ونفور: يعبّر عن هذا التناقض أغنية روبرتا التي تذكر المزايا كلها وما يناقضها أيضاً. إنها "لبهجة الموت في الحياة.. فرح الحياة والموت". إنها كل ما تقدّمه الحياة وما تحرم منه، امرأة ذات وجوه متعددة. آلهة ذات صفات لا تنتهي.‏
        تصبح المتعة الجنسية كريهة عندما تسخّر لخدمة مخططات العائلة. الزواج هو الخطوة الثانية إلى "امتثال" الفرد لقوانين الجماعة الاجتماعية. العائلتان، المتآمرتان، تلجآن إلى شتى أصناف الحيل للوصول إلى غايتهما، وروبرتا ليست سوى الأداة. هذه الفكرة المعروضة هنا، تناولها يونسكو مرة أخرى في تتمة مسرحية "جاك".‏
        بالاعتماد على الأساليب التي استخدمها، وعن طريق استكشافه للغرائز، ومن خلال مغزى المسرحية، فإن "الامتثال" مسرحية جريئة، عنيفة، بلا جدال.. كان لابد من الانتظار حتى عام 1955 حتى تجرّأ روبير بوستيك وقدّمها على مسرح لاهوشيت، وقد قوبلت بأشكال مختلفة: صفّر لها جمهور لندن، واستهجنها جمهور نيويورك، ومُنعت في مدريد(1) .‏

        "المستقبل في البيض"‏
        كانت جاكلين تنادي "المستقبل لنا!" وفي عام 1951 أتبع يونسكو مسرحية "جاك" بمسرحية أخرى تحت عنوان "المستقبل في البيض" أو "يلزم كل شيء لصنع العالم".‏
        نجد في هذه المسرحية الأشخاص أنفسهم مع تبديل بسيط: بعد أن توفي الجدّ استقرت صورته في إطار مذهّب. جاك وروبرتا متعانقان جالسان على الأرض وسط الغرفة يموءان: "مياو.. مياااا و.. رون.. رررون.. رووون.." الوالدان يهزان رأسيهما، يرفعان كتفيهما، ينتظران بنفاذ صبر. مرّة أخرى تتدخل جاكلين: إنها هنا لتدفع الحدث إلى الأمام ولتصحح المواقف) "يكفي، أقول هذا يكفي!".‏
        تهزّ الزوجين اللذين يتوقّفان عن المواء، ويستيقظان بصعوبة، ينهضان ويطلبان الطعام. يحضر الأهل طنجرة من الفخّار.. ملأى بالبطاطا مع شحم الخنزير. يهجم عليها جاك وروبرتا ويأكلان باليدين. يطلبان المزيد من شحم الخنزير.. المزيد من البطاطا.. "قدّموا لهما ما يطلبان، يقول والد جاك إلى جدّة جاك، شحم الخنزير يساعد على تحسين النوع".‏
        يُنقل إلى جاك نبأ وفاة جدّه، وبما أنه لم يصدر عنه أي ردّ فعل، ولم يظهر الحزن عليه، تحاول العائلة "العزف على الوتر الحساس" من خلال مشهد طويل لتبادل التعزية.‏
        الأمور الهامة تنتظر، والزمن يضغط. تُوقف الأسرة مشهد التعزية، والجدّ الذي كان قد شارك في التعازي يعود إلى إطاره المذهّب. يشرح والد جاك لولده أنه، بعد هذه الوفاة، يتحتم عليه أن يحقق استمرارية العرق الأبيض من خلال "إنتاج منتوجات جديدة بديلة"، وبينما تتعالى هتافات "يعيش العرق الأبيض" يتم إحضار روبرتا. يسمع الحاضرون قرق الدجاجة في الغرفة المجاورة: "بق، بق، بقيق.." بينما يتهالك جاك على مقعد ويشدّ على نفسه كأنه "يعاني آلام المخاض".‏
        يُنقل جاك إلى ماكينة التفقيس. تحضر سلال ملأى بالبيض ويُنثر البيض تحته وفوقه ويتعالى صراخ: "إنتاج.. إنتاج.. يعيش العرق الأبيض" ثم يتمدد جاك بصعوبة وهو يردد: "توف، توف، توف.." ويدور الحديث عن المستقبل:‏
        - أفكرُ بمستقبل هؤلاء الأطفال جميعاً.‏
        - ماذا سنفعل بهذه السلالة؟‏
        - لحم يوزّع بالشاحنات.‏
        - وسنحتاجه لصنع العجّة.‏
        - وربما خلقنا منه رياضيين؟‏
        - وسنحتفظ بقسم منه لإعادة الإنتاج.‏
        - وقسم لصنع المعجنات.‏
        - وقسم للفطائر المحشوّة.‏
        - وسنصنع من قسم منه ضباطاً، ومسؤولين، وشبه مسؤولين، سوف يخلقون من ذلك الإنتاج مختلف الأشخاص والأشياء: خدم ومدراء عمل، صوف للحياكة، باباوات، ملوك، أباطرة، رجال شرطة أصحاب نزعة إنسانية، انتهازيين، ثوار.. يلزم كل شيء لخلق العالم.‏
        تطول هذه القائمة وسط الحماس العام، على إيقاع متسارع لعملية إحضار السلال الملأى بالبيض، واللهاث: "توف، توف" والقرق: "بق، بق، بقيق..".‏
        هجاء معنوي:‏
        التشابه واضح جداً بين مسرحية "جاك" ومسرحية "المستقبل في البيض": الأشخاص أنفسهم، الوقت ذاته، كما نجد أيضاً الفظاظة نفسها، وبذاءة الكلام، وفحش المواقف، وتشوّه اللغة، واستخدام الأقنعة، والماكياج.‏
        الإيقاع متصاعد باستمرار. المشاهد المتتابعة - استيقاظ الزوجين، الوجبة، التعزية، الولادة، حضن البيض - تترابط وتتسارع حتى تفقد كل عنصر إنساني وتجعلنا نحلم بالحركات الميكانيكية في الإنتاج حسب مذهب تيلور(1) .‏
        تعتمد المسرحية على شعارات تحديد النسل والخصوبة، إنها هجاء مسلٍ، ناجح، لكنها ليست أكثر من هجاء. نقطة انطلاقها تعتمد على فكرة وليس على تجربة حياتية صادقة. تمثّل الصور المسرحية مواقف كاريكاتورية ولا تجسّد أحلاماً: ولا تمدّ المسرحية جذورها إلى ظلمات الرغبة والغريزة، كما أنها لا تعبّر عن تمرّد أو ثورة. إنها تمرين ناجح، وطريقة تجعل من صاحبها سيّد الأساليب المسرحية.‏
        مسرحيات قصيرة:‏
        إلى هذه الفترة من الاكتشافات المسرحية - عامي 1950 - 1951- تنتمي مشاهد منعزلة، اسكتشات مبنية على التلاعب باللغة، وأخرى تقوم على استخدام أساليب مسرحية جديدة.‏
        قدّم جاك بولييري سبعاً من هذه المسرحيات القصيرة على مسرح لاهوشيت، في أيلول 1953 وهي: صبية للزواج، معرض السيارات، هل تعرفونه؟ المعلم، ابنة الأخ تتزوج، الزكام في الحلم، الحرارة المرتفعة(1) ، إضافة إلى اسكتش "التحية" الذي لم يقدم على المسرح مع مسرحيات أخرى جديدة. حتى عام 1969.‏
        نرى في اسكتش "التحية" وهو بداية مسرحية لم تكتمل، ثلاثة أشخاص وهم ينوعون في التعبير المألوف "كيف حالك"؟ وفي الصالة أربعة مشاهدين يعلّقون على ظروف الحال، المأخوذة من المعجم، أو التي اخترعها يونسكو.. ترد هذه الظروف حسب ترتيب أحرف الهجاء: بخير، بتضخّم، مقطوع الرأس، بطريقة برمائية.." وينتهي المشهد على النحو التالي:‏
        - السيد الأول: أنا في حالة رائعة، أنا في صحة يونسكية!‏
        - السيد الرابع: كنت على يقين من ذلك، الكلمة الأخيرة متوقعة تماماً.‏
        نجد الأسلوب نفسه في اسكتش "الزكام في الحلم" حيث يقترح صيدلي على زبون مصاب بالزكام قائمة من الأدوية ذات أسماء غريبة.‏
        أما اسكتش "معرض السيارات"، وهو في الأصل اسكتش إذاعي، فهو لعبة أخرى من ألعاب اللغة: يبقى بناء الجملة صحيحاً، دقيقاً، أمّا الحوار فيصوّر حديثاً في معرض السيارات،ـ لكنّ كلمات ضائعة تحلّ محلّ الكلمات التي يتوقّعها السامع، والضوضاء الخلفية التي نسمعها تمثّل أصوات خمّ الدجاج.‏
        - البائع: هذا هو نموذجنا الأول، إنه جان راسين بأرع عجلات .‏
        - السيد: خمس عشرة؟‏
        - البائع: نعم خمس عشرة، لكنك تستطيع إضافة عجلة رابعة بكل سهولة.‏
        - السيد: لا تكرر ذلك، خمس عشرة عجلة ما هي أبداً سوى اثنتا عشرة، هذا معروف، يمكن إنقاذك من الخطر ولو كنت على بُعد إصبعين فقط، إعجاباً بمهارتك كسمكري..‏
        وفي المسرحيات الأخرى، يعتمد العمل على الرؤية بشكل خاص. ففي مسرحية "ابنة الأخ تتزوج" ترى مشاهد تهريجية حول موقف طلب الزواج. أما مسرحية "هل تعرفونه؟ فهي مشهد من الستربتيز "التعرّي" الأخلاقي والجسدي.. أما مسرحيات "صبية للزواج" و "السيد" فإنهما تعتمدان على لعبة مسرحية ختامية: الصبية الخجولة التي يتحدث عنها سيد وسيدة في حوار يكدس كل توافه الحديث المطر والطقس الجميل، غلاء الحياة، الصحون الطائرة، الخ..) ما هي إلا رجل عريض المنكبين، كثيف الشاربين، ذي صوت جهير. أما المعلم الذي ينتظره المعجبون بشوق، ويتم الإعلان عن قدومه على طريقة الحزورة العدّية: "إنه يستعد.. يأكل حساءه.. مرّ من هنا.. سيمر من هناك.. ها هو يصل..". هذا المعلم رجل بلا رأس.‏
        هذه المسرحيات القصيرة، الملأى بالحيوية والحماس، المكتوبة ببراعة، يسّرت ليونسكو اكتشاف الأساليب والحيل المسرحية. إنها فترة "الاكتشافات" لقد جرّب مختلف الإيقاعات المسرحية.‏
        وفي الوقت نفسه كتب مسرحية "الكراسي".‏
        "الكراسي"‏
        يعود تاريخ كتابة الكراسي إلى نيسان - حزيران 1951. قدّم سيلفان دوم المسرحية على مسرح نوفو لانكري في 22 نيسان 1952. لقد كانت كارثة رغم التصفيق الحار الذي قابلها به أداموف واوديبرتي ليلة بعد أخرى ورغم مقال "دفاع عن الكراسي" الذي ظهر في مجلة "فنون" ويحمل تواقيع كونو، سوبرفيل، أداموف، وبيكيت. "هذا التهريج المأساوي" الذي يراوح على حدود الضحك والرعب، صدم الجمهور بتقنيته وأسلوبه. لكي تعرف المسرحية النجاح، كان لابد من إعادة تقديمها عام 1957 من إخراج جاك موكلير الذي كان أقل تجريداً من سيلفان دوم، كما أن التمثيل كان أقل تهريجاً، والشخصيات أكثر "إنسانية" وباختصار، كان الإخراج مطمئناً أكثر والجمهور أكثر انفتاحاً.‏

        يعرض الديكور غرفة عارية تقريباً، ذات جدران دائرية.. إنها برج وسط جزيرة، يحرسه عجوزان: الرجل في الخامسة والتسعين من عمره... قرون عديدة؛ أما المرأة، سميراميس، ففي الرابعة والتسعين من عمرها... الرجل جاثم على كرسي، يراقب عبر كوة صغيرة، تأتي المرأة وتشده من كمّه، تسحبه، تجلسه على ركبتيها: كلاهما يستعيد الماضي، يجتر حكايات قديمة، يتسلى بالأحداث اليومية المتكررة، يلوك الطموحات المجهضة:‏
        -[..] آه، صحيح، أنت بالتأكيد عالم عظيم، أنت موهوب يا حبيبي، كان باستطاعتك أن تصبح رئيساً أو ملكاً أو دكتوراً أو ماريشالاً، فقط لو كان لديك قليل من الطموح..‏
        لم يعرفا في الحقيقة سوى الرغبات والحسرات، لقد انقطعا عن العالم، ومنذ خمسة وسبعين عاماً وهما يلعبان، لوحدهما، يومياً، لعبة كأس الشاي، ويستعيدان حكاية "لقد ضحكنا إذن..". ويكرران وصف باريس "مدينة النور التي انطفأت منذ أربعمائة ألف سنة". يتعب العجوز في النهاية ثم يبدأ في البكاء طالباً أمه. تواسيه العجوز وتهدهده، ثم تحدثه عن "رسالته في الحياة". يهدأ فجأة، يغادر ركبتي المرأة ويصبح على التوالي: "رجلاً، جندياً، رقيباً في المدفعية.‏
        - أنا صاحب رسالة، لقد قلت حقاً، أنا أناضل، مُكلّف بمهمة، عندي شيء في بطني، عندي رسالة أوصلها إلى الإنسانية جمعاء..‏
        دعا "أصحاب الأملاك والعلماء" للاستماع إليه: حرّاس، أساقفة، أصحاب فنادق وبنوك، بروليتاريون وموظفون، أطباء نفسانيون ومعهم مرضاهم، "كلهم، كلهم، كلهم، إنهم، في المحصلة علماء وأصحاب أملاك" وبما أنه يفتقد طلاقة الحديث فقد استأجر خطيباً.‏
        وصل المدعوون فسمع صوت انزلاق قارب على الماء، ورنين جرس الباب. يستقبل العجوز سيدة غير مرئية، يرحبان بها، يجلسانها، ويبدآن الحديث.. فسمع رنين الجرس من جديد. يدخل، دون أن نرى أحداً، كولونيل مزين بالأوسمة، ثم سيدة كان العجوز يحبها في الزمن الغابر، ثم حفّار كليشهات، وآخرون، وآخرون أيضاً. يؤدي العجوزان مراسم الاستقبال ويعرفان المدعوين على بعضهم البعض، ويفتحان باباً ويحضران كراسي ويبدآن أحاديث مع المدعوين. يذكّر الرجل العجوز "الحسناء" بحبهما القديم لكنها تغازل حفّار الكليشهات وتتظارف بقبح وبذاءة. يزداد رنين الجرس، يزداد عدد المدعوين اللامرئيين، ويتم ترتيب الكراسي المرئية على منصة المسرح، الكراسي التي يحضرها العجوزان بتسارع متزايد، وفي النهاية صارت الكراسي تأتي من تلقاء نفسها.‏
        لم يعد العجوزان قادرين على الحركة والانتقال: المدعوون كثر، والكراسي تزحم المكان.. ينحران بكوعيهما، ويطلبان من المدعوين الجلوس. لقد جمدا، كل واحد في طرف بعيد من المسرح.‏
        يتعالى صوت للأبواق: نور مبهر يعلن عن وصول للإمبراطور. يعبّر العجوز، وقد أربكه النبأ، عن فرحه وفخره، ويعلن، ما بين النحيب والاستغراب، إخلاصه، وذله، وفشله. يطلب العدل، وتردد العجوز نهاية كلماته كأنها صدى ساخر.‏
        بينما كان الخطيب يدخل بصمت، ويصعد إلى المنصة، ويوزع الصور، راح العجوز يشكر الإمبراطور والجمهور:‏
        - يا صاحب الجلالة؛ لم نطلب، أنا وزوجتي، شيئاً من الحياة. يمكن لحياتنا أن تنتهي في هذه الخاتمة المجيدة.. شكراً للسماء التي وهبتنا هذه السنوات الطويلة الهادئة. لقد كانت حياتي ملأى تماما. أديت رسالتي. لن تكون حياتي بلا جدوى، إذ أن العالم كله سيعرف رسالتي [..].‏
        - نعم، نعم، لنمتْ ونحن في أوج مجدنا.. لنمتْ كي نصبح أسطورة.. سيستمر شارع باسمنا على أقل تقدير..‏
        يرمي كل من العجوزين نفسه من النافذة وهو يصرخ: "عاش الإمبراطور" يأخذ الخطيب مكانه، يفتح فمه، لكن لا يخرج منه سوى التأوهات، وأصوات حلقية، إنه أطرش، أخرس.‏
        كوكبة موضوعات‏
        تقدم مسرحية "الكراسي"، بالمقارنة مع المسرحيات السابقة، موضوعات أغنى، وبناء درامياً أكثر تجريداً، ورمزية أكثر تطوراً.‏
        مرة أخرى، يقدم يونسكو الزوجين على المسرح لكنه يقدمهما هذه المرة تحت نور جديد.. ترك العجوزان خلفهما ماضياً؛ تاريخاً حقيقياً أو وهمياً، ذكريات، وحسرات، وأحلاماً. يمثل الزوجان هنا حقيقة أخلاقية لا بيولوجية، وهذا المنظر يفسر شبكة الموضوعات في المسرحية.‏
        يذكر عمر العجوزين بموضوعة الزمن الذي يستهلك ويتلف. العجوزان لا يتمتعان بـ "حكمة الشيوخ" حديثهما هذيان، نسيج من غباوة يلف مواضيع تافهة. الزمن يستهلك الذكاء، ويتلف العواطف أيضاً. سأم دبق ثقيل مثل الماء الآسن في بركة راكدة يغلّف كلّ القسم الأول من المسرحية، كما أن الملهاة التي يتسليان بها لم تخدعهما إلا منذ اللحظة التي تحوّل فيها الحلم إلى هذيان، اللحظة التي ملآ فيها وحدتهما بأشخاص وهميين.‏
        الزمن هو الموت أيضاً، موت عبثي كريه، انتحار الزوجين غرور وتفاهة: لن ينقل أحد رسالتهما، ولن يدخلا عالم الأسطورة، ولن يُكتب اسماهما على لوحة معدنية في شارع. ليس هناك، في رأي يونسكو، موت مشرق لذيذ، ونهاية المسرحية استهزاء قاس من أسطورة فيليمون وبوسيس(1) .‏
        لقد ارتدى الخوف من الموت قناع الحنين إلى الطفولة. عندما انتحب العجوز بين ذراعي المرأة، وراح يشكو يتمه، ظنّ أنه يخدع الزمن. لقد واسته، وقامت بدور الأم، وشاركته لعبته وجنونه.‏
        لكن موضوع الطفولة يأخذ بُعداً آخر عندما يتحدث العجوزان عن ولدهما؛ الولد الذي رغم توسلاتهما تركهما بلا عودة "عندما بلغ السابعة، وهي سن الرشد" كما قالت العجوز. ذكرى أم حسرة، فإن هذه الصورة تسيطر عليهما، هل الطفولة فردوس حقاً؟ لقد روت العجوز كيف أدرك طفلها فكرة الشر.‏
        تتحدث العجوز، من ناحية أخرى، عن حنان زوجها تجاه ولده، أما الرجل العجوز فقد روى كيف تخلى عن أمه وتركها تموت وحيدة في حفرة. يوضح كلامه المتناقض حقيقة مبهمة دائماً: سن البراءة هو أيضاً سن القسوة: "يتخلى الأبناء عن أمهاتهم دائماً، ويقتلون آباءهم تقريباً، هكذا هي الحياة..".‏
        أخيراً، هناك في حديث العجوزين كلّ الأحلام الضائعة. تتحدث المرأة عن عبقرية زوجها: "لو كنتَ أردت.." تحدثت في كل ما كان بإمكانه أن يكونه أو أن يفعله. لقد أعطت نفسها أهمية لأنها وجدت العنب الحامض: "ماذا كان ذلك سيقدم لنا؟ ما كانت حياتنا تغدو أفضل" تبادلت مع حفّار الكليشهات أحاديث جنسية، كما أن تصرفاتها الداعرة تكشف عن شخصية مكبوتة. أما الرجل العجوز فقد حدّث "حسناءه" عن حب لم يجرؤ على إعلانه وبقي مثل شوكة في حلق الذكريات.‏
        هكذا نرى أن صورة الزوجين استُخدمت مثل قطب تتمحور حوله جميع الأفكار في حياة لم تعرف سوى الفشل، موضوعات المسرحية تشكّل كوكبة لحياة ضائعة.‏
        "الكلامــــــية"‏
        الحركة الدرامية التي تنظّم الموضوعات هي أولاً سيل الكلام. الذكريات والأحلام، الشخصيات اللامرئية لا وجود لها إلاّ من خلال الكلمات التي توحي بها. يتحدث العجوزان، يكرران، يجتران، فتتبلور حقيقة ما. لكن إذا بدا أن العجوزين يفكران بما يقولانه، في البداية، فإننا نشعر بسرعة كبيرة، وبوضوح يزداد تدريجياً، أنهما لا يفعلان سوى نقل كلام ينتظم من تلقاء نفسه، وحسب آلية واضحة. إن شيئاً ما يتحدث عبر الشخصيتين.‏
        تتراصف الكلمات، في حالتها الأولية، كما في المعجم، أما في ثرثرة العجوزين فيتحول السرد إلى إحصاء، إلى ترابط تلميحي للصور: كما في تقسيمات الزمن وأجزاء الجسم، أو أسماء المهن أو الأمراض التي تسببها الفيروسات.‏
        - لقد كنا مبللين تماماً، متجمدين حتى العظم، منذ ساعات وأيام وليالي وأسابيع..‏
        - منذ أشهر..‏
        - تحت المطر.. كنا نفرك الأذنين والركبتين والأنف والأسنان.. تتقطع السلسلة وتسحب معها مفردات من سجل آخر:‏
        - الحرّاس؟ الأساقفة؟ الكيميائيون؟ تجّار النحاس؟ عازفو الكمان؟ المندوبون؟ الرؤساء؟ رجال الشرطة؟ التجّار؟ البنايات؟ حاملات الأقلام؟ الكروموسومات؟ الصبغيات). في مكان آخر، لم يعد الرابط الجامع هو التلميح بل التشابه في اللفظ: "البابا، والفراشات، والأوراق؟" ولا يبقى من الجملة إلا لعبة صوتية:‏
        - لقد ضحكنا من ذلك الغبي، إذ وصل عارٍ تماماً ضحكنا، الكيس، كيس الرز، الرز في البطن، وعلى الأرض..‏
        - لصنع فطيرة العين؟ عين العجل، وساعة من الزبدة، وسكّر لعصارة المعدة.. لك أصابع ماهرة..‏
        هذا السرد مضحك ومسلٍّ، لكن اللعبة ليست مجانية دائماً، فمن هذه التجميعات تولد صور غير مألوفة تكشف، مثل زلّة اللسان، عن أفكار نرفض البوح بها.‏
        وفي أحيان أخرى أيضاً، يجرف سيل الكلمات أمثالاً أخلاقية واستشهادات أدبية تسفر عن وجهها وهي على السطح قبل أن تختفي في ذلك السيل.‏
        - أنا لست نفسي، أنا كائن آخر، أنا الواحد في الآخر.‏
        - يا أبنائي، شكوّا بعضكم ببعض.‏
        الحركة في هذا الكلام الآلي، في هذا الهذيان، حركة متصاعدة تنقطع فجأة. الحوار الصميمي يصبح ثرثرة غثّة؛ ويتضخم سيل الكلمات، العجوز يخطب، واقفاً على كرسي، والمرأة' تردد كلماته مثل الصدى، وأخيراً هتافات: "عاش الإمبراطور" ثم يصمت كل شيء، ولم نعد نسمع سوى نخير الأطرش - الأخرس.‏
        الزوبعــــــــــة‏
        تضاعفت حيوية الحوار من خلال التمثيل، حملت حركات العجوزين، في البداية، علامات التقدم في السن.. الإيقاع بطيء حتى يرن الجرس أول مرة. آنذاك تحضر العجوز كرسياً ثم آخر ثم تنطلق الحركات الآلية شيئاً فشيئاً: تنفتح الأبواب وتنغلق، تنزلق الكراسي وتصطف، يذهب البطلان ويعودان بسرعة متزايدة، تلتهم الحركات الآلية اللاإرادية الحياة وأصبح كل شيء آلياً.‏
        هذه الحركة السريعة التي تشبه حركة الزوبعة هي صورة الفراغ. إنها تخلق عالماً وهمياً يتلاشى في النهاية مثلما يتوهج حلم ذهبي في العدم. إنها تعطي المسرحية معناها ومغزاها. وهكذا فإن التمثيل الواقعي يكشف عن نوايا المؤلف. فإذا ما بقيت العجوز عجوزاً، بطيئة الحركات خلال حفلة الاستقبال، وإذا ظنّ المخرج أن الحوار يشير إلى اثني عشر شخصاً لا مرئياً واكتفى بعدد مماثل من الكراسي، وإذا ما حذفنا الرقصة، وغاب الانطباع بوجود جمهور غفير فلن يبقى سوى عجوزين خرفين يتبادلان هذه المهزلة.‏
        العدم والوحدة:‏
        تنزع الحركة السريعة عن الواقع كثافته وحقيقته. يغدو الأشخاص دُمى، والأفعال ترتد إلى مجرد حركات، والمدعوون هم شكل من أشكال الغياب، والكلام لا يوصل أية رسالة؛ والعالم، ساخر أم وهمي، يفقد كلّ جوهر وكل قيمة. العالم لم يعد موجوداً حقاً. تخلق الزوبعة دواراً ميتافيزيقياً: "تهريج مـأساوي" كما كتب يونسكو كعنوان ثانوي للمسرحية. كائنات هزيلة، وإيماء ساخر تحاول ملء الفراغ وكشف العدم(1) .‏
        لكن المسرحية تعني أيضاً العزلة الإنسانية وهي شكل آخر من أشكال الفراغ، في برجهما، وفي جزيرتهما المحاطة بالمياه على مدى النظر، يعيش العجوزان وحيدين. لقد انقطعا عن العالم كله ولم ينجحا أبداً في أي شيء. ليست وحدتهما اللقاء المستحيل بين وعيين منفصلين: إنها موقف حي نموذجي، إنها شكل من أشكال الشرط البشري وحدة التفاهة والفشل.‏
        لقد اكتسب مسرح يونسكو، مع مسرحية الكراسي، بُعداً ميتافيزيكياً.‏
        "ضحايا الواجب"‏
        بينما كانت تسيلا شيلتون - "بهلوان المنصة" كما قال عنها يونسكو - وبول شوفالييه يرتبان كراسي لا يجلس عليها أحد، أمام صالة خالية من المشاهدين، كان يونسكو يكتب مسرحية "ضحايا الواجب". عُرضت المسرحية في شباط 1953 على مسرح الحي اللاتيني من إخراج جاك موكلير.‏
        "شبه دراما" كما يقول العنوان الثانوي، لكن المسرحية تتضمن عقدة، بل عقدة بوليسية، إضافة إلى العقدة البوليسية، يشرح شوبير لمادلين أن المسرح كله، منذ الإغريق حتى أيامنا، لم يكن إلا مسرحاً بوليسياً. هناك دائماً عقدة تُحلّ، والمسرح كله عبارة عن دراما أو شبه دراما.‏
        تبدأ "ضحايا الواجب" كما بدأت المغنية الصلعاء: مادلين ترتق جوارب عتيقة وشوبير يقرأ جريدة ويعلّق على احتياطات "نظام التقشف" التي اتخذتها إدارة المدن الكبرى لعلاج "الأزمة الاقتصادية، والخلل النفسي، ومضايقات الحياة".‏
        الباب يُقرع، يظهر في إطار الباب شاب خجول يتأبط حقيبة، اعتذر وقد ظهر عليه الارتباك لأنه سبب بعض الإزعاج. لقد بحث عن حارسة البناية من أجل معلومة بسيطة لكنه لم يجدها في غرفتها.. وجدته مادلين لطيفاً مؤدباً فأدخلته وعرضت عليه خدماتها، سأل الشاب - وهو مفتش بوليس - بخجل:‏
        - الشرطي إلى شوبير: [..] أنا آسف لأنني أضعتُ وقتك، أريد فقط أن أعرف إن كان المستأجرون الذين كانوا قبلكم هنا، هم آل مالوت، بحرف التاء، أما مالود، بحرف الدال، هذا كل ما أريد معرفته.‏
        - شوبير بلا تردد): مالوت، بحرف التاء.‏
        - الشرطي أكثر بروداً): هذا حقاً ما كنت أعتقده.‏
        آنذاك يتقدم الشرطي في الغرفة دون كلام، يرمي حقيبته على الطاولة، يجلس على كرسي، يشعل سيجارة، ثم ينظر إلى مادلين وشوبير مباشرة:‏
        - الشرطي: [..] لقد عرفت إذن آل مالوت؟‏
        - شوبير: مرتبكاً قليلاً): كلا، لم أعرفهم‏
        - الشرطي: كيف عرفت إذن أن اسمهم ينتهي بحرف التاء؟‏
        - شوبير مندهشاً جداً): آه، فعلاً، هذا صحيح.. كيف عرفت؟ كيف عرفت؟.. لا أعرف كيف عرفت!‏
        يبدأ الاستجواب حسب الأصول: "انزعي ربطة عنقه يا سيدتي، ربما نزعجه، ستتحسن الحال بعد ذلك [..] الحزام أيضاً، ورباط الحذاء!" يتحدث الشرطي - وقد صار سيادة المفتش العام - بصوت عنيف، حاسم، ويطلب فنجاناً من القهوة مع "اثنتي عشرة قطعة من السكر، وقدحاً كبيراً من عصير التفاح". يخاطب مادلين بصيغة المفرد ويصبح فظاً، سوقياً مع "زبونته. غيّر مكان كرسيه، وراح يدور حول شوبير، ثم أخرج صورة من جيبه: "حاول أن تنشط ذاكرتك، انظر إلى الصورة، أهذا هو مالوت حقاً؟" بذل شوبير جهوداً كبيرة واسترجع ذكريات: زواجه، القطعة العسكرية، المدرسة، بيت طفولته، صور أخرى.. لكنه لم يتذكر مالوت. لقد غاص، مغمض العينين، في الماضي. انزعج الشرطي، وساعدت مادلين في استمرار التحقيق.‏
        بدّلت فستانها القاتم، ولم يعد صوتها جافاً. إنها شابة، تضمّ شوبير بفتور، وتهمس له أوامر الشرطي، وقد أيقظت نداء الرغبة، "لا تصلب ساقيك! انتبه، لاتنزلق! الدرجات مبللة.. امسكْ الدرابزين جيداً.. انزل.. انزل.. إذا كنت تريدني!..".‏
        يمدّ لها شوبير ذراعه ويغوص في ظلمة تزداد كثافة، والوحل يعلق بحذائه، قدماه ثقيلتان.‏
        يغوص شوبير في المستنقع. يبلغ الوحل الركبتين، الذقن، الفم، ما عدنا نسمعه: "لقد تجاوز جدار الصوت". تابع الغوص، ما عدنا نرى سوى الأنف، وأذناً واحدة. مادلين تقوده: "لا يزال شعرك ظاهراً.. انزلْ، ابسطْ ذراعيك في الوحل، افرشْ أصابعك، اسبحْ إلى الأعماق، يجب أن تصل إلى مالوت بأي ثمن.. انزلْ.. انزلْ.."، اختفى عن الأنظار، "لقد تجاوز جدار الرؤية".‏
        الشرطي أيضاً يتحوّل. لقد صار عشيق مادلين، يتشاجران، تحاول الانتحار بالسم، يمسك ذراعها ليمنعها، وفجأة يجبرها على تناول السم، شوبير يتمتم: "..أبي، أمي، أبي، أمي".‏
        شوبير عاد طفلاً، ومادلين صارت أمه. شوبير مراهق، الشرطي والده. يحاول الاثنان أن يجدا، خارج نطاق الخصام، كلمات الحب المتبادل. يطلب الولد الصفح من والده، يروي الأب قصة حب غبي لكنه أكثر اتساعاً من الكون.‏
        ينقطع هذا المشهد المؤثر فجأة. يعود الشرطي إلى سوقيته وسخريته. يبدأ الاستجواب من جديد.. يجلس كل من مادلين والشرطي في مقعد، إنهما الآن في المسرح. شوبير يتابع طريقه عبر الزمن الذي صار فضاء ويصف كل ما يراه: صور تزداد رخاوة، يتكشف منظر ما، وبدايات كون، فوضى، وفوهة فاغرة. يسيطر عليه حنين مجهول، ومشاعر نقية، متعارضة: "..فرح.. ألم.. تمزّق.. اطمئنان.. غبطة.. فراغ.. ألم عظيم.. أشعر أنني قوي، أشعر أنني ضعيف، أشعر أنني مريض، أشعر أنني بخير، لكنني أشعر خاصة بنفسي، مازلت أشعر بنفسي.." ثم تلفه الظلمة، لقد نزل بعيداً جداً. أعاده الشرطي، وقد سيطر عليه القلق، إلى الطريق: يجب عليه أن يجد مالوت، مهما كلف الأمر.‏
        يصعد شوبير من الأعماق، يرى مدناً: هونفلور، دييب، بيزا، برلين، نيويورك، يرى أنهاراً ووهاداً وغابات وجبالاً، ويبدأ يتسلق الجبل ببطء: يصعد على الكرسي، يصعد على الطاولة، ثم يضع الكرسي فوق الطاولة.. يرشده ضياء الشمس فيسير على درب وعر، يتشبث بالجذوع، والحصى، يتسلق حبواً على ركبتيه رغم العطش والحرارة. ثم يصبح الصعود سهلاً، وها هو شوبير يستنشق هواء خفيفاً، ويتحلل في النور، ويستمر في الصعود، سوف يفرّ، يطير عما قريب.. تخاف مادلين، إنها تخاف الوحدة، تبكي، تتوسل، تتحول إلى شحاذة، إلى امرأة هجرها زوجها مع أطفالها. الشرطي قلق أيضاً، يلجأ الاثنان إلى إثارة عواطف شوبير فيمتدحان مزاياه، ويتحدثان عن امتيازات وضع اجتماعي متميز:‏
        - الشرطي: الوطن الذي شهد ولادتك بحاجة إليك.‏
        - مادلين لشوبير): أنالا أناضل إلا من أجلك.‏
        - الشرطي: الحياة أمامك، المستقبل لك! ستكون غنياً، سعيداً، وغبياً، ستكون ذا رتبة عالية في بلاد الدانوب! ها هو قرار تعيينك! إلى مادلين) طالما أنه لم يطر، لم نخسر شيئاً..‏
        - مادلين: إليك الذهب، إليك الفواكه..‏
        - الشرطي: سنقدم لك رؤوس أعدائك على طبق.‏
        - مادلين: ستنتقم بطريقة سادية!‏
        - الشرطي: سأجعل منك أسقفاً!‏
        - مادلين: بل بابا!‏
        بدلاً من أن يطير شوبير، يتهاوى في سلة كبيرة للأوراق. إنه ولدٌ صغير يُرفع منها بسحبه من أذنه؛ إنه طفل ماكر ينتهي به الحال إلى الاعتراف بأنه يعرف ألقاب مالوت كلها؛ إنه طفل هزيل يحتاج إلى ثقل إضافي "ليلتصق بالواقع"، كما بيّن الشرطي - الدكتور. من أجل تدعيمه وتقويته، من أجل سدّ فراغات ذاكرته، يخرج الشرطي من حقيبته قطعة خبز ضخمة: "كُلْ!". يعترض شوبير، ثم ينفَّذ الأوامر وهو ينتحب؟ أمّا الشرطي فكان يردد! "امضغْ.. ابلعْ.. ابلع بسرعة.. امضغْ.. بسرعة أكبر..".‏
        أثناء هذا المشهد تدخل سيدة، بصمت وعناد تجلس في مقعد وتبدأ في أكل الفستق) ومعها نيكولادو، شاعر من أصدقاء شوبير، يعرض تصوّره عن المسرح الثوري. يظهر الاهتمام على الشرطي لكنه يعلن أنه "منطقي بطريقة أرسطية، صادق مع نفسه، مخلص لواجبه، محترم لرؤسائه".. مادلين تأتي وتروح حاملة فناجين ترتبها على البوفيه بسرعة متزايدة. يقترب نيكولا من الشرطي، يهز سكيناً ضخمة، ويطعنه. يموت الشرطي وهو يهتف: "عاش العرق الأبيض".. أريد وساماً بعد وفاتي.. إنني أموت ضحية الواجب.."‏
        يجب أن لا تذهب تضحية الشرطي هدراً. يأخذ مكانه مادلين ونيكولا، ويحاولان العثور على مالوت، ويقدمان لشوبير قطعاً من الخبز: "هيا، كُلْ، لكي تسدّ فراغات ذاكرتك!". آنذاك يبدأ الجميع، وهم ضحايا الواجب، في مضغ الخبز أو الفستق وكل واحد يشجّع الآخر: "امضغا، ابلعا، امضغا، ابلعا..".‏
        كاليدوسكوب المشكال):‏
        انطلق يونسكو في كتابة "ضحايا الواجب" من أقصوصة من حوالي عشر صفحات عنوانها "ضحية الواجب". استُخدمت أرضية للمسرحية، وتنتهي بموت الشرطي - وهذا ما يفسر اختلاف العنوان -. الأقصوصة نقل لحلم، أما المسرحية فإنها تستخدم صور الأحلام، لكنها تعبّر أيضاً عن فكرة نهارية يؤمن بها الكاتب، تم تطويرها وتوسيعها.‏
        تحتل صور الذكريات مكاناً هاماً في المسرحية: الفكرة الأساسية هي الغوص في الماضي، البحث عن حقيقة نفسية غير مُدركة. العقدة البوليسية ليست إذن ذريعة، أو موقفاً كوميدياً، إنها ترمز إلى التقصّي السيكولوجي. هناك لغز حقاً: مالوت و "الحكايات الشخصية" عند شوبير إنها كلٌ واحد.. العودة إلى الماضي تشكل بحثاً، ولكي يبين صعوبة تحليل الفكر اللاواعي يتحول الاستجواب إلى تحقيق؛ لأن اللغز الحقيقي هو الإنسان.‏
        لا يعتمد ترتيب الذكريات على تسلسل زمني بل يخضع لمنطق الأحاسيس.. يجمع شوبير صوراً متباعدة في الزمن لكن مناخاً حسياً يوحد بينها، القلق أو الغبطة، الخوف أو فيض السعادة.. إنه يرى حياته كلها من جديد، أحلامه الممزوجة بالذكريات، رغباته التي لم ترتو؛ لكنه يستعيد طفولته بشكل خاص، طفولته الأولى، السن الذي تتشكل فيه، حسب النظريات الفرويدية، شخصيته، وعُقده، العمر الذي تحدد فيه الصدمات النفسية صفاته الثابتة.. لقد عرف أيضاً أحاسيس هاربة تسبق يقظة الوعي، وهذه حالة نباتية صرفة، إنها حساسية تعود إلى ما قبل الولادة(1) .‏
        إذا ما قارنا هذه المسرحية مع اعترافات "اليوميات" نلاحظ أن يونسكو تناول هنا ذكرياته الخاصة بعد أن غير قليلاً في أماكنها: شارع بلوميه الذي عاش فيه خلال الحرب، النزهات الليلية في الشوارع المعتمة، محاولة انتحار أمه، هذا الحدث الذي رسّخ لديه اليقين في الشفاء، نزاعاته مع والده، محاولاته العقيمة في الصلح، حسراته "كان بإمكاننا أن نكون صديقين حميمين"؛ الحالات الشعورية المتناقضة ذات عبء ثقيل وخفيف "حدث ذلك ذات صباح من حزيران. استنشق هواء أخف من الهواء، أنا أخفّ من الهواء، الشمس تنحلّ في ضياء أكبر من الشمس، أنا أفرّ من خلال كل شيء، الأشكال اختفت. إنني أصعد.. أصعد.. ضياء يسيل.. إنني أصعد..". أبداً لم يعبّر يونسكو، في مسرحه كله، عن نفسه بمثل هذه الطريقة الشاملة المباشرة.‏
        دفاع عن مسرح متأثر بالسريالية‏
        الموضوع الأساسي في المسرحية - بالإضافة إلى البحث عن الذات - هو النظرة إلى المسرح. يحلم شوبير، في البداية، بمسرح ثوري منفصل عن تقاليد تعود إلى "واقعية بوليسية" لأن الدراما الدينية في القرون الوسطى تقتصر على رواية أحداث متنوعة - وهذه واقعية - كما أن الكلاسيكية ما هي إلاّ "مسرح بوليسي متميز".‏
        يشرح نيكولا دو للشرطي آفاق التجديد، فالمسرح "غير العقلاني" غير الأرسطي" الذي يتخيله يرفض مبادىء المطابقة والسببية في تطور ورسم الشخصيات؛ إنه يستوحي منطقاً مبنياً على التناقض، وسوف يكون "سريالياً باعتبار أن السريالية تعتمد على الحلم". سوف يتخلى عن فكرة ثبات ووحدة الشخصية لصالح سيكولوجية ديناميكية، لأن الشخصية هي ملتقى التضادات، وسيجعل من الحلم وسيلة لمعرفة الواقع. سيرفض هذا المسرح الحدث الدرامي "على الأقل في شكله القديم المبتذل". يقول نيكولا دو، في النهاية، "لن يبقى هناك لا دراماً ولا تراجيدياً؛ فالمأساوي يتحول إلى هزلي، والهزلي يتحوّل إلى مأساوي، وتغدو الحياة بهيجة.."‏
        هذه الأفكار - "المبتكرة" كما يراها الشرطي - هي نفس الأفكار المطبّقة في المسرحية، فالحركة الدرامية لا تعتمد على العقدة البوليسية، وتتابع المشاهد لا يخضع لتسلسل زمني ولا لسببية منطقية، مادلين، الشرطي، شوبير لهم شخصيات متعددة ولهجتهم ضاحكة باكية في آن معاً.. لعبة مرايا عجيبة: يصدر الممثلون أحكاماً على الشخصيات التي يقدمونها، ويحددون الأشكال المسرحية التي شاركوا فيها.‏
        السخرية في هذا التأليف تثير الاتهامات أيضاً. نرى ذلك في المشهد الذي يشرح فيه الشرطي ومادلين - وقد أصبحا مشاهدين يجلسان على مقاعد الجمهور، - وينتقدان هذا المسرح السريالي: "هل نحن نافعان فقط لندفع ولنصفّق؟ [..] لو راح كل واحد يذكر ماضيه، فأين نصير؟.. لدينا جميعاً أشياء نقولها، لكننا نمتنع عن ذلك تواضعاً وحياءً [..] من الأفضل، يا صديقي العزيز، أن نمضي بقية سهرتنا في الكاباريه [..] يا صديقي العزيز، هذا التهريج [..] غاية في الابتذال، كان يمكن أن يكون أكثر إثارة.. أو على الأقل أن يكون تثقيفياً، أليس كذلك، لكن هل ترى..". وفي النهاية يدخل يونسكو مباشرة في الدعوى:‏
        - نيكولا: الحقيقة أنني لا أكتب، وأنا فخور بذلك.‏
        - الشرطي مذهولاً): أوه، بلى يا سيدي، بلى أنت تكتب.. يجب أن تكتب!‏
        - نيكولا: لا فائدة، لدينا يونسكو، ويونسكو يكفي!‏
        منهج التحليل النفسي:‏
        يجب أن يعتمد رسم الشخصيات، كما يعلن نيكولا دو على الاكتشافات التي يحققها علم النفس الحديث" أي على نظرية التحليل النفسي. في بداية المسرحية نجد الشخصيات "مسطحة، ليس لها أي عمق" إنها شخصيات واقعية ذات بعدين، ثم تكتسب العمق المطلوب.‏
        استجواب شوبير ما هو إلا تقنية الحلم التي يمارسها التحليل النفسي. يتحدث المريض وليس لأسئلة الطبيب من هدف سوى دفعه لمتابعة حلمه. التردد، الكتمان، العقبات تعترض الحكاية، كما أن عنف الشرطي يوحي بالضغط الذي يفرضه الطبيب النفساني على المريض أحياناً.‏
        لا تمتلك الشخصيات تماسك الطبع بل لديها رغبات وميول تتصارع وتتحد في أعمق أعماق النفس الوساوس، الحب، الخوف، إدراك الذات، غريزة الحياة والموت، إيروس وتانا توس(1) . إن تحولات الشخصيات تبرز تفجر تلك الشخصيات والحالات التي تسيطر عليها تباعاً.‏
        طبقات الحوار‏
        تحوّلات الشخصيات جرأة مسرحية يجعلها غنى الحوار وتنوّعه ممكنة التحقيق. اللغة في "ضحايا الواجب" ليست ثرثرة آلية لأنها تترجم حياة وفكراً حقيقيين.‏
        لاشك أن بعض التلاعب بالكلام يثير الضحك: اختيار الأسماء - شوبير، نيكولادو - وبعض الردود الساخرة: "لقد اخترق جدار الصوت.. جدار النظر.. لن يخترق جدار الاندهاش.." بعض التوريات والجناس: "لقد بنى المهندسون المعماريون معبداً فوق الأمواج - إنه يخرّف"(2) ، لكن هذا التلاعب بالألفاظ ليس أساسياً.‏
        إن ما يصدم حقاً هو تغير هذه الطبقات، تترافق التحولات بتغيرات في اللهجة، والصوت، والمفردات، وفي الصياغة أيضاً. يستخدم المفتش الشاب الخجول جُملاً طويلة مركّبة، وسلسلة من القوالب المهذبة، أمّا الشرطي فيتحدث بصيغة التعجب، يلجأ إلى الشباب والفظاظة ويستخدم أحياناً تعابير نابية. يترجم الأب مشاعره بجمل ذات إيقاع موسيقى، جمل غنية بالاستعارات الجديدة، أما مادلين، الزوجة والعاشقة فليس لها اللهجة ذاتها ولا تتطرق إلى نفس الموضوعات. يتحدث شوبير مثل رجل ناضج حيناً، وطفل حيناً آخر، ومراهق حيناً ثالثاً.‏
        يريد يونسكو أن يعبّر أيضاً عن ما لا يقال. تصبح اللغة شعراً لتعبر عن حقيقة عميقة لا تخضع لمنطق علم النحو. تتشبع المفردات بالمدلولات وتتحول طاقتها إلى سحر. تلاقي الكلمات غير المنتظر ينير الواقع والصور المستخدمة كمخدر، حسب صيغة سريالية(1) تفتح أبواب الليل.‏
        "..تلوح في البعيد، برّاقة وسط الظلمات، في هدوء يشبه هدوء الحلم، محاطة بالعاصفة، مدينة رائعة.. أو حديقة عجيبة، نافورة متدفقة، ألعاب مائية، أزهار من نار في الليل.. قصر من السنة اللهب المتجمدة، تماثيل براقة، بحار هائجة، قارات مشتعلة في العتمة، في محيطات من الثلج!".‏
        التمثيل تصوير المجرّد‏
        يبين أداء الممثلين الجهد الذي يبذله الفكر الواعي للكشف عن أغوار النفس اللاواعية، إنهم يجسدون خطوات التحليل النفسي، توضح حركات شوبير الإيمائية الغوص إلى الأعماق المظلمة ثم الصعود والطيران المدهش باستخدامه الكرسي والطاولة والمنصة، المترافق مع تبدلات الإضاءة، أما مادلين والشرطي فيعرضان من خلال حركاتهما الإيمائية التحولات التي يتعرضان لها والمواقف والأشخاص الذين يقابلهم شوبير عند كل منعطف من متاهته الداخلية. النسيان يغدو ثقوباً في الذاكرة يجب سدّها، تكدّس مادلين الفناجين على نفس الإيقاع الذي يأكل عليه شوبير خبزه، رمزية الإيماء واضحة جداً، وهكذا يحوّل التمثيل التحليل النفسي إلى تمثيل نفساني(2) .‏
        الفرد والزوجان:‏
        هذه المسرحية التي تشكل نظرة إلى الفرد، هي أولاً تعبير عن نظرة في النفس. وفي رأي يونسكو، لا يوجد هناك تسلسل زمني ولا تحديد سببي، فالفرد، بماضيه كله وبإمكانات مستقبله، مكشوف بتمامه أمام ذاته، والشخصية تنتظم وفق بنية مكانية، على غرار مشهد طبيعي يتنزه المرء فيه، بكل ما يضم من وهاد وقمم، من أنوار وظلال، وإذا لم يستطع الشرطي أن يجد مالوت - اللغز - فهل ذلك لأنه يفتش في زمن "منطقي موغل في الأرسطية"؟.‏
        من ناحية أخرى، يقدم يونسكو في هذه المسرحية صورة جديدة للزوجين. العجوزان في "الكراسي" بلغا نهاية العمر. إن مادلين وشوبير في خريف الحياة، في السن الذي تحفر فيه التجاعيد على وجهيهما عدداً من حالات الانفصال. ترسم العلاقات بين الزوجين صورة غامضة للمرأة، إنها - مثل سميراميس - الزوجة والأم معاً، وفيها استمرار العشيقة والخطيبة القديمتين. إنها استبدادية، وهي أيضاً ضعيفة بشكل عجيب، تخشى أن يهجرها شوبير وتستخدم جميع أساليب الإغراء للاحتفاظ به. تود لو تبقى الأشياء في مكانها، والمسافة قصيرة بين النظام والقانون: "ماذا تريد يا صديقي المسكين، القانون ضروري ولا يمكن الاستغناء عنه فهو جيد وكل ما هو جيد فهو جميل. جميل جداً أن تطيع القوانين، أن تكون مواطناً صالحاً، تؤدي واجبك، وتمتلك ضميراً صافياً نقياً!" إنها هي التي أدخلت الشرطي، وهي التي ساعدت على سير الاستجواب، وعندما اختفى شوبير "وغاص في الأعماق" عبَّرت عن قلقها إذ تحدّثت عن الشرعية: "ماذا فعلنا؟ لكن كان لابد من ذلك، أليس كذلك؟ كان ذلك شرعياً؟" كما أنها هي التي حلت محل الشرطي في نهاية المسرحية..‏
        "اميديه أو كيف نتخلص منها".‏
        تابع يونسكو استكشاف عالم اللاوعي حسب طرائق قريبة من التحليل النفسي، فكتب مسرحية "اميديه أو كيف نتخلص منها" وقد أتمها في آب 1953 في سيريزي لاسال، وهي عبارة عن كوميديا من ثلاثة فصول قدمها جان - ماري سيرو على مسرح بابيلون في 14 نيسان 1954.‏
        شرح يونسكو ببراءة خادعة هي كل دعابته، لجمهور المعهد الفرنسي في لندن ما يلي: "في هذه المسرحية سرد لحادث يمكن أن نجده في أية جريدة. يروي الحادث قصة عادية يمكن أن تحدث لكل فرد منا، وربما حصلت للكثيرين، إنها شريحة من الحياة، إنها مسرحية واقعية"(1) .‏
        ما هذا الحادث العادي المبتذل؟ زوجان يحتفظان بجثة في بيتهما ويتساءلان: "كيف نتخلص منها؟".‏
        يمثل ديكور الفصل الأول بيتاً بورجوازياً من الداخل: "غرفة متواضعة هي غرفة طعام وصالون ومكتب في آن واحد" الرجل، اميديه بشكنيوني، في العقد الرابع، أصلع، أكرش، كاتب فاشل، يمشي بعصبية بحثاً عن الإلهام، يجلس إلى طاولة عمله، يكتب كلمة، يشطبها، ينهض من جديد. أثناء سيره يقطف من إحدى الزوايا فطراً "ساماً.. بالطبع". في تلك الأثناء تتعالى على الدرج ثرثرة حمقاء، إنها حارسة البناية والجيران.‏
        تظهر مادلين، زوجة اميديه، نحيلة، شرسة، في جلباب الحمام، تلف رأسها بمنشفة، تحمل مكنسة. راحت تشتم اميديه وتزجره واصفة إياه بالتنبل السكير، إنها تشتكي من أن كل شيء يقع على عاتقها: ترتيب البيت، أعمال المطبخ، كسب المال الذي يؤمن لهما الحياة. يحاول اميديه، المسالم، تهدئتها، لكن مادلين نبع لا ينضب من التظلم والشكوى.‏
        أثناء هذا الشجار - الخبز اليومي في حياة الأسرة - نعلم أنه منذ حوالي خمس عشرة سنة، تتضخم شيئاً فشيئاً، وتشيخ جثة في الغرفة المجاورة، وأن الفطور تظهر في جميع الزوايا. منذ خمس عشرة سنة يعيش اميديه ومادلين وحيدين في بيتهما، ليس لهما أصدقاء، ولا يخرجان، لا يستقبلان أحداً، لا يفتحان بابهما أبداً..‏
        تشير ساعة الحائط إلى الساعة التاسعة، ترتدي مادلين ثيابها لتذهب إلى عملها، أي إلى الطرف الآخر من غرفة الطعام حيث يوجد جهاز هاتف. بينما ترد على المكالمات الهاتفية تتابع توبيخ اميديه، ثم ترسله إلى السوق: من النافذة يدلي سلة مربوطة بحبل، ثم يرفعها وفيها كيلو دراق، وجبن طازج، ولبن، وعلبتها بسكويت، وخمسين غراماً من الملح الناعم.‏
        الوقت ظهراً، أثناء الغداء يُسمع طرق على الباب. فتحا وهما مرعوبان. إنه ساعي البريد يحمل رسالة، لكن اميديه يؤكد للساعي أن هناك ثمة خطأ: إنهما لا ينتظران أية رسائل، كما أنه ليس الرجل الوحيد الذي اسمه اميديه بكشينوني فنصف سكان باريس يحملون هذا الاسم.‏
        - هناك خطأ حتماً يا سيدي، فأنا لست اميديه بكشنيوني بل آ - مي - دي - ه بكشينوني ولا أسكن المنزل رقم 29 شارع جنيروبل في المنزل رقم 29 شارع جينيرو.. ألا ترى أن حرف الألف في كلمة أميديه على الغلاف مكتوب بحرف كبير متصل، أما اسمي فيُكتب بحرف كبير روماني.‏
        ينصرف الساعي في اللحظة التي يتداعى فيها باب الغرفة تحت وطأة دفع الجثة.‏
        في الفصل الثاني تزدحم المنصة بركام أثاث الغرفة، والفطور صارت الآن ضخمة، وعلى طاولات دائرية صغيرة مصفوفة، تتضخم ساقا الجثة وقد خرجتا من الغرفة. تسلّح اميديه بمتر قماشي وقطعة طباشير وراح يقيس، كل ربع ساعة، تضخم الكارثة، ولاحظ أن الجثة تكبر بنسبة سلسلة هندسية. آنذاك أعلنت مادلين ما لديها من شكاوى.‏
        تساءل أميديه عن هوية الميت. تعتقد مادلين أن الجثة جثة رجل شاب قتله أميديه بسبب الغيرة: "كنت تدّعي أنه عشيقي... وأنا لم أنكر ذلك" لكن اميديه لا يتذكر هذه الجريمة ويخيل إليه أن "العاشق انصرف قبل لحظة الجريمة".. أليس من المحتمل أن يكون رضيعاً رمته إحدى الجارات ذات يوم ولم تعد أبداً لتأخذه؟ اغتيال؟ وأد؟ الجريمة خطيرة إلا إذا..‏
        - هل تعرفين.. كنت أصطاد السمك في الريف.. سقطت امرأة في الماء وراحت تطلب النجدة، وبما أنني لا أجيد السباحة، والصنارة كانت تشدّ، لم أزعج نفسي وتركتها تغرق..‏
        عدم نجدة المرء عند الخطر، هل هي أقل خطورة من القتل؟ يستمر النقاش. أخيراً خضع اميديه لرغبة مادلين ووعدها بالتخلص من الجثة برميها في نهر السين في الليلة القادمة.‏
        يبدأ الانتظار، لكي يخدعا الجيران، تنهمك مادلين في شغل الصوف، ويتمدد اميديه على مقعد مريح، يغلق عينيه قليلاً، ويحلم. خلال ضباب الحلم، يظهر شخصان: اميديه، شاب ممشوق القدّ، ومادلين في ثياب العروس. يغني اميديه الثاني قدوم الربيع، والشمس، والسعادة والحب المجنون، ويحاول أن يحمل معه زوجته الشابة إلى عالمه الباهر. لكن مادلين الثانية ترى، في كابوس مرعب، ضفادع وأفاعي وأطفالاً موتى، تغوص في المستنقع وتشعر بإبر من نار تنغرز في جسدها، تجرحها الأشواك. تصفعها النباتات المتسلقة، فتدفع اميديه عنها: "لا تقترب، لا تلمسني، أنت تخزني، تجرحني، أنت تؤؤُوْلمني! ماذا تري ي ي دُ؟ أين تذهب؟ أين تذهب؟.." خوف مادلين أقوى من فرح اميديه.‏
        وفي نهاية المشهد يتلاشى عالم اميديه في ذلك الكابوس. كلاهما، دون أن يسمع أحدهما الآخر، يصرخ بكلمات فقدت كل مدلول، إنهما ما وراء حدود اللغة يغرقان في يأس لا يمكن التعبير عنه بدقة.‏
        ينتهي الحلم والكابوس. الوقت منتصف الليل. تضع مادلين شُغل الصوف ويبدأ اميديه، رغم تردد ممزوج بالحسرة، بانزال الجثة من النافذة.‏
        في الفصل الثالث، نرى اميديه على إحدى الساحات، يجر الجثة باتجاه نهر السين. يلتقي مع جندي سكران، وعاشقين، وصاحب بار في ساحة توركو. شعر بالقلق لكن لم يندهش أحد، بل أن الجندي قدم له "يد العون" إذ لف الجثة حول اميديه ليسهل حملها. يصل شرطيان، يهرب اميديه، يلحقان به على المنصة وإلى الكواليس. يقف سكان الساحة على نوافذ بيوتهم. فجأة تنبسط الجثة مثل شراع السفينة ويتوارى اميديه من أمام الشرطيين المنذهلين وسط تصفيق المتسكعين، ويعتذر وهو في غاية الارتباك. تهرع مادلين إليه وتعلن سخطها مرة أخرى.‏
        - اميديه: أنا مرتبك، اعذروني.. سيداتي، سادتي، أنا أعتذر.. لا تصدقوا.. حقاً أريد أن أعيش.. أريد أن أبقى وقدماي ثابتتان على الأرض.. إنها ضد إرادتي.. لا أريد أن يأخذوني.. أنا مع التطور، وأتمنى أن أكون نافعاً للآخرين.. أنا مع الواقعية الاجتماعية [..].‏
        - مادلين: دعك من ذلك يا اميديه، دعك من ذلك، لن تكون جاداً أبداً! أنت ترفع نفسك لكن منزلتك لا تسمو في اعتباري.‏
        1 يعتمد المؤلف على نوع من الجناس.‏
        2 Le crane de la creme.‏
        3 Jubiler jupiter, etranger intransigeant.‏
        1 استخلص يونسكو من هذه المسرحية باليه للتلفزيون الدانمركي عام 1965 تحت عنوان "شاب للزواج".‏
        1 منهج تيلور: منهج وضعه المهندس تيلور 1856-1915) لتنظيم العمل الصناعي تنظيماً علمياً باستعمال الحد الأقصى من الأجهزة والتخصص الدقيق، وإلغاء الحركات النافلة المنهل).‏
        1 المسرحية الأخيرة مقتبسة عن كارجيالي، وهو مؤلف روماني من بداية هذا القرن، فعثر على وصف له في كتاب "ملاحظات وملاحظات مضادة" لقد فُقدت مخطوطات ثلاث من هذه المسرحيات وهي: هل تعرفونه؟ الزكام في الحلم، الحرارة المرتفعة.‏
        1 فيليمون وبوسيس Philemon et Baucis: زوجان أسطوريان من الميثولوجيا القديمة، كانا يسكنان في فرجيا، ويستقبلان بحفاوة بالغة زيوس وهرميس اللذين تنكّرا في زي مسافرين، بينما رفض سكان البلدة الآخرين استقبالهما، نجا فيليمون وبوسيس من الطوفان الذي أرسله الإلهان عقاباً لسكان فرجيا، ثم تحوّل كوخ فيليمون وبوسيس إلى معبد فطلبا أن يصبحا خادمين له، وأن لا يموت أحدهما قبل الآخر، وبعد عمر طويل تحوّلا إلى شجرتين، لقد صار اسمهما رمزاً للحب الزوجي لاروس).‏
        1 أثناء إخراج جاك موكلير للمسرحية، حقق لا واقعية هذا العالم بوساطة الإضاءة، وتبديل الديكور، كان الديكور يمثل غرفة البواب ثم تصبح الجدران شفافة، ثم تتحول الغرفة الصغيرة إلى رواق رحب يشع بالأنوار، بعد انتحار العجوزين تضعف الأنوار وتتلاشى ولا يبقى سوى الغرفة المعتمة.‏
        1 تتناول الحالة النباتية: الفعاليات الفيزيولوجية غير الإرادية.‏
        1 جناس في اللغة الفرنسية بين كلمة أمواج des vagues وفعل يخرّف dévague.‏
        2 ايروس كلمة يوانانية تعني الحب وتاتانوس: كلمة يونانية تعني الموت حسيب).‏
        1 أراغون، فلاح باريس.‏
        2 دراما نفسية Psychodrame: ارتجال موجّه للمشاهد غايته حمل المريض على تمثيل تصرفاته في الحياة اليومية وتخليصه من عقده المنهل).‏
        1 هذا الخطاب موجود في كتاب ملاحظات وملاحظات مضادة.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو

          تطور وإيقاع الكابوس:
          مثلها مثل مسرحية "ضحايا الواجب" استخدمت أقصوصة "الراية" أرضية لمسرحية اميديه. تروي الأقصوصة، وهي في حوالي خمس عشرة صفحة، حلماً مسرحياً، لأنه يعرض مجموعة من الصور المتتابعة، ويرسم مواقف، ويعرض شخصيات ويتطور من خلال التحولات. تحويل القصة إلى مسرحية أمر طبيعي، لكن إذا كانت الأقصوصة تتبع الحلم عن قرب فإن المسرحية، وقد اغتنت بالصور الرمزية، والمقاصد الداعية، تصبح متعددة المعاني.‏
          تشرح نقطة انطلاق المسرحية تطورها وإيقاعها. تمثل صورة الجثة التي تتضخم حالة كابوسية. تزداد وطأة هذه الحالة شيئاً فشيئاً، يكبر الضيق حتى يغدو لا يحتمل، إذ لا مخرج في الأحلام، وهذا ما أكده يونسكو إلى سيمون بن موسى: "في منطق وواقع الشخصيات يجب أن يستمر كل شيء حتى الاختناق الكامل. كان من الواجب أن تستمر الجثة في التضخم وإن أعوزها ضيق المكان، وكان على الشخصيات أن تبقى هناك، مع أنها ليست قادرة على البقاء. يجب أن نتحاشى، بأي ثمن، إيجاد الحل، رغم أنه من المحتم تماماً أن نجد حلاً ما. في إطار هذا التناقض كان على المسرحية أن تستمر، خانقة أكثر فأكثر".‏
          هذا لا يعني أن تواري اميديه كان نوعاً من الحل المفتعل. كابوس الجثة في المسرحية له مغزى إذ أن يونسكو أضاف إليه فكرة من اليقظة :"كيف التخلص منها؟" للإجابة على هذا السؤال، تخيل، بعد ذلك الضيق المتنامي خلال الفصلين الأولين، أن الشد يتراخى، وهذه هي الحركة في الفصل الثالث.. اميديه الذي وقع في شرك القلق، الثقيل، الدائم، يتلاشى، يختفي، يظهر من جديد، يبدل هيئته، يتوارى، يتحرر من الثقالة، وبذلك يجد خلاصه.‏
          يمر شوبير في "ضحايا الواجب" في حالات من "الثقالة والخفّة" بالتناوب. هذه اللعبة، الأكثر دقة والأغنى بالمعاني، تغدو المنعطف الديناميكي لمسرحية اميديه؛ وتعبّر، في حركتها العكسية، عن التجربة المزدوجة لصعوبة الكينونة وصعوبة النعمة.‏
          أساليب "واقعية" وتقنية‏
          تعتمد على التحليل النفسي‏
          مادلين واميديه زوجان شبيهان بالزوجين في "ضحايا الواجب" لكن التحليل أكثر دقة وتصميم يونسكو أكثر وعياً. الزوجان في المسرحيتين في عمر متقارب، وفي حالة واحدة، لكننا نعرف هموم اميديه ومادلين: نراهما يعيشان، يشتغلان، يأكلان. كان شوبير قاذفاً بالأفكار التي كوّنها عن المسرح، أما اميديه فيكتب، أو على الأقل يحاول الكتابة.‏
          يتمّ تقديم الشخصيات في بداية المسرحية حسب صيغ وأساليب "المسرح الطبيعي": حركات تتكرر يومياً، عادات مضحكة، أحاديث في قوالب جامدة، خصام الزوجين. يخلق ذلك كله جواً هزلياً سهلاً ويحدّد كائنات بسيطة للغاية، مسطّحة، سرعان ما تكتسب سمتها الخاصة.‏
          لكن الشخصيات تصبح أكثر تعقيداً، أكثر "عمقاً" عندما يستبدل يونسكو الأساليب الواقعية أو الطبيعية بتقنيات قريبة من التحليل النفسي. يكتشف آنذاك مستويات متعددة من الوعي، ومشاعر حقيقية أكثر: الحب، الموت، الاندهاش، الألم، الصور المستقاة من الحلم أو الصور الشعرية تنير أغوار الرغبة والحلم، تنير الوساوس والهلوسات؟ وهكذا تتشكل صورة الإنسان ذي "الأبعاد الثلاثة أو الأربعة أو العدد اللامحدود من الأبعاد". صورة لم تعد واقعية بل صورة "سريالية".‏
          تظهر تقنية يونسكو المعتمدة على التحليل النفسي في المشهد الذي يلتقي فيه اميديه الثاني مع مادلين الثانية. يتخذ الغوص إلى أعماق النفس شكل الحلم. الصور - الذكريات تكثف مراحل الديمومة كلها في حاضر "مطلق". وتعيد بناء الزمان في المكان. تبين هذه الصور عالمين متناقضين يظهران بالتناوب أثناء الحوار. العالم الأول عالم نور ودفء وحرية وخفة والعالم الآخر عالم ظلمة وجليد ووحل ومصائب. يعبر هذا التناقض عن تجربتين انفعاليتين قامت عليهما حركة المسرحية. يحدد المشهد، عندما يصل الاختناق إلى ذروته، الانقلاب المأساوي، وهكذا يجد اميديه في صور انعدام الجاذبية القوة التي تجعله يحطّم قيوده ويتجاوز العقبات كلها. اميديه الثاني ومادلين الثانية ليسا أشباحاً لكنهما هلوسات والصدام بينهما شكل من أ أشكال الدراما النفسية.‏
          الحوار "ثرثرة" وشعر‏
          يختلف الكلام باختلاف مستوى الواقع الإنساني‏
          تُعرض سطحية الحياة اليومية من خلال منازعات اميديه ومادلين: موجة من الأفكار الجاهزة، والشتائم التي لا طعم لها، والنصائح البالية، والاحتجاجات: "ليس لدينا خادمة.. لا أحد يساعدني [..] ليس من الضروري أن تسكر حتى تصبح مدمناًّ!.. المشروبات التي تفتح الشهية.. إن ذلك يسبب الألم.".‏
          تبلغ هذه السطحية حد الفظاظة عندما تستخدم للتعبير عن "الثرثرة" الاجتماعية، عندما تعبر عن حاجة للكلام، حاجة "للحوار دون أن تهتم بأية علاقة اتصالية، مثل الحوار الذي نسمعه عبر الباب بين حارسة البناية وأحد الجيران.‏
          على عكس ذلك، يصل الكلام، في الحوار بين اميديه الثاني ومادلين الثانية، إلى واقعية أكثر تعقيداً، وتغتني بالصور والاستعارات، كما يجب أيضاً أن نميز بين كلام اميديه الثاني وكلام مادلين الثانية، ذلك الكلام الذي يبرز تضاد الصور، ويعتمد على طريقين مختلفين في تركيب الجملة: فالجمل المبنية على الإثبات والتعجب تترجم اليقين عند اميديه الثاني، أما شكوك مادلين فقد تم التعبير عنها بجمل النفي والاستفهام؛ وعندما تبدأ الكفة تميل لصالح مادلين الثانية تلجأ إلى التعابير المبتذلة التي استخدمتها مادلين: "لن تكون سعيداً أبداً، افهمْ ذلك [..] خيالك.. خيالك [..] أنت تثيرني! أنت تثيرني!".‏
          أما وقد رفض يونسكو فكرة وحدة الطباع فإنه يرفض أيضاً الاستمرارية في لغة الشخصيات إنه لا يربط الأسلوب بالشخصية بل بمستوى الوعي الذي وصل إليه تحليلها.‏
          الديكور والاكسسوار:‏
          تتألف المسرحية من ثلاثة فصول وهذا في رأي يونسكو تقنية جديدة ممكنة: استخدم تغيرات الديكور ليدعم الحركة الدرامية وليصور الاختناق المتزايد ثم الإحساس بالحرية. في الحقيقة، هناك ديكور متبدل إضافة إلى الديكورات الثلاثة.‏
          عند رفع الستارة لا يشدّ الديكور الانتباه: بيت من الداخل دون تحديد، بابان، نافذة، بعض قطع الأثاث: ديكور لا طابع له، ديكور يناسب مختلف الأعمال، لكن هناك عناصر ثلاثة تثير المخاوف سريعاً: ساعة الحائط، مصراع النافذة، جهاز الهاتف. الساعة التي يدور عقرباها، وينظر إليها اميديه ومادلين باستمرار، تصبح وسواساً. إنها تحدد تكاثر الفطور وتضخم الجثة، إنها تبين تغيرات العواطف: الحب وفشله، تجذر الكراهية، إنها رمز للزمن وللموت. المصراع المغلق بإصرار يمنع النور ونظرات الجيران. يفتحه اميديه قليلاً. إنه يشير إلى حبس الزوجين، هذا الحبس يصبح ملموساً لوجود جهاز الهاتف في غرفة الطعام. من بيتها إلى عملها، تبقى مادلين منقطعة عن العالم، وحيدة، سجينة.‏
          المكان في الفصل الثاني هو نفس المكان، لكن الأثاث يحتل قسماً كبيراً من غرفة الطعام. الفطور تتكاثر وتزداد. ساقا الجثة تتمددان على الطاولات الدائرية الصغيرة. هذا هو عالم الأشياء، الأشياء الثقيلة، المربكة، التي لا فائدة منها - الأغراض المؤذية، أشياء تتزايد دون نظام، إنها مرض لا يمكن السيطرة عليه، لقد أصيب العالم بالسرطان. يختفي اميديه ومادلين وسط ركام الأثاث، يغوصان فيه، مشلولين، مختنقين.‏
          يبرز ديكور الفصل الثالث التناقض في المسرحية. ساحة صغيرة، منفتحة على الحياة: بار، بيوت ذات نوافذ مضاءة، مارّة، ضوضاء القطارات.. المدينة كلها اجتمعت في هذا المدى المسرحي بمشاهده غير المألوفة وقدرته على التحرير.‏
          تخيّل يونسكو خاتمة أخرى؛ عند نهاية الفصل الثاني يختفي الجدار الداخلي فتصبح منصة المسرح فضاء لا يُحدّ، غارقاً في النور، تسير فيه الشخصيات كلها: الجندي، السكران، العاشقان، الباعة، حرّاس المدينة، ويصبح الجو غير حقيقي ويحقق الفرح العظيم.‏
          الاكسسوارات أيضاً تجسّم عواطف الشخصيات: تكاثر الفطور والأثاث، وخاصة تضخم الجثة. أراد يونسكو أن تكون الجثة عملاقة وقد حمي النقاش بينه وبين المخرج: "أردتُ أن يكون طول الساقين متراً ونصف، تردّد سيرّو. أوصى على ساقين بطول خمسة وسبعين سنتيمتراً، وقد وجدهما كبيرتين جداً. تناقشنا حول المسألة وقلت لها إن ساقين بطول خمسة وسبعين سنتميتراً هما ساقان عاديتان وسيكون الحدث نوعاً من "التهريج" ولكي يكون ظهورهما خارقاً وليس تهريجياً يجب أن نتجاوز المقاييس العادية"(1)
          التفريق أساسي بين الخارق والتهريجي، لم يحاول يونسكو إثارة ارتعاشة الرعب لدى المشاهدين، بل أراد أن يصوّر عالماً تجاوز المعايير، عالماً من الأحلام تمثل الأشياء فيه "حضوراً داخلياً".‏
          موضوع الزوجين:‏
          تطرح مسرحية "كيف نتخلص منها" مسألة الزوجين أيضاً. تشهد بطريقة أوضح مما رأينا في ضحايا الواجب العلاقات بين الزوجين وتكرار الخيبة والفشل. ليس هناك شخصية ثالثة لتقوم بالبحث والتنقيب، الجثة هي لغز الزوجين. خلال مناقشاتهما، تساءل اميديه ومادلين عن هوية الميت؛ فالمشهد يسخر إذن من العقدة البوليسية، لكن المشهد الذي يجمع اميديه الثاني ومادلين الثانية ينقل تلك التساؤلات ويقدم إجابة أساسية: المونولوجان المتقاطعان في هذا المشهد يرسمان مواقف الزوجين، مواقف متصارعة وسلسلة من عُقد. إننا نشهد الفترة الأولى من زواجهما فهي بالنسبة لاميديه "فجر العالم"؛ فهو لا يرى ولا يسمع - أنت أعمى‍.. أنت أطرش!.. أما بالنسبة لمادلين فهي الفشل. "أي صوت حاد! لقد ثقبت أذني! إنك تؤؤْؤْلمني! لا تمزّق حجب ظلماتي! ساااادي! ساااا دي!". هناك لحظات أخرى تطغى عليها صورة طفل ينكره أهله أو ينتظرونه عبثاً "لا تقتلني.. الرحمة، أتوسّل إليك.. لا تقتله، لا تقتلهم.. اشفقْ على الأطفال!..".‏
          تؤكد هذه الصور أن الجثة هي ولاشك المرأة التي تركها اميديه تغرق ولم يساعدها لأنه كان منشغلاً بسعادته باكتشافه الحب والعالم. الجثة هي أيضاً الطفل الذي لم يرغب به أو لم يحافظا عليه فمات دون أن يدركا ذلك، إنها أخيراً عشيق مادلين، صورة الرجل الذي ملأ أحلامهما الماضية وقد قتله اميديه أو ربما هي التي قتلته، كيف نعرف؟ الجثة، إجمالاً، هي جميع أشكال الفشل التي عرفها الزوجان، هي الأنانية والرفض والحب المستحيل والوحدة للاثنين معاً.‏
          هذا ما أدركه اميديه بشكل غامض، أما وقد تلاشت الهلوسات سريعاً، ها هو يقف، يقترب من مادلين يقول لها إن الحب مازال قادراً على إنقاذ كل شيء.‏
          لكن مادلين ما عادت تؤمن بالعواطف لأن الهموم والمسؤوليات استهلكتها.‏
          - لا تردد هذه السخافات، ليس الحب هو الذي سيخلصنا من هذه الجثة، ولا الكره أيضاً، إنها ليست مسألة عواطف [..] سخافات! ليس الحب بقادر على تخليص الناس من هموم الحياة"(1) .‏
          التساؤل الذي يطرحه العنوان "كيف يتخلص منها؟" جوابه في حلم اميديه. المرء لا يتخلص من ماضيه، فالماضي، أكان من رصاص أو ظلمة أو وحل يربط الفرد بوجوده، الماضي يشدّ ويقيّد؛ حتى النبات المتسلق هو رباط أيضاً، ولهذا السبب نرى اميديه، في لحظة الوعي، يتردد في الانفصال عن الجثة لأنها الشاهد الأخرس على ماضيه كله.‏
          لم تفهم مادلين، فهل لهذا السبب مضى اميديه مع الجثة - بلا رجوع؟‏
          إنها مأساة الرجل والمرأة اللذين لا يعرفان كيف يحبان بعضهما ولا يستطيعان أن يتبادلا الحب. إنها مأساة الإنسانية التي يبحث نصفاها، وقد انفصلا، كل منهما عن الآخر ليشكّلا كائناً واحداً لكن دون جدوى. اميديه ومادلين، في رأي يونسكو، هي آدم وحواء، أما الجثة فهي الخطيئة الأصلية(1) .‏
          الإلهــــــام‏
          تقدّم المسرحية فكرة أخرى. يطرح يونسكو مسألة الإبداع الأدبي.. اميديه كاتب فاشل لأنه يريد، من خلال العمل والتفكير، أن يخلق كوناً خيالياً. يسجن نفسه في بيته، يجهل العالم الذي يحيط به، يجهل الحقيقة الخارجية الغريبة ولا يكتشف إلا في النهاية "النور الفضي" للقمر، والسماء الملأى بالنجوم، والناس الذين يسيرون في المدينة. يجهل أيضاً كل شيء عن عالمه الداخلي، وعلى الرغم منه تنبثق من الهاويات أشياء لم يفهمها تماماً لكنها غيرته.‏
          الكتابة والتفكير الواعي لا يمكن إلاّ أن يخلقا معاني ودلالات، لكن يونسكو يرى في الحياة منبع الأشياء الخارقة الرائعة، إنها مصدر الإلهام حقاً.‏
          "المستأجر الجديد"‏
          حالات البوح في ضحايا الواجب واميديه واضحة جداً وتذهب بعيداً جداً أيضاً حتى أن يونسكو شعر، كما يبدو، بالحاجة إلى ترك مسافة بين كتبه وحياته وكتابة مسرح أقل صميمية. بعد شهر من كتابة اميديه، ألف، خلال ثلاثة أيام 14-16 أيلول 1953) مسرحية "المستأجر الجديد" التي استخدم فيها ظاهرة تكاثر الأشياء في حالتها الخالصة الصرفة.‏
          إلى غرفة عارية على المنصة الفارغة يصل سيد حاملاً حقيبته الصغيرة ثم يحضر حمالاً قطع الأثاث؛ يكدسان الأغراض العجيبة، يزحمان، يرصان، يكوّمان، يسدان النوافذ والأبواب.‏
          - ناقل الأثاث الأول: ليس هذا كل شيء، مازال هناك المزيد.‏
          - ناقل الأثاث الثاني: لقد امتلأ الدرج ولم يعد في الإمكان المرور.‏
          - السيد: لقد امتلأ الفناء أيضاً، والشارع كذلك.‏
          - ناقل الأثاث الأول: لم تعد السيارات تسير في المدينة، لقد امتلأت بالأثاث.‏
          - ناقل الأثاث الثاني: على الأقل، لا تشتكي أنت يا سيدي، فلديك مكان تجلس فيه.‏
          - ناقل الأثاث الأول؛ ربما كان على المترو أن يسير.‏
          - ناقل الأثاث الثاني: أوه، كلا‏
          - السيد: كلاّ، لقد سُدّت الأنفاق.‏
          - ناقل الأثاث الثاني: ما أكثر ما لديك من أثاث! إنك تربك البلد كله.‏
          - السيد: نهر السين لم يعد يجري، لقد سُدّ أيضاً وجفت فيه المياه.‏
          مازال الأثاث يدخل، من تلقاء نفسه، عبر الباب، ثم من السقف. السيد جالس على الأريكة، مطوّق، جامد، أغُلق السقف، ثم الباب وانطفأ النور.‏
          تراكمت قطع الأثاث على المسرح في الفصل الثاني من مسرحية "اميديه" لكنها لم تكن سوى اكسسوارات للديكور أما هنا فإنها تملأ الغرفة تماماً. إنها تزداد ضخامة ووصولها يتم على إيقاع معين. يحضر الحمالان مزهرية ثم كرسيين صغيرين جداً ثم مزهرية أخرى صغيرة يحملانها معاً ويبدو أن ثقلها يسحقهما. ثم يحضران طاولات وكراسي ولوحات وأكداساً من الكتب وأخيراً يحضران خزائن وصناديق وطاولات سفرة وسلّماً طويلاً.. من ناحية أخرى، تزداد سرعة ذهاب وإياب ناقلي الأثاث، ثم تصل الأغراض من تلقاء نفسها ويشكّل دخولها نوعاً من الباليه. تتوقف الحركة فجأة. يحمل أحد الناقلين باقة أزهار ويرميها من فوق الصناديق والخزائن إلى الداخل حيث يوجد المستأجر.‏
          تبرز الحركة في هذا الانتقال إلى المسكن الجديد، الواقعية في البداية الخيالية فيما بعد، الخلل في الآلية: تتم الحركة بشكل جيد، جيد بإفراط، ثم لا يبقى لها بداية ولا نهاية، وتصبح حركة مجنونة تفرض آليتها على الكائنات والعالم، وتبقى وحدها الموجودة.‏
          موضوع المسرحية صورة أخرى للغوص الذي عرضته "ضحايا الواجب": إنه الاجتياح. الأغراض تتكاثر بلا نهاية وتغمر الإنسان في نهاية المطاف. إذا ما نظرنا إلى المسرحية من هذه الزاوية فإن "المستأجر الجديد" نقد لاذع لنوع جديد من العبودية، هو النزعة الاستهلاكية.‏
          اللوحـــــــــة‏
          كتبت مسرحية اللوحة عام 1954، تعرض المسرحية رسّاماً في فقر مدقع يحاول أن يبيع إحدى لوحاته إلى هاوٍ غني، نصفه حديث نعمة، ونصفه محتال.‏
          يطلب الرسام أربعة آلاف فرنك ثمناً للوحته، لكنه، بعد المساومة، يتركها مجاناً شاكراً السيد الضخم لأنه وافق على الاحتفاظ بها معلّقة على أحد حيطان منزله؛ وموافقاً على دفع أجرة هذه الخدمة.‏
          بعد انصراف الرسام أعجب السيد بالملكة المرسومة على اللوحة وكان تعبيره عن مشاعره ذا طابع جنسي "على قدر ما تسمح به الرقابة وما يحتمله المشاهدون"(1) .‏
          أمام أخته أليس، العجوز القبيحة المقرفة، يتحول السيد إلى طفل صغير مرعوب لكنه بطلقة مسدس يحوّل الساحرة المخيفة إلى ملكة في جمال صاحبة اللوحة، وبالطريقة ذاتها يحول إحدى جارتها إلى أميرة، والرسام إلى أمير ساحر، ومكتبه المتواضع إلى قصر. هو وحده يبقى ضخماً قبيحاً.‏

          - آه! آه! آه! برافو! آه! وأنا؟ وأنا؟ أوه.. أنا لست جميلاً أبداً! يخاطب الجمهور وهو يمدّ إليه المسدس) هل تسمحون وتطلقون عليَّ النار! من يريد أن يطلق عليَّ النار؟ من يريد أن يطلق عليَّ النار؟‏
          من التفاسير الخاطئة أن نرى في هذه المسرحية احتجاجاً اجتماعياً وأن نرى فيها العبقرية التي أوصلتها الرأسمالية إلى الجوع. يمكن للحوار في القسم الأول أن يسبب هذا الالتباس إذ يكفي أن تُعرض الشخصيات كنماذج اجتماعية ضمن إخراج واقعي ملتزم بالنص.‏
          لقد حدد يونسكو في عنوان المسرحية الثانوي مضمون المسرحية إذ دعاها "تهريج": ويمكن للمهرجين أن يقدموها على المسرح. الشخصيات غيّرت وجوهها، ويجب أن يكون التمثيل مستقلاً عن النص، ويجب المبالغة في الحركات وأن تكون عنيفة أحياناً. لا تحتوي المسرحية أي مضمون نفسي وتنطوي على أقل المقاصد الاجتماعية بكلمة واحدة أن تكون من السيرك.‏
          من هذا المنظور تتحقق وحدة المسرحية. الحركة الدرامية في تصاعد دائم.. نجد، في البداية، اللهجة مضحكة. الأداء المسرحي يثير الامتعاض واللغة أيضاً: يقول السيد الضخم: "إنني أراقبهم أثناء ساعات تأملي" "البورصة هي الحياة"، من ناحية أخرى نراه يتحدث مثل بودلير - أو مثله تقريباً: "واحسرتاه الفن طويل والحياة قصيرة"(1) وله أفكاره عن الفن التجريدي وغير التجريدي:‏
          - السيد الضخم اصبعه في أنفه): حسناً، هذه هي إذن نقطة الضعف عندك، الملاحظة الكبرى التي ألفت نظرك إليها، فنحن نحدس عندك، أحياناً، ما لا نراه، ولا نرى ما نحدسه. هناك تناقض صارخ في فنك، وبالنتيجة، غموض في الأسلوب وخلط غير صاف بين التجريد وعدم التجريد وبالنتيجة، غموض في الأسلوب وخلط غير صاف بين التجريد وعدم التجريد [..] أما بالنسبة لباقي اللوحة فالأمر سهل جداً، هذه السيدة، حقيقية كانت أم خيالية، تجريدية أم غير تجريدية، هذه السيدة التي رسمتها أنت، رُسمت جيداً..‏
          يتسارع الإيقاع بعد ذلك حتى الألعاب النارية الختامية التي يقول عنها يونسكو: "تحريف لفكرة التحول"(2)

          هذه المسرحية، قبل أي شيء، لعبة للتسلية، تصوير كاريكاتوري لموقف عبثي، إنها من نوع الفارس(3) نكتشف معناها من خلال عبثيتها ذاتها.‏
          "مسرحية ألما"(3)
          لم يكن يونسكو قد نال الشهرة عام 1955 لكن إخفاقاته لم تتوقف عن التضخم. لم يقابله النقاد المسرحيون باللامبالاة، فغالباً ما خاصموه وهاجموه ونادراً ما أبدوا إعجابهم به. وضعوا اسمه تحت عناوين "كاتب العبث" و "مؤلف طليعي" ومن أجله هو شخصياً ومن أجل الآخرين وضّح يونسكو أساليبه وحدّد غاياته: كتب مقالات، وألّف "مرتجلة الما أو حرباء الراعي" التي قدمها مخوريس جاكومون على ستديو الشانزيليزيه في 20 شباط 1956.‏
          عند رفع الستارة، نرى يونسكو في بيته منهمكاً في عمله: بين الكتب والمخطوطات، رأسه على الطاولة، قلمه في الهواء. يشخر يصل بارتولوميوس الأول مرتدياً جبّة تشبه جبّة طبيب موليير. إنه دكتور في علوم المسرح وناقد يمثل العصر فوق العلمي وفوق الشعبي لقد جاء بحثا عن آخر مسرحيات يونسكو لتقدمها فرقة من الممثلين الشباب تعرض أعمالها في صالة صغيرة - خمسة وعشرون مشاهداً جلوساً وأربعة وقوفاً - "لجمهور شعبي من النخبة".‏
          فرح يونسكو فرحاً عظيماً لكن عندما طلب بارتولوميوس قراءة المسرحية شرح له يونسكو أنها انتهت دون أن يكتبها وأن موضوعها لا يمكن روايته، وأن الحوار، رغم أنه لم يكتب تماماً، بحاجة إلى بعض الاختصار فالقراءة سابقة لأوانها لكن إذا انتظر عدة أيام.. لم تنطلِ هذه الإيضاحات الغامضة على بارتولوميوس الأول.‏
          يصل بعد ذلك بارتولوميوس الثاني وبارتولوميوس الثالث، وهما دكتوران في علوم الديكور والملابس وسيكولوجية المناظر.. يدور الحوار حول جوهر المسرح ورسالة الكاتب المسرحي. لم يتفق المتحاورون لكن بما أن كل واحد منهم راح يتحدث دون أن يصغي للآخرين لم يبق للحوار أية قيمة: اعتبروا أن على الكاتب المسرحي أن يؤكد ابتعاده عن الدائرة الفاسدة(1) التي يحاول أن يسجن نفسه فيها لكي يحدد مكانه على أنه موجود داخل الشيء وهو خارج الشيء:‏
          "etre - dans - le - coup - hors - du - coup"‏
          والعكس بالعكس ، من الناحية العلمية والجدلية، كما نعلم. وبالنتيجة فإن سريع الزوال هو وحده الذي يستمر، ومفهوم العالمية هو نوع من الهرطقة التي ينشرها بعض المؤلفين الرديئين يجب إذن أن تخضع قراءات يونسكو للمراقبة:‏
          - يونسكو: جعلوني أقرأ مؤلفات اسخيلوس وسوفوكليس ويوروبيدس..‏
          - بارتولوميوس الأول: أشياء بالية، بالية، لقد انتهى ذلك كله.. إنه لا يساوي شيئاً.‏
          - يونسكو: ثم.. ثم.. قرأت شكسبير!‏
          - بارتولوميوس الثالث: هذا ليس مؤلفاً فرنسياً، ربما كان الآخرون فرنسيين أما هذا فهو روسي.‏
          - بارتولوميوس الأول إلى الثاني): إننا لا نلومه لأنه أجنبي.‏
          - بارتولوميوس الثالث: أما أنا فألومه على ذلك، ويقول على انفراد: أرجح أنه بولوني(1) .‏
          غامر يونسكو إذ ذكر موليير الذي لم ينل بعد تقديس مسرح البولفار، كما أن بارتو لوميوس الثالث تذكره فجأة: "لقد استلهم مادة مسرحه من الأدباء الأجانب، من الطليان".‏
          بدأ الدكاترة الثلاثة في الحال تعليم يونسكو وتثقيفه. علّموه أن المسرح هو إظهار المسرحة وأن المسرح يملك جوهراً مسرحياً ووجودياً من خلال تقديم المسرحيات، وأن المسرحية تُكتب لتُمثّل، يمثّلها ممثلون، في صالة تمثيل، على منصة أمام جمهور.. هذه الحقائق الواضحة سمحت للدكاترة الثلاثة أن يحددوا بعدئذ دور المسرح في العصر العلمي: ستكون حصة دراسية في المساء - إجبارية - درس في الأشياء - والفتيات اللاتي يرشدن المتفرجين إلى أماكنهم سيكنّ الموجهات أو المعيدات(2) ، سوف يشرفن على إعادة البروفات سيكون المدير موجّهاً عاماً، وكل شاهد سيرى المسرحية نفسها عدة مرات - مركّزاً اهتمامه كل مرة على مشهد مختلف - من وجهة نظر مختلفة لأن العمل الأدبي "لغة جمعية"(3) تدّل على الجميع) - سوف توضح علامات للمشاهدين - سينالون مكافأة وعقوبة - وأمّا التنابلة منهم سيأخذون دروساً في الإجازات وأثناء مهرجانات الصيف.‏
          بعد النظرية يأتي التطبيق: يرجع الدكاترة الثلاثة إلى بحث البروفسور بيرتولوس ويؤرخون للأدوات المسرحية - أي غرفة يونسكو - ينزعون الصفة الحقيقية عما هو حقيقي بوضع لافتات في كل مكان تقريباً) ويوجزون في الحركة المسرحية، ويصلحون مظهر يونسكو لأن الثياب هي "تفخيم، وتقويم، وتخريم" للرجل العادي. أخيراً يبدأون عملية الخلق المسرحي بوساطة تجهيزات مناسبة: يضعون على رأس يونسكو طاقية على شكل رأس حمار ثم يبدأ الأربعة بالنهيق: "هي.. هان.. اكتبْ! هي.. هان.. اكتبْ بقوة! .. هي.. هان.. اكتب بطريقة علمية! هي.. هان..".‏
          تصل ماري، الجارة التي تهتم بغرفة يونسكو فتخلّصة من زيّه المضحك وتنزع اللافتات وتطرد الدكاترة، بضربات من مكنستها، الذين راحوا يتعاركون حول فن الملابس وعلم الملابس.‏
          لكن يونسكو وقد انتقلت إليه العدوى، يندفع في إلقاء خطاب: يعرض تصوّره للمسرح، والنقد، والإبداع، والعلاقات بين بنية النفس ونظام اللغة.. تعلو اللهجة ويصبح متحذلقاً عدوانياً. آنذاك تتناول ماري جبة أحد الدكاترة وتضعها على كتفي يونسكو: "هل بدأت تأخذ نفسك مأخذ الجد يا يونسكو؟"‏
          على طريقة..‏
          استوحى يونسكو مسرحيته من موليير وجيرودو. يؤكد ذلك العنوان والموسيقى التي اختيرت من مقطوعات من القرن السابع عشر، وأزياء الدكاترة، وبعض المؤثرات المسرحية مثل محاكاة دون جوان والفلاحين:‏
          - بارتولوميوس الثاني مشيراً إلى اللافتة): ب.. يعني بريخت بالتأكيد.‏
          - بارتولوميوس الثالث: ... ب هذا يعني برنشتاين بالتأكيد‏
          - بارتولوميوس الأول إلى الاثنين): كلاكما على حق.‏
          - بارتولوميوس الثاني إلى بارتولوميوس الثالث): سبق أن قلت لك ذلك..‏
          - بارتولوميوس الثالث إلى بارتولوميوس الثاني): سبق أن قلت ذلك ذلك..‏
          - بارتولوميوس الأول إلى الثاني): فيما بيننا، هذا يعني عصر بريخت وليس برنشتاين إلى الثالث) فيما بيننا، هذا يعني عصر برنشتاين، برنشتاين بعد التحسين، بعد أن طُبع بطابع العصر، بعد تجاوز عيوبه..‏
          - بارتولوميوس الثالث إلى الأول): ماذا تعني؟‏
          - بارتولوميوس الأول إلى الثالث): برنشتاين على كل حال، برنشتاين على كل حال، فاهدأ..‏
          نعثر من جديد على بناء "مسرحية فرساي" و "مسرحية باريس"؛ فمسرحية يونسكو التي تعالج قضايا المسرح، تعرض علينا يونسكو وهو يكتب مسرحية "حرباء الراعي"(1) وبطلها هو يونسكو، يكتب مسرحية عن المسرح.‏
          موضوع "مسرحية الما" - مشاكل المسرح - مجموعة من الأفكار النظرية وليس تطبيق تلك الأفكار، ولكي تصل تلك الأفكار إلى الجمهور، أي لكي تتحول إلى أفكار مسرحية، كان لابد من مواجهتها مع بعضها، فالمسرحية مبنية إذن على صراع ثلاثي الوجوه.‏
          هناك أولاً صراع المؤلف مع النقاد.. النقاد متضامنون في مواجهة فريسة تحاول الهرب، تحاول الوصول إلى الباب كل لحظة.. ها هم يمسكونها من جديد، يثبتونها، يوبخونها، يرشدونها إلى طريق الصواب، يكسونها، يستثمرونها.‏
          في مواجهة الدكاترة الثلاثة هناك ماري التي تمثل الحس الشعبي السليم، حجتها الدامغة هي المكنسة، كما أن تدخلها يحيل المسرحية إلى مسرح عرائس.‏
          لكن هناك صراع أكثر حساسية بين النقاد الثلاثة: الناقدان الأول والثاني يؤيدان النقد "العلمي" يؤيدان المسرح "الملتزم" لكن أحدهما وجودي ينتسب إلى سارتر، والآخر يقول بمذهب الماهية(2) يقدس ماركس ويعيش في عصر بريختي. أمّا الناقد الثالث فإنه يدافع عن مسرح البولفار "مسرح التسلية" وينتمي إلى بيرنشتاين، ويمتدح بلاهة الجمهور، إنه بليد، يكرر باستمرار: - أنا لا أفهم - جاهل. موليير، هل تعرفانه؟ متعصب. النقاد الثلاثة شخصيات رمزية فربما ظن البعض أنه يرى من خلال شخصيات بارتولوميوس الأول والثاني والثالث، برنادور، رولان بارت، جان - جاك غوتييه.‏
          كلام متحذلق.‏
          في خصام العقائد، تدور اللعبة في المفاهيم، لكن تفجّر العنصر الهزلي في المفردات يسمح بالسخرية من الأفكار، ومن أجل ذلك يكفي استخدام اصطلاحات ايديولوجية ما، ورصف تعابيرها التقنية حتى يتلاشى مضمونها اللغوي ولا يبقى منها سوى الجرس المتنافر للأصوات المتكدسة فوق بعضها وبعض الأسماء الضائعة بين السطور، من اسم فيلسوف إلى اسم ناقد، من سارتر إلى بارت:‏
          -.. وبطريقة جدلية، هذا يعني الوجود في داخل الشيء وخارجه في الوقت نفسه، كما أنه يعني أيضاً وجود اللاموجود، ولا موجود الوجود في وقت واحد.‏
          - للحصول على تفسير أسمى للمسرحية.‏
          - يمكن أن يكون خلاصة كل التفاسير المتعاقبة المتناقضة..‏
          - .. للوصول إلى فهم بسيط، معقد، متعدد، وحيد.‏
          على منوال المجلات التقنية يتم خلق كلمات جديدة لها نفس الإيقاع والتركيب: "فن الملابس كوستمودية) وعلم الديكور ديكورولوجيه) وعلم نفس المشاهدين سبكتاكو سيكولوجية)، كما يتم اختراع تناقضات وتفاهات من خلال صياغة فكرة بطريقة قسرية أو من خلال تزييفها:‏
          - لأن المؤلفات في حد ذاتها..‏
          - لا وجود لها..‏
          - إنها تكمن في رأينا فيها..‏
          - وما نقوله عنها..‏
          - وفي التفسير الذي نتفضل بإعطائه لها..‏
          - التفسير الذي نفرضه عليها..‏
          - الذي نفرضه على الجمهور..‏
          تنشأ القوة الهزلية في لعبة المفردات هذه - وحيلتها الجدلية - من خليط الاثباتات الواقعية والاثباتات المخترعة. لقد اقتبس يونسكو حقاً بعض أقوال الدكاترة من كتابات منتقديه وخلطها مع "حقائق مجنونه" بحيث تؤكد صحة البعض خطأ البعض الآخر، ويصبح كلام الشخصيات كله مثيراً للضحك.‏
          يمكن أن نرى أيضاً عنصر الإضحاك في اللغة من خلال الأسلوب شبه العلمي الذي يخفي بديهيات، وهكذا يعرّف الدكاترة علم الملابس كوستمولوجيه) بأنه علم الملاءمة بين جوهر الشخصية وظاهرها فتوضّح ماري ذلك: "ولذلك.. كتبت أنت مسرحية.. من بين أبطالها رجل إطفاء [..] ووضعت على رأسه خوذة رجال المطافىء انتبه لذلك، ولم تضع على رأسه طرحة عروس!".‏
          هذه الأساليب تحطّم الايديولوجية التي يدور عنها الحديث، كما يحطم جمود التصورات التفكير الحي. يتناول يونسكو بعض الأفكار، يضع منها كليشهات، ثم يجعل هذه الكليشهات تتشنج وتكشّر.‏
          تقوم اللغة الموضوع بدور الاكسسوار فتارة تدعم حركة الاضحاك المتنامية عند إحدى الشخصيات، إذ أن المفردات، بعد أن فقدت معناها، لا تترك من المقاطع الطويلة في المسرحية سوى سلسلة متتابعة من الأصوات ترافق الحركات الإيمائية، وتارة تصبح الكلمات كرات يتفاذفها الدكاترة بسرعة متزايدة.‏
          التهريـــــــج‏
          ليست اللغة الشكل الوحيد للسخرية، كما أن الإيماء ليس مجرد سند للكلام. يولد الضحك في "مسرحية الما" من تغييرات الديكور، وزي الدكاترة، وتعابير وجه يونسكو، المتبجّج تارة، المرتبك تارة، المرعوب تارة ثالثة، وهو يحاول التسلل نحو الباب، أو وهو يردد الدرس الذي تعلّمه. حركات الدكاترة يغلب عليها الطابع الكاريكاتوري: المدائح المتبادلة فيما بينهم، توزيع اللافتات، وأخيراً تبادل الصفعات واللكمات وضربات مكنسة مارين، ذلك كله يضع المسرحية ضمن إطار مسرح العرائس التقليدي.‏
          المؤلف ومشاكله:‏
          يستعيد يونسكو هنا أفكاره عن المسرح، وموقف الكاتب، والنقد ثم يوضح تلك الأفكار كلها.‏
          يحدد يونسكو الإبداع الأدبي على أنه اعتراف وليس رواية أحداث من الحياة، إنه بوح لمغامرة صحيحة، تحليل نفسي بشكل عام: "المسرح كما أراه عرض للعالم الداخلي، فمن حقي أن أجعل أحلامي ومخاوفي ورغباتي الغامضة وتناقضاتي الداخلية مادة مسرحي ومن حقي أيضاً عرضها على المسرح". يبرر هذه الرؤية عمومية اللاوعي: القلق، الأحلام، الرغبات، تشكل جزءاً من "تراث السلف، مستودعاً قديماً جداً"، إنها اللغة الإنسانية المشتركة كما أنها الأكثر شمولية للاتصال بين الناس ووحدة المشاعر فيما بينهم"(1) .‏
          من ناحية أخرى، وعلى نفس المنوال، يشرح يونسكو لبارتولوميوس الأول الآلية الدرامية في مسرح لا يعتمد على العقدة. لم "يرو" قصة "حرباء الراعي" لأنه لم يبدأ المسرحية بعد، أمّا وقد أنهاها فإن سرد الحكاية يصبح بلا فائدة.‏
          - أوه.. الموضوع؟ تسألني عن الموضوع؟.. العنوان؟.. أوه.. كما تعلم، أنا لا أعرف كيف أروي مسرحياتي.. كل شيء موجود في الحوار، والتمثيل والصور المسرحية.. صور تشدّ البصر - كما يحدث دائماً - صورة ما، أو عبارة ما تفجّر آلية الخلق عندي وبعد ذلك أسلم أمري إلى الشخصيات التي خلقتها دون أن أعرف وجهتي تماماً..‏
          على مستوى شخصي أكثر، يحلل يونسكو ما يشعر به عندما يكتب، يلعن اكتشافه لعالم يكون هو أول المندهشين، كما يعبر عن نزوات الإلهام التي غالباً ما نستدعيها دون جدوى لكنها تهبط علينا عندما لا نكون بانتظارها. يتحدث عن خوفه من العمل الذي أنجزه، وعن الإحساس بانتهاك المقدسات، والرغبة في كتمان ما يجب الاعتراف به، والدهشة من الإحساس بأن الكتابة حدث خطير يُلزم الكائن كله، ورغم أن الفكاهة والضحك يحجبان الروح الشعرية، إلا أنها تظهر في لحظات البوح الكثيرة في "مسرحية الما".‏
          تعبر المسرحية أخيراً عن العدواوة التي يكنها يونسكو لكل أنواع النقد، حتى لو كان إيجابياً. الدكاترة يتبجحون، يسنون القوانين، يحولون الحقائق الأولية إلى أحكام مطلقة، يحكمون على الإبداع بتسلط، يحرمون ويحللون. يعتقد يونسكو أن كل فكرة تصبح خطيرة، ويجب مناقشتها عندما تسلك مسلك العقيدة. لقد رفض يونسكو النقد الذي رأى فيه مظاهر الإرهاب وطالب بالحديث عن المؤلفات حسب قواعد "وميثولوجيا" المؤلف نفسه، "يجب أن يكون النقد وصفياً لا معيارياً" الناقد يصف ولا يخطط وينصح).‏
          تسمح "مسرحية الما" بتحديد فكر يونسكو قبل خصامه مع كينث تينان(1) قبل النصوص النظرية التي كتبها أعوام 1958-1960، وخصوصاً قبل المسرحيات الناجحة التي بدأت مع "سلسلة برانجيه".‏
          "قاتل بلا أجر"‏
          سنوات أربع تفصل "قاتل بلا أجر، عن "أميديه"، ففي عام 1957، وبعد مجموعة من الاسكتشات الخفيفة، و "مسرحية قصيرة" التي تعتبر مسرحية ذات قضية، راح يونسكو يتوغل من جديد في غابة الأحلام والرغبات. "قاتل بلا أجر" مسرحية في ثلاثة فصول، يعود تاريخ كتابتها إلى شهر آب 1957، وقدّمها جوزيه كواغليو على مسرح ريكامييه في 2 آذار 1959.‏
          يرافق مهندس البلدية ضيفه برانجيه في زيارة "للمدينة المشّعة" وهي حي من أحياء المدينة، سماؤه صافية زرقاء دائماً، شوارعه مشمسه، بيوته محاطة بالخضرة والأزهار. يستعيد بيرانجيه، وهو القادم من حي قذر ضبابي بارد، لحظات النشوة القديمة، سعادة الحياة والحب، فرح اليقين، مشاعر الخفة والرغبة في الانطلاق.‏
          أعلن بيرانجيه عن رغبته في الإقامة في "المدينة المشّعة" لكنه لاحظ أشياء غريبة: حجر يسقط عند قدميه، تحطّم زجاج نافذة، الشوارع خالية، نوافذ البيوت مغلقة.. فيشعر بالقلق. يخبره المهندس المعماري أن جميع السكان يفكرون بالهروب لأن قاتلاً يصعب الإمساك به يعيث فساداً في "المدينة". في بركة الماء القريبة هناك ثلاث جثث هي آخر ضحايا القاتل.‏
          يفزع بيرانجيه ويحاول الهرب لكن المهندس المعماري، وهو في الوقت نفسه رئيس الشرطة، يرافقه خارج الحي ويجلسان على شرفة أحد المقاهي قريباً من موقف الباص. يشرح المهندس لبيرانجيه أن القاتل يرتكب جرائمه في هذا المكان: يختار ضحيته، يستثير شفقتها، يعرض عليها أغراضاً متنوعة، أزهاراً اصطناعية، بطاقات بريدية، مقصّات، صوراً خليعة.‏
          - [..] وأثناء المساومة يصل مع ضحيته قرب البركة التي تعرفها، آنذاك، وعلى حين غرّة، يستخدم حيلته العظمى فيقترح أن يعرض على الضحية صورة الكولونيل، وهذا إغراء لا يُقاوم. بما أن النور لا يكون كافياً، تنحني الضحية ذات الروح البريئة لترى جيداً، وفي تلك اللحظة تكون النهاية إذ أن القاتل ينتهز فترة انشغالها بتأمل الصورة فيدفعها في البركة وتغرق.‏
          يُسمع فجأة صراخ وصوت سقوط جسم في الماء: إنها داني، سكرتيرة المهندس، ضحية القاتل الجديدة فهي لم تعد تحت حماية المصلحة.‏
          يبين ديكور الفصل الثاني غرفة بيرانجيه، غرفة في الطابق الأرضي مظلمة قبيحة، عند طرف المدينة البعيد، في حي لا يعرف سوى فصل الخريف. في الخارج، حارسة البناية تغني وهي تدفع مكنستها، ومتشرد يردد مطلع أغنية، سائقان يتبادلان الشتائم، قائد طائرة يتحدث عن همومه:‏
          - كنا على ارتفاع سبعة آلاف متر عندما رأيت، فجأة، جناح الطائره ينفصل عنها.‏
          - صوت رقيق): وماذا بعد‏
          - قلت في نفسي، حسناً، بقي الجناح الآخر، تجمّع الركاب كلهم في جهة ليحفظوا توازن الطائرة التي كانت تطير بجناح واحد.‏
          - هل خفتم؟‏
          - انتظر.. فجأة فقدت الطائرة جناحها الثاني، ومحركاتها.. ومراوحها.. وكنا على ارتفاع سبعة آلاف متر‍..‏
          يبحث رئيس عمال عن حل لتحسين مردود مؤسسته:‏
          - يضيّع الصبيان الموزّعون عندنا وقتاً كبيراً عندما يذهبون للتبول. خمس مرات وسطياً في اليوم يعطلون عمليات التوزيع ليقضوا حاجتهم، وأجرة هذا الوقت الضائع لا تحسم من أجورهم. إنهم يستغلون هذا الوقت فلابد من تنظيمهم: ليتبوّلوا مرة واحدة في الشهر، بالتناوب، خلال أربع ساعات ونصف بلا انقطاع، وهذا سيوفّر عملية الذهاب والإياب التي تكلّفنا غالياً. الجمال أيضاً تستطيع تخزين الماء.‏
          رجلان عجوزان يتحسّران على الماضي الجميل، ومعلّم الصف يشرح درساً في التاريخ، والبقال يتجادل مع زبونه، وساعي البريد يحمل طرداً لبيرانجيه.. المدينة كلها، الحياة بما فيها.‏
          يصل بيرانجيه فيجد ادوار ينتظره في غرفته.. لقد فوجىء أن هذا الصديق يملك مفتاحاً لغرفته. يروي بيرانجيه قصة القاتل فلا تظهر علامات الدهشة على ادوار.. عند الخروج، يفتح ادوار، بحركة جائشة، الحقيبة السوداء الضخمة التي لم يتركها منذ بداية الفصل، ولم يرفع نظره عنها. وجد فيها بيرانجيه، وهو مذهول، أزهاراً اصطناعية، بطاقات بريدية، دبابيس، حاملات أقلام، وصوراً للكولونيل. لقد اكتشف فيها أيضاً اسم القاتل وعنوانه، يومياته السرية، وقائمة بجرائمه وأسماء ضحاياه. لم يستطع ادوار أن يبّرر وجود هذه الأشياء في حقيبته. قرر بيرانجيه أن يذهب برفقة ادوار يخبر الشرطة، لكن ادوار ينسى الحقيبة على كرسي في غرفة بيرانجيه.‏
          في الفصل الثالث، ترى الأم بيبا، في أحد شوارع المدينة تحت رايات خضراء عليها صورة أوزة بيضاء. تخطب في الجماهير. إنها تطالب بالسلطة وتعرض برنامجها السياسي. إنها تعد بتحرير الإنسانية بواسطة استعباد الأفراد، كما تعد بالحساء الشعبي للجميع، إنها تصف العصر شبه العلمي:‏
          - أعدكم بتغيير كل شيء، ولكي نغيّر كل شيء يجب أن لا نغيّر أي شيء، ستتغير الأسماء لكن الأشياء لن يطرأ عليها أي تغيير. الخداع القديم لم يصمد أمام التحليل النفسي ولا التحليل الاجتماعي. سيكون الخداع الجديد منيعاً. لن يكون هناك سوى أنماط من سوء التفاهم، سنجعل الكذب يبلغ درجة الكمال [..] لن نضطهد أحداً بعد الآن، لكننا سنعاقب وسنحقق العدالة. لن نستعمر الشعوب، سنحتلّها لنحررها، لن نستغل الناس لكننا سنجعلهم ينتجون. سيُسمّى العمل الإجباري عملاً طوعياً.. والحرب سلاحاً، وسوف يتغيّر كل شيء بفضلي وفضل وزّاتي [..] أمّا فيما يتعلّق بالمثقفين.. سنعيدهم إلى جادة الصواب ونجعلهم يسيرون بخطى الوزّة عاشت الوزّات!‏
          يسير بيرانجيه وادوار، الأول يجرّ الثاني، يريد بيرانجيه أن يصل إلى مديرية الأمن قبل أن تغلق أبوابها؛ أما ادوار فيريد أن يستريح قليلاً لأن السعال والبصاق أنهكاه، وعندما يلاحظ بيرانجيه أن ادوار لا يحمل حقيبة القاتل تظهر حقائب مماثلة لها من كل صوب: حقيبة تحت ذراع سكّير، وأخرى في كف رجل عجوز ذي لحية بيضاء، وثالثة بين يدي الأم بيبا لكن لم تكن أية واحدة منها حقيبة القاتل. يطلب بيرانجيه من ادوار أن يعود إلى غرفته لحيضر الحقيبة بينما يتابع هو طريقه إلى مديرية الأمن. انقضى وقت طويل وهو ضائع في زحمة الشارع لكن الزمن توقف، لحسن الحظ، مثلما توقفت حركة المرور.. أخيراً، في أصيل شاحب، في زمان ومكان جامدين وجد نفسه وحيداً على طريق لا نهاية لها. تغدو خطواته بطيئة أكثر فأكثر، قلقه وخوفه يكبران، ويردد الصدى أقواله. فجأة يظهر القاتل أمامه، هزيلاً، غير حليق، يرتدي معطفاً بالياً من الجبردين، أعور، "لكن عينه الوحيدة لها بريق الفولاذ".. يضحك بيرانجيه ضحكات عصبية:‏
          - [..] أوه، إنك نحيف هزيل، هزيل بحيث لا تكون قاتلاً، يا صديقي البائس! أنت لا تخيفني! انظرْ إليّ، انظره كم أنا أقوى منك.‏
          يهز القاتل كتفيه دون جواب، يتكلم بيرانجيه وحده، يطلب من القاتل أن يشرح موقفه، يحاول أن يتخيل، أين توقع دوافعه، يحاول أن يفهمه، أن يبرر مسلكه: "هل أنت متشائم؟.. عدمي؟.. فوضوي؟" ويتساءل هل قتل ضابطاً لأنه يكره العسكر؟ هل قتل نساء لأنه عدو المرأة ولأنه عانى من نزواتها؟ هل قتل الأطفال لأنهم يمثّلون الإنسانية في أنقى صورها؟ ربما قتل من باب الطيبة ليريح الناس من العذاب، لكي يشفيهم من تسلط فكرة الموت؟ القاتل يضحك، ويصمت.. يحاول بيرانجيه ثنيه عن طريق القتل فيحدثه عن الحب والأخوّة، يعرض عليه صداقته، يعرض عليه مركزاً اجتماعياً مرموقاً، يعرض عليه ثروات، يعده بشهداء يموتون من أجله، يتوسل، يهدد، يشتم، يخرج مسدساً من جيبه، لكن ماذا تفعل الرصاصات مع الكراهية والقسوة! يجثو بيرانجيه ويتمتم: "يا إلهي، لا يمكن أن نصنع شيئاً!.. ماذا يمكن أن نصنع.. ماذا يمكن أن نصنع.." بينما يقترب القاتل، مقهقهاً، شاهراً سكينه الضخمة.‏
          من الحلم الجميل إلى الكابوس‏
          تعتمد مسرحية "قاتل بلا أجر" على قصة قصيرة نُشرت في المجلة الفرنسية الجديدة في الأول من تشرين الثاني عام 1955 تحت عنوان "صورة الكولونيل". اقتصرت الحركة الدرامية في القصة على الإيحاء فقط، ولم يتجاوز الحوار البدايات، أما المسرحية، المبنية بشكل جيد، فإنها تكشف عن مقاصد يونسكو بشكل أفضل.‏
          تصور المشاهد المسرحية مواقف وطرقاً متنوعة لمواجهة الحياة، وتقدم سلسلة من الحالات الشعورية. تتألف المسرحية من ثلاث فصول يشكل كل منها لوحة مزدوجة لحالات شعورية متناقضة. تترجم بداية الفصل الأول الشعور بالغبطة، وعلى المسرح العاري توحي تغيرات الأضواء بعالم أجمل نتيجة الفرح في الحياة والإحساس بالخلود.‏
          لكن حضور الموت، أو على الأصح، إدراك هذا الحضور، يفسد الواقع. النور يصبح رمادياً، كما أن بيرانجيه، الممزق، المتجلد، يشعر من جديد بوطأة الوجود، يجد نفسه من جديد وسط ضوضاء متنافرة، محاطاً بالضباب والوحل، على شرفة "مطعم صغير".‏
          تزداد هذه الضآلة في الفصل الثاني الذي يمتاز جوّه بالبشاعة ثم بالاختناق. الجزء الأول منه صورة صوتية رنانه: تبقى غرفة بيرانجيه غارقة في الظلمة، بينما تتصاعد الضوضاء من المنزل والشارع، ومن خلال النافذة، والغرفة موجودة في الطابق الإرضي - نرى أطياف الشخصيات، ومكنسة حارسة البناية: يتضاعف الحدث الصوتي من خلال مسرح الظلال.‏
          تجري أحداث الجزء الثاني في الغرفة الباردة البشعة. بيرانجيه، الذي يعاني أعظم الألم لوفاة داني، يدعو للشفقة وادوار يدعو للرثاء لأنه يعاني من آخر مراحل مرض السل؛ كما أن اكتشاف حقيبة القاتل يفرض صورة الموت من جديد، ويثير الشبهة والشكوك.‏
          في الفصل الثالث، يتخبط بيرانجيه وسط محيط متلاطم من الصور الكابوسية. أضاع الحقيبة، ووجد ثلاثاً مثلها لكن لم تكن أياً منها الحقيبة التي يبحث عنها. يتعارك مع السكّير، يتعارك مع العجوز ذي اللحية، الأم بيبا والسكّير يتعاركان أيضاً. يبحث العجوز في مدينة باريس عن أرصفة الدانوب، شرطيا المرور عملاقان، كما إنهما أيضاً آلتان لقراءة الأفكار.. الساعات توقفت. المدى قابل للامتداد لقد: سار بيرانجيه طويلاً لكن مديرية الأمن مازالت بعيدة(1) .‏
          أخيراً، حديث بيرانجيه مع القاتل - وهو "فصل قصير في حد ذاته" كما يقول يونسكو - يعبّر عن موقف مأساوي. يناضل بيرانجيه ضد حقد عظيم وقسوة مطلقة، باختصار، ضد حتمية القدر، وليس بمقدوره إلا السقوط.‏
          في هذه السلسلة من اللوحات الست يظهر الواقع على التوالي: رائعاً، كريهاً، مضحكاً، مؤلماً، وهمياً، مأساوياً، ومن خلال هذه التغيرات تولد الحركة الدرامية التي يدعمها سقوط الشخصيات وتقهقر اللغة.‏
          سقوط الشخصيات‏
          الشخصيات كثيرة بشكل خاص في مسرحية "قاتل بلا أجر": خمس وثلاثون شخصية، دون أن نحسب الجمهور: شخصيات مرسومة بخطوطها العريضة تجاور بيرانجيه، موكب من الأشباح تزداد قبحاً ولا يظهر أي منها مرتين. هناك، في البداية، المهندس المعماري المسؤول عن "المدينة المشّعة" وصبيّة شقراء جميلة: العبقرية والحب. لكن نهاية الفصل الأول تعرض علينا متشرداً سكراناً و"صاحب مطعم صغير" سوقياً. الحسناء تُقتل، المخترع العبقري يغدو خادماً للنظام: يتحول المهندس إلى قائد شرطة لا تعنى له جرائم القاتل شيئاً: "آلو!.. لا يوجد أدلة؟ احفظوا القضية!.. - اشرب نخبك!".‏
          الشخصيات في الفصل الثاني دُمى متحركة، فحارسة البناية رقم 13 في الشارع رقم 12 تتأمل في الفلسفة الرواقية فترى أن الفلاسفة أصحاب ايديولوجيات وكنّاسون منهم الجار، السيد لولار والآنسة كولومبين، خليلة السيد بوليسون وسائق التاكسي الذي يشتم سائق الشاحنة قائلاً: "لماذا تخاطبني بصيغة المفرد؟ ألا تعرف استخدام صيغة الجمع؟" - ومعلّم المدرسة، والطيار ورئيس الصبيان الموزعين، وضحية الناقد، الأسقف مورفان(1) ، إلى آخر هذه الوجوه التي نراها في السيرك.‏
          تقدّم نهاية الفصل الثاني، إضافة إلى بيرانجيه الفاشل، خرقة إنسانية لا تثير الشفقة، إنه ادوار بأقواله وأفعاله التي تثير الريبة وتدعو للقلق.‏
          تصبح الشخصيات خطيرة حقاً في الفصل الثالث. الأم بيبا تشبه حارسة البناية(2) ، لكن الأم بيبا، تلميذة مارك أوريل، تصبح ردا أنثوياً على الأب أوبو: محرضة، سفيهة، مستخفة بالأخلاق والأعراف، تحثّ الجمهور على الجريمة، والإعدام دون محاكمة. الشرطيان عدوانيان، يعترضان الجندي ويشتمان العجوز - "هيا.. ابتعد.. إذا كنت أطرش، أو إذا كنت أبله.. اغرب عن وجهي!" يهددان بيرانجيه ويشكّان أنه صحفي:‏
          - الشرطي الأول للثاني): هل لديه آلة تصوير؟‏
          - بيرانجيه: ليس لدي آلة يا سادة، فتشوني.. أنا لست مخبراً صحفياً..‏
          - الشرطي الثاني: من حسن حظك أنك لا تحملها معك وإلا كنت حطمت وجهك!‏
          الشبح الآخير من هذه المجموعة هو القاتل.‏
          تقهقر الكلام‏
          عند بداية المسرحية يستخدم بيرانجيه لغة غنائية أقرب إلى الشعر، لغة غنية بالصور والاستعارات والإيقاع العذب والسجع الذي يترجم فرحه في الحياة واحساسه بالإمتلاء: ".. أصبح النور أكثر سطوعاً دون أن يفقد شيئاً من رقته، لقد كان كثيفاً جداً حتى صار صالحاً للتنفس، أصبح هو الهواء نفسه، بل صار النور صالحاً للشرب مثل الماء الصافي.. كيف أعبر لك عن ذلك البريق الذي لا مثيل له؟.. كأنما لو أن هناك أربع شموس في السماء".‏
          في نهاية هذا الفصل تسود اللهجة الغثة المبتذلة التي يلجأ إليها مفوَّض الشرطة و "صاحب المطعم الصغير": "من أجلك أنت يا سيدي المفوض عندي نبيذ بوجوليه حقيقي" و "فطيرة من لحم الأرنب محشوة بلحم الخنزير الطري" ومن هذه الغثاثة والابتذال يتفجر فجأة السخف واللامعقولية.‏
          لكن اللامعقولية تتزايد خاصة في الفصل الثاني، في مشهد الأصوات. يمتزج السخف مع البلاهة وتختفي كل فكرة لكن الكلمات تتابع ترابطها ولم تعد الشخصيات مسؤولة عن الحديث الذي تتبادله، فأغنية حارسة البناية هي تركيب غير محدود لمهفومي "الحر" و "البرد":‏
          عندما يكون الطقس بارداً، لا يكون حاراً‏
          عندما يكون الطقس حاراً، ذلك يعني أنه بارد!‏
          عندما يكون الطقس بارداً، هل يكون حارّاً؟‏
          عندما يكون الطقس حارّاً هل يكون إذن بارداً؟‏
          كيف يكون الطقس اذن عندما يكون لارداً [..]‏
          تشكّل المناقشات الدائرة بين أعضاء مجلس الإدارة سلسلة من الكنايات تتسلل إليها اشتقاقات لغوية:‏
          - هل عُرضت القضية على وفد من مندوبي الوفود؟ [..]‏
          - كلا، فقد حُلّت المسألة بواسطة نيابة وفد المندوبين [..]‏
          - وبما عندنا من معلمين رؤساء ومن معلمين مساعدين ومن نظراء المعلمين ومن حاشية المعلمين سنشكل قاعدة تنظيمية، ولجنة مشتركة.‏
          - سيؤلف المعلمون وحاشية المعلمين لجان أعمال من شركات المتعهدين وهذه بدورها ستؤلف جماعات اجتماعية..‏
          - هناك المبدأ التنظيمي للقاعدة وهناك وجهة النظر التنظيمية للبنية الفوقية..‏
          في الفصل الثالث يتضمن حديث الأم بيبا جميع الشعارات السياسية وجميع الصيغ التي تتبناها جميع الايديولوجيات الهابطة وجميع الدكتاتوريات. تتحدث الأم بيبا لغة القتل والجريمة، ويستخدم الشرطيان لغة العنف والقسوة: "انصرفْ من أمامي.. لحظة واحدة فأنا مشغول بهذا السيد.. لا تهتم بذلك، سنناله على كل حال في المرة القادمة.."‏
          أخيراً، نرى اللغة تتفتت في المونولوج الذي يلقيه بيرانجيه، فكلمات الحب والصداقة والكرم ما هي إلا قوالب تستر نزعة عاطفية منافقة، وتخفي حجج ومبررات الكراهية والجريمة، ثم يتلاشى اليقين، وتتساوى التأكيدات كلها في الشك الذي يعبر عنه بكلمة "ربما".‏
          - [..] لست أدري، ربما كان الذنب ذنبي، وربما كان ذنبك أنت، وربما لم يكن لا ذنبي ولا ذنبك، ربما لم يكن هناك ذنب على الإطلاق، ربما كان ما تفعله خيراً وربما كان شراً وربما لم يكن لا خيراً ولا شراً [..].‏
          سيستخدم بيرانجيه بعد قليل كلمات على غير ما يهوى.. يفكر بالأخوّة لكنه يقيء شتائم. لقد فلّ سلاحه. عند خاتمة هذا التقهقر التدريجي تكتمل "تراجيديا اللغة".‏
          الســـــــقوط‏
          تغيرات الانطباع العام، سقوط الشخصيات، تقهقر اللغة، كلها ظواهر تشير إلى تجربة وجودية، تجربة السقوط.‏
          تحدّث بعض النقاد عن "مسألة الشر" في المسرحية، كتبت الناقدة مارسيل كابرون: "إنها "المسرحية" تعالج أكثر المواضيع اتساعاً ورحابة، الموضوع الذي يحوي المواضيع كلها: الإنسان في مواجهة الشر، الإنسان الذي يصارع الشر، الشر الذي يكتسي بمختلف الوجوه والأشكال، الشر الذي يأخذ شكل اللامبالاة، وهو الشكل الذي ربما كان أكثر الأشكال إفساداً للأخلاق"(1) . مع ذلك فالقاتل لا يمثل الشر، كما أن المشاهد المتتابعة ليست - أو ليست فقط - تجميعاً لأشكال الشر المختلفة. الحركة الدرامية هي عنصر أساسي في مغزى المسرحية، إنها تبرز الفقدان التدريجي للعفو والمغفرة، وتؤكد التورط في واقع ساقط. تصور الإنسان المطرود من الفردوس. هذا هو المضمون الانطولوجي لمسرحية "قاتل بلا أجر". "نعم، إنه السقوط، كما يقول يونسكو، إنها الخطيئة الأولى، وهذا يعني إنها شيخوخة العادة، أما الحدث اليومي المتجدد فما هو إلا غطاء رمادي نخفي تحته عذرية العالم"(1) .‏
          1 "محاورات" مع كلود بونفوا ص107. عندما أفلس مسرح بابليون وبيعت تلك الاكسسوارات بالمزاد، لم تجد الجثة من يشتريها، سوى الساقين، قُطّعت الجثة قطعاً صغيرة لرميها في براميل الزبالة، لكن تم التخلص منها بطريقة أخرى رضوخاً لاعتراضات حارسات البنايات في الحي، تم نقل ما تبقى أثناء الليل إلى ضفة السين، وهكذا التقى الواقع والخيال.‏
          1 لقد عرفت مادلين لحظات من الحنان، فخلال تناول الطعام تأثرت بوجه اميديه الحزين، قالت: "اسمعْ، يمكن أن نعتبر هذا اليوم استثناء، إنني أسمح لك، اشربْ كاساً من الخمر، هيا، إنك تبدو حزيناً". أثناء فترة الانتظار في الفصل الثاني تصدر عنها أيضاً حركة رقيقة حنونة ثم توقفت وراحت تلمّع حذاء الجثة.‏
          1 محاورات مع كلود بونفوا ص96-97.‏
          1 إرشادات حول إخراج المسرحية.‏
          1 بودلير، أزهار الشر، قصيدة "الشؤوم".‏
          2في مقدمة المسرحية..‏
          3الفارس: تمثلية مضحكة يغلب عليها التهريج والمرح.‏
          3 leimpromptu هي مسرحية قصيرة تنطوي على الشعر والموسيقى.‏
          1 الدائرة الفاسدة: le cercle vicieux في المنطق هي محاكمة خاطئة يُقدّم فيها كدليل الافتراض الذي ينطلق فيه المرء حسيب).‏
          1 ربما لأن جان كوت كان قد نشر منذ فترة كتاب "شكسبير، كاتبنا المعاصر" فجان كوت كاتب بولوني.‏
          2 المعيدات يعملن على إعادة شرح الدرس للطلاب.‏
          3 تعبير أوجده رولان بارت يؤدي دوره في المسرحية بارتولوميوس الثاني.‏
          1 "رأيت، ذات مرة، في مدينة ريفية كبيرة، وسط الشارع، في عز الصيف، حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر راعياً شاباً يحتضن حرباء.." أليس الراعي المذكور هو الكاتب؟ والحرباء التي أصبحت راعياً هي الناقد؟ لا توضح المسرحية ذلك، كما أن يونسكو تحاشى تفسير هذه الاستعارة.‏
          2 مذهب الماهية: يرى أن الماهية تسبق الوجود بعكس الوجودية.‏
          1 نرى، في الفقرة الأخيرة خصوصاً، تأثيرات نظريات يونغ على تفكير يونسكو.‏
          1 انظر ملاحظات وملاحظات مضادة مناقشة لندنية).‏
          1 يفكر القاري - ويونسكو أيضاً - بشخصية المساح في رواية كافكاً "القصر".‏
          1 المقصود هو الناقد والصحفي مورفان لوبيسك.‏
          2 أدّت ممثلة واحدة الدورين على المسرح.‏
          1 جريدة كومبا 2 آذار 1959.‏
          1 محاورات مع كلود بونفوا ص35.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو

            هجاء سياسي
            تعكس المسرحية اهتمامات سياسية أيضاً. لقد عاب البعض على يونسكو لامبالاته بالأحداث‏
            الجارية: "بحثنا عبثاً في تلك المسرحيات عن علامة واحدة من علامات عصرنا"(2) كما كتبت رونيه‏
            سوريل، لكن هذا يعني أنها لم تر في "قاتل بلا أجر" أن قائد الشرطة والشرطيين، وبشكل خاص الأم‏
            بيبا يجسدون الضغوط التي يفرضها المجتمع على الفرد. المسرحية نقد لاذع للطغيان، للايديولوجيات‏
            الظالمة المضطهدة - وفي رأي يونسكو، كل سلطة مستبدة، وكل ايديولوجيا ظالمة متى حققت‏
            النصر.‏
            التفكير الفردي لم يعد حراً: لقد جرب بيرانجيه ذلك مع الشرطيين اللذين حزرا أفكاره، كما أن‏
            ادوار صرّح بذلك إلى السكير: "أن يفكر المرء ضد عصره فتلك بطولة أمّا أن يعلنه فذلك هو‏
            الجنون"(3) .‏
            إذا لم يشعر النقاد بالحالة الراهنة في مسرحية "قاتل بلا أجر" فذلك لأن يونسكو لم يستخدم‏
            أساليب المسرح السياسي الذي ازدهر واستتب له الأمر حوالي عام 1960. النقد اللاذع يذكّرنا، هنا،‏
            بجارّي ولا يذكّرنا ببريخت. يعرض يونسكو قناعاته الصحيحة على لسان السكير، بشيء من الحياء،‏
            مع حرصه على أن لا يُنظر إليه بجدية كبيرة.‏
            - لقد ساهم العلم والفن في تغيير العقلية أكثر مما ساهمت السياسة. الثورة الحقيقية تتم داخل‏
            مخابر العلماء ومراسم الرسامين، انشتاين أوبنهايمر، بروتون، كاندينسكي، بيكاسو، بافلوف، هؤلاء‏
            هم المجددون الحقيقيون. إنهم يوسعون ميدان معارفنا، يجددون نظرتنا للعالم، يعيّروننا [..] الثورات‏
            الشعبية أحقاد وضغائن تتفجر بطريقة خرقاء..‏
            هل هناك موقف أوضح من هذا الموقف في المسرح الذي يسمونه "الملتزم"؟‏
            "الكركدن"‏
            ليست نقطة انطلاق مسرحية الكركدن - نقطة انطلاقها فقط - تجربة انطولوجية، كما رأينا في‏
            مسرحية "قاتل بلا أجر بل كان حدثاً تاريخياً، هو وصول الايديولوجية النازية إلى رومانيا بعدعام‏
            1933. رفض يونسكو الإيمان بالمذهب الجديد ودخل في صراعات مع أساتذته وأصدقائه، وتحولت‏
            مقاومته، شكوكه، عناده، عواطفه، صدماته النفسية مع مرور الزمن إلى قلق دائم. الذكريات‏
            المختزنة، الملحاحة كانت تتحول إلى هلوسات، وفي عام 1957 كان موضوع مسرحية "الكركدن"‏
            يعشعش في مخيلته.‏
            بناء على طلب جنفياف سيرو، اعتمد يونسكو على فكرة الكركدن في كتابة قصة قصيرة ظهرت‏
            في مجلة الآداب الجديدة، شهر أيلول 1957، ثم استخدم يونسكو القصة أساساً للمسرحية. في 29‏
            تشرين الثاني عام 1958 قرأ يونسكو الفصل الثالث في مسرح فيوكولومبييه، خاطب الجمهور قائلاً:‏
            "المسرحية تُكتب لتُمثّل لا لتُقرأ. لو كنت مكانكم لما حضرت". عُرضت المسرحية لأول مرة في‏
            دوسلدورف في 7 تشرين الثاني 1959، وفي فرنسا، قدّمها لوي بارّو على مسرح تياتر دو فرانس في‏
            22 كانون الثاني 1960، وفي انكلترا قدّمها أورسون ويلز على خشبة رويال كورت ثياتر في 28 نيسان‏
            1960، ولعب فيها لورانس أوليفييه دور البطولة. بعد عشر سنوات من الفشل، عرف يونسكو النجاح‏
            والمجد.‏
            نلتقي في المسرحية مع بيرانجيه من جديد، المصحح في دار نشر إدارية(1) . في الفصل الأول،‏
            يذهب بيرانجيه إلى موعد مع صديقه جان، في شرفة مقهى، قبيل ظهر يوم الأحد. يصلان إلى‏
            الساحة الصغيرة في وقت واحد، كل منهما من اتجاه. بيرانجيه مغضّنُ الثياب، أشعث الشعر، يجرّ‏
            قدميه جرّاً، أمّا جان ففي غاية الأناقة.‏
            يبدأ الحديث لكن الإرهاق والنعاس الشديد يظهران على بيرانجيه يتثاءب، "يشعر بآلام في شعره"‏
            و "ظمأ عظيم". يلقي عليه جان درساً ويوبخه على مسلكه، وهيئته وقميصه المغضن بلا ربطة عنق،‏
            ووجهه غير الحليق، وشعره الأشعث.. بينما يتحدث جان يُخرج من جيوبه ربطة عنق، ومشطاً،‏
            ومرآة صغيرة، يعقد بيرانجيه الوديع ربطة العنق، ويمشط شعره، ويمد لسانه أمام المرآة..‏
            يغضب جان منه لكن في تلك اللحظة تماماً يمر كركدن فينشر الرعب بين التجار والمتسكعين،‏
            لا يهتم بيرانجيه بالأمر لكن جان ينفجر غاضباً: "يجب أن نحتج إلى السلطات البلدية! ما الفائدة منها‏
            تلك السلطات البلدية؟".‏
            يصل رجل يعتمر قبعة قش، هو رجل المنطق، وشيخ، ويجلسان على الطاولة المجاورة. يشرح‏
            رجل المنطق آلية القياس:‏
            - رجل المنطق: ها هو مثال نموذجي عن القياس، القط له أربع قوائم، لكلْ من ايزيدور وفريكو‏
            أربع قوائم، إذن ايزيدور وفريكو قطّان.‏
            - الشيخ: كلبي أيضاً له أربع قوائم.‏
            - رجل المنطق: إنه قط إذن.‏
            يستمر الحديثان حديث جان وبيرانجيه، وحديث رجل المنطق والشيخ) بشكل متقاطع، ينتقل‏
            رجل المنطق والشيخ من القياس إلى الأخلاق، إلى الحساب الذهني وكلها "صور من المنطق". جان‏
            ينصح بيرانجيه أن يغير مسلكه، أن يكون نظيفاً، أن ينقطع عن شرب الكحول، أن يروح عن نفسه‏
            بطريقة ذكية.. لكن عندما اقتنع بيرانجيه وقرر أن يزور المتاحف، ويتردد على المسارح، طلب من‏
            جان مرافقته.. يرفض هذا الأخير: "سأنام قليلاً بعد الظهر فالقيلولة جزء من برنامجي.. هذا المساء‏
            سألتقي مع بعض الأصدقاء في مشرب.. لقد وعدتهم وأنا أحافظ على وعودي".‏
            يعبر كركدن جديد وأثناء مروره يسحق قطّ إحدى السيدات. يحزن عليها كل من رآها، لكن‏
            الغضب يسيطر على جان فيشتم بيرانجيه وينصرف حانقاً. يتساءل الناس عن عدد الكركدنات‏
            وأصلها.. يشارك رجل المنطق في الحديث ويشوش كل شيء. يأسف بيرانجيه لأنه فقد السيطرة على‏
            أعصابه واختصم مع جان، يطلب كأساً كبيرة من الكونياك ويقرر أن يستخدم عقله مرة أخرى.‏
            يتألف الفصل الثاني من لوحتين، تمثل اللوحة الأولى المكتب الذي يشتغل بيرانجيه فيه. السيد‏
            بابيون رئيس المكتب، دودار مجاز في الحقوق يعد بمستقبل باهر، بوتار معلّم ابتدائي محال على‏
            التقاعد، ديزي السكرتيرة الحلوة، يتناقشون حول حدث البارحة الذي تحدثت عنه الجرائد. دودار لا‏
            يؤيد ولا يعارض، بل يجد المسألة جديرة بالاهتمام والدراسة. لقد شاهدت ديزي الكركدن وطلبت‏
            شهادة بيرانجيه الذي وصل إلى أطراف أصابعه لأنه متأخر. يحاول السيد بابيون، وهو المدرك‏
            للتسلسل الوظيفي، أن يفضّ النقاش، ثم يذكّر زملاءه بالنظام ويبدأ الجميع العمل.‏
            تصل مدام بوف وتعتذر عن غياب زوجها. لقد ذهب إلى الريف وأصيب بنزلة برد. ثم تروي‏
            بانفعال أن كركدناً طاردها من البيت إلى المكتب وها هو يدور هناك عند أسفل الدرج الذي تداعى‏
            تحت وطأة ثقله. فجأة تطلق مدام بوف صرخة رعب:‏
            - مدام بوف: يا إلهي! هل هذا ممكن!‏
            - بيرانجيه إلى مدام بوف): ما بك؟‏
            - مدام بوف: إنه زوجي! بوف، يا حبيبي بوف، ماذا حصل لك؟‏
            - ديزي إلى مدام بوف): هل أنت متأكدة تماماً؟‏
            - مدام بوف: لقد تعرّفت عليه، لقد تعرّفت عليه يردّ عليها الكركدن بخوار هائل لكنه حنون).‏
            - السيد بابيون: عجباً! سأطرده نهائياً هذه المرّة!‏
            "لا تصغي مدام بوف إلا لحبها" وتندفع إلى قفص السلّم وتقفز على ظهر"وحيد الأصبع" وتغدو‏
            أمازونة تحت بصر بيرانجيه وديزي. بما أنه لم يعد هناك ثمة درج تتلفن ديزي إلى رجال الإطفاء‏
            كي يحضروا لإنقاذهم، لكن رجال الاطفاء مشغولون جداً فقد وصلتهم طلبات من شتى أنحاء المدينة‏
            لإنقاذ الناس من الكركدنات: "هذا الصباح كان هناك سبعة كركدنات والآن صار عددها سبعة عشر‏
            [...] تمّ الإبلاغ عن اثنين وثلاثين كركدناً.‏
            لم يعد هناك مجال للشك في هذه الظاهرة فيقول بوتار بامتعاض إلى دودار: "كلاّ ياسيد دودار،‏
            أنا لا أنكر الحقيقة الكركدنية، ولم أنكرها من قبل أبداً!”.‏
            تمثّل اللوحة الثانية من الفصل الثاني غرفة جان. استغلّ بيرانجيه فرصة إغلاق المكتب وجاء‏
            ليعتذر عن سلوكه البارحة. يجد صديقه في السرير، يراوده القلق، وشيئاً فشيئاً يحلّ الرعب محلّ‏
            القلق، إذ يتحوّل جان، تحت بصره، إلى كركدن. يصبح تنفّسه عالياً، وصوته أجش، يسمك جلده‏
            ويخضرُّ، يشعر جان بارتفاع في درجة الحرارة فيخلع ثيابه ويريد أن يستحمّ في المستنقع وينبت قرن‏
            في وسط جبهته. أثناء الحديث يتنكّر جان لمبادئه التي دافع عنها بالأمس: الحضارة باطلة، الإنسانية‏
            ادّعاء مضحك، والأخلاق يجب تجاوزها!‏
            - جان: الأخلاق! لتتحدث عن الأخلاق، لديّ منها الشيء الكثير.‏
            الأخلاق، شيء حلو! يجب أن نتجاوز الأخلاق.‏
            -بيرانجيه: وماذا سنضع مكانها؟‏
            - جان: الطبيعة!‏
            - بيرانجيه: الطبيعة؟‏
            - جان: للطبيعة قوانينها، الأخلاق ضد الطبيعة.‏
            - بيرانجيه: إذا كنتُ قد فهمتُ ما ترمي إليه فأنت تريد أن تستبدل قانون الأخلاق بشريعة‏
            الغاب!‏
            - جان: سأعيش في الغاب، سأعيش فيه.‏
            - بيرانجيه: كلام يقال، لكن في الحقيقة لا أحد...‏
            - جان: يجب أن نعيد بناء أسس حياتنا. يجب العودة إلى الطهارة الأولى...‏
            في النهاية، يثورجان ويهدد بيرانجيه: "سأدوسك... سأدوسك"‏
            ثم يصبح صياحه خواراً. يهرب بيرانجيه ويطلب المساعدة لكن الجار والجارة وحارس البناية‏
            صاروا كركدنات، وها هي قطعان من الحيوانات سميكة الجلد تملأ الشوارع.‏
            تدور أحداث الفصل الثالث في غرفة بيرانجيه. بيرانجيه نائم تفترسه الكوابيس. يعبّر عن رأيه‏
            إلى دودار الذي جاء لزيارته، ثم يتحدث عن مخاوفه من هذا الوباء وانتقاله بالعدوى، وقلقه من‏
            التفكير في الناس المصابين. يحاول دودار طمأنته:"أنت لا تواجه أي خطر... ليس لديك الإستعداد‏
            لذلك" وفي الوقت نفسه يقول دودار إن من الواجب فهم هذه الظاهرة، ومنحها مسألة شرف فكري‏
            وأمانة علمية، لكن إدانتها موقف متطرّف وهناك خطر عظيم في إصدار حكم عليها " هل من الممكن‏
            معرفة أين ينتهي العادي ويبدأ الشاذ".‏
            يرى بيرانجيه في هذا التساهل ضعفاً، بل تواطؤاً: "لن تلبث حتى تصبح متعاطفاً مع‏
            الكركدنات". يحاول بيرانجيه أن يدافع عن النزعة الإنسانية لكنه لايدري كيف يردّ على دودار‏
            ويضيع بين حججه ويخلط بين غاليلو وزينون، ويغضب: "لستُ متمكنّاً من الفلسفة ولم أقم بدراسات‏
            أمّا أنت فإنك تحمل شهادات عليا... وهذا ما يجعلك أكثر طلاقة في الحديث؛ أما أنا فلا أدري بما‏
            أجيبك، أنا تنقصني المهارة... لكنني أشعر أنك على خطأ...". إنه رفض عفوي، عاطفي.‏
            تحضر ديزي لتعرف الأخبار من بيرانجيه وفي تلك الأثناء لا يتوقف عدد الكركدنات عن‏
            الإزدياد، إذ بعد أربع وعشرين ساعة من تحوّل رئيسه، يتحوّل بوتار إلى كركدن: "يجب أن نساير‏
            عصرنا! تلك كانت آخر كلماته الإنسانية". الكار دينال دوريتيز، مازاران، دوق سان سيمون يتحولون‏
            إلى كركدنادت. مخازن كثيرة اُغلقت "بسبب التصليحات"؛ ومن النافذة يرى جدار مركز الإطفاء يتهدّم‏
            وسط غيمة من الغبار وتخرج منه كتيبة من كركدنات تتقدمها فرقة موسيقية، لم يعد دودار قادراً على‏
            الصمود رغم جهود بيرانجيه لإبقائه بشراً.‏
            بيرانجيه وديزي وحيدان. يصّرح لها بحبه. لقد نسيا العالم الخارجي فترة من الزمن؛ لكن الشر‏
            ينتشر. يرنّ الهاتف، المتحدث كركدن. سيطرت الكركدنات على محطة الإذاعة وأعلنت السلطات‏
            تأييدها للكركدنات ولم يبق هناك سواهما: بيرانجيه وديزي آخر الكائنات البشرية. جاء دور ديزي‏
            وشعرت بقلق عظيم فلم يستطع بيرانجيه تهدئتها. خارت عزيمتها ولا تريد متابعة النضال، وتجديد‏
            الإنسانية. لا تريد أن تكون حواء لآدم جديد. أغوتها الكركدنات وصارت ترى في خوارها أناشيد،‏
            وراحت تتأمل "لعبها"! "الكركدنات جميلة، إنها تبدو لطيفة... إنها آلهة". يتحدث بيرانجيه عن حبهما‏
            فتردّعليه!‏
            - ديزي: إنني أشعر بقليل من الخجل من ذاك الذي تدعوه حباً؛ هذا الشعور المريض، هذا‏
            الضعف الذي نجده عند الرجل وعند المرأة. هذا لا يُقارن أبداً بالحماسة، بالطاقة الخارقة التي تصدر‏
            عن الكائنات المحيطة بنا.‏
            - بيرانجيه: الطاقة؟ تريدين طاقة؟ خذي، إليك هذه الطاقة يصفعها) لقد انتهى كل شيء وتحطّم‏
            حبهما: "واحسرتاه، خلال دقائق قليلة عشنا خمسة وعشرين عاماً من الحياة الزوجية" قال بيرانجيه‏
            "الحياة المشتركة لم تعد ممكنة" كما أكدت ديزي ثم تتصرف لتضيع في ذلك القطيع.‏
            تنتهي المسرحية بمونولوج يلقيه بيرانجيه، استدراك مؤثر وساخر معاً. ينادي ديزي بلا جدوى،‏
            يسدّ الأبواب والنوافذ "لن ينالوني أبداً!" يحاول أن يبرر ذاته لكنه لم يفهم ماذا تعني اللغة التي لا‏
            يتكلمها أحد، ولا يتعرّف على الصور المعلّقة على الجدار، ولا الصور التي يخرجها من أحد‏
            الأدراج... يطمح أن يصبح كركدناً وينظر بقرف إلى جلده الرخو الرقيق وجبهته الخالية من القرون،‏
            ويجرّب الخوار دون نجاح. آنذاك، وبينما تنهار الجدران من حواليه، يتناول مسدسه، وفي ارتعاشة‏
            مقاومة: "ضد العالم أجمع سأدافع عن نفسي! ضد العالم أجمع سأدافع عن نفسي! أنا آخر إنسان‏
            وسأبقى كذلك حتى النهاية! لن استسلم!".‏
            المســـــــخ:‏
            الموضوع المركزي في المسرحية هو المسخ وقد تأثّر يونسكو بشكل واضح بكافكا. عندما‏
            اكتشف يونسكو الروائي التشيكي -خصوصاً قصة المسخ- كان يعيش فترة قلقة من حياته. ظنّ أنه‏
            وجد لدى كافكا وساوسه الشخصية وفهم القصة على أنها تعبير، لدى كل فرد، عن قوى ومظاهر‏
            مرعبة، كما رأى فيها نزع الصفة الإنسانية عن الفرد ورمزاً بصورة دورية للجماهير والشعوب التي‏
            تكتسب بصورة دورية وجهاً مرعباً.. يمكن أن نأخذ هذا التفسير بعين الإعتبار لكن من الأهمية بمكان‏
            أن يونسكو وجد لدى كافكا صورة لعالم وُلد من الكوابيس، ووجد أيضاً حساسية قريبة من حساسيته،‏
            وقد ساعده ذلك بلا شك على أن يعطي عالمه الخاص الخيالي أشكاله وطابعه العام.‏
            لقد شكّل التحوّل، من قبل، عنصراً من عناصر الإخراج في مسرحيتي "الإمتثال" و "ضحايا‏
            الواجب" أما في مسرحية "الكركدن" فقد غدا التحوّل محركاً للعمل الدرامي كله.‏
            تطــــوّر حتمــــي‏
            الحركة، في المسرحية، حركة مستقيمة: العدوى لم توفّر أحداً، والدائرة تضيق ببطء حول‏
            بيرانجيه.‏
            يبيّن الفصل الأول موطن الوباء: مدينة صغيرة هادئة جداً، لا يحدث فيها شيء أبداً. ليس هناك‏
            أي مظهر واضح للمرض؛ لكن هناك بعض العلامات ذات المغزى؛ سأم مدينة لا تعرف التسلية،‏
            الخمول، حزن الأمكنة، أنانية الناس، اللامبالاة بكل أمر لا يمسّهم شخصياً. خاصة موقف جان ورجل‏
            المنطق. الأول عنيف، مدّع، يدافع من قبيل العادة عن إنسانية لا يؤمن بها، كسول، سكيّر، يتبنّى‏
            أفكاراً يمتاز بعضها - تمجيد القوة مثلاً- بمزايا كركدنية. أما الآخر فأبله، خطير، لأنه يملك سلاحاً‏
            هو المنطق، مستعدّ للدفاع عن أي شيء أو لتدمير أي شيء. على الساحة الصغيرة حيث تتحرك‏
            الدمى التي تشدّ خيوطها أهواء مكبوتة، يمرّ كركدن كلما اغتاظ جان من بيرانجيه وهذه أيضاً دلالة‏
            مقلقة.‏
            تبيّن اللوحة الثانية منطقة أخرى مصابة بالوباء. مواقف الشخصيات تشير إلى استعداد مسبق‏
            للإصابة بالمرض. بوتار عنيف هو الآخر مثل جان. مبادئه ما هي أكثر من قناع يخفي حسده كرجل‏
            فاشل. يحسد رئيسه، يكره الصحفيين، يحتقر سكان جنوب فرنسا إنهم خياليون أكثر من اللازم)‏
            والجامعيين. إنه عدو للمشروبات الكحولية، عدو للعنصرية. إنه معارض دائم. أما دودار فمؤيد دائم،‏
            مستعدّ دائماً لقبول أي شيء. وهذا وضع خطير أيضاً. أمّا السيد بابيون فهو الرخاوة عينها. خلال‏
            هذه اللوحة، ومع تحوّل بوف، تتثبّت دعائم "الوضوح الكركدني" على نمط هزلي.‏
            يتبدّل المناخ في اللوحة الثالثة ويتمّ الانتقال من الهزل إلى الغرابة. المرض لا ينتقل في‏
            الكواليس فقط بل على المنصة، إنه حقيقة حيّة. يتمّ تحوّل جان بشكل متناغم مع تحولات الجيران‏
            والبوّاب من خلال الخوار المسموع والأشباح التي نراها عبر الشارع. مع مرور الوقت يأخذ المرض‏
            مغزى جديداً: خلال حديث جان عن الأخلاق الكركدنية -العودة إلى الطبيعة، "الطهارة الأولى"-‏
            نسمع هدير شعارات الإيديولوجيات كلها.‏
            في الفصل الأخير يصبح بيرانجيه مركز اللوحة،عليه تقع وطأة التهديد. تتسارع الحركة الدرامية‏
            من خلال تناوب المشهد والقصة وتزداد قوة بواسطة التحولات المستورة التي ترافق الشخصيات‏
            المعروفة: بابيون، بوتار، رجل المنطق... غرام بيرانجيه وديزي استراحة قصيرة في هذه الحركة‏
            الدرامية، لكن الداء يتطوّر خفية بحيث تكون النهاية أكثر عنفاً. العالم ينهار حول لبيرانجيه ووسط‏
            تخيلات القيامة، يبقى هناك بصيص إنساني. الكلمة الأخيرة ليست حلاً: في زمن الفوضى المتجمد،‏
            حُكم على بيرانجيه أن يدافع عن إنسانيّة وأن يرفضها إلى النهاية.‏
            مجموعة موضوعات:‏
            إضافة إلى موضوع التحوّل المركزي، تعالج المسرحية موضوعات أخرى. يتحدث بيرانجيه مع‏
            جان عن صعوبة الحياة والحاجة إلى الكحول للنسيان: "أنا لا أحب الكحول كثيراً ومع ذلك إذا لم‏
            أشرب لا تسير الأمور. حالي كما لو أني خائف، فأنا أشرب إذن كي لا أخاف [...] أنا متعب، متعب‏
            منذ سنوات، أجد صعوبة في حمل جسدي..." صورة المدينة الصغيرة، العمل المملّ، أيام الأحد‏
            الفارغة التي لا تنتهي، التسليات الرتيبة، كل ذلك يؤكد عبث الحياة: "الوحدة تثـقل عليّ، والمجتمع‏
            كذلك" يقول بيرانجيه ثم يكمل؛ "الحياة شيء شاذ".‏
            علاقات بيرانجيه مع ديزي وجان تنويعات لموضوعي الحب والصداقة تنويعات متشائمة: الحب‏
            زائل عاجز، والصداقة كذب، إذ أن جان لا يتردد على بيرانجيه إلاّ لكي يتلذذ بتفوقه عليه.‏
            هذه الموضوعات الثانوية ليست منعزلة عن الموضوع الرئيسي بل تتناغم معه. الفشل في‏
            الحياة، والحب، والصداقة سبب من أسباب العيش على طريقة الكركدن.‏
            دراسة أسباب المرض:‏
            يعتمد التطور الدرامي على رسم الشخصيات، وتأثيرات الحوار، واللعبة المسرحية.. الشخصيات‏
            المرسومة بخطوط واضحة شخصيات نموذجية: التجّار، موظفو المكتب، ربة البيت... وفي كل‏
            مجموعة يبيّن التصوير الفروق الدقيقة: البقّال، صاحب المقهى، خادمة المقهى، رئيس المكتب،‏
            صاحب الإجازة في الحقوق، المعلّم المتقاعد الذي يجد عملاً جديداً، ضاربة الآلة الكاتبة الشابة...‏
            وهكذا نحصل على تنوّع في الشخصيات يسمح لنا بدراسة وتحليل أسباب المرض.‏
            "كيف يستطيع المرء أن يصبح كركدناً؟ " تساءل بيرانجيه، وكل فرد من الشخصيات يشكّل‏
            جواباً لهذا السؤال. يصبح المرء كركدناً لأنه عنيف، مغرور، ويصبح كركدناً "لأنه يساير عصره" أو‏
            لأنه فاشل وتابع، أو لأنه يشعر بالضيق من سحنته، ويصبح المرء كركدناً لأنه يحاول تبرير الشر،‏
            أو لأنه يتذبذب بين الرفض والتأييد، ويصبح المرء كركدناً نتيجة الغواية والإغراء، أو من منطلق‏
            "جمالي".‏
            مقابل الشخصيات التي تجمدّت في قوالب، بيرانجيه وحده يتغيّر، يتغيّر على إيقاع الحركة‏
            الدرامية نفسها. سكير ظريف ذو فكر خيالي، لا مبال بالحياة، وشيئاً فشيئاً يكتسب التماسك والصلابة‏
            ويظهر على وجه التقريب، بمظهر البطل في نهاية المسرحية. أمّا وقد غيّره تحوّل جان تغييراً جذرياً‏
            فإنه شعر بمسؤوليته، بل بذنبه، وألقى على نفسه تبعة أخطاء الآخرين وتبنّى أفكارهم وحججهم. لقد‏
            استعاد في المونولوج الختامي أفكار جان ودودار وديزي. لقد تحمّل مسؤولية الإنسانية جمعاء.‏
            ناقل الفيروس: اللغة.‏
            مثلما تنشر الفئران مرض الطاعون كذلك تنقل اللغة فيروس الكركدنة.‏
            هناك بعض الصور الشاعرية في المشهد الغرامي، لكن اللغة غالباً ما تكتسب شكلاً متخلّفاً،‏
            وتؤلف التفاهات نسيج الأحاديث كلها: " يا للتهذيب الفرنسي الأصيل، وليس كما نرى في شباب‏
            اليوم...." "كان قطي نظيفاً جداً، كان يتبوّل في نشارة الخشب..." "لم يكن ينقصه سوى الكلام..."‏
            مبادئ من يجهدون أنفسهم في التفكير ما هي إلاّ سخافات وها هو جان يردد أفكاراً عامة مبتذلة:‏
            "كلما شرب المرء زاد عطشه"، "مزيداً من الإرادة بحق الشيطان... يجب أن تكون على دراية‏
            بمشكلات اليوم.. كن على علم... بدلاً من أن تنفق كل ما يتوفر لك من نقود على المشروبات‏
            الكحولية..." كما أن الحكم والأمثال التي يرددها بوتار ماهي إلاّ لآلئ من نفس المياه: كلّ الصحفيين‏
            كذابون... أنا، لست من سكان الجنوب... الكليات، الجامعة، إنها لاتساوي المدرسة الإبتدائية...".‏
            ليست المسافة طويلة مابين البلاهة واللغو، إذ بالمحافظة على الشكل الجامد لفكرة عامة يكفي‏
            تغيير كلمة واحدة: "مانوع الكركدن الذي ليس له سوى قرن واحد.؟‏
            يمكن للامعقولية أن تولد من اجتماع الضدين أو من غموض ناتج عن تماثل الأصوات: "-أنت‏
            تحلم واقفاً‍ !- أنا جالس- واقف أو جالس نفس الشيء -هناك بعض الاختلاف علىكل حال". "كنت‏
            بجوار صديقي جان!... كان هناك أشخاص آخرون -أقسم أنك لاتدري ماتقول".‏
            لاتكتسب اللغة خطورتها من زيفها بل من عملها المتقن إلى حد الإفراط ومن آليتها... من آليتها‏
            الذاتية. يرى يونسكو في المنطق تلاعباً بالألفاظ يقتل الفكر الحقيقي.‏
            اللغة موجودة خارج الحياة لكنها قادرة على خنقها. تدّعي اللغة أنها تنظّم المعرفة والعمل وتحدّد‏
            العدالة والأخلاق... "لها وجوه متعددة كما يقول الشيخ". وفي هذا الصدد فإن المشهد الرباعي الذي‏
            يتقاطع فيه حديثان - حديث جان وبيرانجيه وحديث رجل المنطق مع الشيخ ليس هزلياً فقط بل إنه‏
            يبيّن أن الحياة الناعمة القاسية، "الثقيلة الخفيفة" المتناقضة المزدوجة، لا علاقة لها مع آلية المحاكمة‏
            المنطقية. يقول جان لبيرانجيه: "لقد ناقضت نفسك، فهل الوحدة تثقل عليك أم هي الكثرة؟ تحسب‏
            نفسك مفكّراً لكنك تفتقد المنطق تماماً". صحيح أن بيرانجيه يبرهن بطريقة رديئة لكنه يشعر أنه على‏
            صواب.‏
            المنطق خطير لأنه يقيم الدليل على أي شيء، على أن الكلب قط، وأن لسقراط أربع قوائم... أو‏
            على أن الكركدنة هي المستقبل والتقدم. المنطق يقتل العفوية، يحوّل الحياة إلى حركات وإيماءات‏
            ويجعل من التفكير تكيّفاً نفسانياً؟ إنه يجمع الأشكال البراقة التي تخفي الغرائز الجنسية والعنف‏
            والتعطش للقتل وجميع وزّات الأم بيبا.‏
            "... عمل متكامل..."‏
            استغلّ يونسكو في هذه المسرحية جميع إمكانيات المسرح: التمثيل، الديكورات، الإكسسوارات،‏
            الإضاءة.‏
            غالباً ما يكون تمثيل الممثلين مستقلاً عن النص. يبدأ الفصل الأول بحركات صامتة بين صاحبة‏
            البقالة وربة البيت؛ وما كاد جان يستقر حتى أخرج من جيوبه أدوات الزينة كأنه حاوٍ يُخرج الأرانب‏
            من قبعته، وينتهي الفصل الأول باستعراض؛ هذه المشاهد هي التي تعطي الفصل الأول طابعه‏
            الضاحك. يبدأ الفصل الثاني بـ "لوحة حيّة" تمهدّ للنقاش الذي يليها. يبرز هرب بيرانجيه، الذي‏
            يلاحقه جان ، غرابة الموقف؛ ومشهد اللوحات والصور في نهاية الفصل الثالث هو أيضاً حركات‏
            صامتة تساعد على تطوّر الحدث الدرامي.‏
            يبرز تغيّر الديكور التهديد المتعاظم الذي يضغط على بيرانجيه: ساحة عامة، ثم مكان عمله، ثم‏
            غرفة صديقه، وأخيراً غرفته هو: الشر يطارد بيرانجيه في أمكنة تزداد صميمية بالتدريج. إضافة إلى‏
            ذلك، فإن هذا الديكور يتهدّم، جزئياً، في الفصل الثاني تحت وطأة الكركدن، أمّا في الفصل الثالث فإنه‏
            ينهار تماماً تحت ضرباتها. آنذاك يصبح بيرانجيه عاجزاً عن الدفاع.‏
            استخدام الإكسسوارات قضية تهمّ المخرج بمقدار ما تهمّ المؤلف. يمكن أن يتخيل استعمال أقنعة‏
            تمثّل الكركدنات، كما يمكن تقديم المسخ الجسدي الذي يتعرّض له جان: يذهب إلى الحمّام ويعود عدة‏
            مرات وفي كل مرة يكبر القرن على جبهته ويزداد اخضرار بشرته. إمكانات أخرى للإخراج توحي‏
            بتحول داخلي بحت: "هذا الإحتمال أصعب؛ لكن عندما ينجح هذا التحوّل، خصوصاً الأخلاقي، يغدو‏
            الأمر مقلقاً. ومن الغريب أنه عندما لا تُستخدم الإكسسوارات تصبح المسرحية سوداء، وأكثر‏
            مأساوية، أمّا في حالة استخدامها، تصبح المسرحية هزلية ويضحك المشاهدون. لقد اختار بارّو‏
            التفسير الهزلي لأنه يعتقد أن أشد المسرحيات مأساوية في فرنسا هي المسرحيات الهزلية واستشهد‏
            بمسرحيات موليير: طرطوف، كاره البشر، البخيل" ).‏
            مهما كانت طريقة الإخراج فهناك عملية تكاثر. والطريقة هي موضوع المسرحية بالذات كما‏
            أنها إحدى الوسائل الدرامية. هناك مطابقة هزلية بين تكاثر الخراتيت وازدياد عدد الرجال الذين‏
            اسمهم جان: في اللوحة الثالثة، كل الناس اسمهم جان وكما رأينا كل الناس اسمهم جاك أو روبير أو‏
            اميديه.‏
            مسرحية "ملتزمة".‏
            لمسرحية الكركدن مغزى تاريخي قبل كل شيء." تهدف المسرحية إلى وصف انتشار النازية في‏
            بلد من البلدان" كما كتب يونسكو )لقد نفّذ جان لوي بارّو استعراض الكركدنات على إيقاع أناشيد‏
            ومارشات من استعراضات الجيش النازي. ترسم المسرحية صعود النازية في أوربا اللامبالية أو‏
            المتواطئة معها. هنالك المكر والإغراءات التي تسبق استخدام القوة، وردود الفعل المتناقضة الصادرة‏
            عن بوتار، الإعجاب العاطفي لدى ديزي، فضول عالم الحشرات عند دودار، رعب بيرانجيه، الواقف‏
            وحيداً ضد الجميع، هذه مشاعر تراود الشهود والمرتكبين والضحايا في تلك المجزرة الدامية. الأقوال‏
            المأثورة التي يرددها جان عن الإنسان المتفوّق والأخلاق الطبيعية التي يدعو إليها تصدر أصواتاً‏
            شبيهة بأصوات الأحذية العسكرية الضخمة وتؤدي إلى إقامة "نظام جديد" وجهه الآخر "ليل وضباب"‏
            nacht und nebel . لمسرحية الكركدن مغزى أبعد من التاريخ، ففيروس الكركدن لا يظهر فقط‏
            بصورة الصليب المعقوف إذ أن يونسكو يتناول هنا دعوة الأم بيبا بالنقد اللاذع. المسرحية هجوم‏
            عنيف على الإيديولوجيات التي تخلق الهستريا الجماعية. الكركدن هي "المثقفون الإيديولوجيون‏
            وأنصاف المثقفين أتباع الموضة الدارجة" )الذين يبرّرون بطرائق شبه منهجية عقليتهم كتابعين.‏
            الكركدنات هي العبيد المولعون بالإخلاص للرئيس، للقائد، للحامي. إنهم بناة الديانات الجديدة وأولئك‏
            الذين تسكرهم الخطب، وتعميهم الإستعراضات البراقة الخادعة، الذين يسترون الواقع البغيض بدخان‏
            البخور وهتافات التأييد. الكركدّنة هي التعصّب الذي "تقع شعوب كاملة دورياً فريسة له".‏
            يعالج يونسكو في مسرحية الكركدن مسائل معاصرة بوضوح أكبر مما رأينا في "قاتل بلا أجر".‏
            عام 1958 بنشأ خلاف بينه وبين كينث تينان من جريدة الأوبزرفر الذي كتب، رغم إعجابه بجرأة‏
            وتقنية يونسكو: "مسرح السيد يونسكو لاذع، محرّض، لكنه يبقى تسلية هامشية" ) فهل كانت مسرحية‏
            الكركدن ردّاً على هذه الانتقادات؟‏
            نعم. دون أدنى شك. لكنها خصوصاً امتداد طبيعي للبحث الخلاّق الذي بدأه يونسكو. الإنسان‏
            "فرد" له وساوسه ومخاوفه الصحيحة، وهو أيضاً كائن ضمن مجتمع، خاضع لتأثيرات الجماعة،‏
            منغمس في الأحداث الراهنة". الدوافع البيولوجية، الرغبات، الأحلام، تتلوّن دائماً بلون العصر. إذ‏
            بعد جاك وشوبير واميديه ها هو بطل يونسكو يخرج عن نطاق العائلة والزوجين ليواجه مشاكل‏
            الحياة الاجتماعية. بأسلوب مختلف يمضي الإلتزام في "الكركدن " في نفس اتجاه مسرحية ارتورو‏
            أوي ).‏
            يدافع بيرانجيه عن عالم يحترم حقوق الإنسان، عالم مازالت كلمات: حضارة، حرية، صداقة،‏
            حبّ، تحتفظ فيه بمعناها، عالم إنساني على وجه العموم.‏
            لكن هذه النزعة الإنسانية غير مقنعة، فبيرانجيه يعطي انطباعاً أنه يكرر أفكاراً جاهزة، يرتبك‏
            في تقديم براهينه، يخلط بين المذاهب لدرجة يمكن اتهامه بالتشبث بالماضي ورفض التطور؛ بل ربما‏
            كان رافضاً للمغامرة الإنسانية. لكن رفض مدلول التاريخية لا يعني... رفضاً كلياً للتاريخ وللتطور.‏
            أكثر من ذلك، لا يريد يونسكو من خلال براهين بيرانجيه، أن يقارن بين منهجه الشخصي وبين‏
            المناهج التي يهاجمها: "إذا كنت أضع ايديولوجية جاهزة مقابل ايديولوجيات أخرى جاهزة، تربك‏
            العقل فلا أكون فعلت شيئاً سوى استبدال نظام من الشعارات الكركدنّية بنظام آخر ذي شعارات‏
            كركدنية" ).‏
            لهذا السبب فإن المسرحية تعبّر، إضافة للصراع بين الإستبدادية والفردية، عن طريقة في اختبار‏
            الذات واختبار العالم. مغزى المسرحية مغزى وجودي، فخلف نزعة بيرانجيه الإنسانية هناك إنسانيته‏
            الخاصة، ورفضه لذلك الموقف ناتج عن حدس وغريزة: "أنا أشعر أنك مخطيء" كما أن رغبته، في‏
            خاتمة المسرحية، في أن يصبح كركدناً رغبة غير عقلانية. عاش بيرانجيه الصراع بين غريزة‏
            التجمّع وغريزة الحرية: "إن العزلة تضغط علي والمجتمع يضغط أيضاً". تظهر مسرحية "الكركدن"‏
            إن ثمة قوى غامضة تكبّل اللاشعور عند كل فرد، وإنه يواجهها بردود أفعال مختلفة.‏
            إن نزعة محاكاة الآخرين والحاجة في أن يبقى المرء متميزاً يتقاسمان كل شخص، ويسيطران على‏
            الحياة بالتناوب؛ وهكذا يتضح فقدان الحلّ في هذه المسرحية تساءل يونسكو في "ملاحظات‏
            وملاحظات مضادّة" عن نجاح المسرحية! "عُرضت مسرحية الكركدن في ألمانيا أكثر من ألف مرة‏
            حتى الآن، وعُرضت مئات المرات في أمريكا وفرنسا، وعُرضت مرات كثيرة في انكلترا و إيطاليا‏
            وبولونيا واليابان والدول الإسكندرينافية وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وهولندا، الخ... أذهلني نجاح هذه‏
            المسرحية. هل يفهمها المشاهدون فهماً صحيحاً؟ هل يرون فيها ظاهرة التضخم المشوّه المخيف؟"‏
            صحيح أن المسرحية تتهم الجمهور وتدين نزعات القطيع والغرائز القاتلة لدى الجماعات والجماهير،‏
            لكنها توقظ أيضاً لدى المشاهد الميل الفطري إلى الإستقلال. ثم يضيف يونسكو: "في الوقت نفسه‏
            الذي يكون المشاهدون فيه مؤهلين للتكتل، هل يكونون كلهم أيضاً، وبشكل أساسي، وفي أعماقهم من‏
            نزعة فردية، هل يكونون أرواحاً متفرّدة؟"‏
            2 مجلة الأزمنة الحديثة، نيسان 1959.‏
            3 يتذكر يونسكو تجربته الشخصية.‏
            1 مثلنا كان يونسكو في الأربعينات.‏
            )) محاورات مع كلود بونفوا ص119.‏
            )) مجلة الفنون. كانون الثاني 1961.‏
            )) المصدر السابق.‏
            )) راجع"يونسكو أمام النقد" في آخر الكتاب.‏
            )) قُدمت مسرحية ارتورو اوي Artutro لأول مرة في فرنسا في 8 تشرين الثاني 1960.‏
            )) مجلة "فنون" كانون الثاني 1961.‏


            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو

              حياة: "التجوال في الغابة"
              1- البحث عن الذات‏
              هل الحياة شيء آخر سوى أن يشق المرء طريقه كالأعمى، بين الأغصان المتشابكة والنباتات المتسلقة؟ كتب يونسكو:"عندما أريد أن أروي حياتي فإنما أتحدث عن تجوال، أتحدث عن غابة لا محدودة، أو بالأحرى أتحدث عن تجوال في غابة لا محدودة"(1) تجوال، هذا صحيح، لكنه بحث أيضاً، بحث يحوّل المستقبل إلى مصير. فهمُ عالم لا معقول، إحاطة بمغزى الكائنات والأشياء، استكشاف الماضي والحاضر، إماطة اللئام عن اللغز، "البحث باصرار عن الجذور"، تلك هي أهداف البحث الذي قام به يونسكو.‏
              البحث عن الجذور، إدراك حياة تريد أن تكون ذات مغزى، والتي يمكن) أن توجد في الإبداع الأدبي، هذا هو أيضاً معنى سيرته الذاتية.‏
              "فتافيت"‏
              ولد أوجين يونسكو في بلدة سلاتيما في رومانيا، في 26 تشرين الثاني عام 1912(1) . ينتمي إلى أصول فلاحية إلا أن جدّه هجر الأرض وصار والده محامياً وشغل مناصب هامة في القضاء والشرطة في فترة ما بين الحربين؛ أما والدته - تيريزا ايكار - فكانت فرنسية، وعندما أكمل عامه الأول قدم للإقامة في باريس حيث كان والده يتابع دراسة القانون.‏
              ترسم الذكريات المشوشة التي حفظها من طفولته الباكرة وأوردها في "يومياته" وفي كتابه عن "المسرح" صورة والده التي طمسها النسيان، ووجه أمه وصوتها، وأخته الصبية، وأخاه الصغير ميرشا الذي مات بالتهاب السحايا وهو في شهره الثامن عشر. يذكر يونسكو الأماكن التي سكنوا فيها على التوالي: ميزون _ إلفور، ثم باريس، شارع مدام، ثم شارع بلوميه وشارع تياتر، ثم ساحة فيوجيرار.. "كنا نغيّر سكننا كثيراً‍". عام 1916 عاد والده إلى رومانيا فوجد نفسه مع أمه وأخته "كنت صغيراً جداً واضطرت والدتي للعمل في مصنع لتطعمني"(2) . إنها الحرب، المدفعية الألمانية تقصف باريس: ذكريات النزهات الليلية، الخرائب، الأشباح التي تظهر بين شقوق الجدران(3) . خالٌ،خالات، بعض أصدقاء أقاربه، بيت للأطفال قرب مودان حيث لقيت أخته العناية اللازمة؛ ثم نزلٌ في لونغ جيمو حيث أقام فترة من الزمن. ظلال منتزعة من الظلام.‏
              كانت السنوات الأولى تمثّل للطفل الاكتشاف الخطير للعالم، تمثّل زمن الدهشة والألم الذي لا ينمحي. كانت والدته تأخذه كثيراً إلى مسرح العرائس في حديقة اللوكسمبورغ: العرائس المضحكة التي تتكلم، تتحرك، تتقاتل. كانت الدمى تعرض صورة كاريكاتورية لحركات البالغين. كان يونسكو يبقى هناك ساعات طويلة، رصيناً صامتاً: "كانت والدتي تقلق: هل مللت؟ - كلا‍ لقد كنت مذهولاً".(3) لقد عرف الطفل الحزن أيضاً أمام وجه أمه الباكي لقد اكتشف حالة الموت: "سألت أمي ذات يوم: هل سنموت جميعاً؟ أخبرتني الحقيقة!‍ قالت لي "نعم".كان عمري آنذاك أربع سنوات أو خمس. كنت جالساً على الأرض وكانت واقفة أمامي. إنني مازلت أراها. كانت تشبك يديها خلف ظهرها وهي مستندة على الجدار وعندما رأتني أنتحب - لأنني رحت أبكي فجأة - نظرت إليّ وهي عزلاء، عاجزة. لقد خفتُ خوفاً شديداً"(4) .‏
              يبدو أن والدته كانت السبب العميق لحزنه، لقد ولّد الخوف في أحلامه الطفولية صوراً لكوابيس استولت عليه في ليالٍ طويلة حتى عندما سكنوا في لاشابيل - أنتونيز: "في أحلامي كانت الصور البشعة تشبه شخصيات بروغل أوبوش: أنوف ضخمة، أجسام مشوّهة، ابتسامات مخيفة، وأقدام متشعبة.(1) .‏
              الفردوس:‏
              حوالي عام 1921 أقام مع أخته في لاشابيل - انتونيز، وهي قرية صغيرة في منطقة المايين. "كنت مريضاً، مصاباً بفقر الدم، فأرسلتني والدتي لأسكن في مزرعة في الريف وأستعيد صحتي ونضارتي"(2) . أمّا وقد اعتاد الباريسي الصغير على رؤية السماء الرمادية والبيوت العالية السوداء فقد دهش عند وصوله، من صفاء الألوان، وانتشى من الأريج، وبدت له محطة السكة الحديدية والقضبان وسط الحقول ذات "جمال خيالي".(3) "نزلنا من القطار، على عكس اتجاه الطريق المألوف. انتظرنا، مع حقائبنا، أن ينطلق القطار. كانت المحطة صغيرة، وردية تحت أشعة الشمس، في قلب الريف، وسط الخضرة: أسيجة وأشجار وحقول [..] لمحتُ في البعيد جرس الكنيسة فحسبته برجاً في قصر. اعتقدت أننا سنسكن هناك، في غرف فسيحة مظلمة، خلف الأسوار، كما كانت تظهر في صور كتاب التاريخ وحكايات الجن"(4) .‏
              كانت ذكريات تلك الفترة تؤلف صورة الفردوس.. كانت قرية مولان التي أقام فيها وسط وادٍ صغير، عند تقاطع ثلاث طرق، تحيطها القمم العالية المكسوّة بالأشجار والأدغالِ الخضراء: إنها عش حقيقي. في الشتاء، تصبح طريق القرية غير صالحة للاستعمال فتنطوي قرية مولان على نفسها، وفي الربيع تنفتح على منظر بديع يفيض بالأناشيد والألوان والعطور. إنه بعث لعالم حيث، عالم من طين: يتحوّل العش الصغير إلى مدى فسيح رحب.. "هناك حقاً اتحاد بين السماء والأرض"(5) .‏
              لا وجود للزمن في لاشابيل - انتونيز. دورة الفصول، تسلسل الأعمال، يعيشها المرء في اللحظة الراهنة، خارج مسار الزمن: "تبتعد الأشياء، وتعود، وأنا ثابت في مكاني: يمضي الربيع، بسمائه وأزهاره، نعم، كان ينقضي، ويحلّ الصيف محلّه، أما الشتاء فيحمل معه ألواناً أخرى، أو مناظر متنوّعة، ثم يعود الربيع. إنه العالم يدورحولي، الزمن دولاب يدورحولي، وأنا أشعر أنني ثابت، خالد"(1) .‏
              الريف، ومولان، وإيقاع حياة الفلاحين، "الأعمال والأيام" تلك الصور الغنية برمزية قديمة مواتية لإستلهام الشعر. إنها موجودة في المسرح وهي تعني الفرح والدهشة والجمال.‏
              بينما كان يتشرد على الطرقات الوعرة، وفي الغابات الكثيفة، بينما كان يقرأ كتباً مصورة وكرّاسات تحضّ على التقى، ومطبوعات قديمة يجدها في المستودع، أو عندما يشرد ذهنه عن دروس الأب "غينيه"، كان الطفل يحلم أن يصبح قديساً أو ماريشالاً: "أريد أن أصبح قديساً، هذا هو المجد العظيم. لا أريد أن يكون قدري تافهاً. قرأت الكتب الدينية وقد سئمت منها)، يجب على المرء أن لا يبحث عن المجد، والمرء لا يأتي إلى هذا العالم ليمجّد نفسه.‏
              لن أكون إذن قديساً، قرأت سيرة تورين وكونديه في كتب مكتبة المدرسة فقرّرت أن أصبح ماريشالاً" (2) .‏
              لقد اهتم بالمسرح أيضاً. في الصيف، كنا نتسلّى بتمثيل المسرحيات. كانت سيمون تحمل عصا بيدها وكنا نجتمع حولها؛ قرب أكداس من القش، وسط الساحة، كانت تقرأ علينا الأشعار، وترقص، ثم علمتني كيف أقول: هناك نوعان من الحساء، الحساء الدسم والحساء قليل الدسم، وأنا أتمنى لك رغد العيش(3) .‏
              المراهقة:‏
              "كنت مركز العالم، واحسرتاه، قوة هائلة دفعتني إلى الزمن، إلى الحلبة"(4) . عندما بلغ يونسكو الحادية عشرة عاد إلى باريس وكتب أولى قصائده وسيناريو مسرحية كوميدية نجد بعض ملامح أسلوبها في مسرحه فيما بعد: "تنتهي المسرحية على النحو التالي: يتمّ تحطيم كل شيء في البيت. يجتمع سبعة أطفال أو ثمانية، يتناولون طعاماً خفيفاً، ثم يكسرون الفناجين والصحون، يحطّمون الأثاث، يقذفون آباءهم من النافذة."(1) كتب مسرحية وطنية أيضاً "مرحلة الشباب تغفر كل شيء"(2) "لقد علّموني أن اللغة الفرنسية أجمل لغات العالم، وأن الجنود الفرنسيين أشجع الجنود، لم ينهزموا إلاّ بسبب الخيانة وعلى مدى اثنتين وثلاثين صفحة كتبتُ مأساة جندي من ضحايا الحرب، يلقي مونولوجاً يمجّد الوطن فيه. كان عنوان المسرحية "من أجل الوطن". لم أجد ضرورة لترجمتها عندما وصلت إلى رومانيا إذ علّموني هناك أن اللغة الرومانية أجمل لغات العالم، وأن الجنود الرومانيين أشجع الجنود ولم يعرفوا الهزيمة إلا بسبب الخيانة"(3)
              عام 1925، وكان في الثالثة عشرة من عمره، اضطرّ يونسكو للعودة إلى رومانيا، وتعلّم لغة يجهلها،واضطرّ أن يغيّر عالمه، وإيقاع حياته. عندما تمّ الطلاق بين والديه وجد نفسه ممزّقاً بين أم ارتبط بها خلال طفولته كلها وبين أب يكاد لا يعرفه(4) حكمت المحكمة بإلحاقه به. عن هذه الفترة تنقل لنا "يومياته" ذكرى علاقاته المرهقة القاسية مع أ بيه. "كان والدي يأتي إلى غرفتي عندما كنت في الحلقة الثانوية، ليرى إن كنت أكتب وظائفي، أو ليوبخّني عن أمر لا أدري كنهه. كنت أنهض وأراقبه وهو يعبث بكل شيء، يفتش أدراجي، وكتبي؛ يفتح دفاتري، يقرأ مذكراتي الخاصة جداً، ويردد أبياتي الشعرية بصوت عالٍ. كان يحمرّ غضباً، ثم يزداد غضبه تدريجياً فينهال عليّ بأقذع الشتائم"(5) .‏
              تمرد المراهق تمرّداً تاماً. "كل ما فعلته كنت أفعله نكاية به.. نشرتُ مقالة هجائية ضد وطنه لم تكن كلمة وطنه مقبولة ولا محتملة لأنها تعني وطن للأب، أمّا وطني أنا فهو فرنسا بكل بساطة لأنني عشت فيها مع أمي."(1) لم تكن هذه العداوة بين الأب والابن قائمة على أسس عادلة، ومن غير المعقول أن لا تسبب ألماً وعذاب ضمير. لقد اعترف في مسرحية "ضحايا الواجب" خلال حوار مؤثر عن حب الأب وحب الابن "لم نتفاهم أبداً يا والدي.. أتراك قادر على فهمي؟".‏
              بعد نهاية الدراسة الثانوية فكّر يونسكو أن يصبح ممثلاً، أمّا والده فكان له رأي آخر: "كان يريدني أن أصبح بورجوازياً أو قاضياً أو ضابطاً أو مهندساً كيميائياً"(2) . التحق أخيراً بقسم اللغة الفرنسية في جامعة بوخارست ليصبح مدرّساً. لم تكن حياته الجامعية سهلة أبداً: اختلف مع والده وراح يعطي دروساً ليؤمن عيشه. لم تكن الحيطة والتوفير من همومه الأساسية "أذكر أننا بذلنا جهوداً للصلح، كنت في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، وكنت قد تركت منزل والدي لأعيش في غرفة مفروشة، ولكي أستطيع دفع الإيجار اضطررت لإعطاء دروس في اللغة الفرسية. لم يكفني هذا الدخل ولم أجد ما آكله حتى منتصف الشهر، أما خلال النصف الثاني فكنت أذهب إلى بيت طلاب في كلية الطب حيث تعرّفت على زميل يتقاضى منحة [..] كان يقدّم لي خلال خمسة عشر يوماً الخبز والشاي. رأيت والدي خلال تلك الفترة مرتين أو ثلاث، لقد كان غنياً وكنا نتصافى أحياناً فيعطيني نقوداً كنت أنفقها في الحال فأدعو رفاقي وأقيم لهم وليمةعامرة. كانت السهرة تنتهي عند الفجر فنعود إلى بيوتنا في عربة خيل بعد أن نقوم بجولة في أنحاء بوخارست لأوصل كل شخص إلى بيته. كنت أنفق آخر فلس أملكه، وفي اليوم التالي أنزوي في غرفتي ولا أردّ على نداءات صاحبة الغرفة التي تطالبني بالإيجار.."(3)
              مرحلة الرشد:‏
              بينما كان يونسكو يتابع دراسته، بدأ، والأصحّ أن نقول: تابع الكتابة مغيّراً في أشكال التعبير. نشر عام 1931 قصيدة "مراثي موجهة لكائنات صغيرة" استهلم فيها الشعر الرمزي، كما ألّف رواية، لكنه أدان بلا شفقة، فيما بعد، هذه المحاولات: "أشعاري رديئة تدعو للرثاء، فيها تجسيم بدائي متخلف: أزهار باكية نازفة تحلم بالبراري والربيع وبما لا أدري. كنت آنذاك في السابعة عشرة فنلت شفاعة ماترلنك وفرانيسيس جام [..] ثم حاولت كتابة رواية. حدث ذلك منذ زمن بعيد - ماذا كان موضوع روايتك؟ - أنا بالطبع" (1) . نشر مقالاته في مجلات عديدة: زودياك، أزي، فلورادي فوك، فياتا ليتيرارا، رومانيا لتيرارا، فاكلا، يونيفرسال ليتيرار.. لقد واجه الادعاء العلمي لدى مدرّسي الجامعة بالتصور النقدي عند بندتوكروتشه، إضافة إلى التأكيد على روح الأصالة وإطلاق العنان للتأمل في "الفكر الجمالي" المتميز كل التميز عن الفكر المنطقي.‏
              عام 1934 أثار موجة عارمة من ردود الفعل في الأوساط الأدبية الرومانية إذ نشر مجموعة من المقالات النقدية هاجم فيها كتّاباً مشهورين - اغنيزي، باربو، بترشكو، واتهمهم بفقدان الأصالة وبالنزعة الاقليمية الضيقة، وبعد عدة أسابيع نشر مجموعة مقالات أخرى رفعهم في مديحه إلى السماء. "بعد ذلك، لم ينظر أحد إليّ على أنني ناقد جاد"..(2) لكي يبرر يونسكو مسلكه كتب دراسة بعنوان "لا" حول تطابق الأضداد وتجاوز الاختلافات ومن المفيد أن نكتشف في هذه "البواكير اليونسكية" الأفكار الأساسية للمسرح المقبل، ولكتابة "ملاحظات وملاحظات مضادة".‏
              كان الوضع السياسي في رومانيا يدعو للقلق: بعد عام 1933، شجّعت ألمانيا حركة الحرس الحديدي الفاشية، وترسخت في الجامعة الايديولوجية النازية التي أغمدت العنف والعنصرية في الجامعة، متنكرة تحت شعارات مذهب نيتشه والتيارات المتفرعة عنه. رفض يونسكو ذلك الاغراء، وقاوم ذلك التيار. "قبل أن أتمكن من إيجاد الأجوبة، وقبل أن أعرف أسباب رفضي، كنت أعاند تلقائياً كل شيء، بلا برهان، ودون حجّة إلا تلك الحجّة الخرساء العميقة النابعة من القلب".(1) لكن الأساتذة والرفاق مارسوا ضغطاً معنوياً هائلاً، وكان لهم تأثير يصعب تجنبه: "كنت أشعر أكثر فأكثر أنني وحيد. كنا مجموعة من الشبان لم نقبل تلك الشعارات والايديولوجيات التي تحاصرنا. كان من الصعب جداً أن نقاوم، ليس فقط في مجال العمل السياسي، بل في أبسط مجالات المقاومة الأخلاقية أو الفكرية، حتى لو كانت تلك المقاومة صامتة، لأنه عندما تكون في سن العشرين، وهناك أساتذة يقدّمون لك نظريات ودراسات علمية أو شبه علمية، وهناك الجرائد، والجو العام، والمذاهب، أي هناك حركة كاملة ضدك، يكون من الصعب حقاً أن تقاوم،أي أن لا تميل إلى الاقتناع".(2) كان أي حوار يغدو مستحيلاً، وكل مقاومة خطيرة، فانطوى يونسكو على نفسه وكرّس وقته لـ "يومياته" يكتب، كما يقول، عشرات الصفحات بل دفاتر كاملة، يحلّل ويدرس خلافاته مع زملائه وأصدقائه القدامى الذين انتسبوا إلى منظمة الحرس الحديدي، ولكي يواجه دعاية طاغية بقناعاته الداخلية نجده يتبنى هذا الموقف في مسرحية الكركدن.‏
              في هذا الليل الأوربي الدامس لمع بريق من نور. عام 1936 تزوج روديكا بورلينانو، طالبة الفلسفة. "عندما أخبرتُ والدتي أنني سأتزوج ذهبت إلى خطيبتي، وعندما فتحت لها الباب نظرت إليها والدتي برهة، رغم أنها كانت تعرفها جيداً منذ زمن طويل، كما لو أن التي أمامها امرأة أخرى: كانت تنظر إليها بعينين مختلفتين [..] إنها الأميرة التي ستكون وريثتها وستصبح عمّا قريب ملكة وتحتلّ مكانها. بما أن زوجتي المقبلة ردّت على نظرات أمي، فقد اغرورقت عيناها بالدموع لكنها سيطرت على انفعالاتها وراحت شفتاها ترتجفان وتعبّران عن شيء لا يقال. لا أدري إلى أي مدى كانتا تدركان ما تقولانه دون كلام. كان حواراً صامتاً ونوعاً من الطقوس القصيرة تعيدان اكتشافها، بصورة عفوية كما لو أنها انتقلت إليهما من قرون.. كان نوعاً من انتقال السلطة [..] لم تدم تلك الشكليات سوى لحظات، لكن كان من الضروري أن تتم حسب الأصول؛ حسب قانون قديم جداً ولأنها كانت سراً غامضاً لقد وافقت زوجتي ولعبت تلك اللعبة المقدسة وأذعنت لإرادة، لقوّة تفوّقت عليهما، وربطت بيننا إلى الأبد [..] توفيت والدتي بعد ثلاثة أشهر من زواجي، كنت أحبها حباً هائلاً"(1) .‏
              اشتغل يونسكو مدرّساً للغة الفرنسية في ثانوية شعانتول سافا الوطنية في بوخارست، وفي عام 1938 حصل على منحة الحكومة الرومانية للذهاب إلى باريس وإعداد دراسة حول "فكرة الخطيئة والموت في الشعر الفرنسي منذ بودلير". بقيت الدراسة في مرحلة التخطيط لكن يونسكو أدّى التزاماته: لقد كتب مسرحاً كاملاً حول هذين الموضوعين.‏
              امتزج الفرح برؤية فرنسا بعد ثلاث عشرة سنة بالقلق من "تصاعد الأخطار". أمّا وقد خرج من كابوس فقد رأى الناس حوله يناقشون الموقف برضى ويتيهون في أحاديث تافهة.‏
              ربيع عام 1939 قام يونسكو بزيارة لاشابيل - أنتونيز فوجد "بقايا الذكريات" على قيد الحياة. لكن فرحه لم يكتمل إذ امتزج فيه حنين "عميق جارح" ورغبة مجهولة للأشياء التي فقدها إلى الأبد: الماضي يغرق في النسيان، وعلى الحاضر يهيمن شبح الحرب "هل هو احتضار أوربا؟ أخاف أن تكون هذه نهاية كل شيء. الموت هو النهاية، هو الحاضر المحدّد. في السفينة التي تغرق كنت أعيش وخوفي يتزايد أضعافاً مضاعفة"(2) .‏
              عالم ينهار، بولونيا تُسحق "يا للحرب السخيفة" هزيمة فاستسلام. حرب خاطفة على أوربا، ليل وضباب Nachtund Nebel. سافر يونسكو وزوجته إلى رومانيا فوجدا بلداً ممزّقاً بين هنغايا وبلغاريا وروسيا، بلداً تفترسه النازية الكاسحة. ما العمل في هذه الفوضى، مع غياب العقل والقيم الحضارية، عندما يكون الوجود الشخصي مهدداً كل لحظة؟ العودة إلى فرنسة هي هدفي الوحيد، والهدف صعب المنال". لم يكن الانتقال والسفر على درجة من السهولة في أوربة التي تجتاحها الحرب، محاولة الحصول على جواز سفر، وإجازة مرور، وتأشيرة دخول، كانت تعني الدخول إلى عالم كافكا. مُنحت التأشيرات، ثم رفُضت، وأُلغيت، وتعاد المحاولة عشرين مرّة. أخيراً تمكّن يونسكو من "الهرب" لكنه ببساطة غيّر السجن لا أكثر. وفي فرنسا تحتّم عليه البقاء. "كنا نفتقد المال تماماً وبجانبي رزمة ضخمة من المغلفات كان عليّ أن أضع فيها نشرات توضيحية وعلى المغلفات أسجّل عناوين. لقد بدأت أعيش من قلمي"(1) . بعد ذلك اشتغل يونسكو مصحّحاً في دار نشر كما أن زوجته وجدت عملاً. في عام 26 آب 1944، ولدت طفلتهما ماري - فرانس.‏
              2-الكاتب المسرحي‏
              تجربة مسرحية مزدوجة:‏
              إذا كانت علاقات يونسكو مع الأوساط الأدبية قد فترت عام 1948 فإنه لم يفقد اتصاله بالآداب والفنون، بالشعر والنقد والرسم والموسيقى والسينما. استمر في الكتابة وقد "سيطر عليه شيطان الأدب"، وهذا ما تشهد به يومياته، لكنه لا يحب المسرح.‏
              لم يكن لديه أي ميل للكتابة المسرحية - كما يدّعي. - قرّر ذات يوم أن يتعلم اللغة الانكليزية ليكمل ثقافته، وكانت النتيجة غير متوقّعة: "لكي أتعلّم اللغة الانكليزية، اشتريت إذن، منذ تسع أو عشر سنوات، كتاباً يحوي حوارات في اللغتين الانكليزية والفرنسية للمبتدئين. بدأتُ الدراسة، ولكي أحفظ مجموعة جمل عن ظهر قلب رحت أنسخها بوعي عن كتابي، عندما أعدت قراءتها بانتباه، لم أتعلم اللغة الانكليزية، بل اكتشفت حقائق مدهشة: اكتشفت أن الأسبوع سبعة أيام وهذا ما كنت أعرفه من قبل: واكتشفت أن السقف في الأعلى والأرضية في الأسفل وهذا أمر كنت أعرفه أيضاً لكنني لم أفكّر فيه جديّاً من قبل، أو أنني كنت قد نسيته، لكنه بدا لي، فجأة، لا يقلّ إثارة عن أية حقيقة غير قابلة للنقاش [..] ولدهشتي الكبيرة فإن مدام سميث أعلمت زوجها: أن لهم عدّة أولاد وأنهم يسكنون في ضواحي لندن وأن اسمهم هو سميث، وأن السيد سميث كان موظفاً في مكتب، وأن لديهم خادمة اسمها ماري، وهي انكليزية أيضاً، وأن لهم أصدقاء منذ عشرين سنة هم آل مارتن، وأن بيتهم عبارة عن قصر "لأن بيت الرجل الانكليزي هو قصره الحقيقي". كنت أقول في نفسي إن السيد سميث مطلّع إلى حّد ما على ذلك كله، لكن هل ذلك مؤكد؟ هناك أناس غافلون تماماً"(1) .‏
              قرر يونسكو أن ينقل إلى معاصريه تلك الحقائق الأساسية التي اكتشفها من جديد. راح يرتّب الجمل الموجودة في كتابه جملة بعد أخرى، وينقل بتواضع المعرفة التي اكتسبها: أحاديث تربوية بشكل خاص! يروي يونسكو قائلاً: "مع ذلك، حصلت ظاهرة غريبة ولا أدري كيف: كان النص يتحوّل تحت نظري، بشكل غير محسوس، ضد إرادتي، كانت الجمل البسيطة الواضحة التي نسختها على دفتري بجدّ وحماس، تتصفّى بعد مدة من الزمن، وتتحرك من تلقاء نفسها، وتتعفن، وتغيّر طبيعتها [..] واحسرتاه، فالحقائق الأولية الصحيحة التي يتبادلها الأفراد، المرتبطة بعضها ببعض، غدت جنوناً، وفقدت اللغة انسجامها، والشخصيات خسرت وحدتها.."(1) أطلق يونسكو على المسرحية التي كتبها بتلك الطريقة "المغنية الصلعاء" لأن المسرحية لا تحوي أية مغنية صلعاء أو غزيرة الشعر"(2) .‏
              تلك هي الأسطورة - وهي ثمرة خيال مسرحي بحت- التي نُسجت حول بدايات يونسكو المسرحية، أسطورة يلجأ إليها هو نفسه بأسلوب فكاهي، أما الحقيقة فإن مسرحية "المغنية الصلعاء" لم تكن "حادثاً". لقد جرّب يونسكو، وهو المسرحي بالفطرة، المسرحي وهوصغير جداً. لقد وجد في الحوار الشكل التعبيري الذي يوافق صراعاته الداخلية ويسمح له بترجمة تناقضات حياته وتجاربه: المسرح موجود في داخله، في عقله، في طريقته لرؤية العالم: "إذا كنت قد كتبت للمسرح ولم أكتب رواية أو دراسة فذلك لأن الدراسة والرواية تفترضان وجود فكر منسجم متماسك، بنيما يمكن للفوضى والتناقضات أن تجد طريقاً سالكاً في المسرحية"(4) .‏
              من ناحية أخرى، إذا كان كتاب لتعلّم اللغة الانكليزية قد أحدث ذلك الالهام فذلك لأن يونسكو لا يستخدم ببساطة الكلمات كأدوات، بل يحب الكلمات لذاتها، ليروّضها، ويفتتن بها بعد ذلك. إنه كاتب. ظروف حياته أيضاً، تعلمه للغة ثانية في وقت متأخر، ازدواجية اللغة المتأخرة، وتدريس اللغة الفرنسية - دفعته للتساؤل عن العلاقات الكامنة بين الكلمات والأشياء، وعن الروابط بين الفكر واللغة، ومسائل الترجمة: "وصلت إلى بوخارست وأنا في الثالثة عشرة من عمري، ولم أغادرها قبل السادسة والعشرين تعلّمت اللغة الرومانية هناك، في الرابعة عشرة والخامسة عشرة كانت علاماتي رديئة في مادة اللغة الرومانية وعندما بلغت السابعةعشرة أو الثامنة عشرة صارت علاماتي جيدة. تعلمت الكتابة، وكتبت أشعاري الأولى باللغة الرومانية، لم أكن أكتب باللغة الفرنسية بنفس الجودة، كنت أرتكب بعض الأخطاء، وعندما رجعت إلى فرنسا، كنت أعرف اللغة الفرنسية لكنني لا أستطيع الكتابة بها، أقصد الكتابة الأدبية فاضطررت للتعوّد عليها من جديد، التعلّم، نسيان التعلّم، التعلّم من جديد أعتقدأنها تمارين نافعة"(1) . التلاعب، بالألفاظ في "المغنية الصلعاء" هو إذن ثمرة تفكير لغوي خاص، إنها لعبة كان يمارسها منذ زمن بعيد، من أجل المتعة، في "يومياته".‏
              قُدّمت "المغنية الصلعاء" أولاً إلى الكوميدي فرانسيز لكنها رُفضت، ثم إلى فرقة رينو - بارو فأخرجها نيكولا باتاي في أزياء وديكورات مستعارة على مسرح نوكتامبول، وقُدّمت لأول مرة في 11 آذار 1950. عُرضت المسرحية آخر النهار، حوالي الساعة السادسة، بينما كانت تُعرض مسرحية بريخت "الاستثناء والقاعدة" لأول مرة في فرنسا، وكذلك مسرحية كافكا الوحيدة "حارس المقبرة" لهذا اللقاء بعد عشرين عاماً قيمة رمزية). انتهت "المغنية الصلعاء" دون أن يلحظها أحد اللهم إلاّ بعض النقاد - جاك لومارشان، رونيه سوريل، جوستاف جولي، جان بولان رمان سالاكرو - الذين أدركوا مغزى هجوم يونسكو، ثم أُعيد عرض المسرحية على مسرح لاهوشيت أعوام 1951، 1952، 1956، ومنذ انضمت إلى ذلك التاريخ اتحدت مع مسرحية "الدرس" واحتلت لوحة الإعلانات فقُدّمت أكثر من 4500 مرة وهذا رقم قياسي لم يبلغه أحد.‏
              كانت البروفات والعروض المسرحية بالنسبة ليونسكو نوعاً من الكشف والتجلي لقد بهرته رؤية تصوراته تتحقق، والشخصيات التي حلم بها تمتلئ بالحياة. لقد بدا له الأمر "شيطانياً". لقد اكتشف ما لديه مما يقال وكيف يقال.‏
              في الفترة نفسها، وبمساعدة نيكولا باتاي، أغنى يونسكو خبرته المسرحية إذ جرّب التمثيل. على مسرح الاوفر، وفي مسرحية اقتبسها "كاكيا فيالا عن كتاب "الممسوسون" لدستوفسكي، قدّم يونسكو شخصية ستيبان تروفيموفتش. تجربة التمثيل هي امتلاك لشخصيته الذاتية وفقدانها أيضاً معاً بكل وضوح. كانت تأدية الدور، بالنسبة ليونسكو، إثباتاً بأنه يأخذ شخصية أخرى على عاتقه، بينما يعاني المرء كثيراً لكي يحتمل شخصيته الذاتية، وعليه أن يفهم هذه الحالة بمساعدة المخرج بينما لا يفهم المرء نفسه"(1) .‏
              لكن هذا التدريب، وهذا الخلق المستمر سمحا للكاتب المسرحي أن يدرك بشكل ملموس أن المسرحية ليست النص المكتوب فقط، بل هي لعبة جماعية كاملة.‏
              من مسارح الأقبية إلى الصالات الذهبية‏
              والصالات الأرجوانية:‏
              من الآن فصاعداً، تتحد سيرة يونسكو الذاتية - تقريباً - مع سيرة مسرحه. لقد صدمت مسرحياته الأولى عادات وذوق الجمهور. استفزاز مقصود تؤكده الملاحظات على هامش المسرحية.. هذه الفضيحة، وهذا التعدّي على رفاهية المشاهدين الفكرية تؤكدان الرغبة في تدمير "المسرح الاستهلاكي" وليس الرغبة في الإساءة لجمهوره.‏
              لم يلتبس الأمر على الجمهور أبداً. هناك نقّاد أعلنوا عداءهم لذلك المسرح مثل جان غوتييه وروبير كمب، أما جاك لومارشان فإنه يروي بطريقة ساخرة العروض الأولى لمسرحية "المغنية الصلعاء": "سأذكر دائماً بمتعة، الطريقة التي قوبلت فيها "المغنية الصلعاء" عندما عُرضت في أيار 1950 على مسرح نوكتامبول. همسات الضيق، النقمة العفوية، والاستهزاء. لقد أمضيت أمسية مسليّة فريدة لم يزدها تذمّر قسم من وجهاء الحاضرين، وضحكاتهم الساخرة إلا متعة وظرافة"(1) .‏
              بعد مسرحية "المغنية الصلعاء" كانت مسرحيات: الدرس، الكراسي، ضحايا الواجب، عدواناً مشابهاً على الجمهور، لم تلق من النجاح أكثر مما لقيت "المغنية الصلعاء": "هناك أناس يربكهم ذكاؤهم، يشعرون به في داخلهم مثل ثعلب صغير [..] دُعي الوجهاء لحضور مسرحية الدرس. جاؤوا حاملين ثعلباً في جيوبهم، لقد بيّن لهم ثعلبهم - لقد أدرك أخيراً - أنه منذ اللحظة التي تُسمّى فيها مسرحية لأوجين يونسكو باسم الدرس فذلك يعني أن موضوعها يمكن أن يدور عن أي شيء إلاّ التعليم [..] حول أي شيء تدور أحداث المسرحية؟ كان الثعلب يتساءل عند الخروج من المسرح - حسناً، إنها تدور حول الدرس، كما اضطر الوجهاء للاعتراف: وهذا لم يخفف شيئاً من ضيقهم [..] الكراسي، ثم ضحايا الواجب، طرحتا كل شيء للنقاش من جديد. هناك كراسي حقيقية في مسرحية الكراسي، لكن ليس هناك رجال إطفاء احترقوا أحياء في مسرحية ضحايا الواجب"(2) .‏
              هذا العداء بين الكاتب والجمهور لم يكن سمة خاصة بيونسكو، ففي تلك الفترة، في مسارح الأقبية في الحي اللاتيني، وفي المسارح التجريبية في المقاطعات، كانت فرق من الشباب تقدم مسرحيات لكتّاب جدد أوغير مشهورين مثل: أوديبرتي، جينيه، أداموف، شحادة، فوتييه، بيكت، بريخت.. لقد جدّد هؤلاء الكتّاب الشباب أشكال التعبير المسرحي، وهاجموا مسارح التسلية، وخلقوا ذوقاً جديداً. لقد تعرّضوا للقطيعة والسخرية عام 1950 كما أن مسرحياتهم عُرضت تحت صيحات الاستنكار والاستهزاء، لكنهم فرضوا وجودهم في أقل من عشر سنين، وأصبحوا الآن كلاسيكيين بلا جدال، ولهم جمهورهم الوديع المسالم المحترم، المرتبك قليلاً أمام لوحات وأقوال ومشاهد تنتزعه من نفسه بواسطة الضحك والحلم.‏
              هذا التطور، الذي رأيناه لدى الجمهور والنقاد، انتقل من اللامبالاة إلى العداوة ومن صغير الاستنكار إلى تضعيف الاستحسان هذا التطور، يتحدث عنه يونسكو بسخرية في إحدى رسائله عام 1957: "منذ سبع سنوات عُرضت أولى مسرحياتي في باريس، لقد كانت فشلاً بسيطاً أو فضيحة محدودة. تضاءل الفشل في مسرحيتي الثانية وخفّت الفضيحة وفي عام 1952، مع مسرحية الكراسي، بدأ النجاح يزداد. كان ثمانية أشخاص غاضبين يحضرون المسرحية كل ليلة، لكن الضجة التي أحدثتها هذه المسرحية وصلت إلى أسماع عدد كبير في باريس، وفرنسا، وعبرت الحدود الألمانية. وفي مسرحياتي الثالثة والرابعة والخامسة.. والثامنة كان الفشل يتضخم، وينتقل بخطى عملاقة فعبرت الاحتجاجات بحر المانش واجتازت جبال البرينه، وسُمعت في ألمانيا، ووصلت إلى إسبانيا وإيطاليا وركبت السفينة إلى انكلترا. هل تتحول الكمية إلى نوعية؟ أعتقد ذلك إذ أن عشر حالات من الفشل أصبحت الآن نجاحاً؛ وإذا ما استمر الفشل فذلك يعني النجاح حقاً"(1) .‏
              كانت الفضيحة تكبر وتنتشر، إذ بعد الصالات الصغيرة مثل نوكتامبول، تياتر دو بوش - مونبارناس الدرس 1951) نوفولانكري الكراسي 1952) تياتر دوكارتييه لاتان ضحايا الواجب 1953) تياتر دوبابيلون اميديه 1954) لاهوشيت جاك 1955)، صارت مسرحيات يونسكو تُعرض على ستديو شانزلزيه مسرحية الما 1956) تياتر الاليانس فرانسيز المستأجر الجديد 1957 على تياتر ريكامييه قاتل بلا أجر 1959). لقد أعيد عرض هذه المسرحيات وتُرجمت، وقُدّمت في انكلترا وإيطاليا وفنلندا، وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية واسبانيا ورومانيا.. كما أن بعضها - المستأجر الجديد، مشهد رباعي، الكركدن - عُرض في الخارج قبل أن يُعرض في فرنسا. أصبح يونسكو كاتباً مسرحياً ذا شهرة عالمية.‏
              مسرحيات قصيرة، اسكتشات، مسرحيات متعددة الفصول، راحت تتوالى. كان يونسكو يطرح كل مرّة مسائل مختلفة ويكتشف مواضيع جديدة، وينوّع أساليبه، وفي الوقت نفسه كان يكتب قصصاً قصيرة يستلهمها من أحلامه: ضحية الواجب 1952) الراية دون تاريخ) صورة الكولونيل 1955) الطين 1956) الكركدن 1957) الماشي في الهواء 1961)(1) .‏
              لقد استخدمت تلك القصص، عدا الطين، أرضية لمسرحيات. والمقارنة بين هذه القصص القصيرة وما يقابلها على المسرح تسمح لنا بتحليل ومتابعة آلية الابداع لدى يونسكو، كما تسمح بدراسة تحولات التجربة الحياتية، ومسرحة الصور التي يراها في الحلم وتشكل النزعة الرمزية لديه.‏
              المؤلف ومشاكله‏
              لا يتم نجاح الكاتب سريعاً بلا مخاطر. النجاح، الدافع إلى الاطراء دائماً، يقضي على القلق، ويسمح بقهر الشكوك؛ لكن المجد يرسم الشخصية ويجمدّها. الجمهور يريد الاستجابة إلى توقعاته، بينما يفتش النقّاد عن استمرارية النجاح ودوامه. أما بالنسبة للمؤلف، فقد تكون المحاولة عظيمة لكي يتقن رسم خطوط قناعه ولا يبدّل فيها شيئاً.‏
              تدور حول يونسكو حرب كلامية عنيفة فاندريه بروتون وبنجامان بيريه يكتشفان لديه المسرح السريالي الذي حلما به: "هذا ما أردنا تحقيقه منذ عشرين عاماً" أمّا جاك لومارشان فيعبر عن إعجابه: "يضم مسرح لاهوشيت بين حناياه ما يمكن أن يتجاوز مسارح باريس كلها"(1) أمّا جان - جاك غوتييه فيدينه: "لا أعتقد أن السيد يونسكو نابغة أو شاعر؟ لا أعتقد أن السيد يونسكو مؤلف ذو شأن، ولا أعتقد أن السيد يونسكو كاتب مسرحي، ولا أعتقد أنّ السيد يونسكو مفكّر أومعتوه، ولا أعتقد أن لدى السيد يونسكو ما يقوله، أعتقد أن السيد يونسكو مهرّج لا أريد أن أعتقد عكس ذلك لأن الأمر يغدو محزناً جداً) لأنه مخادع وهو بالتالي هازىء"(2) .‏
              بين الحماس ليونسكو والنقمة عليه، حاول النقد الصحفي أن يحدّد أصالة يونسكو، يشرح، يبين، يحصر، يعنون بتعابير موجزة قاطعة. شعر يونسكو أنه محاصر، وأنه وقع في الفخ، فثار وتمرّد. يقول معترضاً في مقدمة كتابه ملاحظات وملاحظات مضادة: "لقد ناضلت لإنقاذ حريتي الفكرية وحريتي ككاتب". يمكن الاعتقاد أيضاً أنه شعر أحياناً بضرورة النظر إلى أعماله عن بعد، وضرورة الرؤية الواضحة في بحثه الذي لم ينل رضاه دائماً. لدى الكاتب الحقيقي يتناوب التفكير والابداع، وتتحد الرؤية النقدية الواضحة مع الحماس"(3) .‏
              لقد سمحت المقالات والمحاضرات والمقابلات الحقيقية والوهمية وهذا مجال آخر من نشاط نقدي بدأه في رومانيا منذ عشرين سنة) ليونسكو أن يردّ على الهجمات وأن ينكر بعض التفسيرات وأن يطعن في إخراج بعض مسرحياته المعبرة عنه.‏
              لقد ساعده ذلك على تعميق معرفته، وفهم نفسه، ورد في كتابه "تجربة المسرح": "لا تشكل الآراء التي سبق وأعلنتها نظرية في الفن المسرحي، لم تسبق تلك الأفكار تجربتي الشخصية في المسرح بل جاءت بعدها وقد ولدت تلك الأفكار من إمعان النظر في أعمالي، سواء كانت تلك الأعمال جيدة أم رديئة.. لقد ولدت تلك الأفكار بعد فوات الأوان. ليس لديّ أفكار قبل كتابة المسرحية لكنها تأتي بمجرد البدء في الكتابة أو خلال توقفي عنها".‏
              هذا نقد يهاجم ويبحث. يدافع يونسكو عن نفسه فيقول: "أحياناً وفي لحظة غير متوقّعة أبداً، تبدأ إحدى الشخصيات في طرح نظرية(1) مع ذلك فإن الهجوم المعاكس كما في الحرب الحقيقية) اقتضى أن يوضع النقّاد في مواقع متقابلة، يناقض بعضهم بعضاً، أو أن يتناقض الناقد مع نفسه وذلك بتجميع الأحكام والآراء من فترات زمنية مختلفة(2) .‏
              تشكّل هذه التناقضات حواراً إلى حدٍّ ما، فلم يرفض يونسكو هذا الحوار فعرض نقّاده على المسرح كما عرض نفسه معهم. بعد موليير وجيرودو، كتب يونسكو "مسرحية صغيرة"وعرض فيها حجج وآراء منتقديه، إنها "الما" عام 1955.‏
              ذلك الانفعال الذي كتب به تلك المجادلات أقلق بونسكو أحياناً. هل كان يأخذ نفسه على محمل الجدّ؟ أم عليه أن يكتشف باستمرار أنه كان كذلك؟ "لقد سخرت من نفسي باستمرار فيما أكتب. يجب الاعتراف أنني تخليت عن ذلك بالتدريج وأنني بدأت أكتب بجدية أكثر فأكثر عندما أتحدث عن أفعالي.. لقد انتهى بي المطاف إلى الوقوح في نوع من المصيدة"(3) .‏
              لم يكن الأمر فخاً أبداً إنه نوع من الوعي لدى يونسكو كلام يريد أن يقوله: لقد تصدّى للجمهور دون شفقة ودون تنازل؛ لكي يرسّخ أشكالاً مسرحية جديدة.. لقد حوّل مسرحه إلى عملية بحث دائم، كل قلق يُدرس يكشف قلقاً آخر، وكل شكل يطرح الأشكال الأخرى للمناقشة من جديد. من مسرحية إلى أخرى، تابع يونسكو تجواله في الغابة اللامحدودة وقد سيطرت عليه تلك الصورة الناقصة. المسافة طويلة بين الهزء بالمسرح باعتباره ألعاباً نارية في مسرحية المغنية الصلعاء، والقضايا المعقدّة التي طرحها في مسرحية ضحايا الواجب، كما أن شبكة الموضوعات التي تؤلف نسيج المسرح لم تتوقف عن الاتساع والتفرّع. مشاكل الرجل، الزوجين، الجماعة، تحدّد التساؤل الكبير حول الوضع الإنساني: اميديه، قاتل بلا أجر، الكركدن، تسلك طريق هذا البحث الدائم. الحوار مع النقاد، والتأمل الذاتي، دفعاه إلى استكشافات جديدة.‏
              تكريـــــــــــس :‏
              لاقى العرض الأول لمسرحية الكركدن على مسرح أوديون - تياتر بتاريخ 23 كانون الثاني من عام 1966 نجاحاً عظيماً. لقد رأى يونسكو حلماً من أحلام طفولته يتحقق: بعد عرض مسرحية البؤساء على الأوديون: "كان المشهد ينتهي بدهشة جان فالجان: أنا رجل بائس، ومنذ ذلك اليوم بدا لي الأوديون المسرح الحقيقي الوحيد، المسرح الذي أودّ أن تقدم مسرحياتي عليه"(1) .‏
              خلال عشر سنوات قطع يونسكو طريق النجاح دون أن يحصر نفسه في قالب معين بحجة الوفاء للنفس أو للجمهور، ومن مسرحية إلى أخرى كان يغيّر نظرته ويعدّل طرائقه.‏
              ابتهج أصدقاؤه لنجاحه لكنهم قلقوا عليه: ألم ينكر نفسه أثناء انتقاله من المسارح التجريبية إلى المسارح الرسمية؟ ألم يغرق تمرّده العنيف أخيراً في توافه نزعة "أنسية"(2) مبتذلة مهترئة؟ كان البعض يعتقد ذلك وكانت مدائحهم تأخذ طابع التعازي: "لن أستسلم أبداً، صرخ بطل مسرحية الكركدن في وجه مجادلات النزعة التوفيقية. فيما يتعلّق بالمؤلف فالاستسلام حقيقة واقعة للأسف[..] لنتفق إذن. لقد كان موقفاً صحيحاً ومطلوباً أن تكرّس باريس ومعها أوربا كلها الشاعر الحقيقي الذي كتب المغنية الصلعاء، لكن إنساناً ورعاً مندفعاً من عصر الدياميس له الحق في أن يحزن لأن يونسكو بعد أن اكتشف تفاهة الابتذال سقط وهو يتابع طريقه في ابتذال التفاهة، وفي الرمزية الوعظية التي كان يلعنها"(1) "كيف حدث أن أوائل المخلصين راحوا يتنكرون له ويتهمون الرجل العظيم بالانتهازية؟"(2) .‏
              كان يونسكو يحاسب نفسه، فسيطرت على مؤلفاته أزمة عنيفة. لقد عاد إلى الاسكتشات والمسرحيات القصيرة ذات الفصل الواحد التي تعالج فكرة واحدة، وتستخدم أسلوباً واحداً وتتحاشى المسائل التي تتعلّق بالوجود: مشهد رباعي 1959) تعلّمْ المشي 1960) هذيان ثنائي 1962) الثغرة 1962)، البيضة المسلوقة، فيما بعد.‏
              في الوقت نفسه كان يعمّق أفكاره النظرية، ويوضّح تصوّره لماهية المسرح، ويحدّد أسلوبه المسرحي من خلال محاضرات ومقالات شاملة متنوعة: تجربة المسرح 1958) مقال عن الطليعة 1959) المؤلف ومشاكله 1960)، جمعها مع شهادات أخرى، ومقدّمات، ورسائل، ومقابلات، في كتاب "ملاحظات وملاحظات مضادة".‏
              هذه الدراسات والتحليلات قادت يونسكو إلى الاعتراف بأن "المسرح موجود في أعماقه" وبأنه يكتب "لكي يفهم الحياة والموت" وبأن سبره لحالات القلق أوصله إلى الخوف والبحث عن مكان آخر. استمر إبداعه مع مسرحيات "الماشي في الهواء" 1962)، "الملك يموت" 1962) "العطش والجوع" 1964).‏
              أما وقد غدا كلاسيكياً، يصفق له الجمهور الذي أوجده بنفسه، فقد غزا الكوميدي فرانسيز بمسرحيته الأخيرة، التي توّجتها جائزة موناكو 1969)، وربما لم يعد هناك فاصل كبير بين مسرحية الكركدن المعروضة على مسرح الأوديون والأسود المعروضة على مسرح الانستيتو؟(1) .‏
              في محاوراته مع كلود بونغوا 1966) يحلل يونسكو من جديد أفكار مسرحه وآفاق هذا المسرح في مواجهة الأدب. اختصر يونسكو مذكراته في مجلدين، - يوميات في فتات 1967)، حاضر ماض ماض حاضر 1969) يحددان لقرائه ملامح صورة، وذكريات هواجس وأوهام؛ أما كتابه "اكتشافات" 1969) فإنه يرسم مرة أخرى "دروب الإبداع" كما كتب جزءاً ثالثاً من يومياته.‏
              أية وجهة ستتخذها كتاباته؟ تشير مسرحياته الأخيرة إلى اهتمام مُلحّ بمسائل انطولوجية، ويوحي كتابه "يوميات في فتات" بشكل لا معقول باحتمالات الانقطاع عن الكتابة: "قلت لنفسي منذ مدة ليست قصيرة إن علي أن أبدأ بكتابة كتابي الحقيقي. في الواقع، ليس المسرح مجال إبداعي الحقيقي".(2) كتب حكايات للأطفال، وفي كتابه حاضر ماض ماض حاضر" اعتراف بحزن يعود إلى أيام المراهقة كأنه نصل سكين في العنق: "لن أنسى أبداً، لا شر هناك ولا خير، لم يكونوا والده وعائلة والده) أخياراً ولا أشراراً، كانوا أغبياء. لقد أخطأوا كثيراً حتى أفسدوا حياتي كلها رغم ما يُحكى عن النجاح. لقد وصلت أنا أيضاً، إلى نهاية النجاح. على كل حال، بالنجاح أو دونه، كل أشكال الحياة فاسدة"(3) .‏
              رغم ذلك، عندما سئل عن مسرحية جديدة كان ينبغي أن تحمل اسم "الطاعون" ردّ يونسكو موضحاً: "منذ زمن وأنا أكتب"الطاعون" التي لن يكون اسمها الطاعون بل "انتصار الموت". لن يكون أبطال المسرحية الأشخاص أنفسهم، وسيكون الحدث مختلفاً، ولن تجري الأحداث في الزمان والمكان إياهما، أما ما تبقى فلن يطرأ عليه أي تعديل"(1) .‏
              الطبيعة هي الخطر، البراكين الثائرة‏
              العواصف، الأعاصير، الهاويات،‏
              الموت، إنها شرط الوجود الذي‏
              لا يمكن قبوله، إنها الجحيم تقريباً.‏
              يوميات في فتات)‏
              3- ضمير مّمزّق‏
              ثيــاب تنكّريــــــــة‏
              "كنت جميلاً عندما كنت صغيراً في العاشرة أو الثانية عشرة من عمري، كنت أعرف ذلك وكان الناس يقولونه لي.. عندما كنت أرتدي ثيابي الجديدة لأذهب إلى صلاة الأحد، كنت أدرك أن الناس كلهم ينظرون إليّ وأنا أجتاز البلدة [..] في سن الثالثة عشرة بدأت أتغير فجأة. وفي الرابعة عشرة لم تعد بشرتي طرية صافية، وفقدت عيناي بريقهما؛ تضخم أنفي، وازدادت سماكة شفتي، لقد أصبحت بشعاً، كالآخرين"(2) .‏
              إن ما يصدم محاوري يونسكو، هذه الأيام، هي حيوية ذلك الوجه النيّر أو المكفهر حسب المشاعر المتناقضة، وتلك الثنية الساخرة على الشفتين، والحاجبات العاليان، والنظرة الصافية المندهشة من مشهد هذا العالم التافه.‏
              يتحدث نيكولا باتاي عن لقائه الأول مع يونسكو فيقول: "تقتضي الأصول أن أنقل الانطباع الذي تركه لديّ. حسناً، لكي أساير المألوف أقول إنه بدا لي مثل السيد بيكويك"(3) .‏
              لقد حمل عبر حياته نوعاً من البساطة المقصودة، وقد مثل بصدق شخصية يذكرها جان كوت في مهرجان سبوليت عام 1959: "الثلاثي يونسكو": أوجين، وزوجته، وابنته ماري - فرانس التي بلغت الثامنة عشرة، هم مسرح يونسكو بشكل مطلق، رائع، عظيم. الزوجة عملية، منهمكة، مدبِّرة. ماري - فرانس مثقفة، حالمة، متافيزيكية، حساسة، وكانت تنظر إلى أبيها بإعجاب. أما أوجين فكان يسلّي الناس حوله ويسلّي نفسه من خلال التغيير الدائم لمخططاته. يريد أن يسافر غداً إلى أورفيتو وبنشيو، لكنه يريد أن يسافر إلى سويسرا وإيرلندا، يريد أن يكون خلال يومين في بولونيا والمكسيك وفلسطين. لا يريد أن يكون غداً في المكسيك، وبعد غد في أورفيتو. ما يكاد يطلب السباغيتي حتى يستدعي الخادم ليستبدلها بتورتينللي، لكن ماري - فرانس طلبت جانبون فينادي أوجين الخادم ليحضر له شريحة أيضاً. إنه غير واع، يلعب بلا وعيه بوعي تام، مكتفياً بطريقة طفولية، ومقتنعاً أن مسرح يونسكو هو المسرح الوحيد في العالم.. وربما مسرح شكسبير أيضاً - هذا من قبيل التعاطف معي - إنه أكثر من يسخر من غطرسته الطفولية: أوجين، إنه الأكثر يونسكية من بين جميع الشخصيات التي خلقها يونسكو"(1) .‏
              هذه البراءة الزائفة وسيلة لحماية نفسه، وسيلة لكي لا يستهلكه دوره، تشهد على ذلك الحكاية الممتعة التي رواها رونيه دو أبالديا عن إقامة يونسكو في سريزي(2) . أراد يونسكو أن يشارك في إحدى المناقشات فأمضى ليلة بيضاء في إعداد مداخلته: "عندما وصلنا إلى المكتبة، المكان المخصص لأولئك "السادة"، وجلسنا نتلاطف بانتظار مداخلته، التي لا يمكن إلاّ أن تكون رائعة، ظهر يونسكو مثل يتيم ضخم، كبر سريعاً، يبحث عن عقل وعن أبوة مشكوك فيها. لمحتُ قطرات من العرق، متجمدة، حائرة في أي اتجاه تسيل، وقد أسرتها تجاعيد وجهه. أية حفاوة لم نحطه بها؟ لقد كنّا من كل قلوبنا مع هذا المؤلف النكرة، الذي يكدّس بعناد، كل مساء، الكراسي على مسرح لانكري، أمام مئات من المقاعد الخالية. أعطاه الرئيس الكلام في الحال فخيّم على المكان صمت ثقيل لا يتخلله سوى احتكاك صنانير مدام هورغون التي تحيّك الصوف وقد استسلمت لعادة بورغونيه قديمة.‏
              "تغيّرت ملامح يونسكو شيئاً فشيئاً حتى صار من الصعب التعرّف عليه. فتّش جيوبه، أخرج محفظته، ومنديله، وربطة عنق، وقف، فحص مقعده، جلس، رفع بنطاله، ولم يجد بعد أوراقه [..].‏
              "خلال حوالي عشر دقائق، تملكه وسواس الأوراق، التي وجدها أخيراً، وحاول ترتيبها. استغرق ذلك عدة قرون. توصّل أخيراً إلى نتيجة غامضة، ففتح فمه، وبصوت ضعيف لا يُسمع على بعد ثلاثة أمتار، صوت من درجة الصفر:‏
              - ما أريد أن أقوله لكم هو أنه ليس لدي ما أقوله لكم على الإطلاق..‏
              "طلبنا منه أن يُعيد عدة مرات.. توقفت مدام هورغون عن حياكتها وقالت بصوت كالرعد:‏
              - هذا، هذا عجيب! عادة، كل من يأتي إلى هذا المكان لديه شيء ما يقوله، أو ليس لديه شيء يقوله، فإذا لم يكن لديه شيء يقوله فهو ليس هنا. هذا، هذا عجيب؛ هذا مبتكّر!‏
              "أما جاك مادول الذي لم يسمح له كرم نفسه بأن يتنازل عن أي شيء يتعلّق بالثقافة، فقد هرع لنجدة ذلك المعذّب:‏
              - إن صديقنا يونسكو يطرح هنا مسألة هامة جداً، سأدعوها، لو سمحتم، مسألة ما يقال وما لا يقال [..].‏
              "احتدمت المناقشات، واختلطت، وازدادت غنى[..]، وبينما كانت تزداد حرارة العقول، وتبلغ درجة السمو، كان يونسكو ينام في مقعده، وقد جمّده ملاك النوم. لم يكن البحر يبعد عن ذلك المكان أكثر من ثلاثين كيلومتراً"(1) .‏
              غير أن ذلك الوجه المرهق، وذلك العرق البارد، وذلك القلق الكبير تكتسب معنى آخر عندما نقرأ تحت السطر الأخير من مسرحية "اميديه": "سريزي لاسال، 1953". هناك إذن كتب يونسكو أول مسرحية من ثلاثة فصول.‏
              لعبة الأقنعة تسمح بعدم الذوبان في الدور الاجتماعي وتيسّر للمرء البقاء دائماً "غريباً" إلى حد ما: "المملّ في المجتمع هو أن الشخص يذوب في دوره، أو بشكل آخر، فإن الشخص مدعوّ للتطابق تماماً مع دوره [..] الأمر المزعج الذي يُفقد المرء إنسانيته، أن ينام مساعد في الجيش في زيه العسكري"(1) . لقد رفض يونسكو أن يرتدي زيّاً محدداً.. "كاتب طليعي"، لم يقبل أن تُلصق عليه بطاقة من هذا النوع أو ذاك؛ لكنه يمكن أن يصبح، حسب الحاجة، هذا أو ذاك "أن يكون هنا وهناك" . "لم تشغفني الكوميديا الإنسانية ما فيه الكفاية، فأنا لست بكياني كله من هذا العالم"(2) .‏
              ارتداء القناع طريقة أيضاً لاستعادة الثقة بالنفس، لتهدئة المخاوف، لطرد الشياطين، لكتم بعض النداءات العنيفة النابعة من الأعماق: "أعماقي هي الجحيم، إنني أعرف الآن ما هو الجحيم"(3) .‏
              تعاقـــــــب‏
              لهذا السبب فإن الوجه الحقيقي ليونسكو لا يوجد في تلك الصورة الزائفة، بل في ذلك البوح المقنّع أو العنيف الذي نجده في يومياته، أو في تلك الذكريات التي نعثر عليها في مسرحياته وقصصه القصيرة. ولم أستطع قبول هذه الحياة، أو قبول نفسي"(4) . مؤلفاته كلها تعبّر عن هذا الغموض الذي يلفّ تجربته الوجودية، وتعاقب صعوبة الوجود وصعوبة الفرح.‏
              مهما بعد يونسكو في العودة إلى ذكرياته، يجد الفوضى والاضطراب؛ يجد الإحساس أنه يعيش في عالم معادٍ أو لا مبالٍ، "عالم من الطيور الجارحة": "عندما كنت في الخامسة، كما أظن، كنت في دار للأطفال غير بعيدة عن باريس[..] أمضيت في هذه المؤسسة عدة أشهر، وبما أنني كنت بعيداً عن أمي، فقد كنت حزيناً جداً. لم أعتد أبداً الانفصال عن أمي ولا النوم في مهجع مشترك، ولا قاعة الطعام، ولا جود الآخرين العدواني المرفوض [..] في سن العشرين، عند تأدية الخدمة الالزامية، وجدت ذلك كله من جديد: المهاجع العارية المطروشة بالكلس، وساحة سجن فسيحة، ورائحة المطهرات المرعبة. كانت حالتي هنا أسوأ مما كانت عليه وأنا في الخامسة"(1) .‏
              هذا القلق مرتبط بشعور بالخيبة: إخفاق الرغبة، خيبة الأمل والأحلام، فالنجاح، والارتياح العارض، وذيوع الصيت، لم تؤد إلا إلى نسيان سريع، دون أن تردم الهاوية الداخلية، دون أن "تحمل العزاء عن الفاجعة النابعة من إحساس بالضياع في هذا العالم المحكوم عليه بالموت"(2) .‏
              "حالات الرضى التي بحثت عنها - وقد وجدتها - لملء حياة، وفراغ، وحنين، نجحت أحياناً في إخفاء ذلك القلق الوجودي. لقد سلّتني، لكنها غير قادرة على فعل ذلك مرة أخرى. لقد بدا لي دائماً أن الآلام والأحزان والفشل حقيقية أكثر من النجاحات والأفراح. حاولت دائماً أن أعيش لكنني مررت بجانب الحياة ولم ألتق بها، أعتقد أن هذا ما تشعر به غالبية الناس. لم أعرف كيف أنسى نفسي. لكي أنسى نفسي يجب أن أنسى ليس موتي فحسب، بل أن أنسى أن أحبابي يموتون وأنّ للعالم نهاية. فكرة نهاية العالم تقلقني وتغيظني. الحياة هي الشقاء"(3) .‏
              في قلب هذا القلق وجد يونسكو صورة واحدة، وجد وجه أمه الحزين، ووجد وحدته التعيسة أثناء الحرب، وخاصة مضاعفات تلك الجراح التي أُصيب بها في طفولته الأولى. نراه في يومياته يتردد في الحديث عن تلك الذكريات: "لا أدري إن كان عليّ ذكر ذلك"، ورغم ذلك فإن تلك الطفولة حددت نفسيته منذ بداية تفتح الوعي لديه: "إذا كنت كما أنا ولست بشكل آخر، فهذا كله، أو جلّه، عائد إلى ذلك الحادث الأساسي. لا أدري لماذا، لكن ذلك الحادث حدّد موقفي من أهلي، كما أنه رسّخ الكراهية التي أكنّها للمجتمع". إنها ذكرى خلاف نشب بين والديه: "من الصعب أن نعرف من هو الألعوبة في يد الآخر، الرجل أم المرأة، غالباً ما تكون الضحية الظاهرية أقوى من الجلاّد الظاهري؛ لكن الصعب أن يخلّص المرء نفسه في مثل تلك المواقف الحسّاسة. لقد ضعت فيها". كان عمره آنذاك أربعة أعوام. لقد شهد شجاراً بين والديه حاولت والدته الانتحار بعده إذ شربت قارورة صغيرة من صبغة اليود. "اليوم، وبعد سنين، يبدو لي ذلك المشهد مضحكاً. من المحتمل أن والدتي لم تنو الانتحار حقاً. كانت تعرف أن والدي سيمنعها من تحقيق ذلك. انحفر المشهد في ذاكرتي ولم يستطع الوعي أن ينسيني الرعب الذي سبّبه لي آنذاك. لقد رسّخ هذا الخلاف العائلي إحساسي بالشقاء، وأكّد لي أننا لا نستطيع أن نكون سعداء".‏
              هناك أيضاً السعادة التي عرفها في لاشابيل أنتونيز، لكن هذا الفردوس ضاع إلى الأبد "كم مرة، كم مرّة مُتُّ منذ ذلك الحين!"(1) . هناك أيضاً لحظات السعادة العظيمة، هناك التجربة المطلقة للفرح: "كان يحصل لي سابقاً أن أشعر أنني امتلأت غبطة وحبوراً.. كان يخيّل لي في البداية أن كل فكرة، وكل حقيقة قد فرغت من محتواها. بعد هذا الفراغ، بعد هذه الدوخة، كان يخيّل لي أنني انتقلت إلى قلب الوجود الصافي، الوجود الذي لا يمكن التعبير عنه، كما لو أن الأشياء تحررت من كل تسمية تعسفية، تحررت من إطار لا يناسبها، إطار يحدّها ويخنقها: كان يتلاشى كل قهر وتختفي كل ضرورة اجتماعية ومنطقية للتحديد والتنظيم [..] هذا كله، كيف أستطيع التعبير عنه، هذه الحالات من الوعي كانت تولد في محيط من نور [..] كان إدراك الوجود والاندهاش يتطابقان. كنت أستيقظ فجأة، ومن أي نوم! كنت أستيقظ على نور يشتت الدلالات القديمة للأشياء وللزمن الذي كان وعيي يغفو فيه. لم تكن تلك الدهشة العظيمة التي تسيطر عليّ سوى عودة الوعي الذي كان لدي [..] هكذا إذن، فإذا كانت المرحلة الأولى من هذه الحالة من الوعي تبدأ بتفريغ الأفكار من مضامينها فإن المرحلة الثانية، الأساسية كانت نوعاً من الامتلاء المتجمع فيما وراء التعاريف والتحديدات"(1) .‏
              لقد كشفت نشوة السعادة لدى يونسكو شذوذ الحياة الراهنة وأيقظت الإحساس بالروعة؛ لكن هذه الحالة نادرة. باختصار: "لقد استمر ذلك زمناً طويلاً جداً، لقد استمر عدة ثوان" ثم بهتت الألوان ورجعت السماء عادية: القبح، والابتذال وسّخا الحياة اليومية من جديد.‏
              أخيراً، "لا شيء فظيع، وكل شيء فظيع، لا شيء هزلي، كل شيء مأساوي. لا شيء مأساوي، كل شيء هزلي. كل شيء حقيقي، غير حقيقي، مستحيل، معقول. لا معقول، كل شيء ثقيل، كل شيء خفيف"(2) .‏
              1 حاضر ماض ماض حاضر ص: 245 2-13 تشرين الثاني حسب التقويم الشرقي.‏
              1 حاضر ماض ماض حاضر ص: 140.‏
              2 راجع ضحايا الواجب.‏
              3 راجع ضحايا الواجب..‏
              3 محاورات مع بول- لوي مينيون، صدر المسرح، العدد 373.‏
              4 محاورات مع كلود بونغوا ص12.‏
              1 ربيع 1939 ص: 217-172-204.‏
              2 ربيع 1939 ص: 217-172-204.‏
              3 ربيع 1939 ص: 217-172-204.‏
              4 ربيع 1939 ص: 217-172-204.‏
              5 محاورات مع كلود بونفوا ص14.‏
              1 محاورات مع كلود بونفوا ص14.‏
              2 ربيع 1939 ص218، 214.‏
              3 ربيع 1939 ص218،214.‏
              4 محاورات مع كلود بونفوا ص14.‏
              1 محاورات مع كلود بونفوا ص 65.‏
              2 تجربة المسرح.‏
              3 محاورات مع بول - لوي مينيون، صدر المسرح، العدد 373.‏
              4 كان أوجين يونسكو في الرابعة من عمره عندما عاد والده إلى رومانيا.‏
              5 يوميات في فتات ص 46.‏
              1 حاضر ماض ماض حاضر ص24، 25‏
              2 حاضر ماض ماض حاضر ص24. 25.‏
              1،2،3 حاضر ماض ماض حاضر ص24، 25.‏
              1 محاولات مع كلود بونفوا ص63.‏
              2 أجوبة على أسئلة طرحها عليه مندوب مجلة بريف في 15 شباط 1956.‏
              1 يوميات في فتات ص179.‏
              2 محاورات مع كلود بونغوا ص25.‏
              1 يوميات في فتات ص180.‏
              2 حاضر ماض ماض حاضر ص164.‏
              1 يوميات في فتات ص63.‏
              1 تراجيديا اللغة.‏
              1 تراجيديا اللغة.‏
              2 تراجيديا اللغة.‏
              4 محاورات مع كلود بونغوا ص71، لنذكر هذا التصريح الآخر الوارد في نفس الكتاب ص 68: "كيف جئتُ إلى المسرح؟ حسناً، أنا نفسي لا أعرف - ألم تكتب في "ملاحظات وملاحظات مضادة" أنك جئت إلى المسرح لأنك لم تكن تحبه؟ - بلى، لكن هذا الجواب كان طريقة للتبسيط".‏
              1 محاورات مع كلود بونغوا ص 23.‏
              1 مقدمة الممسوسون) لدستوفسكي، اقتباس أكاكيا فيالا، ونيكولاباتاي، منشورات أميل - بول 1959.‏
              1 مسرح، جزء 1، المقدمة.‏
              2 جاك لومارشان، مقدمة لمسرح يونسكو، الجزء الأول، ص10.‏
              1 ملاحظات وملاحظات مضاءة "فقرة من رسالة".‏

              1 جُمعت هذه القصص القصيرة مع فقرات من يومياته ربيع 1939) في مجلد واحد تحت عنوان "صورة الكولونيل" 1962).‏
              1 الفيجارو الأدبي تشرين الأول 1952.‏
              2 الفيجارو 16 تشرين الأول 1955.‏
              3 يقول بودلير في دراسة عن ريتشار واغنر في كتابه عن الفن الرومانسي: "كل الشعراء العظماء يصبحون بشكل طبيعي وحاسم نقاداً، إنني أرثي للشعراء الذين تسيّرهم السليقة وحدها، أعتقد أنهم غير مكتملين، ينقصهم شيء ما، ففي الحياة الفكرية لدى النوع الأول تحدث أزمة حتمية عندما يحاولون تقييم فنهم، واكتشاف القوانين الغامضة التي أبدعوا بمقتضاها" ولقد قال الرأي نفسه جميع العظماء من كتّاب وشعراء وروائيين ومسرحيين.‏
              1 كما في مسرحية ضحايا الواجب، هي مسرحية صغير من الشعر.‏
              2 نقادي وأنا مجلة آر، 22 شباط 1956,‏
              3 ملاحظات وملاحظات مضادة.‏
              1 حوار مع بول - لوي مينيون، صدر المسرح عدد 373.‏
              2 أنسية: humanisme: مذهب يتخذ من الإنسان في حياته الواقعية موضوعاً له.‏
              1 برتران بوراو - ولبش. لوموند. كانون الثاني 1960.‏
              2 أندريه سيمون، اسبري، نيسان 1960.‏
              1 فعلاً، ففي 22 كانون الثاني 1970، وبعد عشر سنوات، يوماً بعد يوم من العرض الأول لمسرحية الكركدن، انتخب يونسكو عضواً في الأكاديمية الفرنسية ليشغل مقعد جان بولان.. "هذا يساعد، إنه مهدىء خفيف وليس له مضاعفات" كما صرح لكلود سارون.‏
              2 ص37.‏
              3 الحكاية رقم (1) للأطفال الذين لم يبلغوا الثالثة.‏
              1 فقرة من رسالة بتاريخ 1 نيسان 1969، في الحقيقة كان العنوان النهائي "لعبة القتل".‏
              2 ربيع 1939، ص172.‏
              3 دفاتر الفصول عدد 15 تاريخ شباط 1959.‏
              1 براهين 1959، عَرضت مسرحية "مشهد رباعي" في مهرجان سبوليتا. كتب جان كوت دراسة ملأى بالايحاءات "شكسبير، كاتبنا المعصار" لمجموعة مارابو أوينفرسيتيه").‏
              2 سيريزي لاسال، مركز ثقافي في قرب سان لو في منطقة المانش، نظمت فيه "عشرة أيام" حول موضوعات متنوعة، أقيمت الأيام المخصصة للمسرح عام 1953.‏
              1 دفاتر الفصول: 1959، لكن النص المتعلّق بمشاركة يونسكو الفعّالة في ملتقى سيريزي موجود في كتاب "ملاحظات وملاحظات مضادة"‏
              1 محاورات مع كلود بونفوا ص17.‏
              2 يوميات في فتات ص44، 212.‏
              3 يوميات في فتات ص44، 212.‏
              4 المصدر السابق ص28.‏
              1 المصدر السابق ص28، 172.‏
              2 المصدر السابق ص28، 172.‏
              3 حاضر ماض ماض حاضر ص22 وما بعدها.‏
              1 ربيع 1939 ص172.‏
              1 حاضر ماض ماض حاضر، ص218.‏
              2 من محاضرة ألقاها في سريزي، آب 1953.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو


                البحث عن المطلق.
                مغزى مسرحية "العطش والجوع" واضح من العنوان.‏
                تصّور مشاهد المسرحية المتنوّعة، أو ترمز، إلى شتى أشكال العطش والجوع. شهيّة الحارسين هي التي تشمّ رائحة الحساء وفي فمهما طعم الخمر؛ أمّا الجوع الذي يعاني منه تريب وبريختول فهو العذاب الذي يذلّ، إنه جوع جان عندما يصل إلى النزل؛ إنه الجوع الناتج عن مجموعة من الرغبات؛ إنه الحب المجنون؛ إنه الأمل الذي يفوق العالم اتساعاً ورحابة؛ إنه البحث الذي لا يرتوي عن المطلق.‏
                انطلق يونسكو في هذه المسرحية من تجربة وجودية، تجربة الغيبوبة العابرة؛ لكن ليس الهدف منها العثور على الدوافع البدائية كما رأينا في مسرحيات "جاك" "ضحايا الواجب" "اميديه". من خلال المعاناة الدائمة للعطش والجوع يشعر جان بغياب من نوع آخر. يذكرّنا بحثه بالتدريبات التي كان يمارسها الصوفيون. إنه يرفض كلّ أسباب الذلّ والإنحطاط: يرفض التشفّي، يرفض الإمتلاك الذي يذل. إنه يبحث عن موضوع رغباته خارج حدود الزمن والموت. المرأة التي يحلم بها جميلة كالأرض الموعودة.‏
                ماري- مادلين، التي استعادت شبابها، نجت من السقوط والموت، وفي النهاية يقوده بحثه إلى أسفل السلّم الفضي.‏
                تحاول المسرحية إذن أن تكشف معنى وهدف الحياة. من مسرحية "الإمتثال" إلى مسرحية "العطش والجوع" اقتفى يونسكو خطّ السير الذي كان قد حدّده في كتاب "يوميات في فتات": "يمثّل الاستكشاف الحاسم للقلب الإنساني بداية الطريق في حياة الإنسان، لكنّ هذا الاستكشاف لا يكون حاسماً إلاّ إذا أدّى حقاً إلى بداية الطريق، إذ أن هناك استكشاف عقيم لا يؤدي إلاّ إلى تعذيب الذات، إلى اليأس، إلى إرباك وتشويش أكثر تعقيداً [...] يجب على كل امرئ أن يجد طريقه بنفسه" ص95). تتحدث مسرحية "العطش والجوع" عن تجربة عدم الرضى دون أن تشير إلى "الطريق" لكنها تشير، مع ذلك، إلى تأملات من مستوى الوجد.‏
                "الحقيقة والكمال لا تتحققان إلا من خلال زواج السماء والأرض [...] يجب أن تصعد الأرض إلى السماء، كما كتب يونسكو، فهل يمثّل السلّم الفضي طريق هذا الارتقاء؟.‏
                "لعبة القتل"‏
                انقضت خمس سنوات بعد مسرحية "العطش والجوع" طبع خلالها يونسكو جزأين من مذكراته، غنيين بالإعترافات، كما تميّزت تلك السنوات بأفكار وانطباعات جديدة عن الخلق والإبداع في "محاوراته مع كلود بونغوا" و "اكتشافات" وفي عام 1969 أنهى يونسكو كتابة "الوباء" أو "لعبة القتل". عُرضت المسرحية في دسلدورف في كانون الثاني 1970 ثم عُرضت في باريس في أيلول من العام نفسه(1) .‏
                تعرض اللوحات المتتالية مدينة مثل باقي المدن في زمن غير محدّد. يوم الأحد، على ساحة المدينة، عند ساعة القدّاس، تأخذ الأحاديث والثرثرات سيرتها المعتادة: تتحدث ربات البيوت عن شراء الأغراض، ويتحدث المتنزهون عن غلاء الحياة، والسياسة، وهموم الأسرة و "غزو القمر"، والأخلاق المتعالية(2) والإرتكاس "اللاشرطي".. فجأة يموت طفل رضيع في عربته: يتيبّس، يصبح لونه ضارباً للبنفسجي، وتجحظ عيناه. هلع، غضب، شجار، عنف، أطفال آخرون وبالغون وعجزة يموتون بنفس الأعراض.‏
                مرض غامض يلفّ الكرة الأرضية ويعود بشكل دوري ويضرب أكثر المدن سعادة في أسعد لحظات تاريخها.‏
                ينتشر الوباء بسرعة، ويزداد "بسلسلة هندسية". يتمّ اتخاذ الاحتياطات اللازمة مثلما فعلت المدينتان الشهيرتان في الزمن القديم: برلين وباريس. يقوم الجنود بحراسة الأبواب ولم يعد أحد قادراً على الدخول أو الخروج. يتمّ تجنيد حفّارين إضافيين ومفتشين محلفين لإستقصاء آثار العدوى، ونساء مفتشات لزيارة البيوت.‏
                يُوجّه نداء إلى المتطوعين "ابلغوا بعضكم عن بعض".. تُرسم إشارة صليب أحمر على البيوت المصابة ويُحجر على سكانها، وكل من يدخل إلى بيت مشبوه لا يعود بإمكانه الخروج منه. تُحظر التجمعات العامة والتسكّع والإحتفالات والتسوّل واجتماع أكثر من ثلاثة أشخاص. ثم يُعلن منع التجوّل.‏
                في هذه المدينة التي تعيش تحت الأحكام العرفية نرى نتائج المرض: دمار مادي وانحلال أخلاقي. ساعة الموت هي ساعة الحقيقة أيضاً. لا يستر المشاعر أي احتشام أو احتراس. يموت المرء كما هو في أعماق نفسه.‏
                في بيت لم يصله الوباء، يتمّ تكديس المواد التموينية ومضاعفة الإحتياطات: "حواجز عازلة وقلوب كتيمة". يعيش المرء كي ينجو وسط هذا الرضى الأناني يضرب الموت ضربته.‏
                في إحدى العيادات يلتقي كاتبان بعد فراق دام عشرين سنة؛ يتحدثان عن الصداقة. قال أحدهما: "الصداقة أقوى من جميع الإيديولوجيات..." يردّ الآخر: "الصديق شخص يفكر كما أفكر..." ويستمر الحديث. فجأة يموت أحدهما. يطمئن الطبيب نفسه ويرفض الإعتراف على أن المرض يمكن أن يصل إلى عيادته.‏
                في "الأحياء العالية" يطمئن الناس أيضاً. تتفق مجموعة من المدعوين على أن الوباء، وهو وليد للبؤس والرذيلة، لا يمكن أن يصيب سوى الأحياء المنخفضة... يُصعق أحد المدعوين ويموت.‏
                المرض ينتشر والمشاهد المرعبة تتكاثر ولم يعد في مقدور الحفّارين دفن جميع الأموات فالجثث تتكدس في كل مكان.‏
                في عمارة شعبية يلتقي زوجان بعد أن باعدت بينهما احتياطات الأمن. استطاع الزوج أن يجتاز حاجز الجنود ليلاً. مثل صدى قريب، هناك زوجان آخران. استطاعت المرأة أن تعود من الريف دون أن يراها أحد. ثنائيات يتحدثان، بانسجام، عن الحب وسعادة اللقاء وشموس المستقبل. لكن القلق من الحاضر يستمر وتظهر أولى علامات المرض؛ فالأول لم يستطع اجتياز حاجز الجنود إلاّ ليشهد موت زوجته، ولم ترجع الأخرى من الريف إلاّ لتفقد زوجها إلى الأبد. عندما ينتشر "الوباء" لا يكون الحب "أقوى من الموت".‏
                في مكان آخر تستعدّ امرأة وابنتها لحضور حفلة راقصة. الأم لا مبالية، تريد الحياة والتمتع بالحياة فلا تفكر إلاّ بزينتها؛ أما الصبيِّة فقلقة مضطربة، تسمع حشرجة الجيران، ثم تشعر بضيق وآلام فظيعة، ثم تموت. تصبح الأم الطائشة الأنانية أُمّاً حزينة.‏
                يضرب الموت الجيش أيضاً حيث لم تجدِ الإحتياطات نفعاً، الأهواء والغرائز تنفلت: سرقات واغتصاب وقتل. يقمع الجيش الجرائم بقوّة النار، تُضاف ضحايا هذه الأحداث العنيفة إلى ضحايا الوباء.‏
                التمرّد يعلو هديره. اجتماعات سريّة تُعقد، ويعلن خطيب شعبي "للرفاق" أن المرض أصاب ثلث السكان. مائة وتسعون ألف قتيل، مائة ألف مريض في المستشفيات أو في البيوت. يجب معرفة الأسباب وفضح المسؤولين عن الوباء.‏
                مَنْ المستفيد من الوباء؟ يعالج الخطيب الموقف بموضوعية وتاريخية، يكشف أسراره بإدخاله ضمن سياق جدلي وقد دحض برشقة من الأيمان المغلظة اعتراضات "رفيق- معارض" وقاد المتظاهرين إلى دار البلدية. لكن الجنود كانوا هناك. لعلعت البنادق للرشاشة. لقد قُتل الخطيب.‏
                اجتماع سريّ آخر: اجتماع للمتذمرين. خطيب مفوّه يعلو المنصة؛ يردد أقوال القدماء ويرسم صورة "مجتمع جديد" يعد بالثورة ضمن حدود القانون و "السعادة من خلال ازدهار مجتمع استهلاكي مُعدّل". يقترح تدابير مبتكرة وتغييرات عميقة: انفتاح اقتصادي ضمن الإستقرار النقدي، تحسين مستوى حياة العمال، حماية رجال الصناعة وتوسيع هامش منفعتهم، تطوير علاقاتها، زيادة الإعانات العائلية وإعانات التقاعد، تخفيف الأعباء الضريبية. ثمّ يوضّح الخطيب السبب في أن البلدية مسؤولة عن جميع النكبات ويدعو المستمعين لمؤازرة مشروعه والتصويت له. ينتهي الاجتماع على نشيد المارسيليز الذي عُدّل بما يناسب الموقف.‏
                سندخل إلى مقلع الحجارة‏
                عندما يغادره أصحابه الحاليون...‏
                لكن ذلك كلّه لا يحدّ من انتشار الوباء. يستعيد زوجان حياتهما، فيتذكّر القارئ مسرحية الكراسي. المرأة ترى الحياة رائعة: "كل لحظة من الحياة تسحرني... كل يوم بالنسبة لي هو يوم آخر... عند كل فجر يُولد العالم من جديد..." أمّا الرجل على العكس، يعاني من الحياة على أنها كابوس: "كل شيء مخيف. إنني أعاني من السأم والقلق..." لكن المرأة تموت. هناك أناس يستفيدون من المرض: القوّالون يجدون فيه مواضيع للهجاء، وحفّارو القبور ماعادوا يخافون من البطالة... إنها فرصة انتقام الفقراء: في مخزن كبير مات أصحابه نهبت البائعات الملابس وتعاركن مع الوريثة...‏
                هلك نصف السكان. أخيراً تلاشى الوباء وصار في الإمكان أن تُولد السعادة من جديد، لكن، يشبّ حريق هائل...‏
                تقنيــــــة متجــدّدة.‏
                عندما كتب يونسكو هذه المسرحية كان يحلم بقصة "يوميات الطاعون" لدانييل دوفو، ورواية "الطاعون" لألبير كامو إذ وجد في هاتين القصتين موضوعاً وصوراً ومواقف.... يمكن الاكتفاء بهذه الإشارة دون الحديث عن التأثر وإلاّ فإننا نواجه تأثراً سلبياً وردّ فعل رافض. تختلف تقنيات المسرح عن تقنيات القصة، ويبتعد يونسكو كثيراً عن منطلق كامو الأخلاقي عندما يفسّر الأحداث.‏
                فالمغزى في مسرحية "لعبة القتل" والمغزى في "الطاعون" متعارضان.‏
                لانجد في مسرحية "لعبة القتل" عقدة ذات تغيرات فجائية متعددة ولا نجد تطوراً يحقق حيويته من خلال موقف متغيّر. المشاهد المتتالية مشاهد مستقلة، يعرض كل مشهد موقفاً خاصاً، والرابطة الوحيدة التي تجمع بينها هي الموت. لوحات متتابعة لصورة جدارية ينقل تتابعها تجاوراً في المكان. "لعبة القتل" عرض مسرحي وليست دراما.‏
                لا تشكل الحلقات الثلاث من مسرحية "العطش والجوع" تسلسلاً زمانياً ، لكنها تصوّر ثلاث طرائق "للحياة في العالم" وهنا يذهب يونسكو إلى أبعد من ذلك. إنه يرفض "الشكل" الدرامي، يرفض التقاليد الثابتة، يرفض الحدث الذي تتشكل عقدته من أزمة ما، ويتطوّر حتى يصل الذروة، ثم تنحلّ العقدة من خلال تغيير أساسي في الموقف الأوّلي.‏
                هذا الطرح الجوهري الجديد للعمل يعدّل من دور الشخصيات التي فقدت وظيفتها الدرامية ولم تعد أكثر من موقف في مواجهة الوباء، إنها عيّنات، نماذج. منذ ذلك الحين لن نراها تنتقل من مشهد إلى آخر. بل لم يعد هناك شخصية يحدّد وجودها المستمر بوضوح وحدة المفهوم أو وحدة النظرة إلى العالم مثلما رأينا من قبل في مسرحيتي "قاتل بلا أجر" و "العطش والجوع".‏
                هذه الطريقة في معالجة الزمن والشخصيات تؤدي إلى حدوث تعديلات على أشكال الحوار. لم يعد الحوار في خدمة الحدث، ولم يعد وسيلة للاتصال، ولم يعد يوضّح أفكار المؤلف: ليس هناك تبادل حقيقي ولا اعتراف ولا فصاحة ولا غنائية. الحوار يشير إلى المواقف، إنه حوار وصفي، للكلمات فيه نفس المهمة التي تؤديها بُقع الألوان على اللوحة.‏
                ردود قصيرة، كليشهات، كلمات مبتذلة متراكمة تستخدم قوالب "اللغة" اليومية، تصف التصرّفات الممكنة أمام الحياة وأمام الموت. يتعرّف المرء على ما رآه من قبل، ويكون أحياناً على اتصال مباشر بالأحداث الراهنة: يلجأ يونسكو إلى طريقة الإلصاق كولاّج) ويستعير شعارات من خطب السياسيين وزعماء النقابات المعروفين، وعبارات من مقابلات صحفية مع "رجل الشارع"...يضرب الأمثلة ثم يجعلها تنكمش فتعطي السخريةُ آنذاك للواقع مغزاه.‏
                هذه الطريقة الساخرة تجعلنا نفكّر بالقوّالين: هنا يؤكد يونسكو أيضاً تصحيحه على أن ينقل إلى المسرح أشكال الاستعراض التي يمكن أن تبدو غريبة عنه: الميوزيك-هول، والكاباريه...‏
                تعبير عن "اللامعقول"‏
                في مسرحية "لعبة القتل" نجد من جديد جميع المسائل التي واجهها يونسكو.. يعرض كل مشهد موضوعاً أو يصف سلوكاً: إنها فرصة للتفكير والتساؤل عن الصداقة والحب، عن الاندهاش من الحياة والخوف من الوجود، عن الإبداع الأدبي، عن الإضطرابات السياسية، عن طغيان الإيديولوجيات، عن الطموح، عن العنف...‏
                الوباء، وهو القاسم المشترك بين المشاهد كلها، يحقق وحدة الأسلوب؛ ومن خلال التهديد الذي يعلنه يصبح أسلوباً للكشف عن الوجدان. لقد أبدى انتونان ارتو الملاحظة التالية عن الطاعون: "أصاب الطاعون المجوس وهم نيام فأيقظ فساداً كامناً ودفعهم فجأة إلى أكثر التصرّفات تطرّفاً..."‏
                كان ارتو يشبه المسرح بالطاعون تصوّر مسرحية "لعبة القتل" انتصار القوى السوداء: أمام الموت تسقط الأقنعة كلها: الخوف، الجشع، الأنانية، القسوة، كلها تظهر دون مواربة؛ وكذلك الكرم والحب، فأولئك الذين يحبون الحياة حقاً يعرفون كيف يموتون دون خوف، وهذا ما اعترف به بيرانجيه إلى مارتا في مسرحية "الماشي في الهواء".‏
                تقدّم كل لوحة فكرة خاصة لكن المسرحية تكتسب مغزاها من الموت. الموت ماثل أمامنا، حاضر دون تبرير أو انقطاع. إنه الطاعون أو النار، وكل قوّة من تلك القوى السوداء الكامنة في العالم أو في الإنسان تولّد الموت.‏
                يضرب الموت عشوائياً، فهو ليس عقوبة إذن كما أنه ليس وعداً:‏
                لا أحد يرى فيه معبراً إلى عالم آخر أو تسامياً إنه يحيل كل عمل إلى عبث وكل جهد إلى سخرية. إنه التساؤل الأكبر "ماالفائدة؟". ما الفائدة من الصداقة والحب والذكاء؟ ما الفائدة من الكراهية والطموح؟ ذلك كله لا فائدة منه.‏
                لكي تكتسب الحياة معنى لابدّ من الشفاء من الموت، وهذا ما قاله جان إلى ماري- مادلين في "العطش والجوع" وهذا ما شرحه بيرانجيه للصحفي في "الماشي في الهواء" : "أنا مشلول لأنني أعرف أنني سأموت قريباً".‏
                في "لعبة القتل" لا توضّح أية شخصية فكرة الكاتب لكن المسرحية تفرض هذه الفكرة بوضوح: يسلب الموت من الحياة كل قيمة، والقدر لا معنى له، والوضع الإنساني "لامعقول"‏
                يتناول يونسكو إذن في "لعبة القتل" المواضيع الكبرى التي عالجها في مسرحه مع محاولة لتجديد الأساليب والتقنيات. من خلال هذه الاستمرارية في رؤية العالم، هل يمكن اعتبار هذه المسرحية نقطة انطلاق نحو أسلوب جديد؟‏
                2- العروض المسرحية‏
                1950- 11أيار، على مسرح نوكتامبول، المغنية الصلعاء، إخراج نيكولا باتاي. قام بالأدوار: نيكولا باتاي السيد مارتان) كلود مانسار السيد سميث) سيمون موزيه السيدة مارتان) بوليت فرانتز السيدة سميث) اوديت بارّوا الخادمة) هنري- جاك هوي رجل المطافئ).‏
                1951- 20 شباط على مسرح بوش- مونبارناس. الدرس. إخراج مارسيل كوفولييه. قام بالأدوار: مارسيل كوفولييه المدرّس) روزيت زوشيلي التلميذة) كلود مانسار الخادمة).‏
                1952- 22 نيسان على مسرح نوفو لانكري. الكراسي. إخراج سيلفان دوم ديكور جاك نويل. قام بالأدوار: تسيلا شيلتون السيدة العجوز) بول شوفالييه السيد العجوز) سيلفان دوم الخطيب).‏
                1953 خلال شهر شباط على مسرح كارتييه-لاتان. ضحايا الواجب. إخراج جاك موكلير، ديكور رونيه آليو. قام بالأدوار: تسيلاشيلتون مادلين) ج-ر شوفّار شوبير) جاك موكلير الشرطي) ج. آلريك نيكولادو) بولين كامبيش السيدة).‏
                - في الأول من أيلول، وعلى مسرح لاهوشيت عرضت سبع مسرحيات قصيرة: صبيّة للزواج-معرض السيارات- هل تعرفونه؟ -الزكام في الحلم- ابنة الأخ المتزوجة- المعلّم- الحرارة العظمى وهي اقتباس عن كاراجيالي). إخراج جاك بولييري. ديكورات جورج آنينكوف، تمثيل ج لوفلون، كلير اوليفييه، جاك بولييري.‏
                1954- 14 نيسان على مسرح بابليون، اميديه أو كيف نتخلّص منها؟ إخراج جان- ماري سيّرو. ديكورات جاك نويل. موسيقى بيير باريو. قام بالأدوار: لوسيان ريمبورغ اميديه) ايفون كليش مادلين ) بيير لاتور، جان مارتان، دومينيك دولان، جان لاتور، جان دافيد.‏
                1955- تشرين الأول، على مسرح لاهوشيت، جاك أو الإمتثال، إخراج روبير بوستك. ديكورات جاك نويل. قام بالأدوار: جان- لوي ترانتينيان جاك) كلود تيبو جاكلين) ج. بوتان والد جاك) تسيلاشيلتون أم جاك) بول شوفالييه جدّ جاك) مادلين داميان جدّة جاك) رين كورتوا روبرتا) كلود مانسار الأب روبير) بوليت فرانتز الأم روبير).‏
                - 15 تشرين الأول. اللوحة. قام بالأدوار: بيير لوبرو السيد الضخم) بول شوفالييه الرسام) تسيلا شيلتون أليس) مادلين داميان الجارة).‏
                - في فنلندا عُرضت "المستأجر الجديد" باللغة السويدية من إخراج فيفيكا باندلر.‏
                1956- 20 شباط، على ستديو الشانزيلزيه. مسرحية ألما القصيرة أو حرباء الراعي. إخراج موريس جاكومون. ديكور بول كوبيل. الموسيقى التصويرية مختارات من القرن السابع عشر، قام بالأدوار: موريس جاكومون يونسكو) كلود بييبلو بارتولوميوس الأول) آلان مونيه بارتولوميوس الثاني) بير فاسّا بارتولوميوس الثالث) تسيلا شيلتون ماري).‏
                1957- 10 أيلول على تياتر دوجوردوي. المستأجر الجديد. إخراج روبير بوستك. ديكور سينيه. قام بالأدوار: بول شوفالييه السيد) ماريز باييه حارسة البناية) جريم اللرايت وكلود مانسار الحمالين).‏
                1959- 2آذار، على مسرح ريكامييه. قاتل بلا أجر. إخراج جوزيه كواغليو ديكورات جاك نويل. قام بالأدوار: كلود نيكو بيرانجيه) جان -ماري سيّرو المهندس المعماري) نيكول يونسكو داني) فلورانس بلا حارسة البناية والأم بيبا) نيكولا باتاي ادوار) جاك سودري، هوبير دولاباران، جاك ديغور، جاك هيرلان، فيليب كيلرسون، جيرار داريو، ميشيل البرتون.‏
                في مهرجان سبوليت عُرضت مسرحية "مشهد رباعي" باللغة الفرنسية. 6 تشرين الثاني، على مسرح دوسلدروف عُرضت مسرحية "الكركدن" إخراج ك. هـ. ستروكس وقام بدور بيرانجيه كارل ماريا شيلي.‏
                1960- 22 كانون الثاني على تياتر دوفرانس. الكركدن. إخراج جان- لوي بارّو. ديكورات جاك نويل. موسيقى ميشيل فيليبو. تمثيل: ج. ل. بارّو، وليم سابا تييه، ماري- هيلين داستيه، نيكول يونسكو، جين مارتل، جان مارتان، روبير لومبار، جان باريديس، ايف اركانيل، سيمون فالير، ميشيل بيرني، جابرييل قطّان، ريجيس اوتان، سيمون باري، ماريوس بالبينو، مارك هلفورد، فرانسواز دوبري.‏
                نيسان، على مسرح الأيتوال. باليه تعلّم المشي. موسيقى مالك، تقديم باليه باريس الحديثة فرانسواز ودومينيك).‏
                28 نيسان. على مسرح رويال كورت ثياتر في لندن. الكركدن. إخراج أورسون ويلز. أدّى دور بيرانجيه لورانس أو ليفييه.‏
                1962 نيسان. على ستديو الشانزيلزيه. تخريف ثنائي. إخراج انطوان بورسييه. ديكورات جاك نويل. قام بالأدوار: تسيلا شيلتون هي) ايف بونو هو). على مسرح المدينة الجامعية مسرحية المستقبل في البيض إخراج جان-لوك مانييرون.‏
                -15 كانون الأول. على مسرح الأليانس فرانسيز. الملك يموت. إخراج جاك موكلير. ديكورات جاك نويل. موسيقى جورج دولورو. قام بالأدوار: تسيلا شيلتون مرغريت) رين كورتوا ماري) روزيت زوشيلي جولييت) جاك موكلير بيرانجيه) مارسيل كوفولييه الطبيب) مارسيل شامبيل الحارس).‏
                1963 - 8 شباط. على مسرح تياتر دوفرانس. الماشي في الهواء. إخراج جان-لوي بارّو. ديكورات جاك نويل. موسيقى جورج دولورو. تمثيل: ج-ل بارّو، مادلين رينو، جان باريديس، دومينيك اردن، لويس ماسون، سابين لودس، روبير لومبار، جين مارتل، دومينيك سانتارللي، اليس رايشن، ماري - هيلين داستيه، ريجيس اوتان، ميشيل بيرتي، سيرج لان، هنري جيلابير، اندريه باتيس.‏
                1965 على مسرح المركز المسرحي في الجنوب الشرقي. الثغرة.‏
                1966 شباط. على مسرح الكوميدي فرانسيز. العطش والجوع. إخراج جان-ماري سيّرو. ديكورات جاك نويل. توزيع الأدوار: روبير هيرش جان) جاك ايرز تريب) جان- بول روسيّون بريختول) ميشيل ايتشيغرّي الأخ تاراباس) رونيه كاموان الحارس الأول) لويس ايمون الأخ الأعظم) كلود بروسيه الحارس الثاني) سيمون إين الأخ الثالث) ميشيل بيرناردي الأخ الثاني) جاك موري الأخ المحاسب) آني ديكو اديلاييد) كلود وينتر ماري- مادلين) جيرالدين فالمون مارتا). في شهر شباط على مسرح تياتر دوفرانس إعادة لمسرحية الثغرة من إخراج جان- لوي بارّو.‏
                شهر أيار. على مسرح بوش- مونبارناس. عند أسفل الجدار، درس في اللغة الفرنسية للإمريكيين. إخراج انطوان بورسييه. ديكورات اوسكار غاستون. تمثيل مارك دوديكور، كلود جينيا، ج. ك. بويّون. ايف الونسو، كليردوهاميل، اندريه هارتمان، كانون الأول، على مسرح لابرويير. مشاجرات وصراعات زيارة المستشفى، المستقبل، وكالة السفر، البيضة المسلوقة، صدمات) إخراج جورج فيتالي. ديكورات باس. الممثلون الأساسيون ميشيل كالابرو، نيكول غيدن، كلود جينيا، ماكس فيال.‏
                1969 تشرين الأول. على مسرح الابسيديول. اسكتشاث لم تعرض من قبل وإعادة لبعض الاسكتشات القديمة: التحيات، مشهد رباعي، البيضة المسلوقة، درس في اللغة الفرنسية للإمريكيين، عند الطبيب، شجرة جوز الهند المحترمة، قصة لصوص، الثغرة، الصبية تتزوج، حدث قبل ذلك، المعلّم.‏
                1970 - 22 كانون الثاني. على مسرح دوسلدروف في ألمانيا. الوباء أو لعبة القتل.‏
                11 أيلول. عُرضت في باريس على مسرح موبنارناس.‏
                مسرح العنف‏

                اللغة نظام للإتصال لكنها أيضاً طريقة للبحث ووسيلة للتعبير عن الواقع. الفلسفة والعلوم والرسم والموسيقى والأدب، هي لغات مختلفة وكل واحدة منها تكشف الواقع أو تؤسسه.‏
                ليس من مهمات الأدب إذن إبراز فكرة مجرّدة مسبقة. الكاتب لا يشرح ولا يعلّم، إنه يبحث، ومن خلال تساؤلاته تنبثق حقيقة جديدة توضّحها اللغة. لكن في الوقت نفسه، يطرح الكاتب للمناقشة النظام الذي يستخدمه. ومثلما يتأمل الفيلسوف في الفلسفة، ومثلما ينتقد العالم تصوّراته العلمية، يفكر الفنان في فنه والكاتب في كتابته.‏
                تمثّل الكتابة، في الوقت نفسه، استكشاف المحسوس والتعبير عنه، وطرح الأشكال الأدبية على بساط البحث من جديد. لكي يخلق الكاتب العالمَ المنسجم مع رؤيته فإنه يبحث عن أشكال جديدة. الخمرة الجديدة لاتوضع في دنان عتيقة، وهكذا فإن صيرورة الأدب تتميز بتدمير الأشكال الجامدة المتحجّرة المرتبطة بمناهج بالية مهجورة وهذا التدمير يقود إلى تطوير أشكال قادرة على التعبير كل مرّة عن رؤية جديدة للواقع.‏
                لاتشذّ أعمال يونسكو عن هذه القاعدة وهنا تكمن أصالته وقيمته.‏
                التحليل التطوري اللغوي للمسرح يكشف هذه الحركة المزدوجة، السلبية، والإيجابية: رفض القواعد والأشكال التقليدية، تأكيد رؤية شخصية جديدة للعالم من خلال لغة جديدة وتقنية أصيلة مبتكرة.‏
                لقد ولدتُ منذ زمن ليس بالقصير...‏
                ولم أتوصل بعد إلى فهم ما حصل لي،‏
                وقد بقي لي قليل من الوقت لأفهم مالم أفهمه حتى الآن. وأعتقد أنني لن أبلغ ذلك المسعى يوميات في فتات).‏
                1- من التجربة الحيّة إلى دنيا الوهم.‏
                يعبّر العالم الخيالي للكاتب عن "وجوده في العالم". الصور والوجوه التي تصدر عن الأحلام تنقل حالات عاطفية. في مسرح يونسكو، تسمح الثوابت، والإعادات، والعلاقات المتبادلة بتحديد هذا العالم الوهمي. تجسّد الشخصيات، تحت مختلف الأقنعة، بعض الوجوه الأسطورية وتشكّل الصور حزمة من الخطط وتألفاً لمنظر داخلي؛ كما يكشف بينة الحوارات وثوابت النحو حيوية الفكر؛ وتعترف الديكورات والإكسسوارات بوجود تصورات خادعة من أحلام وهلوسات: العناصر الدرامية كلها تُوضع في خدمة بحث الكاتب واستكشافه لخفايا النفس البشرية كل مسرحية إذن هي "تحليل ذاتي".‏
                "حالتان أساسيتان من الوعي تشكلان أساس جميع مسرحياتي: أحياناً تتفوق حالة على الأخرى، وتارة تمتزجان. هاتان الحالتان الأصليتان من الوعي هما حالتا الخفّة والثقالة؛ الفراغ والحضور الزائد، الشفافية غير الواقعية للعالم وقتامته، النور والظلمات الكثيفة"(3) . عالم يونسكو الخيالي يعبر إذن عن مسلّمة وجودية مزدوجة: الألم من الوجود والدهشة من الوجود. إنه عالم مرعب ورائع في آن معاً.‏
                عالــــم مخيـــــف.‏
                "إننا نعيش كابوساً مخيفاً" كما قال بيرانجيه للصحفي في مسرحية "الماشي في الهواء" ولكي يكون الأدب على مستوى الحياة يجب أن يكون ألف مرّة أشد هولاً وأكثر شراسة". إدراك مرور الزمن وتسلّط فكرة الموت وحدس السقوط والخطأ تجعل من "الحياة في العالم" جحيماً. "في داخلي يوجد الجحيم". يضفي هذا الإنطباع ملامح الكابوس على مسرح يونسكو.‏
                مشاهد من الجحيم.‏
                غالباً ما يكون الجو المسرحي "الديكور" مكاناً مغلقاً: فخّاً أو سجناً، الشخصيات محاصرة فيه. العجوزان في مسرحية الكراسي في برجهما على الجزيرة، اميديه في شقته الموصدة الأبواب دوماً، المستأجر الجديد وسط أثاثه، جان في البيت الذي يغوص أو في النزل المريح. مكان مغلق، قبر. الخوف يطفو ويبرز. قالت ماري-مادلين:"يظن أن هذا البيت قبر، لماذا يضع نفسه في مثل هذه الحالة؟ كل البيوت قبور". من ديكور إلى آخر نجد الجدران التي تعشعش في أحلام يونسكو والتي تحدّث عنها في "اليوميات"(4) : جدار من الوحدة، جدار من الكآبة، جدار من البكاء، جدار يمنع معرفة المكان، معرفة الآخرين، معرفة الإنسان لنفسه، جدار يثور المرء عليه، يضربه بقبضته، ينطحه برأسه، لكن دون جدوى".‏
                "كلما ابتعد المرء كلما غاص أكثر" كما كانت تقول ماري، صاحبة المزرعة في لاشابيل انتونيز(5) . عالم يونسكو هوعالم التقهقر والانزلاق إلى الأعماق: في غرفة جاك كما في قصر بيرانجيه يتداعى كل شيء: الأثاث الأعرج، السلالم المتخلخلة، الجدران المتداعية. كل شيء ينهار. الشقوق والصدوع تنتشر في كل مكان، فراغات في الذاكرة، هاويات في الزمن، حُفر هائلة تبتلع مملكة الملك العجوز. "شوارع كاملة، مدن كاملة، حضارات كاملة تمّ ابتلاعها"(6) .‏
                هذا الغوص إلى الأعماق يمثّل بالنسبة للشخصيات "نزولاً إلى الجحيم". لقد استحال جاك بعد امتثاله لرغباته إلى معيار ونموذج. شوبير يغوص، ينزل درجة درجة عائداً إلى ماضيه، بيرانجيه يركع تحت سكين القاتل، جان يتوارى خلف الزهد وإنكار الذات. لقد وجد المنهج الأخلاقي أو النفسي تجسيداً له في اللعبة المسرحية: صور حركية، قليلة حقاً، لكنها معبّرة، تترجم الخطأ والذنب، والسقوط والندم.‏
                وراء المكان المسرحي، وراء بوابة السجن والنوافذ الدائرية الصغيرة في البرج، أو الشقوق في القصر، ماهي أشكال وألوان العالم؟ في ذكريات شوبير أو جاك، في أحلام اميديه ومادلين وجوزفين، في وصف ماوراء العالم، تسيطر صور الغروب، صور الليل الذي تملؤه البروق والحرائق، خليط من جليد ونار: "أشواك من نار! نيران مدببة، نيران من جليد.... إنهم يغرزون دبابيس من نار في لحمي"(7) . في مسرحية "الملك يموت" "الأحواض تتوهج" وفي قاتل بلا أجر هناك" أزهار من نار، أشجار مشتعلة"؛ "رأيت قارات كاملة، جنات من نار" كما قال الماشي في الهواء. منذ مسرحية المغنية الصلعاء يظهر رجل الإطفاء، وتعلن مدام سميث "رجل الإطفاء هو كاهن يستمع إلى الاعتراف أيضاً".‏
                في نور شمس سوداء ينبثق منظر جامد: هضبة جرداء تحيطها الجبال العارية مثل الأسوار؛ دروب وعرة ملأى بالحجارة السير فيها عذاب أليم: "أتشبّث بالصخور، أنزلق، أتعلّق بالأشواك، أزحف على أربع... آه! لا أحتمل المرتفعات... لماذا يتحتم عليّ أن أتسلّق الجبال باستمرار؟"(8) . في مكان آخر هناك بحيرة شاطئية أسنت مياهها وامتلأت بوحل المستنقعات العفن. وفي مكان آخر أيضاً "الأرض تنشقّ... الجبال تميد، محيطات من الدم... من الطين. من الدم. من الطين..."(9) . في كل مكان نجد الأشواك والنباتات الملتفّة والأغصان التي تجرح الوجه. ذئاب، ضفادع، أفاعي، بنادق، رشاشات، حراب وسكاكين، عصافير ميتة، أطفال موتى، أرتال من المعذبين والشهداء، رجال ذوو وجوه مرعبة ورؤوس أوزّ وكركدن. من مسرحية إلى أخرى، تجد هذه المواضيع الملّحة، وهي السند الخيالي لذلك الطابع "المخيف" للعالم.‏
                وجوه أسطورية‏
                تسيطر على هذا الكابوس صورتان. تتخذ الصورة الأولى أسماء: مدام سميث، جاكلين، روبرتا، مادلين، جوزفين، مرغريت، ماري-مادلين، أو بكل بساطة "هي" الأم، الزوجة ، الأخت، الحبيبة، الخادمة، الملكة، "التي تفعل كل شيء". إنها المرأة، الغواية، مصيدة الجحيم.‏
                أمّا وقد التفتت نحو الظلام وشدّها الليل فإنها ترشد شوبير: "إلى الأسفل، إلى أسفل. إلى أسفل[...] لاتنهض ياحبيبي[...] انزلْ، انزلق ياحبيبي [...] توغّلْ في الظلمات أكثر ياحبيبي [...] هيّا، انزلْ... إلى أسفل، إلى أسفل دائماً...". يصبح صوتها شجيّاً ونداؤها نداء الرغبة، فالغوص غواية وإغراء: "انزلْ... انزل... إذا كنت تريدني!" وعلى ترنيمة روبرتا يهيمن نداء الجنس "لدي ماء في ثغري. إنني أغوص[...] عندي بيت من فخّار وطراوة دائمة... هناك زبد وذبابات ضخمة وصراصير وبقّ وضفادع. تحت أغطية ندية نمارس الحب... نمتلئ بالسعادة! ألفّك بذراعيّ مثل أفعى، بساقيّ اللدنتين. تتوغل وتذوب" صور ساحرة كريهة لملذات جسدية هي المسكن وهي القبر.‏
                تمثّل المرأة أيضاً الوفاء للماضي. جوزفين وماري- مادلين تلغيان الحاضر، توقفان الزمن. جان مدفوع رغماً عنه: "أنت تأخذينني بيدي بينما أحلم بما لا أدري، تسألينني أن أحضر فأجيب نعم، وفكري شارد في مكان آخر. تحضرينني إلى هذا المكان وتجعلينني أستقرّ في هذا البيت، تجعليننا نستقرّ بينما خيالي شارد. فجأة، عندما أثوب إلى رشدي أدرك أنني هنا حيث قررّتِ أن تأتي بي، إلى نفس المكان الذي كانت كوابيسي قد حذّرتني من العودة إليه". المشاعر الفاترة، العادات، اللياقات، "ما يحدث وما لايحدث" ، الحب المُحاصر، تؤلف عالم المرأة الساكن.‏
                سلام وحلاوة. استسلام، قبول بجميع الحدود وخاصة الموت: "لا تحاول أن تطير عالياً جداً" كما قالت جوزفين. لقد سلبت مرغريت الأمل من الملك: "الحالم ينسحب من حلمه" وماري- مادلين تتحدث عن الخضوع "سريعاً أو بطيئاً، ما أهمية ذلك؟ ساعة أو عشر دقائق، عام أو أسبوعان، ماذا يهمّ؟ سنصل إلى النهاية على كل حال"‏
                المرأة ربّة منزل لا تكلّ. تكنس، تمسح الغبار وبيوت العنكبوب، ترتّب، تصفّ فناجين القهوة، تحب النظام. "النظام: إنه مرتبط بلوائح القانون الذي لا غنى عنه، القانون المفيد". وقد بيّنت مادلين لشوبير أن القانون يخلق المواطنين الصالحين والضمائر الصافية، على هذه الأسس يخدم القانون مخططات الأسرة روبرتا) والموت مرغريت) والشرطة: تساعد مادلين المفتش وعندما يضع الإستجواب شوبير في مواجهة الخطر تطمئن إلى أن ما تفعله قانوني، بل إنها تحلّ محلّ الشرطي.‏
                إلى جوار "الأم- الزوجة" الوجه الأسطوري الآخر في هذا العالم المخيف هو وجه "الأب". في الحقيقة لا يظهر الأب سوى مرة واحدة كشخص محدّد: ذلك في مسرحية الامتثال حيث يلعب دوراً ثانوياً جداً. لكنه يلوح تحت قناع الشرطي، الراهب- الجلاّد، الطبيب- عالم الفلك، المهندس، قائد الشرطة، المحلل النفساني، المدرّس، الحارس، المحقّق، وهذه كلها وجوه للسلطة الظالمة القمعية. التطابق بين هذه الشخصيات على المستوى النموذجي ملموس في مسرحيتي "الملك يموت" و "العطش والجوع" كما أن هذا التطابق واضح جليّ في تحوّلات "ضحايا الواجب".‏
                "الأب" حب كبير ممزَّق: "لقد جعلتني أتصالح مع الإنسانية، لقد ربطتني مع التاريخ برباط لا فكاك منه [...] لقد أحسنت صنعاً بإنكاري، من حقّك أن تحمرّ خجلاً مني، اشتمْ ذاكرتي، أنا لا أحقد عليك، ما عدتُ قادراً على الكراهية..." لكن الأب يمثّل قوة قمعية في أغلب الأحيان.‏
                الإستجواب قاسٍ في ضحايا الواجب ويصبح "قضية" مسرحية العطش والجوع. لقد نال الأخ تاراباس الإرتداد عن المبدأ ولم يكتف بمجرّد الاعتراف. المرأة تطالب بالاستسلام والمحقق يجبر الفرد على الإنكار والجحود.‏
                مع ذلك فإن هذا الأب - الشرطي القمعي ما هو سوى مؤتمن على سلطة تتجاوزه. يمكن أن يكون هو نفسه متقلّباً، متلعثماً المدّرس، الشرطي) تنبع ثقته من السلطة التي يتمتع بها. المدرّس يحتفل: إنه ينصرف إلى طقوس الدكتوراه العامة" ويشعر الشرطي أنه "جندي ملتزم بالطاعة" ويقرأ الأخ تاراباس عذاب المهرّجين ومصير جان على وجه الأخ الأكبر. للسلطة مقامها في "مديرية الأمن" المكان الحصين. السلطة كيان مستقلّ إنها تُسمّى: القانون، الواجب، الاجتماعي، المعرفة، الأخلاق، الإيديولوجيات...‏
                لابد من طرح السؤال حول طبيعة هذه القوة المطلقة التي يخضع لها الجميع ضحايا وجلاّدون. الدكتوراه العامة، الإمبراطور، قائد الشرطة، الأخ الرئيس... مَنْ هو "السيد" ؟ في المسرحية التي تحمل هذا العنوان السيد هو "الرجل دون رأس". هل ستكون السلطة النتنة السامّة هي الفراغ؟‏
                وهل سيكون الوعد الأوحد هو العدم؟ وهل الغياب هو الرسالة التي ينقلها المطلق؟ إن ما يطلبه الحارس في "الملك يموت" هو العدم الكبير.‏
                عالم رائع.‏
                ليست الوحشية الانطباع الوحيد عن الحياة. العالم رائع أيضاً. يقول الماشي في الهواء: "لايستطيع الأدب أن يعرض سوى صورة باهتة جداً، مُصغّرة جداً للوحشية الحقيقية وللواقع الرائع أيضاً". الحياة المشرقة، الغرابة التي تنبثق تحت خطواتنا، الدهشة من الوجود تظهر بجلاء في العالم الخيالي ليونسكو.‏
                صور خرافية.‏
                مقابل صعوبة الحياة المتمثّلة في الثقالة والسقوط ينتصب فرح الحياة الذي تترجمه الخفّة والطيران. يتمّ التعبير عن غبطة الشخصيات بحركة ارتقاء، وبحلم ايكار المتجدّد. بعد هبوط شوبير إلى المتاهة يصعد من جديد في نور أبهى من الشمس، يتسلّق الجبل، يغدو خفيفاً، ويشعر بالقدرة على الطيران؛ وإذا ما سقط وارتمى أخيراً في سلّة الأوراق فإن اميديه يطير على جناح حلمه: "في أقدامنا أجنحة.. أرجلنا أجنحة... أكتافنا أجنحة... لقد تمّ التخلّص من الثقل.." الماشي في الهواء يفسّر الأمر: "الطيران جاجة لايمكن للإنسان الإستغناء عنها" وهي عمل من أعمال الإيمان، والارتقاء الذاتي هو(10) تعبير عن الفرح. على شرفة معلّقة بين السماء والأرض كان جان على موعد مع السعادة.‏
                عالم النعمة هو مجال أتيري ، إنّه شرفات معلّقة، معابر، جسر فضي، إنه السماء على رحابتها. النور يغمر حدائق المدينة المشعّة، سُلّم جنات عدن، إنه ينير وقد تضاعف مرات كثيرة: هناك شمسان، ثلاث سماوات في مسرحية الملك يموت، أربع شموس في العطش والجوع. السماء زرقاء زرقة غير حقيقية، الهواء أكثر خفّة، أكثر نقاوة، يمكن شربه مثل مياه شفّافة: في الليل، يبدّل ضوء القمر شكل الحدائق. قال اميديه: "انظريْ يامادلين جميع أشجار الأكاسيا تلمع. أزهارها تتفجّر، إنها ترتفع نحو الأعلى. لقد تفتّح القمر وسط السماء وأصبح كوكباً حيّاً. طريق المجرّة من حليب فوّار. عسل، نجوم كثيرة، شعور طويلة، طرقات في السماء، سواقي من الفضة السائلة، أنهار، مستنقعات، بحيرات، محيطات وكلّها من النور الملموس..."‏
                في هذا العالم من الشفافية والنور لم تعد البيوت المصنوعة من زجاج سجوناً، الجدران لا مرئية، الطبيعة تزهر في ربيع دائم: هناك وديان، حدائق مسحورة، نوافير، شلالات مياه، مهاد من ورود وزنابق. هناك "كنائس هي حمائم"، وهناك أجراس، رقرقة ينابيع، أناشيد، حلقات رقص... تؤلف هذه الصور عالم اميديه أو بيرانجيه. إنها سراب ولا شك لكن المشاهد اليومية هي أيضاً مشاهد "مذهلة خلاّبة" لمن يعرف النظر، يكتشف اميديه، وقد اعتزل خمسة عشر عاماً، الساحة الصغيرة، ويسأل الملك جولييت: "هل لاحظتِ أنكِ كنت تستيقظين كل صباح؟ الاستيقاظ كل صباح... يولد المرء في العالم كل صباح".‏
                صورة حلم‏
                في هذا العالم من الاندهاش يشرق وجه الحبيبة: داني، ديزي، ماري. الأمل في الحب يحرّر من الخوف والألم، بل يشفي من الموت. يقول اميديه: "الحب ينظّم كل شيء، إنه يغيّر الحياة". لو عرف اميديه ومادلين كيف يتبادلان الحب لما بقي للجثة أية قيمة. لقد استعاد بيرانجيه الرغبة في الحياة" بفضل ديزي: "إنكِ تخلّصينني من عُقدي [...] معكِ لن يبقى لدي أية مخاوف" لو عرف الإنسان الحب لا ستطاع أن يموت دون أسى، أن يموت بسلام" كما يقول الماشي في الهواء. لقد شرحت ماري للملك: "الحب مجنون. إذا عرفت الحب المجنون، إذا أحببت باندفاع، إذا أحببت حباً مطلقاً فإن الموت يهرب. إذا أحببتني، إذا أحببت كل شيء فإن الخوف يتلاشى. الحب يحملك، وأنت تترك نفسك فيتركك الخوف. العالم وحدة تامة، وكل شيء يُبعث من جديد والفراغ يصبح امتلاء".‏
                لكن أمل ماري لاجدوى منه إذ أن الحب يسقط أمام صعوبات وقسوة الحياة. داني ضحية القاتل، ومادلين الثانية لم تعرف السعادة وديزي تتخلّى عن بيرانجيه لتلحق بالخراتيت. ماري تعاني من قهر مرغريت. لقد تساءل يونسكو عن أسباب هذا الفشل. إنه يتساءل في "مذكرات في فتات" إن لم يكن ما ندعوه حباً هو في أغلب الأحيان غيرة أو مجرّد ورغبة في امتلاك الآخر. كما لو كان شيئاً. الحب الحقيقي عطاء: "الحب. هذا يعني أن تترك نفسك تحب. هوالموافقة على أن تكون مُلكاً للآخر، هو إنكار الذات، هوقبول أن يتصرّف بك الآخر قليلاً أم كثيراً". يظن يونسكو، ربما لأن الغرب يجهل هذا التنازل، أن الحب المطلق، "الحب المجنون" لا وجود له.‏
                في النهاية، هل الحبيبة شيء آخر سوى الإنتظار والحلم؟ في العطش والجوع لم تأتِ إلى الموعد. وجودها الوحيد كان فقط استدعاء وتساؤلات جان: "هل تصعد الدرجات؟ هل أسمع وقع خطواتنا؟ أم أن ذلك ليس سوى خيال الخيال؟ أم أنه سوى ورقة؟ أم هي الريح؟ أم ارتعاشة الرغبة؟ أم أنه ليس سوى لهاث ألمي؟".‏
                وجـــــدان ممـــــزّق.‏
                بين هاتين التجربتين تنقسم الشخصية الأساسية وتنوس: جاك، شوبير، اميديه، بيرانجيه، جان... إنها تشعر أن الحياة رهيبة ورائعة في آن واحد.‏
                هذه الشخصية، وقد توزّعت بين الرغبات والآمال، تتمرّد على الرتابة والعار والخوف.. يجسّد جاك تمرّد المراهقة: "عندما ولدت، لم أكن بعيداً عن الرابعة عشرة من عمري..." والطفل الذي تحدثت عنه سمير اميس ثار في وجه الشرّ: "أنتم تقتلون العصافير! لماذا تقتلون العصافير...".‏
                لقد تذوّق شوبير لحظات من الغبطة أمّا اميديه وبيرانجيه فقد عرفا الحب المجنون، ومضى جان بحثاً عن المطلق، وانطلق الطفل "صافقاً خلفه الباب". طار اميديه وبيرانجيه وفرّ جان، على أطراف أصابعه" كما يحدث في لعبة الإستخفاء. لكن التمرّد الفردي لا ثمرة له. جان يعترف بخضوعه، وشوبير يسقط في السلّة، والماشي في الهواء ينزل مرعوباً، وبيرانجيه يستسلم للقاتل، ويستسلم الملك لمرغريت، وجان يخضع لسلطة الأخ تاراباس ولم يعدْ يفكر إلاّ بماري- مادلين ومارتا. اميديه هو الوحيد الذي مضى بسرعة ولم يرجع، لكنه لم يفعل ذلك قصداً: "ماكنت أريد أن أهرب من واجباتي... إنها الريح؛ أمّا أنا من أردت ذلك! لم يحدث ذلك قصداً!... لم أقبل ذلك بإرادة حرّة...".‏
                من هذا المنظور، يظهر أن الأمكنة والمناظر التي يُوحي بها، حتى الأشخاص أنفسهم على الأقلّ أولئك الذين يجسّدون التصورات الخادعة الملحاحة)، ليس لها وجود خاص بها. إنها تعكس أفكار وغرائز ووساوس الشخصية الرئيسية. هذه العلاقة مع العالم واضحة بشكل خاص في مسرحية "الملك يموت". ظهور الأشياء والأشخاص على المسرح ماهو سوى إدراك بيرانجيه لها، وتختفي الأشياء والكائنات حالما لا يعود الملك يراها أو يفكر بها، فهي ليست سوى انعكاس لعالم داخلي.‏
                الشخصية الرئيسية هي إذن المحرق الذي تلتقي فيه جميع الأشعة. تمرّدها، سعادتها، فشلها، إحساسها، تتوضّح في عالم الخيال الذي يحيط بها. العرض الذي تقدّمه كل مسرحية هو إذن تساؤل الكاتب عن نفسه، هو استكشاف لأغوار النفس. إنه تساؤل أيضاً عن الآخرين إذ أن يونسكو الممزّق بين ذكرى فردوس مفقود إلى الأبد وبين الأمل في أرض موعودة لم تطأها قدم قط، يدرك أنه يجد من جديد إحساساً عالمياً: "عندما أعبّر عن وساوسي الكبرى فإنّما أعبّر عن أعماق إنسانيتي، إنني ألتقي عفوياً بكل الناس فيما وراء جميع حواجز الطبقات الشعبية والنفسيات المختلفة.إنني أعبّر عن وحدتي وألتقي بجميع المتوحدين، فرحي في الحياة ودهشتي من الوجود مشتركان بين جميع الناس"(11) .‏
                الأسئلة التي طرحها الكاتب على نفسه، والأجوبة التي أعطاها لم تأخذ أبدا مشكل المفاهيم:"هذه الأسئلة وتلك الأجوبة هي أشخاص مسرحية"(12) . ليس المسرح برهنة وإثباتاً لكنه مسرحية، فما العمل كي تصبح البيّنات ذات مغزى؟.. يتساءل الكاتب عن الأشكال ويحدّد فنه المسرحي.‏
                2 - مسرح ضد المسرح:‏
                مجادلات:‏
                لكي يستكشف الواقع ويعبّر عن العالم الذي يعيش فيه، لم يجد يونسكو في مسرح مابعد الحرب أشكالاً ملائمة تفي بالمرام. لم يشعر بميل إلى المسرح: "كنتُ أقرأُ مؤلفات أدبية ودراسات. كنت أذهب إلى السينما برغبة وكنت أستمع من وقت لآخر للموسيقى. كنت أتردد على المعارض الفنية، لكنني لم أذهب إلى المسرح أبداً [....] لم أكن أشعر فيه بأية متعة، ولم أشارك فيه"(13) . تُعتبر مسرحية: "المغنية الصلعاء"، بطابعها الساخر إعلان حرب على مسرح الأربعينات.‏
                لقد ذهب يونسكو أبعد من ذلك: بدا له أن الكلاسيكيين ضعفاء سقماء: موليير لا يعنيه"، بحكاياته عن البخلاء والمنافقين والمخدوعين"، كورناي، بكل صراحة، يسئمني، ربما لا نحبه دون أن نؤمن به)، إلاّ من قبيل العادة [....] شيللر لا يطاق. مسرحيات ماريفو تافهة، كوميديات موسيه هزيلة، مسرحيات فيني غير صالحة للتمثيل. المآسي الدامية التي كتبها فيكتور هيجو تضحكنا حتى القهقهات. مهما قيل عن لابيش، هناك صعوبة في أن يضحك المرء من مسرحياته الكوميدية. دوماس الابن ذو نزعة عاطفية مضحكة في "غادة الكاميليا". والآخرون! أوسكار وايلد؟ سهل. ابسن؟ ثقيل الظل. سترندبرغ؟ أخرق[....] جيرودو ولا يصل إلى الجمهور وكذلك مسرح كوكتو يبدو لنا سطحياً مزيفاً [....] بيراندللو تمّ تجاوزه...."(14) يبقى إذن اسخيلوس وسوفوكليس وشكسبير وبعض المسرحيين الآخرين أصحاب التأثير على الجمهور. "عبر القرون هناك عشرون كاتباً مسرحياً... ثلاثون في أحسن تقدير". هذا يدعو للاطمئنان!.‏
                لم يتوقف يونسكو عند حدود هذا التجريح. إنه يبدي اعتراضاته ويبرر لعناته. يأخذ أولاً على المسرحيين نزوعهم البالي لتغليب وجهة النظر النفسية على ماعداها. لقد بُنيتْ الشخصيات الكلاسيكية على أسس ليس لها أية قيمة علمية: نظرية الأهواء، تضيف الرذائل والفضائل كما فعل موليير أو راسين تمَّ على أساس تبسيطي من وجهة التحليل النفسي. بيراندللو. الذي اعتمد على مفهوم الشخصية المفتتة، عبّر بطريقة غامضة ورديئة عمّا أوضحه العلم بشكل أفضل. لم يكن خطأ المسرح في محاولته الشرح والتوضيح، فليس في الإمكان إلاّ أن يكون مقتضباً في شروحاته إذ سرعان ما تسبقه تطوّرات علم النفس.‏
                يدين يونسكو من ناحية أخرى فكرة العقدة لأنّها ستخضع حتماً إلى قوالب جامدة، كما أن قصص الحب التي تحتوي معاكسة أو خيانة، والتي تنطوي على تعقيدات، وإشكالات، وعلى تبادل في المواقف والأدوار، وعلى مفاجآت مسرحية، إنما تؤلف على الدوام، المخطط ذاته، ولا يمكن لها أن تأخذ منحى آخر، ذلك أن جميع العناصر في إطار الحب، من أجل أن تبدو مقبولة يجب أن تخضع إلى نهج موصوف بالمعقولية والمنطق مطابقة للواقع. وعلى العموم فإن العقدة تعبّر دائماً عن حلّ اللغز ولذلك استنتج شوبير أن المسرح كان دائماً وأبداً مسرحاً بوليسياً منذ سوفوكليس حتى مسرح البولفار مروراً بأعاجيب القرون الوسطى وتراجيديات القرن السابع عشر، "وهي مسرح بوليسي راقٍ". لكن في هذا العام الذي تسيطر عليه قوى غير منطقية، تبدو العقدة مزّيفة وتفقد مغزاها كلّه.‏
                يهاجم يونسكو "الواقعية" بشكل عام لأنّها تفضي في تحليلها للشخصيات إلى دراسة نفسية سطحية وتحرم الإنسان من بعده الأساسي وهو العمق. العقدة الواقعية تبقى على سطح الأشياء ولا تصل أبداً إلى ديناميكية الواقع الحقيقية. إن التمثيل "الطبيعي" لدى الممثلين "غش فاضح"، إنّه يدمّر الوهم ويعيق الحلم الذي يمدّ الواقع إلى مافوق الواقع. الديكور الواقعي ليس، في أفضل الحالات، سوى رسم خدّاع يعطي وهم الحقيقة. ثم يضيف يونسكو أنّه إذا ما نظرّنا إلى الواقعية بهذا الشكل ستكون واقعية متخلّفة، تخنق الخيال وهو وحده القادر على سبر المجهول. إنها لا تكتشف شيئاً وتخسر الواقع في نهاية المطاف. الأشكال المستخدمة ماهي إلاّ اتفاق مع تقليد وتقيّد بأعراف لا يؤمن بها أحد. إنّها تنهض على قواعد وعلى نظام من القيم، وعلى رؤية عن العالم صارت قديمة بالية،...، يفقد بها المسرح كل أهميته وكل معناه.‏
                هذه الواقعية التحتية تدفع الأدب ليغدو مجرّد توضيح للفكر العلمي أو الفلسفي أو السياسي. ينطلق الكاتب من مذهب، والعمل الأدبي يؤكّد، يوضّح، ليشرح. إنه يستخدم الدراسات النظرية استخداماً مزدوجاً، وفي ذلك خرابه، "بدلاً من الذهاب لمشاهدة التجسيد المسرحي لهذه السياسة أو تلك أفضّلُ قراءة جريدتي اليومية أو الاستماع لأحاديث مرشحي الحزب الذي أنتمي إليه"(15) .‏
                "ليس المسرح لغة الأفكار، عندما يقبل أن يكون مطيّة للأيديولوجيات لابدَّ أن يبسّطها. إنه يسهّلها بشكل خطير، يجعلها أولية، يحطّ من قدرها. يصبح المسرح ساذجاً، لكن بالمعنى الرديء للسذاجة؛ وكل مسرح إيديولوجي مُعرّض لخطر التحوّل إلى مسرح للتوجيه(16) . ضمن هذه الحدود لا يكون الكاتب أكثر من مربٍّ، أو أسوأ من ذلك، يكون غوغائياً إذ يخدم الأيديولوجيات المنتصرة، وتحت شعارات الثورة، والتمرّد يخفي تبعية لا خطر منها."المسرح ذو الرسالة"، كما يخيّل ليونسكو، هو الشكل الأكثر تعبيراً عن هذا الموقف الديماغوجي. إنه يدينه في مناظراته مع كينث تينان، وفي مقالاته ضد اوزبورن وميللر وسارتر، وفي الاتهامات التي كرّرها مراراً لبريخت؛ وفي الأفكار والتهكّمات والكاريكاتور التي رأينّاها في مسرحيات: "ضحايا الواجب"، و"مسرحية الما"، "الماشي في الهواء"، "العطش والجوع".‏
                هذا الهجوم الذي شنّه يونسكو، العنيف غالباً، الظالم أحياناً، المتناقض قصداً، يوضّح مايرفضه في المسرح، ويحدد الأشكال التي يودّ تدميرها، إنه الوجه الآخر لفنّه المسرحي.‏
                فـــنّ ســــــحري:‏
                المقالات التي جُمعت في كتاب "ملاحظات وملاحظات مضادة"- وخصوصاً" "تجربة المسرح"، "مقال عن الطليعة"، "حديث عن مسرحي"، "المؤلف ومشاكله"- ومحاوراته مع كلود بونفوا، وكتاب "اكتشافات" والهجاء الذي ورد وفي مسرحية الما، والأفكار المتناثرة في مسرحياته، مثل أفكار شوبير ونيكولا دو، واميديه، وبيرانجيه؛ ذلك كلّه يوضّح تصّور يونسكو عن المسرح؛ ومن تطبيق تلك الأفكار يستمّد مبادئ "نموذجه الداخلي".‏
                إن عناوين المسرحيات هي تكثيف لها. عمل بها يونسكو لكنه أعاد تحديد مفاهيمه، "فمسرحه الطليعي" رجع إلى التراث، ,"مسرحه المضاد" أراد أن يكون كلاسيكياً، و"مسرحه في اللامعقول"، له بُعد انطولوجي.‏
                "المسرح فنّ من أقدم الفنون"(17) إنّه في الأصل مثل جميع الفنون الأخرى، احتفال ديني وممارسة للسحر والتعاويذ. تقديم الأساطير يلغي الزمن، والمشاركون في الاحتفال ينفذّون الفعل الافتتاحي لنشأة الكون والوجود، أمّا الأساطير الجديدة التي يفرزها كل عصر وكل ثقافة فإنّها تستعيد بنية النماذج الأولى الثابتة. المواقف المتعارضة التي تنشّط اللا وعي لدى الأفراد. والتحولات العميقة في النفس البشرية لا تظهر إلى النور إلاّ تحت صورة حكاية أسطورية. المسرح هو مكان "التجلّي". إنه ميتافيزيقي وانطولوجي. ليس له معنى إذا لم يؤثّر، إذا لم يُقلق. لكي يوقظ الجمهور الغارق في السلبية، يجب على المسرح المضاد أن يكون تحدّياً، وفضيحة ودماراً لمسرح التسليات؛ ومن هنا يستطيع العثور على رسالته الأوّلية.‏
                المسرح هو مجال الخيال والحلم. الذكاء أسير المفاهيم، إنه يدمج المنطق وتسلسل الأحداث. الفكر- الحلم، وحده قادر على إيجاد روابط حقيقية وديمومة حقيقية، وهو الوحيد القادر على مساءلة الواقع وكشف معانيه؛ هو وحده يستطيع أن يردّ إلى المسرح سلطاته المفقودة.‏
                يصوّر الكاتب المسرحي الوضع الإنساني في استمراريته:"كان الناس يموتون من الحب منذ مائة عام، وكانوا يموتون أيضاً خوفاً من الموت، كما يحدث اليوم"(18) . لكن كل عصر يعطي للمشاعر، للمخاوف، للهلوسات، أشكالاً نوعية محدّدة؛ والكاتب المسرحي "ملتزم" بالضرورة بعصره، وعليه أن يعبّر من خلاله عن حالة "خارجة عن الزمان" يتعذر وصفها. المسرح ليس من زمنه إلاّ بشرط أن يكون غير مرتبط بالزمن الحاضر. وإذا ما أراد بكل بساطة، "أن يكون من زمنه فمعنى ذلك أنه قد تمّ تجاوزه"(19) .‏
                ليس المسرح، لا راهناً، ولا معزولاً عن الزمان، إنما هو في التاريخ، ويتجاوز التاريخ. "في نهاية المطاف، أنا لا أخشى أبداً من التأكيد أن الفن الحقيقي الذي يسمونه فن الطليعة، أو الفن الثوري هو الفن الذي يقدّم نفسه على أنّه فن غير مرتبط بالحاضر من خلال تصديه الشجاع لعصره. أمّا وقد كشف هذا الفن عن عدم ارتباطه بالحاضر فإنّه يعود إلى ذلك الرصيد العالمي المشترك الذي تحدّثنا عنه، وباكتسابه الصبغة العالمية يمكن اعتباره كلاسيكياً، ومن المعروف أن الصفة الكلاسيكية يجب أن تكون خارج حدود الجديد، ومن خلال الجديد الذي يجب أن تكون مشبعة به"(20) .‏
                يستعير العمل الأدبي مواده من الواقع لكنه يستمّد قيمته ومغزاه من ترابطها والتحامها. "العمل الأدبي ذو تنظيم عضوي، أقصد أنه جهاز عضوي، بحسب هذه النظرية، يكون العمل حقيقياً، ويمتزج الفن بالحقيقة"، كما كتب يونسكو في مقالة "المؤلف ومشاكله". في المسرح، هذه البنية هي التتابع الديناميكي "للصور المسرحية". بنية لا تعسّف فيها لأنّها تخضع إلى قوانين الحياة نفسها. "يجد الكاتب للعمل المسرحي في ذاته نفسها الصور والرسوم الخيالية الدائمة العميقة(21) للعمل المسرحي.‏
                إن منحنى المسرحية البسيط والحاسم يتشكّل عند يونسكو من التجربة المزدوجة للغبطة ولصعوبة الوجود للارتقاء والسقوط. يتبع تسلسل الصور المسيرة المأساوية، أو يتبع الحركة المضحكة لميكانيكية غير منتظمة. إن حدّة الأفعال تعطي للتمثيلية توتراً لا يُحتمل أحياناً. وإنّ الاستخدام العلمي لهذه الوسائل يحقق للمسرح بنيته الراسخة وسحره.‏
                بما أن المسرح تعبير عن الحياة، يجب عليه، كما يرى يونسكو، أن يمزج مختلف الألوان: "لم أفهم أبداً الفرق الذي يورده الناس بين المأساوي والمضحك"(22) .‏
                لكن، رصف الألوان إلى جانب بعضها البعض، لا يكفي في نظره. لا يتمّ التعبير عن العالم، بربط العقدة المؤثرة مع المشاهد الهزلية، الأبطال النبلاء مع الأقنعة الغريبة، من دون خلطها، هذا ما فعلته الدراما الرومانتيكية، مثلاً. الواقع، هو وحدة كاملة، فمسرحية الفارسْ، إذا ماوصلتْ إلى ذروتها تكشف عن المأساة، والحدث اليومي مستهجن، أو خيالي، والطابع الغنائي مخيف. إن عالم القسوة يحتفظ ببعض الزوايا الرقيقة اللطيفة، "والهزلي، باعتباره حدس اللامعقول، يبدو لي باعثاً على اليأس أكثر من "المأساوي". المضحك لا يقدم حلاً. أقول: "مثيراً للقنوط" لكنه، في الحقيقة، أبعد أو أقرب من اليأس والأمل"(23) .‏
                3 - نقاط التلاقي:‏
                يحمل "المسرح المضاد" لدى يونسكو بصمات التصورات السريالية ونظريات انتونان ارتو، كما يؤكد، هو نفسه، هذه الرابطة، ويبرز أهمية حركة جدّدت صورة العالم واشكال التعبير:"شهدت بداية هذا القرن، حوالي عام 1920، على وجه التحديد، وحركة طليعية عالمية عريضة في جميع مجالات الفكر والنشاط الإنساني وقد حدث انقلاب جذري في عاداتنا الفكرية"(24) . لقد كتب عن بروتون بشكل خاص، وقال: "لقد أعاد اختراع الأدب".‏
                الروّاد الثلاثة.‏
                تمّ التعبير عن الثورة الفكرية في المسرح بمحاولات أوردها يونسكو في محاولاته مع كلود بونفوا:"... فيليب سوبو، ربما دينو، أو تزارا، أو بيكاسو الرغبة الممسوكة من الذيل)، أو فيتراك.. لكن هناك جارّي بشكل خاص".‏
                لقد حطّم جارّي، عدو التقاليد، أصنام عالم في مرحلة التفسّخ، آلهة مجتمع جاهز مسرور، لقد أنكر حقيقة الإنسان عندما خلق اوبو؛ صورة ذلك المجتمع المشنّجة، تلك الشخصية الكريهة القاسية التي فقدت إنسانيتها خلال محاولاتها الشاقّة لأن تكون إنسانية، نموذج الشراهة المادية والمعنوية"، ربما تأثرّت به وأنا أجعل من أبطالي مسوخاً أو أجعل منها كركدنات"، كما يقول يونسكو(25) .‏
                طرح جارّي من جديد مسألة التقاليد المسرحية من خلال إنكاره للزمان والمكان، ومن خلال آلية سير الأحداث في مسرحية بلا عقدة، والجرأة في استخدام لغة وعرة مفككة، والحماس والعنف، الذي نعثر عليهما عند دُمى مسرح العرائس، ولا واقعية الميلودراما الشعرية والمبتذلة في آن واحد. كتب يونسكو(26) :"المقصود إخفاء بعض الأشياء البشعة علناً ولا يمكن فهمها، تلك الأشياء التي تزحم المنصة دون فائدة، وفي الدرجة الأولى الديكور والممثلين". لقد رأى بروتون في مسرحية أوبو ملك "المسرحية الكبرى في الأزمنة الحديثة فيها نبوءة ودعوة إلى الانتقام".‏
                بأسلوب مختلف تماماً تجدد "الدراما السريالية"، أثداء تريز ياس" لابوللينير. فضيحة "اوبو ملكاً" وتطرح أيضاً مسألة الأشكال الدرامية(27) .يَسود في هذه المسرحية دون تطرّف، لكن الحركة، ومعالجة اللغة، واستخدام الإيماء وأساليب السيرك(28) ترسم مسبقاً صورة المسرح المضاد في الخمسينات. تكتسب مقدمة المسرحية، مع فاصل زمني يبلغ أربعين عاماً قيمة بيان عام:‏
                "من العدل أن الكاتب المسرحي [....]‏
                [....] لن يهتمّ بعد الآن بالزمان‏
                ولا بالمكان‏
                عالمه هو مسرحيته‏
                وفي داخلها الله الخالق‏
                الذي يتصرّف على هواه‏
                الأصوات الحركات الخطوات الأجسام الألوان‏
                ليس هدفها الوحيد‏
                تصوير ماندعوه شريحة من الحياة‏
                إنما العمل على إظهار الحياة نفسها في حقيقتها الشاملة".‏
                "أخيراً فإن مؤلفات فيتراك محاولة للتجديد تثير الاهتمام. في مسرحيته "أسرار الحب"، 1927)، ينقل إلى المسرح بدعة الكتابة الآلية، وفي مسرحية "فيكتور" أو الأطفال يستلمون السلطة"، يسخر من القيم والأخلاق البرجوازية، لقد قابل الجمهور بفتور عنف هذه المسرحية الساخرة(29) .‏
                لكن نقد فتراك الساخر توقف فجأة بلا نتيجة لأنّه هاجم الأفكار ولم يهاجم طرائق التفكير، لم يطرح على بساط البحث مسألة بنية العقل ولا مسألة الأشكال الدرامية.‏
                منظّـــــــر‏
                في الحقيقة يرى يونسكو في جارّي، ابو للينير، فيتراك شخصيات يلتقي بها. نتعرّف في فنّه المسرحي على تأثير انتونات ارتو بشكل خاص. ارتو المطبوع بأفكار جارّي، المعروف بمشاركته في السريالية الأولى، بتجربته كممثل، كمخرج، كمدير مسرح، كمؤلف. ارتوهو، قبل كل شيء، منظّر جريء(30) . في عام 1931، كشفت له فرقة مسرحية من بالي باندونّسيا، قدّمت عروضها في باريس، عن جوهر المسرح ومهمته الحقيقية. تحدّد مجموعة من المقالات والمنشورات كتبت مابين 1930-1936)، وجمعت في كتاب "المسرح وبديله"(31) ، تصوّره عن "مسرح القسوة"، وكلمة القسوة مأخوذة هنا "بالمعنى الغنوصي"(32) ، لزوبعة الحياة التي تلتهم الظلمات".‏
                وجد آرتو القيمة الميتافيزيكية للمسرح في ذلك النموذج البالي نسبة إلى جزيرة بالي). التمثيلية احتفال سرّي يفرض على المشاركين فيه الاشتراك في وجود فوق إنساني أو لا إنساني: "تحدث لعبة خطيرة في كل عرض [....] إننا نمثّل حياتنا في العرض الذي تجري أحداثه على المنصّة [....] الديناميكية الداخلية تهزّ المتفرج وتبدّله؛ كما أن هذه الديناميكية ستكون على علاقة مباشرة مع مخاوف واهتمام حياته كلها".‏
                لإيجاد هذه القوة السحرية لابدّ من الابتعاد عن التقاليد الغربية لمسرح التسلية واستلهام أشكال مستمدّة من المسرح الشرقي؛ لابدّ من رفض العقدة واستبدالها بحركة يتمّ الصعود والهبوط فيها على إيقاع نبض الحياة؛ لابدّ من رفض الأفكار الواضحة التي هي "أفكار ميتة". المسرح هو مكان الأساطير. يجب أن ننتهي من علم النفس "الذي يحاول جاهداً إرجاع المعلوم إلى مجهول"، "بتعابير أخرى، يجب على المسرح أن يتابع بشتى الوسائل إعادة طرح، ليس فقط كل مظاهر العالم الموضوعي والوصفي الخارجي، بل مظاهر العالم الداخلي أيضاً، أي الإنسان من منطلق ميتافيزيكي"(33) .‏
                يجب أن لا تبقى اللغة وسيلة اتصالية بل أداة لاستكشاف مافوق الواقع. يجب على الحوار إذن أن يفسح المكان لكلام مسرحي يؤثر على المشاهدين بماديته. بتطابقه مع الأشياء، بقيمته السحرية: "إن تحقيق ميتافيزيكية اللغة الواضحة يعني تسخير اللغة للتعبير عمّا تعجز عن التعبير عنه عادة؛ هذا يعني استخدامها بطريقة جديدة استثنائية غير مألوفة؛ هذا يعني أن تُعاد لها إمكاناتها في الزلزلة المادية، ذلك يعني تقسيمها وإطلاقها بنشاط في المكان، هذا يعني أن نأخذ النبرات بطريقة واضحة مطلقة وأن تُردّ لها قدرتها السابقة على التمزيق وإظهار شيء ما بشكل حقيقي؛هذا يعني أن نواجه اللغة وينابيعها النفعية الرخيصة، الغذائية، إذا صحّ القول، أن نواجه جذورها كحيوان مُطارد، هذا يعني أخيراً أن تأخذ اللغة شكلها التعويذي السحري"(34) .‏
                لكن الكلام ليس المسرح كلّه.تنضوي المسرحية تحت عناوين الكلمات، وأداء الممثلين والديكور والإضاءة والموسيقى. هنا أيضاً يرفض آرتو التقاليد الغربية ويعتقد أن الإخراج ليس مجرّد صدى للنص؛ إنّه لغة لها شاعريتها ومغزاها الخاصان: "المنصة مكان مادي محدّد يطالب أن يُملأ وأن يتحدث لغته الواضحة"(35) .‏
                الجسد البشري والأشياء، وقد صارت دلائل وسمات أو كتابة هيروغليفية، تؤلف رموزاً يمكن قراءتها مباشرة، والتمثيلية تخاطب الحواس مثلما تخاطب العقل والخيال: "عملياً، نريد أن نبعث فكرة من المشهد الكلي حيث يعرف المسرح كيف يقتبس من السينما والميوزيك هول والسيرك ومن الحياة أيضاً.ما كان يخصّه في جميع الأزمان، فهذا الفصل بين المسرح التحليلي والعالم التشكيلي، يبدو لنا بمثابة حماقة. لا يتمّ الفصل بين الروح والجسد، ولا بين الحواس والذكاء خصوصاً في المجال الذي تحتاج فيه الأعضاء التي تتعرّض لتعب متجدد باستمرار إلى هزّات مفاجئة لإنعاش إدراكنا"(36) .‏
                يطرح أرتو أيضاً مسألة هندسة المسرح:"إننا نلغي المنصة والصالة ونضع بدلاً عنهما مكاناً وحيداً، بلا حاجز من أي نوع كان. سنحصل على مسرح الحدث؛ وستنشأ علاقة مباشرة بين المشاهد والمسرحية، بين الممثل والمشاهد، لأن المشاهد، وقد استقرّ وسط الحدث، يصبح محاطاً ومتأثراً به"(37) .‏
                هكذا يشعر المشاهد أن الأمر يخصّه "فيشارك" فيه. للعرض قيمة التعويذة. أمّا التمثيل التعبيري -"الممثل رياضي يعبّر عن المشاعر"- فإنّه يقود الانفعال إلى ذروته. لكي يؤثر المسرح يجب أن يكون عنيفاً "إذا لم يكن هناك بعض القسوة في أساس كل مسرحية لا يكون المسرح ممكناً، ففي حالة الانحطاط التي نحن فيها، يتّم إدخال الميتافيزياء إلى العقل عن طريق الجلد"(38) .‏
                لهذا السبب يقارن آرتو بين "مسرح العنف" والطاعون. المسرح مدّمر مثل الطاعون؛ ومثل الطاعون أيضاً يوقظ قوى اللاوعي: "إذا كان المسرح كالطاعون فليس ذلك فقط لأنّه يؤثر على جماعات كبيرة ويحوّلها إلى اتجاه حقيقي. هناك في المسرح، كما في الطاعون، شيء ما منتصر ومنتقم. هذا الحريق العفوي الذي يشعله الطاعون حيثما مرّ، يُشعرَ المرءَ جيداً أنّه ليس إلاّ دماراً هائلاً [....] يأخذ الطاعون الصور الغائمة والفوضى الكامنة ثم يدفعهما فجأة إلى أكثر التصرّفات تطرّفاً: المسرح أيضاً يأخذ تصرّفات ويدفعها حتى النهاية. إنه مثل الطاعون يعيد خلق الصلة بين ماهو موجود وبين مالا وجود له، بين قوة الممكن وبين ماهو كائن فعلاً في الطبيعة بشكلها المادي [....] المسرحية الحقيقية تقلق راحة الحواس، تحرر اللاوعي المكبوت، وتحرّض على ثورة افتراضية، لا يمكن أن تكتسب كامل قيمتها إلاّ ببقائها إمكاناً، وتفرض على الجماعات المحتشدة موقفاً بطولياً صعباً"(39) .‏
                يستبعد آرتو المسرح المعتدل والتفريق بين الأنواع:"يمرّ المسرح المعاصر في مرحلة تراجع لأنّه فَقَدّ الإحساس بالجديّة من ناحية والإحساس بالهزل من ناحية أخرى؛ ولأنّه قطع علاقاته مع الخطورة، مع الفاعلية المباشرة المؤذية، مع "الخطر" بشكل عام.‏
                "لأنّه أضاع حس النكتة الصحيحة والقدرة على تفكيك الضحك المادي والفوضوي.‏
                "لأنّه قطع صلاته مع روح الفوضى العميقة التي هي أساس كل شعر"(40) .‏
                قوّة المسرح وأهميته تجعلانه "تعويذة تطرد شياطيننا". يفجّر المسرح بنية الكون ويطرح مسألة الوجود من جديد:"الشعر في المسرح) فوضوي بمقدار مايطرح مسألة علاقات الأشياء مع بعضها، وعلاقات الأشكال مع مدلولاتها.. إنه فوضوي أيضاً بمقدار مايكون ظهوره نتيجة اضطراب يقرّبنا من العشوائية"(41) .‏
                "الفكاهة والشعر والخيال لا تقول شيئاً إذا كانت من خلال عملية تدمير فوضوية، منتجة لمجموعة ضخمة من الأشكال ستكون المشهد المسرحي بتمامه، لم تتوصل إلى طرح موضوع الإنسان حيث عضويته، أفكاره عن الواقع، ومكانته الشعرية في الواقع"(42) .‏
                بالنسبة لصاحب نظرية "مسرح العنف"، يتعلق الأمر، إجمالاً بتغيير الحياة".‏
                (1) أُذيعت مقاطع من "الوباء" من إذاعة فرانس كولتور في 21 شباط 1970.‏
                (2) المتعالي trsanscendantal عند كانط، صفة للمعاني أو المبادئ التي يعتبرها خاصة بالفكر وحده والتي يدعوها باطنية أو ذاتية طبقت في حدود التجربة "المنهل)‏
                (3) أنا ومسرحياتي 1954 في ملاحظات وملاحظات مضادة).‏
                (4) انظر يوميات في فتات ص110-127-196-212-240.‏
                (5) ربيع 1939ص177.‏
                (6) العطش والجوع.‏
                (7) اميديه.‏
                (8) ضحايا الواجب.‏
                (9) الماشي في الهواء.‏
                (10) levitation : رفع الجسم بقوّة الإرادة وحدها.‏
                (11) مقال عن الطليعة.‏
                (12) المؤلف ومشاكله.‏
                (13) تجربة المسرح.‏
                (14) تجربة المسرح.‏
                (15) تجربة المسرح.‏
                (16) تجربة المسرح.‏
                (17) تجربة المسرح.‏
                (18) "محاورات" في كتاب "ملاحظات وملاحظات مضادة".‏
                (19) مقال عن الطليعة.‏
                (20) مقال عن الطليعة.‏
                (21) إذا كان يونسكو يرى في بيراندللو كاتباً تمّ تجاوزه بسبب معالجته النفسية فإنّه من ناحية أخرى معجب بـ "ميكانيكيته المسرحية". الغزيرة المسرحية الصافية هي التي أبقت بيراندللو حيّاً حتى اليوم. تجربة المسرح)."بيراندللو، أستاذنا جميعاً"، كما قال.‏
                (22) تجربة المسرح.‏
                (23) تجربة المسرح.‏
                (24) مقال عن الطليعة.‏
                (25) محاورات مع كلود بونفوا، ص 190.‏
                (26) من لا جدوى المسرح إلى المسرح، ميركور دوفرانس، أيلول، 1896. عُرضت مسرحية أوبو ملكاً عام 1896.‏
                (27) عُرضت المسرحية على مسرح موبيل عام 1917، وفي عام 1918 قدّم أبو للينير مسرحية "لون الزمن".‏
                (28) إضافة إلى ذلك يبدو أن اهتمام زوج تريزياس لتجديد السكان، إذ أنجب بإرادة حرّة تماماً 49049 ولداً، يعلن عن فكرة مسرحية "المستقبل في البيض".‏
                (29) فيكتور واستير طفلان عملاقان عمرهما تسع سنوات وست سنوات، يكتشفان في محيطهما سطحية وحقارة البالغين، العالم، بخموله وغبائه، ليس مضحكاً فقط بل هو العار الذي يموت بسببه فيكتور إذ صعقته إسهالات حادة.‏
                (30) أسس ارتو، بمساعدة فيتراك، مسرح الفرد جارّي عام 1926، وحاول أن يفرض مؤلفين لم يتذوقهم الجمهور مثل كلوديل وسترندبرغ. كما كتب عام 1935، مسرحية "آل سنسي"، انطلاقاً من تراجيديا شيللي وقصص ستندال.‏
                (31) عناوين المقالات المجموعة في كتاب "المسرح وبديله"تعطي فكرة عن اهتمامات آرتو والطرقات التي شقّها أمام مسرح جديد: المسرح والثقافة- المسرح والطاعون- الإخراج والميتافيزيقيا- المسرح الكيميائي- عن مسرح بالي- مسرح شرقي ومسرح غربي- ولّى زمن الروائع- مسرح القسوة- البيان الأول لمسرح القسوة-رسائل حول القسوة- رسائل حول اللغة- البيان الثاني لمسرح القسوة- رياضة عاطفية. المسرح وبديله. الجزء الرابع من مؤلفات آرتو الكاملة، طُبع مستقلاً في سلسلة "أفكار". المجلة الفرنسية الجديدة.‏
                (32) الغنوصية: Gnosticisme:نزعة فلسفية دينية تهدف إلى إدراك كنه الأسرار الريانية المنهل).‏
                (33) مسرح القسوة.‏
                (34) الإخراج والميتافيزيكا.‏
                (35) الإخراج والميتافيزيكا.‏
                (36) مسرح القسوة.‏
                (37) مسرح القسوة.‏
                (38) مسرح القسوة.‏
                (39) المسرح والطاعون.‏
                (40) الإخراج والميتافيزيقا.‏
                (41) المصدر السابق.‏
                (42) مسرح القسوة.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو


                  جمهــــــــــور:
                  مابين نظريات ارتو وتجربة المسرح الجديد هناك فاصل من عشرين عاماً. لاشك أن صعود الدكتاتوريات في أوروبا، ثم الحرب، قد أديّا إلى توقف بل ركود في تطوّر الأشكال الأدبية والفنية. لقد أحجم الكتّاب والفنانون عن أي استكشاف جديد وعادوا إلى القوالب القديمة لترويج الأيديولوجيات الجديدة وخدمة النشاط السياسي والمعركة العسكرية.لكن منذ العشرينات أوجد الشعر أشكالاً جديدة في التعبير نجدها عند ايلوار، اراغون، بيريه، سوبو، دينو، بروتون، تزارا.... أما بروست، جيد، مالرو، سيلين، ليريس..... فقد غيّروا في بناء القصة، وفي مجال الرسم، من براك إلى بيكاسو ومن كلي إلى موندريان، ومن التكعيبية إلى الفن التجريدي، أبدع الرسامون بجرأة وبدّلوا صورة العالم، أمّا "المسرح الجديد"، فعلى العكس؛ لم يبدأ حتى الخمسينات.‏
                  يرجع هذا التأخير إلى طريقة استقبال الأعمال الأدبية. الشعر يمكن تذوّقه في جو العزلة والوحدة. إنّه تجربة فردية وتكفي غرفة ضيقة لإجراء أبحاث جديدة. كما أن الروائي يتوجه بكتاباته إلى قرّاء منفردين. إضافة إلى ذلك فإن طبع ديوان شعر صغير أو رواية يتطلب نفقات محدودة. على عكس ذلك لا يعيش المسرح دون جمهور والكاتب المسرحي بحاجة للحوار مع المشاهدين. من ناحية أخرى فإن تقديم المسرحية -الصالة؛ الديكورات، الممثلين- يقتضي توظيف رأسمال يحكم على المسرحيات بالنجاح أو الفشل.‏
                  لهذا السبب يتطلب المسرح، في الحقيقة، تبديلاً في العقلية وثورة كاملة. الطليعة نفسها مضطرة للجوء إلى حافز يؤدي إلى انتشار وعي جماعي. يسمح بظهور تحوّلات تحتية في عز النهار.‏
                  التحوّلات الجذرية في أشكال التفكير وفي كيفية رؤية العالم التي حدثت في مطلع هذا القرن تمّ التعبير عنها بواسطة فكر علمي في الرياضيات والفيزياء وعلم النفس وترجمت تلك التحوّلات بدراسات جديدة في الفن والأدب. لقد تابع المسرح هذه الثورة وأكملها في العمق.‏
                  حوالي عام 1950، اتسعت البحوث الشكلية عن الرواية الجديدة مع صمويل بيكيت موللي 1951)، ناتالي ساروت صورة رجل مجهول 1948. مرتور و1953، القبة الفلكية الاصطناعية 1959)، آلان روب- غرييه المماحي 1953، المتلصص 1955، في المتاهة 1959)، ميشيل بوتور ممر ميلان 1954، استخدام الزمن 1956، التعديل 1957).‏
                  في خطّ موازٍ للروائيين حاول بعض الكتّاب المسرحيين الجدد أو الذين يجهلهم الجمهور إثبات وجودهم. جاك اوديبرتي الشرينتشر 1947)، جان جينيه الخادمات 1947. رقابة مشدّدة 1949)ارتور ادموف الحركة الكبرى والحركة الصغرى 1950)، جورج شحادة السيد بوبل 1951)، جان فوتييه الكابتن بادا 1952)، صمويل بيكيت في انتظار جودو 1953) وأخيراً عُرضت مسرحية برتولد بريخت الاستثناء والقاعدة 1950)، في فرنسا.‏
                  المسافة بعيدة حقاً بين الخيال الشعري عند شحاده واوديبرتي والعنف عند فوتييه، المسافة كبيرة بين المسرح الاحتفالي عند جينيه وتبنّي المواقف السياسية عند بريخت أوآداموف. رغم ذلك؛بحث هؤلاء الكتّاب كلهم عن تجديد عميق للمسرح وغيّروا العادات الفكرية عند الجمهور.‏

                  تنتمي محاولات يونسكو الفاشلة إلى هذه الفترة من الصراع بين كتّاب "المسرح الجديد" والجمهور؛ كما أن نجاحاته تتزامن مع تكريس الأشكال المسرحية الجديدة: عام 1957، عُرضت مسرحية ادموف باولو باولي) و"نهاية المباراة" لبيكيت، وفي عام 1959، عُرضت مسرحية جينيه الزنوج) وفي عام 1960، في الفترة التي عُرضت فيها مسرحية الكركدن كانت تُعرض‏
                  العصابة الأخيرة)، لبيكيت، الشرفة)، لجيتيه، ارتورو اوي) لبريخت.‏
                  لم يكن مسرح يونسكو منعزلاً إذن؛ إنه يشارك في ثورة الأشكال الأدبية وفي العقليات.‏
                  الحوار والحركة على المسرح. هما طريقته الخاصة في استكشاف الواقع، واكتشاف الذات، وفي الفهم وفهم الذات [....]، عالم كامل يُبنى، أو ينكشف بمقدار.‏
                  بمقدار ما يكتب عنه المؤلف ويفكر فيه. "يوميات في فتات".‏

                  4 - التقنية والتطبيق في المسرح:‏

                  أرست "الخطوط العريضة للعمل المسرحي" التي اكتشفها يونسكو الأساس لفن مسرحي يزداد وعياً ووضوحاً شيئاً فشيئاً، ولكي يحقق "مسرح العنف" ويحظى بمشاركة المشاهدين، ويعترض من جديد على سحر الفن استخدم يونسكو جميع إمكانات لغتي المسرح: النص والإخراج.‏
                  الحركة الدرامية:‏
                  الدراما حدث، لكن يونسكو أراد أن يخلق حركة دون اللجوء إلى العقدة. لقد رفض التغيرات المفاجئة المألوفة في المسرحية الهزلية الخفيفة، أو الميلودراما، كما رفض الأحداث المباغتة، العودة غير المتوقعة للزوج المخدوع، والخيانات والانفصالات والاعترافات و"صليب أمي". المسرحيات المعقدّة ماهي سوى تراكيب، لمواقف جامدة علىدرجات متفاوتة من الحذق والبراعة. إنها مسرحيات مبتذلة تتحدّث عن الجائز والممكن، لكن ليس لها أية ضرورة وجودية.‏
                  لكي يعبّر يونسكو عن رفضه، أحال العقدة إلى سخرية: في المغنية الصلعاء، تكلّم السيد والسيدة مارتان كبّة "عن "علامات عرفان الجميل"، وإن حكاية جاك وروبرتا هي مسرحية هزلية، أو هي الوجه الآخر لقصة "عشاق فيرونا" وغالباً ما نصادف التهكم اللاذع من العقدة البوليسية: الخادمة في مسرحية المغنية الصلعاء هي في الحقيقة شرلوك هولمز، كما أن مسرحيات ضحايا الواجب واميديه، وقاتل بلا أجر تبدأ بلغز أو تحقيق بوليسي؛ ويعتقد شوبير أن "كل المسرحيات منذ الإغريق حتى أيامنا لم تكن أبداً سوى مسرحيات بوليسية". لكي ينقذ يونسكو المتفرجَ من مصيدة العقدة فإنّه يحطّم وهم التخيّل: تقاطع جاكلين كلام والدتها المؤثر ودموعها المنسكبة:"لا تفقدي وعيك في الحال!، انتظري نهاية المشهد"، وتقول مرغريت للملك:"ستموت في نهاية المشهد"، كما أن بيرانجيه في مسرحية الماشي في الهواء يخبرنا أن المحاسبة الشاملة في تعدد مجالاتها هي مسألة تخصّ مسؤول الاكسسوار أو مدير الآلات. لكي يؤكد يونسكو هذه المسافات الفاصلة بين التمثيل والحقيقة فإنّه يطبّق مبدأ "المسرح داخل المسرح": مادلين والشرطي يجلسان في مقعدين مريحين ليراقبا شوبير؛ كما أن تريب وبريختول مهرّجان يؤديان مشهداً أمام جان وينقسم الرهبان إلى جمهورين متنافسين. تدمّر هذه الأساليب فكرة مشابهة الواقع وتفرض على المتفرجين مشاركة من نوع آخر. أهمية المسرحية ليست أبداً في رسوخ شكل الحكاية.‏
                  تحت ستار التطورات الساخرة الطارئة على عقدة رخوة مصطنعة تطور الحركة الدرامية صراعاً انطولوجياً حدّد يونسكو ملامحه العامة: "فكرة بسيطة وتطور بسيط أيضاً ثم السقوط"(1) . في البدء هناك "صورة" تجسّد موقفاً: كراسي تتكدّس في غرفة، جثة تكبر، قاتل مجهول، ملك يموت... هذا الموقف الذي يصعب الدفاع عنه ولا مفرّ منه مع ذلك، يترجم قلق الحياة والإنزعاج البدئي. إنه يعبّر عن مخاوف وأوهام بصرية ويعطي للمسرحية مغزاها. "فيما يخص مسرحية الكراسي. كنت أرى بكل بساطة صورة غرفة فارغة تُملأ بالكراسي التي لا يجلس عليها أحد... والغاية الوحيدة من القصة هي أن تدعم الصورة الأولية". في مسرحية اميديه، الأمر الأساسي بالنسبة لي، الأمر الذي يشرح المسرحية، هو الجثة وكل ماتبقّى حكاية تدور حولها...."(2) .‏

                  هذه "الصورة" المستمدة من الحلم في أغلب الأحيان تحمل في ذاتها مبدأ تطورها، والصراع الذي تنطوي عليه يخلق الدراما. الحركة هي انتشار قوى تتجابه. التطور حركة آلية حتمية تتصاعد باستمرار: تصل الكراسي إلى المنصّة بسرعة متزايدة، شوبير يغوص في ذاته، والجثة لا تتوقف عن التضخّم، بيرانجيه يرفض الاستسلام وجان يحمل الأباريق وطناجر الحساء"....‏
                  ليس هناك من حلّ للعقدة. الموقف لامخرج له لأنّ الصراعات الوجودية لا حلّ لها؛ والغرائز المتعارضة المتصادمة هي نسيج الحياة: الرغبة والموت، غريزة التجمّع وغريزة التوحّد، الحب والموت، البراءة والذنب... "سقوط"، الحركة الدرامية هو في الحقيقة إسقاط "خارج الزمان"، هو نقل موقف فريد إلى صورة نموذجية. الديمومة تتجمّد، والتمثيل يتحوّل إلى تكرار في ضحايا الواجب، المستقبل في البيض، الكركدن، العطش والجوع... لكي يبيّن يونسكو مدلول عودة مواقف حقيقية في عالم عبثي يتبنّى التركيب الدائري: في نهاية المغنية الصلعاء يستعيد آل مارتان دور آل سميث، وتقرع طالبة جديدة جرس باب بيت المدرّس...‏
                  هذه البنية الديناميكية تطرح من جديد مسألة الزمانية والسببية(3) . في المسرح الواقعي والبوليسي الذي يرجع إليه شوبير التراث كله. تنبع الحركة المسرحية من تتالي الأحداث حسب ترتيبها الزمني، وفي هذا التتالي تنصبّ التغيرات المفاجئة على العقدة وينحصر التفسير في الاستدلال الاستنتاجي. على عكس ذلك، فإن مدلول "الصورة المسرحية"، عند يونسكو يفترض تنظيماً مكانياً للواقع. لم يعد هناك من "قبل"، أو "بعد" بل حاضر يتضخّم بلا حدود. كل شيء يُعرض على أنّه واقع راهن، اميديه ومادلين هما في ذات الوقت زوجان عجوزان وزوجان شابان، شوبير طفل وبالغ... إضافة إلى ذلك فالمنطق، العقلاني أو الانفعالي، لم يعد وسيلة للتفسير: الضرورة تختلط مع عدم التحديد المطلق. وهكذا يصبح البناء الدرامي سؤالاً عن بنية الواقع.‏

                  الشخصيات:‏
                  أضاف يونسكو إلى السخرية من العقدة رفضه لسيكولوجية "الطباع" لأنّ ليس من مهمة المسرح إعداد الدراسات التصنيفية(4) ولأنّ النظريات تبسيطية أكثر مما ينبغي دائماً وسرعان ما تصبح بالية، ولأن كل إيضاح يميل إلى الاختصار.. لقد انطلق نيكولا دو لمحاربة مقولات العقل والدراسة النفسية العقلانية:"إذا ما استوحيت منطقاً آخر وعلم نفس آخر، فإنني سأستخرج التناقض من اللا تناقض، واللا تناقض مما يحكم عليه الحسّ العام أنه تناقض... سوف نتخلّى عن مبدأ الهوية ووحدة الطباع لصالح الحركة والسيكولوجية الدينامية... نحن لسنا ذواتنا .... الشخصية لا وجود لها. لا يوجد فينا، إلاّ قوى متناقضة أو غير متناقضة....(5) .‏
                  هكذا لم تعد الشخصية جامدة في هويتها "تفقد الطباع شكلها وتذوب في اللاشكل الذي ستصير إليه". كل شخصية هي ذاتها ونقيضها: الشاب يصبح فحلاً، والشرطي أباً، والزوجة أمّاً... بيرانجيه هو الإنسانية جمعاء إذ أن يونسكو يكتشف، فيما وراء المظاهر والأقنعة، النفس العميقة والصراعات الكامنة والغرائز الجنسية وحركات لا يمكن تحديدها والقوى الغامضة الموجهة للسلوك.‏
                  ضمن هذه الشروط لا يعود الترابط والمنطق مفتاحين للتفسير والتأويل. التحليل "الواقعي" للدوافع خادع، وهمي؛ وقد أشار يونسكو إليه ساخراً منه. المغنية الصلعاء، ضحايا الواجب، اميديه، الكركدن مسرحيات تبدأ مثلما تبدأ المسرحيات الواقعية. وتصوير الشخصيات لا يلتقط سوى فكرها الواضح وردود أفعالها الواعية، وحركاتها الإرادية، وهذه الطريقة تبرز سطحيتها وتفاهتها؛ ثم تسير بحوث يونسكو على طرقات أخرى: فمن خلال قصة الحلم، ومن خلال اللغة والتمثيل الحرّ، ومن خلال هذيان الصور وتقنية حلم اليقظة والتمثيل النفساني يتوصّل إلى شخصية أشد ثراءً وأكثر واقعية، وبدلاً من البحث عن الدوافع يقدّم عرضاً واضحاً جليّاً، ويكشف عن بنى نفسية لا واعية.‏
                  كان المسرح السيكولوجي يهتمّ بتصوير الأهواء أو الرذائل، وسير الأحداث فيه لم يكن سوى ذريعة لتقديم "أبطال" أو رجال تافهين. على عكس ذلك فشخصيات يونسكو لا وجود لها إلاّ من أجل خدمة المسرحية وليس لها أي معنى فردي. دورها مزدوج وظيفي وموضوعي، تعبيري ومعياري. وفي إطار التطور الدرامي يكون هذا الدور المزدوج محركاً للعمل، ومن ناحية أخرى" يظهر" في الشرط الإنساني ويردّدْ أوصافه.‏
                  الشخصيات هي القوى المتناقضة التي تؤلف "الصور المسرحية" وحضورها وتصادمها يخلقان مواقف الصراع. اميديه ومادلين، جان وبيرانجيه، دودار وبوتار، ماري ومرغريت، ماري-مادلين وجان، هذه الشخصيات كلّها، ومن خلال تعارضها تتبادل التهم وتفجّر التوتّرات الكامنة.‏
                  بعيداً عن الحدث المسرحي، تعبّر تلك الشخصيات عن البشري. إذا ما أُخذتْ بطريقة سطحية فهي نماذج اجتماعية: المثقفون، موظفو المكاتب، متسكعو يوم الأحد، النقاد الأدبيون، سكان الأحياء الشعبية، وكل واحد منهم يمثّل فئة معينة: بوتار، بابيون، حارسة البناية، البقال، مستأجر الطابق السادس، رئيس العمال، سائق التاكسي... وبما أنّهم متغيرون، متقلّبون.. لا يكونون غالباً سوى قناع اجتماعي: لا يشعر المدرّس بالثقة إلاّ في دوره كمعلّم، والشرطي في بداية مسرحية ضحايا الواجب خجول متواضع. إنّهم يمتلكون قليلاً من "الشخصية" بحيث يصبحون قابلين للتبادل أو أنهم نكرات: المدرس، التلميذة، الرجل العجوز، المرأة العجوز، حارسة البناية، المستأجر، هي، هو؛ أو أنّهم الاسم نفسه -بوبي واطسن، جاك، اميديه، جان- ويزداد عددهم، كل واحد طبق الأصل عن الآخر- بيض، وزّات،- كابوس متجدد "للعالم الجديد الشجاع" "Brave new world" لهكسلي.‏
                  مع ذلك، ففي استكشافات التحليل النفسي، اكتشف يونسكو الحقيقة الأخرى تحت القناع الاجتماعي. لم تعد الشخصيات نماذج عادية بل نماذج مثالية. الشخصيات هي تدوين لوساوس وهلوسات، رموز للاوعي؛ الصورة الموازية لما لا يقال. بعضهم؛ كما في مسرحية الملك يموت، ليسوا سوى إسقاطات لرغبات وحسرات الشخصية المركزية؛ وآخرون يرسمون صوراً أسطورية - الأم- الزوجة، الأب، الحبيبة -تترجم رغبات النفس المتنوعة وتعبّر عن الانفعال اللا واعي وعن الأنا الأعلى(6) .‏
                  لقد خصّص يونسكو مكاناً متميزاً للزوجين. آل سميث، وآل مارتان، جاك وروبرتا، شوبير ومادلين، العجوزان، اميديه ومادلين، بيرانجيه وداني أوديزي أو جوزفين، الملك والملكتين، جان وماري- مادلين، كلهم يطرحون بحدّة مسألة العلاقات بين إنسانين. إنّهم يعبّرون عن استنزاف المشاعر واستحالة معرفة كل طرف للطرف الآخر. إنّهم يمثلون الوحدة، وترك الملذات الحسية، وترك النظام، واحبولة الأطفال لكنهم يعبرون أيضاً عن الميول العميقة التي تشدّ الواحد إلى الآخر ممن يتناولون الحب وتحثّهم لكي يبدأوا فجر العالم من جديد.‏
                  اللغــــــــــة:‏
                  يترافق تمزّق الشخصية مع تفتت اللغة. لم يعد الكلام نظاماً للاتصال بين الناس. عندما تخضع الحياة للمادة، وعندما يفرغ الفكر من جوهره لا يبقى هناك حوار ولا تبادل بل هذيان. يتحدث المرء ولا يقول شيئاً لأنّه لم يبق شيء يقال، لأنّه لم يبق هناك فكر مبتكر أصيل ولا انفعال ولا وجود حقيقي:"إنّني أتأكد من تدمير وتشويه اللغة الإراديين وأعلن ذلك" كما كتب يونسكو في مقدمة ملاحظات وملاحظات مضادة.‏
                  الكتابة تعني بكل وضوح استنزاف اللغة، وكل كاتب يطرح مسألة الكلام من جديد، لكنه يعيد طرح المشكلة ليضعها في مكانها الصحيح وليعطيها قيمتها الأولى كوسيلة للسحر والتعبير وإلاّ فإنّ الكتابة لن تعني شيئاً. كان يونسكو مقتنعاً بذلك وبقي على قناعاته دائماً.‏
                  منذ قرن تقريباً، منذ رامبو وماراميه وفلوبير أصبح الجدال حول اللغة ساخناً بشكل خاص. وفي الحقيقة فإن الكلام اللوغوس(7) سجين داخل المنطق ولا يستطيع اكتشاف اللامعقول بطريقة صحيحة. إضافة إلى ذلك فإنه عتيق بالٍ أسقمه سوء الاستخدام الذي تقوم به الايديولوجيات: سوء الاستخدام نلمحه في خطاب الأم بيبا الذي كاد أن يكون كاريكاتورياً. تبيّن الدعايات وتقنيات الاتصال بين الجماعات كم في التعبير من اضطهاد وطغيان.‏
                  ينتهي الأمر بالكلام إلى أن ينفصل عن الحياة؛ وكان يونسكو قادراً أكثر من غيره، بسبب لغته المزدوجة، على الإحساس أن في التعبير عن تجربة ما خيانة دائمة لها. لقد قام مسرحه بتدمير اللغة ثم أعاد بناءها بشكل صحيح.‏
                  ولا تملك شخصيات يونسكو، عموماً، كلاماً خاصاً بها. إنها تستخدم مفردات كل الناس في صيغ يستخدمها كل الناس أيضاً. إنها لا تملك ناصية اللغة، التي تعمل في نهاية الأمر لوحدها، حسب ميكانيكية خاصة بها. قد تصرّ الآلة أحياناً، تتعطل، تصنع نماذج مشوهة، لكن اللغة "تتابع طريقها"، فمن خارج الشخصيات، أو بالأحرى من خلالها، "يتمّ" الكلام فيتشكل شيء ما ثم يتلاشى.‏
                  ينشأ الخلل في اللغة من تفتيت الدلالة اللغوية والفصل بين اللفظة ومدلولها، ففي الطريقة الطبيعية للتفاهم يحتلّ المدلول المرتبة الأولى ويفتش المستمع عن التعبير الملائم لمضمون أفكاره. قَلَبَ يونسكو هذه الطريقة إذ انطلق من الكلمة أو من التركيب التعبيري الذي يعطيه مضموناً غير ملائم أو يتركه دون أي مضمون، وهكذا يصل المرء إلى اللامعقول. تتطوّر الحركة الدرامية في "الامتثال" انطلاقاً من كلمات فارغة من المعنى: يلجأ جاك الذي تُرك "على هواه" إلى التمرّد والثورة، لكنه يستسلم عندما تعلّمه أخته، بكلمةواحدة، أو بسبع وعشرين كلمة أنّه "قابل للتوقيت Chronometrable".‏
                  على عكس ذلك فإن قيمة الكلمات ودلالاتها الدقيقة يمكن أن تصبح مدلولاً غير ملائم:"أنت تنام واقفاً!- أنا جالس...-جالس أم واقف فالأمر سيّان".‏
                  التأثير هنا مضحك، وفي مكان آخر يكون سبباً في عدم التفاهم:"أنت عنيد! - أنت تعاملينني الآن كحمار"، ولقد تأخرت من طول تأمّلك فيها- أنتِ تعدّين لي الدقائق!"، "أنا عبدة- لقد أُلغي نظام العبودية ياصغيرتي...."(8) .‏
                  لا ينسجم معنى الكلمات مع شكلها، فهي غير صالحة للتبادل فتحدث بعض التغيرات خاصة بواسطة التشابه في اللفظ فيستخرج يونسكو من ذلك مادة مسرحية "كنت بجانب صديقي جان وكان هناك أناس آخرون.- أقسم أنك لا تدري ماتقول".‏
                  هذا التنافر بين الكلمة والمدلول يسلب الكلام قوته الإعلامية، ويبقى مجرد ببغائية، ولا تعود الأجوبة والردود مرتبطة بتسلسل الأفكار، والكلمات تتوالى ومجموعات على أساس الجذور اللفظية والدلالات والتصريفات والمقاطع الصوتية، كما أن الارتبطات المجازية والكنايات تمنح الكلام ملامح الحماقة والجنون: "لقد كنّا مبللين منذ ساعات وأيام وليالي وأسابيع وشهور...."كانوا يصفقون بآذانهم وأقدامهم وركبهم وأنوفهم وأسنانهم..."(9) . بعض الأجوبة كانت إعراباً وتصاريف أفعال لكن يونسكو يتلاعب غالاباً بالجناس والأخطاء الإملائية:"ضحك الناس آنذاك من ذلك الغبي الذي وصل عارياً تماماً، ضحكوا من الكيس، كيس الرز...."(10) . بوجود ما عندنا من رؤساء عمال كونترمتر)، ونواب معلمين فيستمر) وحماة المعلمين بارامتر) وماحول المعلمين بيريمتر).....(11) ، لجأ يونسكو، وهو الحساس المرهف، لمثل هذه الألعاب من أجل المتعة فقط في "يومياته" واستخدم منها عناصر مضحكة في مسرحه لكنه يقصد من وراء ذلك إلى تدمير سلطان اللغة.‏
                  عندما تفقد الكلمات معناها فإن قوقعتها الفارغة تتحطّم. تنقبض الكلمات وتكشّر:"لقدوضعت في هذا العالم ممسخاً"، "أنت بشعوع"، لقد تربّى دون أية مآخذ عليه مثل ارستقرافي"(12) . تتفجر الكلمات أخيراً ولا يبقى سوى مقاطع لفظية، أحرف صوتية أو أحرف رنّانة، تتقاذفها الشخصيات عند نهاية مسرحيات: "المغنية الصلعاء، جاك، الكراسي.‏
                  ضوضاء، مواء، خوار هي اللغة الوحيدة. الكلمات لا تعبّر عن شيء وتعبّر عن كل شيء في الوقت ذاته. في مسرحية اميديه تعبّر كلمة "اليدوليا....". التعجبية عن كل أفكار الحوار المستحيل بين مادلين واميديه. ادوليا اميدية اسيدوليا، مادلين، الخ.... وفي مسرحية الامتثال يغدو كل شيء بالنسبة لجاك وروبرتا هرّاً:"لتمييز الأشياء هناك كلمة وحيدة: هرّ، الهررة، تسمّى هرّاً، الأطعمة تسمّى هرّاً، الحشرات تسمّى هرّاً، الكراسي تسمّى هرّاً، أنت هرّ، أنا هرّ، السطح هرّ....".‏
                  يصبح الكلام سهلاً أو لم يعد هناك داعٍ للكلام... التفاهم لم يعد موجوداً، والكلمة تغدو حشواً، واللغة دون هدف، تتكاثر دون رقابة. في حكاية رجل الإطفاء ودرس المدرّس، وتصريحات بيرانجيه، الكلمات تسيل، تنسكب على المسرح، في الصالة، تغزو المكان، كلام لا عضوي، مرضي. لقد أصيب الكلام بمرض السرطان.‏
                  شكل خاص من أشكال السرطان في العالم الحديث، هوتضخّم المصطلحات التقنية. يسخر يونسكو من هذا التشويه اللغوي. جاك،ضحايا الواجب، الكركدنمسرحيات تزدحم باصطلاحات التحليل النفسي: العقدة، النكوص، السقطة، التحويل، الإعلاء. يتحدث بيرانجيه عن مسخ السيد بابيون فيقول:"لا شك أنه حدث فاشل". وفي مسرحية ألما يستغّل يونسكو مفردات الفلاسفة الوجوديين والنقّاد البنيويين، بل إنه يخترع مفردات جديدة، موجود -داخل الشيء- وهو خارج الشيء. وجود عدم الوجود، علم الديكور ديكور ولوجي) فن الملابس كوستوموديه) التأريخانية، المشاركة الديالكتيكية، علم النفس الاجتماعي للمشاهدين سبكتا توسيكو سوسويولوجي) spectatapsychosoeiologie..... وفي مسرحية قاتل بلا أجر تزدهر مفردات التكنوقراط:"هناك المبدأ التنظيمي الأساسي ووجهة النظر التنظيمية للبنية الفوقية...".‏
                  أخيراً.. يحب يونسكو التلاعب بأسماء الشخصيات، في ضحايا الواجب هناك شوبير ونيكولا دو، والرجال الذين يمسخون، كركدنات يحملون أسماء بقرة، فراشة، كما نجد السيد لولار والسيد بوليسون والأسقف مورفان، وتريب وبيريختول.‏
                  نجد ضعف المعنى، والاستهزاء باللغة على مستوى المفردات أولاً، لكن المفردات تنضوي تحت أشكال الأقوال المأثورة، والحكم... يفرّغ يونسكو هذه الأشكال من مضامينها، وهذه وسيلة تدمير أكثر براعة...‏
                  يمكن أن نستخرج من مسرحيات يونسكو معجماً للأفكار المقتبسة. إنّنا نفكر بفلوبير، وقد فكّر يونسكو فيه أيضاً. الحقائق التي غدت عامّة، مبتذلة، تنبثق لدى كل كلام وبالأحرى خارج كل حديث: "آه،.. ياللتهذيب الفرنسي، وليس كما نرى عند شباب هذه الأيام"، "العنصرية من أفدح الأخطاء في هذا القرن "لابدّ أنها الصحون الطائرة"، "ليس هناك مهنة غبية". أمّا مسرحية "صبيّة للزواج" فتتألف من كليشهات متتالية.‏
                  طريقة أخرى مختلفة قليلاً هي:"التلصيق" الكولاج). يظهر أثناء الحوار استشهاد تاريخي أو أدبي لا تدركه الشخصيات. إنها غمزة عين يوجهها المؤلف للجمهور:"لا تلمسها، إنها محطّمة"، كما قالت السيدة سميث، أمّا جاك فيقول: كوني أختاً جديرة بأخ مثلي"، أمّا الدكاترة في مسرحية الما فإنهم يتبادلون الشتائم بسبب مفردات إحدى حكايات لافونتين:"عجل... بقرة... خنزير...."، ويذكر السيد الضخم في مسرحية اللوحة الشاعر بودلير دون أن يعرفه..‏
                  ليست هذه التجمعات غير المألوفة للمفردات لعبة بل هي أداة لكشف الأفكار المكبوتة. يتذكر القارئ تلك "الحوارات القصيرة"، التي استخدمتها ناتالي ساروت(13) . المدرّس يفضح رغباته اللاواعية "أنتِ شهية....".‏
                  "إياك والوقاحة أيتها الفتاة اللعوب، وإلا فحذار....".‏
                  تحتفظ الأجوبة غالباً بصيغة الكلام المألوف، لكن دارات قصيرة تُدخل إليه مضموناً غريباً شاذاً مما يؤدي إلى بديهيات كاذبة، "يجب على الطبيب المخلص أن يموت مع المريض إذا لم يكن في الإمكان أن يشفيا معاً: مثلما يهلك قبطان السفينة مع سفينته في الأمواج"، "زوجتي هي الذكاء عينه. إنها أكثر ذكاءً مني على كل حال. وتفوقني في الأنوثة إلى حد بعيد"، داعب حلقه ما، تغدو دائرة فاسدة Lecercle vicieux): الدائرة الفاسدة في علم المنطق هي الاستدلال الخاطئ"(14) .، ليس لأنني لا أبالي بالأديان، يمكن أن يقال إنني لا أحترمها"..عندي فطيرة من لحم الأرنب الغضّ، محشوّة بلحم الخنزير الصافي"(15) .‏
                  يكثر يونسكو من استخدام الأقوال المأثورة المشوّهة ليتّهم تردد الشخصيات وليؤكد فقر الفكر السائد. هناك مشاهد كاملة في "المغنية الصلعاء"، و"معرض السيارات" و"جاك"، و"اميديه" ومسرحية الما، وقاتل بلا أجر، مبنيّة على لغو لا معنى له، مرصوف، متلاصق الأطراف، "من يبيع اليوم عجلاً سينال بيضة غداً"(16) ، "هل أتيتم إلى معرض السيارات لتأخذوا دروساً في اللغة الفرنسية؟ هذه ستة فرنكات معدنية ونصف كيلو من الكرنب المخلل! من ناحية أخرى يمكن أن نزوّدك بمجلس إدارة مؤلف من تسع أعضاء يمكن إعادة انتخابهم، وبيضة".‏
                  على مستوى آخر، أكثر تطوراً ودقة يتعرض الكلام القادر على الكشف للتشويه. يتمّ الحفاظ على تراكيب الاستدلال لكنها تكون مزيّفة. تقوم السيدة سميث بعملية استقراء:"لقد علمتنا التجربة أنه عندما يُقرع الباب فمعنى ذلك أن لا أحد هناك". أمّا رجل المنطق في مسرحية "الكركدن" فيشرح عملية القياس لكنه في الحقيقة يؤدي إلى استنتاج زائف.‏
                  كيف تلحظ، على امتداد الحوار، إنه يعكس المقدمتين الكبرى والصغرى) أو أنّه يستبدل المسند إليه بالفاعل؟ من الآن فصاعداً، سيسمو هذا المنطق الأعوج- الذي -تمتد مظاهره المتعددة"، من الحساب الذهني إلى الأخلاق- بتبرير أي شيء: من فظاظة السيد العجوز إلى شعارات الأم بيبا. إنه يبرئ الحماقة والاستبداد. إنّه مضحك جداً، لكنه مرعب أيضاً فلا تعود اللغة مدعاة للضحك بل تصبح خطيرة. أحاديث المدرّس، والأم بيبا، وبوتار وجان والأخ تاراباس، كلها كلاّم قاتل. يكشف يونسكو في اللغة، إضافة إلى التلف؛ "منهجاً للحرب الحديثة"(17) .‏
                  أزمة اللغة من جانب منهاجي أزمة مصطنعة ومقصودة.. يمكن للكلام أن يكون أداة اتصال حقيقية. يونسكو، الكاتب، يعتقد ذلك. الكتابة تعني الإيمان بالقيمة الخلاّقة للغة. الكتابة؛ حسب كلمات رامبو، هي "إيجاد لغة"، تعطي شكلاً لما لا يُقال. لهذا السبب ينشأ حوار حقيقي بين بيرانجيه وديزي، بين الملك وجولييت، بين جان وماري-مادلين.كثيراً مايناجي المرء نفسه ويعبّر عن ذاته اللاواعية، جاك، شوبير، اميديه، بيرانجيه، جوزفين، جان، ماري-مادلين.... للتعبير عن الهلوسات، وللإفصاح عن الدهشة أو القلق، عن الحب المجنون أو الخوف من الموت. جميع صور العالم، جميع المشاهد اليومية، الألوان، والأناشيد، العطور تؤلف كلّها مونولوجاً غنائياً. تعبّر الاستعارات عن الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه في حالة الاندهاش أو الرعب. آنذاك تصبح اللغة شعرية.‏
                  هذه اللحظات نادرة. هاهو شوبير يتحدث عن نزوله إلى المتاهة، واميديه يتحدث عن الحب المجنون، ويتحدث بيرانجيه عن المدينة المشعّة، ويتحدث الماشي في الهواء عن ماوراء العالم؛ ويتحدث الملك عن الأمور اليومية الرائعة، ويتحدث جان عن المرأة التي يحلم بها. إضافة إلى ذلك كله، هناك دائماً شخصية تحيل الموقف إلى سخرية عندما تتعاظم هذه النزعة الغنائية: مادلين تسخر من شوبير،ويسخر الإنكليز من بيرانجيه، وحارسا المتحف يسخران من جان...‏
                  ممارسة الكتابة عند يونسكو، إذا لم تكن يائسة، فهي متشائمة، مع ذلك فإن تدمير اللغة ثم إعادة بنائها تجعل من مسرحه عملية تأمّل وتفكير حول الكلمة باعتبارها صيغة من صيغ المعرفة والعمل.‏
                  التمثيل:‏
                  لا يعتمد مسرح يونسكو على الحوار فقط(18) . يُضاف إلى التعبير بالكلمات التعبير بالتمثيل:"أنا لا أصنع أدباً، إنني أصنع شيئاً مختلفاً تماماً. إنني أحقق مسرحاً.‏
                  أريد أن أقول إن النص الذي أكتبه ليس مجرّد حوار لكنّه إرشادات مسرحية أيضاً"(19) . يندمج أداء الممثلين مع الحركة الدرامية وله دلالته الخاصة به.‏
                  "المسرح بصري مثلما هو سمعي"(20) ، لهذا السبب يجسّد يونسكو إيحاءات الحوار بواسطة التمثيل. جاك بعد أن أصبح فحلاً يصهل حول روبرتا التي تتحدث عن الصحراء. شوبير، "يغوص في الظلمات" وهوممسك بذراع مادلين، يمرّ تحت الطاولة، ويتسلّق نحو القمم فيصعد على الكراسي والطاولة.‏
                  يمكن للتمثيل أن يخالف الحوار أيضاً. يقترح يونسكو على الممثلين أن "يمثّلوا عكس النص"، وبهذه الطريقة يتمّ تحاشي الحشو والإسهاب وإظهار دلالات جديدة، "على نص أخرق لا معقول هزلي يمكن أن نضيف إخراجاً وأداء رصيناً متميزاً احتفالياً وعلى نقيض ذلك، لتحاشي سخرية الدموع السهلة، والحساسية الزائفة، يمكن اللجوء إلى التمثيل البهلواني وتبيان المعنى التراجيدي للمسرحية بواسطة التهريج"(21) . هذا التناقض يجعل الكلمات تعبّر عمّا لم تعبّر عنه من قبل أبداً. في مسرحية اللوحة يمكن للحوار فقط أن يجعلنا نعتقد أن المسرحية نقد لاذع "للرأسمالية المستغلّة". رغب يونسكو أن يكون التمثيل تقليداً ساخراً"، على أقصى درجة من الغباء" مما يؤدي إلى تغيير المعنى والمدلول.‏
                  لكن التمثيل يكمل النص في أغلب الأحيان. عندما يتفكّك الكلام أو يفرغ من معناه، تعتمد الاستمرارية الدرامية على الإيماء، في بداية ونهاية المغنية الصلعاء، وخلال حصة فقه اللغة في "الدرس"، لا يبقى من الكلام سوى الضجيج، وسير الأحداث مستمر عبر التمثيل. كذلك لا يبقى ثمّة كلام في الرقصة الخليعة التي تختم مسرحية الامتثال، أو في زوبعة الكراسي، أو في نهاية العطش والجوع.‏
                  الأشكال المألوفة جداً في التلحين الإيقاعي الذي تؤديه الشخصيات ثلاث وهي: التكرار والطباق وقلب عناصر الجملة.‏
                  من مشهد إلى آخر، وعلى امتداد التطور الدرامي، تتكرر الحركات: آل مارتان يستعيدون دور آل سميث، وتحلّ إحدى وأربعون طالبة محلّ الطالبة السابقة، وفي الفصل الثالث من مسرحية الكركدن يقلّد بيرانجيه جان في المشهد السابق.‏
                  الطباق بديل عن التكرار. مجموعتان من الممثلين تؤديان المشهد نفسه على مستويات مختلفة؛ والمشهد المعبّر تماماً عن ذلك هو المشهد الرباعي في مسرحية: جان، بيرانجيه، رجل المنطق، السيد العجوز. لكننا نجد أيضاً الأسلوب نفسه في قاتل بلا أجر والماشي في الهواء.‏
                  في مكان آخر يتبادل ممثلان دوريهما. في مسرحية الدرس يتطوّر سلوك كلّ من المدرّس والتلميذة بشكل متناظر. وفي الكركدن وفي أثناء المشهد الذي يجمع ديزي وبيرانجيه يتبادل الاثنان دوريهما أيضاً. في هذه الحالات، التشابه يؤكد الاختلاف؛ كما أنّه يبيّن الموقف وانعكاسه.‏
                  يستغّل يونسكو مختلف أشكال التمثيل مما يؤدي إلى توسيع حدود المسرح. إنه يرسم لوحات حيّة: "الزيارة" في المغنية الصلعاء، "العرس الضاحك" في الامتثال، "شرفة المقهى"، و"المكتب" في الكركدن. تسمح هذه اللوحات الحية، عند بداية الفصل أو نهايته، أن تدرك في لحظة موقفاً ما، أن توضح مغزى مسرحية، مثلما يفعل الدرس الأخلاقي الذي نستخلصه من قصة ذات مغزى ألعاب خداعية(22) . تزين الحركة الدرامية بالزخارف ففي مسرحية الكركدن يُخرج جان من جيوبه ربطة عنق ومشطاً ومرآة؛ وفي ضحايا الواجب تكدّس مادلين فناجين القهوة؛ وفي الماشي في الهواء يُظهر بيرانجيه ويُخفي كثيراً من قطع الاكسسوار. تحقق هذه اللعبة، بمجانيتها، التوتر الدرامي وتعطي للحركة إيقاعاً أسرع.‏
                  يستخدم يونسكو أيضاً أساليب السيرك ومسرح العرائس فالشخصيات في الامتثال غيّرت وجوهها، وأحلام جوزفين ملأى بالوجوه المضحكة، كما أن مسرحية اللوحة تحمل عنواناً ثانوياً هو "تهريج".‏
                  تتحول الحركة أيضاً إلىمسرح ظل، في الفصل الثاني من قاتل بلا أجر نشهد مرور خيالات معبّرة خلف نافذة الغرفة: حارسة البناية مع مكنستها، ساعي البريد، مستأجرين، تجّار الحارة...‏
                  أخيراً، يلغي يونسكو أحياناً التمييز بين المسرح والصالة؛ ففي الروايتين الأوليتين لنهاية المغنية الصلعاء كان يخطط لوجود بعض الممثلين في الصالة لمشاركة الجمهور في المسرحية؛ وفي مسرحية "التحيات" يجلس أربع من أصل سبع ممثلين في الصالة. لم يستغلّ يونسكو أبداً هذا النهج لكنه يستعيد فكرة من أفكار ارتو وهي تطبيق جميع أشكال التمثيليات الشعبية، خصوصاً السيرك، تلك التمثيليات التي تحاول إشراك الجمهور في العرض.‏
                  "يمكن الإقدام على كل شيء في المسرح. إنه المكان الذي يحتاج أقل قدر من الجرأة [....] سيتّهمني الناس أنني أقدّم الميوزيك - هول والسيرك.‏
                  حسناً، لندمج السيرك! يمكن أن يُتهم المؤلف بالتعسف لكن الخيال لم يكن أبداً تعسفياً؛ إنه كاشف للأسرار ونبع للإيحاء"(23) ..‏
                  إن جرأة يونسكو في مجال التمثيل تعطي لرؤية الواقع إمكانيات جديدة. إنها تشقّ طرقاً جديدة للخيال المبدع والنتاج العجيب في الأدب والفن؛ إنها تسمح بتقديم موقف إلى الجمهور لا يمكن الدفاع عنه: العسر والعار في نهاية الامتثال أو اللوحة، القلق والخوف في مسرحية العطش والجوع، من خلال مشهد المهرجين- "أشعر أن ساقيّ قد بترتا"، وكما يقول جان، ونحن أيضاً. أخيراً فإن التمثيل هو الذي يولّد الحد الأقصى من الانفعال.‏
                  الإضاءة، الديكور، الاكسسوار:‏
                  الكاتب المسرحي ضابط الإيقاع. كما أنه رسّام ونحّات ومهندس معماري. إن رسوخ الأشياء نابع من أنها تحدد حقل الرؤية وتفرض حضورها المادي الذي لا يمكن الاعتراض عليه.‏
                  أمّا الإضاءة فإنها تحقق تأثيرات مادية على المشاهدين وتعطي إحساساً بالقسوة أو بالعذوبة.عن طريق سلّم الألوان والكثافة والرقّة والارتعاشات وتباين النور والمساحات الضوئية. إن الإضاءة مرتبطة مباشرة بشعور الغبطة أوالخوف. لقد استغلّ يونسكو تلك التأثيرات كلها في اميديه، الكركدن، الماشي في الهواء، العطش والجوع، الوباء. في الفصل الأول من مسرحية قاتل بلا أجر، الإضاءة هي الديكور الوحيد، وفي مسرحيتي الكراسي والملك يموت تسمح الإضاءة بتنفيذ تحوّلات الواقع.‏
                  استبعد يونسكو النمنمات الكلاسيكية في الديكور سواء كانت رومانتيكية تبهر النظر أو واقعية شديدة التدقيق في التفاصيل كما نجدها عند انطوان. كما رفض يونسكو المسرح الباطني راسين، كامو) الذي تتطوّر الشخصيات فيه مابين الطنافس أو على "شرفة قصر ذي أعمدة"، إذ لابُدَّ من مكان يناسب المشاهد المسرحية. كما رفض أخيراً الديكورات التي تعتمد على الخداع البصري إذ تعطي عن بعد وهم الحقيقة.‏
                  هذه مسألة تتعلّق باتجاه النظر وبرؤية العالم؛ فمن خلال منظور إنساني- كلاسيكي، رومانتيكي، واقعي، الخ....-الإنسان وحده هو المعنيّ في الحدث الدرامي أمّا الديكور فليس أكثر من إطار. يرى يونسكو أن الديكور عنصر من عناصر الموقف فالأشياء تندمج بالحدث مثلها مثل الشخصيات، تشكل جزءاً من العرض.‏
                  يصوّر البرج وسط الجزيرة عزلة العجوزين في مسرحية الكراسي، ويوحي الباب المغلق دائماً والنوافذ المفتوحة قليلاً باحتجاز اميديه ومادلين، وتعبّر غرفة جاك غير المرتبّة عن السقوط الأخلاقي؛ والباب الثقيل والحاجز المشبّك في مطعم الرهبان يمثّلان المصيدة التي تنحبس داخلها أحلام جان...‏
                  لكن تغيّرات الديكور لها مغزاها هي الأخرى. إنها تساهم في تطوّر الحدث الدرامي؛ التناقض بين الفصلين الأخيرين من مسرحية اميديه، واضح الدلالة إذ يتمّ الانتقال من كابوس المادة إلى رؤية مساحة صغيرة تشعّ بالأنوار وضوء القمر، وإلى أشخاصها الذين يشكلون جزءاً من الديكور. إنها مكان حرّ ويحرر المشاهد، وفي هذا التناقض يكمن الحدث الدرامي. في مسرحية قاتل بلا أجر تدعم تغيرات الديكور الانتقال من الغبطة إلى خيبة الأمل، من الهزل إلى القبح والقلق اللذين نراهما في الحلم. وفي مسرحية الكركدن، تصوّر الديكورات المتتالية الفخ الذي يضيق حول بيرانجيه. وفي مسرحية الملك يموت يعبّر تلف الديكور عن تلف الوعي والإدراك. في العطش والجوع تعبّر الديكورات الثلاث عن حالات جان العاطفية.‏
                  نجد في بعض المسرحيات ديكوراً أوّلياً يقلّد الواقع بطريقة ساخرة.. في المغنية الصلعاء، نرى بيتاً من الداخل انكليزياً نموذجياً)، وفي اميديه بيتاً من بيوت "صغار البرجوازيين"، وفي الكركدن يُخيّل لنا أن الساحة الصغيرة تُعلن عن مسرحية من مسرحيات "البولفار". ثم يهتز كل شيء فتصبح الواقعية هزلاً أو وهماً. تهدف هذه الطريقة الساخرة لتدمير رؤية إنسانية متخلّفة من أجل إقامة عالم لا يعود الإنسان مركزاً له، عالماً لا إنسانياً.‏
                  تندمج الاكسسوارات مع التمثيل والحدث مثل الديكورولها أيضاً نفس الدلالات. ساعة الحائط في المغنية الصلعاء أو اميديه تجعل جريان الزمان ينحرف عن مساره. الأقنعة، رؤوس الحيوانات، السياط، المشانق صور من الأحلام. الجسر الفضي أو سلّم النور يرمزان إلى الأمل. رصف أثاث غرفة الطعام وجهاز الهاتف في اميديه يعني عزلة الزوجين. في مسرحية الكركدن، وفي المشهد الذي يعتقد فيه بيرانجيه أنه يتعرّف على نفسه في الصور الغريبة المعلّقة على الجدار ينبثق المعنى من التناقض مابين الكلام والأشياء.‏
                  لكن تكديس الأشياء والأدوات هو الذي يدعو للقلق والخوف: باليه الكراسي، طناجر الحساء، الجرار أو الفناجين، تزايد عدد البيض، والفطور، والنمو المتسارع للجثة. في انفلات الحركة الآلية التي تصبح جنوناً، تنتج المادة مادة بلا نهاية. الإنسان مخنوق، غريق، جاك يختفي تحت البيض، اميديه ومادلين يعجزان عن الانتقال، المستأجر الجديد يضيع وسط الأثاث الذي يكتسح المدينة، بيرانجيه، جامد في مكانه وسط زحمة المرور.‏
                  تكديس الأدوات وحركتها يصبحان سريعاً من فعل الخيال(24) . يخلق يونسكو عالماً تسوده قوانين وأنظمة ليست مألوفة لنا فعالم الهلوسة الناتج عن المادّة المتكاثرة ينكر تفوّق الإنسان بل يطرد ذلك الإنسان أو يسحقه. التمثيلية التي تحمل هذه الدلالة تأخذ مكانها على مستوى البديهيات، وليس على مستوى الاستدلال والبرهان ومن هنا تكسب قوتها: إنها لا تبرهن بل تعرض.‏
                  المسرحية ليست هذا أو ذاك.‏
                  إنها أشياء كثيرة في وقت واحد،‏
                  إنها هذا وذاك.. "محاورات مع كلود بونفوا".‏
                  5 - دلالات‏
                  تشير دراسة التقنيات التي استخدمها يونسكو إلى قصده في تحويل الجدي إلى هزلي. السخرية من العقدة، وتفاهة الشخصيات، وتفكيك اللغة، والتمثيل الذي يخلط بين الخصوصيات، هذه كلها عناصر تحدّد "مسرحاً مضاداً".‏
                  لكن التطور الدرامي ينطوي على صراعات وجودية، وسيكولوجية قائمة على ديناميكية صراع الأضداد، وعلى منطق "غير أرسطي" للأحداث والأشخاص، وعلى لغة هي وسيلة لاستكشاف الواقع أكثر من كونها نظاماً للاتصال بين الناس؛ وعلى إخراج منفتح على جميع الأشكال المسرحية ممّا يسمح بالحديث عن "مسرح جديد".‏
                  أشكال قديمة أبعدت وأشكال جديدة تأسست، وفن مسرحي يثبّت مواقعه. يهدف هذا التجديد في التعبير إلى أن يقدّم وصفاً عن اللاتواصل أو أن يعثر على الحقائق الضائعة: الوصول إلى المجهول، طرح البديهيات من جديد؛ ولا يتمّ ذلك إلاّ "بإيجاد لغة جديدة"، كما أن مسرح يونسكو يظهر أيضاً كبحث عن اللاواقعية، كتعبير عن الشرط اللا معقول للإنسان، كتأمّل في الأشكال المسرحية.‏
                  بحث عن اللاواقعية:‏
                  مقاصد يونسكو سريالية، تاريخياً وفلسفياً. سار مسرحه على الخط الذي سارت عليه أبحاث جارّي، أبو للينير، فيتراك دينو. أما فنّه المسرحي فيعتمد على نظريات ارتو. نحن نعرف رأي بروتون في المغنية الصلعاء(25) . ومن المناسب أن نشير، من منظور عريض، إلى تأثيرات فلوبير ودستويفسكي، وكافكا على يونسكو.‏
                  أثناء بحثه عن "الأصالة" استهزأ يونسكو بالواقع السطحي الذي يراه، وسخر من الشخصية الاجتماعية، وهو القالب الجاهز الذي يدخل فيه كل فرد وينكمش. أدان التفكير والسلوك المقولبين اللذين يفصحان عن وجودهما من خلال الكليشهات اللغوية والتصرّفات الآلية. لقد رفض قوانين المنطق العقلي- "أكثر السجون بغضاً ومقتاً"، كما يقول بروتون(26) - المنطق الكابح والمستبد عن طريق التربية والأسرة والمهنة والعلاقات ضمن المجموعة. لقد طرح من جديد مسألة منظومة القيم الذي يقوم مجتمعنا عليها.‏
                  يرى يونسكو أن الشخصية "الحقيقية"، توجد في العمق. ومسرحه كله محاولة لاكتشاف اللاوعي باعتباره نبعاً للتفكير والعمل؛ وفي نفس الوقت على اعتباره الحقيقة السيكولوجية المشتركة بين جميع الأفراد. الحب"، ذلك البحث اليائس عن الوحدة الضائعة الموت، وسواس، وجاذب لا يقاوم". الاندهاش من الحياة، كلها هواجس إنسانية، أساسية. الإنسان تحرّكه الغرائز الجنسية والميول الفطرية التي تطفو على هوامش الوعي وتكشف عن نفسها من خلال حركات مرسومة أو أقوال غير منسجمة. كلّ فرد منا هو الحلبة التي يتصارع عليها الحب والموتإيروس كلمة يونانية تعني الحب، ناناتوس كلمة يونانية تعني الموت).‏
                  صوّر يونسكو التمزّق والتناقض من حيث الظاهر إذ أن اللاوعي له قوانينه الخاصة به. هناك منطق للتناقضات، وحلٌّ لها. من أجل "تغيير الحياة"، ومن أجل أن يصبح العالم "شاعرياً" حقاً، من الأهمية بمكان أن نبحث في ديناميكية اللاوعي عن تجديد الوجود. لم يقل بروتون شيئاً آخر في "البيانات السريالية" وقد كتب عنه يونسكو بمناسبة وفاته:"كان يعيش، ليس في التناقض بل في المفارقة. لقد كان هذا المنظّر اللاعقلاني، يوسّع العقل ويعمّقه ويزيده. وكانت اللامعقولية تظهر كأنها الوجه الخفي للعقل الذي كان باستطاعة الوعي اكتشافه والاندماج معه"(27) . هذا أيضاً مافعله يونسكو في مسرحياته.‏
                  اكتشاف هذه "الأعماق"، هذه المناطق المظلمة من النفس مستوحى من التحليل النفسي، من طرائق فرويد أويونغ التي طبّقتْ على الأدب: وقد التقت، في هذا المجال، مع مناهج وتقنيات السرياليين. استخدم يونسكو الهفوات وزلاّت اللسان كمصدر للجانب الهزلي لكنّه استخدمها أيضاً ككاشف عن الأفكار الكامنة المكبوتة. لجأ يونسكو إلى التناقض في الحوارات والتصرّفات. لقد مارس "الكلام الآلي" والقصة الحلمية محطّماً بذلك قوقعة النحو ليقدّم منطقاً آخر وترابطاً مختلفاً للأفكار والصور، وليقدّم بنية أخرى للزمان والمكان. لقد نقل إلى اللغة أساليب التلصيق "الكولاج" فبعض المشاهد -التي تكشف أحياناً مغزى المسرحية- تستعيد بشيء من الدقة، أسلوب التمثيل النفساني.‏
                  يظهر مسرح يونسكو، سواء من حيث تنفيذه أو من حيث مقاصده، كأنّه إكمال للفكر السريالي.‏
                  صورة عالم لا معقول:‏
                  مسرح يونسكو استقصاء عن الفرد كما أنه ضمير عصر أيضاً. لا نجد أبداً، حتى في مسرحية الكركدن، أية إشارة مباشرة للأحداث الراهنة، لكن مخاوف الشخصيات هي المخاوف التي يشعر بها المرء في أيامنا أمام رعب القيامة، أمام عالم ينضح وحشية ولا إنسانية. تقدذم "الصور المسرحية" مواقف خارج الزمن لكنها ذات طابع تاريخي.‏
                  يعبّر يونسكو في مسرحه عن ذلك الضمير الممزّق الذي نجده لدى الذين عاشوا ظلمات الديكتاتوريات. لقد رأوا القيم الإنسانية تنهار، وممارسة الحرية تختفي. يتوقعون أن يشهدوا في المستقبل تهديدات ومخاطر أكثر مما يشهدون من الآمال. إنهم يعانون بقسوة من لا معقولية عالم في منتهى الفوضى، ويتألمون من وضع إنساني ميئوس منه(28) .‏
                  تعبّر المواقف التي أوردها يونسكو في مسرحياته عن انسحاق الفرد. السادية والعنف هما طابع العلاقات مع الآخرين. في الدرس وضحايا الواجب. سيطرة الجماعة العائلية أو الاجتماعية واضحة. في جاك، الكركدن، العطش والجوع. طغيان الايديولوجيات موجود في كل مكان من مسرحياته. الإنسان وحيد لأنّه غير جدير بالأخوّة الكركدن)، عاجز عن تحقيق الحب الدائم. العلاقة بين الرجل والمرأة سريعةالزوال الكركدن)، أو تافهة المغنية الصلعاء)، أو أن العلاقة بين الرجل والمرأة تقتصر على الجنس جاك)، أو على ارتباط جهنمي، أو على "جلسة سرّية"، تربط بين كائنين عاجزين عن الحب ومحكوم عليهما أن يعذّب أحدهما الآخر ضحايا الواجب، اميديه، العطش والجوع).‏
                  الوحدة الإنسانية هي أيضاً وحدة الموت. لقد جعلت الأفكار الإنسانية من الإنسان ملكاً، لكنه ملك مخلوع، إذ إنّه يموت، وحيداً، يموت. يسلب الموت من الوجود قيمته: المدينة المشعّة لاجدوى منها فهناك القاتل يعبث فيها؛ وبيرانجيه "الماشي في الهواء" عاجز عن الكتابة إذ لا شفاء من الموت-ويحلم جان ببلاد، الموت فيها ممنوع.‏
                  الموت كابوس جماعي كما أنّه وسواس فردي. "الحب والكراهية، الحب والدمار، إنه تعارض، يعطي بأهميته الكبرى الانطباع باللامعقول.فكيف نشيّد منطقاً انطلاقاً من ذلك، ديالكتيكياً؟"(29) .‏
                  يحكي مسرح يونسكو عن موت الإنسان كما يحكي أيضاً عن موت الله. ماوراء العالم ماهو إلاّ فوضى وعماء؛ ولا يفكّر بيرانجيه الأول خلال احتضاره إلاّ بالماضي؛ والعبّارة التي يعبرها لا توصله إلاّ إلى العدم، والسلّم الفضي في مسرحية العطش والجوع هو تساؤل كبير حول معنى الحياة وليس أملاً في الآخره. المصير مسدود لا مخرج له. ومسألة المطلق هي غياب، والرجاء الوحيد هو "العدم الكبير".‏
                  تتضاعف المادة وتتكاثر في كل مكان من مسرح يونسكو؛ تغرق الكائنات فيها أو تختلط معها حتى تصبح هي نفسها مادة ولا يعود العالم إنسانياً.‏
                  إدراك هذا الوضع الماساوي، وهذه الصراعات التي تمزّق الفرد، التي تضع الفرد في مواجهة المجموع، وتضع الإنسان في مواجهة المادة التي تحيط به، ورفض الإنسان لهذا المصير، لهذا التحوّل دون هدف في عالم بلا حدود، هذان هما وجها علم الأخلاق القائم على فلسفة "اللامعقول".‏
                  "إن شرطنا الوجودي لا معقول، لا أحد يريد أن يأتي إلى العالم. لا أحد يريد الخروج منه"(30) .‏
                  تلتقي اهتمامات يونسكو ورؤيته للواقع مع كتّاب وفلاسفة قدّموا، غداة الحرب، الفرد محاصراً من جميع الجهات بالوحشية واللا إنسانية، قدّموه "غريباً" محكوماً عليه بالصحو، محكوماً عليه بـ "جلسة سرّية" حيث نظرة الإنسان الآخر تشكل جحيماً له، قدّموه مسؤولاً مسؤولية كاملة عن مصير لم يختره؛ ومعرّضاً لكل أنواع الفشل.‏
                  بهذا المعنى فإن أعمال يونسكو "ملتزمة" تاريخياً.لم تدعُ أبداً علناً إلى مبدأ أخلاقي أو نظام من القيم لأن يونسكو لا يقبل أن يضع ايديولوجية ما مقابل ايديولوجيات أخرى لكن رفضه وإدراكه للمسائل المطروحة يؤكدان التزامه. المسرح الملتزم لا يقتصر فقط على الأشكال التي قدّمها ابسن أو بريخت أوسارتر. هناك "التزام" وهناك "مسرح" في كل مرة تطرح مشكلة الإنسان ومصيره في تقاطعهما مع الزمان والأبدية.‏
                  لكن سارتر وكامو عبّرا عن اختيارهما دون أن يعدّلا في البنى الأدبية أمّا يونسكو فقد طرح من جديد مسألة الأشكال المسرحية، إن مسرحه تأمّل فني جمالي.‏
                  تأملات حول الأشكال المسرحية:‏
                  "ما العمل حتى يصبح الأدب استكشافاً مثيراً للاهتمام؟ سأل بيرانجيه في مسرحية الماشي في الهواء. كذلك كان يونسكو يسأل نفسه عندما يجعل شخصياته تتكلم: شوبير، نيكولا دو، بيرانجيه، الصحفي، وهكذا تساءل أيضاً عندما قدّم نفسه على المسرح في مسرحية الما. ولقد أجاب عن ذلك مسرحه كله عندما كان يخترع الأشكال التي عرض من خلالها بديهيات رؤيته للعالم.‏
                  "الكتابة هي التفكير في الكلمات"، كما قال باشولار(31) أما قضية الكتابة فيجب أن تعطي الأشياء مدلولات جديدة. لقد عالج سارتر وكامو، وهما الوفيّان لعلم الجمال التقليدي، مسألة اللامعقول في مسرحياتهما أو قصصهما بواسطة كلام عقلاني وأساطير تاريخية. هناك إذن تفاوت بين الأشكال وبين رؤية العالم، بين الكلمة والمدلول، لكنهما كانا يعرفان مسبقاً مايريدان أن يقولا.‏
                  أمّا عند يونسكو فعلى العكس إذ أن الأشكال الجديدة هي التي تخترع الدلالة والمغزى. اللا واقعية موجودة في قصص الأحلام والتمثيل النفساني، وتنبثق أساطير جديدة كركدنات وفطور)، من الهلوسات اللا واعية كما أن تفكك الصور المسرحية يرمز إلى تفكك العالم وكارثة الكلام تجمّد تصدع القيم في جثث من الكلمات؛ فالأم بيبا وتاراباس نبيّان كاذبان لعالم مجنون. إن لا معقولية العالم هي بداهة حيّة.‏
                  هذه الأشكال الجديدة مقصودة ومدبّرة. إنها ترسّخ عالماً مسرحياً ينقل الواقع ويعطيه مدلولاً، فتحوّلات الشرطي إلى أب أو طبيب، ومسخ الناس إلى كركدنات أو أوزّ، الأشخاص التافهون الكبار أكثر من الحالة الطبيعية،والمملكة التي تتضاءل حتى تصبح حفنة من رمال، والجثة التي تتضخم... هذه الصور كلها لا قيمة لها إلاّ لأنّها ذات مغزى. إنها أمور متفق عليها. بين المؤلف والجمهور. لم تأتِ هذه الاتفاقات دفعة واحدة ومن هنا نشأت المقاومة والعداوة ليونسكو واستمرتا حوالي عشر سنوات.‏
                  لكي تنال هذه الاتفاقات - وهي كل قوانين الفن المسرحي عند يونسكو- القبول اضطر المؤلف لإدخال بعض العلاقات الحقيقية، لكنها لاتحمل أي معنى، وهذه أيضاً اتفاقات بين المؤلف والجمهور(32) . هكذا يقدّم يونسكو عناصر تعيد الجمهور إلى الاستخدامات والعادات والتصرّفات المألوفة: قضاء سهرة عائلية، كيفية طلب الكونياك في كأس كبيرة، أحاديث المتفرجين في المسرح، وفي الوقت نفسه، يقطع القصة بتلميحات مباشرة إلى تمثيل الممثلين أو إلى زمن العرض أوإلى مسؤولي الآلات والاكسسوارات ليؤكد أن مغزى المسرحية ليس في هذه العناصر "الواقعية"، وليؤكد أنه لا يكتب مسرحيات "طبيعية".‏
                  تغيرات ذات مغزى وتأثيرات الواقع: هذا النظام المزدوج من الاتفاقات يحدّد تقنيّة وبنية المسرح. هذا النظام المزدوج يدعم ويكشف رؤية المؤلف للعالم، ولذا فإن الكاتب الأصيل يفكّر بالأشكال والصيغ ويطرحها من جديد على بساط البحث. لا يمكن أن يتمّ تأكيد القيم الجديدة إلاّ بواسطة فن يتمّ اختراعه من جديد، وتكمن عظمة يونسكو في إدراك ذلك وتطبيقه.‏
                  خاتمة:‏
                  من السخرية أن نكتب خاتمة عن يونسكو في اللحظة التي ظهر فيها في المكتبات كتابه الجديد "اكتشافات" وهو تأملات حول "دروب الإبداع" في اللحظة التي تعرض فيها مسرحيته "لعبة القتل" في ألمانيا، هذه المسرحية التي ترسّخ أسلوباً جديداً. على أحسن حال، يمكننا أن نلقي نظرة شاملة على الوضع في مجمله بعد عشرين سنة من الإبداع والصراعات الأدبية.‏
                  أهمية يونسكو ليست في سعيه للبرهنة والإثبات. نتاجه الأدبي يفرض نفسه من خلال المسرحيات، يفرض نفسه من خلال الحضور والنجاح. لقد قُرئِت أعماله ومُثّلت وتُرجمت إلى جميع اللغات؛ يفرض نفسه لأصالته بشكل خاص.‏
                  لقد نجح يونسكو فيما فشل فيه الفريد جارّي وانتونان ارتو. لقد سلب مسرح "البولفار" الثقة والسمعة، بل ربما دمّر ذلك المسرح الذي يمثل تجسيداً متقهقراً للمدرسة الطبيعية. لقد خلق أشكالاً مسرحية جديدة واستخدم تقنيات جديدة في التعبير؛ صوّر عبثية العالم وكشف لا معقوليته. لقد غيّر حساسية الجمهور.‏
                  أنكر البعض أهمية أعماله. قدر المؤلف الطليعي أن يقدّم أقنعة جديدة لايديولوجيات عتيقة. كتب بارت منذ عام 1956 في "المسرح الشعبي": "من المؤسف أن تتبع الطليعة تطوّر البرجوازية الطفيلية المالكة، يخيل لنا اليوم أننا نشهد موتها البطيء [...] سواء أكانت البرجوازية تعيد توظيف استثماراتها في تلك الطليعة، سينتهي بها الأمر إلى حضور الأمسيات الجميلة التي تعرض فيها مسرحيات بيكيت واوديبرتي وغداً ستشهد مسرحيات يونسكو الذي تأقلم مسبقاً مع النقد ذي النزعة الإنسانية"(33) . فهل كان النجاح، والتكريس، والجوائز الأدبية، والدخول إلى الأكاديمية أحداثاً تؤكد صواب رأي بارت؟‏
                  الحديث عن "التعويض" يعني نسيان أن كل صراع -وهذه هي حالة يونسكو مع الجمهور والنقّاد - يُحلّ ديالكتيكياً. فإذا ما أصبح مسرح يونسكو أقلّ عنفاً بعد عام 1956، وإذا ما حُكم عليه أنه أكثر "كلاسيكية" فذلك لأنه رسّخ طريقة جديدة في الرؤية والإحساس؛ فلم يعد ممكناً الآن الكتابة للمسرح دون الأخذ بعين الاعتبار كل ما أوجده يونسكو.‏
                  في الطريق الذي شقّه يونسكو، ستسمح أبحاث في الكتابة والإخراج بالذهاب بعيداً، ستسمح بتعميق رؤية مافوق الواقع وإعطاء التعبير مزيداً من العمق، وإدانة "القسوة" بالمعنى الذي استعمل فيه ارتو هذه الكلمة)، في مسرحه. يونسكو واحد من أولئك الذين "يؤسسون مدرسة".‏
                  يمكننا أن نقول مع ذلك إن بحثه عن الأصالة في "العمق" وإحساسه باللا معقول المثير للقلق، يبقيان مرتبطين بفلسفة وبجماليات تعطي الامتيازات إلى القيم التي يؤمن بها الفرد ولا تهتم بالعلاقات الجدلية التي تنشأ بين الفرد والمجتمع. ليس هناك شرط إنساني فردي، ثابت، غير قابل للعلاج.‏
                  الاستلاب مرتبط بحالة اجتماعية. القلق يرجع حقاً إلى أسباب انطولوجية لكنه يعبّر عن رفض تجربة تتصف بالتقهقر التدريجي للقيم الإنسانية.‏
                  العلاقات بين الفرد والمجتمع علاقات ديناميكية وليست تعسفية فقط. ربما كانت رسالة الفن الدرامي في بيان أن تلك العلاقات قابلة للتغيير..‏
                  "تأسيس مدرسة" يعني أن يكون هناك تلاميذ ومريدين، ويعني أيضاً إثارة المناقشات والخلافات. لقد صرّح يونسكو بذلك إلى كلود بونفوا:"هذه هي فائدة المدرسة: خلق أسلوب لابد من تدميره في المستقبل".‏
                  (1) حوار مع كلود ساروت. لوموند 19 كانون الثاني 1960.‏
                  (2) محاورات مع كلود بونفوا.‏
                  (3) غالباً ماتكون ساعات الجدار منفلتة في مسرح يونسكو.‏
                  (4) typologie : تصنيفية: علم دراسة الأصناف الذي يسهّل تحليل واقع معقّد ويؤدي إلى التصنيف المنهل9).‏
                  (5) يمكن القول مع ذلك، إن علم النفس الذي يهاجمه نيكولا دو قد مات منذ زمن بعيد. إن تحليلات كافكا وجويس وبروست لا تعتمد على نظريات تين أو بول بورجيه!.‏
                  (6) هل يجب أن نطرح من جديد مسألة العلاقات بين الشخصية وخالقها؟ بعد كثير من الكتّاب المسرحيين -والروائيين- أجاب يونسكو سائله أن شخصياته هي هو وليست هو وأنها تعبّر عن إمكانيات للعقل، لم تكتمل وعن رغبات واحتمالات وأحلام وفرضيات. انظر محاوراته مع كلود بونفوا ص 76- ومابعد. ص277).‏
                  (7) اللوغوس:Logos :عقل أول"كائن يفصل بين الخالق والكون في الأفلاطونية الحديثة المنهل)".‏
                  (8) الكركدن 2- الكركدن 3-اميديه.‏
                  - الكركدن‏
                  (9) الكراسي.‏
                  (10) الكراسي.‏
                  (11) قاتل بلا أجر.‏
                  (12) جاك.‏
                  (13) انظر ناتالي ساروت "عصر الشك".‏
                  (14) المغنية الصلعاء.‏
                  - الكركدن.‏
                  (15) قاتل بلا أجر.‏
                  (16) لاحظ التشابه باللفظ بين كلمة عجل Lioeuf) وكلمة بيضة البيض).‏
                  (17) ملاحظات، وملاحظات مضادة.. المقدمة).‏
                  (18) على عكس ذلك، ففي المسرح الكلاسيكي تنضوي الإرشادات المسرحية ضمن الحوار، فلنتذكّر على سبيل المثال بداية "فيدرا" أو "طرطوف"، عند موليير أو الحوار بين رودريك وشيمين عند كورناي.‏
                  (19) مجلة الفنون 1961.‏
                  (20) تجربة المسرح.‏
                  (21) تجربة المسرح.‏
                  (22) خداعية: illusionisme: توليد أحداث تبدو مناقضة للنواميس الطبيعية. المنهل).‏
                  (23) مقال عن الطليعة.‏
                  (24) يميّز يونسكو جيداً بين "التهريج" الذي يقدّم مشاعر سطحية، وبين الغرابة التي تقدّم صورة لعالم آخر. انظرْ حول هذا الموضوع خلافة مع ج-م سيّرو الذي أخرج مسرحية اميديه.راجع سوبرا ص113).‏
                  (25) قال بروتون: "هذا ما كنّا نريد أن نفعله قبل عشرين عاماً".‏
                  (26) نادجا.‏
                  (27) حاضر ماضٍ ماضي حاضر 30 أيلول 1966.‏
                  (28) كان يونسكو في الخامسة والعشرين عندما سيطرت النازية على رومانيا وكان في الثالثة والثلاثين، عندما انتهت الحرب.‏
                  (29) محاورات مع كلود بونفوا.‏
                  (30) عن كتاب "أزهار تارب" لمؤلفه جان بولان في الديوان الذي ظهر بعد وفاته "الحق في أن نحلم". المطبوعات الجامعية الفرنسية. 1970.‏
                  (31) عن كتاب "أزهار في تارب" لمؤلفه جان بولان في الديوان الذي ظهر بعد وفاته "الحق في أن نحلم". المطبوعات الجامعية الفرنسية 1970.‏
                  (32) هناك طرفة توضح هذه المسألة جيداً وقد رواها يونسكو لكلود بونفوا. في الولايات المتحدة، وافق مخرج مسرحية الكركدن على موضوع المسرحية وقبل فكرة تحوّل شعب بأكمله إلىحيوانات سميكة الجلد، لكن شيئاً ماكان يقلقه: قال لي:"اسمعني. سوف أضيف، بعد إذنك طبعاً، جملة في مسرحيتك وإليك السبب. عند بداية الفصل الثالث يذهب بيرانجيه، وهو بطل المسرحية إلى غرفة صديقه جان [....] ستسمح لي إذن أن أضيف جملة عند نهاية الفصل الثاني، إذ أن هذه البداية غير ممكنة [....] هناك جهاز الهاتف في المكتب الذي يعمل فيه بيرانجيه، فيرفع السمّاعة، يدقّ الرقم ويقول: سأطلب صديقي جان لأرى إن كان في غرفته". بالنسبة للمخرج وللجمهور الأمريكي المسخ مقبول لأنّ له دلالة، إنه رمزي أو قياسي وهذا من بين الأمور المتفق عليها في المسرح الغرائبي الخيالي، وبالمقابل، يبدو من غير المقبول أن يذهب المرء إلى عند صديقه دون أن يهتف له مسبقاً، هذا لا يجوز، وليس مألوفاً، فلا يجوز "عرضه" إذن. وهنا نرى جيداً تكاملية هذين النظامين من الاتفاقات.‏
                  (33) صاحب النزعة الإنسانية:humaniste: معتنق المذهب الإنساني، وهي مذهب يعتني بتنمية مناقب الإنسان وفكره بما يمثله من ثقافة أدبية أو علمية.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو


                    فكر نقدي وتجارب في الأسلوب
                    تشكل سنوات 1958-1962 في إبداع يونسكو فترة تأمّل وسنوات أزمة. أسلوب "الكركدنات" ونجاحها، والتخصيص شبه الرسمي لـ "صالة تتلقّى معونة" أدّى إلى "تبديل في التحالفات" بين النقاد. بعض الذين انتقصوا من قيمة أدب يونسكو في الماضي راحوا يهنئونه ويفرحون لنجاحاته مثلما تفرح الأسرة بعودة الابن الضال؛ وبالمقابل فالنقاد الذين ساندوه منذ الساعة الأولى أدانوا مسرحية "الكركدن" باسم "المغنية الصلعاء".‏
                    شهد يونسكو كثرة التفاسير والإنتقادات، وسجّل تناقضاتها، ووضع النقاد وجهاً لوجه مع بعضهم ولم يؤيد أحداً منهم. استرجع يونسكو في محاضرة ألقاها في السوربون، في شهر آذار 1960، ونشرها في كتاب "ملاحظات وملاحظات مضادة" تحت عنوان: "كلام حول كلام الآخرين"، استرجع على مدى سنوات، شروحات "أكاديمي من نزعة إنسانية وانطباعية".زمن الطبيعي أن يكون الناقد الانطباعي أقلّ انسجاماً "من غيره". "فيما يتعلّق بمسرحيتي الأولى "المغنية الصلعاء"، قال ذلك الناقد، منذ سنوات عديدة، وبمناسبة تقديمها، إنها لاتستحق أكثر من هزّ الأكتاف، وفيما بعد، وبعد أن شاهد مسرحية أخرى "الكراسي" على ستديو الشانزيلزيه، كتب أن المسرحية تذكّره بقصة لأناتول فرانس لكن دون خيال ولا إبداع ولا فكر، واختتم مقالته قائلاً إنه لايفهم كيف أن المؤلف الغني بالغرابة والظرف، الذي كتب "المغنية الصلعاء" الناجحة، يقدم على كتابة مثل هذه المسرحية الهزيلة الباهتة".تابع يونسكو محاضرته بعملية "مونتاج" للإنتقادات المتناقضة حول مسرحية الكركدن، وفي تلك المحاضرة نجد كل القريحة التي رأيناها في "مسرحية الما". حدّد يونسكو فنّه المسرحي في مجموعة مقالات: تجربة المسرح 1958) مقال عن الطليعة 1959) المؤلف ومشاكله 1958) كما أجرى مقابلات وألقى محاضرات وكتب مقدّمات... هذا جهد يهدف إلى توضيح الأمور لصاحبها أكثر من كونه طريقة يحدّد المرء فيها موقفه من الآخرين؛ وفي عام 1962 جمع يونسكو هذه المقالات النقدية في كتاب "ملاحظات وملاحظات مضادة"، كما جمع قصصه القصيرة في كتاب "صورة الكولونيل".‏
                    يبدو أن التأمّل دفع يونسكو للعودة إلى المسرح الخالص. كتب اسكتشات مبنيّة على بعض الأساليب أو الآليات التي كانت تخدم المغزى في المسرحيات الناجحة لكنها هنا للمتعة فقط.‏
                    في اسكتش "مشهد رباعي" الذي كُتب عام 1956 وقُدّم في السنة نفسها في مهرجان سبوليت، يتنافس ثلاثة رجال: ديبون، دوران، مارتان للفوز بامرأة.. يطلبون منها أن تختار وينتهي المشهد بعراك شامل تفقد السيدة خلاله قبعتها ومحفظتها وثيابها وذراعيها ونهديها وإحدى ساقيها...‏
                    إن اسكتش "تعلّم المشي" عام 1960 ، هو الأساس لباليه للإبهار. تحاول ممرضة أن تعلم شاباً مشلولاً المشي خطوة خطوة ثم يتحوّل البطلان إلى راقصين. أثناء الحركات الباهرة يرتفع الشاب عن الأرض ويرتقي سلماً من نور. قدّمت هذه البالية فرقة فرانسواز ودومينيك على رقصات من تصميم ديريك مندل وموسيقى ايفان ماليك.‏
                    *أما الغضب 1961) فهو سيناريو فيلم يعالج فكرة العنف. اللقطات الأولى -وهي سلسلة من المشاهد المؤثرة- تعرض جميع أشكال الطيبة البناءة والانسجام الكوني، لكن ذبابة تسقط في صحن حساء تسبب شجاراً عائلياً، وشجارات عائلية، وحريقاً، وعصياناً، وثورة وحروباً. آنذاك تعلن "مذيعة التلفزيون الساحرة" بابتسامة حلوة: "سيداتي، سادتي، بعد عدة لحظات ستحلّ نهاية العالم" وتكون الصورة الأخيرة صورة "فطر" ذرّي.‏
                    أما "تخريف ثنائي" التي نشرت في آذار 1962 وعُرضت في نيسان على مسرح ستديو الشانزيليزيه ولعب الدورين الأساسيين فيها انطوان بورمي وتسيلا شيلتون فإنها خصام عائلي حول تماثل أو عدم تماثل السلحفاة والحلزون؛ وهل من المناسب فتح النافذة أم إغلاقها، الخروج من البيت أم البقاء فيه... الخلفية الصوتية لهذا الخصام أصوات صدى مضخّمة لضوضاء تمّرد، وهدير رشاشات وانفجار قنابل، وصراخ جرحى، وحشرجة قتلى. أخيراً تنزل، من السقف الذي خرقته القنابل، وعلى أطراف حبال، أجساد بلا رؤوس ورؤوس بلا أجساد لمساجين نُفّذ فيهم حكم الإعدام.‏
                    "الثغرة" وهي مسرحية كتبت عام 1962 وقدّمها المركز المسرحي في الجنوب الغربي عام 1965، ثم أعيد تقديمها في السنة التالية على مسرح تياتر دوفرانس. عند رفع الستارة نرى امرأة باكية في ثياب النوم تستقبل صديقاً يرتدي ملابس سوداء:‏
                    - المرأة: هيّا يا صديقي العزيز، أخبرني بسرعة.‏
                    - الصديق: لاأدري كيف أعلن لك ذلك .‏
                    - المرأة : لقد فهمت.‏
                    - الصديق: كنت أعرف النبأ منذ مساء البارحة، لم أرغب أن أخبرك بالهاتف لكنني لم أستطع الانتظار أكثر، اعذريني لأنني جعلتك تغادرين سريرك لأخبرك مثل هذا النبأ.‏
                    - المرأة: لم يستطع التخلّص من ورطته! يا للمصيبة! حتى اللحظة الأخيرة كنا نتعلّق بالأمل.‏
                    "السيد" -وهو مدرّس في الجامعة، دكتور بمرتبة الشرف من جامعة امستردام، ومن الكليّات السريّة لدوقية اللكسمبورغ العظمى، رئيس لجنة التحكيم التي تعطي شهادة الاستاذية، حائز على جائزة نوبل ثلاث مرات، الأكاديمي... "السيد" رسب منذ فترة قصيرة في شهادة الدراسة الثانوية(1) .‏
                    اغتاظ "السيد" جداً وقرر أن يطلب إلغاء الإمتحان، يخابر رئيس الدولة وهو من رفاقه.‏
                    - الاكاديمي: [...] آلو! الرئاسة... الرئاسة... صباح الخير ياآنسة، أريد أن أتحدث مع الرئيس. معه شخصياً... معه بالذات... آلو! جول؟ هذا أنا... كيف؟...كيف؟ لكن ما هذا الكلام ياصديقي العزيز... لكن، اسمعني... آلو...‏
                    - الزوجة: أهذا هو؟‏
                    - الاكاديمي: للزوجة) اخرسي في الهاتف) أنت تمزح ياصديقي العزيز... أنت لا تمزح؟... يضع السماعة).‏
                    - الصديق: ماذا قال؟‏
                    - الاكاديمي: قال... قال.. لا أريد أن أتحدث معك بعد الآن. لقد منعتني أمي من مخالطة المتخلفين في الصف، ثم سكّر الخط؟‏
                    أخيراً، في هذه الفترة نشرت "البيضة المسلوقة" في آذار 1963 ضمن دفاتر -نيو- بارّو. كتب يونسكو عنها نصيّن : الأول عبارة عن سيناريو على طريقة الأفلام الدعائية والآخر مونولوج قصير هو المحصّلة‏
                    الساخرة لتحضير بيضة مسلوقة(2) .‏
                    لكن عام 1962 هو عام مسرحيتي "الماشي في الهواء" و "الملك يموت".‏
                    "الماشي في الهواء"‏
                    تعرض مسرحية "الماشي في الهواء" التي كُتبت صيف 1962، بيرانجيه على المسرح من جديد. لقد صار بيرانجيه كاتباً مسرحياً، له زوجة ، جوزفين، وابنة، مارتا، وهو ذاته اسمه هريير، أما بيرانجيه فهو لقبه، تجري الأحداث في انكلترا، انكلترا "نموذجيه" حقيقية أكثر مما هي طبيعية، في مقاطعة جلوسستر، ذات يوم أحد.‏
                    يصوّر الديكور بيتاً ريفياً جميلاً وسط مرج يشرف على الوادي. يتنزّه الانكليز في مجموعات عائلية. لقد هرب بيرانجيه من فرنسا وجاء ليستريح وربما ليكتب(3) . يصل صحفي فيعترف له بيرانجيه بيأسه: يشعر أنه غير قادر على الكتابة ولم يعد يعرف إلى أين ينتهي الأدب، فكل ما يمكن أن يقال قد قيل ومع ذلك في الشيء الأساسي لم يُقل بعد.‏
                    يلي ذلك مشهد من عالم الأحلام إذ ترى جوزفين والدها الذي قُتل في الحرب يعود إلى الحياة من جديد، وتدرك أن الموت خسارة لا تعّوض.‏
                    ترمي إحدى الطائرات الألمانية المتخلّفة عن الحرب الأخيرة قنابلها وتدّمر البيت الريفي الجميل. يخرج بيرانجيه سليماً من بين الأنقاض ليسمع جوزفين تؤنبه على اهماله وكسله: "كان بامكانك أن تشتري بيتاً أكثر متانة بدلاً من هذا الكوخ الكرتوني الذي انهار عند أول قذيفة [...] لم تكن تنتظر حجّة أفضل لتنقطع عن الكتابة". تتحدث جوزفين بعد ذلك عن الحلم الذي يقض مضجعها فيشرح لها بيرانجيه قيمة الأحلام والمنعطفات السريّة الحسيّة التي تتكشف فيها. "لو كنا نعيش دائماً في حالة الوعي الثاقب الذي نكون فيه في الحلم لما استطعنا الإستمرار في الحياة".‏
                    ثم تُبعث الحياة في المشهد والديكور فها هو بيرانجيه وجوزفين ومارتا يتنزهون ويتأملون المنظر الجميل: السماء الزرقاء، النور، النهر الفضي، الذي تمخره الزوارق الصغيرة، التلفريك الأحمر المنساب على حبله...‏
                    أما مجموعات الإنكليز فإنها تتحدث عن الحياة اليومية وعن بؤسها. تولّف نتف الأحاديث المتناثرة فلسفة في الحياة والموت وتمزج الحنين مع الحسرات، يهيمن على ذلك كله حكمة تدعو إلى الخضوع والإستسلام.‏
                    أثناء هذا المشهد يظهر مرات عديدة "القادم من ما وراء العالم Antimonde .يشرح بيرانجيه أن ذلك القادم يعيش في الناحية الأخرى من ذلك الجدار اللامرئي المعتم الذي يجتازه المرء دون أن يدرك ذلك.‏
                    لا تؤمن جوزفين، وهي المتشككة المرتابة، بالظواهر الخارقة: "هؤلاء القادمون ماهم سوى صور أوجدتها تخيّلات الرياح" لكن يظهر فجأة الجسر الفضي الذي يربط بين طرفي الهاوية، مكللاً بالنور وسط منظر يزهو بالبهاء.‏
                    في غمرة الفرح، يكتشف بيرانجيه من جديد قوى منسيّة. أمّا وقد انتشى باليقين، ها هو يتوهج ويرتفع فوق الأرض وسط دهشة المتنزهين. انبهرت مارتا ومعها الولد الإنكليزي الصغير، اغتاظت جوزفين وخافت الفضيحة، أمّا جون بول فقد رأي في الحادثة خطراً على صناعة الطائرات، بينما يؤكد بيرانجيه أن من الطبيعي أن يطير الإنسان عندما يكون سعيداً، أما شقاء الإنسان فهو في نسيان هذه القوّة:‏
                    - بيرانجيه: ماذا سيقول الناس إذا نسي المرء السباحة والمشي والوقوف والجلوس؟‏
                    - جون بول: الجلوس يكفي لتحقيق سعادتي، أحب الوقوف أيضاً، أو النوم منبطحاً لا يغطّيني سوى إليتي.‏
                    فجأة يدق بيرانجيه كعبه بالأرض ثم يطير ويختفي.‏
                    يُظلم المنظر وتخترقه بروق دامية. تشعر جوزفين، وقد بقيت وحيدة بالخوف، وتفترسها الكوابيس.‏
                    ثم يستعيد الديكور إضاءته المألوفة، ويعود بيرانجيه، مرهقاً، لا يسمع التصفيق الذي قوبل به، ولا يتناول الأزهار التي تقدّمها له بنت صغيرة؛ فنظراته لا زالت تعبّر عن صور الرعب التي رآها في "ماوراء العالم"؛ وعلى سؤال "ماذا رأيت ياسيدي في الناحية الأخرى؟.. ماذا شاهدت؟ "يجيب: " رأيت... رأيت أوزات... وزات الأم بيبا، دون شك). يصف أرتال المحكومين بالإعدام على المقصلة، والجنادب العملاقة، ورؤساء الملائكة المخلوعين، والمعذبين... إنه يوم القيامة، لكن المستمعين يجدونه خالياً من أية أصالة وينصرفون واحداً بعد آخر ولا يبقى سوى جوزفين ومارتا، ويتابع بيرانجيه رؤاه، يصف، يروي، بينما تهدر موسيقى جوّالة "مفرحة بشكل حزين"، وتقرقع المتفجرات "كأنه الرابع عشر من تموز في انكلترا، "هاويات لا قرار لها، إلقاء القنابل، إلقاء القنابل وهاويات بلا قرار تنفتح على سهول قاحلة، مُدَّمرة منذ زمن بعيد [...] ثم، يأتي الجليد بعد النار اللانهائية، وتأتي النار بعد الجليد، صحارى من الجليد، صحارى من النار تهجم على بعضها وتأتي نحونا... تأتي نحونا".‏
                    الحلــــــم محـــرّك درامـــي‏
                    تتألف المسرحية من فصل واحد، إذن لا انقطاع في سير الحركة، ومن ناحية أخرى تلتزم بدقّة بالقصة القصيرة التي استخدمت أساساً لها، وهي عبارة عن سلسلة متتابعة من صور الأحلام. لكي يخلق يونسكو تطوراً درامياً إنطلاقاً من فكرة غير مسرحية يجري مقابلات بين الحياة والحلم، بل بين مختلف أشكال الأحلام.‏
                    تنطلق مسرحية "الماشي في الهواء" من حلم فيه صمود وارتقاء وقد أشار يونسكو لكلود بونغوا(4) أنه مارس حلم الصعود والطيران كنوع من التخيّل ووسيلة للتحرر العاطفي الشعوري.‏
                    يعبّر هذا الحلم، في رأي يونسكو، عن الحبور المادي والتوازن بين الجسد والروح وانسجام الكائن مع العالم. إنه يتوافق مع مشاعر وأحاسيس واضحة: "تمتليء رئتاي بهواء أخفّ من الهواء العادي.‏
                    تتصاعد الأبخرة إلى رأسي، ياللفرح الالهي... [...] أنا ثمل من اليقين!". من الغبطة ومن تجربة الفرح.‏
                    حلم الصعود الطيران ثم السقوط) يرسم منحنى الحركة الدرامية لكن مجموعة من الصور النهارية والليلية تغني هذه الفكرة الأساسية، فالأحاديث بين الناس تبيّن بؤس المسرات وتؤكد الخيبة في الحياة، كذلك أن كوابيس جوزفين وبيرانجيه تميط اللثام عن عالم الجريمة والألم، وما بين هاتين النظرتين للواقع، تنشأ حالات متشابهة.‏
                    شــــــــعر وســـــخرية‏
                    يعتمد إيقاع المسرحية على تنوّع الحوارات، كما أن التبدّل في الأسلوب يؤدي إلى تبدّل في اللهجة من شخص لآخر ومن مشهد إلى مشهد. جون بول سوقي، فظ، والمتنزهون الانكليز لا يكفّون عن الثرثرة، على نقيض ذلك تكثر الصور في اللغة عندما يصف بيرانجيه صور اندهاشه أو رعبه؛ أو عندما تتحدث جوزفين عن الوحدة والموت، إنها شاعرية النور أو العشوائية التي تضاعف معاني الاستعارات.‏
                    غالباً ما تكون التصريحات مباشرة جداً بحيث أن يونسكو يبحث في السخرية عن قناع يستر حياءه، كأن يسخر المتنزهون الانكليز من بيرانجيه، أو أن تتوقف القصة الخيالية ويتطرّق الحوار إلى الواقع الحقيقي. وأن يشدّ الولد الغيور جدائل البنت الصغيرة التي تغني وتزغرد فتبقى باروكة بين يديه: "نعم، فابنتنا الصغيرة هي المغنية الصلعاء الصغيرة" كما تقول الأم. أمّا بخصوص الصور، يخاطب الممثل الحاضرين في الصالة: "أسود كالثلج في لندن..." وعندما يتحدث بيرانجيه عن "المحاسبة المتعددة العوالم" أو عندما يفسّر ظهور واختفاء الأشياء فإنه يقول أمام شجرة أودغل: "هيّا، أنتما الإثنان، هناك خطأ في الحساب... لقد أخطأ المحاسب... أو المسؤول عن الإكسسوار!"‏
                    مسرحية تحتاج إلى آلة‏
                    مسرحية "الماشي في الهواء"، إضافة إلى التلاعب باللغة، تحتاج إلى آلة وتكنولوجيا، فطيران بيرانجيه أكثر تعقيداً من طيران اميديه، إضافة إلى أنه يتطلّب من الممثل موهبة كبيرة في الإيماء(5) . لا يتمّ الحصول على جوّ الأحلام من خلال قماش التول الفضفاض أو عن طريق ظهور الخيالات والأشباح، بل عن طريق حضور واضح وتقديم الأحداث الخارقة بشكل واضح جلي. لقد ألحّ يونسكو على فكرة أن الأحلام غالباً ما تكون "واقعية" أما في رؤى الكوابيس فإن الشخصيات تبدّل سحنتها وتغدو غريبة بشعة.‏
                    أخيراً، تلعب الإضاءة دوراً هامّاً. شلال النور المتساقط على الجسر الفضي، وتدرّج اللون الرمادي، والظلمة التي تخترقها البروق، والحرائق، تترجم حالات شعورية لدى الشخصيات، إنها تعبّر عن الفرح والحزن والقلق.‏
                    العالم ما وراء العالم.‏
                    "يجب أن لا يكون لدينا سوى فكرة واحدة، وهدف واحد: تحقيق بهجة الآخر" كما كتب يونسكو في "يوميات في فتات". مشكلة العلاقات مع الآخرين هي الموضوع الأساسي في مسرحية "الماشي في الهواء". يحلم بيرانجيه بعالم من اللطف والرقة لا يكون الموت فيه شرّاً. يقول ذلك إلى مارتا التي قدّمت الأزهار إليه: "لا أقاوم الحركات الرقيقة اللطيفة.‏
                    آه! لو كان كل الناس مثلك! سيعيش الإنسان في عالم من النعومة، وستغدو الحياة ممكنة، وبمقدور المرء مواجهة الموت بهدوء، دون ألم..."‏
                    تجسّد مارتا الحب والثقة. إنها معجبة بأبيها إعجاباً لا حدود له(6) . أمّا جوزفين الغيورة نوعاً ما، فقد لفتت نظر البنت لذلك: "ليس لأنه والدك مفروض عليك أن تقبلي كل ما يقول دون تفكير!"‏
                    جوزفين شخصية معقّدة، يذكّرنا عنفها وحدّتها بمادلين في "ضحايا الواجب" ، أو "اميديه". توبّخ بيرانجيه في كل مناسبة، لكنها في الحقيقة تحبه، تحب لطفه وظرفه، و "حماقاته": "على كل حال، من الأفضل أن يمزح، وعندما لا يتفوّه إلاّ بالحماقات فذلك يعني أنه حزين". هذه الرقة الخرقاء تكشف ارتباط جوزفين ببيرانجيه وحاجتها الماسّة في أن تكون محبوبة، آمنة، كما أن تلك الرقة تفضح خوفها من أن تُهجر، وحبها للسيطرة الذي سرعان ما يبلغ حدّ الحيرة واليأس.‏
                    تعكس المشاعر المعقّدة لدى بيرانجيه وجوزفين ومارتا العلاقات العائلية فيما بينهم، أمّا الشخصيات الأخرى فإنها تطرح مسألة العلاقات الاجتماعية.. تنقلنا الحركة في المسرحية من رسم عالم نهاري إلى رسم عالم الأحلام ثم إلى صورة ما وراء العالم. العالم الأول ليس سوى الظاهر، والآخران هما الحقيقة. المتنزهون المطمئنون هم بشر برأس أوزة، وهم طوابير المحكومين بالإعدام، المشاعر الحقيقية هي المشاعر التي تعبّر عنها شخصيات الكوابيس: يعلن الصحفي أن الصداقة ما هي سوى "القناع لضعفنا، وللكراهية المكبوتة الخجولة". جون بول مسلّح بسوط أو بندقية آلية...‏
                    ما وراء العالم ما هو سوى العالم الذي نعيش فيه، نحن مهددّون بطغيان "الخنازير والقرود" ، بالمقصلة والسكاكين. لهذه الصور، في رأي يونسكو، دلالات واضحة جداً، إنها تبيّن "ببساطة ما يجري في نصف الكون، وأن النصف الآخر لا يريد أن يرى بسبب التعمية واللامبالاة والمواقف المسبقة: هنالك عشرات الملايين من الناس مهانون، أذلاء، والرعب يقيم في نفوسهم، وهنالك الطغيان، والسلطات التي صارت مجنونة، وباختصار، ثمة نهاية للعالم تحدث كل يوم..."(7) .‏
                    تفضح مسرحية "الماشي في الهواء" من جديد، وبعدما رأيناه في "قاتل بلا أجر" و "الكركدن" ايديولوجيات العنف والدكتاتوريات. لكن "نبوءة الشقاء" (8) لم تُسمع. يقول بيرانجيه: "لا يصدّقني أحد، كنت أعرف حق المعرفة أنه لن يصدقني أحد[...] حتى لو كانوا صدقوني، حتى لو كانوا صدقوني..." ويقول يونسكو(9) : "لم يفهم النقاد الباريسيون، باستثناء البعض أمثال كانتر، لومارشان، غوتييه، شيئاً من هذه القصة رغم بساطتها العظيمة".‏
                    يجب الاحتراس من إرجاع مغزى المسرحية إلى الرغبة في الجدل والمناظرة فالملاحظة التي أبداها يونسكو يجب أن لا تؤخذ حرفياً؛ وإن العلاقات بين العالم و "ماوراء العالم" معقّدة جداً كما قلنا من قبل.‏
                    أدب:‏
                    "الماشي في الهواء" هي أيضاً مسرحية عن الأدب. يحدّد يونسكو فيها أن للإبداع معارضة دائمة. لا يستطيع الكاتب قبول العالم كما هو، وكما يسير، لا يستطيع قبول النظام القائم ولا قبول "معنى التاريخ". انتصار أية ايديولوجية يبرز ثغراتها، والجرأة الفكرية تكمن في الجهد المبذول لإعادة طرح قضية العالم وقضية الذات: "هل سأستطيع تجديد نفسي؟ مبدئياً نعم، مبدئياً نعم، إذ أنني لا أوافق على سير الأحداث".‏
                    لهذا السبب ليس للكاتب رسالة واضحة محدّدة، كما يقول بيرانجيه، إذ أن إيصال الرسالة يعني تكريس الوضع الراهن وإدانة الماضي والتهليل للحاضر، وهذه امتثالية تتقيد بالأعراف المقررة "فالمقاهي وإدارات التحرير تعج بمتأدبين متنورين أوجدوا حلولاً لكل مسألة.‏
                    إنهم يتبعون الموضة الدارجة. لا شيء أسهل من الرسالة الاوتوماتيكية..."‏
                    لايعرف الكاتب مسبقاً ماذا سيكشف: "آمل أن يكون ما وراء رسالتي الظاهرة شيء آخر، شيء لا أعرفه بعد، لكن ربما سينكشف... من تلقاء نفسه... في الخيال..."‏
                    الأدب إذن هو عدم رضى- "الحقيقة موجودة في نوع من العصاب" واستقصاء فيما وراء الظواهر. يتساءل بيرانجيه: "ما العمل لكي يكون الأدب استقصاء نافعاً؟" تجيب المسرحية إذ تضع البحث على مستوى الحلم وفوق الواقع. مرّة أخرى أيضاً يوحّد يونسكو في فنه ما بين النظرية والتطبيق.‏
                    " الملك يموت "‏
                    يبيّن كتاب "يوميات في فتات" مدى الإغراء الذي يمارسه الموت على يونسكو. ربما لم يكن الاشمئزاز سوى الوجه الآخر للافتتان. كان يونسكو قد كتب من قبل في مقالته عريان في عام 1934 nu en1934) كان آنذاك في الثانية والعشرين "إنني أخاف الموت. أخاف أن أموت ذلك لأنني أرغب، ولا شك، في الموت دون أن أدري. أنا خائف إذن من رغبتي في الموت". هل كتب يونسكو مسرحية "الملك يموت" في شهري تشرين الأول والثاني عام 1962 ليتخلّص من هذا الخوف؟ كتبت المسرحية بسرعة: "كتبتُ مسرحية "الملك يموت" خلال عشرين يوماً. كتبت أولاً خلال عشرة أيام متواصلة.‏
                    مرضتُ آنذاك وأصابني رعب هائل، وبعد عشرة أيام أخرى عاودني المرض ودام خمسة عشر يوماً. عدت إلى الكتابة، وخلال الأيام العشرة التالية أنجزت المسرحية" (10) . عُرضت المسرحية على مسرح الأليانس فرانسيز في 15 كانون الأول 1962 من إخراج جاك موكلير.‏
                    يبيّن الديكور صالة العرش "شبه مهدّمة، شبه غوطية". يعلن حارس يرتدي درعاً ويحمل حربة دخول الشخصيات: صاحب الجلالة الملك بيرانجيه الأول، صاحبة الجلالة الملكة مرغريت زوجة الملك الأولى، صاحبة الجلالة الملكة ماري زوجة الملك الثانية "الأولى في قلبه"، جولييت مديرة القصر وممرضة أصحاب الجلالة، وأخيراً العالم الكبير طبيب الملك الجرّاح عالم البكتريا الجلاّد العالم الفلكي في البلاط الملكي.‏
                    كل شيء يتداعى في مملكة بيرانجيه الأول. الأراضي تبور، الجبال تميد، الشمس تشرق متأخرة، أرض الوطن تتقلّص وتخلو من السكان: لم يبق فيها سوى ألف مواطن من العجزة. في قصر الملك جهاز التدفئة معطّل، والبقرة جف ضرعها، الغبار وخيوط العنكبوت تغزو المكان، وعلى الجدار ظهر "شرخ لا يرجى ترميمه" هذه العلامات لاتخدع، بيرانجيه الأول يجب أن يموت.‏
                    يظهر الملك، التاج مائل على رأسه، حافي القدمين، يئن من وجع الروماتيزم لكن لا يدرك حقيقة الموقف، لكي يشغل نفسه يقرّر الاهتمام بشؤون القصر والمملكة، لكن المهندس المعماري الرسمي توارى عن الأنظار، والوزراء انطلقوا إلى الصيد ليطعموا الشعب، ومدرسة الصنائع انهارت في هاوية. لم يعد الحارس يطيع إلاّ مرغريت، ماري فقدت صوابها. لقد قدّم الملك الدليل على عجزه فالزمن لا يعود أدراجه. علامات أخرى تنذره: لقد خارت قواه، وراح يترنّح في مشيته، و تاجه يتدحرج على الأرض، وصولجانه يسقط من يده... آنذاك يتمّرد ويثور، يعلن خوفه من الموت يبحث عن حجج وأعذار.‏
                    - الملك: مثلي مثل طالب يتقدّم للإمتحان دون أن ينجز وظائفه، دون أن يحضّر درسه...‏
                    - مرغريت: لا تقلق‏
                    - الملك: ... مثل ممثل لم يحفظ دوره عشية العرض الأول، فينسى وينسى وينسى. مثل خطيب يُدفع إلى المنصّة دفعاً ولا يعرف الكلمة الأولى من خطابه، ولا يعرف إلى من يتوجّه بالكلام، إنني لا أعرف هذا الجمهور ولا أريد معرفته، وليس عندي ما أقوله له. ياللحالة التي أنا فيها!‏
                    - الحارسمعلناً): الملك يلمّح إلى حالته!...‏
                    - مرغريت: ياللجهل!‏
                    - جولييت: إنه يودّ أن يتسكّع ويتنزّه خلال عدة قرون بدلاً من أن يذهب إلى المدرسة.‏
                    - الملك: كم أحب الإعادة.‏
                    - مرغريت: ستنجح في الامتحان، ليس هناك من يعيدون السنة.‏
                    يرفض الملك أن يموت ميتة كريمة فيطلب العون من شعبه، يئن، يبكي، يتظاهر أنه يعاني من كوابيس لكن جبنه يسيطر عليه. استبدل عرشه بكرسي المشلولين؛ وتاجه وصولجانه بسخّاتة صغيرة وغطاء، كان بوده أن يكون رضيعاً، طفلاً لكنه ليس مخادعاً: "يا للحسرة. لايمكن للمرء أن يغش!"‏
                    يمر بيرانجيه في آخر لحظات التمرد ثم يستسلم.. يتحدث عن الحياة كأنها ذكرى، يستمع إلى شكاوى الخادمة التي أثارت اهتمامه للمرة الأولى لأنه لم يعد ملكاً.‏
                    - الملك: حدثيني عن حياتك، كيف تعيشين؟‏
                    - جولييت: أعيش عيشة بائسة يا صاحب الجلالة.‏
                    - الملك: لا يمكن للمرء أن يعيش عيشة بائسة. هذا تناقض.‏
                    - جولييت: ليست الحياة جميلة.‏
                    - الملك: إنها الحياة.‏
                    جولييت والحارس يرويان ماضي الملك: لقد سرق النار من الآلهة، واخترع أول طائرة، واكتشف امريكا، ووضع مخططات برج ايفل، أخمد وأشعل البراكين، أوجد المحيطات، كتب الإلياذة والأوديسّة، شكسبير كان هو، كان يتمتع بجميع المزايا، والعيوب. تاريخه هو تاريخ البشرية، هو تاريخ الأرض، إنه إنسان، إنه إله: "إنه الملك".‏
                    شعور أخير يسيطر على بيرانجيه هو كراهية مرغريت، ثم يتداعى كل شيء ويزول. القصر يتهدم.. بيرانجيه لم يعد يتعرّف على المحيطين به، لم يعد يرى ولا يسمع ولا يحسّ. يتلاشى القصر، وتختفي ماري والحارس وجولييت والطبيب. يبقى بيرانجيه وحيداً مع مرغريت "الملكة التي تفعل كل شيء".‏
                    من الآن فصاعداً ستقود مرغريت بيرانجيه عبر المكان اللامتناهي. تحلّ خيوط الحياة المتشابكة، تفكّ آخر العُقد، تكتم الضجيج، تخنق الصدى الأصمّ الصادر عن ا لأحلام، تفتح قبضته المضمومة التي ما تزال تقبض على قليل من تراب، على مملكته كلها.. تقوده إلى عرش الأبدية والعدم؛ ثم تختفي. ملاك الموت ينجز عمله: "اصعدْ، اصعد، أعلى، أعلى أيضاً، اصعد، أعلى أيضاً، أعلى، أعلى... استدرْ نحوي، انظرْ إليّ، انظر من خلالي، انظر إلى هذه المرآة الخالية من أية صورة؛ ابقَ منتصباً... اعطني ساقيك، ساقك اليمنى، ساقك اليسرى... ناولني إصبعاً؛ ناولني إصبعين... ثلاثة... أربعة... خمسة... الأصابع العشرة. دعْ لي الذراع الأيمن، الذراع الأيسر، الصدر، الكتفين، البطن... كما ترى، لم تعد قادراً على الكلام وقلبك ما عاد بحاجة إلى الخفقان ولا داعي لأن تتنفس إنها حركة لا جدوى منها أبداً، أليس كذلك؟ تستطيع أن تحتل مكاناً".‏
                    فكـــرة ملحاحــــة‏
                    فكرة الموت فكرة متكررة باستمرار في مسرح يونسكو: القتل الذي يختم مسرحية "الدرس" وأحلام شوبير، والجثة في مسرحية "إميديه" والقتل المتكرر في مسرحية "قاتل بلا أجر". الكلمة الأخيرة التي يقولها بيرانجيه للصحفي في مسرحية "الماشي في الهواء": "أريد أن أشفى من الموت" لكن في مسرحية "الملك يموت" هذه الفكرة هي المسرحية كلها، المقصود هو الموت في شموليته، يقول يونسكو: "هذه المسرحية محاولة في تعلّم الموت"(11) .‏
                    ملك يموت. لقد فكّر يونسكو، ولا ريب، باولئك الملوك المخلوعين الذين يعيشون في ذاكرته: الملك لير، الملك ريتشارد الثاني. إن مصيرالملك يروي تاريخ البشر: "عندما مات ريتشارد الثاني، كان ذلك يعني موت كلّ عزيز عندي، بل أنا من مات مع ريتشارد الثاني. لقد جعلني أدرك جيداً الحقيقة الأزلية التي ننساها عبر الحكايات والتواريخ، تلك الحقيقة التي لا نفكر بها، الحقيقة البسيطة، المألوفة جداً، أنا أموت، أنت تموت، هو يموت"(12) . الملك لير أو الملك ريتشارد الثاني هما كلّ واحد منا، وكذلك بيرانجيه الأول. إن كان اختيار شخصية الملك نتيجة بحث جمالي، إلاّ أن له قيمة رمزية أيضاً. الأبهة الملكية، ديكور القرون الوسطى، لهما، بالتأكيد، طابع شعري راسخ، ويتمّ التذكير بـ "الدرس الرهيب" الذي يقدّمه موت الملوك إلى جميع الناس في كلّ الأزمان. كل إنسان يمتلك، عند ولادته العالم والمكان والزمان: الإنسان هو ملك. عندما يصل إلى عتبة الموت، ويفقد كل شيء يصبح ملكاً مخلوعاً.‏
                    من خلال الموضوع الذي تعالجه يتّضح أن مسرحية "الملك يموت"، هي بلا ريب، المسرحية الكلاسيكية الأولى ليونسكو. كتب جان جاك غوتييه بمناسبة عرضها: "نعم، إنني أعلن وأكرر: إنها مسرحية إنسانية، غنية، جيّدة البناء، والتأليف، تمتاز بشاعرية كبيرة.. إنها مسرحية موجعة ومضحكة أيضاً، إنها مأساة ملهاة على الطريقة الشكسبيرية"(13) .‏
                    شـــــــعائر المـــــوت‏
                    تصف المسرحية فترة الإحتضار أو بالأصحّ مراحل التنازل والاستسلام إذ أن الاحتضار هو معركة ضد الموت، أما في المسرحية فليس هناك من صراع بل قبول بالقدر. يجب أن يموت بيرانجيه، وعلامات الموت لاتخدع. موته، إذن، ليس مأساوياً؛ لكنه محزن. موت الملك تمثيلية جميع مراحلها معروفة مسبقاً وتلتزم بالزمن المحدد: "هذا التراجع وهذا اللفّ والدوران... كان ذلك متوقعاً، وهو جزء من البرنامج" كما قالت مرغريت.. كانت المسرحية تحمل في الأصل عنوان "الاحتفال" أو "الشعائر".‏
                    لا تنقسم المسرحية إلى فصول بل هي حركة متطورة متناغمة مع المراحل المتتالية من القلق إلى التمرّد إلى الخضوع. تستغرق هذه "الشعائر" ساعتين، ولكي يؤكد هذه الاستمرارية فإن روبير بوستيك الذي قدّم المسرحية في بروكسل تخيّل استراحة غير متوقعة: تأبط الحارس حربته وأوقف الممثلين وهم يؤدون أدوارهم. اجتاز المنصّة وأعلن للجمهور: "سيداتي، سادتي، استراحة ربع ساعة" وبعد الاستراحة، ارتفعت الستارة عن الممثلين وهم جامدون في مواقفهم وحركاتهم التي كان الحارس قد أوقفهم فيها.‏
                    يشكّل هذا التطوّر قضية سيكولوجية دقيقة. قبل وصول الملك، كانت الشخصيات الأخرى تحدّد علامات الموت وتستعدّ لتأدية "الشعائر" .‏
                    كان بيرانجيه في البداية أعمى وأصمّ. إنه يتهكّم، ثم ترافقت عودة الوعي بالغضب والتمرّد، ثم صار اليأس المرحلة الأولى من الإذعان، ويشير الحنين إلى بدء مرحلة الصفاء والصحوة: آنذاك صار الحديث عن الحياة بصيغة الماضي، وأخيراً حلّ النسيان، والدخول إلى عالم الموت.‏
                    صوّر يونسكو الإحساس بالموت من خلال انقلاب حادّ في المنظور ولم يصوّر مشهد الموت؛ فهو لم يقدّم لنا الملك الذي ينهار بل العالم الذي يختفي. لقد تلاشى كل شيء عندما انطفأ الإحساس عند بيرانجيه: "أما زال يتنفس؟ سألت مرغريت: نعم ياصاحبة الجلالة، أجابت جولييت، إنه مازال يتنفس، بما أننا هنا". موت الإنسان، هو قبل كل شيء موت العالم بالنسبة للإنسان.‏
                    الشخصيات: مملكة.‏
                    يفسّر بناء المسرحية الشخصيات إذ أن لها قيمة مزدوجة: قيمة الفكرة وقيمة الوظيفة.‏
                    تمثّل الشخصيات العالم: إنهم مملكة بيرانجيه، كما أنهم حياته الصميمية أيضاً، يصوّر الحارس الحفلات الرسمية في البلاط الملكي، كما أنه المتحدث الرسمي الذي يثير الضحك، وهو أداة السلطة، يعلن الحرب عند الحاجة. جولييت هي ربّة البيت وسيدة البلاط والممرضة، وفي نهاية المسرحية تصبح جوقة الناس البسطاء، تجسّد حكمة الخضوع والاستسلام. "تنازل إذن، بما أن الواجب يحتم ذلك" والوفاء الحزين للملك العجوز، الطبيب - الجلاد- الفلكي يجسّد الغرور والخداع والوقاحة والتعطش للأمجاد. إنه أقوى من الملك لأنه يتمتع بالقوة السحرية دون أن تقع عليه أية مسؤولية.‏
                    تمثّل الملكتان حياة الملك الخاصة، فماري تجسّد الحب كله، وسحر الحياة، والفرح الذي لا يفكّر في البعيد، وفشل الأوهام؛ أما مرغريت فهي الحكمة والعقل والنظام: زوجة شرعية وأم قاسية، مكروهة بصمت، وصية تفرض عليه على الملك، واجبه، وعلى العموم تصّور الملكتان وجهي الحياة الإنسانية: الضرورات الاجتماعية و "الحب المجنون".‏
                    إضافة إلى هذه القيمة الفكرية فإن للشخصيات مهمّة تؤديها ألا وهي دورها في تنفيذ تلك "الشعائر". عليها أن تعلّم الملك، أن تقوده، أن تساعده. إنها موقف أمام الموت، أمّا بيرانجيه فيرى فيها "الآخرون"؛ أولئك الذين لا يموتون. الحارس مشاهد لا مبال. جولييت بسبب تعاطفها وصبرها، تساعد الملك على الخضوع، وتعرض له صور اندهاشه الأخيرة أمام الحياة، ماري هي العجز. أمّا الطبيب فقد اكتشف في هذا الموت أنه غير قادر على منعه أو الإسراع فيه. مرغريت تأمر بالبدء في تنفيذ الشعائر وتديرها حتى نهايتها.‏
                    الشخصيات كلها لا وجود لها إذن إلاّ من خلال دورها مع بيرانجيه. ليس لها مصير شخصي، تختفي عندما لا يعود الملك يراها لكنها ستظهر من جديد بعد وفاته. بيرانجيه -تارة يدعو للشفقة وتارة للسخرية، ضعيف وجبان، مضحك وكريه، أناني وظالم، لكنه قادر على استعادة الصحو والوعي- بيرانجيه هذا عقدة من الرغبات والمخاوف، من الحسرات والآمال. إنه إنسان.‏
                    كتابــــــة منظمّـــــة.‏
                    لانجد في مسرحية "الملك يموت" تدميراً للغة ولا استخداماً آلياً لها، كما لا نجد كلاماً خيالياً غير مألوف. الفكرة ليست حلماً، والكتابة ليست "آلية" أبداً. إنها كتابة دقيقة متأنّية "كلاسيكية" كما قيل.‏
                    في حوار مألوف بشكل عام، تحتل فيه الكلمات الواضحة حيّزاً كبيراً، يتدفّق الشعر من استحضار مشاهد يومية يعبّر عنها بمفردات شائعة: "ماأروع ذلك. تفتحين محفظتك، تدفعين الثمن، يردون لك الباقي، تجدين في السوق أغذية من مختلف الألوان، نباتات خضراء، كرزاً أحمر، عنباً ذهبيّاً، باذنجاناً بنفسجياً... كل ألوان قوس قزح!... أمر خارق لا يصدّقه العقل، إنها حكاية من حكايات الجن".‏
                    الشعر هنا اندهاش، وفي موضع آخر سحر. تؤلف الشخصيات جوقة وتأخذ اللغة شكل الصلاة.‏
                    - جولييت: أنت أيتها الذكريات...‏
                    - الحارس: أنت أيتها الصور القديمة...‏
                    - جولييت: يا من لم يعد لك وجود إلاّ في الذاكرة...‏
                    - الحارس: ذكريات ذكريات الذكريات [...] نحن نستدعيك.‏
                    - ماري: أنت أيها الضباب، ابق أيها الندى.‏
                    - جولييت: أنت أيها الدخان، أنت أيتها الغيوم...‏
                    - ماري: أيتها القدّيسات، أيتها الحكيمات، أيتها المجنونات، هيّا إلى مساعدته لأنني لا أستطيع مساعدته.‏
                    - جولييت: ساعدنه‏
                    - الملك: أنتم يامن فارقتم الحياة في سرور، يا من نظرتم إلى الموت مواجهة، يامن شهدتم نهايتكم الخاصة...‏
                    - جولييت: ساعدوا الملك.‏
                    - ماري: ساعدوه جميعاً، ساعدوه، أتوسّل إليكم...‏
                    على نقيض ذلك، تتفجر الشتائم بكلمات سوقية، مخالفة لتعاقب الأحداث، كلمات من بيئة القرون الوسطى. تتفجر الأيام الجميلة، انتهت الولائم العامرة، انتهت حفلات التعرّي؛ انتهى كل شيء!" لقد وجدت سطوة مرغريت تعابير مقتضبة: "لاتنوحي. أكرر لك ذلك، أنصحك به وآمرك به".‏
                    سخرية "الشعائر" والتهكم بالحياة والموت، ثمّ التعبير عنهما من خلال التلاعب بالألفاظ، يكرر الحارس كلمات الملك المؤثرة بصداها المضحك:‏
                    - أنت تموت لشأن يتعلّق بالدولة.‏
                    - لكن الدولة هي أنا [...]‏
                    - الملك: إنني أموت فليمتْ كل شيء، كلاّ، ليبقَ كل شيء، كلا، ليمت كل شيء ما دام موتي لا يستطيع أن يملأ الأكوان! ليمت كل شيء، كلا، ليبق كل شيء.‏
                    - الحارس: يريد صاحب الجلالة الملك أن يبقى كل الباقي.‏
                    - الملك: كلا، ليمت كل شيء.‏
                    - الحارس: يريد صاحب الجلالة الملك أن يموت كل شيء.‏
                    أخيراً، إن إعادة تمثيل المسرحية، تأخذ بالحسبان أحياناً، الزمن المخصص للعرض من أجل أداء إبداعي. "ستموت بعد ساعة ونصف. ستموت عند نهاية العرض". يحطّم هذا التراكب في الأزمنة وهم مشابهة الحقيقة لكنه يضفي على موت الملك طابعاً حتمياً لا مفرّ منه، لأن الحدث المعروض، وهو الاحتضار، يخضع لضغط زمن حقيقي، هو مدة المشهد.‏
                    بحــــث انطولوجـــي.‏
                    مسرحية "الملك يموت" هي تأملات حول الوضع الإنساني. سيطرة فكرة الموت على الإنسان هي نسيج المسرحية، وهذه المشاهد المتتابعة تعبّر عن جميع مراحل وداع الحياة: نسيان الذكريات، فقدان الأحاسيس، إنه للإقتلاع، إنها النهاية. لقد تساءل يونسكو عن "الانتقال" عن "الامتحان الذي لا يرسب فيه أحد".‏
                    لكن خوف بيرانجيه ما هو سوى الخوف من وداع العالم. لم يتساءل، ولم تتساءل الشخصيات الأخرى عمّا بعد الموت. لم تقل مرغريت لماذا يموت الإنسان بل كيف يموت. يطلب الحارس "العدم العظيم" عند انتهاء "الشعائر"، وبعد أن تمّ العبور أصبح كل شيء صمتاً، فراغاً، غسقاً.‏
                    ولا يتضمن هذا البحث الانطولوجي أية أفكار لا هوتية. يونسكو أكثر من فيلسوف وأكثر من مؤمن وها هو يكتب كتابة الشاعر المندهش، المدرك لألوان العالم، ولمذاق الحياة.‏
                    هل وجد يونسكو ما يبحث عنه عندما كتب هذه المسرحية؟ لقد اعترف لكلود بونغوا أنه كان يريد أن يتخلّص من قلق يعشعش فيه منذ الطفولة.‏
                    لكن تحليل الظاهرة لم يؤد دور التعويذة التي تنقذه وها هو يتساءل مرة أخرى عن جدوى الأدب(14) . لقد أعلن بيرانجيه ذلك إلى المحيطين به: كلمات الألم والموت لم تسعفه إلاّ في تركيب عدّة جمل: "إنني أموت، هل تسمعون، أريد أن أقول إنني أموت، ولا أستطيع قوله، إنني لا أفعل شيئاً آخر غير الأدب.‏
                    "العطش والجوع"‏
                    تصوير الزهد في الحياة والتعبير عن كيفية التخلّي عنها: هاتان الفكرتان الواردتان في مسرحية "الملك يموت" تطرحان جميع التساؤلات عن مغزى الحياة.‏
                    وعن الوضع الإنساني إجمالاً، وفي محاولة للإجابة على تلك التساؤلات كتب يونسكو مسرحية "العطش والجوع" عام 1964. عُرضت المسرحية لأول مرّة في دوسلدورف في الأول من شباط 1965 من إخراج ك. هـ. ستروكس، أمّا في فرنسا فقد عُرضت على مسرح الكوميدي فرانسيز في 28 شباط 1966 من إخراج جان ماري سيّرو، وقام بالأدوار الأساسية فيها: روبير هيرش جان) كلود وينتر ماري مادلين) ميشيل ايتستيغرّي الأخ تاراباس). قال المؤلف للناقد ف. شاتيّون: "سُئلت إن كان تقديم المسرحية على مسرح الكوميدي فرانسيز يشكل منعطفاً في مؤلفاتي ونشاطي. فيما يخصّني ليس هناك ثمّة منعطف، المسألة فقط مسألة توسيع وتكبير، فمن المعروف أن صالة التياتر فرانسيه أكبر باثنتي عشرة مرة من صالة لا هوشيت. إن كان هناك من منعطف فإنه يتعلّق بالكوميدي فرانسيز التي اختارت نصاً ومخرجين لم تطالبهم بتغيير أسلوبهم". رغم هذا التصريح فإن مسرحية "العطش والجوع" تشكل تطوراً في أسلوب يونسكو مثلما تشكّل منعطفاً بالنسبة "للدار رفيعة الشأن".‏
                    لاتنقسم المسرحية إلى فصول بل إلى "حلقات ثلاث" ثلاث أحلام منفصلة: "الهروب" "الموعد" "القدّاس الأسود في المنزل المريح".‏
                    مارتا، التي نراها في المهد عند بداية المسرحية، تظهر عند نهايتها وقد بلغت السادسة عشرة، لكن هذه الإشارة خادعة فالمسرحية تتحدد خارج حدود الزمن، وتجري أحداثها في ديمومة من عالم الأحلام.‏
                    عند رفع الستارة، نرى جان وماري- مادلين وقد عادا إلى شقتهما القديمة، شقة كما نرى في الكوابيس، معتمة، باردة، جدرانها مغطاة بالزواحف والعفن "غارقة حتى نصفها في الماء والوحل". يفكر جان بالهرب أمّا ماري مادلين فسعيدة لأنها تجد هنا الماضي كله: الأثاث العتيق، ورق الجدران الباهت، الجيران القدامى، الأصدقاء القدامى، العواطف الثابتة، ألبوم صور الناس "منذ ألف عام"، ذكريات من جميع الأزمنة. هذا الماضي الذي يتجذّر الحاضر فيه، السعادة في متناول اليد، المهد الذي تغفو مارتا فيه، ذلك يكفيها، ولا تحلم أحلاماً أخرى: "سنضع قفلاً جديداً للباب، قفلاً له مفتاح ضخم، يغلق جيداً، وندعمه بمرتاج، فنكون في مأمن من اللصوص والمصائب".‏
                    يتغذّى جان من الأمل، إنه ظمآن لما سينبجس عن قريب، جائع لما يفتقده: كل التوقعات، كل الأضرار.‏
                    فجأة تدخل العمة اديلاييد وتجلس على الأريكة العتيقة، سيدة ضخمة، متشرّدة، تتشح بخمار طويل، تضع قبة ريش، تتزين بمجوهرات مزيفة. راحت تتكلم، تخرّف، تهذي. إنها مجنونة أو على الأصح "كانت" مجنونة إذ أنها توفيت منذ زمن بعيد لكن ذكراها وطيفها يؤججان الندم وعذاب الضمير.‏
                    أشعلت ماري مادلين النار في المدفأة. تظهر في ألسنة اللهب امرأة تحترق وتستغيث وهي تمدّ ذراعيها. ذكرى أخرى وندم آخر. لم يجد جان في نفسه الشجاعة ليلقي بنفسه في النار وينقذ المرأة؛ وأمام الشعور بالذنب والذكريات المؤلمة تنصح ماري -مادلين جان بالقبول والخضوع والاستقرار في الشقة.‏
                    في مونولوجين متقاطعين -لأن الحوار بينهما ينقطع تدريجياً- تتحدث ماري-مادلين عن السعادة التي تعيشها في الزمن الحاضر وعن حلاوة العادات ثم تردد الحب- اليقين: "أحبك، تحبني، نحبها، نحب بعضنا حباً جماً. ستكون معنا دائماً؛ حتى لو سافرت إلى الطرف الآخر من العالم، حتى لو تصور ت أنك وحيد، فأنا معك، وسأكون معك..." يتحدث جان عن التمرد والهرب، عن الجري إلى طرف العالم، يتحدث عن تسلّق القمم وعن البلاد التي لا يموت فيها الناس: "لا أريد أن أكون مثلهم، لن أغوص مثل الآخرين، لن استسلم. مصيري ليس مصيرهم؛ ووجودي في مكان غير هذا المكان".‏
                    تنتهي هذه الحلقة بلعبة الاستخفاء، يختفي جان ثم يظهر من جديد وراء الأثاث وفي الكواليس. تشعر ماري- مادلين بالقلق ثم بالذعر فتترنم ببعض التعاويذ والسحر: "من قلبك، من قلبك، لن تستطيع انتزاع الحب، لن تستطيع انتزاع الحب من قلبك، الحب من قلبك لن تستطيع انتزاعه، لن تستطيع انتزاعه، لن تستطيع انتزاعه...". يعود جان على أطراف أصابعه وينتزع من قلبه وردة الحب، وردة النسرين، ويمسح قطرات الدم التي تحولت إلى لآليء، ويبتعد ويخفت صوته ويتلاشى. تركع ماري-مادلين قرب مهد طفلتها. آنذاك يتلاشى الجدار وتظهر حديقة رائعة ينتصب فيها سُلّم فضي يضيع طرفه الأعلى في عنان السماء.‏
                    يتمّ "الموعد" على شرفة معلّقة في الفراغ. لقد سار جان قروناً عبر بلاد رطبة، في مستنقعات، تحت المطر.. لقد جاء من قبل إلى هذه الشرفة وعرف فيها الفرح والسعادة؛ وها هو يعود من جديد محمولاً على جناح الفرح نفسه. تهجم عليه كل ذكريات السعادة فيشرح ذلك إلى حارسيّ المتحف الموجودين معه.‏
                    سيبدأ كل شيء عمّا قريب، سيبدأ كل شيء من جديد. إنه ينتظر المرأة التي واعدته، المرأة التي ستعود إليه بعد أن قطعت، هي الأخرى، الروابط التي تشدّها إلى الماضي. هو لا يعرف اسمها وليس واثقاً من مكان الموعد ومن زمانه؛ لكنه يعرف أن عليه أن يلتقي معها لأنها المسكن واللقاء. ستعلّمه الفرح ومتعة الحياة، ستعيد له الزمن الضائع وسوف يتابعان الطريق معاً.‏
                    تمرّ الساعات.. الوقت ظهراً، الساعة الواحدة، لقد انقضت فترة ما بعد الظهر وها هو الغسق يغطي صفاء السماء. يتذكر جان الألم القديم ويشعر أن جراحه تنزف من جديد: "اوه، أيها الحارسان، كنت أسكن مرتاحاً في اللامريح. اسمعا ماحدث لي. أردت الهروب من الشيخوخة، أردت الهروب من التورّط، وها أنذا أبحث عن الحياة، أبحث عن الفرح. لقد سعيت إلى تحقيق أحلامي فما وجدت سوى العذاب. كنت مخيّراً بين راحة البال وبين الهوى، فواحسرتاه، لقد اخترت الهوى. لم أكن مدركاً لما أفعل، مع ذلك كنت آمناً، متحصناً في حزني وحنيني وخوفي وندمي وقلقي ومسؤوليتي. الخوف من الموت كان درعي الأقوى. لقد كنت في أمان. كان ذلك كله بمثابة جدران تحيط بي؛ وها أنذا مُعرّض للجراح. انهارت الجدران وها أنذا في نار الحياة الحامية؛ في يأس الضيق. أردت الحياة فانقضّت عليّ الحياة بكل قوتها".‏
                    بعد أن عانى من "العطش والجوع" يعود إلى بحثه من جديد. ينطلق على الطرقات لغزو العالم لكنه يجد الطرقات ولا يجد العالم، يمضي إلى اللقاء باحثاً عن النهارات والأماسي والليالي، عن أنوار وأَلَقَ تاجه.‏
                    تجري أحداث الحلقة الثالثة "القدّاس الأسود في النزل المريح" في قاعة الطعام في نزل أو دير؛ قصر قديم هو أيضاً مدرسة أو مستشفى، لكن القضبان الكبيرة عند المدخل تذكّر بالسجن، جدرانه سميكة كجدران القبر.‏
                    وصل جان تعباً، قد شاخ. طلب السماح له أن يستريح، استقبله راهب يرتدي جبّة لكنه لا يحمل أية علامة دينية، إنه الأخ تارا باس "المكلّف بأمور الزوار"، يرافقه ثلاثة رهبان آخرين يثيرون الشكوك، يقرؤون سلوكهم وأجوبتهم على وجه راهب آخر، أخرس جامد، كبير بشكل غير طبيعي، إنه "الأخ الرئيس".‏
                    غسل الرهبان قدمي جان ووضعوا المناشف الدافئة على وجهه وقدّموا له خمراً وخبزاً ليروي ظمأه ويسكت جوعه. شكرهم جان لكنه تساءل في نفسه وهو قلق قليلاً إن كان سيستطيع تسديد الثمن. قال الأخ تارا باس: "لا تشغل فكرك في ذلك، إنه لن يكلّف كثيراً [...] ومع ذلك يسعدنا لو تخصص لنا قليلاً من وقتك الآن". لقد دفع جان ثمن ذلك حياته إلى الأبد.‏
                    طلب الرهبان بعد ئذ من جان أن يروي مغامراته، لم ترضِ حكايته طموحات الإخوة الذين راحوا يسجّلون بعض الملاحظات. وجد الأخ عالم النفس أجوبة جان متوسطة المستوى "بل دون المتوسط" .‏
                    قرأ الأخ تارا باس علامات عدم الرضى على وجه الأخ الأعظم فغيّر "اختباراته" وتحوّل المشهد إلى تحقيق "نفسي بوليسي" وراح جان الخائف المضطرب يفتش في ضباب ذاكرته عن صور منسيّة دون أن يدري أي "ثمن" يعطيها أولئك الذين يستمعون إليه ويحاكمونه.‏
                    انتهى الاستجواب. شكر تاراباس جان وقال له: "لقد سجّل الأخوة ملاحظات عمّا قلت وأعطوك علامة على ذلك" ثم اقترح عليه مشهداً تربوياً، إنه "تمثيلية التربية بواسطة إعادة التربية". إنه مشهد "إزالة التسمم الفكري والتخلّص من الاستلاب"."تخيّل أن بيننا رجلين قاسيا من بعض الصدمات التربوية، أو من عملية بناء تشويهية بصورة تدريجية، إذا جاز لي استخدام هذا التعبير. أمّا وقد وصلا إلى المكان الذي هما فيه، فعليهما أن يسافرا من جديد لكن في الاتجاه المعاكس. يجب على كلّ منهما أن يتعلّم المعنى المضاد، هذا، بكل وضوح، عملية "غسل دماغ".‏
                    يتمّ إحضار مهرجين في قفصين هما تريب المؤمن بالله وبريختول الكافر الملحد. يقوم تاراباس بدور الأخ المربّي.. ينقسم الرهبان إلى قسمين؛ رهبان في مسوح سوداء ورهبان في مسوح حمراء. إنهم جمهوران يتظاهران كلّ حسب الإيديولوجية التي يؤمن بها. يتمّ إحضار قدْر من الحساء وبعد يومين يتمّ "التخلّص من الاستلاب" ويتبادل المهرجان عقائدهما: تريب يكفر وبريختول يردد الصلاة جاثياً. مشهد لا يغتفر للارتداد عن العقيدة. الحقائق تزول، الايديولوجيات تنهزم أمام الجوع، وكل قيمة تتلاشى. يضيف الأخوة الباقون ساديتهم الشخصية إلى قسوة تاراباس: يمدّون المغارف ويعيدونها، يتظاهرون بالصمم، يلحّون على إنكار فكرة محدّدة. أمام هذه المهزلة البغيضة، ينتقل جان، وهو الشاهد المشارك فيها، من الضحك إلى الخوف. ينتهي المشهد فيقترح تاراباس على جان أن يعرض عليه البقية إذ أن ما رآه هو الحلقة الأولى من مسلسل من ثلاثين حلقة: "... في الحلقة التالية، كما أعلنتْ الشخصية التي قمتُ بتمثيل دورها، سيتمّ علاج الرجلين من التسمم بالحرية، كما يتمّ فضح، واعذرني لاستخدام هذه الكلمة المبتذلة، نعم يتم فضح فكرة إطلاق سراح المساجين، بل يتم فضح الحرية نفسها..."‏
                    أراد جان أن يتابع سفره. عطشه وجوعه لم يرتويا. مازال يحنّ إلى "انبهار لا يوصف"، يحلم بمتابعة بحثه لكن الأخ تاراباس يذكّره أن الناس يتبادلون الواجبات، إنهم "أخوة" يتبادلون الخدمات، يجب على جان -وقد أصبح الأخ جان- أن يفي دينه:"يجب أن تفعل شيئاً فلا أحد مُعفى من الخدمة الاجتماعية. لا تقلق، سنقرّر بدلاً عنك. مادام الجميع يأكلون ويشربون، ومادمنا لانفعل شيئاً سوى ذلك، من السهل أن نجد لك عملاً، نرجوك أن تقوم بتقديم الطعام إلى هؤلاء الأخوة الجالسين حول المائدة..."‏
                    كم من الوقت سيستغرق تقديم الطعام؟ سألهم جان كم ثانية، كم دقيقة، كم ساعة...؟ لمعرفة ذلك راح الأخ المحاسب يكتب أرقاماً على سبّورة سوداء. راح يرصف الأرقام التي تحدّد زمناً جهنمياً. بدأ جان بإحضار أطباق الطعام والأباريق، بإيقاع متسارع، إلى طاولة الإخوة. آنذاك، وفي الناحية الأخرى من قضبان بوابة النزل، ماري-مادلين وقد عادت شابة، ومارتا الصبيّة الحلوة، تظهران في جنات عدن، حيث يلمع السلّم الفضي وقد أنقذهما الحب.‏
                    نســــــيج مـركّـــــب.‏
                    تمزج المسرحية " العطش والجوع" طبقات الوعي: التجربة النهارية، التأملات، الهلوسات، الحلم، تتداخل فيما بينها. حلم البيت الذي يغرق، ذكريات القبو المعتم الذي ماتت فيه والدة يونسكو، صورة إحدى خالاته، منظر المرأة وسط ألسنة اللهب. بدلاً من أن يجمع هذه العناصر على مستوى واحد من الوعي، فإن يونسكو يبرز الطبقات المختلفة.‏
                    يعرض يونسكو العودة إلى البيت القديم وكأنها كابوس ممتدّ بفعل التجربة النهارية: "هذا هو كابوسي. كابوس منذ زمن بعيد، منذ أن كنت طفلاً صغيراً. يحدث كثيراً أن أستيقظ صباحاً فأشعر بغصّة في حلقي، بعد أن أكون حلمت بهذه المساكن المخيفة الغارقة حتى منتصفها في الماء، ونصفها الآخر يكسوه التراب، المملوءة بالوحل!"، أما المشهد الذي تظهر فيه العمة اديلاييد فهو حلم داخل الحلم، حضورها غير مادي كما أن جان يلاحظ أن الدم الذي يسيل من جراحها لا يشبه الدم العادي أبداً. في الحلقة الثانية، المرأة التي ينتظرها جان لا وجود لها إلاّ بالنسبة له، وفيه. إنها غياب حاضر. وفي الحلقة الثالثة، يمثّل تطور الحدث انتقالاً من الحلم الجميل إلى الكابوس: استقبال الأخ جان يلفّه الغموض، ويتحوّل حب الفضول عنده إلى تحقيق، كما تتحوّل ملهاة المهرجين إلى تمثيلية سادية وينتهي الحوار إلى تكرار آلي وكأنه حلم مكبوت.‏
                    هذا النسيج الذي يشدّ الواقعي إلى غير الواقعي يلغي فكرة الزمن: تستغرق رحلة جان ستة عشر عاماً، بل عدة قرون، كما أن خدمته في النزل المريح تستمر إلى الأبد أو عدة ثوان فقط. ليست الحلقات الثلاث فصولاً متتابعة في الزمن، كما أن المنطق الذي تتمّ على أساسه ليس تسلسل الأحداث تاريخياً. تنتظم الصور مثل مجرّة في الفضاء، كما أن الذكريات "التي حدثت منذ ألف عام" والآمال البعيدة جداً تتحد وتتجمّع في الحاضر، وهذه الصور الأكثر تطوراً، أو الأكثر ترابطاً مما رأينا في "ضحايا الواجب" و "اميديه" هي أكثر غنى أيضاً بالمعاني والدلالات.‏
                    الحب وصعوبات الوجود‏
                    في مسرحية "العطش والجوع" قطبان يتحكّمان بالحقل المغناطيسي للصور: الحب وصعوبة الحياة.‏
                    تطرح الحلقة الأولى قضية الحب بين الرجل والمرأة، ترى ماري- مادلين الحب على أنه ارتباط بالماضي. تقود جان إلى بيت الذكريات، تفتح ألبوم الصور ويكفي وجود جان ومارتا لتتحقق سعادتها: إنه حب مغلق، قائم على الإمتلاك. تريد أن تكون النور الأوحد والحرارة الوحيدة في بيت لا هاتف فيه، ولا يمر ساعي البريد عليه أبداً. إنه حب مصبوغ بعاطفة الأمومة بمقدار ماهو مصبوغ بالعاطفة الزوجية(15) .‏
                    لكن جان يرى في هذا الحب قبراً، لن يقدر أن ينسى العالم: "إنكما تحتلان مكاناً كبيراً في قلبي) لكن الكون أكبر وما ينقصني أكبر بكثير". لكن هذا الحلم في المطلق يحرمه من تذوّق السعادة الراهنة. عندما سافر جان تخلّى من أجل الأبدية عن ماري- مادلين ومارتا، والبوابة التي تفصله عنهما أُغلقت إلى الأبد.‏
                    تعالج المسرحية موضوعاً آخر مرتبطاً بالحب هو الإحساس بالعالم. يذكر جان جميع أشكال وأسباب صعوبة الحياة: يذكر منها الفشل، ورفض اليقين الهزيل والرضى المحدود؛ يصف القبح، ويتحدث خلال مشهدي الهلوسة في الحلقة الأولى) عن وطأة الندم، يجب أن يعوّض الهرب عن عدم رضاه، أن يخلّصه من شعوره بالذنب، وفي الحقيقة، تحت هذين الإحساسين يختبئ تسلط فكرة الموت: "يلزمني) بلاد تحرّم قوانينها الموت. عندما يدخل المرء إلى هذه البلاد يُطلب منه أن يوقّع على تعهّد بأن لا يموت".‏
                    مع ذلك ليس الموت المادي هو الشر الأوحد، العقل مهدّد أيضاً..في مشهد المهرجين لا يقل التنكرَّ للمبدأ ألماً عن ألم الجوع.. تولد الوحشية من إذلال الآخرين، فالعار الذي لحق بتريب وبريختول(16) يرتّد إلى جان والأخوة وسائر المشاهدين. إن تسطيح القيم شكل من أشكال السقوط.‏
                    لايستحضر جان الإحساس بالكمال والإفتتان والنشوة إلاّ على أنها حالة غير واقعية، ذكرى مفعمة بالحنين، أو أمل لا يُطال. الفرح والنور مثلهما مثل الحب المجنون، يصوران الفردوس المفقود.‏
                    تقنيــــة طيّعــــــة.‏
                    شخصيات مسرحية "العطش والجوع" من تلك الشخصيات التي تظهر في الأحلام: ماهي إلاّ انعكاس إحساس الحالم. سمة واحدة تحدّد كلاً منها، تصوّر تلك الشخصيات رغبة ما أو عقبة محدّدة. تخلق حول جان جوّاً من الصراع، ولا وجود لها إلاّ لتيسّر له تحقيق قدره كما يراه في الحلم.‏
                    ماري -مادلين هي التورّط والإنزلاق الذي ينتزع جان نفسه منه، أمّا حارسا المتحف-السجن فهما الجمود الذي يقابل التجوال. يؤدي تريب وبريختول لعبة الإنكار التي تتحوّل إلى استسلام جان. يفضح الأخ تاراباس، المحقق الجلاد والمحلل النفساني، الأفكار الدفينة التي يؤمن بها جان.‏
                    يمثّل الأسلوب المتطور عودة إلى التقاليد "الأدبية"، عودة إلى كتابة دقيقة ومحكمة. في الحقيقة، تخضع اللغة إلى تراكيب فكر الأحلام، لكن الصور، من حيث الشكل والمضمون، صور معقّدة غنيّة جداً بالمعاني، أكثر مما هي نقل مباشر للحلم، كما رأينا في مسرحيتي "ضحايا الواجب" و "اميديه".. المفردات والإستعارات، وبناء الجملة تضاعف المفاهيم وتخلق تعابير شعرية: "من ظلال الماضي، اصنعْ ليلاً مريحاً، الحاضر شمس إذا أردت، والمستقبل سماء لا زوردية[...] اجعلْ من الفشل استراحة واسترخاء، ومنذ الصباح، تمنّى المساء الذي ينشر السكينة: سوف يأتي.. في الليل، احلمْ بمهرجان الفجر..."؛ "عينان من ضباب... نظرة عميقة ضاحكة جاهزة غائبة، لونها بلون الأحلام، نظرة لطيفة مثل مياه نهر فاتر في عزّ الصيف...".‏
                    تترجم اللغة جميع أشكال الحلم عند جان. لغة شعرية عندما تعبّر عن الرعب والجمال، مفككة عندما يستعصي الحلم على اتخاذ الأشكال المتعارف عليها. نجد، آنذاك، كما وجدنا في حكاية شوبير، مختلف مظاهر العبث: التعداد الفوضوي الذي لا نهاية له، وتجميعات إيحائية مجازية أو صوتية: "رأيت أعمدة من الخشب، أعمدة ملهى ليلي، نعم، أعمدة كنيسة، أعمدة بيوت، أعمدة أعمدة...." عندما يجمد الحلم في نهاية المسرحية تتخلّع اللغة في إلقاء رتيب لأرقام يرددها الأخ المحاسب وترددها خلفه جوقة الرهبان: "... واحد، سبعة، ثلاثة، ستة، تسعة، ثمانية، واحد، سبعة، ثلاثة، ستة، تسعة، ثمانية، واحد..."‏
                    مع ذلك، نشعر ببعض ملامح الفكر الواعي في سخرية بعض المقاطع: يهاجم يونسكو الإيديولوجيات ويستهزيء بها من خلال الإفراط في استخدام اصطلاحاتها: الإستلاب، التقويم، الصدمة النفسية، قابلية التعب، التشكّل التدريجي المشوّه...‏
                    الديكور والإخراج يوحيان أيضاً بعالم الحلم: تتميّز الحلقة الأولى بالهلوسات، كظهور العمة اديلاييد، والمرأة في ألسنة اللهب.‏
                    أمّا ديكور الحلقة الثانية فإنه غير واقعي، وفي الحلقة الثالثة غامض وملتبس؛ فلا يدري المشاهد حقيقة النزل، هل هو دير أم سجن أم مشفى أم مدرسة... تعبّر الأنوار والظلال عن الخوف من الغوص وعن غبطة اليقين.. المشاهد التي يشارك فيها جان تبدّل شخصيته، ففي نهاية الحلقة الأولى، يذوب في الأشياء، وفي الحلقة الثالثة يكون الخبز والخمر، عندما يقول للأخ تاراباس، دون أن يتوقّف عن تناول الطعام: "إنني أعاني من فراغات في الذاكرة منذ زمن بعيد" وفي المشهد الأخير تكون الحركة الآلية كافية لفرض صورة الكابوس.‏
                    (1) تخيّل يونسكو هذه المسرحية انطلاقاً من حلم راوده دائماً.‏
                    (2) أكمل يونسكو السلسلة وكتب اسكتشات لم تنشر بعد لكنها عُرضت في أغلب الأحيان: "عند أسفل الجدار" "زيارة المستشفى" "المستقبل" "وكالة السفر" "صدمات" "درس اللغة الفرنسية للأمريكيين وهو لعب على القوالب والتشويهات اللفظية.‏
                    "قصة لصوص" تعالج طريقة استدلال لا جدوى منها. "ايديدوان" "فكرة تافهة" "شجرة جوز الهند المحترقة" عبارة عن صور شعرية واستشهادات أدبية . "عند الطبيب" تعدّد أنوعاً غريبة من الأمراض: المرضى الذين يرون كل شيء أحمر، المرضى الذين يتألمون من شعرهم، المرضى الذين يقسمون شعرهم أربعة أقسام، المرضى الذين تنمو سيقانهم من عند الرقبة، المرضى الذين ينمو الشعر على باطن الكفّ، الخ....‏
                    (3) كما حدث ليونسكو عام 1957 إذ كتب مسرحية "قاتل بلا أجر" في لندن في شهر آب.‏
                    (4) محاورات مع كلود بونغوا ص38‏
                    (5) عرض جان، لوي بارّو كل موهبته عندما أدّى هذا الدور.‏
                    (6) انظر ماورد سابقاً في كلام جان كوت عن "الثلاثي يونسكو".‏
                    (7) محاورات مع كلود يونغوا ص 74.‏
                    (8) محاورات مع كلود يونغوا ص 74.‏
                    (9) المصدر السابق.‏
                    (10) محاورات مع كلود بونغوا ص 90.‏
                    (11) محاورات مع كلود بونغوا ص 91.‏
                    (12) تجارب في المسرح.‏
                    (13) جريدة الفيجارو 7 كانون الأول 1966.‏
                    (14) أنا، لم تساعدني الكتابة أبداً، ربما ساعدت آخرين مثل الشاعر الروماني العظيم ايون فينيا الذي ترجم المسرحية إلى اللغة الرومانية. كان ايون شيخاً تقدّم به العمر، مصاباً بمرض خطير، عندما حاول ترجمة المسرحية. اشتغل في ترجمتها ثلاث شهور أو أربع، وخلال هذه الفترة كان في فترة الاحتضار تقريباً؛ وقد أنجز الترجمة قبل وفاته بأربع أيام أو خمس. إذ كان قد رغب في تلك الترجمة وهو يعلم أنه سيموت قريباً، وإذا كان قد استطاع إنجازها فمن المحتمل جداً أنها ساعدته في أواخر إيامه. ص92).‏
                    (15) من المدهش أن تقارن أقوال ماري- مادلين مع اعترافات يونسكو في "يوميات في فتات" ص105، 163، 164.‏
                    (16) يمكن أن نلحظ في هذا الإسم تحويراً لإسم برتولد بريخت.‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو

                      يونسكو والنقد
                      لن نستطيع أن نقدّم هنا جميع الآراء والأحكام المتعلّقة بمسرح يونسكو... تبيّن المراجع وفرة -وغالباً نوعية- النقد. لكن لن يكون جهداً ضائعاً إذا ما تابعنا، عاماً بعد عام، ردود الفعل على هذا الكاتب الجديد: معارضة غير مبررة لمسرح مخالف للمألوف، وتراجعات عن بعض الآراء. كان لابدّ من الانتظار حوالي عشر سنوات لكي نجني ثمرة ذلك الجهد المستمر لتفسير وتوضيح تلك المؤلفات.‏
                      1 - اكتشاف مؤلف مجهول:‏
                      كانت ردود الفعل على العروض الأولى في سنوات 1950-1953)، سطحية على وجه الخصوص. تحدّث معظم النقّاد عن الفضيحة والعار، وبعضهم، وهم نادرون طبعاً، عبّروا عن حماسهم وتأييدهم.‏
                      جان بابتيسيت جينيه الفيجارو 13 آيار 1950).‏
                      ما أروع الشجاعة الفائقة التي أبداها أولئك الذين، دون أي خلل، حفظوا وأحسنوا تأويل وتجسيد النص الفريد الغريب من نوعه عند يونسكو، بعد أن تساموا به. فما الذي يمنعهم من أن يسلّطوا أضواء النهار الجديد الذي تتكشف فيه أبعاد موليير وفيتراك من خلال اكتشافهم للعالم الجديد بكل مافيه من عبق مذهل؟!...‏
                      بالانتظار، إنهم يسلبون المسرح بعض مشاهديه...‏
                      جابرييل مارسيل لينوفيل ليتيرير 5 آذار 1953).‏
                      خليط متنافر تلك هي الكلمة التي ترد على الذهن بعد مشاهدة مسرحية يونسكو "ضحايا الواجب". تبدأ بداية ساخرة، ناشزة طبعاً [....] لكن يفسد كل شيء بسرعة...‏
                      روبير كمب لوموند 28 شباط 1953).‏
                      أبدأ بالقول إنه فيما يتعلّق بمعرفة الإنسان والأخلاق والميتافيزيكيا فكل ما قدّمه المؤلف السيد أوجين يونسكو يساوي الصفر تماماً. كما أن مسرحيته سواء كانت رصينة أو ساخرة، تقليدية أم تهكمية، تعتمد على الفرويدية، على الوعي وماتحت الوعي، على الخير والشر، وألغاز أخرى. إنّها تصنع من هذه الموضوعات النبيلة السامية خليطاً مرعباً، مكرراً، "مرهقاً" من شدّة الاندفاع.‏
                      1 - ثور اداموف آر 17 أيار 1952).‏
                      لماذا هذه اللهجة الفظة التي تنمّ عن الاحتقار التي استخدمها النقّاد في حديثهم عن "الكراسي"؟. بعد التفكير يظهر تفسير واحد وهو أنّ مسرحية يونسكو اكتشفت شيئاً ما لا يرغب المرء في الاعتراف به، وهذا يعني، بكلمتين، الشيخوخة الحقيقية التي لا علاقة لها بالعمر، والتي تمثّل، عند مستوى معين من الوعي، حالة من الحياة الإنسانية. يتلهّى المرء بعلم الجمال، بينما يخشى في الحقيقة صورة عجز يجعل الوجود الإنساني يرتد إلى مرحلة الولادة دون أن يطرأ عليه أي تطوّر من المهد إلى اللحد. أمّا والحالة هذه، فإن يونسكو اكتشف هذه الصورة المرعبة في نفسه وجعلنا نكتشفها بدورنا بواسطة وسائل مسرحية ملائمة.‏
                      ألان روب -غرييه كريتيك 1953).‏
                      أن يتحقق الإضحاك فذلك لا نقاش فيه، بل يمكن أن يُقال إن أفضل مافي أية مسرحية هو ما يُضحكنا أكثر. لكن من المستحيل مع ذلك أن نفسر هذه الفقرات لتنضوي تحت عناوين، رغم أهمية هذه العناوين، المضحك والهزلي والساخر. بل على العكس،ربما لم يكن الضحك هنا سوى وسيلة، وسيلة لإخراجنا من عاداتنا الثقافية الحكيمة.‏
                      المنهجية الديكارتية)، ترد هذه الصفة كثيراً في النص، في اللحظات غير المتوقعة)، وسيلة تنقلنا إلى عالم أغنى حيث يحوي الأسبوع يومي ثلاثاء، حيث يجب عدم الخلط بين ينبوع وينبوع، حيث تضع سيدة المنزل، بكل جدّية، خمسين فنجان شاي على الطاولة من أجل ثلاثة أشخاص فقط.‏

                      - قضية مسرح جديد:‏
                      بدءاً من عامي 1953-1954)، راح النقاد يبررون أحكامهم، عادوا إلى الوراء عدة سنوات وصار بمقدورهم أن يقارنوا بين عشرات المسرحيات والتمثيليات القصيرة. رغم ذلك بقيت أحكامهم عدائية أكثر من كونها متسامحة، شاملة، تحاول فهم هذا المسرح الجديد. دُرِست قضية يونسكو وكانت مآخذ النقاد عليه جهله لعلم النفس، وعدم معرفته لقواعد المسرح وافتقاره للأسلوب. كما اتهموا مسرحه أيضاً بالترويج للايديولوجية البرجوازية، على نقيض ذلك، أبرز المدافعون عنه الجدّة والقوة الساخرة، الغرابة والجرأة والفكاهة وأصالة أشكال التعبير.‏
                      روبير كمب لوموند 18 تشرين الأول 1955).‏
                      السيد يونسكو شاب من صنف الفريد جارّي، لم يخفِ أبداً أنّه مكتوب عليه أن يقدّم "مساهمته المتواضعة في هدم مسرح محدّد"[.....]. يمثل يونسكو في نظر مجموعة صغيرة، صغيرة جداً، "محرّراً".. إنه بوليفار(1) المسرح... فليحتفظ بوهمه الجميل. إنه فضولية تافهة في مسرح اليوم[....].‏
                      لو كان طبّق بجديّة مواهبه الأكيدة في الكتابة لأنتج أشياء لها قيمتها. لكن مسرحيتي "اللوحة" و"جاك" اللتين شاهدناهما منذ برهة ماهما سوى ذباب لآكل الذباب إضاعة وقت). الحوار ثقيل، رديء، من صنف ثانٍ كما يقول اللحّام.‏
                      رولان بارت المسرح الشعبي. العدد 18، الأول من آذار، 1956).‏
                      ليست الطليعة أبداً سوى طريقة لتمجيد الموت البرجوازي إذ أن موتها ينتمي إلى البرجوازية أيضاً. لكنّ الطليعة عاجزة عن الذهاب أبعد من ذلك وكأنها لا تستطيع أن تدرك النهاية الفاجعة التي تعبّر عنها، مثل لحظة انتاش البذور، ومثل الانتقال من مجتمع مغلق إلىمجتمع مفتوح [....].‏
                      بما أن الطليعة تعيش على البرجوازية وتعبر عن ممتلكاتها، فمن المؤسف أن تساير تطورها. يخيّل لنا أننا نشهد موتها ببطء، وسواء أكانت البرجوازية تعيد توظيف استثماراتها كاملة في تلك الطليعة، سينتهي بها الحال إلى حضور الأمسيات التي تعرض فيها مسرحيات بيكيت واوديبرتي وغداً ستعرض مسرحيات يونسكو الذي تأقلم سريعاً مع نقد الإنسانيين) وسواء أكان الكاتب الطليعي، وقد أقرّ بوجود مضمون سياسي للمسرح، يتخلّى بالتدريج عن التأكيد الجمالي البحت وهذه هي حالة اداموف بلا شك)، ليندفع على طريق الواقعية الجديدة.‏
                      برنارد دور المسرح الشعبي. العدد 18. آذار 1956).‏
                      أن يرفض المشاهد إذ لا يمكن الحديث عن الجمهور)- هذا المشاهد الفردي، بديل المؤلف- أو يقبل مسرح الرعب هذا، ليس لاختياره، في الحقيقة، أية أهمية، إذ، في النهاية، لاشيء قد حدث. لقد ألغى هذا المسرح العالم لكن بطريقة خيالية وهمية، ولهذا السبب فإن هذا المسرح هو الذي ألغى نفسه، أنكر نفسه بنفسه.‏
                      كينث تاينان الا وبسرفر 22 حزيران 1958).‏
                      لقد خلق السيد يونسكو عالماً من الرجال الآليين الروبوت)، المتوحدين يتبادلون فيما بينهم حوارات شبيهة بحوارات "حكايات" الأطفال، حوارات مضحكة أحياناً،ذات إيحاء أحياناً أخرى، وغالباً لا تكون هذه ولا تلك فتسبّب آنذاك سأماً عظيماً.. مسرحيات يونسكو تشبه حكايات الكلاب الناطقة، لا يستطيع المرء سماعها مرتين [....] يحقق السيد يونسكو حقاً "انطلاقاً للواقعية"، لكنه انطلاق نحو أي شيء؟ نحو طريق مسدود، ربما كان مزيناً بزخارف تلطيخية(2) على الجدران: أو بجرس يدعونا المؤلف على قرعاته الحزينة أن نلحظ انعدام الهواء أو، وهو الأفضل، يدعونا إلىنزهة طويلة في القطار الشبح، المملوء بالجماجم والأقنعة الشمعية التي تعوي وتصرخ... لكننا ندخل بعد ذلك إلى الواقع اليومي حيث الضوضاء بالرعب الأشد.‏
                      مسرح يونسكو لاذع، جارح، مهيّج، لكنه يبقى تسلية هامشية ولم يأخذ مكانه في هذه المسيرة الكبيرة والادّعاء أنه كذلك لا يقدّم خدمة لا ليونسكو ولا للمسرح عموماً.‏
                      كينث تاينان الاوبسرفر 6 تموز 1958).‏
                      لقد بقيالسيد يونسكو) أسير التكعيبية. كان التكعيبيون يلجأون إلى تشويه الأشكال ليحققوا اكتشافات في مجال طبيعة الواقع الموضوعي. يعتقد السيد يونسكو أن لتشويهاته قيمة أعظم وأهمية أكبر من العالم الخارجي الذي يحاول تقديمه [....].‏
                      الخطر الذي يهدد يونسكو هو أن يسجن نفسه في قاعة المرايا هذه، المعروفة في الفلسفة باسم الأحادية(3) . الفن يعيش على الحياة مثلما يعيش النقد على الفن. لقد حطّم السيد يونسكو ومؤيدوه هذه العلاقة وعزلوا أنفسهم وراحوا يطمحون إلى نوعٍ من الجمودية الهادئة التي تقاوم كل تجديد.‏
                      جاك لومارشان مقدمة مسرح يونسكو 1954).‏
                      ليس هذا المسرح مسرحاً سيكولوجياً ولا رمزياً ولا اجتماعياً ولا شعرياً ولا سريالياً. إنّه مسرح لم تتحدد وصفته بعد، مسرح لم يأخذ مكانه في أي قسم من أقسام المسرح الجاهزة إنه مسرح/ على القياس) لكنني أشعر تماماً أن أمري سينكشف إذا لم أجد تسمية لهذا المسرح.‏
                      إنه بالنسبة لي مسرح مغامرات إذا ما أخذنا كلمة مغامرات بالمعنى الذي نفهمه عندما نقول رواية مغامرات. إنه مسرح فروسية لا يخضع للمنطق مثل مغامرات "فانتوماس" غير حقيقي مثل رواية جزيرة الكنز، لا عقلاني مثل رواية الفرسان الثلاثة، لكن هذا المسرح، مثله مثل تلك الروايات، شاعري، ساخر، مثير. إنه ينتهك قواعد اللعبة، وأنا أعرف ذلك. إنّه مع ذلك... نقيض المسرح الذي يتستر على العيوب/نقيض المسرح.‏
                      اندريه بروتون دفاتر الفصول 1955).‏
                      مرة أخرى تُعرض مسرحية جديدة ليونسكو على مسرح لاهو شيث المغروس في قلب باريس القديمة، وهودواتها الصاخبة التي تجتذب لها صخب المدينة كله، وكما كنّا في عزّ طفولتنا رحنا نهيء أنفسنا إلى مشاهدتها، وهي تتمايل بانعطافاتها الواسعة، وتقفز فوق نفسها كما لو أنها تستسلم، بلا مقاومة، إلى نبضات قلوبنا.‏
                      جان انوي الفيجارو 23 نيسان 1956).‏
                      عن مسرحية الكراسي) أعتقد تماماً أن هذه المسرحية أفضل مسرحيات سترندبرغ لأنّها مسرحيةسوداء "على طريقة موليير" وأحياناً تكون مضحكة جداً، كما أنّها مسرحية مخيفة، غريبة، موجعة، صحيحة دائماً، كلاسيكية -عدا تلك الحركة الطليعية البالية التي لم أحبها عند نهاية المسرحية...‏

                      انهيار التحالفات.‏
                      تغيّر موقف النقاد بشكل ملموس منذ مسرحيتي قاتل بلا أجر والكركدن.. وافق بعض الأنصار الأوائل على تطوّر يونسكو لكن آخرين، رغم سرورهم لنجاح المؤلف، تحسّروا على المسرحيات الساخرة المدمّرة التي كتبها في بداية حياته الأدبية. اتهموا "الرجل العظيم" بالرمزية والنزعة الإنسانية وربما اتهموه بالانتهازية. علىعكس ذلك فإن بعض الذين سخطوا عليه عام 1950. مدحوا المسرحيات الجديدة وصفقوا لها. أخذ النقاد "الملتزمون على يونسكو عدم اهتمامه بالمشاكل الراهنة.‏
                      جان سيلز الآداب الجديدة 4 آذار 1959).‏
                      لم يخلق يونسكو فقط شكلاً مسرحياً تغتني فيه الشخصيات واللغة والديكور والاكسسوار باكتسابها وظيفة جديدة، بل خلق مُشاهداً أيضاً.‏
                      إلزا تريوليه الآداب الفرنسية شباط 1960).‏
                      كم كانت دهشتي عظيمة أمام المقالات الأولى التي ظهرت! هل كان على بصري غشاوة؟ هل أخطأت الحكم؟ هل أُصيب نقاد اليسار بمرض خرتتة حاد؟ [.....] هاهم يقومون قيامة كركدن واحد ضد المسرحية، يحكمون عليها من وجهة نظر الكركدنات. حتى لا يؤخذوا علىحين غرّة ولا يجدوا أنفسهم خارج جماعة الجهابذة -الكركدنات.‏
                      روبير كمب لوموند آذار 1959).‏
                      أيتها الرمزية، هاهي ضرباتك! لقد سلبتِ من كاتب مسرحي أصيل، حاد الطبع جزءاً من قريحته وبريقه. "قاتل بلا أجر" مسرحية ذات وزن، وزن كبير، بالنسبة للحقائق التي تحملها وهي حقائق خفيفة راجع آراء الناقد نفسه عامي 1953-1955).‏
                      برتران بوارو- دلبش لوموند كانون الثاني 1960).‏
                      "لن أستسلم أبداً" هكذا صرح بطل مسرحية الكركدن في وجه محاولات الامتثاليةالخضوع للأعراف المقررة)؟ أمّا فيما يتعلق بالمؤلف فالاستسلام حقيقة واقعة، للأسف... لنتفق إذن. لقد كان موقفاً صحيحاً،مطلوباً، أن تكرّس باريس، ومعها أوروبا كلها، الشاعر الحقيقي الذي كتب المغنية الصلعاء. لكن إنساناً ورعاً من عصر الدياميس له الحق في أن يحزن لأن يونسكو بعد أن اكتشف تفاهة الابتذال سقط، وهو يتابع طريقه، في ابتذال التفاهة وفي الرمزية الوعظية التي كان يلعنها.‏
                      غي لوكليرك الاومانيتيه).‏
                      لقد أضاف يونسكو شيئاً إلى المسرح الفرنسي المعاصر: أضاف نقداً للغة والحياة المتعارف عليهما؟ وتصويراً لاستلاب الإنسان في المجتمع الحالي، وأسلوباً درامياً جديداً ومثيراً. كانت مسرحياته ذات الفصل الواحد ذات شحنة مملوءة تقدح وتصدم، أمّا مسرحياته ذات الفصول الثلاثة- الكركدن، قاتل بلا أجر- فهي ذات شحنة مفرغة(4) .‏
                      اندريه سيمون ايسبري. نيسان 1960).‏
                      يمتاز يونسكو بكثير من الظرافة وبمثلها من الإرادة الطيبة. على عكس المظاهر، لم يحاول أبداً أن يزعج أو يكدّر، ولكي يشكر هؤلاء السادة والسيدات الذين انتزعوه من مسارح الأقبية. تظاهر بالجدية مع نفسه ومعهم. إنّه يعمل مع أصحاب النزعة الإنسانية الشاملة، ضمن المشاعر الطيبة والأفكار العظيمة...‏
                      كيف حدث أن أول المخلصين له استقبلوه ببرودة واتهموا الرجل العظيم بالانتهازية؟‏
                      جيل ساندييه آر 21 كانون الأول 1966).‏
                      من المؤثر حتماً أن نرى يونسكو وهو ينظر إلى الموت على المسرح مثلما يفعل ذلك في الحياة. لكن هذا الملك الذي يرمز للشيطان، مثقل إلى حدٍ ما بالاستعارات والمجازات... إنه الإنسان، إنه الله، إنّه الإنسان - الإله، إنّه المسيح، إنه أوجين يونسكو، وهذا يعني الكثير. يتحسّر المرء على يوسويه، يتحسّر على شكسبير، يفكر المرء بما ترلنك، ويتحسّر على "الكراسي".‏
                      جان فينيو رون لاكروا شباط 1960).‏
                      لا مجال للخطأ هذه المرّة فيونسكو يكتب بلغة فرنسية! كما أن مسرحية الخرتيتالكركدن) عمل واضح تماماً، فيه رمزية شفافة، قويّة جداً، بحيث يمكن النفاذ إليها كما أنها ذات مضمون عظيم جداً بحيث يستطيع الجميع إدراك مغزاها.‏
                      جورج ليرمنييه غازيت دولوزان 12كانون الثاني 1963).‏
                      هذا الغنائي التهكمي، هذا التراجيدي الساخر، هذا المهرّج الميتافيزيكي، يأخذ منا أكثر مافي اللغة من إنسانية. مواضيعه هي مواضيعنا، وأولئك الذين مازالوا يتهمون يونسكو بالانغلاق والعمى، إذا ما وُجدوا، هم العميان حقاً.‏
                      جان - جاك غوتييه الفيجارو 7 كانون الأول 1966).‏
                      نعم، ها أنذا أقول وأكرر:"الملك يموت"، مسرحية إنسانية، مركزّة، جيدة التأليف، حسنة الكتابة، فيها شاعرية عظيمة، إنها عمل مؤثر موجع، إنها مضحكة أيضاً. إنها تراجيكوميديا شكسبيرية.‏
                      اذهبوا لمشاهدتها، إنّها تستحق العناء.‏
                      بيرنيرو دوبوادفر لينوفيل ليتيرير 7 نيسان 1966).‏
                      عن مسرحية العطش والجوع). عمل حرّ، غني، جميل، متحرر من جميع الايديولوجيات، على اتصال مباشر مع القلق العميق الذي يعانيه هذا القرن وتحمل المسرحية سماته؛ لكنّها تتجاوزه للضرورة الفكرية التي لا جدال فيها والتي تظهر في المسرحية. إنها دراما غريبة عظيمة يمكن الانتقال فيها بيسر من الهزلي إلى التراجيدي ومن اليومي إلى الأبدية.‏
                      رونيه سوريل الأزمنة الحديثة نيسان 1959).‏
                      عبثاً يفتش المرء في هذه المسرحيات عن علامة من علامات عصرنا.‏
                      هانز ماير المسرح الشعبي العدد 50، 1963).‏
                      فرد وحيد ومعه ميزته الخاصة: تهديد القلق والموت. صاحب ايديولوجية يراوده وهم أنه يحارب كل الايديولوجيات. مؤلف مسرحي ذو رسالة موجهة إلى شخص واحد. لكن هذه الشخصيات المتفرّدة كلها، المتباهية بحريتها، التي تتحدث وتكتب ضد حضارة الجماعة هي في الحقيقة تعبير عن حضارة الجماعة تلك.‏

                      محاولات تفسيرية:‏
                      بعدعشر سنوات من النضال و"الفشل المتعاظم" فرض يونسكو نفسه على الجمهور حوالي عام 1960. آنذاك بذل النقد جهداً مقبولاً لفهم مسرحياته وتفسيرها. حلّل النقد الفن المسرحي، والتنفيذ، وبنية الحدث، والشخصيات واستخدام الديكورات والاكسسوارات، كما وضّح النقد دلالات ذلك المسرح ومقاصده.‏
                      فيليب سوبو دفاتر الفصول 1959).‏
                      لا يلجأ يونسكو إلى الحيلة أبداً على عكس معظم المؤلفين المسرحيين. لم تكن تلك المهنة الشهيرة، ولا إيرادات المسرح ولا المهارات العظيمة حصنه المنيع أبداً. كان كل شيء يبدو بسيطاً جداً، واضحاً جداً بحيث يتساءل المرء إن كان المؤلف قد أقدم على ذلك عن قصد. مع ذلك لا نلحظ أبداً أي تراجع أو أية لحظة لا حركة فيها.‏
                      جورج دوفين الوبسرفر تموز 1959).‏
                      هل يكفي أن نقول أن على المسرح أن يهتم بالواقعية الاجتماعية لأن المشاكل الاجتماعية ذات أهمية عظمى؟ ليست المشاكل الاجتماعية هي المشاكل الوحيدة... ولماذا يجب على العقدة والغاية أن ترتديا الزي الإبسني؟ أبسبب الشيء الزهيد يقال عن يونسكو إنه مُضِلّ خطير؟ بحق السماء ليتنا نستبعد أبداً أولئك الذين يبتعدون عن الطريق العريض. لأنّ افتقادهم يوحي بأمر مزعج... لا. يجب على المسرح الحي أن يدفعنا إلى معرفة أنفسنا معرفة أفضل، وأن نعرف الآخرين، وأن نطرح من جديد مسألة المدارس الجديدة كلها. "الالتزام"، يعني أن نضع أنفسنا في موقف الكلب الذي يركض خلف ذيله.‏
                      بيير ايميه توشار أفانسين العدد 156، 1959).‏
                      يجب علينا أن ندرك جيداً أن الشباب المثقف قد اكتشف في عالم بيكيت ويونسكو) وجه الإنسان المعاصر؛ ويكفي النجاح العالمي لهذه الأعمال لدى جيل الشباب في شتى البلدان لينذر أولئك الذين يقهقهون ويرفضون هذا الحكم المبرم في قضية المغامرة الإنسانية.‏
                      جورج نوفو افانسين العدد 156، 1959):‏
                      تبدأ الشخصيات عموماً ببعدين فتتميز آنذاك بسطحية مضحكة لكن كلما تطورت المسرحية نراها تكتسب أبعاداً إضافية، أبعاداً تصل إلى أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر، ويرمينا المؤلف في الطبقات المتراكبة لحياة الشخصيات الداخلية يجب أن نقول: مسرح عرائسها الداخلي) كما لو كنا في علبة تتكشف أعماقها واحداً بعد آخر. في عالم يونسكو، يبدأ كل شيء طبيعياً وينتهي غرائبياً.‏
                      كلود روا فرانس - اوبسرفاتور 1959):‏
                      عذر يونسكو لرغبته في إيصال رسائل باعتزاز ومباهاة، كما يفعل موزعو البرقيات الصغار، هوأن بعض العقول النيّرة تعاملت معه في بداياته على أنه صبي وقح، وبما أن تلك العقول النيّرة لم تفهم ماذا كان يريد أن يقول استنتجت أنه لا يريد أن يقول أي شيء.‏
                      سيرج دوبروفسكي الضحك عند يونسكو. مجلة المجلة الفرنسية الجديدة. شباط 1960).‏
                      المسرح اللاعقلاني ليس مجرّد مسرح يهاجم أصنام العقلانية، التطور-نحو السعادة- بواسطة- العلم... إنّه في الدرجة الأولى مسرح وُجِدَ ليعبّر بالفعل عن اللاعقلاني. كان المسرح التقليدي متماسكاً لأن الإنسان الذي قدّمه كان متماسكاً، ومن وجهة النظر هذه فإن كتّاب اللا معقول، مثل كامو وسارتر، بقوا، في مسرحهم، كما في أسلوبهم، محافظين تماماً... التعبير الحقيقي عن اللامعقول يتطلب تفكيكاً كلياً مزدوجاً، تفكيك الشخصية وتفكيك اللغة[....].‏
                      تقدم مسرحية المغنية الصلعاء، مثلها مثل جميع مسرحيات يونسكو، عينات كاملة لما أسماه هيديجر "الثرثرة اليومية"، حيث يترسب العناء الإنساني في عبارات وأقوال مأثورة وأمثال نتعرّف عليها حال ورودها لأنّها زينة حديثنا اليومي. يوجد لدى يونسكو رقيب، وصاحب تصانيف لا يرحمان، يقذفان لنا مجموعة من الحماقات النموذجية [....].‏
                      مسرح يونسكو مسرح انطولوجي ويبدو أن المؤلف من أوائل المسرحيين الذين أخذوا على محمل الجدّ التأكيد القائل أن الفكر ليس منطقة للوجود بل على العكس إنه لا وجود له في وسط هذا العالم.‏
                      غي دومور آر. كانون الثاني 1960):‏
                      يجعلنا يونسكو نفكر بذلك الرجل الذي يبحث في عاصمة أجنبية عن غرض مفقود. أولئك الذين يعرفون مسرح يونسكو يعلمون جيداً أنه ماعاد يتذكر جيداً ذلك الغرض المفقود ولا إن كان قد فقده حقاً. لكنه يتابع بحثه حتى يضيَّع نفسه ثم يجدها من جديد. مسرحه هو قصة هذا البحث الذي ربما كان بلا جدوى. لكن من يدري؟‏
                      مارتان ايسلن مسرح اللا معقول 1961).‏
                      مجرّد عرض هذا الموقف اليائس وتقديم الفرصة للمشاهد لكي يواجهه، مفتوح العينين، يشكل بحدّ ذاته عملاً تطهيرياً تحريرياً. ألم يواجه أوديب ولير اليأس المطلق لا معقولية الشرط الإنساني؟ مع ذلك فإن مأساتيهما هما تجربتان محررتان منفذتان.‏
                      فيليب سينار يونسكو 1964):‏
                      مسرح يونسكو مجموعة تساؤلات حول الشرط الإنساني لأن الوساوس التي يطرحها تعبّر عن شعور بالانتظار منذ آلاف السنين لن يجاب عليه إلاّ في نهاية الزمان. ربما كان هذا المسرح مسرحاً لاهوتياً لكنه مُهدى إلى "العدم الكبير" كما أن العقائد التي يمجّدها هي الأساطير التي حاول قدر الإنسان دائماً أن يتعرّف على نفسه فيها.‏
                      سيمون بن موسي يونسكو 1966):‏
                      شخصيات محاصرة، تلك هي شخصيات يونسكو التي تحاصرها ذكرياتها ويحاصرها العالم. جميع الأشكال تصبح عوائق وعقبات، وجميع الأفكار تغدو متساوية، أي مربكة بالتالي. قتامة في اللغة: حصار داخل الأحاديث الدائرية، قتامة في المفردات التي صارت أشياء، قتامة في الأشياء التي تبني أمكنة محصورة، قتامة في البيوت، التي تتفتت وتغرق وتكتسي بالفطور وتتضاءل حتى تصبح في حجم القبر، بيوت "للخريف الأبدي". قتامة في الزمن الذي يدور مثل سلّم كهربائي لا يمكن للإنسان إلاّ أن يفقد توازنه، وأخيراً قتامة في الايديولوجيات العدوانية، المتشابكة، الباطلة.‏
                      روبير أبي راشد دفاتر رينو -بارّو عدد 53. 1966).‏
                      بينما كل شيء يدفع الكتّاب والفنانين للتمسك بصيغة نهائية محدّدة، بحجّة الوفاء لأنفسهم، يتقدم أوجين يونسكو إلى الأمام دون الاكتراث بأن يقدّم عن أعماله صورة متماسكة مُعدّة سلفاً. ما أطول الطريق الذي قطعه منذ المغنية الصلعاء، وما أكثر الموضوعات الجديدة التي اكتشفها! لا، ليس في الإمكان التحدث عن الإنكار والجحود في هذا المجال، بل عن قلق كامن خفي منذ بدايات هذا المسرح راح يعلن عن نفسه شيئاً فشيئاً بقوّة، ويتحد قليلاً قليلاً مع السخرية حتى سيطر عليها في بعض المواقع وأنارها بنور غير متوقّع [....].‏
                      هل تنكّر يونسكو لوجهات نظره الأولى، واعتنق أفكار الفن الملتزم؟ ليس بالشكل الكافي، فمغزى هذه المسرحية الكركدن) لا يرتبط بأية مواقف سياسية واضحة.‏
                      جان دوفينيو المسرح والمجتمع 1969):‏
                      استمرت تجربة "المسرح الجديد" عشر سنوات. طرأت تغيرات على هذه التجربة خلال تأكيدها لشرعيتها وصفتها الرسمية. فخسرت أحياناً مذاقها اللاذع وحيويتها [....] لقد تجاوز يونسكو سريعاً الاعتراض العنيف على اللغة الدارجة والمواقف المبتذلة التي كان يعمل بها، بلا شك، في متابعة رواية "بوفاروبيكوشيه"(5) ، لكن المسرحية الهزلية الفلسفية أخفت القلق في حالة الرضى العلني وتوغلت بطريقة مؤلمة إلى باطن الكاتب نفسه.‏
                      برتران بوارو -دلبش لوموند 24 كانون الثاني 1970):‏
                      بمناسبة انتخاب يونسكو عضواً في الأكاديمية الفرنسية).‏
                      حتى لو كانت مساهمته في الفن العالمي قد فقدت شيئاً من قوتها، إذ تحوّلت إلى تأملات بسيطة عن الموت، وارتدت إلى شكل من الإنسانية الكئيبة، حتى لو أن ابتكارات أخرى بدأت تبيّن أن ابتكاراته أصبحت عتيقة، فإن يونسكو سيبقى الكاتب الأول، إضافة إلى بيكيت، الذي أعاد صياغة لغة المسرح للتعبير عن المخاوف الكبيرة الجديدة، وهذا وحده يستحق الخلود.‏
                      مؤلف "الكراسي" في رداء أخضر؟ والخطأ الطبيعي المرتبط بالمعجم؟ رغم كل شيء فالأمر ليس مستهجناً أبداً....‏
                      (1) بوليفار: سيمون بوليفار، الجنرال الذي حاول تحرير وتوحيد أمريكا اللاتينية.‏
                      (2) تلطيخية: Tachisme: نزعة في الفن التجريدي للرسم باللطخات.‏
                      (3) الأحادية Solipsisme: مذهب يقرر أن الأنا وحده هو الموجود وأن الفكر لا يدرك سوى تصوّراته المنهل).‏
                      (4) شحنة مفرغة: مقذوفة متفجرة توضع حشوتها بحيث توجه إلى الأمام وهي بليغة التأثير على المدرعات.‏
                      (5) بوفار وبيكوشيه:Bouvard et pe`cuch ,et :رواية لم تكتمل كتبها جوستاف فلوبير ونشرت عام 1881 وهي قصة رجلين محدودي الذكاء يجرّبان شتى أنواع المهن لكنهما يفشلان بطريقة مضحكة.‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو

                        حوار مع أوجين يونسكو
                        حواء..‏
                        - كلود ابستادو: تمثّل دراسة الناقد للعمل الأدبي وجهة نظر موضوعية دائماً. هل تستطيع يا أوجين يونسكو، أن تقدذم وجهة نظر شخصية حول بعض المسائل، وأن تشير إلى مقاصد المؤلف؟...‏
                        من مسرحية إلى أخرى، وتحت وجوه متعددة، قدّمتْ وجسّدتْ المرأة والرجل، حواء وآدم، كيف تراهما؟‏
                        - أوجين يونسكو: عندما أتحدث عن الزوجين، أخصّ المرأة بالمديح. أعنقد أن المرأة هي التي تمتلك الصفاء والحب.‏
                        لديّ انطباع أن هذا واضح جداً منذ منتصف الفصل الأول في مسرحية العطش والجوع. المرأة عاقلة. محبّة، تضمّ في أعماقها صفاء وفرحاً روحياً لا نجدهما لدى الرجل. وهي التي تجسّد روح الزوجين وهي المسؤولة عن الرجل، لكنها لا تنجح دائماً. في المشهد الأخير من الفصل الأول نجد عندها رؤية فردوسية، بينما الرجل لا يدرك شيئاً من ذلك الحب. يهجر البيت ويضيع. لم يلتقِ بأي شيء أساسي، ولم يجد شيئاً، وينتهي به المطاف إلى ذلك الدير-السجن الذي يمثل صورة عن الجحيم. على العموم مسرحية العطش والجوع تعالج إلى حدّ ما موضوع فاوست ومرغريت...‏
                        المرأة مسؤولة عن كل شيء وإذا ماظهرت يائسة من وقت لآخر فذلك لأن الرجل يصب عليها همومه كلها. في اميديه يهرب الزوج، يفرّ لكنها تبقى وفيّة مخلصة. وفي الكراسي. الرجل فاشل لكنها تتبعه حتى في فشله، ترافقه، تتبعه حتى في الموت. يهرب الرجل أحياناً أو يحاول الهرب لكن المرأة لا تفعل ذلك...‏
                        ك.أ. لكن في مسرحية الكركدن، ديزي هي التي تهرب.‏
                        ا.ي. صحيح، لكن ديزي، في الكركدن، ليست زوجة، إنها امرأة مغناج.‏

                        ك.ا. في "الملك يموت" للمرأة وجهان لا ينسجمان. مرغريت وماري.‏
                        ا.ي. مثّلتْ دور مرغريت بشيء من الخبث تلك الممثلة العظيمة التي قدمت معظم مسرحياتي، تسيلا شيلتون. ربما كان يناسب تسيلا شيلتون دور الضحية، أما بالنسبة لدور مثل دور الملكة مرغريت فقد وجدت مخرجاً إذ خلقت منه شيئاً آخر؛ خلقت منه امرأة مستبدة تسعى إلى الخصام إلى حدّ ما. لكن مرغريت تمثل القدر، تمثل القانون، والقانون رصين، قُدّمتْ عروض أخرى في انجلترا والمانيا صورة مختلفة عن المرأة، المرأة التي لا تلين لكنها صافية مشرقة.‏
                        المرأة هي الواجب لكنها الحب أيضاً. الملكة ماري هي الوجه الآخر للملكة مرغريت. هناك وجهان للمرأة، هناك ازدواجية. أرادت ماري أن تهب الملك سعادة أرضية ربما كان من المستحيل أن ينالها بينما كانت مرغريت مجبرة على أن تقوده حتى إتمام ذاته في الموت.‏
                        في مسرحية لعبة القتل نرى رجلاً وامرأة عجوزين يمكن اعتبارهما تلخيصاً لمسرحية الكراسي. المرأة هي التي تمتلئ بالثقة، المرأة هي السعيدة، رغم الكارثة، رغم الطاعون، رغم الموت. هي سعيدة لأنّها أحبت طوال الوقت. لقد أدرك الرجل متأخراً أن الحب والخلاص كانا قربه.‏
                        في الماشي في الهواء، تدافع المرأة عن الرجل، تساعده، تخاف عليه. هي التي كان عليها أن تعمل لتؤمن طمأنينة زوجها المجنون. في مشهد الكوابيس من الجزء الثاني من المسرحية أردتُ أن أبيّن الوحدة المطلقة التي تعيش فيها المرأة لأن الرجل يستطيع الاعتماد على المرأة، يمكن أن تحبه المرأة، أمّا المرأة فلا سند لها، وهي التي تمسك كل الخيوط بيديها.‏
                        .... وآدم.‏
                        ك.أ. والرجل؟ الموزّع دائماً بين صعوبة الحياة والاندهاش، أية تجربة في هذا العالم يمثلها الرجل؟ قيل أحياناً إنك قدّمت نفسك على المسرح تحت اسم بيرانجيه أو جان...‏
                        أ.ي. ربما كانت شخصياتي صورة عني إلى حدّ ما. لكن لا يمكن أن تكون أنا. صعب أن أقول: إنها غالباً الشيء الذي لا أريد أن أكونه، مالا يريد الكاتب أن يكونه. إنها الصورة التي رآها في الحلم. يمكن أن يكون المقصود شخصاً آخر، شخصاً تتحدث عنه، عرفناه، إذن نخاف منه... الرجل مثل الطفل ومن هنا يمكن أن نجد قيمته. إنه ذو قيمة روحية لأنه رغم كل شيء، طفل بحاجة إلى أم، إلى الأم- الزوجة التي تواسيه، ولأنّه يملك رؤية مدهشة للعالم. بطريقة ما، الرجال الذين خلفتهم لا يشيخون إذ أنهم يتابعون حياتهم في الاندهاش، والذهول والاستغراب.‏
                        هذا الاندهاش أمام الكون هو الموقف الفلسفي الأساسي، كما اعتقد، ومن ثمّ يجب إقامة فلسفة طبعاً؛ لكن نقطة انطلاق كل معرفة هي هذه القدرة على الاندهاش.‏
                        نرى هذه القدرة أحياناً لدى المرأة لكنها تكون أضعف بكثير دون شك، لأن للمرأة هموماً كثيرة إذ يجب عليها أن تساعد وتسند طفلها الرجل العجوز.‏
                        الفرد والمجتمع:‏
                        ك.ا. أنت تعرض الفرد في حالة تمرّد "غريزي" بمواجهة المجتمع.‏
                        ا.ي. الجمهور وحش مخيف. هذا ما حاولت أن أقوله في الكركدن، يرفض بيرانجيه أن يكون مثل الآخرين، يرفض ارتداء الزي الدارج، يرفض الإيمان بالايديولوجية المسيطرة، يرفض الانخراط مع الجمهور، يرفض الولوج إلى عالم "التنكير المجهول". يخاف أن يخسر روحه أوشخصيته. كان اينشتاين يكره التجمعات البشرية التي تضم عشرات الأشخاص. كان يحتقر من يحبون الشعارات، من يصرخون "صيحة القتال"، من يسيرون أرتالاً على الإيقاعات الموسيقية كما كان يفعل الهتلريون سابقاً وكما يفعل الصينيون حالياً؟ يغنون ويحملون شعارات أخرى، آلهة أخرى من الرجال.‏
                        في "الماشي في الهواء" قيل إنني كنتُ أتحدث عن خوفي الخاص، لكن لهذه المسرحية طابع سياسي... اعتمدتْ حكاية الطفل المقتول على "حادثة حقيقية" كما أنّ البعض قال: المقصود حكاية شاب في السابعة عشرة حاول الهرب من برلين الشرقية، فأُردي قتيلاً على "السور" عندما حاول اجتيازه... أما الشيء الذي رآه بيرانجيه أثناء هربه فهو الصورة البشعة المخيفة للعالم، العالم المستبد... إنّها حقاً مسرحية سياسية. عُرضت في برلين وفهمها البرلينيون على هذا الأساس مما خلق بعض الضيق والإزعاج.‏
                        ك.أ. وماذا يمثل "ماوراء العالم"؟‏
                        أ.ي. صعب جداً أن أشرح ذلك. المهمّ، في تلك الفترة كنت قد قرأتُ مؤلفات بعض علماء الفيزياء.‏
                        ك.أ. "قاتل بلا أجر" هي أيضاً مسرحية سياسية، إذا ما تذكرنا مشهد الأم بيبا.‏
                        أ.ي نعم. الأمر واضح.‏
                        مسرح"ملتزم".‏
                        ك.أ. أخيراً. هل يمكن الحديث عن مسرح ملتزم فيما يتعلّق بمسرحياتك، على عكس رأي بعض النقاد؟‏
                        ا.ي. كنت أتهم عام 1954، بأنني لا أكتب مسرحاً ملتزماً. في مجلة الاكسبريس مقالة طويلة بتوقيع برنار دور يقول فيها: حسناً، لقد أحسن اداموف، ويونسكو فيما صنعاه حتى الآن - أي نقد المجتمع البرجوازي ونقد لغة البرجوازية الصغيرة هذا ليس صحيحاً إذ أن المقصود هو "البرجوازية الصغيرة في كل المجتمعات، اشتراكية أو رأسمالية أوسواها)، أمّا الآن فعليهما أن يقدّما شيئاً آخر، شيئاً إيجابياً.. كانوا يطالبوننا بالانضمام إلى مدرسة بريخت، وكان دور يريد أن يكون زعيم ايديولوجية تيار جديد؛ لكن لم تكن لديه القدرة على ذلك.‏
                        اعتباراً من قاتل بلا أجر والكركدن بدأتُ كتابة "مسرح ذي رسالة" لكنها لم تكن الرسالة المنتظرة.‏
                        ك.أ. لقد كتبت أن ليس على المسرح أن يمجدّ أية ايديولوجية، وأن الأجدى من ذلك أن يقرأ المرء مقالة فلسفية أو جريدته اليومية.‏
                        أ.ي. أرى أنّه إذا كان على المسرح أن يبقى بعد وفاة مؤلفه لن يكون ذلك بسبب الرسالة التي ينقلها.‏
                        أستشهد غالباً ببيراندللو: جميع نظرياته النفسية التي كانت تثير اهتمام عصره تمّ تجاوزها، ومع ذلك فإن بيراندللو مازال حيّاً.‏
                        كذلك الذين أقاموا المعابد، كانوا يتخيلون أنهم يفعلون ذلك لجمع المؤمنين وتقديم الأضاحي للآلهة؛ لقد خلق المهندسون المعماريون أثراً معمارياً بكل بساطة.‏
                        في مؤلفات الكاتب المسرحي، إمّا أن يتلف كل شيء ويتلاشى أو تتحوّل تلك المؤلفات إلى مسرح خالص.‏
                        ك.أ. ماذا تقصد بـ "مسرح خالص"؟‏
                        أ.ي. هناك الكثير مما يقال في هذا الموضوع.‏
                        في المسرح، ليست الأفكار هي التي تبقى إذ أن الايديولوجيات كلها تسقط في النهاية ويتمّ تجاوزها. ما يبقى هي العواطف والشخصيات، وربما بعض الأفكار، لكنها أفكار حيّة، من لحم ودم. لا يعنينا الآن الأفكار الفلسفية التي أتى بها شكسبير، إن ما يعنينا هو انفعالات هاملت أو ماكبث أوالملك لير... فلسفة شكسبير موجودة عند باسكال، عند الملك سليمان، عند النبي أيوب...‏
                        هذا ما يُطلق عليه نقاد هذه الأيام "الترهات" الأمر يتعلق بكاتب جديد).‏
                        الإخراج:‏
                        ك.أ. مصير مسرح ما مرتبط أيضاً بتنوّع العروض التي يقدمها الممثلون والمخرجون.‏
                        ا.ي. نعم. أعتقد أن عملاً مسرحياً يمكن أن يُعرض بطرق متنوعة جداً: هناك عدد غير محدود من العروض المقبولة وعدد غير محدود من العروض غير المقبولة.‏
                        ك.أ. يتطوّر الإخراج مع الزمن. المسرحية التي كتبت عام 1950، لا يجوز أن تُعرض عام 1970 بالشكل الذي أُخرجت فيه سابقاً.‏
                        أي. لا شيء يشيخ سريعاً مثل أسلوب الممثل أو طريقة الإخراج. المسألة هامة. تتغير الحساسية الإنسانية كل عشر سنوات أوخمس عشرة سنة. وعلى الإخراج أن يلبي أسلوب كل عصر.‏
                        ك.ا . من وجهة النظر هذه، هل يمكن اعتبار "لعبة القتل" بداية طريقة جديدة في مسرحك.‏
                        ا.ي. نعم. لديّ هذا الانطباع.‏
                        بدأتُ أولاً بالمسرحيات ذات الفصل الواحد ثم انتقلت إلى مسرحيات أطول مثل قاتل بلا أجر، والكركدن.. مسرحية الملك يموت، لحن طويل محزن.‏
                        أمّا في لعبة القتل، فيمكن تخيّل عدة مشاهد تُعرض في وقت واحد على المنّصّة.‏
                        شاهدنا هذا العام في باريس مسرحية "اورلاندو العنيف" قدّمها المسرح الحرّ في روما من إخراج لوكار ونكوتي. كان هناك مقاطع جميلة هنا. ومشهد رائع هناك وكان المشاهدون ينتقلون من مشهد إلىآخر. هذا يدعو للاهتمام لكنني لستً من المعجبين بهذه الطريقة.‏
                        منذ حوالي خمس عشرة سنة فكّر جان -ماري سيّرو وآغام أن يوزّعا منصات صغيرة حول الصالة تُقدّم عليها مشاهد مختلفة، وكانت الكراسي الدوّارة تسمح للمشاهدين بمتابعة هذا العرض أو ذاك حسب رغباتهم.‏
                        لكن هذه اللعبة، لعبة لا تستطيع الذهاب بعيداً.. وليس لها أية نتائج خطيرة.‏
                        ك.ا. لكن هذه اللعبة تخلق ولا شك علاقات جديدة بين الجمهور والممثلين...‏
                        ا.ي. هذا يعني أنه لم يعدهناك قيمة لأي شيء. هناك نوع من التمرّد بين صفوف المخرجين ضد المؤلفين، وقد عبّر بعضهم مثل بيتر بروك عن ذلك بطريقة هذيانية تقريباً إذ قال إن على المؤلف أن يصمت وكل شيء مرتبط بالمخرج، أي به!‏
                        هذا كلّه لأنّه مخرج وليس مؤلفاً. لو كان ممثلاً، لقال إن الممثل هو الشخص الوحيد الذي يحق له الكلام.‏
                        لقد أُعجبت جداً، بما فعله غزوتوفسكي؛ لكن خَلَفَه كان هزيلاً، أبله أحياناً، غروتوفسكي، إنه التقشف والزهد ولا أرى بين الممثلين والمخرجين الباريسيين من يفعل مافعله.‏
                        يتهافت الناس على كل جديد، خصوصاً الكثيرون من رجال المسرح حتى لا يُقال إنهم "متخلفون".‏
                        لقد ولّى زمن كان الممثل فيه يتمرد على المؤلف.‏
                        هذه مغالاة. يجب إعادة التوازن. الإخراج مهم لأن فكراً يكمن خلفه.‏
                        في بعض مسارح باريس الصغيرة حاولت بعض الفرق تقديم عروضها دون مخرج ودون نصّ؛ لكن تلك المحاولات لم تعطِ أية نتيجة فرجع المخرجون الشباب، أي أولئك الذين يلغوا سن الأربعين أوالخامسة والأربعين، إلىالكلاسيكيات. أدركُ مع ذلك أن المؤلف شخصية لا تحتمل أبداً.‏
                        ك.ا. هل تعتقد أن مشاركة الصالة مع المنصة نافعة؟‏
                        ا.ي. أعتقد أن من الممكن تقديم كل شيء علىالمنصة ففي إحدى مسرحيات لونورمان عرض ج. باتي واجهة منزل مع نوافذ، كان هناك مشاهد مختلفة لكنها تندمج مع بعضها وتؤلف مجموعة منسجمة تُقدّم على المنصة ضمن تنظيم محدّد. يجب المحافظة على الوحدة ضمن تـنّوع المشاهد.‏
                        أشكال التعبير:‏
                        ك.ا. لقد كتبت ياسيد يونسكو حوالي ثلاثين مسرحية، وقصصاً، ومقالات نقدية، كما نظمت من قبل عدة قصائد، وسجّلت "يوميات"... هل ترى في المسرح وسيلة تعبير متميزة؟‏
                        ا.ي. يجمع المسرح احتمالات وسائل التعبير المتنوعة الأكثر فقراً...‏
                        ك.ا. بأية طريقة؟‏
                        ا.ي. اوه. أنت تعلم! أنا لا أعرف أبداً ماهو المسرح. لقد حاولتُ تعريفهُ لكن ذلك كان مستحيلاً تماماً. قلت في نفسي أولاً، كما يفعل جميع الناس؛ المسرح صراع، لكن الصراع موجود في الرواية أيضاً. المسرح قصة فيها أشخاص لديهم قضايا فيما بينهم، وهموم، لكن يمكن أن نجد ذلك في السينما أو في الروايات. يقال إن المسرح حوار، لكن بعض المسرحيات مبنية على المونولوج... التعريف الوحيد الممكن إذن هوأن تقول: المسرح هو شيء ما يُعرض علينا... يمكن أن يجري التمثيل على منصة أو في الشارع أو في باحة.‏
                        لكن لماذا لا يتمّ التمثيل في صالات المسارح؟ ذلك مناسب أكثر.‏
                        بعد خمس عشرة سنة ستمنع الثورة الرافضة المقبلة التمثيل على أرصفة نهر السين وستفرض إنشاء المسارح من جديد.‏
                        رويت في كتاب "اكتشافات" كيف التقيت مع المسرح. كنت في المدرسة الابتدائية وكان السيد لوازو، وهو المعلم، قد طلب منا أن نكتب موضوع إنشاء فكتبتُ ما أريد قولهُ بشكل حوار. كنتُ أكتب آنذاك إذن مشاهد صغيرة. ثم تخلّيت عن المسرح، بعد ذلك، وفضلّت الأدب. كان المسرح يبدو لي مصطنعاً نظراً لنتائجه الهائلة، وقد فهمت متأخراً إنه يجب التركيز على تأثيراته الكبيرة لأنّ... لأن الأمر هكذا....‏
                        لماذا أصبحتُ كاتباً مسرحياً ولم أصبح قاضياً هذا ما لا أعرفه...‏
                        حقاً لا أعرف.. أسأل نفسي كثيراً هذا السؤال ولاأدري بماذا أجيب.‏
                        لكن المسرح يشمل اليوميات والقصص والمقالات. إنه اعتراف، وحكاية، ونقد أيضاً.‏
                        ك.ا. هل ستتابع كتابة القصة؟‏
                        ا.ي. أحب جداً كتابة القصة، لقد شعرتُ بخيبة مريرة من الطريقة التي قوبل بها كتابي "صورة الكولونيل". لقد أُعيد طبع مسرحياتي باستمرار بينما طبعة أقاصيصي مركونة دائماً عند أصحاب المكتبات. يعتقد الناس أنني كاتب مسرحي وليس شيئاً آخر.. عندما قُدّمتْ مجموعتي القصصية إلى النقاد الأدبيين أرسلوها بدورهم إلى النقاد المسرحيين.‏
                        ك.ا. كتبت عام 1961، سيناريو فيلم "الغضب" كما أنّك أنجزت منذُ فترة فيلم "الطين"، وهو اقتباس لإحدى قصصك. ماهي الإمكانيات التي قدمتها السينما إليك للتعبير عن أفكارك؟‏
                        ا.ي. لم أشاهد ذلك الفيلم... لقد كتبتُ السيناريو ومثّلتُ الدور الرئيسي فيه الحقيقة لم يكن فيه سوى دور واحد). لم تكن عملية المونتاج قد انتهت. سوف أرى إذا كان المخرج قد استطاع أن يضمّن هذا الفيلم ما أردتُ التعبير عنه.‏
                        مررتُ بتجربة غير سارّة في التلفزيون. لقد عُرضت مسرحية الكراسي في كل مكان تقريباً وكنتُ مسروراً من طريقة إخراجها؛ وقد تمّ تصوير أحد العروض. لاقت التمثيلية نجاحاً كبيراً لدى الجمهور أما أنا فكنتُ أشعر أن كارثة أصابتني.‏
                        تحوّلت الكراسي إلى مسرحية بسيكولوجية. الشخصيات واضحة، تنضح عرقاً، تتألم، تقوم بـ "إيماءات معبّرة" لقد أصبح العمل أدبياً ، وفهم الجمهور "نفسية" الشخصيات فهماً مبالغاً فيه.‏
                        الأمر الذي يدعو للاهتمام في المسرح هو أننا لا نرى الشخصيات عن قرب، نحن لا نرى سوى حركات الدُمى، وشخصيتين كاريكاتوريتين ودوامة من الكراسي التي لا يجلس عليها، وهذا يحملنا بعيداً، إننا نتجاوز علم النفس، ونغتني بالوفرة، ونغتني بالحقيقة.‏
                        مشاريع:‏
                        ك.ا. هل لديك حالياً أيةمشاريع؟‏
                        ا.ي. نعم، بالطبع، هناك مسرحية.. أعتقد أن من السابق لأوانه أن أتحدث عنها.‏
                        ك.ا. ألم يتحدد موضوعها بعد؟‏
                        ا.ي. بل، بلى، تأثرتُ كثيراً بجان كوت، الاختصاصي بمسرحيات شكسبير وأريدُ أن أكتب شيئاً عن غريزة السيطرة ......libido dominandi‏
                        ك.ا. ماكبث إذن؟‏
                        ا.ي. طبعاً ستكون عن ماكبث، كيف يحدث أن جندياً فاضلاً مخلصاً يتحوّل إلى وحش؟... نتيجة طموحه السياسي.. أريد أن أبيّن أن السلطة خطر وشؤم، وأولئك الذين يريدون السلطة السياسية، سواء حصلوا عليها أم لم يحصلوا- مصابون بالذهان الهذياني Paranoiaques.‏
                        يجب أن نسير بإرشادات العقول الإلكترونية...‏
                        ك.ا. هذه نظرة تدعو للقلق!‏
                        ا.ي. لا أعتقد ذلك. على كل حال، هذا أمر علينا أن نجرّبه! العقول الألكترونية توزّع الثروات. ربما كان في الإمكان إيجاد مجتمع بلا سياسيين. سيكون في الإمكان إيجاد مجتمع، بل مجتمعات، دون قادة الأحزاب... سيجد الناس المعنى الحقيقي "للسياسة" أي علم -جديد وقديم في وقت واحد- العلاقات الإنسانية، لكن السلطة توقظ "غريزة السيطرة".‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو


                          فكر نقدي وتجارب في الأسلوب
                          تشكل سنوات 1958-1962 في إبداع يونسكو فترة تأمّل وسنوات أزمة. أسلوب "الكركدنات" ونجاحها، والتخصيص شبه الرسمي لـ "صالة تتلقّى معونة" أدّى إلى "تبديل في التحالفات" بين النقاد. بعض الذين انتقصوا من قيمة أدب يونسكو في الماضي راحوا يهنئونه ويفرحون لنجاحاته مثلما تفرح الأسرة بعودة الابن الضال؛ وبالمقابل فالنقاد الذين ساندوه منذ الساعة الأولى أدانوا مسرحية "الكركدن" باسم "المغنية الصلعاء".‏
                          شهد يونسكو كثرة التفاسير والإنتقادات، وسجّل تناقضاتها، ووضع النقاد وجهاً لوجه مع بعضهم ولم يؤيد أحداً منهم. استرجع يونسكو في محاضرة ألقاها في السوربون، في شهر آذار 1960، ونشرها في كتاب "ملاحظات وملاحظات مضادة" تحت عنوان: "كلام حول كلام الآخرين"، استرجع على مدى سنوات، شروحات "أكاديمي من نزعة إنسانية وانطباعية".زمن الطبيعي أن يكون الناقد الانطباعي أقلّ انسجاماً "من غيره". "فيما يتعلّق بمسرحيتي الأولى "المغنية الصلعاء"، قال ذلك الناقد، منذ سنوات عديدة، وبمناسبة تقديمها، إنها لاتستحق أكثر من هزّ الأكتاف، وفيما بعد، وبعد أن شاهد مسرحية أخرى "الكراسي" على ستديو الشانزيلزيه، كتب أن المسرحية تذكّره بقصة لأناتول فرانس لكن دون خيال ولا إبداع ولا فكر، واختتم مقالته قائلاً إنه لايفهم كيف أن المؤلف الغني بالغرابة والظرف، الذي كتب "المغنية الصلعاء" الناجحة، يقدم على كتابة مثل هذه المسرحية الهزيلة الباهتة".تابع يونسكو محاضرته بعملية "مونتاج" للإنتقادات المتناقضة حول مسرحية الكركدن، وفي تلك المحاضرة نجد كل القريحة التي رأيناها في "مسرحية الما". حدّد يونسكو فنّه المسرحي في مجموعة مقالات: تجربة المسرح 1958) مقال عن الطليعة 1959) المؤلف ومشاكله 1958) كما أجرى مقابلات وألقى محاضرات وكتب مقدّمات... هذا جهد يهدف إلى توضيح الأمور لصاحبها أكثر من كونه طريقة يحدّد المرء فيها موقفه من الآخرين؛ وفي عام 1962 جمع يونسكو هذه المقالات النقدية في كتاب "ملاحظات وملاحظات مضادة"، كما جمع قصصه القصيرة في كتاب "صورة الكولونيل".‏
                          يبدو أن التأمّل دفع يونسكو للعودة إلى المسرح الخالص. كتب اسكتشات مبنيّة على بعض الأساليب أو الآليات التي كانت تخدم المغزى في المسرحيات الناجحة لكنها هنا للمتعة فقط.‏
                          في اسكتش "مشهد رباعي" الذي كُتب عام 1956 وقُدّم في السنة نفسها في مهرجان سبوليت، يتنافس ثلاثة رجال: ديبون، دوران، مارتان للفوز بامرأة.. يطلبون منها أن تختار وينتهي المشهد بعراك شامل تفقد السيدة خلاله قبعتها ومحفظتها وثيابها وذراعيها ونهديها وإحدى ساقيها...‏
                          إن اسكتش "تعلّم المشي" عام 1960 ، هو الأساس لباليه للإبهار. تحاول ممرضة أن تعلم شاباً مشلولاً المشي خطوة خطوة ثم يتحوّل البطلان إلى راقصين. أثناء الحركات الباهرة يرتفع الشاب عن الأرض ويرتقي سلماً من نور. قدّمت هذه البالية فرقة فرانسواز ودومينيك على رقصات من تصميم ديريك مندل وموسيقى ايفان ماليك.‏
                          *أما الغضب 1961) فهو سيناريو فيلم يعالج فكرة العنف. اللقطات الأولى -وهي سلسلة من المشاهد المؤثرة- تعرض جميع أشكال الطيبة البناءة والانسجام الكوني، لكن ذبابة تسقط في صحن حساء تسبب شجاراً عائلياً، وشجارات عائلية، وحريقاً، وعصياناً، وثورة وحروباً. آنذاك تعلن "مذيعة التلفزيون الساحرة" بابتسامة حلوة: "سيداتي، سادتي، بعد عدة لحظات ستحلّ نهاية العالم" وتكون الصورة الأخيرة صورة "فطر" ذرّي.‏
                          أما "تخريف ثنائي" التي نشرت في آذار 1962 وعُرضت في نيسان على مسرح ستديو الشانزيليزيه ولعب الدورين الأساسيين فيها انطوان بورمي وتسيلا شيلتون فإنها خصام عائلي حول تماثل أو عدم تماثل السلحفاة والحلزون؛ وهل من المناسب فتح النافذة أم إغلاقها، الخروج من البيت أم البقاء فيه... الخلفية الصوتية لهذا الخصام أصوات صدى مضخّمة لضوضاء تمّرد، وهدير رشاشات وانفجار قنابل، وصراخ جرحى، وحشرجة قتلى. أخيراً تنزل، من السقف الذي خرقته القنابل، وعلى أطراف حبال، أجساد بلا رؤوس ورؤوس بلا أجساد لمساجين نُفّذ فيهم حكم الإعدام.‏
                          "الثغرة" وهي مسرحية كتبت عام 1962 وقدّمها المركز المسرحي في الجنوب الغربي عام 1965، ثم أعيد تقديمها في السنة التالية على مسرح تياتر دوفرانس. عند رفع الستارة نرى امرأة باكية في ثياب النوم تستقبل صديقاً يرتدي ملابس سوداء:‏
                          - المرأة: هيّا يا صديقي العزيز، أخبرني بسرعة.‏
                          - الصديق: لاأدري كيف أعلن لك ذلك .‏
                          - المرأة : لقد فهمت.‏
                          - الصديق: كنت أعرف النبأ منذ مساء البارحة، لم أرغب أن أخبرك بالهاتف لكنني لم أستطع الانتظار أكثر، اعذريني لأنني جعلتك تغادرين سريرك لأخبرك مثل هذا النبأ.‏
                          - المرأة: لم يستطع التخلّص من ورطته! يا للمصيبة! حتى اللحظة الأخيرة كنا نتعلّق بالأمل.‏
                          "السيد" -وهو مدرّس في الجامعة، دكتور بمرتبة الشرف من جامعة امستردام، ومن الكليّات السريّة لدوقية اللكسمبورغ العظمى، رئيس لجنة التحكيم التي تعطي شهادة الاستاذية، حائز على جائزة نوبل ثلاث مرات، الأكاديمي... "السيد" رسب منذ فترة قصيرة في شهادة الدراسة الثانوية(1) .‏
                          اغتاظ "السيد" جداً وقرر أن يطلب إلغاء الإمتحان، يخابر رئيس الدولة وهو من رفاقه.‏
                          - الاكاديمي: [...] آلو! الرئاسة... الرئاسة... صباح الخير ياآنسة، أريد أن أتحدث مع الرئيس. معه شخصياً... معه بالذات... آلو! جول؟ هذا أنا... كيف؟...كيف؟ لكن ما هذا الكلام ياصديقي العزيز... لكن، اسمعني... آلو...‏
                          - الزوجة: أهذا هو؟‏
                          - الاكاديمي: للزوجة) اخرسي في الهاتف) أنت تمزح ياصديقي العزيز... أنت لا تمزح؟... يضع السماعة).‏
                          - الصديق: ماذا قال؟‏
                          - الاكاديمي: قال... قال.. لا أريد أن أتحدث معك بعد الآن. لقد منعتني أمي من مخالطة المتخلفين في الصف، ثم سكّر الخط؟‏
                          أخيراً، في هذه الفترة نشرت "البيضة المسلوقة" في آذار 1963 ضمن دفاتر -نيو- بارّو. كتب يونسكو عنها نصيّن : الأول عبارة عن سيناريو على طريقة الأفلام الدعائية والآخر مونولوج قصير هو المحصّلة‏
                          الساخرة لتحضير بيضة مسلوقة(2) .‏
                          لكن عام 1962 هو عام مسرحيتي "الماشي في الهواء" و "الملك يموت".‏
                          "الماشي في الهواء"‏
                          تعرض مسرحية "الماشي في الهواء" التي كُتبت صيف 1962، بيرانجيه على المسرح من جديد. لقد صار بيرانجيه كاتباً مسرحياً، له زوجة ، جوزفين، وابنة، مارتا، وهو ذاته اسمه هريير، أما بيرانجيه فهو لقبه، تجري الأحداث في انكلترا، انكلترا "نموذجيه" حقيقية أكثر مما هي طبيعية، في مقاطعة جلوسستر، ذات يوم أحد.‏
                          يصوّر الديكور بيتاً ريفياً جميلاً وسط مرج يشرف على الوادي. يتنزّه الانكليز في مجموعات عائلية. لقد هرب بيرانجيه من فرنسا وجاء ليستريح وربما ليكتب(3) . يصل صحفي فيعترف له بيرانجيه بيأسه: يشعر أنه غير قادر على الكتابة ولم يعد يعرف إلى أين ينتهي الأدب، فكل ما يمكن أن يقال قد قيل ومع ذلك في الشيء الأساسي لم يُقل بعد.‏
                          يلي ذلك مشهد من عالم الأحلام إذ ترى جوزفين والدها الذي قُتل في الحرب يعود إلى الحياة من جديد، وتدرك أن الموت خسارة لا تعّوض.‏
                          ترمي إحدى الطائرات الألمانية المتخلّفة عن الحرب الأخيرة قنابلها وتدّمر البيت الريفي الجميل. يخرج بيرانجيه سليماً من بين الأنقاض ليسمع جوزفين تؤنبه على اهماله وكسله: "كان بامكانك أن تشتري بيتاً أكثر متانة بدلاً من هذا الكوخ الكرتوني الذي انهار عند أول قذيفة [...] لم تكن تنتظر حجّة أفضل لتنقطع عن الكتابة". تتحدث جوزفين بعد ذلك عن الحلم الذي يقض مضجعها فيشرح لها بيرانجيه قيمة الأحلام والمنعطفات السريّة الحسيّة التي تتكشف فيها. "لو كنا نعيش دائماً في حالة الوعي الثاقب الذي نكون فيه في الحلم لما استطعنا الإستمرار في الحياة".‏
                          ثم تُبعث الحياة في المشهد والديكور فها هو بيرانجيه وجوزفين ومارتا يتنزهون ويتأملون المنظر الجميل: السماء الزرقاء، النور، النهر الفضي، الذي تمخره الزوارق الصغيرة، التلفريك الأحمر المنساب على حبله...‏
                          أما مجموعات الإنكليز فإنها تتحدث عن الحياة اليومية وعن بؤسها. تولّف نتف الأحاديث المتناثرة فلسفة في الحياة والموت وتمزج الحنين مع الحسرات، يهيمن على ذلك كله حكمة تدعو إلى الخضوع والإستسلام.‏
                          أثناء هذا المشهد يظهر مرات عديدة "القادم من ما وراء العالم Antimonde .يشرح بيرانجيه أن ذلك القادم يعيش في الناحية الأخرى من ذلك الجدار اللامرئي المعتم الذي يجتازه المرء دون أن يدرك ذلك.‏
                          لا تؤمن جوزفين، وهي المتشككة المرتابة، بالظواهر الخارقة: "هؤلاء القادمون ماهم سوى صور أوجدتها تخيّلات الرياح" لكن يظهر فجأة الجسر الفضي الذي يربط بين طرفي الهاوية، مكللاً بالنور وسط منظر يزهو بالبهاء.‏
                          في غمرة الفرح، يكتشف بيرانجيه من جديد قوى منسيّة. أمّا وقد انتشى باليقين، ها هو يتوهج ويرتفع فوق الأرض وسط دهشة المتنزهين. انبهرت مارتا ومعها الولد الإنكليزي الصغير، اغتاظت جوزفين وخافت الفضيحة، أمّا جون بول فقد رأي في الحادثة خطراً على صناعة الطائرات، بينما يؤكد بيرانجيه أن من الطبيعي أن يطير الإنسان عندما يكون سعيداً، أما شقاء الإنسان فهو في نسيان هذه القوّة:‏
                          - بيرانجيه: ماذا سيقول الناس إذا نسي المرء السباحة والمشي والوقوف والجلوس؟‏
                          - جون بول: الجلوس يكفي لتحقيق سعادتي، أحب الوقوف أيضاً، أو النوم منبطحاً لا يغطّيني سوى إليتي.‏
                          فجأة يدق بيرانجيه كعبه بالأرض ثم يطير ويختفي.‏
                          يُظلم المنظر وتخترقه بروق دامية. تشعر جوزفين، وقد بقيت وحيدة بالخوف، وتفترسها الكوابيس.‏
                          ثم يستعيد الديكور إضاءته المألوفة، ويعود بيرانجيه، مرهقاً، لا يسمع التصفيق الذي قوبل به، ولا يتناول الأزهار التي تقدّمها له بنت صغيرة؛ فنظراته لا زالت تعبّر عن صور الرعب التي رآها في "ماوراء العالم"؛ وعلى سؤال "ماذا رأيت ياسيدي في الناحية الأخرى؟.. ماذا شاهدت؟ "يجيب: " رأيت... رأيت أوزات... وزات الأم بيبا، دون شك). يصف أرتال المحكومين بالإعدام على المقصلة، والجنادب العملاقة، ورؤساء الملائكة المخلوعين، والمعذبين... إنه يوم القيامة، لكن المستمعين يجدونه خالياً من أية أصالة وينصرفون واحداً بعد آخر ولا يبقى سوى جوزفين ومارتا، ويتابع بيرانجيه رؤاه، يصف، يروي، بينما تهدر موسيقى جوّالة "مفرحة بشكل حزين"، وتقرقع المتفجرات "كأنه الرابع عشر من تموز في انكلترا، "هاويات لا قرار لها، إلقاء القنابل، إلقاء القنابل وهاويات بلا قرار تنفتح على سهول قاحلة، مُدَّمرة منذ زمن بعيد [...] ثم، يأتي الجليد بعد النار اللانهائية، وتأتي النار بعد الجليد، صحارى من الجليد، صحارى من النار تهجم على بعضها وتأتي نحونا... تأتي نحونا".‏
                          الحلــــــم محـــرّك درامـــي‏
                          تتألف المسرحية من فصل واحد، إذن لا انقطاع في سير الحركة، ومن ناحية أخرى تلتزم بدقّة بالقصة القصيرة التي استخدمت أساساً لها، وهي عبارة عن سلسلة متتابعة من صور الأحلام. لكي يخلق يونسكو تطوراً درامياً إنطلاقاً من فكرة غير مسرحية يجري مقابلات بين الحياة والحلم، بل بين مختلف أشكال الأحلام.‏
                          تنطلق مسرحية "الماشي في الهواء" من حلم فيه صمود وارتقاء وقد أشار يونسكو لكلود بونغوا(4) أنه مارس حلم الصعود والطيران كنوع من التخيّل ووسيلة للتحرر العاطفي الشعوري.‏
                          يعبّر هذا الحلم، في رأي يونسكو، عن الحبور المادي والتوازن بين الجسد والروح وانسجام الكائن مع العالم. إنه يتوافق مع مشاعر وأحاسيس واضحة: "تمتليء رئتاي بهواء أخفّ من الهواء العادي.‏
                          تتصاعد الأبخرة إلى رأسي، ياللفرح الالهي... [...] أنا ثمل من اليقين!". من الغبطة ومن تجربة الفرح.‏
                          حلم الصعود الطيران ثم السقوط) يرسم منحنى الحركة الدرامية لكن مجموعة من الصور النهارية والليلية تغني هذه الفكرة الأساسية، فالأحاديث بين الناس تبيّن بؤس المسرات وتؤكد الخيبة في الحياة، كذلك أن كوابيس جوزفين وبيرانجيه تميط اللثام عن عالم الجريمة والألم، وما بين هاتين النظرتين للواقع، تنشأ حالات متشابهة.‏
                          شــــــــعر وســـــخرية‏
                          يعتمد إيقاع المسرحية على تنوّع الحوارات، كما أن التبدّل في الأسلوب يؤدي إلى تبدّل في اللهجة من شخص لآخر ومن مشهد إلى مشهد. جون بول سوقي، فظ، والمتنزهون الانكليز لا يكفّون عن الثرثرة، على نقيض ذلك تكثر الصور في اللغة عندما يصف بيرانجيه صور اندهاشه أو رعبه؛ أو عندما تتحدث جوزفين عن الوحدة والموت، إنها شاعرية النور أو العشوائية التي تضاعف معاني الاستعارات.‏
                          غالباً ما تكون التصريحات مباشرة جداً بحيث أن يونسكو يبحث في السخرية عن قناع يستر حياءه، كأن يسخر المتنزهون الانكليز من بيرانجيه، أو أن تتوقف القصة الخيالية ويتطرّق الحوار إلى الواقع الحقيقي. وأن يشدّ الولد الغيور جدائل البنت الصغيرة التي تغني وتزغرد فتبقى باروكة بين يديه: "نعم، فابنتنا الصغيرة هي المغنية الصلعاء الصغيرة" كما تقول الأم. أمّا بخصوص الصور، يخاطب الممثل الحاضرين في الصالة: "أسود كالثلج في لندن..." وعندما يتحدث بيرانجيه عن "المحاسبة المتعددة العوالم" أو عندما يفسّر ظهور واختفاء الأشياء فإنه يقول أمام شجرة أودغل: "هيّا، أنتما الإثنان، هناك خطأ في الحساب... لقد أخطأ المحاسب... أو المسؤول عن الإكسسوار!"‏
                          مسرحية تحتاج إلى آلة‏
                          مسرحية "الماشي في الهواء"، إضافة إلى التلاعب باللغة، تحتاج إلى آلة وتكنولوجيا، فطيران بيرانجيه أكثر تعقيداً من طيران اميديه، إضافة إلى أنه يتطلّب من الممثل موهبة كبيرة في الإيماء(5) . لا يتمّ الحصول على جوّ الأحلام من خلال قماش التول الفضفاض أو عن طريق ظهور الخيالات والأشباح، بل عن طريق حضور واضح وتقديم الأحداث الخارقة بشكل واضح جلي. لقد ألحّ يونسكو على فكرة أن الأحلام غالباً ما تكون "واقعية" أما في رؤى الكوابيس فإن الشخصيات تبدّل سحنتها وتغدو غريبة بشعة.‏
                          أخيراً، تلعب الإضاءة دوراً هامّاً. شلال النور المتساقط على الجسر الفضي، وتدرّج اللون الرمادي، والظلمة التي تخترقها البروق، والحرائق، تترجم حالات شعورية لدى الشخصيات، إنها تعبّر عن الفرح والحزن والقلق.‏
                          العالم ما وراء العالم.‏
                          "يجب أن لا يكون لدينا سوى فكرة واحدة، وهدف واحد: تحقيق بهجة الآخر" كما كتب يونسكو في "يوميات في فتات". مشكلة العلاقات مع الآخرين هي الموضوع الأساسي في مسرحية "الماشي في الهواء". يحلم بيرانجيه بعالم من اللطف والرقة لا يكون الموت فيه شرّاً. يقول ذلك إلى مارتا التي قدّمت الأزهار إليه: "لا أقاوم الحركات الرقيقة اللطيفة.‏
                          آه! لو كان كل الناس مثلك! سيعيش الإنسان في عالم من النعومة، وستغدو الحياة ممكنة، وبمقدور المرء مواجهة الموت بهدوء، دون ألم..."‏
                          تجسّد مارتا الحب والثقة. إنها معجبة بأبيها إعجاباً لا حدود له(6) . أمّا جوزفين الغيورة نوعاً ما، فقد لفتت نظر البنت لذلك: "ليس لأنه والدك مفروض عليك أن تقبلي كل ما يقول دون تفكير!"‏
                          جوزفين شخصية معقّدة، يذكّرنا عنفها وحدّتها بمادلين في "ضحايا الواجب" ، أو "اميديه". توبّخ بيرانجيه في كل مناسبة، لكنها في الحقيقة تحبه، تحب لطفه وظرفه، و "حماقاته": "على كل حال، من الأفضل أن يمزح، وعندما لا يتفوّه إلاّ بالحماقات فذلك يعني أنه حزين". هذه الرقة الخرقاء تكشف ارتباط جوزفين ببيرانجيه وحاجتها الماسّة في أن تكون محبوبة، آمنة، كما أن تلك الرقة تفضح خوفها من أن تُهجر، وحبها للسيطرة الذي سرعان ما يبلغ حدّ الحيرة واليأس.‏
                          تعكس المشاعر المعقّدة لدى بيرانجيه وجوزفين ومارتا العلاقات العائلية فيما بينهم، أمّا الشخصيات الأخرى فإنها تطرح مسألة العلاقات الاجتماعية.. تنقلنا الحركة في المسرحية من رسم عالم نهاري إلى رسم عالم الأحلام ثم إلى صورة ما وراء العالم. العالم الأول ليس سوى الظاهر، والآخران هما الحقيقة. المتنزهون المطمئنون هم بشر برأس أوزة، وهم طوابير المحكومين بالإعدام، المشاعر الحقيقية هي المشاعر التي تعبّر عنها شخصيات الكوابيس: يعلن الصحفي أن الصداقة ما هي سوى "القناع لضعفنا، وللكراهية المكبوتة الخجولة". جون بول مسلّح بسوط أو بندقية آلية...‏
                          ما وراء العالم ما هو سوى العالم الذي نعيش فيه، نحن مهددّون بطغيان "الخنازير والقرود" ، بالمقصلة والسكاكين. لهذه الصور، في رأي يونسكو، دلالات واضحة جداً، إنها تبيّن "ببساطة ما يجري في نصف الكون، وأن النصف الآخر لا يريد أن يرى بسبب التعمية واللامبالاة والمواقف المسبقة: هنالك عشرات الملايين من الناس مهانون، أذلاء، والرعب يقيم في نفوسهم، وهنالك الطغيان، والسلطات التي صارت مجنونة، وباختصار، ثمة نهاية للعالم تحدث كل يوم..."(7) .‏
                          تفضح مسرحية "الماشي في الهواء" من جديد، وبعدما رأيناه في "قاتل بلا أجر" و "الكركدن" ايديولوجيات العنف والدكتاتوريات. لكن "نبوءة الشقاء" (8) لم تُسمع. يقول بيرانجيه: "لا يصدّقني أحد، كنت أعرف حق المعرفة أنه لن يصدقني أحد[...] حتى لو كانوا صدقوني، حتى لو كانوا صدقوني..." ويقول يونسكو(9) : "لم يفهم النقاد الباريسيون، باستثناء البعض أمثال كانتر، لومارشان، غوتييه، شيئاً من هذه القصة رغم بساطتها العظيمة".‏
                          يجب الاحتراس من إرجاع مغزى المسرحية إلى الرغبة في الجدل والمناظرة فالملاحظة التي أبداها يونسكو يجب أن لا تؤخذ حرفياً؛ وإن العلاقات بين العالم و "ماوراء العالم" معقّدة جداً كما قلنا من قبل.‏
                          أدب:‏
                          "الماشي في الهواء" هي أيضاً مسرحية عن الأدب. يحدّد يونسكو فيها أن للإبداع معارضة دائمة. لا يستطيع الكاتب قبول العالم كما هو، وكما يسير، لا يستطيع قبول النظام القائم ولا قبول "معنى التاريخ". انتصار أية ايديولوجية يبرز ثغراتها، والجرأة الفكرية تكمن في الجهد المبذول لإعادة طرح قضية العالم وقضية الذات: "هل سأستطيع تجديد نفسي؟ مبدئياً نعم، مبدئياً نعم، إذ أنني لا أوافق على سير الأحداث".‏
                          لهذا السبب ليس للكاتب رسالة واضحة محدّدة، كما يقول بيرانجيه، إذ أن إيصال الرسالة يعني تكريس الوضع الراهن وإدانة الماضي والتهليل للحاضر، وهذه امتثالية تتقيد بالأعراف المقررة "فالمقاهي وإدارات التحرير تعج بمتأدبين متنورين أوجدوا حلولاً لكل مسألة.‏
                          إنهم يتبعون الموضة الدارجة. لا شيء أسهل من الرسالة الاوتوماتيكية..."‏
                          لايعرف الكاتب مسبقاً ماذا سيكشف: "آمل أن يكون ما وراء رسالتي الظاهرة شيء آخر، شيء لا أعرفه بعد، لكن ربما سينكشف... من تلقاء نفسه... في الخيال..."‏
                          الأدب إذن هو عدم رضى- "الحقيقة موجودة في نوع من العصاب" واستقصاء فيما وراء الظواهر. يتساءل بيرانجيه: "ما العمل لكي يكون الأدب استقصاء نافعاً؟" تجيب المسرحية إذ تضع البحث على مستوى الحلم وفوق الواقع. مرّة أخرى أيضاً يوحّد يونسكو في فنه ما بين النظرية والتطبيق.‏
                          " الملك يموت "‏
                          يبيّن كتاب "يوميات في فتات" مدى الإغراء الذي يمارسه الموت على يونسكو. ربما لم يكن الاشمئزاز سوى الوجه الآخر للافتتان. كان يونسكو قد كتب من قبل في مقالته عريان في عام 1934 nu en1934) كان آنذاك في الثانية والعشرين "إنني أخاف الموت. أخاف أن أموت ذلك لأنني أرغب، ولا شك، في الموت دون أن أدري. أنا خائف إذن من رغبتي في الموت". هل كتب يونسكو مسرحية "الملك يموت" في شهري تشرين الأول والثاني عام 1962 ليتخلّص من هذا الخوف؟ كتبت المسرحية بسرعة: "كتبتُ مسرحية "الملك يموت" خلال عشرين يوماً. كتبت أولاً خلال عشرة أيام متواصلة.‏
                          مرضتُ آنذاك وأصابني رعب هائل، وبعد عشرة أيام أخرى عاودني المرض ودام خمسة عشر يوماً. عدت إلى الكتابة، وخلال الأيام العشرة التالية أنجزت المسرحية" (10) . عُرضت المسرحية على مسرح الأليانس فرانسيز في 15 كانون الأول 1962 من إخراج جاك موكلير.‏
                          يبيّن الديكور صالة العرش "شبه مهدّمة، شبه غوطية". يعلن حارس يرتدي درعاً ويحمل حربة دخول الشخصيات: صاحب الجلالة الملك بيرانجيه الأول، صاحبة الجلالة الملكة مرغريت زوجة الملك الأولى، صاحبة الجلالة الملكة ماري زوجة الملك الثانية "الأولى في قلبه"، جولييت مديرة القصر وممرضة أصحاب الجلالة، وأخيراً العالم الكبير طبيب الملك الجرّاح عالم البكتريا الجلاّد العالم الفلكي في البلاط الملكي.‏
                          كل شيء يتداعى في مملكة بيرانجيه الأول. الأراضي تبور، الجبال تميد، الشمس تشرق متأخرة، أرض الوطن تتقلّص وتخلو من السكان: لم يبق فيها سوى ألف مواطن من العجزة. في قصر الملك جهاز التدفئة معطّل، والبقرة جف ضرعها، الغبار وخيوط العنكبوت تغزو المكان، وعلى الجدار ظهر "شرخ لا يرجى ترميمه" هذه العلامات لاتخدع، بيرانجيه الأول يجب أن يموت.‏
                          يظهر الملك، التاج مائل على رأسه، حافي القدمين، يئن من وجع الروماتيزم لكن لا يدرك حقيقة الموقف، لكي يشغل نفسه يقرّر الاهتمام بشؤون القصر والمملكة، لكن المهندس المعماري الرسمي توارى عن الأنظار، والوزراء انطلقوا إلى الصيد ليطعموا الشعب، ومدرسة الصنائع انهارت في هاوية. لم يعد الحارس يطيع إلاّ مرغريت، ماري فقدت صوابها. لقد قدّم الملك الدليل على عجزه فالزمن لا يعود أدراجه. علامات أخرى تنذره: لقد خارت قواه، وراح يترنّح في مشيته، و تاجه يتدحرج على الأرض، وصولجانه يسقط من يده... آنذاك يتمّرد ويثور، يعلن خوفه من الموت يبحث عن حجج وأعذار.‏
                          - الملك: مثلي مثل طالب يتقدّم للإمتحان دون أن ينجز وظائفه، دون أن يحضّر درسه...‏
                          - مرغريت: لا تقلق‏
                          - الملك: ... مثل ممثل لم يحفظ دوره عشية العرض الأول، فينسى وينسى وينسى. مثل خطيب يُدفع إلى المنصّة دفعاً ولا يعرف الكلمة الأولى من خطابه، ولا يعرف إلى من يتوجّه بالكلام، إنني لا أعرف هذا الجمهور ولا أريد معرفته، وليس عندي ما أقوله له. ياللحالة التي أنا فيها!‏
                          - الحارسمعلناً): الملك يلمّح إلى حالته!...‏
                          - مرغريت: ياللجهل!‏
                          - جولييت: إنه يودّ أن يتسكّع ويتنزّه خلال عدة قرون بدلاً من أن يذهب إلى المدرسة.‏
                          - الملك: كم أحب الإعادة.‏
                          - مرغريت: ستنجح في الامتحان، ليس هناك من يعيدون السنة.‏
                          يرفض الملك أن يموت ميتة كريمة فيطلب العون من شعبه، يئن، يبكي، يتظاهر أنه يعاني من كوابيس لكن جبنه يسيطر عليه. استبدل عرشه بكرسي المشلولين؛ وتاجه وصولجانه بسخّاتة صغيرة وغطاء، كان بوده أن يكون رضيعاً، طفلاً لكنه ليس مخادعاً: "يا للحسرة. لايمكن للمرء أن يغش!"‏
                          يمر بيرانجيه في آخر لحظات التمرد ثم يستسلم.. يتحدث عن الحياة كأنها ذكرى، يستمع إلى شكاوى الخادمة التي أثارت اهتمامه للمرة الأولى لأنه لم يعد ملكاً.‏
                          - الملك: حدثيني عن حياتك، كيف تعيشين؟‏
                          - جولييت: أعيش عيشة بائسة يا صاحب الجلالة.‏
                          - الملك: لا يمكن للمرء أن يعيش عيشة بائسة. هذا تناقض.‏
                          - جولييت: ليست الحياة جميلة.‏
                          - الملك: إنها الحياة.‏
                          جولييت والحارس يرويان ماضي الملك: لقد سرق النار من الآلهة، واخترع أول طائرة، واكتشف امريكا، ووضع مخططات برج ايفل، أخمد وأشعل البراكين، أوجد المحيطات، كتب الإلياذة والأوديسّة، شكسبير كان هو، كان يتمتع بجميع المزايا، والعيوب. تاريخه هو تاريخ البشرية، هو تاريخ الأرض، إنه إنسان، إنه إله: "إنه الملك".‏
                          شعور أخير يسيطر على بيرانجيه هو كراهية مرغريت، ثم يتداعى كل شيء ويزول. القصر يتهدم.. بيرانجيه لم يعد يتعرّف على المحيطين به، لم يعد يرى ولا يسمع ولا يحسّ. يتلاشى القصر، وتختفي ماري والحارس وجولييت والطبيب. يبقى بيرانجيه وحيداً مع مرغريت "الملكة التي تفعل كل شيء".‏
                          من الآن فصاعداً ستقود مرغريت بيرانجيه عبر المكان اللامتناهي. تحلّ خيوط الحياة المتشابكة، تفكّ آخر العُقد، تكتم الضجيج، تخنق الصدى الأصمّ الصادر عن ا لأحلام، تفتح قبضته المضمومة التي ما تزال تقبض على قليل من تراب، على مملكته كلها.. تقوده إلى عرش الأبدية والعدم؛ ثم تختفي. ملاك الموت ينجز عمله: "اصعدْ، اصعد، أعلى، أعلى أيضاً، اصعد، أعلى أيضاً، أعلى، أعلى... استدرْ نحوي، انظرْ إليّ، انظر من خلالي، انظر إلى هذه المرآة الخالية من أية صورة؛ ابقَ منتصباً... اعطني ساقيك، ساقك اليمنى، ساقك اليسرى... ناولني إصبعاً؛ ناولني إصبعين... ثلاثة... أربعة... خمسة... الأصابع العشرة. دعْ لي الذراع الأيمن، الذراع الأيسر، الصدر، الكتفين، البطن... كما ترى، لم تعد قادراً على الكلام وقلبك ما عاد بحاجة إلى الخفقان ولا داعي لأن تتنفس إنها حركة لا جدوى منها أبداً، أليس كذلك؟ تستطيع أن تحتل مكاناً".‏
                          فكـــرة ملحاحــــة‏
                          فكرة الموت فكرة متكررة باستمرار في مسرح يونسكو: القتل الذي يختم مسرحية "الدرس" وأحلام شوبير، والجثة في مسرحية "إميديه" والقتل المتكرر في مسرحية "قاتل بلا أجر". الكلمة الأخيرة التي يقولها بيرانجيه للصحفي في مسرحية "الماشي في الهواء": "أريد أن أشفى من الموت" لكن في مسرحية "الملك يموت" هذه الفكرة هي المسرحية كلها، المقصود هو الموت في شموليته، يقول يونسكو: "هذه المسرحية محاولة في تعلّم الموت"(11) .‏
                          ملك يموت. لقد فكّر يونسكو، ولا ريب، باولئك الملوك المخلوعين الذين يعيشون في ذاكرته: الملك لير، الملك ريتشارد الثاني. إن مصيرالملك يروي تاريخ البشر: "عندما مات ريتشارد الثاني، كان ذلك يعني موت كلّ عزيز عندي، بل أنا من مات مع ريتشارد الثاني. لقد جعلني أدرك جيداً الحقيقة الأزلية التي ننساها عبر الحكايات والتواريخ، تلك الحقيقة التي لا نفكر بها، الحقيقة البسيطة، المألوفة جداً، أنا أموت، أنت تموت، هو يموت"(12) . الملك لير أو الملك ريتشارد الثاني هما كلّ واحد منا، وكذلك بيرانجيه الأول. إن كان اختيار شخصية الملك نتيجة بحث جمالي، إلاّ أن له قيمة رمزية أيضاً. الأبهة الملكية، ديكور القرون الوسطى، لهما، بالتأكيد، طابع شعري راسخ، ويتمّ التذكير بـ "الدرس الرهيب" الذي يقدّمه موت الملوك إلى جميع الناس في كلّ الأزمان. كل إنسان يمتلك، عند ولادته العالم والمكان والزمان: الإنسان هو ملك. عندما يصل إلى عتبة الموت، ويفقد كل شيء يصبح ملكاً مخلوعاً.‏
                          من خلال الموضوع الذي تعالجه يتّضح أن مسرحية "الملك يموت"، هي بلا ريب، المسرحية الكلاسيكية الأولى ليونسكو. كتب جان جاك غوتييه بمناسبة عرضها: "نعم، إنني أعلن وأكرر: إنها مسرحية إنسانية، غنية، جيّدة البناء، والتأليف، تمتاز بشاعرية كبيرة.. إنها مسرحية موجعة ومضحكة أيضاً، إنها مأساة ملهاة على الطريقة الشكسبيرية"(13) .‏
                          شـــــــعائر المـــــوت‏
                          تصف المسرحية فترة الإحتضار أو بالأصحّ مراحل التنازل والاستسلام إذ أن الاحتضار هو معركة ضد الموت، أما في المسرحية فليس هناك من صراع بل قبول بالقدر. يجب أن يموت بيرانجيه، وعلامات الموت لاتخدع. موته، إذن، ليس مأساوياً؛ لكنه محزن. موت الملك تمثيلية جميع مراحلها معروفة مسبقاً وتلتزم بالزمن المحدد: "هذا التراجع وهذا اللفّ والدوران... كان ذلك متوقعاً، وهو جزء من البرنامج" كما قالت مرغريت.. كانت المسرحية تحمل في الأصل عنوان "الاحتفال" أو "الشعائر".‏
                          لا تنقسم المسرحية إلى فصول بل هي حركة متطورة متناغمة مع المراحل المتتالية من القلق إلى التمرّد إلى الخضوع. تستغرق هذه "الشعائر" ساعتين، ولكي يؤكد هذه الاستمرارية فإن روبير بوستيك الذي قدّم المسرحية في بروكسل تخيّل استراحة غير متوقعة: تأبط الحارس حربته وأوقف الممثلين وهم يؤدون أدوارهم. اجتاز المنصّة وأعلن للجمهور: "سيداتي، سادتي، استراحة ربع ساعة" وبعد الاستراحة، ارتفعت الستارة عن الممثلين وهم جامدون في مواقفهم وحركاتهم التي كان الحارس قد أوقفهم فيها.‏
                          يشكّل هذا التطوّر قضية سيكولوجية دقيقة. قبل وصول الملك، كانت الشخصيات الأخرى تحدّد علامات الموت وتستعدّ لتأدية "الشعائر" .‏
                          كان بيرانجيه في البداية أعمى وأصمّ. إنه يتهكّم، ثم ترافقت عودة الوعي بالغضب والتمرّد، ثم صار اليأس المرحلة الأولى من الإذعان، ويشير الحنين إلى بدء مرحلة الصفاء والصحوة: آنذاك صار الحديث عن الحياة بصيغة الماضي، وأخيراً حلّ النسيان، والدخول إلى عالم الموت.‏
                          صوّر يونسكو الإحساس بالموت من خلال انقلاب حادّ في المنظور ولم يصوّر مشهد الموت؛ فهو لم يقدّم لنا الملك الذي ينهار بل العالم الذي يختفي. لقد تلاشى كل شيء عندما انطفأ الإحساس عند بيرانجيه: "أما زال يتنفس؟ سألت مرغريت: نعم ياصاحبة الجلالة، أجابت جولييت، إنه مازال يتنفس، بما أننا هنا". موت الإنسان، هو قبل كل شيء موت العالم بالنسبة للإنسان.‏
                          الشخصيات: مملكة.‏
                          يفسّر بناء المسرحية الشخصيات إذ أن لها قيمة مزدوجة: قيمة الفكرة وقيمة الوظيفة.‏
                          تمثّل الشخصيات العالم: إنهم مملكة بيرانجيه، كما أنهم حياته الصميمية أيضاً، يصوّر الحارس الحفلات الرسمية في البلاط الملكي، كما أنه المتحدث الرسمي الذي يثير الضحك، وهو أداة السلطة، يعلن الحرب عند الحاجة. جولييت هي ربّة البيت وسيدة البلاط والممرضة، وفي نهاية المسرحية تصبح جوقة الناس البسطاء، تجسّد حكمة الخضوع والاستسلام. "تنازل إذن، بما أن الواجب يحتم ذلك" والوفاء الحزين للملك العجوز، الطبيب - الجلاد- الفلكي يجسّد الغرور والخداع والوقاحة والتعطش للأمجاد. إنه أقوى من الملك لأنه يتمتع بالقوة السحرية دون أن تقع عليه أية مسؤولية.‏
                          تمثّل الملكتان حياة الملك الخاصة، فماري تجسّد الحب كله، وسحر الحياة، والفرح الذي لا يفكّر في البعيد، وفشل الأوهام؛ أما مرغريت فهي الحكمة والعقل والنظام: زوجة شرعية وأم قاسية، مكروهة بصمت، وصية تفرض عليه على الملك، واجبه، وعلى العموم تصّور الملكتان وجهي الحياة الإنسانية: الضرورات الاجتماعية و "الحب المجنون".‏
                          إضافة إلى هذه القيمة الفكرية فإن للشخصيات مهمّة تؤديها ألا وهي دورها في تنفيذ تلك "الشعائر". عليها أن تعلّم الملك، أن تقوده، أن تساعده. إنها موقف أمام الموت، أمّا بيرانجيه فيرى فيها "الآخرون"؛ أولئك الذين لا يموتون. الحارس مشاهد لا مبال. جولييت بسبب تعاطفها وصبرها، تساعد الملك على الخضوع، وتعرض له صور اندهاشه الأخيرة أمام الحياة، ماري هي العجز. أمّا الطبيب فقد اكتشف في هذا الموت أنه غير قادر على منعه أو الإسراع فيه. مرغريت تأمر بالبدء في تنفيذ الشعائر وتديرها حتى نهايتها.‏
                          الشخصيات كلها لا وجود لها إذن إلاّ من خلال دورها مع بيرانجيه. ليس لها مصير شخصي، تختفي عندما لا يعود الملك يراها لكنها ستظهر من جديد بعد وفاته. بيرانجيه -تارة يدعو للشفقة وتارة للسخرية، ضعيف وجبان، مضحك وكريه، أناني وظالم، لكنه قادر على استعادة الصحو والوعي- بيرانجيه هذا عقدة من الرغبات والمخاوف، من الحسرات والآمال. إنه إنسان.‏
                          كتابــــــة منظمّـــــة.‏
                          لانجد في مسرحية "الملك يموت" تدميراً للغة ولا استخداماً آلياً لها، كما لا نجد كلاماً خيالياً غير مألوف. الفكرة ليست حلماً، والكتابة ليست "آلية" أبداً. إنها كتابة دقيقة متأنّية "كلاسيكية" كما قيل.‏
                          في حوار مألوف بشكل عام، تحتل فيه الكلمات الواضحة حيّزاً كبيراً، يتدفّق الشعر من استحضار مشاهد يومية يعبّر عنها بمفردات شائعة: "ماأروع ذلك. تفتحين محفظتك، تدفعين الثمن، يردون لك الباقي، تجدين في السوق أغذية من مختلف الألوان، نباتات خضراء، كرزاً أحمر، عنباً ذهبيّاً، باذنجاناً بنفسجياً... كل ألوان قوس قزح!... أمر خارق لا يصدّقه العقل، إنها حكاية من حكايات الجن".‏
                          الشعر هنا اندهاش، وفي موضع آخر سحر. تؤلف الشخصيات جوقة وتأخذ اللغة شكل الصلاة.‏
                          - جولييت: أنت أيتها الذكريات...‏
                          - الحارس: أنت أيتها الصور القديمة...‏
                          - جولييت: يا من لم يعد لك وجود إلاّ في الذاكرة...‏
                          - الحارس: ذكريات ذكريات الذكريات [...] نحن نستدعيك.‏
                          - ماري: أنت أيها الضباب، ابق أيها الندى.‏
                          - جولييت: أنت أيها الدخان، أنت أيتها الغيوم...‏
                          - ماري: أيتها القدّيسات، أيتها الحكيمات، أيتها المجنونات، هيّا إلى مساعدته لأنني لا أستطيع مساعدته.‏
                          - جولييت: ساعدنه‏
                          - الملك: أنتم يامن فارقتم الحياة في سرور، يا من نظرتم إلى الموت مواجهة، يامن شهدتم نهايتكم الخاصة...‏
                          - جولييت: ساعدوا الملك.‏
                          - ماري: ساعدوه جميعاً، ساعدوه، أتوسّل إليكم...‏
                          على نقيض ذلك، تتفجر الشتائم بكلمات سوقية، مخالفة لتعاقب الأحداث، كلمات من بيئة القرون الوسطى. تتفجر الأيام الجميلة، انتهت الولائم العامرة، انتهت حفلات التعرّي؛ انتهى كل شيء!" لقد وجدت سطوة مرغريت تعابير مقتضبة: "لاتنوحي. أكرر لك ذلك، أنصحك به وآمرك به".‏
                          سخرية "الشعائر" والتهكم بالحياة والموت، ثمّ التعبير عنهما من خلال التلاعب بالألفاظ، يكرر الحارس كلمات الملك المؤثرة بصداها المضحك:‏
                          - أنت تموت لشأن يتعلّق بالدولة.‏
                          - لكن الدولة هي أنا [...]‏
                          - الملك: إنني أموت فليمتْ كل شيء، كلاّ، ليبقَ كل شيء، كلا، ليمت كل شيء ما دام موتي لا يستطيع أن يملأ الأكوان! ليمت كل شيء، كلا، ليبق كل شيء.‏
                          - الحارس: يريد صاحب الجلالة الملك أن يبقى كل الباقي.‏
                          - الملك: كلا، ليمت كل شيء.‏
                          - الحارس: يريد صاحب الجلالة الملك أن يموت كل شيء.‏
                          أخيراً، إن إعادة تمثيل المسرحية، تأخذ بالحسبان أحياناً، الزمن المخصص للعرض من أجل أداء إبداعي. "ستموت بعد ساعة ونصف. ستموت عند نهاية العرض". يحطّم هذا التراكب في الأزمنة وهم مشابهة الحقيقة لكنه يضفي على موت الملك طابعاً حتمياً لا مفرّ منه، لأن الحدث المعروض، وهو الاحتضار، يخضع لضغط زمن حقيقي، هو مدة المشهد.‏
                          بحــــث انطولوجـــي.‏
                          مسرحية "الملك يموت" هي تأملات حول الوضع الإنساني. سيطرة فكرة الموت على الإنسان هي نسيج المسرحية، وهذه المشاهد المتتابعة تعبّر عن جميع مراحل وداع الحياة: نسيان الذكريات، فقدان الأحاسيس، إنه للإقتلاع، إنها النهاية. لقد تساءل يونسكو عن "الانتقال" عن "الامتحان الذي لا يرسب فيه أحد".‏
                          لكن خوف بيرانجيه ما هو سوى الخوف من وداع العالم. لم يتساءل، ولم تتساءل الشخصيات الأخرى عمّا بعد الموت. لم تقل مرغريت لماذا يموت الإنسان بل كيف يموت. يطلب الحارس "العدم العظيم" عند انتهاء "الشعائر"، وبعد أن تمّ العبور أصبح كل شيء صمتاً، فراغاً، غسقاً.‏
                          ولا يتضمن هذا البحث الانطولوجي أية أفكار لا هوتية. يونسكو أكثر من فيلسوف وأكثر من مؤمن وها هو يكتب كتابة الشاعر المندهش، المدرك لألوان العالم، ولمذاق الحياة.‏
                          هل وجد يونسكو ما يبحث عنه عندما كتب هذه المسرحية؟ لقد اعترف لكلود بونغوا أنه كان يريد أن يتخلّص من قلق يعشعش فيه منذ الطفولة.‏
                          لكن تحليل الظاهرة لم يؤد دور التعويذة التي تنقذه وها هو يتساءل مرة أخرى عن جدوى الأدب(14) . لقد أعلن بيرانجيه ذلك إلى المحيطين به: كلمات الألم والموت لم تسعفه إلاّ في تركيب عدّة جمل: "إنني أموت، هل تسمعون، أريد أن أقول إنني أموت، ولا أستطيع قوله، إنني لا أفعل شيئاً آخر غير الأدب.‏
                          "العطش والجوع"‏
                          تصوير الزهد في الحياة والتعبير عن كيفية التخلّي عنها: هاتان الفكرتان الواردتان في مسرحية "الملك يموت" تطرحان جميع التساؤلات عن مغزى الحياة.‏
                          وعن الوضع الإنساني إجمالاً، وفي محاولة للإجابة على تلك التساؤلات كتب يونسكو مسرحية "العطش والجوع" عام 1964. عُرضت المسرحية لأول مرّة في دوسلدورف في الأول من شباط 1965 من إخراج ك. هـ. ستروكس، أمّا في فرنسا فقد عُرضت على مسرح الكوميدي فرانسيز في 28 شباط 1966 من إخراج جان ماري سيّرو، وقام بالأدوار الأساسية فيها: روبير هيرش جان) كلود وينتر ماري مادلين) ميشيل ايتستيغرّي الأخ تاراباس). قال المؤلف للناقد ف. شاتيّون: "سُئلت إن كان تقديم المسرحية على مسرح الكوميدي فرانسيز يشكل منعطفاً في مؤلفاتي ونشاطي. فيما يخصّني ليس هناك ثمّة منعطف، المسألة فقط مسألة توسيع وتكبير، فمن المعروف أن صالة التياتر فرانسيه أكبر باثنتي عشرة مرة من صالة لا هوشيت. إن كان هناك من منعطف فإنه يتعلّق بالكوميدي فرانسيز التي اختارت نصاً ومخرجين لم تطالبهم بتغيير أسلوبهم". رغم هذا التصريح فإن مسرحية "العطش والجوع" تشكل تطوراً في أسلوب يونسكو مثلما تشكّل منعطفاً بالنسبة "للدار رفيعة الشأن".‏
                          لاتنقسم المسرحية إلى فصول بل إلى "حلقات ثلاث" ثلاث أحلام منفصلة: "الهروب" "الموعد" "القدّاس الأسود في المنزل المريح".‏
                          مارتا، التي نراها في المهد عند بداية المسرحية، تظهر عند نهايتها وقد بلغت السادسة عشرة، لكن هذه الإشارة خادعة فالمسرحية تتحدد خارج حدود الزمن، وتجري أحداثها في ديمومة من عالم الأحلام.‏
                          عند رفع الستارة، نرى جان وماري- مادلين وقد عادا إلى شقتهما القديمة، شقة كما نرى في الكوابيس، معتمة، باردة، جدرانها مغطاة بالزواحف والعفن "غارقة حتى نصفها في الماء والوحل". يفكر جان بالهرب أمّا ماري مادلين فسعيدة لأنها تجد هنا الماضي كله: الأثاث العتيق، ورق الجدران الباهت، الجيران القدامى، الأصدقاء القدامى، العواطف الثابتة، ألبوم صور الناس "منذ ألف عام"، ذكريات من جميع الأزمنة. هذا الماضي الذي يتجذّر الحاضر فيه، السعادة في متناول اليد، المهد الذي تغفو مارتا فيه، ذلك يكفيها، ولا تحلم أحلاماً أخرى: "سنضع قفلاً جديداً للباب، قفلاً له مفتاح ضخم، يغلق جيداً، وندعمه بمرتاج، فنكون في مأمن من اللصوص والمصائب".‏
                          يتغذّى جان من الأمل، إنه ظمآن لما سينبجس عن قريب، جائع لما يفتقده: كل التوقعات، كل الأضرار.‏
                          فجأة تدخل العمة اديلاييد وتجلس على الأريكة العتيقة، سيدة ضخمة، متشرّدة، تتشح بخمار طويل، تضع قبة ريش، تتزين بمجوهرات مزيفة. راحت تتكلم، تخرّف، تهذي. إنها مجنونة أو على الأصح "كانت" مجنونة إذ أنها توفيت منذ زمن بعيد لكن ذكراها وطيفها يؤججان الندم وعذاب الضمير.‏
                          أشعلت ماري مادلين النار في المدفأة. تظهر في ألسنة اللهب امرأة تحترق وتستغيث وهي تمدّ ذراعيها. ذكرى أخرى وندم آخر. لم يجد جان في نفسه الشجاعة ليلقي بنفسه في النار وينقذ المرأة؛ وأمام الشعور بالذنب والذكريات المؤلمة تنصح ماري -مادلين جان بالقبول والخضوع والاستقرار في الشقة.‏
                          في مونولوجين متقاطعين -لأن الحوار بينهما ينقطع تدريجياً- تتحدث ماري-مادلين عن السعادة التي تعيشها في الزمن الحاضر وعن حلاوة العادات ثم تردد الحب- اليقين: "أحبك، تحبني، نحبها، نحب بعضنا حباً جماً. ستكون معنا دائماً؛ حتى لو سافرت إلى الطرف الآخر من العالم، حتى لو تصور ت أنك وحيد، فأنا معك، وسأكون معك..." يتحدث جان عن التمرد والهرب، عن الجري إلى طرف العالم، يتحدث عن تسلّق القمم وعن البلاد التي لا يموت فيها الناس: "لا أريد أن أكون مثلهم، لن أغوص مثل الآخرين، لن استسلم. مصيري ليس مصيرهم؛ ووجودي في مكان غير هذا المكان".‏
                          تنتهي هذه الحلقة بلعبة الاستخفاء، يختفي جان ثم يظهر من جديد وراء الأثاث وفي الكواليس. تشعر ماري- مادلين بالقلق ثم بالذعر فتترنم ببعض التعاويذ والسحر: "من قلبك، من قلبك، لن تستطيع انتزاع الحب، لن تستطيع انتزاع الحب من قلبك، الحب من قلبك لن تستطيع انتزاعه، لن تستطيع انتزاعه، لن تستطيع انتزاعه...". يعود جان على أطراف أصابعه وينتزع من قلبه وردة الحب، وردة النسرين، ويمسح قطرات الدم التي تحولت إلى لآليء، ويبتعد ويخفت صوته ويتلاشى. تركع ماري-مادلين قرب مهد طفلتها. آنذاك يتلاشى الجدار وتظهر حديقة رائعة ينتصب فيها سُلّم فضي يضيع طرفه الأعلى في عنان السماء.‏
                          يتمّ "الموعد" على شرفة معلّقة في الفراغ. لقد سار جان قروناً عبر بلاد رطبة، في مستنقعات، تحت المطر.. لقد جاء من قبل إلى هذه الشرفة وعرف فيها الفرح والسعادة؛ وها هو يعود من جديد محمولاً على جناح الفرح نفسه. تهجم عليه كل ذكريات السعادة فيشرح ذلك إلى حارسيّ المتحف الموجودين معه.‏
                          سيبدأ كل شيء عمّا قريب، سيبدأ كل شيء من جديد. إنه ينتظر المرأة التي واعدته، المرأة التي ستعود إليه بعد أن قطعت، هي الأخرى، الروابط التي تشدّها إلى الماضي. هو لا يعرف اسمها وليس واثقاً من مكان الموعد ومن زمانه؛ لكنه يعرف أن عليه أن يلتقي معها لأنها المسكن واللقاء. ستعلّمه الفرح ومتعة الحياة، ستعيد له الزمن الضائع وسوف يتابعان الطريق معاً.‏
                          تمرّ الساعات.. الوقت ظهراً، الساعة الواحدة، لقد انقضت فترة ما بعد الظهر وها هو الغسق يغطي صفاء السماء. يتذكر جان الألم القديم ويشعر أن جراحه تنزف من جديد: "اوه، أيها الحارسان، كنت أسكن مرتاحاً في اللامريح. اسمعا ماحدث لي. أردت الهروب من الشيخوخة، أردت الهروب من التورّط، وها أنذا أبحث عن الحياة، أبحث عن الفرح. لقد سعيت إلى تحقيق أحلامي فما وجدت سوى العذاب. كنت مخيّراً بين راحة البال وبين الهوى، فواحسرتاه، لقد اخترت الهوى. لم أكن مدركاً لما أفعل، مع ذلك كنت آمناً، متحصناً في حزني وحنيني وخوفي وندمي وقلقي ومسؤوليتي. الخوف من الموت كان درعي الأقوى. لقد كنت في أمان. كان ذلك كله بمثابة جدران تحيط بي؛ وها أنذا مُعرّض للجراح. انهارت الجدران وها أنذا في نار الحياة الحامية؛ في يأس الضيق. أردت الحياة فانقضّت عليّ الحياة بكل قوتها".‏
                          بعد أن عانى من "العطش والجوع" يعود إلى بحثه من جديد. ينطلق على الطرقات لغزو العالم لكنه يجد الطرقات ولا يجد العالم، يمضي إلى اللقاء باحثاً عن النهارات والأماسي والليالي، عن أنوار وأَلَقَ تاجه.‏
                          تجري أحداث الحلقة الثالثة "القدّاس الأسود في النزل المريح" في قاعة الطعام في نزل أو دير؛ قصر قديم هو أيضاً مدرسة أو مستشفى، لكن القضبان الكبيرة عند المدخل تذكّر بالسجن، جدرانه سميكة كجدران القبر.‏
                          وصل جان تعباً، قد شاخ. طلب السماح له أن يستريح، استقبله راهب يرتدي جبّة لكنه لا يحمل أية علامة دينية، إنه الأخ تارا باس "المكلّف بأمور الزوار"، يرافقه ثلاثة رهبان آخرين يثيرون الشكوك، يقرؤون سلوكهم وأجوبتهم على وجه راهب آخر، أخرس جامد، كبير بشكل غير طبيعي، إنه "الأخ الرئيس".‏
                          غسل الرهبان قدمي جان ووضعوا المناشف الدافئة على وجهه وقدّموا له خمراً وخبزاً ليروي ظمأه ويسكت جوعه. شكرهم جان لكنه تساءل في نفسه وهو قلق قليلاً إن كان سيستطيع تسديد الثمن. قال الأخ تارا باس: "لا تشغل فكرك في ذلك، إنه لن يكلّف كثيراً [...] ومع ذلك يسعدنا لو تخصص لنا قليلاً من وقتك الآن". لقد دفع جان ثمن ذلك حياته إلى الأبد.‏
                          طلب الرهبان بعد ئذ من جان أن يروي مغامراته، لم ترضِ حكايته طموحات الإخوة الذين راحوا يسجّلون بعض الملاحظات. وجد الأخ عالم النفس أجوبة جان متوسطة المستوى "بل دون المتوسط" .‏
                          قرأ الأخ تارا باس علامات عدم الرضى على وجه الأخ الأعظم فغيّر "اختباراته" وتحوّل المشهد إلى تحقيق "نفسي بوليسي" وراح جان الخائف المضطرب يفتش في ضباب ذاكرته عن صور منسيّة دون أن يدري أي "ثمن" يعطيها أولئك الذين يستمعون إليه ويحاكمونه.‏
                          انتهى الاستجواب. شكر تاراباس جان وقال له: "لقد سجّل الأخوة ملاحظات عمّا قلت وأعطوك علامة على ذلك" ثم اقترح عليه مشهداً تربوياً، إنه "تمثيلية التربية بواسطة إعادة التربية". إنه مشهد "إزالة التسمم الفكري والتخلّص من الاستلاب"."تخيّل أن بيننا رجلين قاسيا من بعض الصدمات التربوية، أو من عملية بناء تشويهية بصورة تدريجية، إذا جاز لي استخدام هذا التعبير. أمّا وقد وصلا إلى المكان الذي هما فيه، فعليهما أن يسافرا من جديد لكن في الاتجاه المعاكس. يجب على كلّ منهما أن يتعلّم المعنى المضاد، هذا، بكل وضوح، عملية "غسل دماغ".‏
                          يتمّ إحضار مهرجين في قفصين هما تريب المؤمن بالله وبريختول الكافر الملحد. يقوم تاراباس بدور الأخ المربّي.. ينقسم الرهبان إلى قسمين؛ رهبان في مسوح سوداء ورهبان في مسوح حمراء. إنهم جمهوران يتظاهران كلّ حسب الإيديولوجية التي يؤمن بها. يتمّ إحضار قدْر من الحساء وبعد يومين يتمّ "التخلّص من الاستلاب" ويتبادل المهرجان عقائدهما: تريب يكفر وبريختول يردد الصلاة جاثياً. مشهد لا يغتفر للارتداد عن العقيدة. الحقائق تزول، الايديولوجيات تنهزم أمام الجوع، وكل قيمة تتلاشى. يضيف الأخوة الباقون ساديتهم الشخصية إلى قسوة تاراباس: يمدّون المغارف ويعيدونها، يتظاهرون بالصمم، يلحّون على إنكار فكرة محدّدة. أمام هذه المهزلة البغيضة، ينتقل جان، وهو الشاهد المشارك فيها، من الضحك إلى الخوف. ينتهي المشهد فيقترح تاراباس على جان أن يعرض عليه البقية إذ أن ما رآه هو الحلقة الأولى من مسلسل من ثلاثين حلقة: "... في الحلقة التالية، كما أعلنتْ الشخصية التي قمتُ بتمثيل دورها، سيتمّ علاج الرجلين من التسمم بالحرية، كما يتمّ فضح، واعذرني لاستخدام هذه الكلمة المبتذلة، نعم يتم فضح فكرة إطلاق سراح المساجين، بل يتم فضح الحرية نفسها..."‏
                          أراد جان أن يتابع سفره. عطشه وجوعه لم يرتويا. مازال يحنّ إلى "انبهار لا يوصف"، يحلم بمتابعة بحثه لكن الأخ تاراباس يذكّره أن الناس يتبادلون الواجبات، إنهم "أخوة" يتبادلون الخدمات، يجب على جان -وقد أصبح الأخ جان- أن يفي دينه:"يجب أن تفعل شيئاً فلا أحد مُعفى من الخدمة الاجتماعية. لا تقلق، سنقرّر بدلاً عنك. مادام الجميع يأكلون ويشربون، ومادمنا لانفعل شيئاً سوى ذلك، من السهل أن نجد لك عملاً، نرجوك أن تقوم بتقديم الطعام إلى هؤلاء الأخوة الجالسين حول المائدة..."‏
                          كم من الوقت سيستغرق تقديم الطعام؟ سألهم جان كم ثانية، كم دقيقة، كم ساعة...؟ لمعرفة ذلك راح الأخ المحاسب يكتب أرقاماً على سبّورة سوداء. راح يرصف الأرقام التي تحدّد زمناً جهنمياً. بدأ جان بإحضار أطباق الطعام والأباريق، بإيقاع متسارع، إلى طاولة الإخوة. آنذاك، وفي الناحية الأخرى من قضبان بوابة النزل، ماري-مادلين وقد عادت شابة، ومارتا الصبيّة الحلوة، تظهران في جنات عدن، حيث يلمع السلّم الفضي وقد أنقذهما الحب.‏
                          نســــــيج مـركّـــــب.‏
                          تمزج المسرحية " العطش والجوع" طبقات الوعي: التجربة النهارية، التأملات، الهلوسات، الحلم، تتداخل فيما بينها. حلم البيت الذي يغرق، ذكريات القبو المعتم الذي ماتت فيه والدة يونسكو، صورة إحدى خالاته، منظر المرأة وسط ألسنة اللهب. بدلاً من أن يجمع هذه العناصر على مستوى واحد من الوعي، فإن يونسكو يبرز الطبقات المختلفة.‏
                          يعرض يونسكو العودة إلى البيت القديم وكأنها كابوس ممتدّ بفعل التجربة النهارية: "هذا هو كابوسي. كابوس منذ زمن بعيد، منذ أن كنت طفلاً صغيراً. يحدث كثيراً أن أستيقظ صباحاً فأشعر بغصّة في حلقي، بعد أن أكون حلمت بهذه المساكن المخيفة الغارقة حتى منتصفها في الماء، ونصفها الآخر يكسوه التراب، المملوءة بالوحل!"، أما المشهد الذي تظهر فيه العمة اديلاييد فهو حلم داخل الحلم، حضورها غير مادي كما أن جان يلاحظ أن الدم الذي يسيل من جراحها لا يشبه الدم العادي أبداً. في الحلقة الثانية، المرأة التي ينتظرها جان لا وجود لها إلاّ بالنسبة له، وفيه. إنها غياب حاضر. وفي الحلقة الثالثة، يمثّل تطور الحدث انتقالاً من الحلم الجميل إلى الكابوس: استقبال الأخ جان يلفّه الغموض، ويتحوّل حب الفضول عنده إلى تحقيق، كما تتحوّل ملهاة المهرجين إلى تمثيلية سادية وينتهي الحوار إلى تكرار آلي وكأنه حلم مكبوت.‏
                          هذا النسيج الذي يشدّ الواقعي إلى غير الواقعي يلغي فكرة الزمن: تستغرق رحلة جان ستة عشر عاماً، بل عدة قرون، كما أن خدمته في النزل المريح تستمر إلى الأبد أو عدة ثوان فقط. ليست الحلقات الثلاث فصولاً متتابعة في الزمن، كما أن المنطق الذي تتمّ على أساسه ليس تسلسل الأحداث تاريخياً. تنتظم الصور مثل مجرّة في الفضاء، كما أن الذكريات "التي حدثت منذ ألف عام" والآمال البعيدة جداً تتحد وتتجمّع في الحاضر، وهذه الصور الأكثر تطوراً، أو الأكثر ترابطاً مما رأينا في "ضحايا الواجب" و "اميديه" هي أكثر غنى أيضاً بالمعاني والدلالات.‏
                          الحب وصعوبات الوجود‏
                          في مسرحية "العطش والجوع" قطبان يتحكّمان بالحقل المغناطيسي للصور: الحب وصعوبة الحياة.‏
                          تطرح الحلقة الأولى قضية الحب بين الرجل والمرأة، ترى ماري- مادلين الحب على أنه ارتباط بالماضي. تقود جان إلى بيت الذكريات، تفتح ألبوم الصور ويكفي وجود جان ومارتا لتتحقق سعادتها: إنه حب مغلق، قائم على الإمتلاك. تريد أن تكون النور الأوحد والحرارة الوحيدة في بيت لا هاتف فيه، ولا يمر ساعي البريد عليه أبداً. إنه حب مصبوغ بعاطفة الأمومة بمقدار ماهو مصبوغ بالعاطفة الزوجية(15) .‏
                          لكن جان يرى في هذا الحب قبراً، لن يقدر أن ينسى العالم: "إنكما تحتلان مكاناً كبيراً في قلبي) لكن الكون أكبر وما ينقصني أكبر بكثير". لكن هذا الحلم في المطلق يحرمه من تذوّق السعادة الراهنة. عندما سافر جان تخلّى من أجل الأبدية عن ماري- مادلين ومارتا، والبوابة التي تفصله عنهما أُغلقت إلى الأبد.‏
                          تعالج المسرحية موضوعاً آخر مرتبطاً بالحب هو الإحساس بالعالم. يذكر جان جميع أشكال وأسباب صعوبة الحياة: يذكر منها الفشل، ورفض اليقين الهزيل والرضى المحدود؛ يصف القبح، ويتحدث خلال مشهدي الهلوسة في الحلقة الأولى) عن وطأة الندم، يجب أن يعوّض الهرب عن عدم رضاه، أن يخلّصه من شعوره بالذنب، وفي الحقيقة، تحت هذين الإحساسين يختبئ تسلط فكرة الموت: "يلزمني) بلاد تحرّم قوانينها الموت. عندما يدخل المرء إلى هذه البلاد يُطلب منه أن يوقّع على تعهّد بأن لا يموت".‏
                          مع ذلك ليس الموت المادي هو الشر الأوحد، العقل مهدّد أيضاً..في مشهد المهرجين لا يقل التنكرَّ للمبدأ ألماً عن ألم الجوع.. تولد الوحشية من إذلال الآخرين، فالعار الذي لحق بتريب وبريختول(16) يرتّد إلى جان والأخوة وسائر المشاهدين. إن تسطيح القيم شكل من أشكال السقوط.‏
                          لايستحضر جان الإحساس بالكمال والإفتتان والنشوة إلاّ على أنها حالة غير واقعية، ذكرى مفعمة بالحنين، أو أمل لا يُطال. الفرح والنور مثلهما مثل الحب المجنون، يصوران الفردوس المفقود.‏
                          تقنيــــة طيّعــــــة.‏
                          شخصيات مسرحية "العطش والجوع" من تلك الشخصيات التي تظهر في الأحلام: ماهي إلاّ انعكاس إحساس الحالم. سمة واحدة تحدّد كلاً منها، تصوّر تلك الشخصيات رغبة ما أو عقبة محدّدة. تخلق حول جان جوّاً من الصراع، ولا وجود لها إلاّ لتيسّر له تحقيق قدره كما يراه في الحلم.‏
                          ماري -مادلين هي التورّط والإنزلاق الذي ينتزع جان نفسه منه، أمّا حارسا المتحف-السجن فهما الجمود الذي يقابل التجوال. يؤدي تريب وبريختول لعبة الإنكار التي تتحوّل إلى استسلام جان. يفضح الأخ تاراباس، المحقق الجلاد والمحلل النفساني، الأفكار الدفينة التي يؤمن بها جان.‏
                          يمثّل الأسلوب المتطور عودة إلى التقاليد "الأدبية"، عودة إلى كتابة دقيقة ومحكمة. في الحقيقة، تخضع اللغة إلى تراكيب فكر الأحلام، لكن الصور، من حيث الشكل والمضمون، صور معقّدة غنيّة جداً بالمعاني، أكثر مما هي نقل مباشر للحلم، كما رأينا في مسرحيتي "ضحايا الواجب" و "اميديه".. المفردات والإستعارات، وبناء الجملة تضاعف المفاهيم وتخلق تعابير شعرية: "من ظلال الماضي، اصنعْ ليلاً مريحاً، الحاضر شمس إذا أردت، والمستقبل سماء لا زوردية[...] اجعلْ من الفشل استراحة واسترخاء، ومنذ الصباح، تمنّى المساء الذي ينشر السكينة: سوف يأتي.. في الليل، احلمْ بمهرجان الفجر..."؛ "عينان من ضباب... نظرة عميقة ضاحكة جاهزة غائبة، لونها بلون الأحلام، نظرة لطيفة مثل مياه نهر فاتر في عزّ الصيف...".‏
                          تترجم اللغة جميع أشكال الحلم عند جان. لغة شعرية عندما تعبّر عن الرعب والجمال، مفككة عندما يستعصي الحلم على اتخاذ الأشكال المتعارف عليها. نجد، آنذاك، كما وجدنا في حكاية شوبير، مختلف مظاهر العبث: التعداد الفوضوي الذي لا نهاية له، وتجميعات إيحائية مجازية أو صوتية: "رأيت أعمدة من الخشب، أعمدة ملهى ليلي، نعم، أعمدة كنيسة، أعمدة بيوت، أعمدة أعمدة...." عندما يجمد الحلم في نهاية المسرحية تتخلّع اللغة في إلقاء رتيب لأرقام يرددها الأخ المحاسب وترددها خلفه جوقة الرهبان: "... واحد، سبعة، ثلاثة، ستة، تسعة، ثمانية، واحد، سبعة، ثلاثة، ستة، تسعة، ثمانية، واحد..."‏
                          مع ذلك، نشعر ببعض ملامح الفكر الواعي في سخرية بعض المقاطع: يهاجم يونسكو الإيديولوجيات ويستهزيء بها من خلال الإفراط في استخدام اصطلاحاتها: الإستلاب، التقويم، الصدمة النفسية، قابلية التعب، التشكّل التدريجي المشوّه...‏
                          الديكور والإخراج يوحيان أيضاً بعالم الحلم: تتميّز الحلقة الأولى بالهلوسات، كظهور العمة اديلاييد، والمرأة في ألسنة اللهب.‏
                          أمّا ديكور الحلقة الثانية فإنه غير واقعي، وفي الحلقة الثالثة غامض وملتبس؛ فلا يدري المشاهد حقيقة النزل، هل هو دير أم سجن أم مشفى أم مدرسة... تعبّر الأنوار والظلال عن الخوف من الغوص وعن غبطة اليقين.. المشاهد التي يشارك فيها جان تبدّل شخصيته، ففي نهاية الحلقة الأولى، يذوب في الأشياء، وفي الحلقة الثالثة يكون الخبز والخمر، عندما يقول للأخ تاراباس، دون أن يتوقّف عن تناول الطعام: "إنني أعاني من فراغات في الذاكرة منذ زمن بعيد" وفي المشهد الأخير تكون الحركة الآلية كافية لفرض صورة الكابوس.‏
                          (1) تخيّل يونسكو هذه المسرحية انطلاقاً من حلم راوده دائماً.‏
                          (2) أكمل يونسكو السلسلة وكتب اسكتشات لم تنشر بعد لكنها عُرضت في أغلب الأحيان: "عند أسفل الجدار" "زيارة المستشفى" "المستقبل" "وكالة السفر" "صدمات" "درس اللغة الفرنسية للأمريكيين وهو لعب على القوالب والتشويهات اللفظية.‏
                          "قصة لصوص" تعالج طريقة استدلال لا جدوى منها. "ايديدوان" "فكرة تافهة" "شجرة جوز الهند المحترقة" عبارة عن صور شعرية واستشهادات أدبية . "عند الطبيب" تعدّد أنوعاً غريبة من الأمراض: المرضى الذين يرون كل شيء أحمر، المرضى الذين يتألمون من شعرهم، المرضى الذين يقسمون شعرهم أربعة أقسام، المرضى الذين تنمو سيقانهم من عند الرقبة، المرضى الذين ينمو الشعر على باطن الكفّ، الخ....‏
                          (3) كما حدث ليونسكو عام 1957 إذ كتب مسرحية "قاتل بلا أجر" في لندن في شهر آب.‏
                          (4) محاورات مع كلود بونغوا ص38‏
                          (5) عرض جان، لوي بارّو كل موهبته عندما أدّى هذا الدور.‏
                          (6) انظر ماورد سابقاً في كلام جان كوت عن "الثلاثي يونسكو".‏
                          (7) محاورات مع كلود يونغوا ص 74.‏
                          (8) محاورات مع كلود يونغوا ص 74.‏
                          (9) المصدر السابق.‏
                          (10) محاورات مع كلود بونغوا ص 90.‏
                          (11) محاورات مع كلود بونغوا ص 91.‏
                          (12) تجارب في المسرح.‏
                          (13) جريدة الفيجارو 7 كانون الأول 1966.‏
                          (14) أنا، لم تساعدني الكتابة أبداً، ربما ساعدت آخرين مثل الشاعر الروماني العظيم ايون فينيا الذي ترجم المسرحية إلى اللغة الرومانية. كان ايون شيخاً تقدّم به العمر، مصاباً بمرض خطير، عندما حاول ترجمة المسرحية. اشتغل في ترجمتها ثلاث شهور أو أربع، وخلال هذه الفترة كان في فترة الاحتضار تقريباً؛ وقد أنجز الترجمة قبل وفاته بأربع أيام أو خمس. إذ كان قد رغب في تلك الترجمة وهو يعلم أنه سيموت قريباً، وإذا كان قد استطاع إنجازها فمن المحتمل جداً أنها ساعدته في أواخر إيامه. ص92).‏
                          (15) من المدهش أن تقارن أقوال ماري- مادلين مع اعترافات يونسكو في "يوميات في فتات" ص105، 163، 164.‏
                          (16) يمكن أن نلحظ في هذا الإسم تحويراً لإسم برتولد بريخت.‏


                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #14
                            رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو


                            البحث عن المطلق.
                            مغزى مسرحية "العطش والجوع" واضح من العنوان.‏
                            تصّور مشاهد المسرحية المتنوّعة، أو ترمز، إلى شتى أشكال العطش والجوع. شهيّة الحارسين هي التي تشمّ رائحة الحساء وفي فمهما طعم الخمر؛ أمّا الجوع الذي يعاني منه تريب وبريختول فهو العذاب الذي يذلّ، إنه جوع جان عندما يصل إلى النزل؛ إنه الجوع الناتج عن مجموعة من الرغبات؛ إنه الحب المجنون؛ إنه الأمل الذي يفوق العالم اتساعاً ورحابة؛ إنه البحث الذي لا يرتوي عن المطلق.‏
                            انطلق يونسكو في هذه المسرحية من تجربة وجودية، تجربة الغيبوبة العابرة؛ لكن ليس الهدف منها العثور على الدوافع البدائية كما رأينا في مسرحيات "جاك" "ضحايا الواجب" "اميديه". من خلال المعاناة الدائمة للعطش والجوع يشعر جان بغياب من نوع آخر. يذكرّنا بحثه بالتدريبات التي كان يمارسها الصوفيون. إنه يرفض كلّ أسباب الذلّ والإنحطاط: يرفض التشفّي، يرفض الإمتلاك الذي يذل. إنه يبحث عن موضوع رغباته خارج حدود الزمن والموت. المرأة التي يحلم بها جميلة كالأرض الموعودة.‏
                            ماري- مادلين، التي استعادت شبابها، نجت من السقوط والموت، وفي النهاية يقوده بحثه إلى أسفل السلّم الفضي.‏
                            تحاول المسرحية إذن أن تكشف معنى وهدف الحياة. من مسرحية "الإمتثال" إلى مسرحية "العطش والجوع" اقتفى يونسكو خطّ السير الذي كان قد حدّده في كتاب "يوميات في فتات": "يمثّل الاستكشاف الحاسم للقلب الإنساني بداية الطريق في حياة الإنسان، لكنّ هذا الاستكشاف لا يكون حاسماً إلاّ إذا أدّى حقاً إلى بداية الطريق، إذ أن هناك استكشاف عقيم لا يؤدي إلاّ إلى تعذيب الذات، إلى اليأس، إلى إرباك وتشويش أكثر تعقيداً [...] يجب على كل امرئ أن يجد طريقه بنفسه" ص95). تتحدث مسرحية "العطش والجوع" عن تجربة عدم الرضى دون أن تشير إلى "الطريق" لكنها تشير، مع ذلك، إلى تأملات من مستوى الوجد.‏
                            "الحقيقة والكمال لا تتحققان إلا من خلال زواج السماء والأرض [...] يجب أن تصعد الأرض إلى السماء، كما كتب يونسكو، فهل يمثّل السلّم الفضي طريق هذا الارتقاء؟.‏
                            "لعبة القتل"‏
                            انقضت خمس سنوات بعد مسرحية "العطش والجوع" طبع خلالها يونسكو جزأين من مذكراته، غنيين بالإعترافات، كما تميّزت تلك السنوات بأفكار وانطباعات جديدة عن الخلق والإبداع في "محاوراته مع كلود بونغوا" و "اكتشافات" وفي عام 1969 أنهى يونسكو كتابة "الوباء" أو "لعبة القتل". عُرضت المسرحية في دسلدورف في كانون الثاني 1970 ثم عُرضت في باريس في أيلول من العام نفسه(1) .‏
                            تعرض اللوحات المتتالية مدينة مثل باقي المدن في زمن غير محدّد. يوم الأحد، على ساحة المدينة، عند ساعة القدّاس، تأخذ الأحاديث والثرثرات سيرتها المعتادة: تتحدث ربات البيوت عن شراء الأغراض، ويتحدث المتنزهون عن غلاء الحياة، والسياسة، وهموم الأسرة و "غزو القمر"، والأخلاق المتعالية(2) والإرتكاس "اللاشرطي".. فجأة يموت طفل رضيع في عربته: يتيبّس، يصبح لونه ضارباً للبنفسجي، وتجحظ عيناه. هلع، غضب، شجار، عنف، أطفال آخرون وبالغون وعجزة يموتون بنفس الأعراض.‏
                            مرض غامض يلفّ الكرة الأرضية ويعود بشكل دوري ويضرب أكثر المدن سعادة في أسعد لحظات تاريخها.‏
                            ينتشر الوباء بسرعة، ويزداد "بسلسلة هندسية". يتمّ اتخاذ الاحتياطات اللازمة مثلما فعلت المدينتان الشهيرتان في الزمن القديم: برلين وباريس. يقوم الجنود بحراسة الأبواب ولم يعد أحد قادراً على الدخول أو الخروج. يتمّ تجنيد حفّارين إضافيين ومفتشين محلفين لإستقصاء آثار العدوى، ونساء مفتشات لزيارة البيوت.‏
                            يُوجّه نداء إلى المتطوعين "ابلغوا بعضكم عن بعض".. تُرسم إشارة صليب أحمر على البيوت المصابة ويُحجر على سكانها، وكل من يدخل إلى بيت مشبوه لا يعود بإمكانه الخروج منه. تُحظر التجمعات العامة والتسكّع والإحتفالات والتسوّل واجتماع أكثر من ثلاثة أشخاص. ثم يُعلن منع التجوّل.‏
                            في هذه المدينة التي تعيش تحت الأحكام العرفية نرى نتائج المرض: دمار مادي وانحلال أخلاقي. ساعة الموت هي ساعة الحقيقة أيضاً. لا يستر المشاعر أي احتشام أو احتراس. يموت المرء كما هو في أعماق نفسه.‏
                            في بيت لم يصله الوباء، يتمّ تكديس المواد التموينية ومضاعفة الإحتياطات: "حواجز عازلة وقلوب كتيمة". يعيش المرء كي ينجو وسط هذا الرضى الأناني يضرب الموت ضربته.‏
                            في إحدى العيادات يلتقي كاتبان بعد فراق دام عشرين سنة؛ يتحدثان عن الصداقة. قال أحدهما: "الصداقة أقوى من جميع الإيديولوجيات..." يردّ الآخر: "الصديق شخص يفكر كما أفكر..." ويستمر الحديث. فجأة يموت أحدهما. يطمئن الطبيب نفسه ويرفض الإعتراف على أن المرض يمكن أن يصل إلى عيادته.‏
                            في "الأحياء العالية" يطمئن الناس أيضاً. تتفق مجموعة من المدعوين على أن الوباء، وهو وليد للبؤس والرذيلة، لا يمكن أن يصيب سوى الأحياء المنخفضة... يُصعق أحد المدعوين ويموت.‏
                            المرض ينتشر والمشاهد المرعبة تتكاثر ولم يعد في مقدور الحفّارين دفن جميع الأموات فالجثث تتكدس في كل مكان.‏
                            في عمارة شعبية يلتقي زوجان بعد أن باعدت بينهما احتياطات الأمن. استطاع الزوج أن يجتاز حاجز الجنود ليلاً. مثل صدى قريب، هناك زوجان آخران. استطاعت المرأة أن تعود من الريف دون أن يراها أحد. ثنائيات يتحدثان، بانسجام، عن الحب وسعادة اللقاء وشموس المستقبل. لكن القلق من الحاضر يستمر وتظهر أولى علامات المرض؛ فالأول لم يستطع اجتياز حاجز الجنود إلاّ ليشهد موت زوجته، ولم ترجع الأخرى من الريف إلاّ لتفقد زوجها إلى الأبد. عندما ينتشر "الوباء" لا يكون الحب "أقوى من الموت".‏
                            في مكان آخر تستعدّ امرأة وابنتها لحضور حفلة راقصة. الأم لا مبالية، تريد الحياة والتمتع بالحياة فلا تفكر إلاّ بزينتها؛ أما الصبيِّة فقلقة مضطربة، تسمع حشرجة الجيران، ثم تشعر بضيق وآلام فظيعة، ثم تموت. تصبح الأم الطائشة الأنانية أُمّاً حزينة.‏
                            يضرب الموت الجيش أيضاً حيث لم تجدِ الإحتياطات نفعاً، الأهواء والغرائز تنفلت: سرقات واغتصاب وقتل. يقمع الجيش الجرائم بقوّة النار، تُضاف ضحايا هذه الأحداث العنيفة إلى ضحايا الوباء.‏
                            التمرّد يعلو هديره. اجتماعات سريّة تُعقد، ويعلن خطيب شعبي "للرفاق" أن المرض أصاب ثلث السكان. مائة وتسعون ألف قتيل، مائة ألف مريض في المستشفيات أو في البيوت. يجب معرفة الأسباب وفضح المسؤولين عن الوباء.‏
                            مَنْ المستفيد من الوباء؟ يعالج الخطيب الموقف بموضوعية وتاريخية، يكشف أسراره بإدخاله ضمن سياق جدلي وقد دحض برشقة من الأيمان المغلظة اعتراضات "رفيق- معارض" وقاد المتظاهرين إلى دار البلدية. لكن الجنود كانوا هناك. لعلعت البنادق للرشاشة. لقد قُتل الخطيب.‏
                            اجتماع سريّ آخر: اجتماع للمتذمرين. خطيب مفوّه يعلو المنصة؛ يردد أقوال القدماء ويرسم صورة "مجتمع جديد" يعد بالثورة ضمن حدود القانون و "السعادة من خلال ازدهار مجتمع استهلاكي مُعدّل". يقترح تدابير مبتكرة وتغييرات عميقة: انفتاح اقتصادي ضمن الإستقرار النقدي، تحسين مستوى حياة العمال، حماية رجال الصناعة وتوسيع هامش منفعتهم، تطوير علاقاتها، زيادة الإعانات العائلية وإعانات التقاعد، تخفيف الأعباء الضريبية. ثمّ يوضّح الخطيب السبب في أن البلدية مسؤولة عن جميع النكبات ويدعو المستمعين لمؤازرة مشروعه والتصويت له. ينتهي الاجتماع على نشيد المارسيليز الذي عُدّل بما يناسب الموقف.‏
                            سندخل إلى مقلع الحجارة‏
                            عندما يغادره أصحابه الحاليون...‏
                            لكن ذلك كلّه لا يحدّ من انتشار الوباء. يستعيد زوجان حياتهما، فيتذكّر القارئ مسرحية الكراسي. المرأة ترى الحياة رائعة: "كل لحظة من الحياة تسحرني... كل يوم بالنسبة لي هو يوم آخر... عند كل فجر يُولد العالم من جديد..." أمّا الرجل على العكس، يعاني من الحياة على أنها كابوس: "كل شيء مخيف. إنني أعاني من السأم والقلق..." لكن المرأة تموت. هناك أناس يستفيدون من المرض: القوّالون يجدون فيه مواضيع للهجاء، وحفّارو القبور ماعادوا يخافون من البطالة... إنها فرصة انتقام الفقراء: في مخزن كبير مات أصحابه نهبت البائعات الملابس وتعاركن مع الوريثة...‏
                            هلك نصف السكان. أخيراً تلاشى الوباء وصار في الإمكان أن تُولد السعادة من جديد، لكن، يشبّ حريق هائل...‏
                            تقنيــــــة متجــدّدة.‏
                            عندما كتب يونسكو هذه المسرحية كان يحلم بقصة "يوميات الطاعون" لدانييل دوفو، ورواية "الطاعون" لألبير كامو إذ وجد في هاتين القصتين موضوعاً وصوراً ومواقف.... يمكن الاكتفاء بهذه الإشارة دون الحديث عن التأثر وإلاّ فإننا نواجه تأثراً سلبياً وردّ فعل رافض. تختلف تقنيات المسرح عن تقنيات القصة، ويبتعد يونسكو كثيراً عن منطلق كامو الأخلاقي عندما يفسّر الأحداث.‏
                            فالمغزى في مسرحية "لعبة القتل" والمغزى في "الطاعون" متعارضان.‏
                            لانجد في مسرحية "لعبة القتل" عقدة ذات تغيرات فجائية متعددة ولا نجد تطوراً يحقق حيويته من خلال موقف متغيّر. المشاهد المتتالية مشاهد مستقلة، يعرض كل مشهد موقفاً خاصاً، والرابطة الوحيدة التي تجمع بينها هي الموت. لوحات متتابعة لصورة جدارية ينقل تتابعها تجاوراً في المكان. "لعبة القتل" عرض مسرحي وليست دراما.‏
                            لا تشكل الحلقات الثلاث من مسرحية "العطش والجوع" تسلسلاً زمانياً ، لكنها تصوّر ثلاث طرائق "للحياة في العالم" وهنا يذهب يونسكو إلى أبعد من ذلك. إنه يرفض "الشكل" الدرامي، يرفض التقاليد الثابتة، يرفض الحدث الذي تتشكل عقدته من أزمة ما، ويتطوّر حتى يصل الذروة، ثم تنحلّ العقدة من خلال تغيير أساسي في الموقف الأوّلي.‏
                            هذا الطرح الجوهري الجديد للعمل يعدّل من دور الشخصيات التي فقدت وظيفتها الدرامية ولم تعد أكثر من موقف في مواجهة الوباء، إنها عيّنات، نماذج. منذ ذلك الحين لن نراها تنتقل من مشهد إلى آخر. بل لم يعد هناك شخصية يحدّد وجودها المستمر بوضوح وحدة المفهوم أو وحدة النظرة إلى العالم مثلما رأينا من قبل في مسرحيتي "قاتل بلا أجر" و "العطش والجوع".‏
                            هذه الطريقة في معالجة الزمن والشخصيات تؤدي إلى حدوث تعديلات على أشكال الحوار. لم يعد الحوار في خدمة الحدث، ولم يعد وسيلة للاتصال، ولم يعد يوضّح أفكار المؤلف: ليس هناك تبادل حقيقي ولا اعتراف ولا فصاحة ولا غنائية. الحوار يشير إلى المواقف، إنه حوار وصفي، للكلمات فيه نفس المهمة التي تؤديها بُقع الألوان على اللوحة.‏
                            ردود قصيرة، كليشهات، كلمات مبتذلة متراكمة تستخدم قوالب "اللغة" اليومية، تصف التصرّفات الممكنة أمام الحياة وأمام الموت. يتعرّف المرء على ما رآه من قبل، ويكون أحياناً على اتصال مباشر بالأحداث الراهنة: يلجأ يونسكو إلى طريقة الإلصاق كولاّج) ويستعير شعارات من خطب السياسيين وزعماء النقابات المعروفين، وعبارات من مقابلات صحفية مع "رجل الشارع"...يضرب الأمثلة ثم يجعلها تنكمش فتعطي السخريةُ آنذاك للواقع مغزاه.‏
                            هذه الطريقة الساخرة تجعلنا نفكّر بالقوّالين: هنا يؤكد يونسكو أيضاً تصحيحه على أن ينقل إلى المسرح أشكال الاستعراض التي يمكن أن تبدو غريبة عنه: الميوزيك-هول، والكاباريه...‏
                            تعبير عن "اللامعقول"‏
                            في مسرحية "لعبة القتل" نجد من جديد جميع المسائل التي واجهها يونسكو.. يعرض كل مشهد موضوعاً أو يصف سلوكاً: إنها فرصة للتفكير والتساؤل عن الصداقة والحب، عن الاندهاش من الحياة والخوف من الوجود، عن الإبداع الأدبي، عن الإضطرابات السياسية، عن طغيان الإيديولوجيات، عن الطموح، عن العنف...‏
                            الوباء، وهو القاسم المشترك بين المشاهد كلها، يحقق وحدة الأسلوب؛ ومن خلال التهديد الذي يعلنه يصبح أسلوباً للكشف عن الوجدان. لقد أبدى انتونان ارتو الملاحظة التالية عن الطاعون: "أصاب الطاعون المجوس وهم نيام فأيقظ فساداً كامناً ودفعهم فجأة إلى أكثر التصرّفات تطرّفاً..."‏
                            كان ارتو يشبه المسرح بالطاعون تصوّر مسرحية "لعبة القتل" انتصار القوى السوداء: أمام الموت تسقط الأقنعة كلها: الخوف، الجشع، الأنانية، القسوة، كلها تظهر دون مواربة؛ وكذلك الكرم والحب، فأولئك الذين يحبون الحياة حقاً يعرفون كيف يموتون دون خوف، وهذا ما اعترف به بيرانجيه إلى مارتا في مسرحية "الماشي في الهواء".‏
                            تقدّم كل لوحة فكرة خاصة لكن المسرحية تكتسب مغزاها من الموت. الموت ماثل أمامنا، حاضر دون تبرير أو انقطاع. إنه الطاعون أو النار، وكل قوّة من تلك القوى السوداء الكامنة في العالم أو في الإنسان تولّد الموت.‏
                            يضرب الموت عشوائياً، فهو ليس عقوبة إذن كما أنه ليس وعداً:‏
                            لا أحد يرى فيه معبراً إلى عالم آخر أو تسامياً إنه يحيل كل عمل إلى عبث وكل جهد إلى سخرية. إنه التساؤل الأكبر "ماالفائدة؟". ما الفائدة من الصداقة والحب والذكاء؟ ما الفائدة من الكراهية والطموح؟ ذلك كله لا فائدة منه.‏
                            لكي تكتسب الحياة معنى لابدّ من الشفاء من الموت، وهذا ما قاله جان إلى ماري- مادلين في "العطش والجوع" وهذا ما شرحه بيرانجيه للصحفي في "الماشي في الهواء" : "أنا مشلول لأنني أعرف أنني سأموت قريباً".‏
                            في "لعبة القتل" لا توضّح أية شخصية فكرة الكاتب لكن المسرحية تفرض هذه الفكرة بوضوح: يسلب الموت من الحياة كل قيمة، والقدر لا معنى له، والوضع الإنساني "لامعقول"‏
                            يتناول يونسكو إذن في "لعبة القتل" المواضيع الكبرى التي عالجها في مسرحه مع محاولة لتجديد الأساليب والتقنيات. من خلال هذه الاستمرارية في رؤية العالم، هل يمكن اعتبار هذه المسرحية نقطة انطلاق نحو أسلوب جديد؟‏
                            2- العروض المسرحية‏
                            1950- 11أيار، على مسرح نوكتامبول، المغنية الصلعاء، إخراج نيكولا باتاي. قام بالأدوار: نيكولا باتاي السيد مارتان) كلود مانسار السيد سميث) سيمون موزيه السيدة مارتان) بوليت فرانتز السيدة سميث) اوديت بارّوا الخادمة) هنري- جاك هوي رجل المطافئ).‏
                            1951- 20 شباط على مسرح بوش- مونبارناس. الدرس. إخراج مارسيل كوفولييه. قام بالأدوار: مارسيل كوفولييه المدرّس) روزيت زوشيلي التلميذة) كلود مانسار الخادمة).‏
                            1952- 22 نيسان على مسرح نوفو لانكري. الكراسي. إخراج سيلفان دوم ديكور جاك نويل. قام بالأدوار: تسيلا شيلتون السيدة العجوز) بول شوفالييه السيد العجوز) سيلفان دوم الخطيب).‏
                            1953 خلال شهر شباط على مسرح كارتييه-لاتان. ضحايا الواجب. إخراج جاك موكلير، ديكور رونيه آليو. قام بالأدوار: تسيلاشيلتون مادلين) ج-ر شوفّار شوبير) جاك موكلير الشرطي) ج. آلريك نيكولادو) بولين كامبيش السيدة).‏
                            - في الأول من أيلول، وعلى مسرح لاهوشيت عرضت سبع مسرحيات قصيرة: صبيّة للزواج-معرض السيارات- هل تعرفونه؟ -الزكام في الحلم- ابنة الأخ المتزوجة- المعلّم- الحرارة العظمى وهي اقتباس عن كاراجيالي). إخراج جاك بولييري. ديكورات جورج آنينكوف، تمثيل ج لوفلون، كلير اوليفييه، جاك بولييري.‏
                            1954- 14 نيسان على مسرح بابليون، اميديه أو كيف نتخلّص منها؟ إخراج جان- ماري سيّرو. ديكورات جاك نويل. موسيقى بيير باريو. قام بالأدوار: لوسيان ريمبورغ اميديه) ايفون كليش مادلين ) بيير لاتور، جان مارتان، دومينيك دولان، جان لاتور، جان دافيد.‏
                            1955- تشرين الأول، على مسرح لاهوشيت، جاك أو الإمتثال، إخراج روبير بوستك. ديكورات جاك نويل. قام بالأدوار: جان- لوي ترانتينيان جاك) كلود تيبو جاكلين) ج. بوتان والد جاك) تسيلاشيلتون أم جاك) بول شوفالييه جدّ جاك) مادلين داميان جدّة جاك) رين كورتوا روبرتا) كلود مانسار الأب روبير) بوليت فرانتز الأم روبير).‏
                            - 15 تشرين الأول. اللوحة. قام بالأدوار: بيير لوبرو السيد الضخم) بول شوفالييه الرسام) تسيلا شيلتون أليس) مادلين داميان الجارة).‏
                            - في فنلندا عُرضت "المستأجر الجديد" باللغة السويدية من إخراج فيفيكا باندلر.‏
                            1956- 20 شباط، على ستديو الشانزيلزيه. مسرحية ألما القصيرة أو حرباء الراعي. إخراج موريس جاكومون. ديكور بول كوبيل. الموسيقى التصويرية مختارات من القرن السابع عشر، قام بالأدوار: موريس جاكومون يونسكو) كلود بييبلو بارتولوميوس الأول) آلان مونيه بارتولوميوس الثاني) بير فاسّا بارتولوميوس الثالث) تسيلا شيلتون ماري).‏
                            1957- 10 أيلول على تياتر دوجوردوي. المستأجر الجديد. إخراج روبير بوستك. ديكور سينيه. قام بالأدوار: بول شوفالييه السيد) ماريز باييه حارسة البناية) جريم اللرايت وكلود مانسار الحمالين).‏
                            1959- 2آذار، على مسرح ريكامييه. قاتل بلا أجر. إخراج جوزيه كواغليو ديكورات جاك نويل. قام بالأدوار: كلود نيكو بيرانجيه) جان -ماري سيّرو المهندس المعماري) نيكول يونسكو داني) فلورانس بلا حارسة البناية والأم بيبا) نيكولا باتاي ادوار) جاك سودري، هوبير دولاباران، جاك ديغور، جاك هيرلان، فيليب كيلرسون، جيرار داريو، ميشيل البرتون.‏
                            في مهرجان سبوليت عُرضت مسرحية "مشهد رباعي" باللغة الفرنسية. 6 تشرين الثاني، على مسرح دوسلدروف عُرضت مسرحية "الكركدن" إخراج ك. هـ. ستروكس وقام بدور بيرانجيه كارل ماريا شيلي.‏
                            1960- 22 كانون الثاني على تياتر دوفرانس. الكركدن. إخراج جان- لوي بارّو. ديكورات جاك نويل. موسيقى ميشيل فيليبو. تمثيل: ج. ل. بارّو، وليم سابا تييه، ماري- هيلين داستيه، نيكول يونسكو، جين مارتل، جان مارتان، روبير لومبار، جان باريديس، ايف اركانيل، سيمون فالير، ميشيل بيرني، جابرييل قطّان، ريجيس اوتان، سيمون باري، ماريوس بالبينو، مارك هلفورد، فرانسواز دوبري.‏
                            نيسان، على مسرح الأيتوال. باليه تعلّم المشي. موسيقى مالك، تقديم باليه باريس الحديثة فرانسواز ودومينيك).‏
                            28 نيسان. على مسرح رويال كورت ثياتر في لندن. الكركدن. إخراج أورسون ويلز. أدّى دور بيرانجيه لورانس أو ليفييه.‏
                            1962 نيسان. على ستديو الشانزيلزيه. تخريف ثنائي. إخراج انطوان بورسييه. ديكورات جاك نويل. قام بالأدوار: تسيلا شيلتون هي) ايف بونو هو). على مسرح المدينة الجامعية مسرحية المستقبل في البيض إخراج جان-لوك مانييرون.‏
                            -15 كانون الأول. على مسرح الأليانس فرانسيز. الملك يموت. إخراج جاك موكلير. ديكورات جاك نويل. موسيقى جورج دولورو. قام بالأدوار: تسيلا شيلتون مرغريت) رين كورتوا ماري) روزيت زوشيلي جولييت) جاك موكلير بيرانجيه) مارسيل كوفولييه الطبيب) مارسيل شامبيل الحارس).‏
                            1963 - 8 شباط. على مسرح تياتر دوفرانس. الماشي في الهواء. إخراج جان-لوي بارّو. ديكورات جاك نويل. موسيقى جورج دولورو. تمثيل: ج-ل بارّو، مادلين رينو، جان باريديس، دومينيك اردن، لويس ماسون، سابين لودس، روبير لومبار، جين مارتل، دومينيك سانتارللي، اليس رايشن، ماري - هيلين داستيه، ريجيس اوتان، ميشيل بيرتي، سيرج لان، هنري جيلابير، اندريه باتيس.‏
                            1965 على مسرح المركز المسرحي في الجنوب الشرقي. الثغرة.‏
                            1966 شباط. على مسرح الكوميدي فرانسيز. العطش والجوع. إخراج جان-ماري سيّرو. ديكورات جاك نويل. توزيع الأدوار: روبير هيرش جان) جاك ايرز تريب) جان- بول روسيّون بريختول) ميشيل ايتشيغرّي الأخ تاراباس) رونيه كاموان الحارس الأول) لويس ايمون الأخ الأعظم) كلود بروسيه الحارس الثاني) سيمون إين الأخ الثالث) ميشيل بيرناردي الأخ الثاني) جاك موري الأخ المحاسب) آني ديكو اديلاييد) كلود وينتر ماري- مادلين) جيرالدين فالمون مارتا). في شهر شباط على مسرح تياتر دوفرانس إعادة لمسرحية الثغرة من إخراج جان- لوي بارّو.‏
                            شهر أيار. على مسرح بوش- مونبارناس. عند أسفل الجدار، درس في اللغة الفرنسية للإمريكيين. إخراج انطوان بورسييه. ديكورات اوسكار غاستون. تمثيل مارك دوديكور، كلود جينيا، ج. ك. بويّون. ايف الونسو، كليردوهاميل، اندريه هارتمان، كانون الأول، على مسرح لابرويير. مشاجرات وصراعات زيارة المستشفى، المستقبل، وكالة السفر، البيضة المسلوقة، صدمات) إخراج جورج فيتالي. ديكورات باس. الممثلون الأساسيون ميشيل كالابرو، نيكول غيدن، كلود جينيا، ماكس فيال.‏
                            1969 تشرين الأول. على مسرح الابسيديول. اسكتشاث لم تعرض من قبل وإعادة لبعض الاسكتشات القديمة: التحيات، مشهد رباعي، البيضة المسلوقة، درس في اللغة الفرنسية للإمريكيين، عند الطبيب، شجرة جوز الهند المحترمة، قصة لصوص، الثغرة، الصبية تتزوج، حدث قبل ذلك، المعلّم.‏
                            1970 - 22 كانون الثاني. على مسرح دوسلدروف في ألمانيا. الوباء أو لعبة القتل.‏
                            11 أيلول. عُرضت في باريس على مسرح موبنارناس.‏
                            مسرح العنف‏

                            اللغة نظام للإتصال لكنها أيضاً طريقة للبحث ووسيلة للتعبير عن الواقع. الفلسفة والعلوم والرسم والموسيقى والأدب، هي لغات مختلفة وكل واحدة منها تكشف الواقع أو تؤسسه.‏
                            ليس من مهمات الأدب إذن إبراز فكرة مجرّدة مسبقة. الكاتب لا يشرح ولا يعلّم، إنه يبحث، ومن خلال تساؤلاته تنبثق حقيقة جديدة توضّحها اللغة. لكن في الوقت نفسه، يطرح الكاتب للمناقشة النظام الذي يستخدمه. ومثلما يتأمل الفيلسوف في الفلسفة، ومثلما ينتقد العالم تصوّراته العلمية، يفكر الفنان في فنه والكاتب في كتابته.‏
                            تمثّل الكتابة، في الوقت نفسه، استكشاف المحسوس والتعبير عنه، وطرح الأشكال الأدبية على بساط البحث من جديد. لكي يخلق الكاتب العالمَ المنسجم مع رؤيته فإنه يبحث عن أشكال جديدة. الخمرة الجديدة لاتوضع في دنان عتيقة، وهكذا فإن صيرورة الأدب تتميز بتدمير الأشكال الجامدة المتحجّرة المرتبطة بمناهج بالية مهجورة وهذا التدمير يقود إلى تطوير أشكال قادرة على التعبير كل مرّة عن رؤية جديدة للواقع.‏
                            لاتشذّ أعمال يونسكو عن هذه القاعدة وهنا تكمن أصالته وقيمته.‏
                            التحليل التطوري اللغوي للمسرح يكشف هذه الحركة المزدوجة، السلبية، والإيجابية: رفض القواعد والأشكال التقليدية، تأكيد رؤية شخصية جديدة للعالم من خلال لغة جديدة وتقنية أصيلة مبتكرة.‏
                            لقد ولدتُ منذ زمن ليس بالقصير...‏
                            ولم أتوصل بعد إلى فهم ما حصل لي،‏
                            وقد بقي لي قليل من الوقت لأفهم مالم أفهمه حتى الآن. وأعتقد أنني لن أبلغ ذلك المسعى يوميات في فتات).‏
                            1- من التجربة الحيّة إلى دنيا الوهم.‏
                            يعبّر العالم الخيالي للكاتب عن "وجوده في العالم". الصور والوجوه التي تصدر عن الأحلام تنقل حالات عاطفية. في مسرح يونسكو، تسمح الثوابت، والإعادات، والعلاقات المتبادلة بتحديد هذا العالم الوهمي. تجسّد الشخصيات، تحت مختلف الأقنعة، بعض الوجوه الأسطورية وتشكّل الصور حزمة من الخطط وتألفاً لمنظر داخلي؛ كما يكشف بينة الحوارات وثوابت النحو حيوية الفكر؛ وتعترف الديكورات والإكسسوارات بوجود تصورات خادعة من أحلام وهلوسات: العناصر الدرامية كلها تُوضع في خدمة بحث الكاتب واستكشافه لخفايا النفس البشرية كل مسرحية إذن هي "تحليل ذاتي".‏
                            "حالتان أساسيتان من الوعي تشكلان أساس جميع مسرحياتي: أحياناً تتفوق حالة على الأخرى، وتارة تمتزجان. هاتان الحالتان الأصليتان من الوعي هما حالتا الخفّة والثقالة؛ الفراغ والحضور الزائد، الشفافية غير الواقعية للعالم وقتامته، النور والظلمات الكثيفة"(3) . عالم يونسكو الخيالي يعبر إذن عن مسلّمة وجودية مزدوجة: الألم من الوجود والدهشة من الوجود. إنه عالم مرعب ورائع في آن معاً.‏
                            عالــــم مخيـــــف.‏
                            "إننا نعيش كابوساً مخيفاً" كما قال بيرانجيه للصحفي في مسرحية "الماشي في الهواء" ولكي يكون الأدب على مستوى الحياة يجب أن يكون ألف مرّة أشد هولاً وأكثر شراسة". إدراك مرور الزمن وتسلّط فكرة الموت وحدس السقوط والخطأ تجعل من "الحياة في العالم" جحيماً. "في داخلي يوجد الجحيم". يضفي هذا الإنطباع ملامح الكابوس على مسرح يونسكو.‏
                            مشاهد من الجحيم.‏
                            غالباً ما يكون الجو المسرحي "الديكور" مكاناً مغلقاً: فخّاً أو سجناً، الشخصيات محاصرة فيه. العجوزان في مسرحية الكراسي في برجهما على الجزيرة، اميديه في شقته الموصدة الأبواب دوماً، المستأجر الجديد وسط أثاثه، جان في البيت الذي يغوص أو في النزل المريح. مكان مغلق، قبر. الخوف يطفو ويبرز. قالت ماري-مادلين:"يظن أن هذا البيت قبر، لماذا يضع نفسه في مثل هذه الحالة؟ كل البيوت قبور". من ديكور إلى آخر نجد الجدران التي تعشعش في أحلام يونسكو والتي تحدّث عنها في "اليوميات"(4) : جدار من الوحدة، جدار من الكآبة، جدار من البكاء، جدار يمنع معرفة المكان، معرفة الآخرين، معرفة الإنسان لنفسه، جدار يثور المرء عليه، يضربه بقبضته، ينطحه برأسه، لكن دون جدوى".‏
                            "كلما ابتعد المرء كلما غاص أكثر" كما كانت تقول ماري، صاحبة المزرعة في لاشابيل انتونيز(5) . عالم يونسكو هوعالم التقهقر والانزلاق إلى الأعماق: في غرفة جاك كما في قصر بيرانجيه يتداعى كل شيء: الأثاث الأعرج، السلالم المتخلخلة، الجدران المتداعية. كل شيء ينهار. الشقوق والصدوع تنتشر في كل مكان، فراغات في الذاكرة، هاويات في الزمن، حُفر هائلة تبتلع مملكة الملك العجوز. "شوارع كاملة، مدن كاملة، حضارات كاملة تمّ ابتلاعها"(6) .‏
                            هذا الغوص إلى الأعماق يمثّل بالنسبة للشخصيات "نزولاً إلى الجحيم". لقد استحال جاك بعد امتثاله لرغباته إلى معيار ونموذج. شوبير يغوص، ينزل درجة درجة عائداً إلى ماضيه، بيرانجيه يركع تحت سكين القاتل، جان يتوارى خلف الزهد وإنكار الذات. لقد وجد المنهج الأخلاقي أو النفسي تجسيداً له في اللعبة المسرحية: صور حركية، قليلة حقاً، لكنها معبّرة، تترجم الخطأ والذنب، والسقوط والندم.‏
                            وراء المكان المسرحي، وراء بوابة السجن والنوافذ الدائرية الصغيرة في البرج، أو الشقوق في القصر، ماهي أشكال وألوان العالم؟ في ذكريات شوبير أو جاك، في أحلام اميديه ومادلين وجوزفين، في وصف ماوراء العالم، تسيطر صور الغروب، صور الليل الذي تملؤه البروق والحرائق، خليط من جليد ونار: "أشواك من نار! نيران مدببة، نيران من جليد.... إنهم يغرزون دبابيس من نار في لحمي"(7) . في مسرحية "الملك يموت" "الأحواض تتوهج" وفي قاتل بلا أجر هناك" أزهار من نار، أشجار مشتعلة"؛ "رأيت قارات كاملة، جنات من نار" كما قال الماشي في الهواء. منذ مسرحية المغنية الصلعاء يظهر رجل الإطفاء، وتعلن مدام سميث "رجل الإطفاء هو كاهن يستمع إلى الاعتراف أيضاً".‏
                            في نور شمس سوداء ينبثق منظر جامد: هضبة جرداء تحيطها الجبال العارية مثل الأسوار؛ دروب وعرة ملأى بالحجارة السير فيها عذاب أليم: "أتشبّث بالصخور، أنزلق، أتعلّق بالأشواك، أزحف على أربع... آه! لا أحتمل المرتفعات... لماذا يتحتم عليّ أن أتسلّق الجبال باستمرار؟"(8) . في مكان آخر هناك بحيرة شاطئية أسنت مياهها وامتلأت بوحل المستنقعات العفن. وفي مكان آخر أيضاً "الأرض تنشقّ... الجبال تميد، محيطات من الدم... من الطين. من الدم. من الطين..."(9) . في كل مكان نجد الأشواك والنباتات الملتفّة والأغصان التي تجرح الوجه. ذئاب، ضفادع، أفاعي، بنادق، رشاشات، حراب وسكاكين، عصافير ميتة، أطفال موتى، أرتال من المعذبين والشهداء، رجال ذوو وجوه مرعبة ورؤوس أوزّ وكركدن. من مسرحية إلى أخرى، تجد هذه المواضيع الملّحة، وهي السند الخيالي لذلك الطابع "المخيف" للعالم.‏
                            وجوه أسطورية‏
                            تسيطر على هذا الكابوس صورتان. تتخذ الصورة الأولى أسماء: مدام سميث، جاكلين، روبرتا، مادلين، جوزفين، مرغريت، ماري-مادلين، أو بكل بساطة "هي" الأم، الزوجة ، الأخت، الحبيبة، الخادمة، الملكة، "التي تفعل كل شيء". إنها المرأة، الغواية، مصيدة الجحيم.‏
                            أمّا وقد التفتت نحو الظلام وشدّها الليل فإنها ترشد شوبير: "إلى الأسفل، إلى أسفل. إلى أسفل[...] لاتنهض ياحبيبي[...] انزلْ، انزلق ياحبيبي [...] توغّلْ في الظلمات أكثر ياحبيبي [...] هيّا، انزلْ... إلى أسفل، إلى أسفل دائماً...". يصبح صوتها شجيّاً ونداؤها نداء الرغبة، فالغوص غواية وإغراء: "انزلْ... انزل... إذا كنت تريدني!" وعلى ترنيمة روبرتا يهيمن نداء الجنس "لدي ماء في ثغري. إنني أغوص[...] عندي بيت من فخّار وطراوة دائمة... هناك زبد وذبابات ضخمة وصراصير وبقّ وضفادع. تحت أغطية ندية نمارس الحب... نمتلئ بالسعادة! ألفّك بذراعيّ مثل أفعى، بساقيّ اللدنتين. تتوغل وتذوب" صور ساحرة كريهة لملذات جسدية هي المسكن وهي القبر.‏
                            تمثّل المرأة أيضاً الوفاء للماضي. جوزفين وماري- مادلين تلغيان الحاضر، توقفان الزمن. جان مدفوع رغماً عنه: "أنت تأخذينني بيدي بينما أحلم بما لا أدري، تسألينني أن أحضر فأجيب نعم، وفكري شارد في مكان آخر. تحضرينني إلى هذا المكان وتجعلينني أستقرّ في هذا البيت، تجعليننا نستقرّ بينما خيالي شارد. فجأة، عندما أثوب إلى رشدي أدرك أنني هنا حيث قررّتِ أن تأتي بي، إلى نفس المكان الذي كانت كوابيسي قد حذّرتني من العودة إليه". المشاعر الفاترة، العادات، اللياقات، "ما يحدث وما لايحدث" ، الحب المُحاصر، تؤلف عالم المرأة الساكن.‏
                            سلام وحلاوة. استسلام، قبول بجميع الحدود وخاصة الموت: "لا تحاول أن تطير عالياً جداً" كما قالت جوزفين. لقد سلبت مرغريت الأمل من الملك: "الحالم ينسحب من حلمه" وماري- مادلين تتحدث عن الخضوع "سريعاً أو بطيئاً، ما أهمية ذلك؟ ساعة أو عشر دقائق، عام أو أسبوعان، ماذا يهمّ؟ سنصل إلى النهاية على كل حال"‏
                            المرأة ربّة منزل لا تكلّ. تكنس، تمسح الغبار وبيوت العنكبوب، ترتّب، تصفّ فناجين القهوة، تحب النظام. "النظام: إنه مرتبط بلوائح القانون الذي لا غنى عنه، القانون المفيد". وقد بيّنت مادلين لشوبير أن القانون يخلق المواطنين الصالحين والضمائر الصافية، على هذه الأسس يخدم القانون مخططات الأسرة روبرتا) والموت مرغريت) والشرطة: تساعد مادلين المفتش وعندما يضع الإستجواب شوبير في مواجهة الخطر تطمئن إلى أن ما تفعله قانوني، بل إنها تحلّ محلّ الشرطي.‏
                            إلى جوار "الأم- الزوجة" الوجه الأسطوري الآخر في هذا العالم المخيف هو وجه "الأب". في الحقيقة لا يظهر الأب سوى مرة واحدة كشخص محدّد: ذلك في مسرحية الامتثال حيث يلعب دوراً ثانوياً جداً. لكنه يلوح تحت قناع الشرطي، الراهب- الجلاّد، الطبيب- عالم الفلك، المهندس، قائد الشرطة، المحلل النفساني، المدرّس، الحارس، المحقّق، وهذه كلها وجوه للسلطة الظالمة القمعية. التطابق بين هذه الشخصيات على المستوى النموذجي ملموس في مسرحيتي "الملك يموت" و "العطش والجوع" كما أن هذا التطابق واضح جليّ في تحوّلات "ضحايا الواجب".‏
                            "الأب" حب كبير ممزَّق: "لقد جعلتني أتصالح مع الإنسانية، لقد ربطتني مع التاريخ برباط لا فكاك منه [...] لقد أحسنت صنعاً بإنكاري، من حقّك أن تحمرّ خجلاً مني، اشتمْ ذاكرتي، أنا لا أحقد عليك، ما عدتُ قادراً على الكراهية..." لكن الأب يمثّل قوة قمعية في أغلب الأحيان.‏
                            الإستجواب قاسٍ في ضحايا الواجب ويصبح "قضية" مسرحية العطش والجوع. لقد نال الأخ تاراباس الإرتداد عن المبدأ ولم يكتف بمجرّد الاعتراف. المرأة تطالب بالاستسلام والمحقق يجبر الفرد على الإنكار والجحود.‏
                            مع ذلك فإن هذا الأب - الشرطي القمعي ما هو سوى مؤتمن على سلطة تتجاوزه. يمكن أن يكون هو نفسه متقلّباً، متلعثماً المدّرس، الشرطي) تنبع ثقته من السلطة التي يتمتع بها. المدرّس يحتفل: إنه ينصرف إلى طقوس الدكتوراه العامة" ويشعر الشرطي أنه "جندي ملتزم بالطاعة" ويقرأ الأخ تاراباس عذاب المهرّجين ومصير جان على وجه الأخ الأكبر. للسلطة مقامها في "مديرية الأمن" المكان الحصين. السلطة كيان مستقلّ إنها تُسمّى: القانون، الواجب، الاجتماعي، المعرفة، الأخلاق، الإيديولوجيات...‏
                            لابد من طرح السؤال حول طبيعة هذه القوة المطلقة التي يخضع لها الجميع ضحايا وجلاّدون. الدكتوراه العامة، الإمبراطور، قائد الشرطة، الأخ الرئيس... مَنْ هو "السيد" ؟ في المسرحية التي تحمل هذا العنوان السيد هو "الرجل دون رأس". هل ستكون السلطة النتنة السامّة هي الفراغ؟‏
                            وهل سيكون الوعد الأوحد هو العدم؟ وهل الغياب هو الرسالة التي ينقلها المطلق؟ إن ما يطلبه الحارس في "الملك يموت" هو العدم الكبير.‏
                            عالم رائع.‏
                            ليست الوحشية الانطباع الوحيد عن الحياة. العالم رائع أيضاً. يقول الماشي في الهواء: "لايستطيع الأدب أن يعرض سوى صورة باهتة جداً، مُصغّرة جداً للوحشية الحقيقية وللواقع الرائع أيضاً". الحياة المشرقة، الغرابة التي تنبثق تحت خطواتنا، الدهشة من الوجود تظهر بجلاء في العالم الخيالي ليونسكو.‏
                            صور خرافية.‏
                            مقابل صعوبة الحياة المتمثّلة في الثقالة والسقوط ينتصب فرح الحياة الذي تترجمه الخفّة والطيران. يتمّ التعبير عن غبطة الشخصيات بحركة ارتقاء، وبحلم ايكار المتجدّد. بعد هبوط شوبير إلى المتاهة يصعد من جديد في نور أبهى من الشمس، يتسلّق الجبل، يغدو خفيفاً، ويشعر بالقدرة على الطيران؛ وإذا ما سقط وارتمى أخيراً في سلّة الأوراق فإن اميديه يطير على جناح حلمه: "في أقدامنا أجنحة.. أرجلنا أجنحة... أكتافنا أجنحة... لقد تمّ التخلّص من الثقل.." الماشي في الهواء يفسّر الأمر: "الطيران جاجة لايمكن للإنسان الإستغناء عنها" وهي عمل من أعمال الإيمان، والارتقاء الذاتي هو(10) تعبير عن الفرح. على شرفة معلّقة بين السماء والأرض كان جان على موعد مع السعادة.‏
                            عالم النعمة هو مجال أتيري ، إنّه شرفات معلّقة، معابر، جسر فضي، إنه السماء على رحابتها. النور يغمر حدائق المدينة المشعّة، سُلّم جنات عدن، إنه ينير وقد تضاعف مرات كثيرة: هناك شمسان، ثلاث سماوات في مسرحية الملك يموت، أربع شموس في العطش والجوع. السماء زرقاء زرقة غير حقيقية، الهواء أكثر خفّة، أكثر نقاوة، يمكن شربه مثل مياه شفّافة: في الليل، يبدّل ضوء القمر شكل الحدائق. قال اميديه: "انظريْ يامادلين جميع أشجار الأكاسيا تلمع. أزهارها تتفجّر، إنها ترتفع نحو الأعلى. لقد تفتّح القمر وسط السماء وأصبح كوكباً حيّاً. طريق المجرّة من حليب فوّار. عسل، نجوم كثيرة، شعور طويلة، طرقات في السماء، سواقي من الفضة السائلة، أنهار، مستنقعات، بحيرات، محيطات وكلّها من النور الملموس..."‏
                            في هذا العالم من الشفافية والنور لم تعد البيوت المصنوعة من زجاج سجوناً، الجدران لا مرئية، الطبيعة تزهر في ربيع دائم: هناك وديان، حدائق مسحورة، نوافير، شلالات مياه، مهاد من ورود وزنابق. هناك "كنائس هي حمائم"، وهناك أجراس، رقرقة ينابيع، أناشيد، حلقات رقص... تؤلف هذه الصور عالم اميديه أو بيرانجيه. إنها سراب ولا شك لكن المشاهد اليومية هي أيضاً مشاهد "مذهلة خلاّبة" لمن يعرف النظر، يكتشف اميديه، وقد اعتزل خمسة عشر عاماً، الساحة الصغيرة، ويسأل الملك جولييت: "هل لاحظتِ أنكِ كنت تستيقظين كل صباح؟ الاستيقاظ كل صباح... يولد المرء في العالم كل صباح".‏
                            صورة حلم‏
                            في هذا العالم من الاندهاش يشرق وجه الحبيبة: داني، ديزي، ماري. الأمل في الحب يحرّر من الخوف والألم، بل يشفي من الموت. يقول اميديه: "الحب ينظّم كل شيء، إنه يغيّر الحياة". لو عرف اميديه ومادلين كيف يتبادلان الحب لما بقي للجثة أية قيمة. لقد استعاد بيرانجيه الرغبة في الحياة" بفضل ديزي: "إنكِ تخلّصينني من عُقدي [...] معكِ لن يبقى لدي أية مخاوف" لو عرف الإنسان الحب لا ستطاع أن يموت دون أسى، أن يموت بسلام" كما يقول الماشي في الهواء. لقد شرحت ماري للملك: "الحب مجنون. إذا عرفت الحب المجنون، إذا أحببت باندفاع، إذا أحببت حباً مطلقاً فإن الموت يهرب. إذا أحببتني، إذا أحببت كل شيء فإن الخوف يتلاشى. الحب يحملك، وأنت تترك نفسك فيتركك الخوف. العالم وحدة تامة، وكل شيء يُبعث من جديد والفراغ يصبح امتلاء".‏
                            لكن أمل ماري لاجدوى منه إذ أن الحب يسقط أمام صعوبات وقسوة الحياة. داني ضحية القاتل، ومادلين الثانية لم تعرف السعادة وديزي تتخلّى عن بيرانجيه لتلحق بالخراتيت. ماري تعاني من قهر مرغريت. لقد تساءل يونسكو عن أسباب هذا الفشل. إنه يتساءل في "مذكرات في فتات" إن لم يكن ما ندعوه حباً هو في أغلب الأحيان غيرة أو مجرّد ورغبة في امتلاك الآخر. كما لو كان شيئاً. الحب الحقيقي عطاء: "الحب. هذا يعني أن تترك نفسك تحب. هوالموافقة على أن تكون مُلكاً للآخر، هو إنكار الذات، هوقبول أن يتصرّف بك الآخر قليلاً أم كثيراً". يظن يونسكو، ربما لأن الغرب يجهل هذا التنازل، أن الحب المطلق، "الحب المجنون" لا وجود له.‏
                            في النهاية، هل الحبيبة شيء آخر سوى الإنتظار والحلم؟ في العطش والجوع لم تأتِ إلى الموعد. وجودها الوحيد كان فقط استدعاء وتساؤلات جان: "هل تصعد الدرجات؟ هل أسمع وقع خطواتنا؟ أم أن ذلك ليس سوى خيال الخيال؟ أم أنه سوى ورقة؟ أم هي الريح؟ أم ارتعاشة الرغبة؟ أم أنه ليس سوى لهاث ألمي؟".‏
                            وجـــــدان ممـــــزّق.‏
                            بين هاتين التجربتين تنقسم الشخصية الأساسية وتنوس: جاك، شوبير، اميديه، بيرانجيه، جان... إنها تشعر أن الحياة رهيبة ورائعة في آن واحد.‏
                            هذه الشخصية، وقد توزّعت بين الرغبات والآمال، تتمرّد على الرتابة والعار والخوف.. يجسّد جاك تمرّد المراهقة: "عندما ولدت، لم أكن بعيداً عن الرابعة عشرة من عمري..." والطفل الذي تحدثت عنه سمير اميس ثار في وجه الشرّ: "أنتم تقتلون العصافير! لماذا تقتلون العصافير...".‏
                            لقد تذوّق شوبير لحظات من الغبطة أمّا اميديه وبيرانجيه فقد عرفا الحب المجنون، ومضى جان بحثاً عن المطلق، وانطلق الطفل "صافقاً خلفه الباب". طار اميديه وبيرانجيه وفرّ جان، على أطراف أصابعه" كما يحدث في لعبة الإستخفاء. لكن التمرّد الفردي لا ثمرة له. جان يعترف بخضوعه، وشوبير يسقط في السلّة، والماشي في الهواء ينزل مرعوباً، وبيرانجيه يستسلم للقاتل، ويستسلم الملك لمرغريت، وجان يخضع لسلطة الأخ تاراباس ولم يعدْ يفكر إلاّ بماري- مادلين ومارتا. اميديه هو الوحيد الذي مضى بسرعة ولم يرجع، لكنه لم يفعل ذلك قصداً: "ماكنت أريد أن أهرب من واجباتي... إنها الريح؛ أمّا أنا من أردت ذلك! لم يحدث ذلك قصداً!... لم أقبل ذلك بإرادة حرّة...".‏
                            من هذا المنظور، يظهر أن الأمكنة والمناظر التي يُوحي بها، حتى الأشخاص أنفسهم على الأقلّ أولئك الذين يجسّدون التصورات الخادعة الملحاحة)، ليس لها وجود خاص بها. إنها تعكس أفكار وغرائز ووساوس الشخصية الرئيسية. هذه العلاقة مع العالم واضحة بشكل خاص في مسرحية "الملك يموت". ظهور الأشياء والأشخاص على المسرح ماهو سوى إدراك بيرانجيه لها، وتختفي الأشياء والكائنات حالما لا يعود الملك يراها أو يفكر بها، فهي ليست سوى انعكاس لعالم داخلي.‏
                            الشخصية الرئيسية هي إذن المحرق الذي تلتقي فيه جميع الأشعة. تمرّدها، سعادتها، فشلها، إحساسها، تتوضّح في عالم الخيال الذي يحيط بها. العرض الذي تقدّمه كل مسرحية هو إذن تساؤل الكاتب عن نفسه، هو استكشاف لأغوار النفس. إنه تساؤل أيضاً عن الآخرين إذ أن يونسكو الممزّق بين ذكرى فردوس مفقود إلى الأبد وبين الأمل في أرض موعودة لم تطأها قدم قط، يدرك أنه يجد من جديد إحساساً عالمياً: "عندما أعبّر عن وساوسي الكبرى فإنّما أعبّر عن أعماق إنسانيتي، إنني ألتقي عفوياً بكل الناس فيما وراء جميع حواجز الطبقات الشعبية والنفسيات المختلفة.إنني أعبّر عن وحدتي وألتقي بجميع المتوحدين، فرحي في الحياة ودهشتي من الوجود مشتركان بين جميع الناس"(11) .‏
                            الأسئلة التي طرحها الكاتب على نفسه، والأجوبة التي أعطاها لم تأخذ أبدا مشكل المفاهيم:"هذه الأسئلة وتلك الأجوبة هي أشخاص مسرحية"(12) . ليس المسرح برهنة وإثباتاً لكنه مسرحية، فما العمل كي تصبح البيّنات ذات مغزى؟.. يتساءل الكاتب عن الأشكال ويحدّد فنه المسرحي.‏
                            2 - مسرح ضد المسرح:‏
                            مجادلات:‏
                            لكي يستكشف الواقع ويعبّر عن العالم الذي يعيش فيه، لم يجد يونسكو في مسرح مابعد الحرب أشكالاً ملائمة تفي بالمرام. لم يشعر بميل إلى المسرح: "كنتُ أقرأُ مؤلفات أدبية ودراسات. كنت أذهب إلى السينما برغبة وكنت أستمع من وقت لآخر للموسيقى. كنت أتردد على المعارض الفنية، لكنني لم أذهب إلى المسرح أبداً [....] لم أكن أشعر فيه بأية متعة، ولم أشارك فيه"(13) . تُعتبر مسرحية: "المغنية الصلعاء"، بطابعها الساخر إعلان حرب على مسرح الأربعينات.‏
                            لقد ذهب يونسكو أبعد من ذلك: بدا له أن الكلاسيكيين ضعفاء سقماء: موليير لا يعنيه"، بحكاياته عن البخلاء والمنافقين والمخدوعين"، كورناي، بكل صراحة، يسئمني، ربما لا نحبه دون أن نؤمن به)، إلاّ من قبيل العادة [....] شيللر لا يطاق. مسرحيات ماريفو تافهة، كوميديات موسيه هزيلة، مسرحيات فيني غير صالحة للتمثيل. المآسي الدامية التي كتبها فيكتور هيجو تضحكنا حتى القهقهات. مهما قيل عن لابيش، هناك صعوبة في أن يضحك المرء من مسرحياته الكوميدية. دوماس الابن ذو نزعة عاطفية مضحكة في "غادة الكاميليا". والآخرون! أوسكار وايلد؟ سهل. ابسن؟ ثقيل الظل. سترندبرغ؟ أخرق[....] جيرودو ولا يصل إلى الجمهور وكذلك مسرح كوكتو يبدو لنا سطحياً مزيفاً [....] بيراندللو تمّ تجاوزه...."(14) يبقى إذن اسخيلوس وسوفوكليس وشكسبير وبعض المسرحيين الآخرين أصحاب التأثير على الجمهور. "عبر القرون هناك عشرون كاتباً مسرحياً... ثلاثون في أحسن تقدير". هذا يدعو للاطمئنان!.‏
                            لم يتوقف يونسكو عند حدود هذا التجريح. إنه يبدي اعتراضاته ويبرر لعناته. يأخذ أولاً على المسرحيين نزوعهم البالي لتغليب وجهة النظر النفسية على ماعداها. لقد بُنيتْ الشخصيات الكلاسيكية على أسس ليس لها أية قيمة علمية: نظرية الأهواء، تضيف الرذائل والفضائل كما فعل موليير أو راسين تمَّ على أساس تبسيطي من وجهة التحليل النفسي. بيراندللو. الذي اعتمد على مفهوم الشخصية المفتتة، عبّر بطريقة غامضة ورديئة عمّا أوضحه العلم بشكل أفضل. لم يكن خطأ المسرح في محاولته الشرح والتوضيح، فليس في الإمكان إلاّ أن يكون مقتضباً في شروحاته إذ سرعان ما تسبقه تطوّرات علم النفس.‏
                            يدين يونسكو من ناحية أخرى فكرة العقدة لأنّها ستخضع حتماً إلى قوالب جامدة، كما أن قصص الحب التي تحتوي معاكسة أو خيانة، والتي تنطوي على تعقيدات، وإشكالات، وعلى تبادل في المواقف والأدوار، وعلى مفاجآت مسرحية، إنما تؤلف على الدوام، المخطط ذاته، ولا يمكن لها أن تأخذ منحى آخر، ذلك أن جميع العناصر في إطار الحب، من أجل أن تبدو مقبولة يجب أن تخضع إلى نهج موصوف بالمعقولية والمنطق مطابقة للواقع. وعلى العموم فإن العقدة تعبّر دائماً عن حلّ اللغز ولذلك استنتج شوبير أن المسرح كان دائماً وأبداً مسرحاً بوليسياً منذ سوفوكليس حتى مسرح البولفار مروراً بأعاجيب القرون الوسطى وتراجيديات القرن السابع عشر، "وهي مسرح بوليسي راقٍ". لكن في هذا العام الذي تسيطر عليه قوى غير منطقية، تبدو العقدة مزّيفة وتفقد مغزاها كلّه.‏
                            يهاجم يونسكو "الواقعية" بشكل عام لأنّها تفضي في تحليلها للشخصيات إلى دراسة نفسية سطحية وتحرم الإنسان من بعده الأساسي وهو العمق. العقدة الواقعية تبقى على سطح الأشياء ولا تصل أبداً إلى ديناميكية الواقع الحقيقية. إن التمثيل "الطبيعي" لدى الممثلين "غش فاضح"، إنّه يدمّر الوهم ويعيق الحلم الذي يمدّ الواقع إلى مافوق الواقع. الديكور الواقعي ليس، في أفضل الحالات، سوى رسم خدّاع يعطي وهم الحقيقة. ثم يضيف يونسكو أنّه إذا ما نظرّنا إلى الواقعية بهذا الشكل ستكون واقعية متخلّفة، تخنق الخيال وهو وحده القادر على سبر المجهول. إنها لا تكتشف شيئاً وتخسر الواقع في نهاية المطاف. الأشكال المستخدمة ماهي إلاّ اتفاق مع تقليد وتقيّد بأعراف لا يؤمن بها أحد. إنّها تنهض على قواعد وعلى نظام من القيم، وعلى رؤية عن العالم صارت قديمة بالية،...، يفقد بها المسرح كل أهميته وكل معناه.‏
                            هذه الواقعية التحتية تدفع الأدب ليغدو مجرّد توضيح للفكر العلمي أو الفلسفي أو السياسي. ينطلق الكاتب من مذهب، والعمل الأدبي يؤكّد، يوضّح، ليشرح. إنه يستخدم الدراسات النظرية استخداماً مزدوجاً، وفي ذلك خرابه، "بدلاً من الذهاب لمشاهدة التجسيد المسرحي لهذه السياسة أو تلك أفضّلُ قراءة جريدتي اليومية أو الاستماع لأحاديث مرشحي الحزب الذي أنتمي إليه"(15) .‏
                            "ليس المسرح لغة الأفكار، عندما يقبل أن يكون مطيّة للأيديولوجيات لابدَّ أن يبسّطها. إنه يسهّلها بشكل خطير، يجعلها أولية، يحطّ من قدرها. يصبح المسرح ساذجاً، لكن بالمعنى الرديء للسذاجة؛ وكل مسرح إيديولوجي مُعرّض لخطر التحوّل إلى مسرح للتوجيه(16) . ضمن هذه الحدود لا يكون الكاتب أكثر من مربٍّ، أو أسوأ من ذلك، يكون غوغائياً إذ يخدم الأيديولوجيات المنتصرة، وتحت شعارات الثورة، والتمرّد يخفي تبعية لا خطر منها."المسرح ذو الرسالة"، كما يخيّل ليونسكو، هو الشكل الأكثر تعبيراً عن هذا الموقف الديماغوجي. إنه يدينه في مناظراته مع كينث تينان، وفي مقالاته ضد اوزبورن وميللر وسارتر، وفي الاتهامات التي كرّرها مراراً لبريخت؛ وفي الأفكار والتهكّمات والكاريكاتور التي رأينّاها في مسرحيات: "ضحايا الواجب"، و"مسرحية الما"، "الماشي في الهواء"، "العطش والجوع".‏
                            هذا الهجوم الذي شنّه يونسكو، العنيف غالباً، الظالم أحياناً، المتناقض قصداً، يوضّح مايرفضه في المسرح، ويحدد الأشكال التي يودّ تدميرها، إنه الوجه الآخر لفنّه المسرحي.‏
                            فـــنّ ســــــحري:‏
                            المقالات التي جُمعت في كتاب "ملاحظات وملاحظات مضادة"- وخصوصاً" "تجربة المسرح"، "مقال عن الطليعة"، "حديث عن مسرحي"، "المؤلف ومشاكله"- ومحاوراته مع كلود بونفوا، وكتاب "اكتشافات" والهجاء الذي ورد وفي مسرحية الما، والأفكار المتناثرة في مسرحياته، مثل أفكار شوبير ونيكولا دو، واميديه، وبيرانجيه؛ ذلك كلّه يوضّح تصّور يونسكو عن المسرح؛ ومن تطبيق تلك الأفكار يستمّد مبادئ "نموذجه الداخلي".‏
                            إن عناوين المسرحيات هي تكثيف لها. عمل بها يونسكو لكنه أعاد تحديد مفاهيمه، "فمسرحه الطليعي" رجع إلى التراث، ,"مسرحه المضاد" أراد أن يكون كلاسيكياً، و"مسرحه في اللامعقول"، له بُعد انطولوجي.‏
                            "المسرح فنّ من أقدم الفنون"(17) إنّه في الأصل مثل جميع الفنون الأخرى، احتفال ديني وممارسة للسحر والتعاويذ. تقديم الأساطير يلغي الزمن، والمشاركون في الاحتفال ينفذّون الفعل الافتتاحي لنشأة الكون والوجود، أمّا الأساطير الجديدة التي يفرزها كل عصر وكل ثقافة فإنّها تستعيد بنية النماذج الأولى الثابتة. المواقف المتعارضة التي تنشّط اللا وعي لدى الأفراد. والتحولات العميقة في النفس البشرية لا تظهر إلى النور إلاّ تحت صورة حكاية أسطورية. المسرح هو مكان "التجلّي". إنه ميتافيزيقي وانطولوجي. ليس له معنى إذا لم يؤثّر، إذا لم يُقلق. لكي يوقظ الجمهور الغارق في السلبية، يجب على المسرح المضاد أن يكون تحدّياً، وفضيحة ودماراً لمسرح التسليات؛ ومن هنا يستطيع العثور على رسالته الأوّلية.‏
                            المسرح هو مجال الخيال والحلم. الذكاء أسير المفاهيم، إنه يدمج المنطق وتسلسل الأحداث. الفكر- الحلم، وحده قادر على إيجاد روابط حقيقية وديمومة حقيقية، وهو الوحيد القادر على مساءلة الواقع وكشف معانيه؛ هو وحده يستطيع أن يردّ إلى المسرح سلطاته المفقودة.‏
                            يصوّر الكاتب المسرحي الوضع الإنساني في استمراريته:"كان الناس يموتون من الحب منذ مائة عام، وكانوا يموتون أيضاً خوفاً من الموت، كما يحدث اليوم"(18) . لكن كل عصر يعطي للمشاعر، للمخاوف، للهلوسات، أشكالاً نوعية محدّدة؛ والكاتب المسرحي "ملتزم" بالضرورة بعصره، وعليه أن يعبّر من خلاله عن حالة "خارجة عن الزمان" يتعذر وصفها. المسرح ليس من زمنه إلاّ بشرط أن يكون غير مرتبط بالزمن الحاضر. وإذا ما أراد بكل بساطة، "أن يكون من زمنه فمعنى ذلك أنه قد تمّ تجاوزه"(19) .‏
                            ليس المسرح، لا راهناً، ولا معزولاً عن الزمان، إنما هو في التاريخ، ويتجاوز التاريخ. "في نهاية المطاف، أنا لا أخشى أبداً من التأكيد أن الفن الحقيقي الذي يسمونه فن الطليعة، أو الفن الثوري هو الفن الذي يقدّم نفسه على أنّه فن غير مرتبط بالحاضر من خلال تصديه الشجاع لعصره. أمّا وقد كشف هذا الفن عن عدم ارتباطه بالحاضر فإنّه يعود إلى ذلك الرصيد العالمي المشترك الذي تحدّثنا عنه، وباكتسابه الصبغة العالمية يمكن اعتباره كلاسيكياً، ومن المعروف أن الصفة الكلاسيكية يجب أن تكون خارج حدود الجديد، ومن خلال الجديد الذي يجب أن تكون مشبعة به"(20) .‏
                            يستعير العمل الأدبي مواده من الواقع لكنه يستمّد قيمته ومغزاه من ترابطها والتحامها. "العمل الأدبي ذو تنظيم عضوي، أقصد أنه جهاز عضوي، بحسب هذه النظرية، يكون العمل حقيقياً، ويمتزج الفن بالحقيقة"، كما كتب يونسكو في مقالة "المؤلف ومشاكله". في المسرح، هذه البنية هي التتابع الديناميكي "للصور المسرحية". بنية لا تعسّف فيها لأنّها تخضع إلى قوانين الحياة نفسها. "يجد الكاتب للعمل المسرحي في ذاته نفسها الصور والرسوم الخيالية الدائمة العميقة(21) للعمل المسرحي.‏
                            إن منحنى المسرحية البسيط والحاسم يتشكّل عند يونسكو من التجربة المزدوجة للغبطة ولصعوبة الوجود للارتقاء والسقوط. يتبع تسلسل الصور المسيرة المأساوية، أو يتبع الحركة المضحكة لميكانيكية غير منتظمة. إن حدّة الأفعال تعطي للتمثيلية توتراً لا يُحتمل أحياناً. وإنّ الاستخدام العلمي لهذه الوسائل يحقق للمسرح بنيته الراسخة وسحره.‏
                            بما أن المسرح تعبير عن الحياة، يجب عليه، كما يرى يونسكو، أن يمزج مختلف الألوان: "لم أفهم أبداً الفرق الذي يورده الناس بين المأساوي والمضحك"(22) .‏
                            لكن، رصف الألوان إلى جانب بعضها البعض، لا يكفي في نظره. لا يتمّ التعبير عن العالم، بربط العقدة المؤثرة مع المشاهد الهزلية، الأبطال النبلاء مع الأقنعة الغريبة، من دون خلطها، هذا ما فعلته الدراما الرومانتيكية، مثلاً. الواقع، هو وحدة كاملة، فمسرحية الفارسْ، إذا ماوصلتْ إلى ذروتها تكشف عن المأساة، والحدث اليومي مستهجن، أو خيالي، والطابع الغنائي مخيف. إن عالم القسوة يحتفظ ببعض الزوايا الرقيقة اللطيفة، "والهزلي، باعتباره حدس اللامعقول، يبدو لي باعثاً على اليأس أكثر من "المأساوي". المضحك لا يقدم حلاً. أقول: "مثيراً للقنوط" لكنه، في الحقيقة، أبعد أو أقرب من اليأس والأمل"(23) .‏
                            3 - نقاط التلاقي:‏
                            يحمل "المسرح المضاد" لدى يونسكو بصمات التصورات السريالية ونظريات انتونان ارتو، كما يؤكد، هو نفسه، هذه الرابطة، ويبرز أهمية حركة جدّدت صورة العالم واشكال التعبير:"شهدت بداية هذا القرن، حوالي عام 1920، على وجه التحديد، وحركة طليعية عالمية عريضة في جميع مجالات الفكر والنشاط الإنساني وقد حدث انقلاب جذري في عاداتنا الفكرية"(24) . لقد كتب عن بروتون بشكل خاص، وقال: "لقد أعاد اختراع الأدب".‏
                            الروّاد الثلاثة.‏
                            تمّ التعبير عن الثورة الفكرية في المسرح بمحاولات أوردها يونسكو في محاولاته مع كلود بونفوا:"... فيليب سوبو، ربما دينو، أو تزارا، أو بيكاسو الرغبة الممسوكة من الذيل)، أو فيتراك.. لكن هناك جارّي بشكل خاص".‏
                            لقد حطّم جارّي، عدو التقاليد، أصنام عالم في مرحلة التفسّخ، آلهة مجتمع جاهز مسرور، لقد أنكر حقيقة الإنسان عندما خلق اوبو؛ صورة ذلك المجتمع المشنّجة، تلك الشخصية الكريهة القاسية التي فقدت إنسانيتها خلال محاولاتها الشاقّة لأن تكون إنسانية، نموذج الشراهة المادية والمعنوية"، ربما تأثرّت به وأنا أجعل من أبطالي مسوخاً أو أجعل منها كركدنات"، كما يقول يونسكو(25) .‏
                            طرح جارّي من جديد مسألة التقاليد المسرحية من خلال إنكاره للزمان والمكان، ومن خلال آلية سير الأحداث في مسرحية بلا عقدة، والجرأة في استخدام لغة وعرة مفككة، والحماس والعنف، الذي نعثر عليهما عند دُمى مسرح العرائس، ولا واقعية الميلودراما الشعرية والمبتذلة في آن واحد. كتب يونسكو(26) :"المقصود إخفاء بعض الأشياء البشعة علناً ولا يمكن فهمها، تلك الأشياء التي تزحم المنصة دون فائدة، وفي الدرجة الأولى الديكور والممثلين". لقد رأى بروتون في مسرحية أوبو ملك "المسرحية الكبرى في الأزمنة الحديثة فيها نبوءة ودعوة إلى الانتقام".‏
                            بأسلوب مختلف تماماً تجدد "الدراما السريالية"، أثداء تريز ياس" لابوللينير. فضيحة "اوبو ملكاً" وتطرح أيضاً مسألة الأشكال الدرامية(27) .يَسود في هذه المسرحية دون تطرّف، لكن الحركة، ومعالجة اللغة، واستخدام الإيماء وأساليب السيرك(28) ترسم مسبقاً صورة المسرح المضاد في الخمسينات. تكتسب مقدمة المسرحية، مع فاصل زمني يبلغ أربعين عاماً قيمة بيان عام:‏
                            "من العدل أن الكاتب المسرحي [....]‏
                            [....] لن يهتمّ بعد الآن بالزمان‏
                            ولا بالمكان‏
                            عالمه هو مسرحيته‏
                            وفي داخلها الله الخالق‏
                            الذي يتصرّف على هواه‏
                            الأصوات الحركات الخطوات الأجسام الألوان‏
                            ليس هدفها الوحيد‏
                            تصوير ماندعوه شريحة من الحياة‏
                            إنما العمل على إظهار الحياة نفسها في حقيقتها الشاملة".‏
                            "أخيراً فإن مؤلفات فيتراك محاولة للتجديد تثير الاهتمام. في مسرحيته "أسرار الحب"، 1927)، ينقل إلى المسرح بدعة الكتابة الآلية، وفي مسرحية "فيكتور" أو الأطفال يستلمون السلطة"، يسخر من القيم والأخلاق البرجوازية، لقد قابل الجمهور بفتور عنف هذه المسرحية الساخرة(29) .‏
                            لكن نقد فتراك الساخر توقف فجأة بلا نتيجة لأنّه هاجم الأفكار ولم يهاجم طرائق التفكير، لم يطرح على بساط البحث مسألة بنية العقل ولا مسألة الأشكال الدرامية.‏
                            منظّـــــــر‏
                            في الحقيقة يرى يونسكو في جارّي، ابو للينير، فيتراك شخصيات يلتقي بها. نتعرّف في فنّه المسرحي على تأثير انتونات ارتو بشكل خاص. ارتو المطبوع بأفكار جارّي، المعروف بمشاركته في السريالية الأولى، بتجربته كممثل، كمخرج، كمدير مسرح، كمؤلف. ارتوهو، قبل كل شيء، منظّر جريء(30) . في عام 1931، كشفت له فرقة مسرحية من بالي باندونّسيا، قدّمت عروضها في باريس، عن جوهر المسرح ومهمته الحقيقية. تحدّد مجموعة من المقالات والمنشورات كتبت مابين 1930-1936)، وجمعت في كتاب "المسرح وبديله"(31) ، تصوّره عن "مسرح القسوة"، وكلمة القسوة مأخوذة هنا "بالمعنى الغنوصي"(32) ، لزوبعة الحياة التي تلتهم الظلمات".‏
                            وجد آرتو القيمة الميتافيزيكية للمسرح في ذلك النموذج البالي نسبة إلى جزيرة بالي). التمثيلية احتفال سرّي يفرض على المشاركين فيه الاشتراك في وجود فوق إنساني أو لا إنساني: "تحدث لعبة خطيرة في كل عرض [....] إننا نمثّل حياتنا في العرض الذي تجري أحداثه على المنصّة [....] الديناميكية الداخلية تهزّ المتفرج وتبدّله؛ كما أن هذه الديناميكية ستكون على علاقة مباشرة مع مخاوف واهتمام حياته كلها".‏
                            لإيجاد هذه القوة السحرية لابدّ من الابتعاد عن التقاليد الغربية لمسرح التسلية واستلهام أشكال مستمدّة من المسرح الشرقي؛ لابدّ من رفض العقدة واستبدالها بحركة يتمّ الصعود والهبوط فيها على إيقاع نبض الحياة؛ لابدّ من رفض الأفكار الواضحة التي هي "أفكار ميتة". المسرح هو مكان الأساطير. يجب أن ننتهي من علم النفس "الذي يحاول جاهداً إرجاع المعلوم إلى مجهول"، "بتعابير أخرى، يجب على المسرح أن يتابع بشتى الوسائل إعادة طرح، ليس فقط كل مظاهر العالم الموضوعي والوصفي الخارجي، بل مظاهر العالم الداخلي أيضاً، أي الإنسان من منطلق ميتافيزيكي"(33) .‏
                            يجب أن لا تبقى اللغة وسيلة اتصالية بل أداة لاستكشاف مافوق الواقع. يجب على الحوار إذن أن يفسح المكان لكلام مسرحي يؤثر على المشاهدين بماديته. بتطابقه مع الأشياء، بقيمته السحرية: "إن تحقيق ميتافيزيكية اللغة الواضحة يعني تسخير اللغة للتعبير عمّا تعجز عن التعبير عنه عادة؛ هذا يعني استخدامها بطريقة جديدة استثنائية غير مألوفة؛ هذا يعني أن تُعاد لها إمكاناتها في الزلزلة المادية، ذلك يعني تقسيمها وإطلاقها بنشاط في المكان، هذا يعني أن نأخذ النبرات بطريقة واضحة مطلقة وأن تُردّ لها قدرتها السابقة على التمزيق وإظهار شيء ما بشكل حقيقي؛هذا يعني أن نواجه اللغة وينابيعها النفعية الرخيصة، الغذائية، إذا صحّ القول، أن نواجه جذورها كحيوان مُطارد، هذا يعني أخيراً أن تأخذ اللغة شكلها التعويذي السحري"(34) .‏
                            لكن الكلام ليس المسرح كلّه.تنضوي المسرحية تحت عناوين الكلمات، وأداء الممثلين والديكور والإضاءة والموسيقى. هنا أيضاً يرفض آرتو التقاليد الغربية ويعتقد أن الإخراج ليس مجرّد صدى للنص؛ إنّه لغة لها شاعريتها ومغزاها الخاصان: "المنصة مكان مادي محدّد يطالب أن يُملأ وأن يتحدث لغته الواضحة"(35) .‏
                            الجسد البشري والأشياء، وقد صارت دلائل وسمات أو كتابة هيروغليفية، تؤلف رموزاً يمكن قراءتها مباشرة، والتمثيلية تخاطب الحواس مثلما تخاطب العقل والخيال: "عملياً، نريد أن نبعث فكرة من المشهد الكلي حيث يعرف المسرح كيف يقتبس من السينما والميوزيك هول والسيرك ومن الحياة أيضاً.ما كان يخصّه في جميع الأزمان، فهذا الفصل بين المسرح التحليلي والعالم التشكيلي، يبدو لنا بمثابة حماقة. لا يتمّ الفصل بين الروح والجسد، ولا بين الحواس والذكاء خصوصاً في المجال الذي تحتاج فيه الأعضاء التي تتعرّض لتعب متجدد باستمرار إلى هزّات مفاجئة لإنعاش إدراكنا"(36) .‏
                            يطرح أرتو أيضاً مسألة هندسة المسرح:"إننا نلغي المنصة والصالة ونضع بدلاً عنهما مكاناً وحيداً، بلا حاجز من أي نوع كان. سنحصل على مسرح الحدث؛ وستنشأ علاقة مباشرة بين المشاهد والمسرحية، بين الممثل والمشاهد، لأن المشاهد، وقد استقرّ وسط الحدث، يصبح محاطاً ومتأثراً به"(37) .‏
                            هكذا يشعر المشاهد أن الأمر يخصّه "فيشارك" فيه. للعرض قيمة التعويذة. أمّا التمثيل التعبيري -"الممثل رياضي يعبّر عن المشاعر"- فإنّه يقود الانفعال إلى ذروته. لكي يؤثر المسرح يجب أن يكون عنيفاً "إذا لم يكن هناك بعض القسوة في أساس كل مسرحية لا يكون المسرح ممكناً، ففي حالة الانحطاط التي نحن فيها، يتّم إدخال الميتافيزياء إلى العقل عن طريق الجلد"(38) .‏
                            لهذا السبب يقارن آرتو بين "مسرح العنف" والطاعون. المسرح مدّمر مثل الطاعون؛ ومثل الطاعون أيضاً يوقظ قوى اللاوعي: "إذا كان المسرح كالطاعون فليس ذلك فقط لأنّه يؤثر على جماعات كبيرة ويحوّلها إلى اتجاه حقيقي. هناك في المسرح، كما في الطاعون، شيء ما منتصر ومنتقم. هذا الحريق العفوي الذي يشعله الطاعون حيثما مرّ، يُشعرَ المرءَ جيداً أنّه ليس إلاّ دماراً هائلاً [....] يأخذ الطاعون الصور الغائمة والفوضى الكامنة ثم يدفعهما فجأة إلى أكثر التصرّفات تطرّفاً: المسرح أيضاً يأخذ تصرّفات ويدفعها حتى النهاية. إنه مثل الطاعون يعيد خلق الصلة بين ماهو موجود وبين مالا وجود له، بين قوة الممكن وبين ماهو كائن فعلاً في الطبيعة بشكلها المادي [....] المسرحية الحقيقية تقلق راحة الحواس، تحرر اللاوعي المكبوت، وتحرّض على ثورة افتراضية، لا يمكن أن تكتسب كامل قيمتها إلاّ ببقائها إمكاناً، وتفرض على الجماعات المحتشدة موقفاً بطولياً صعباً"(39) .‏
                            يستبعد آرتو المسرح المعتدل والتفريق بين الأنواع:"يمرّ المسرح المعاصر في مرحلة تراجع لأنّه فَقَدّ الإحساس بالجديّة من ناحية والإحساس بالهزل من ناحية أخرى؛ ولأنّه قطع علاقاته مع الخطورة، مع الفاعلية المباشرة المؤذية، مع "الخطر" بشكل عام.‏
                            "لأنّه أضاع حس النكتة الصحيحة والقدرة على تفكيك الضحك المادي والفوضوي.‏
                            "لأنّه قطع صلاته مع روح الفوضى العميقة التي هي أساس كل شعر"(40) .‏
                            قوّة المسرح وأهميته تجعلانه "تعويذة تطرد شياطيننا". يفجّر المسرح بنية الكون ويطرح مسألة الوجود من جديد:"الشعر في المسرح) فوضوي بمقدار مايطرح مسألة علاقات الأشياء مع بعضها، وعلاقات الأشكال مع مدلولاتها.. إنه فوضوي أيضاً بمقدار مايكون ظهوره نتيجة اضطراب يقرّبنا من العشوائية"(41) .‏
                            "الفكاهة والشعر والخيال لا تقول شيئاً إذا كانت من خلال عملية تدمير فوضوية، منتجة لمجموعة ضخمة من الأشكال ستكون المشهد المسرحي بتمامه، لم تتوصل إلى طرح موضوع الإنسان حيث عضويته، أفكاره عن الواقع، ومكانته الشعرية في الواقع"(42) .‏
                            بالنسبة لصاحب نظرية "مسرح العنف"، يتعلق الأمر، إجمالاً بتغيير الحياة".‏
                            (1) أُذيعت مقاطع من "الوباء" من إذاعة فرانس كولتور في 21 شباط 1970.‏
                            (2) المتعالي trsanscendantal عند كانط، صفة للمعاني أو المبادئ التي يعتبرها خاصة بالفكر وحده والتي يدعوها باطنية أو ذاتية طبقت في حدود التجربة "المنهل)‏
                            (3) أنا ومسرحياتي 1954 في ملاحظات وملاحظات مضادة).‏
                            (4) انظر يوميات في فتات ص110-127-196-212-240.‏
                            (5) ربيع 1939ص177.‏
                            (6) العطش والجوع.‏
                            (7) اميديه.‏
                            (8) ضحايا الواجب.‏
                            (9) الماشي في الهواء.‏
                            (10) levitation : رفع الجسم بقوّة الإرادة وحدها.‏
                            (11) مقال عن الطليعة.‏
                            (12) المؤلف ومشاكله.‏
                            (13) تجربة المسرح.‏
                            (14) تجربة المسرح.‏
                            (15) تجربة المسرح.‏
                            (16) تجربة المسرح.‏
                            (17) تجربة المسرح.‏
                            (18) "محاورات" في كتاب "ملاحظات وملاحظات مضادة".‏
                            (19) مقال عن الطليعة.‏
                            (20) مقال عن الطليعة.‏
                            (21) إذا كان يونسكو يرى في بيراندللو كاتباً تمّ تجاوزه بسبب معالجته النفسية فإنّه من ناحية أخرى معجب بـ "ميكانيكيته المسرحية". الغزيرة المسرحية الصافية هي التي أبقت بيراندللو حيّاً حتى اليوم. تجربة المسرح)."بيراندللو، أستاذنا جميعاً"، كما قال.‏
                            (22) تجربة المسرح.‏
                            (23) تجربة المسرح.‏
                            (24) مقال عن الطليعة.‏
                            (25) محاورات مع كلود بونفوا، ص 190.‏
                            (26) من لا جدوى المسرح إلى المسرح، ميركور دوفرانس، أيلول، 1896. عُرضت مسرحية أوبو ملكاً عام 1896.‏
                            (27) عُرضت المسرحية على مسرح موبيل عام 1917، وفي عام 1918 قدّم أبو للينير مسرحية "لون الزمن".‏
                            (28) إضافة إلى ذلك يبدو أن اهتمام زوج تريزياس لتجديد السكان، إذ أنجب بإرادة حرّة تماماً 49049 ولداً، يعلن عن فكرة مسرحية "المستقبل في البيض".‏
                            (29) فيكتور واستير طفلان عملاقان عمرهما تسع سنوات وست سنوات، يكتشفان في محيطهما سطحية وحقارة البالغين، العالم، بخموله وغبائه، ليس مضحكاً فقط بل هو العار الذي يموت بسببه فيكتور إذ صعقته إسهالات حادة.‏
                            (30) أسس ارتو، بمساعدة فيتراك، مسرح الفرد جارّي عام 1926، وحاول أن يفرض مؤلفين لم يتذوقهم الجمهور مثل كلوديل وسترندبرغ. كما كتب عام 1935، مسرحية "آل سنسي"، انطلاقاً من تراجيديا شيللي وقصص ستندال.‏
                            (31) عناوين المقالات المجموعة في كتاب "المسرح وبديله"تعطي فكرة عن اهتمامات آرتو والطرقات التي شقّها أمام مسرح جديد: المسرح والثقافة- المسرح والطاعون- الإخراج والميتافيزيقيا- المسرح الكيميائي- عن مسرح بالي- مسرح شرقي ومسرح غربي- ولّى زمن الروائع- مسرح القسوة- البيان الأول لمسرح القسوة-رسائل حول القسوة- رسائل حول اللغة- البيان الثاني لمسرح القسوة- رياضة عاطفية. المسرح وبديله. الجزء الرابع من مؤلفات آرتو الكاملة، طُبع مستقلاً في سلسلة "أفكار". المجلة الفرنسية الجديدة.‏
                            (32) الغنوصية: Gnosticisme:نزعة فلسفية دينية تهدف إلى إدراك كنه الأسرار الريانية المنهل).‏
                            (33) مسرح القسوة.‏
                            (34) الإخراج والميتافيزيكا.‏
                            (35) الإخراج والميتافيزيكا.‏
                            (36) مسرح القسوة.‏
                            (37) مسرح القسوة.‏
                            (38) مسرح القسوة.‏
                            (39) المسرح والطاعون.‏
                            (40) الإخراج والميتافيزيقا.‏
                            (41) المصدر السابق.‏
                            (42) مسرح القسوة.‏



                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #15
                              رد: يوجـين يونسكو - تأليف : كلود ابسـتادو


                              جمهــــــــــور:
                              مابين نظريات ارتو وتجربة المسرح الجديد هناك فاصل من عشرين عاماً. لاشك أن صعود الدكتاتوريات في أوروبا، ثم الحرب، قد أديّا إلى توقف بل ركود في تطوّر الأشكال الأدبية والفنية. لقد أحجم الكتّاب والفنانون عن أي استكشاف جديد وعادوا إلى القوالب القديمة لترويج الأيديولوجيات الجديدة وخدمة النشاط السياسي والمعركة العسكرية.لكن منذ العشرينات أوجد الشعر أشكالاً جديدة في التعبير نجدها عند ايلوار، اراغون، بيريه، سوبو، دينو، بروتون، تزارا.... أما بروست، جيد، مالرو، سيلين، ليريس..... فقد غيّروا في بناء القصة، وفي مجال الرسم، من براك إلى بيكاسو ومن كلي إلى موندريان، ومن التكعيبية إلى الفن التجريدي، أبدع الرسامون بجرأة وبدّلوا صورة العالم، أمّا "المسرح الجديد"، فعلى العكس؛ لم يبدأ حتى الخمسينات.‏
                              يرجع هذا التأخير إلى طريقة استقبال الأعمال الأدبية. الشعر يمكن تذوّقه في جو العزلة والوحدة. إنّه تجربة فردية وتكفي غرفة ضيقة لإجراء أبحاث جديدة. كما أن الروائي يتوجه بكتاباته إلى قرّاء منفردين. إضافة إلى ذلك فإن طبع ديوان شعر صغير أو رواية يتطلب نفقات محدودة. على عكس ذلك لا يعيش المسرح دون جمهور والكاتب المسرحي بحاجة للحوار مع المشاهدين. من ناحية أخرى فإن تقديم المسرحية -الصالة؛ الديكورات، الممثلين- يقتضي توظيف رأسمال يحكم على المسرحيات بالنجاح أو الفشل.‏
                              لهذا السبب يتطلب المسرح، في الحقيقة، تبديلاً في العقلية وثورة كاملة. الطليعة نفسها مضطرة للجوء إلى حافز يؤدي إلى انتشار وعي جماعي. يسمح بظهور تحوّلات تحتية في عز النهار.‏
                              التحوّلات الجذرية في أشكال التفكير وفي كيفية رؤية العالم التي حدثت في مطلع هذا القرن تمّ التعبير عنها بواسطة فكر علمي في الرياضيات والفيزياء وعلم النفس وترجمت تلك التحوّلات بدراسات جديدة في الفن والأدب. لقد تابع المسرح هذه الثورة وأكملها في العمق.‏
                              حوالي عام 1950، اتسعت البحوث الشكلية عن الرواية الجديدة مع صمويل بيكيت موللي 1951)، ناتالي ساروت صورة رجل مجهول 1948. مرتور و1953، القبة الفلكية الاصطناعية 1959)، آلان روب- غرييه المماحي 1953، المتلصص 1955، في المتاهة 1959)، ميشيل بوتور ممر ميلان 1954، استخدام الزمن 1956، التعديل 1957).‏
                              في خطّ موازٍ للروائيين حاول بعض الكتّاب المسرحيين الجدد أو الذين يجهلهم الجمهور إثبات وجودهم. جاك اوديبرتي الشرينتشر 1947)، جان جينيه الخادمات 1947. رقابة مشدّدة 1949)ارتور ادموف الحركة الكبرى والحركة الصغرى 1950)، جورج شحادة السيد بوبل 1951)، جان فوتييه الكابتن بادا 1952)، صمويل بيكيت في انتظار جودو 1953) وأخيراً عُرضت مسرحية برتولد بريخت الاستثناء والقاعدة 1950)، في فرنسا.‏
                              المسافة بعيدة حقاً بين الخيال الشعري عند شحاده واوديبرتي والعنف عند فوتييه، المسافة كبيرة بين المسرح الاحتفالي عند جينيه وتبنّي المواقف السياسية عند بريخت أوآداموف. رغم ذلك؛بحث هؤلاء الكتّاب كلهم عن تجديد عميق للمسرح وغيّروا العادات الفكرية عند الجمهور.‏

                              تنتمي محاولات يونسكو الفاشلة إلى هذه الفترة من الصراع بين كتّاب "المسرح الجديد" والجمهور؛ كما أن نجاحاته تتزامن مع تكريس الأشكال المسرحية الجديدة: عام 1957، عُرضت مسرحية ادموف باولو باولي) و"نهاية المباراة" لبيكيت، وفي عام 1959، عُرضت مسرحية جينيه الزنوج) وفي عام 1960، في الفترة التي عُرضت فيها مسرحية الكركدن كانت تُعرض‏
                              العصابة الأخيرة)، لبيكيت، الشرفة)، لجيتيه، ارتورو اوي) لبريخت.‏
                              لم يكن مسرح يونسكو منعزلاً إذن؛ إنه يشارك في ثورة الأشكال الأدبية وفي العقليات.‏
                              الحوار والحركة على المسرح. هما طريقته الخاصة في استكشاف الواقع، واكتشاف الذات، وفي الفهم وفهم الذات [....]، عالم كامل يُبنى، أو ينكشف بمقدار.‏
                              بمقدار ما يكتب عنه المؤلف ويفكر فيه. "يوميات في فتات".‏

                              4 - التقنية والتطبيق في المسرح:‏

                              أرست "الخطوط العريضة للعمل المسرحي" التي اكتشفها يونسكو الأساس لفن مسرحي يزداد وعياً ووضوحاً شيئاً فشيئاً، ولكي يحقق "مسرح العنف" ويحظى بمشاركة المشاهدين، ويعترض من جديد على سحر الفن استخدم يونسكو جميع إمكانات لغتي المسرح: النص والإخراج.‏
                              الحركة الدرامية:‏
                              الدراما حدث، لكن يونسكو أراد أن يخلق حركة دون اللجوء إلى العقدة. لقد رفض التغيرات المفاجئة المألوفة في المسرحية الهزلية الخفيفة، أو الميلودراما، كما رفض الأحداث المباغتة، العودة غير المتوقعة للزوج المخدوع، والخيانات والانفصالات والاعترافات و"صليب أمي". المسرحيات المعقدّة ماهي سوى تراكيب، لمواقف جامدة علىدرجات متفاوتة من الحذق والبراعة. إنها مسرحيات مبتذلة تتحدّث عن الجائز والممكن، لكن ليس لها أية ضرورة وجودية.‏
                              لكي يعبّر يونسكو عن رفضه، أحال العقدة إلى سخرية: في المغنية الصلعاء، تكلّم السيد والسيدة مارتان كبّة "عن "علامات عرفان الجميل"، وإن حكاية جاك وروبرتا هي مسرحية هزلية، أو هي الوجه الآخر لقصة "عشاق فيرونا" وغالباً ما نصادف التهكم اللاذع من العقدة البوليسية: الخادمة في مسرحية المغنية الصلعاء هي في الحقيقة شرلوك هولمز، كما أن مسرحيات ضحايا الواجب واميديه، وقاتل بلا أجر تبدأ بلغز أو تحقيق بوليسي؛ ويعتقد شوبير أن "كل المسرحيات منذ الإغريق حتى أيامنا لم تكن أبداً سوى مسرحيات بوليسية". لكي ينقذ يونسكو المتفرجَ من مصيدة العقدة فإنّه يحطّم وهم التخيّل: تقاطع جاكلين كلام والدتها المؤثر ودموعها المنسكبة:"لا تفقدي وعيك في الحال!، انتظري نهاية المشهد"، وتقول مرغريت للملك:"ستموت في نهاية المشهد"، كما أن بيرانجيه في مسرحية الماشي في الهواء يخبرنا أن المحاسبة الشاملة في تعدد مجالاتها هي مسألة تخصّ مسؤول الاكسسوار أو مدير الآلات. لكي يؤكد يونسكو هذه المسافات الفاصلة بين التمثيل والحقيقة فإنّه يطبّق مبدأ "المسرح داخل المسرح": مادلين والشرطي يجلسان في مقعدين مريحين ليراقبا شوبير؛ كما أن تريب وبريختول مهرّجان يؤديان مشهداً أمام جان وينقسم الرهبان إلى جمهورين متنافسين. تدمّر هذه الأساليب فكرة مشابهة الواقع وتفرض على المتفرجين مشاركة من نوع آخر. أهمية المسرحية ليست أبداً في رسوخ شكل الحكاية.‏
                              تحت ستار التطورات الساخرة الطارئة على عقدة رخوة مصطنعة تطور الحركة الدرامية صراعاً انطولوجياً حدّد يونسكو ملامحه العامة: "فكرة بسيطة وتطور بسيط أيضاً ثم السقوط"(1) . في البدء هناك "صورة" تجسّد موقفاً: كراسي تتكدّس في غرفة، جثة تكبر، قاتل مجهول، ملك يموت... هذا الموقف الذي يصعب الدفاع عنه ولا مفرّ منه مع ذلك، يترجم قلق الحياة والإنزعاج البدئي. إنه يعبّر عن مخاوف وأوهام بصرية ويعطي للمسرحية مغزاها. "فيما يخص مسرحية الكراسي. كنت أرى بكل بساطة صورة غرفة فارغة تُملأ بالكراسي التي لا يجلس عليها أحد... والغاية الوحيدة من القصة هي أن تدعم الصورة الأولية". في مسرحية اميديه، الأمر الأساسي بالنسبة لي، الأمر الذي يشرح المسرحية، هو الجثة وكل ماتبقّى حكاية تدور حولها...."(2) .‏

                              هذه "الصورة" المستمدة من الحلم في أغلب الأحيان تحمل في ذاتها مبدأ تطورها، والصراع الذي تنطوي عليه يخلق الدراما. الحركة هي انتشار قوى تتجابه. التطور حركة آلية حتمية تتصاعد باستمرار: تصل الكراسي إلى المنصّة بسرعة متزايدة، شوبير يغوص في ذاته، والجثة لا تتوقف عن التضخّم، بيرانجيه يرفض الاستسلام وجان يحمل الأباريق وطناجر الحساء"....‏
                              ليس هناك من حلّ للعقدة. الموقف لامخرج له لأنّ الصراعات الوجودية لا حلّ لها؛ والغرائز المتعارضة المتصادمة هي نسيج الحياة: الرغبة والموت، غريزة التجمّع وغريزة التوحّد، الحب والموت، البراءة والذنب... "سقوط"، الحركة الدرامية هو في الحقيقة إسقاط "خارج الزمان"، هو نقل موقف فريد إلى صورة نموذجية. الديمومة تتجمّد، والتمثيل يتحوّل إلى تكرار في ضحايا الواجب، المستقبل في البيض، الكركدن، العطش والجوع... لكي يبيّن يونسكو مدلول عودة مواقف حقيقية في عالم عبثي يتبنّى التركيب الدائري: في نهاية المغنية الصلعاء يستعيد آل مارتان دور آل سميث، وتقرع طالبة جديدة جرس باب بيت المدرّس...‏
                              هذه البنية الديناميكية تطرح من جديد مسألة الزمانية والسببية(3) . في المسرح الواقعي والبوليسي الذي يرجع إليه شوبير التراث كله. تنبع الحركة المسرحية من تتالي الأحداث حسب ترتيبها الزمني، وفي هذا التتالي تنصبّ التغيرات المفاجئة على العقدة وينحصر التفسير في الاستدلال الاستنتاجي. على عكس ذلك، فإن مدلول "الصورة المسرحية"، عند يونسكو يفترض تنظيماً مكانياً للواقع. لم يعد هناك من "قبل"، أو "بعد" بل حاضر يتضخّم بلا حدود. كل شيء يُعرض على أنّه واقع راهن، اميديه ومادلين هما في ذات الوقت زوجان عجوزان وزوجان شابان، شوبير طفل وبالغ... إضافة إلى ذلك فالمنطق، العقلاني أو الانفعالي، لم يعد وسيلة للتفسير: الضرورة تختلط مع عدم التحديد المطلق. وهكذا يصبح البناء الدرامي سؤالاً عن بنية الواقع.‏

                              الشخصيات:‏
                              أضاف يونسكو إلى السخرية من العقدة رفضه لسيكولوجية "الطباع" لأنّ ليس من مهمة المسرح إعداد الدراسات التصنيفية(4) ولأنّ النظريات تبسيطية أكثر مما ينبغي دائماً وسرعان ما تصبح بالية، ولأن كل إيضاح يميل إلى الاختصار.. لقد انطلق نيكولا دو لمحاربة مقولات العقل والدراسة النفسية العقلانية:"إذا ما استوحيت منطقاً آخر وعلم نفس آخر، فإنني سأستخرج التناقض من اللا تناقض، واللا تناقض مما يحكم عليه الحسّ العام أنه تناقض... سوف نتخلّى عن مبدأ الهوية ووحدة الطباع لصالح الحركة والسيكولوجية الدينامية... نحن لسنا ذواتنا .... الشخصية لا وجود لها. لا يوجد فينا، إلاّ قوى متناقضة أو غير متناقضة....(5) .‏
                              هكذا لم تعد الشخصية جامدة في هويتها "تفقد الطباع شكلها وتذوب في اللاشكل الذي ستصير إليه". كل شخصية هي ذاتها ونقيضها: الشاب يصبح فحلاً، والشرطي أباً، والزوجة أمّاً... بيرانجيه هو الإنسانية جمعاء إذ أن يونسكو يكتشف، فيما وراء المظاهر والأقنعة، النفس العميقة والصراعات الكامنة والغرائز الجنسية وحركات لا يمكن تحديدها والقوى الغامضة الموجهة للسلوك.‏
                              ضمن هذه الشروط لا يعود الترابط والمنطق مفتاحين للتفسير والتأويل. التحليل "الواقعي" للدوافع خادع، وهمي؛ وقد أشار يونسكو إليه ساخراً منه. المغنية الصلعاء، ضحايا الواجب، اميديه، الكركدن مسرحيات تبدأ مثلما تبدأ المسرحيات الواقعية. وتصوير الشخصيات لا يلتقط سوى فكرها الواضح وردود أفعالها الواعية، وحركاتها الإرادية، وهذه الطريقة تبرز سطحيتها وتفاهتها؛ ثم تسير بحوث يونسكو على طرقات أخرى: فمن خلال قصة الحلم، ومن خلال اللغة والتمثيل الحرّ، ومن خلال هذيان الصور وتقنية حلم اليقظة والتمثيل النفساني يتوصّل إلى شخصية أشد ثراءً وأكثر واقعية، وبدلاً من البحث عن الدوافع يقدّم عرضاً واضحاً جليّاً، ويكشف عن بنى نفسية لا واعية.‏
                              كان المسرح السيكولوجي يهتمّ بتصوير الأهواء أو الرذائل، وسير الأحداث فيه لم يكن سوى ذريعة لتقديم "أبطال" أو رجال تافهين. على عكس ذلك فشخصيات يونسكو لا وجود لها إلاّ من أجل خدمة المسرحية وليس لها أي معنى فردي. دورها مزدوج وظيفي وموضوعي، تعبيري ومعياري. وفي إطار التطور الدرامي يكون هذا الدور المزدوج محركاً للعمل، ومن ناحية أخرى" يظهر" في الشرط الإنساني ويردّدْ أوصافه.‏
                              الشخصيات هي القوى المتناقضة التي تؤلف "الصور المسرحية" وحضورها وتصادمها يخلقان مواقف الصراع. اميديه ومادلين، جان وبيرانجيه، دودار وبوتار، ماري ومرغريت، ماري-مادلين وجان، هذه الشخصيات كلّها، ومن خلال تعارضها تتبادل التهم وتفجّر التوتّرات الكامنة.‏
                              بعيداً عن الحدث المسرحي، تعبّر تلك الشخصيات عن البشري. إذا ما أُخذتْ بطريقة سطحية فهي نماذج اجتماعية: المثقفون، موظفو المكاتب، متسكعو يوم الأحد، النقاد الأدبيون، سكان الأحياء الشعبية، وكل واحد منهم يمثّل فئة معينة: بوتار، بابيون، حارسة البناية، البقال، مستأجر الطابق السادس، رئيس العمال، سائق التاكسي... وبما أنّهم متغيرون، متقلّبون.. لا يكونون غالباً سوى قناع اجتماعي: لا يشعر المدرّس بالثقة إلاّ في دوره كمعلّم، والشرطي في بداية مسرحية ضحايا الواجب خجول متواضع. إنّهم يمتلكون قليلاً من "الشخصية" بحيث يصبحون قابلين للتبادل أو أنهم نكرات: المدرس، التلميذة، الرجل العجوز، المرأة العجوز، حارسة البناية، المستأجر، هي، هو؛ أو أنّهم الاسم نفسه -بوبي واطسن، جاك، اميديه، جان- ويزداد عددهم، كل واحد طبق الأصل عن الآخر- بيض، وزّات،- كابوس متجدد "للعالم الجديد الشجاع" "Brave new world" لهكسلي.‏
                              مع ذلك، ففي استكشافات التحليل النفسي، اكتشف يونسكو الحقيقة الأخرى تحت القناع الاجتماعي. لم تعد الشخصيات نماذج عادية بل نماذج مثالية. الشخصيات هي تدوين لوساوس وهلوسات، رموز للاوعي؛ الصورة الموازية لما لا يقال. بعضهم؛ كما في مسرحية الملك يموت، ليسوا سوى إسقاطات لرغبات وحسرات الشخصية المركزية؛ وآخرون يرسمون صوراً أسطورية - الأم- الزوجة، الأب، الحبيبة -تترجم رغبات النفس المتنوعة وتعبّر عن الانفعال اللا واعي وعن الأنا الأعلى(6) .‏
                              لقد خصّص يونسكو مكاناً متميزاً للزوجين. آل سميث، وآل مارتان، جاك وروبرتا، شوبير ومادلين، العجوزان، اميديه ومادلين، بيرانجيه وداني أوديزي أو جوزفين، الملك والملكتين، جان وماري- مادلين، كلهم يطرحون بحدّة مسألة العلاقات بين إنسانين. إنّهم يعبّرون عن استنزاف المشاعر واستحالة معرفة كل طرف للطرف الآخر. إنّهم يمثلون الوحدة، وترك الملذات الحسية، وترك النظام، واحبولة الأطفال لكنهم يعبرون أيضاً عن الميول العميقة التي تشدّ الواحد إلى الآخر ممن يتناولون الحب وتحثّهم لكي يبدأوا فجر العالم من جديد.‏
                              اللغــــــــــة:‏
                              يترافق تمزّق الشخصية مع تفتت اللغة. لم يعد الكلام نظاماً للاتصال بين الناس. عندما تخضع الحياة للمادة، وعندما يفرغ الفكر من جوهره لا يبقى هناك حوار ولا تبادل بل هذيان. يتحدث المرء ولا يقول شيئاً لأنّه لم يبق شيء يقال، لأنّه لم يبق هناك فكر مبتكر أصيل ولا انفعال ولا وجود حقيقي:"إنّني أتأكد من تدمير وتشويه اللغة الإراديين وأعلن ذلك" كما كتب يونسكو في مقدمة ملاحظات وملاحظات مضادة.‏
                              الكتابة تعني بكل وضوح استنزاف اللغة، وكل كاتب يطرح مسألة الكلام من جديد، لكنه يعيد طرح المشكلة ليضعها في مكانها الصحيح وليعطيها قيمتها الأولى كوسيلة للسحر والتعبير وإلاّ فإنّ الكتابة لن تعني شيئاً. كان يونسكو مقتنعاً بذلك وبقي على قناعاته دائماً.‏
                              منذ قرن تقريباً، منذ رامبو وماراميه وفلوبير أصبح الجدال حول اللغة ساخناً بشكل خاص. وفي الحقيقة فإن الكلام اللوغوس(7) سجين داخل المنطق ولا يستطيع اكتشاف اللامعقول بطريقة صحيحة. إضافة إلى ذلك فإنه عتيق بالٍ أسقمه سوء الاستخدام الذي تقوم به الايديولوجيات: سوء الاستخدام نلمحه في خطاب الأم بيبا الذي كاد أن يكون كاريكاتورياً. تبيّن الدعايات وتقنيات الاتصال بين الجماعات كم في التعبير من اضطهاد وطغيان.‏
                              ينتهي الأمر بالكلام إلى أن ينفصل عن الحياة؛ وكان يونسكو قادراً أكثر من غيره، بسبب لغته المزدوجة، على الإحساس أن في التعبير عن تجربة ما خيانة دائمة لها. لقد قام مسرحه بتدمير اللغة ثم أعاد بناءها بشكل صحيح.‏
                              ولا تملك شخصيات يونسكو، عموماً، كلاماً خاصاً بها. إنها تستخدم مفردات كل الناس في صيغ يستخدمها كل الناس أيضاً. إنها لا تملك ناصية اللغة، التي تعمل في نهاية الأمر لوحدها، حسب ميكانيكية خاصة بها. قد تصرّ الآلة أحياناً، تتعطل، تصنع نماذج مشوهة، لكن اللغة "تتابع طريقها"، فمن خارج الشخصيات، أو بالأحرى من خلالها، "يتمّ" الكلام فيتشكل شيء ما ثم يتلاشى.‏
                              ينشأ الخلل في اللغة من تفتيت الدلالة اللغوية والفصل بين اللفظة ومدلولها، ففي الطريقة الطبيعية للتفاهم يحتلّ المدلول المرتبة الأولى ويفتش المستمع عن التعبير الملائم لمضمون أفكاره. قَلَبَ يونسكو هذه الطريقة إذ انطلق من الكلمة أو من التركيب التعبيري الذي يعطيه مضموناً غير ملائم أو يتركه دون أي مضمون، وهكذا يصل المرء إلى اللامعقول. تتطوّر الحركة الدرامية في "الامتثال" انطلاقاً من كلمات فارغة من المعنى: يلجأ جاك الذي تُرك "على هواه" إلى التمرّد والثورة، لكنه يستسلم عندما تعلّمه أخته، بكلمةواحدة، أو بسبع وعشرين كلمة أنّه "قابل للتوقيت Chronometrable".‏
                              على عكس ذلك فإن قيمة الكلمات ودلالاتها الدقيقة يمكن أن تصبح مدلولاً غير ملائم:"أنت تنام واقفاً!- أنا جالس...-جالس أم واقف فالأمر سيّان".‏
                              التأثير هنا مضحك، وفي مكان آخر يكون سبباً في عدم التفاهم:"أنت عنيد! - أنت تعاملينني الآن كحمار"، ولقد تأخرت من طول تأمّلك فيها- أنتِ تعدّين لي الدقائق!"، "أنا عبدة- لقد أُلغي نظام العبودية ياصغيرتي...."(8) .‏
                              لا ينسجم معنى الكلمات مع شكلها، فهي غير صالحة للتبادل فتحدث بعض التغيرات خاصة بواسطة التشابه في اللفظ فيستخرج يونسكو من ذلك مادة مسرحية "كنت بجانب صديقي جان وكان هناك أناس آخرون.- أقسم أنك لا تدري ماتقول".‏
                              هذا التنافر بين الكلمة والمدلول يسلب الكلام قوته الإعلامية، ويبقى مجرد ببغائية، ولا تعود الأجوبة والردود مرتبطة بتسلسل الأفكار، والكلمات تتوالى ومجموعات على أساس الجذور اللفظية والدلالات والتصريفات والمقاطع الصوتية، كما أن الارتبطات المجازية والكنايات تمنح الكلام ملامح الحماقة والجنون: "لقد كنّا مبللين منذ ساعات وأيام وليالي وأسابيع وشهور...."كانوا يصفقون بآذانهم وأقدامهم وركبهم وأنوفهم وأسنانهم..."(9) . بعض الأجوبة كانت إعراباً وتصاريف أفعال لكن يونسكو يتلاعب غالاباً بالجناس والأخطاء الإملائية:"ضحك الناس آنذاك من ذلك الغبي الذي وصل عارياً تماماً، ضحكوا من الكيس، كيس الرز...."(10) . بوجود ما عندنا من رؤساء عمال كونترمتر)، ونواب معلمين فيستمر) وحماة المعلمين بارامتر) وماحول المعلمين بيريمتر).....(11) ، لجأ يونسكو، وهو الحساس المرهف، لمثل هذه الألعاب من أجل المتعة فقط في "يومياته" واستخدم منها عناصر مضحكة في مسرحه لكنه يقصد من وراء ذلك إلى تدمير سلطان اللغة.‏
                              عندما تفقد الكلمات معناها فإن قوقعتها الفارغة تتحطّم. تنقبض الكلمات وتكشّر:"لقدوضعت في هذا العالم ممسخاً"، "أنت بشعوع"، لقد تربّى دون أية مآخذ عليه مثل ارستقرافي"(12) . تتفجر الكلمات أخيراً ولا يبقى سوى مقاطع لفظية، أحرف صوتية أو أحرف رنّانة، تتقاذفها الشخصيات عند نهاية مسرحيات: "المغنية الصلعاء، جاك، الكراسي.‏
                              ضوضاء، مواء، خوار هي اللغة الوحيدة. الكلمات لا تعبّر عن شيء وتعبّر عن كل شيء في الوقت ذاته. في مسرحية اميديه تعبّر كلمة "اليدوليا....". التعجبية عن كل أفكار الحوار المستحيل بين مادلين واميديه. ادوليا اميدية اسيدوليا، مادلين، الخ.... وفي مسرحية الامتثال يغدو كل شيء بالنسبة لجاك وروبرتا هرّاً:"لتمييز الأشياء هناك كلمة وحيدة: هرّ، الهررة، تسمّى هرّاً، الأطعمة تسمّى هرّاً، الحشرات تسمّى هرّاً، الكراسي تسمّى هرّاً، أنت هرّ، أنا هرّ، السطح هرّ....".‏
                              يصبح الكلام سهلاً أو لم يعد هناك داعٍ للكلام... التفاهم لم يعد موجوداً، والكلمة تغدو حشواً، واللغة دون هدف، تتكاثر دون رقابة. في حكاية رجل الإطفاء ودرس المدرّس، وتصريحات بيرانجيه، الكلمات تسيل، تنسكب على المسرح، في الصالة، تغزو المكان، كلام لا عضوي، مرضي. لقد أصيب الكلام بمرض السرطان.‏
                              شكل خاص من أشكال السرطان في العالم الحديث، هوتضخّم المصطلحات التقنية. يسخر يونسكو من هذا التشويه اللغوي. جاك،ضحايا الواجب، الكركدنمسرحيات تزدحم باصطلاحات التحليل النفسي: العقدة، النكوص، السقطة، التحويل، الإعلاء. يتحدث بيرانجيه عن مسخ السيد بابيون فيقول:"لا شك أنه حدث فاشل". وفي مسرحية ألما يستغّل يونسكو مفردات الفلاسفة الوجوديين والنقّاد البنيويين، بل إنه يخترع مفردات جديدة، موجود -داخل الشيء- وهو خارج الشيء. وجود عدم الوجود، علم الديكور ديكور ولوجي) فن الملابس كوستوموديه) التأريخانية، المشاركة الديالكتيكية، علم النفس الاجتماعي للمشاهدين سبكتا توسيكو سوسويولوجي) spectatapsychosoeiologie..... وفي مسرحية قاتل بلا أجر تزدهر مفردات التكنوقراط:"هناك المبدأ التنظيمي الأساسي ووجهة النظر التنظيمية للبنية الفوقية...".‏
                              أخيراً.. يحب يونسكو التلاعب بأسماء الشخصيات، في ضحايا الواجب هناك شوبير ونيكولا دو، والرجال الذين يمسخون، كركدنات يحملون أسماء بقرة، فراشة، كما نجد السيد لولار والسيد بوليسون والأسقف مورفان، وتريب وبيريختول.‏
                              نجد ضعف المعنى، والاستهزاء باللغة على مستوى المفردات أولاً، لكن المفردات تنضوي تحت أشكال الأقوال المأثورة، والحكم... يفرّغ يونسكو هذه الأشكال من مضامينها، وهذه وسيلة تدمير أكثر براعة...‏
                              يمكن أن نستخرج من مسرحيات يونسكو معجماً للأفكار المقتبسة. إنّنا نفكر بفلوبير، وقد فكّر يونسكو فيه أيضاً. الحقائق التي غدت عامّة، مبتذلة، تنبثق لدى كل كلام وبالأحرى خارج كل حديث: "آه،.. ياللتهذيب الفرنسي، وليس كما نرى عند شباب هذه الأيام"، "العنصرية من أفدح الأخطاء في هذا القرن "لابدّ أنها الصحون الطائرة"، "ليس هناك مهنة غبية". أمّا مسرحية "صبيّة للزواج" فتتألف من كليشهات متتالية.‏
                              طريقة أخرى مختلفة قليلاً هي:"التلصيق" الكولاج). يظهر أثناء الحوار استشهاد تاريخي أو أدبي لا تدركه الشخصيات. إنها غمزة عين يوجهها المؤلف للجمهور:"لا تلمسها، إنها محطّمة"، كما قالت السيدة سميث، أمّا جاك فيقول: كوني أختاً جديرة بأخ مثلي"، أمّا الدكاترة في مسرحية الما فإنهم يتبادلون الشتائم بسبب مفردات إحدى حكايات لافونتين:"عجل... بقرة... خنزير...."، ويذكر السيد الضخم في مسرحية اللوحة الشاعر بودلير دون أن يعرفه..‏
                              ليست هذه التجمعات غير المألوفة للمفردات لعبة بل هي أداة لكشف الأفكار المكبوتة. يتذكر القارئ تلك "الحوارات القصيرة"، التي استخدمتها ناتالي ساروت(13) . المدرّس يفضح رغباته اللاواعية "أنتِ شهية....".‏
                              "إياك والوقاحة أيتها الفتاة اللعوب، وإلا فحذار....".‏
                              تحتفظ الأجوبة غالباً بصيغة الكلام المألوف، لكن دارات قصيرة تُدخل إليه مضموناً غريباً شاذاً مما يؤدي إلى بديهيات كاذبة، "يجب على الطبيب المخلص أن يموت مع المريض إذا لم يكن في الإمكان أن يشفيا معاً: مثلما يهلك قبطان السفينة مع سفينته في الأمواج"، "زوجتي هي الذكاء عينه. إنها أكثر ذكاءً مني على كل حال. وتفوقني في الأنوثة إلى حد بعيد"، داعب حلقه ما، تغدو دائرة فاسدة Lecercle vicieux): الدائرة الفاسدة في علم المنطق هي الاستدلال الخاطئ"(14) .، ليس لأنني لا أبالي بالأديان، يمكن أن يقال إنني لا أحترمها"..عندي فطيرة من لحم الأرنب الغضّ، محشوّة بلحم الخنزير الصافي"(15) .‏
                              يكثر يونسكو من استخدام الأقوال المأثورة المشوّهة ليتّهم تردد الشخصيات وليؤكد فقر الفكر السائد. هناك مشاهد كاملة في "المغنية الصلعاء"، و"معرض السيارات" و"جاك"، و"اميديه" ومسرحية الما، وقاتل بلا أجر، مبنيّة على لغو لا معنى له، مرصوف، متلاصق الأطراف، "من يبيع اليوم عجلاً سينال بيضة غداً"(16) ، "هل أتيتم إلى معرض السيارات لتأخذوا دروساً في اللغة الفرنسية؟ هذه ستة فرنكات معدنية ونصف كيلو من الكرنب المخلل! من ناحية أخرى يمكن أن نزوّدك بمجلس إدارة مؤلف من تسع أعضاء يمكن إعادة انتخابهم، وبيضة".‏
                              على مستوى آخر، أكثر تطوراً ودقة يتعرض الكلام القادر على الكشف للتشويه. يتمّ الحفاظ على تراكيب الاستدلال لكنها تكون مزيّفة. تقوم السيدة سميث بعملية استقراء:"لقد علمتنا التجربة أنه عندما يُقرع الباب فمعنى ذلك أن لا أحد هناك". أمّا رجل المنطق في مسرحية "الكركدن" فيشرح عملية القياس لكنه في الحقيقة يؤدي إلى استنتاج زائف.‏
                              كيف تلحظ، على امتداد الحوار، إنه يعكس المقدمتين الكبرى والصغرى) أو أنّه يستبدل المسند إليه بالفاعل؟ من الآن فصاعداً، سيسمو هذا المنطق الأعوج- الذي -تمتد مظاهره المتعددة"، من الحساب الذهني إلى الأخلاق- بتبرير أي شيء: من فظاظة السيد العجوز إلى شعارات الأم بيبا. إنه يبرئ الحماقة والاستبداد. إنّه مضحك جداً، لكنه مرعب أيضاً فلا تعود اللغة مدعاة للضحك بل تصبح خطيرة. أحاديث المدرّس، والأم بيبا، وبوتار وجان والأخ تاراباس، كلها كلاّم قاتل. يكشف يونسكو في اللغة، إضافة إلى التلف؛ "منهجاً للحرب الحديثة"(17) .‏
                              أزمة اللغة من جانب منهاجي أزمة مصطنعة ومقصودة.. يمكن للكلام أن يكون أداة اتصال حقيقية. يونسكو، الكاتب، يعتقد ذلك. الكتابة تعني الإيمان بالقيمة الخلاّقة للغة. الكتابة؛ حسب كلمات رامبو، هي "إيجاد لغة"، تعطي شكلاً لما لا يُقال. لهذا السبب ينشأ حوار حقيقي بين بيرانجيه وديزي، بين الملك وجولييت، بين جان وماري-مادلين.كثيراً مايناجي المرء نفسه ويعبّر عن ذاته اللاواعية، جاك، شوبير، اميديه، بيرانجيه، جوزفين، جان، ماري-مادلين.... للتعبير عن الهلوسات، وللإفصاح عن الدهشة أو القلق، عن الحب المجنون أو الخوف من الموت. جميع صور العالم، جميع المشاهد اليومية، الألوان، والأناشيد، العطور تؤلف كلّها مونولوجاً غنائياً. تعبّر الاستعارات عن الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه في حالة الاندهاش أو الرعب. آنذاك تصبح اللغة شعرية.‏
                              هذه اللحظات نادرة. هاهو شوبير يتحدث عن نزوله إلى المتاهة، واميديه يتحدث عن الحب المجنون، ويتحدث بيرانجيه عن المدينة المشعّة، ويتحدث الماشي في الهواء عن ماوراء العالم؛ ويتحدث الملك عن الأمور اليومية الرائعة، ويتحدث جان عن المرأة التي يحلم بها. إضافة إلى ذلك كله، هناك دائماً شخصية تحيل الموقف إلى سخرية عندما تتعاظم هذه النزعة الغنائية: مادلين تسخر من شوبير،ويسخر الإنكليز من بيرانجيه، وحارسا المتحف يسخران من جان...‏
                              ممارسة الكتابة عند يونسكو، إذا لم تكن يائسة، فهي متشائمة، مع ذلك فإن تدمير اللغة ثم إعادة بنائها تجعل من مسرحه عملية تأمّل وتفكير حول الكلمة باعتبارها صيغة من صيغ المعرفة والعمل.‏
                              التمثيل:‏
                              لا يعتمد مسرح يونسكو على الحوار فقط(18) . يُضاف إلى التعبير بالكلمات التعبير بالتمثيل:"أنا لا أصنع أدباً، إنني أصنع شيئاً مختلفاً تماماً. إنني أحقق مسرحاً.‏
                              أريد أن أقول إن النص الذي أكتبه ليس مجرّد حوار لكنّه إرشادات مسرحية أيضاً"(19) . يندمج أداء الممثلين مع الحركة الدرامية وله دلالته الخاصة به.‏
                              "المسرح بصري مثلما هو سمعي"(20) ، لهذا السبب يجسّد يونسكو إيحاءات الحوار بواسطة التمثيل. جاك بعد أن أصبح فحلاً يصهل حول روبرتا التي تتحدث عن الصحراء. شوبير، "يغوص في الظلمات" وهوممسك بذراع مادلين، يمرّ تحت الطاولة، ويتسلّق نحو القمم فيصعد على الكراسي والطاولة.‏
                              يمكن للتمثيل أن يخالف الحوار أيضاً. يقترح يونسكو على الممثلين أن "يمثّلوا عكس النص"، وبهذه الطريقة يتمّ تحاشي الحشو والإسهاب وإظهار دلالات جديدة، "على نص أخرق لا معقول هزلي يمكن أن نضيف إخراجاً وأداء رصيناً متميزاً احتفالياً وعلى نقيض ذلك، لتحاشي سخرية الدموع السهلة، والحساسية الزائفة، يمكن اللجوء إلى التمثيل البهلواني وتبيان المعنى التراجيدي للمسرحية بواسطة التهريج"(21) . هذا التناقض يجعل الكلمات تعبّر عمّا لم تعبّر عنه من قبل أبداً. في مسرحية اللوحة يمكن للحوار فقط أن يجعلنا نعتقد أن المسرحية نقد لاذع "للرأسمالية المستغلّة". رغب يونسكو أن يكون التمثيل تقليداً ساخراً"، على أقصى درجة من الغباء" مما يؤدي إلى تغيير المعنى والمدلول.‏
                              لكن التمثيل يكمل النص في أغلب الأحيان. عندما يتفكّك الكلام أو يفرغ من معناه، تعتمد الاستمرارية الدرامية على الإيماء، في بداية ونهاية المغنية الصلعاء، وخلال حصة فقه اللغة في "الدرس"، لا يبقى من الكلام سوى الضجيج، وسير الأحداث مستمر عبر التمثيل. كذلك لا يبقى ثمّة كلام في الرقصة الخليعة التي تختم مسرحية الامتثال، أو في زوبعة الكراسي، أو في نهاية العطش والجوع.‏
                              الأشكال المألوفة جداً في التلحين الإيقاعي الذي تؤديه الشخصيات ثلاث وهي: التكرار والطباق وقلب عناصر الجملة.‏
                              من مشهد إلى آخر، وعلى امتداد التطور الدرامي، تتكرر الحركات: آل مارتان يستعيدون دور آل سميث، وتحلّ إحدى وأربعون طالبة محلّ الطالبة السابقة، وفي الفصل الثالث من مسرحية الكركدن يقلّد بيرانجيه جان في المشهد السابق.‏
                              الطباق بديل عن التكرار. مجموعتان من الممثلين تؤديان المشهد نفسه على مستويات مختلفة؛ والمشهد المعبّر تماماً عن ذلك هو المشهد الرباعي في مسرحية: جان، بيرانجيه، رجل المنطق، السيد العجوز. لكننا نجد أيضاً الأسلوب نفسه في قاتل بلا أجر والماشي في الهواء.‏
                              في مكان آخر يتبادل ممثلان دوريهما. في مسرحية الدرس يتطوّر سلوك كلّ من المدرّس والتلميذة بشكل متناظر. وفي الكركدن وفي أثناء المشهد الذي يجمع ديزي وبيرانجيه يتبادل الاثنان دوريهما أيضاً. في هذه الحالات، التشابه يؤكد الاختلاف؛ كما أنّه يبيّن الموقف وانعكاسه.‏
                              يستغّل يونسكو مختلف أشكال التمثيل مما يؤدي إلى توسيع حدود المسرح. إنه يرسم لوحات حيّة: "الزيارة" في المغنية الصلعاء، "العرس الضاحك" في الامتثال، "شرفة المقهى"، و"المكتب" في الكركدن. تسمح هذه اللوحات الحية، عند بداية الفصل أو نهايته، أن تدرك في لحظة موقفاً ما، أن توضح مغزى مسرحية، مثلما يفعل الدرس الأخلاقي الذي نستخلصه من قصة ذات مغزى ألعاب خداعية(22) . تزين الحركة الدرامية بالزخارف ففي مسرحية الكركدن يُخرج جان من جيوبه ربطة عنق ومشطاً ومرآة؛ وفي ضحايا الواجب تكدّس مادلين فناجين القهوة؛ وفي الماشي في الهواء يُظهر بيرانجيه ويُخفي كثيراً من قطع الاكسسوار. تحقق هذه اللعبة، بمجانيتها، التوتر الدرامي وتعطي للحركة إيقاعاً أسرع.‏
                              يستخدم يونسكو أيضاً أساليب السيرك ومسرح العرائس فالشخصيات في الامتثال غيّرت وجوهها، وأحلام جوزفين ملأى بالوجوه المضحكة، كما أن مسرحية اللوحة تحمل عنواناً ثانوياً هو "تهريج".‏
                              تتحول الحركة أيضاً إلىمسرح ظل، في الفصل الثاني من قاتل بلا أجر نشهد مرور خيالات معبّرة خلف نافذة الغرفة: حارسة البناية مع مكنستها، ساعي البريد، مستأجرين، تجّار الحارة...‏
                              أخيراً، يلغي يونسكو أحياناً التمييز بين المسرح والصالة؛ ففي الروايتين الأوليتين لنهاية المغنية الصلعاء كان يخطط لوجود بعض الممثلين في الصالة لمشاركة الجمهور في المسرحية؛ وفي مسرحية "التحيات" يجلس أربع من أصل سبع ممثلين في الصالة. لم يستغلّ يونسكو أبداً هذا النهج لكنه يستعيد فكرة من أفكار ارتو وهي تطبيق جميع أشكال التمثيليات الشعبية، خصوصاً السيرك، تلك التمثيليات التي تحاول إشراك الجمهور في العرض.‏
                              "يمكن الإقدام على كل شيء في المسرح. إنه المكان الذي يحتاج أقل قدر من الجرأة [....] سيتّهمني الناس أنني أقدّم الميوزيك - هول والسيرك.‏
                              حسناً، لندمج السيرك! يمكن أن يُتهم المؤلف بالتعسف لكن الخيال لم يكن أبداً تعسفياً؛ إنه كاشف للأسرار ونبع للإيحاء"(23) ..‏
                              إن جرأة يونسكو في مجال التمثيل تعطي لرؤية الواقع إمكانيات جديدة. إنها تشقّ طرقاً جديدة للخيال المبدع والنتاج العجيب في الأدب والفن؛ إنها تسمح بتقديم موقف إلى الجمهور لا يمكن الدفاع عنه: العسر والعار في نهاية الامتثال أو اللوحة، القلق والخوف في مسرحية العطش والجوع، من خلال مشهد المهرجين- "أشعر أن ساقيّ قد بترتا"، وكما يقول جان، ونحن أيضاً. أخيراً فإن التمثيل هو الذي يولّد الحد الأقصى من الانفعال.‏
                              الإضاءة، الديكور، الاكسسوار:‏
                              الكاتب المسرحي ضابط الإيقاع. كما أنه رسّام ونحّات ومهندس معماري. إن رسوخ الأشياء نابع من أنها تحدد حقل الرؤية وتفرض حضورها المادي الذي لا يمكن الاعتراض عليه.‏
                              أمّا الإضاءة فإنها تحقق تأثيرات مادية على المشاهدين وتعطي إحساساً بالقسوة أو بالعذوبة.عن طريق سلّم الألوان والكثافة والرقّة والارتعاشات وتباين النور والمساحات الضوئية. إن الإضاءة مرتبطة مباشرة بشعور الغبطة أوالخوف. لقد استغلّ يونسكو تلك التأثيرات كلها في اميديه، الكركدن، الماشي في الهواء، العطش والجوع، الوباء. في الفصل الأول من مسرحية قاتل بلا أجر، الإضاءة هي الديكور الوحيد، وفي مسرحيتي الكراسي والملك يموت تسمح الإضاءة بتنفيذ تحوّلات الواقع.‏
                              استبعد يونسكو النمنمات الكلاسيكية في الديكور سواء كانت رومانتيكية تبهر النظر أو واقعية شديدة التدقيق في التفاصيل كما نجدها عند انطوان. كما رفض يونسكو المسرح الباطني راسين، كامو) الذي تتطوّر الشخصيات فيه مابين الطنافس أو على "شرفة قصر ذي أعمدة"، إذ لابُدَّ من مكان يناسب المشاهد المسرحية. كما رفض أخيراً الديكورات التي تعتمد على الخداع البصري إذ تعطي عن بعد وهم الحقيقة.‏
                              هذه مسألة تتعلّق باتجاه النظر وبرؤية العالم؛ فمن خلال منظور إنساني- كلاسيكي، رومانتيكي، واقعي، الخ....-الإنسان وحده هو المعنيّ في الحدث الدرامي أمّا الديكور فليس أكثر من إطار. يرى يونسكو أن الديكور عنصر من عناصر الموقف فالأشياء تندمج بالحدث مثلها مثل الشخصيات، تشكل جزءاً من العرض.‏
                              يصوّر البرج وسط الجزيرة عزلة العجوزين في مسرحية الكراسي، ويوحي الباب المغلق دائماً والنوافذ المفتوحة قليلاً باحتجاز اميديه ومادلين، وتعبّر غرفة جاك غير المرتبّة عن السقوط الأخلاقي؛ والباب الثقيل والحاجز المشبّك في مطعم الرهبان يمثّلان المصيدة التي تنحبس داخلها أحلام جان...‏
                              لكن تغيّرات الديكور لها مغزاها هي الأخرى. إنها تساهم في تطوّر الحدث الدرامي؛ التناقض بين الفصلين الأخيرين من مسرحية اميديه، واضح الدلالة إذ يتمّ الانتقال من كابوس المادة إلى رؤية مساحة صغيرة تشعّ بالأنوار وضوء القمر، وإلى أشخاصها الذين يشكلون جزءاً من الديكور. إنها مكان حرّ ويحرر المشاهد، وفي هذا التناقض يكمن الحدث الدرامي. في مسرحية قاتل بلا أجر تدعم تغيرات الديكور الانتقال من الغبطة إلى خيبة الأمل، من الهزل إلى القبح والقلق اللذين نراهما في الحلم. وفي مسرحية الكركدن، تصوّر الديكورات المتتالية الفخ الذي يضيق حول بيرانجيه. وفي مسرحية الملك يموت يعبّر تلف الديكور عن تلف الوعي والإدراك. في العطش والجوع تعبّر الديكورات الثلاث عن حالات جان العاطفية.‏
                              نجد في بعض المسرحيات ديكوراً أوّلياً يقلّد الواقع بطريقة ساخرة.. في المغنية الصلعاء، نرى بيتاً من الداخل انكليزياً نموذجياً)، وفي اميديه بيتاً من بيوت "صغار البرجوازيين"، وفي الكركدن يُخيّل لنا أن الساحة الصغيرة تُعلن عن مسرحية من مسرحيات "البولفار". ثم يهتز كل شيء فتصبح الواقعية هزلاً أو وهماً. تهدف هذه الطريقة الساخرة لتدمير رؤية إنسانية متخلّفة من أجل إقامة عالم لا يعود الإنسان مركزاً له، عالماً لا إنسانياً.‏
                              تندمج الاكسسوارات مع التمثيل والحدث مثل الديكورولها أيضاً نفس الدلالات. ساعة الحائط في المغنية الصلعاء أو اميديه تجعل جريان الزمان ينحرف عن مساره. الأقنعة، رؤوس الحيوانات، السياط، المشانق صور من الأحلام. الجسر الفضي أو سلّم النور يرمزان إلى الأمل. رصف أثاث غرفة الطعام وجهاز الهاتف في اميديه يعني عزلة الزوجين. في مسرحية الكركدن، وفي المشهد الذي يعتقد فيه بيرانجيه أنه يتعرّف على نفسه في الصور الغريبة المعلّقة على الجدار ينبثق المعنى من التناقض مابين الكلام والأشياء.‏
                              لكن تكديس الأشياء والأدوات هو الذي يدعو للقلق والخوف: باليه الكراسي، طناجر الحساء، الجرار أو الفناجين، تزايد عدد البيض، والفطور، والنمو المتسارع للجثة. في انفلات الحركة الآلية التي تصبح جنوناً، تنتج المادة مادة بلا نهاية. الإنسان مخنوق، غريق، جاك يختفي تحت البيض، اميديه ومادلين يعجزان عن الانتقال، المستأجر الجديد يضيع وسط الأثاث الذي يكتسح المدينة، بيرانجيه، جامد في مكانه وسط زحمة المرور.‏
                              تكديس الأدوات وحركتها يصبحان سريعاً من فعل الخيال(24) . يخلق يونسكو عالماً تسوده قوانين وأنظمة ليست مألوفة لنا فعالم الهلوسة الناتج عن المادّة المتكاثرة ينكر تفوّق الإنسان بل يطرد ذلك الإنسان أو يسحقه. التمثيلية التي تحمل هذه الدلالة تأخذ مكانها على مستوى البديهيات، وليس على مستوى الاستدلال والبرهان ومن هنا تكسب قوتها: إنها لا تبرهن بل تعرض.‏
                              المسرحية ليست هذا أو ذاك.‏
                              إنها أشياء كثيرة في وقت واحد،‏
                              إنها هذا وذاك.. "محاورات مع كلود بونفوا".‏
                              5 - دلالات‏
                              تشير دراسة التقنيات التي استخدمها يونسكو إلى قصده في تحويل الجدي إلى هزلي. السخرية من العقدة، وتفاهة الشخصيات، وتفكيك اللغة، والتمثيل الذي يخلط بين الخصوصيات، هذه كلها عناصر تحدّد "مسرحاً مضاداً".‏
                              لكن التطور الدرامي ينطوي على صراعات وجودية، وسيكولوجية قائمة على ديناميكية صراع الأضداد، وعلى منطق "غير أرسطي" للأحداث والأشخاص، وعلى لغة هي وسيلة لاستكشاف الواقع أكثر من كونها نظاماً للاتصال بين الناس؛ وعلى إخراج منفتح على جميع الأشكال المسرحية ممّا يسمح بالحديث عن "مسرح جديد".‏
                              أشكال قديمة أبعدت وأشكال جديدة تأسست، وفن مسرحي يثبّت مواقعه. يهدف هذا التجديد في التعبير إلى أن يقدّم وصفاً عن اللاتواصل أو أن يعثر على الحقائق الضائعة: الوصول إلى المجهول، طرح البديهيات من جديد؛ ولا يتمّ ذلك إلاّ "بإيجاد لغة جديدة"، كما أن مسرح يونسكو يظهر أيضاً كبحث عن اللاواقعية، كتعبير عن الشرط اللا معقول للإنسان، كتأمّل في الأشكال المسرحية.‏
                              بحث عن اللاواقعية:‏
                              مقاصد يونسكو سريالية، تاريخياً وفلسفياً. سار مسرحه على الخط الذي سارت عليه أبحاث جارّي، أبو للينير، فيتراك دينو. أما فنّه المسرحي فيعتمد على نظريات ارتو. نحن نعرف رأي بروتون في المغنية الصلعاء(25) . ومن المناسب أن نشير، من منظور عريض، إلى تأثيرات فلوبير ودستويفسكي، وكافكا على يونسكو.‏
                              أثناء بحثه عن "الأصالة" استهزأ يونسكو بالواقع السطحي الذي يراه، وسخر من الشخصية الاجتماعية، وهو القالب الجاهز الذي يدخل فيه كل فرد وينكمش. أدان التفكير والسلوك المقولبين اللذين يفصحان عن وجودهما من خلال الكليشهات اللغوية والتصرّفات الآلية. لقد رفض قوانين المنطق العقلي- "أكثر السجون بغضاً ومقتاً"، كما يقول بروتون(26) - المنطق الكابح والمستبد عن طريق التربية والأسرة والمهنة والعلاقات ضمن المجموعة. لقد طرح من جديد مسألة منظومة القيم الذي يقوم مجتمعنا عليها.‏
                              يرى يونسكو أن الشخصية "الحقيقية"، توجد في العمق. ومسرحه كله محاولة لاكتشاف اللاوعي باعتباره نبعاً للتفكير والعمل؛ وفي نفس الوقت على اعتباره الحقيقة السيكولوجية المشتركة بين جميع الأفراد. الحب"، ذلك البحث اليائس عن الوحدة الضائعة الموت، وسواس، وجاذب لا يقاوم". الاندهاش من الحياة، كلها هواجس إنسانية، أساسية. الإنسان تحرّكه الغرائز الجنسية والميول الفطرية التي تطفو على هوامش الوعي وتكشف عن نفسها من خلال حركات مرسومة أو أقوال غير منسجمة. كلّ فرد منا هو الحلبة التي يتصارع عليها الحب والموتإيروس كلمة يونانية تعني الحب، ناناتوس كلمة يونانية تعني الموت).‏
                              صوّر يونسكو التمزّق والتناقض من حيث الظاهر إذ أن اللاوعي له قوانينه الخاصة به. هناك منطق للتناقضات، وحلٌّ لها. من أجل "تغيير الحياة"، ومن أجل أن يصبح العالم "شاعرياً" حقاً، من الأهمية بمكان أن نبحث في ديناميكية اللاوعي عن تجديد الوجود. لم يقل بروتون شيئاً آخر في "البيانات السريالية" وقد كتب عنه يونسكو بمناسبة وفاته:"كان يعيش، ليس في التناقض بل في المفارقة. لقد كان هذا المنظّر اللاعقلاني، يوسّع العقل ويعمّقه ويزيده. وكانت اللامعقولية تظهر كأنها الوجه الخفي للعقل الذي كان باستطاعة الوعي اكتشافه والاندماج معه"(27) . هذا أيضاً مافعله يونسكو في مسرحياته.‏
                              اكتشاف هذه "الأعماق"، هذه المناطق المظلمة من النفس مستوحى من التحليل النفسي، من طرائق فرويد أويونغ التي طبّقتْ على الأدب: وقد التقت، في هذا المجال، مع مناهج وتقنيات السرياليين. استخدم يونسكو الهفوات وزلاّت اللسان كمصدر للجانب الهزلي لكنّه استخدمها أيضاً ككاشف عن الأفكار الكامنة المكبوتة. لجأ يونسكو إلى التناقض في الحوارات والتصرّفات. لقد مارس "الكلام الآلي" والقصة الحلمية محطّماً بذلك قوقعة النحو ليقدّم منطقاً آخر وترابطاً مختلفاً للأفكار والصور، وليقدّم بنية أخرى للزمان والمكان. لقد نقل إلى اللغة أساليب التلصيق "الكولاج" فبعض المشاهد -التي تكشف أحياناً مغزى المسرحية- تستعيد بشيء من الدقة، أسلوب التمثيل النفساني.‏
                              يظهر مسرح يونسكو، سواء من حيث تنفيذه أو من حيث مقاصده، كأنّه إكمال للفكر السريالي.‏
                              صورة عالم لا معقول:‏
                              مسرح يونسكو استقصاء عن الفرد كما أنه ضمير عصر أيضاً. لا نجد أبداً، حتى في مسرحية الكركدن، أية إشارة مباشرة للأحداث الراهنة، لكن مخاوف الشخصيات هي المخاوف التي يشعر بها المرء في أيامنا أمام رعب القيامة، أمام عالم ينضح وحشية ولا إنسانية. تقدذم "الصور المسرحية" مواقف خارج الزمن لكنها ذات طابع تاريخي.‏
                              يعبّر يونسكو في مسرحه عن ذلك الضمير الممزّق الذي نجده لدى الذين عاشوا ظلمات الديكتاتوريات. لقد رأوا القيم الإنسانية تنهار، وممارسة الحرية تختفي. يتوقعون أن يشهدوا في المستقبل تهديدات ومخاطر أكثر مما يشهدون من الآمال. إنهم يعانون بقسوة من لا معقولية عالم في منتهى الفوضى، ويتألمون من وضع إنساني ميئوس منه(28) .‏
                              تعبّر المواقف التي أوردها يونسكو في مسرحياته عن انسحاق الفرد. السادية والعنف هما طابع العلاقات مع الآخرين. في الدرس وضحايا الواجب. سيطرة الجماعة العائلية أو الاجتماعية واضحة. في جاك، الكركدن، العطش والجوع. طغيان الايديولوجيات موجود في كل مكان من مسرحياته. الإنسان وحيد لأنّه غير جدير بالأخوّة الكركدن)، عاجز عن تحقيق الحب الدائم. العلاقة بين الرجل والمرأة سريعةالزوال الكركدن)، أو تافهة المغنية الصلعاء)، أو أن العلاقة بين الرجل والمرأة تقتصر على الجنس جاك)، أو على ارتباط جهنمي، أو على "جلسة سرّية"، تربط بين كائنين عاجزين عن الحب ومحكوم عليهما أن يعذّب أحدهما الآخر ضحايا الواجب، اميديه، العطش والجوع).‏
                              الوحدة الإنسانية هي أيضاً وحدة الموت. لقد جعلت الأفكار الإنسانية من الإنسان ملكاً، لكنه ملك مخلوع، إذ إنّه يموت، وحيداً، يموت. يسلب الموت من الوجود قيمته: المدينة المشعّة لاجدوى منها فهناك القاتل يعبث فيها؛ وبيرانجيه "الماشي في الهواء" عاجز عن الكتابة إذ لا شفاء من الموت-ويحلم جان ببلاد، الموت فيها ممنوع.‏
                              الموت كابوس جماعي كما أنّه وسواس فردي. "الحب والكراهية، الحب والدمار، إنه تعارض، يعطي بأهميته الكبرى الانطباع باللامعقول.فكيف نشيّد منطقاً انطلاقاً من ذلك، ديالكتيكياً؟"(29) .‏
                              يحكي مسرح يونسكو عن موت الإنسان كما يحكي أيضاً عن موت الله. ماوراء العالم ماهو إلاّ فوضى وعماء؛ ولا يفكّر بيرانجيه الأول خلال احتضاره إلاّ بالماضي؛ والعبّارة التي يعبرها لا توصله إلاّ إلى العدم، والسلّم الفضي في مسرحية العطش والجوع هو تساؤل كبير حول معنى الحياة وليس أملاً في الآخره. المصير مسدود لا مخرج له. ومسألة المطلق هي غياب، والرجاء الوحيد هو "العدم الكبير".‏
                              تتضاعف المادة وتتكاثر في كل مكان من مسرح يونسكو؛ تغرق الكائنات فيها أو تختلط معها حتى تصبح هي نفسها مادة ولا يعود العالم إنسانياً.‏
                              إدراك هذا الوضع الماساوي، وهذه الصراعات التي تمزّق الفرد، التي تضع الفرد في مواجهة المجموع، وتضع الإنسان في مواجهة المادة التي تحيط به، ورفض الإنسان لهذا المصير، لهذا التحوّل دون هدف في عالم بلا حدود، هذان هما وجها علم الأخلاق القائم على فلسفة "اللامعقول".‏
                              "إن شرطنا الوجودي لا معقول، لا أحد يريد أن يأتي إلى العالم. لا أحد يريد الخروج منه"(30) .‏
                              تلتقي اهتمامات يونسكو ورؤيته للواقع مع كتّاب وفلاسفة قدّموا، غداة الحرب، الفرد محاصراً من جميع الجهات بالوحشية واللا إنسانية، قدّموه "غريباً" محكوماً عليه بالصحو، محكوماً عليه بـ "جلسة سرّية" حيث نظرة الإنسان الآخر تشكل جحيماً له، قدّموه مسؤولاً مسؤولية كاملة عن مصير لم يختره؛ ومعرّضاً لكل أنواع الفشل.‏
                              بهذا المعنى فإن أعمال يونسكو "ملتزمة" تاريخياً.لم تدعُ أبداً علناً إلى مبدأ أخلاقي أو نظام من القيم لأن يونسكو لا يقبل أن يضع ايديولوجية ما مقابل ايديولوجيات أخرى لكن رفضه وإدراكه للمسائل المطروحة يؤكدان التزامه. المسرح الملتزم لا يقتصر فقط على الأشكال التي قدّمها ابسن أو بريخت أوسارتر. هناك "التزام" وهناك "مسرح" في كل مرة تطرح مشكلة الإنسان ومصيره في تقاطعهما مع الزمان والأبدية.‏
                              لكن سارتر وكامو عبّرا عن اختيارهما دون أن يعدّلا في البنى الأدبية أمّا يونسكو فقد طرح من جديد مسألة الأشكال المسرحية، إن مسرحه تأمّل فني جمالي.‏
                              تأملات حول الأشكال المسرحية:‏
                              "ما العمل حتى يصبح الأدب استكشافاً مثيراً للاهتمام؟ سأل بيرانجيه في مسرحية الماشي في الهواء. كذلك كان يونسكو يسأل نفسه عندما يجعل شخصياته تتكلم: شوبير، نيكولا دو، بيرانجيه، الصحفي، وهكذا تساءل أيضاً عندما قدّم نفسه على المسرح في مسرحية الما. ولقد أجاب عن ذلك مسرحه كله عندما كان يخترع الأشكال التي عرض من خلالها بديهيات رؤيته للعالم.‏
                              "الكتابة هي التفكير في الكلمات"، كما قال باشولار(31) أما قضية الكتابة فيجب أن تعطي الأشياء مدلولات جديدة. لقد عالج سارتر وكامو، وهما الوفيّان لعلم الجمال التقليدي، مسألة اللامعقول في مسرحياتهما أو قصصهما بواسطة كلام عقلاني وأساطير تاريخية. هناك إذن تفاوت بين الأشكال وبين رؤية العالم، بين الكلمة والمدلول، لكنهما كانا يعرفان مسبقاً مايريدان أن يقولا.‏
                              أمّا عند يونسكو فعلى العكس إذ أن الأشكال الجديدة هي التي تخترع الدلالة والمغزى. اللا واقعية موجودة في قصص الأحلام والتمثيل النفساني، وتنبثق أساطير جديدة كركدنات وفطور)، من الهلوسات اللا واعية كما أن تفكك الصور المسرحية يرمز إلى تفكك العالم وكارثة الكلام تجمّد تصدع القيم في جثث من الكلمات؛ فالأم بيبا وتاراباس نبيّان كاذبان لعالم مجنون. إن لا معقولية العالم هي بداهة حيّة.‏
                              هذه الأشكال الجديدة مقصودة ومدبّرة. إنها ترسّخ عالماً مسرحياً ينقل الواقع ويعطيه مدلولاً، فتحوّلات الشرطي إلى أب أو طبيب، ومسخ الناس إلى كركدنات أو أوزّ، الأشخاص التافهون الكبار أكثر من الحالة الطبيعية،والمملكة التي تتضاءل حتى تصبح حفنة من رمال، والجثة التي تتضخم... هذه الصور كلها لا قيمة لها إلاّ لأنّها ذات مغزى. إنها أمور متفق عليها. بين المؤلف والجمهور. لم تأتِ هذه الاتفاقات دفعة واحدة ومن هنا نشأت المقاومة والعداوة ليونسكو واستمرتا حوالي عشر سنوات.‏
                              لكي تنال هذه الاتفاقات - وهي كل قوانين الفن المسرحي عند يونسكو- القبول اضطر المؤلف لإدخال بعض العلاقات الحقيقية، لكنها لاتحمل أي معنى، وهذه أيضاً اتفاقات بين المؤلف والجمهور(32) . هكذا يقدّم يونسكو عناصر تعيد الجمهور إلى الاستخدامات والعادات والتصرّفات المألوفة: قضاء سهرة عائلية، كيفية طلب الكونياك في كأس كبيرة، أحاديث المتفرجين في المسرح، وفي الوقت نفسه، يقطع القصة بتلميحات مباشرة إلى تمثيل الممثلين أو إلى زمن العرض أوإلى مسؤولي الآلات والاكسسوارات ليؤكد أن مغزى المسرحية ليس في هذه العناصر "الواقعية"، وليؤكد أنه لا يكتب مسرحيات "طبيعية".‏
                              تغيرات ذات مغزى وتأثيرات الواقع: هذا النظام المزدوج من الاتفاقات يحدّد تقنيّة وبنية المسرح. هذا النظام المزدوج يدعم ويكشف رؤية المؤلف للعالم، ولذا فإن الكاتب الأصيل يفكّر بالأشكال والصيغ ويطرحها من جديد على بساط البحث. لا يمكن أن يتمّ تأكيد القيم الجديدة إلاّ بواسطة فن يتمّ اختراعه من جديد، وتكمن عظمة يونسكو في إدراك ذلك وتطبيقه.‏
                              خاتمة:‏
                              من السخرية أن نكتب خاتمة عن يونسكو في اللحظة التي ظهر فيها في المكتبات كتابه الجديد "اكتشافات" وهو تأملات حول "دروب الإبداع" في اللحظة التي تعرض فيها مسرحيته "لعبة القتل" في ألمانيا، هذه المسرحية التي ترسّخ أسلوباً جديداً. على أحسن حال، يمكننا أن نلقي نظرة شاملة على الوضع في مجمله بعد عشرين سنة من الإبداع والصراعات الأدبية.‏
                              أهمية يونسكو ليست في سعيه للبرهنة والإثبات. نتاجه الأدبي يفرض نفسه من خلال المسرحيات، يفرض نفسه من خلال الحضور والنجاح. لقد قُرئِت أعماله ومُثّلت وتُرجمت إلى جميع اللغات؛ يفرض نفسه لأصالته بشكل خاص.‏
                              لقد نجح يونسكو فيما فشل فيه الفريد جارّي وانتونان ارتو. لقد سلب مسرح "البولفار" الثقة والسمعة، بل ربما دمّر ذلك المسرح الذي يمثل تجسيداً متقهقراً للمدرسة الطبيعية. لقد خلق أشكالاً مسرحية جديدة واستخدم تقنيات جديدة في التعبير؛ صوّر عبثية العالم وكشف لا معقوليته. لقد غيّر حساسية الجمهور.‏
                              أنكر البعض أهمية أعماله. قدر المؤلف الطليعي أن يقدّم أقنعة جديدة لايديولوجيات عتيقة. كتب بارت منذ عام 1956 في "المسرح الشعبي": "من المؤسف أن تتبع الطليعة تطوّر البرجوازية الطفيلية المالكة، يخيل لنا اليوم أننا نشهد موتها البطيء [...] سواء أكانت البرجوازية تعيد توظيف استثماراتها في تلك الطليعة، سينتهي بها الأمر إلى حضور الأمسيات الجميلة التي تعرض فيها مسرحيات بيكيت واوديبرتي وغداً ستشهد مسرحيات يونسكو الذي تأقلم مسبقاً مع النقد ذي النزعة الإنسانية"(33) . فهل كان النجاح، والتكريس، والجوائز الأدبية، والدخول إلى الأكاديمية أحداثاً تؤكد صواب رأي بارت؟‏
                              الحديث عن "التعويض" يعني نسيان أن كل صراع -وهذه هي حالة يونسكو مع الجمهور والنقّاد - يُحلّ ديالكتيكياً. فإذا ما أصبح مسرح يونسكو أقلّ عنفاً بعد عام 1956، وإذا ما حُكم عليه أنه أكثر "كلاسيكية" فذلك لأنه رسّخ طريقة جديدة في الرؤية والإحساس؛ فلم يعد ممكناً الآن الكتابة للمسرح دون الأخذ بعين الاعتبار كل ما أوجده يونسكو.‏
                              في الطريق الذي شقّه يونسكو، ستسمح أبحاث في الكتابة والإخراج بالذهاب بعيداً، ستسمح بتعميق رؤية مافوق الواقع وإعطاء التعبير مزيداً من العمق، وإدانة "القسوة" بالمعنى الذي استعمل فيه ارتو هذه الكلمة)، في مسرحه. يونسكو واحد من أولئك الذين "يؤسسون مدرسة".‏
                              يمكننا أن نقول مع ذلك إن بحثه عن الأصالة في "العمق" وإحساسه باللا معقول المثير للقلق، يبقيان مرتبطين بفلسفة وبجماليات تعطي الامتيازات إلى القيم التي يؤمن بها الفرد ولا تهتم بالعلاقات الجدلية التي تنشأ بين الفرد والمجتمع. ليس هناك شرط إنساني فردي، ثابت، غير قابل للعلاج.‏
                              الاستلاب مرتبط بحالة اجتماعية. القلق يرجع حقاً إلى أسباب انطولوجية لكنه يعبّر عن رفض تجربة تتصف بالتقهقر التدريجي للقيم الإنسانية.‏
                              العلاقات بين الفرد والمجتمع علاقات ديناميكية وليست تعسفية فقط. ربما كانت رسالة الفن الدرامي في بيان أن تلك العلاقات قابلة للتغيير..‏
                              "تأسيس مدرسة" يعني أن يكون هناك تلاميذ ومريدين، ويعني أيضاً إثارة المناقشات والخلافات. لقد صرّح يونسكو بذلك إلى كلود بونفوا:"هذه هي فائدة المدرسة: خلق أسلوب لابد من تدميره في المستقبل".‏
                              (1) حوار مع كلود ساروت. لوموند 19 كانون الثاني 1960.‏
                              (2) محاورات مع كلود بونفوا.‏
                              (3) غالباً ماتكون ساعات الجدار منفلتة في مسرح يونسكو.‏
                              (4) typologie : تصنيفية: علم دراسة الأصناف الذي يسهّل تحليل واقع معقّد ويؤدي إلى التصنيف المنهل9).‏
                              (5) يمكن القول مع ذلك، إن علم النفس الذي يهاجمه نيكولا دو قد مات منذ زمن بعيد. إن تحليلات كافكا وجويس وبروست لا تعتمد على نظريات تين أو بول بورجيه!.‏
                              (6) هل يجب أن نطرح من جديد مسألة العلاقات بين الشخصية وخالقها؟ بعد كثير من الكتّاب المسرحيين -والروائيين- أجاب يونسكو سائله أن شخصياته هي هو وليست هو وأنها تعبّر عن إمكانيات للعقل، لم تكتمل وعن رغبات واحتمالات وأحلام وفرضيات. انظر محاوراته مع كلود بونفوا ص 76- ومابعد. ص277).‏
                              (7) اللوغوس:Logos :عقل أول"كائن يفصل بين الخالق والكون في الأفلاطونية الحديثة المنهل)".‏
                              (8) الكركدن 2- الكركدن 3-اميديه.‏
                              - الكركدن‏
                              (9) الكراسي.‏
                              (10) الكراسي.‏
                              (11) قاتل بلا أجر.‏
                              (12) جاك.‏
                              (13) انظر ناتالي ساروت "عصر الشك".‏
                              (14) المغنية الصلعاء.‏
                              - الكركدن.‏
                              (15) قاتل بلا أجر.‏
                              (16) لاحظ التشابه باللفظ بين كلمة عجل Lioeuf) وكلمة بيضة البيض).‏
                              (17) ملاحظات، وملاحظات مضادة.. المقدمة).‏
                              (18) على عكس ذلك، ففي المسرح الكلاسيكي تنضوي الإرشادات المسرحية ضمن الحوار، فلنتذكّر على سبيل المثال بداية "فيدرا" أو "طرطوف"، عند موليير أو الحوار بين رودريك وشيمين عند كورناي.‏
                              (19) مجلة الفنون 1961.‏
                              (20) تجربة المسرح.‏
                              (21) تجربة المسرح.‏
                              (22) خداعية: illusionisme: توليد أحداث تبدو مناقضة للنواميس الطبيعية. المنهل).‏
                              (23) مقال عن الطليعة.‏
                              (24) يميّز يونسكو جيداً بين "التهريج" الذي يقدّم مشاعر سطحية، وبين الغرابة التي تقدّم صورة لعالم آخر. انظرْ حول هذا الموضوع خلافة مع ج-م سيّرو الذي أخرج مسرحية اميديه.راجع سوبرا ص113).‏
                              (25) قال بروتون: "هذا ما كنّا نريد أن نفعله قبل عشرين عاماً".‏
                              (26) نادجا.‏
                              (27) حاضر ماضٍ ماضي حاضر 30 أيلول 1966.‏
                              (28) كان يونسكو في الخامسة والعشرين عندما سيطرت النازية على رومانيا وكان في الثالثة والثلاثين، عندما انتهت الحرب.‏
                              (29) محاورات مع كلود بونفوا.‏
                              (30) عن كتاب "أزهار تارب" لمؤلفه جان بولان في الديوان الذي ظهر بعد وفاته "الحق في أن نحلم". المطبوعات الجامعية الفرنسية. 1970.‏
                              (31) عن كتاب "أزهار في تارب" لمؤلفه جان بولان في الديوان الذي ظهر بعد وفاته "الحق في أن نحلم". المطبوعات الجامعية الفرنسية 1970.‏
                              (32) هناك طرفة توضح هذه المسألة جيداً وقد رواها يونسكو لكلود بونفوا. في الولايات المتحدة، وافق مخرج مسرحية الكركدن على موضوع المسرحية وقبل فكرة تحوّل شعب بأكمله إلىحيوانات سميكة الجلد، لكن شيئاً ماكان يقلقه: قال لي:"اسمعني. سوف أضيف، بعد إذنك طبعاً، جملة في مسرحيتك وإليك السبب. عند بداية الفصل الثالث يذهب بيرانجيه، وهو بطل المسرحية إلى غرفة صديقه جان [....] ستسمح لي إذن أن أضيف جملة عند نهاية الفصل الثاني، إذ أن هذه البداية غير ممكنة [....] هناك جهاز الهاتف في المكتب الذي يعمل فيه بيرانجيه، فيرفع السمّاعة، يدقّ الرقم ويقول: سأطلب صديقي جان لأرى إن كان في غرفته". بالنسبة للمخرج وللجمهور الأمريكي المسخ مقبول لأنّ له دلالة، إنه رمزي أو قياسي وهذا من بين الأمور المتفق عليها في المسرح الغرائبي الخيالي، وبالمقابل، يبدو من غير المقبول أن يذهب المرء إلى عند صديقه دون أن يهتف له مسبقاً، هذا لا يجوز، وليس مألوفاً، فلا يجوز "عرضه" إذن. وهنا نرى جيداً تكاملية هذين النظامين من الاتفاقات.‏
                              (33) صاحب النزعة الإنسانية:humaniste: معتنق المذهب الإنساني، وهي مذهب يعتني بتنمية مناقب الإنسان وفكره بما يمثله من ثقافة أدبية أو علمية.‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق

                              يعمل...
                              X