إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قصة القبلة الأخيرة - حسنة محمود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصة القبلة الأخيرة - حسنة محمود


    قصة
    القبلة الأخيرة
    حسنة محمود

    قرب الميناء ودّعها. وهمس في أذنها فابتسمت ابتسامة مقتضبة، وقبّلها قبلتين لهما طعم الغربة، والانتظار، إحداهما للسفر، والثانية وديعة لحين العودة.
    وقفت ممزقة القلب، محطّمة الإرادة فقد كانت كمن فقد الرغبة، والقدرة، على اصطناع الضحكة.
    وقفت تتأمل السفينة، وهي تتهادى على صفحة الماء، وكأنها تحمل معها بقايا من امرأة عاشقة. بقايا من صور مهشّمة ،كأنها صدى أنين أصوات قد نسيها
    الزمان .
    شعرت وكأن روحها تهيم في السماءٍ، تحوم فوق البحر، ترقب سير السفينة، وتحرسها، بقيت متجمّدة في مكانها، وابتسامة عطشى جريحة تعلو وجهها.
    ابتسامتها كانت مطلباً من حبيبها، عندما قال لها: ابتسمي أرجوك. دعي ابتسامتك آخر شيء تراه عيناي.
    شيّعته بنظراتها الباردة المحمومة القلقة، وهي تسأل نفسها : هل سيراها ثانية ؟ هل رحلته طويلة ؟ أم أنها مجرد سفرة كباقي السفرات.. ؟لوّح وقال لها عندما ابتعد: انتظريني.. سأعود على أول سفينة.
    شعرت كأن الحرفين الأخيرين غرقا في البحر، عندما ناداها ثانية من بعيد انتظريني.. استمرت تلوّح بيدها إلى أن غابت السفينة عن عينيها، فوجدت نفسها وحيدة في الميناء.
    شعرت كأنها أوصدت الباب، الذي ينفذ منه الدفء إلى روحها المعذبة.
    كان كلما وصل إلى ميناء أرسل لها بطاقة بريدية، حمّلها حبّه وأشواقه مع ملحوظة صغيرة في الأسفل.( اشتريت لك هدية من المدينة التي نزلنا بها، لتكون تذكاراً).
    تراكمت البطاقات عندها حتى خصّصت لها درجاً في خزانتها، وهيأت صندوقاً آخر للهدايا التي سيحملها معه أثناء العودة، ربما أقامت معرضاً للهدايا والبطاقات خلال شهر العسل لتكون ذكرى خالدة، يورثانها لأولادهما.
    كانت تقول في نفسها : ما أسعدني! فهو ذواق، ومحب، ويختار كل هدية لمناسبة.!
    ثم تنهدت، وزفرت، وكأن روحها مثقلةٍ بأزماتٍ، وفواجع تحملها الأيام المقبلة.. هل ستكون بداية النهاية، أم أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة؟كانت تخشى أن يولد من قلب السكون والهدوء شيء يحطم قلبها،وحياتها،ما هو ؟لا تعرف،ولكنها خائفة. ثم تقول: آه ليت وصوله بالسلامة أجمل هدية أتلقاها.!
    حاولت قتل الفراغ بنسج شالٍ له، يزين عنقه بعد العرس.بعد أن احتارت ماذا ستهدي له..؟ يجب أن تُحمّل الهدية معنى خاص بها.. أنفاسها عطرها.. شوقها. انتظارها.. تحاور نفسها.. صحيح يجوب البلدان، والجزر، والبحار، ويزور العوالم المختلفة، ويرى أشياء، ربما لا تكون موجودة عندنا.. لكن من الأجمل والأفضل أن تكون الهدية من صنع يدي.. تحمل شوق الغربة، وألم الأرق في الليالي الطويلة.
    كم تمنّت لو أنها تعلمت السّحر على يدي ميدية، لتستطيع أن تمتطي المكنسة
    أو أي شيء آخر وتلحق به، أنىَّ يكون “كما يفعل السحرة في برامج الأطفال” كي تكون إلى جانبه وقت الشّدة، وتحميه من الأخطار.!

    حلمت بقصص الحب الغريبة،التي سيرويها لها،والتي سمعها في الغربة،وربما التقىأبطالها.
    كانت تزور الميناء كل أسبوع، تسأل المسؤول عن عودة السفينة، فيجيبها: ( طولي بالك، وعيني خيراً يا بنت الحلال، إن شاء الله يصل خطيبك بالسلامة، ونحن طبعاً مدعوون للفرح أليس كذلك..) ؟ محاولاً أن يخفف عنها. فيفتر ثغرها عن ابتسامة تحمل ألف معنى، ومعنى قائلةً: يا رب..
    في الموعد المحدد لوصول السفينة.. نهضت باكراً، وارتدت ثوباً موشى بألوان الحب، مصنوع من خيوط الذكريات، تزّينه جملة، تربعت في أعلى الصدر، جانب القلب كتبت بلغة أخرى، ودمعة سحرية، “أحبك دائماً”.كان قد أهداه لها في عيد ميلادها الواحد والعشرين.
    استقبلت الفجر في الميناء وخشيت أن تسبقها الشمس لاستقباله، شدّها هدوء البحر وأخافها هذا السكون المريع، الذي ينذر بعاصفة مدمّرة.
    تأمّلت صفحة الماء المترامية الأطراف، وكأنها لوح من الفضة، يستريح عليه شعاع الشمس. عيناها ترنوان إلى البعيد، لعلهما تبصران سارية، أو طيراً يحلّق، فيوحي بقدوم السفينة.
    ومرّت الساعات طويلة حملت في طياتها نصف عمرها، وتركت النصف الآخر تتناهشه الأفكار، والهواجس، وشعرت أن قلبها يريد أن يفرّ من صدرها، خاصة عندما يهاجم أعماق ذاتها ذلك الحلم الرهيب. الذي رأته منذ أسبوع، ونهضت مرعوبةً تصرخ بصمت وتبكي حشرجه.. فاستعاذت بالله من الوسواس الخنّاس، وقلبت المخدة لعل شرور الحلم تزول “كما علمتها جدتها من قبل”.
    حاولت أن تقنع نفسها بأن الحلم من بنات افكارها الضبابية، المضطربة، جاء نتيجة خوفها وانتظارها القلق.. ثم تراجع نفسها قائلة لا.. لا … لقد رأيت النار تشتعل بطرف الشال، وتعود للبكاء بصمت ثانية.
    ومن البعيد البعيد، من آخر نقطة يستطيع بصرها التقاطها، لاحت سارية سفينة، فاستبشرت خيراً، وزاد قلقها واضطرابها. وبقدر ما كانت لهفتها تكبر للقائه، كان خوفها وحزنها يكبران مع اقتراب السفينة.
    وحينما ظهرت السفينة، كانت لا تشبه التي سافر على متنها كانت متعبة، صوتها مخنوق، ألوانها باهتة، ركابها أشباه موتى، تغطي وجوههم مسحة حزن، وقلق وكأنهم تعرضوا لقرصان بربري في عرض البحر .
    لم ترَ يداً تلوّح لها من بعيد، ولا ابتسامة مشرقة تشع على ظهر السفينة، وقفت مشدوهة، وبدأت حرارةُ جسدها تنخفض تدريجياً، حتى شعرت وكأنها تتجمد، ولكن لا يهم قالت في نفسها: ستدفئها حرارة الحب

    والشوق .
    نزل جميع الركاب، وهي لا تزال تنتظر أن يفاجئها بخروجه من هنا أو هناك.. وربما من قمرة القبطان.. أو من وراء زميل له.. أو حتى من داخل الماء.
    عيناها مسمرتان على البحر، والسفينة، تمنت لو تستطيع أن تبحث في مياه البحر عنه لكنها لا تستطيع

    الحراك .
    تقدم منها شاب أثقله الحزن، والهم، وجهه شاحب، خطفت المصيبة لونه، وكأنه لم يرَ الشمس من سنين، قفصه الصدري بارز، وأضلاعهُ تعد كما يقالُ من ضعفه ونحافته. (حتى أن الخالق ربما لا يستطيع أن يخلق له زوجة من أي من أضلاعه هذه.)!
    تقدم منها بنظرات منكسرة، وكأن نبضات قلبه المتسارعة تصطدم بالقفص تريد الخروج من صدره بعيداً.
    لا تزال متجمدة في مكانها، تقدم منها وحيّاها، لكنها لم تنتبه إليه، كانت لا تزال تحدّق في عينيه، في شكله، فيما ورائه، ربما اشتمت منه رائحة حزن أبدية، أو رحلة عذاب لا تنتهي.. كرر ثانية وثالثة السلام عليكم يا أختي..!ويده لا تزال ممدودة نحوها، ألست هناء؟
    من ؟.. أنا ؟ ردت عليه دون أن يرتد بصرها عن البحر. سأل مرة أخرى : نعم أنت، ألست هناء. ؟
    أجابت : نعم كنت هناء.. فاستغرب من ردها، وسأل: والآن ألست هناء.. ؟ قالت وهي على نفس الحال : كيف تراني ؟ هل أنا هناء ؟ وكيف لي أن أعرف إن كنت هناء ؟ أم إنك تقصد هناء أخرى ؟.
    قال : نعم أنت.. هناء خطيبة عزام.
    رنّت كلمة عزام في أذنها وكأنّ تياراً كهربائياً صعقها، التفتت إليه، فرأت صرة بل شالاً.. بل بقايا هدايا من عزام يتأبطها خشية فقدانها.
    فصرخت بأعلى صوتها المخنوق عز ا ا ا ا م فرددت موجات البحر صدى صوتها حيث حملت الموجات ما قدرت عليه من الاسم وسافرت به بعيدا،ً ثم سقطت هناء مغمياً عليها، ولم تفق إلا في المشفى، وصديق عزام يسهر على راحتها، يحكي لها عن حب عزام لها ووفائه، وإخلاصه، وكيف كان يرسل لها القبلات، والسلامات، مع كل طير وغيمه تعبر فوق البحر، أو مع كل نسمة تهب مساءً، أو عند الفجر.
    رجته أن يحكي لها كيف.. ؟ وأين ومتى. مات عزام؟ فهي لا تزال تعتقد أنه في مكان ما في عرض البحر.. فسايرها وأخبرها بأن السفينة التي أطلق عليها عزام (سفينة الحب)، لأنه كان يتمنى أن تقضيا شهر العسل فيها، تجوبان البحار، والعالم، غرقت في طريق العودة، بعد أن غادرت الميناء ما قبل الأخير، حيث اصطدمت بشيء لم يعرف بعد ما هو، وكان ضحيتها عدد كبير من ركاب السفينة، وأخبرها أن عزام كان قد جمع لها عدد من التحف والهدايا، ولفها بشال حريري، وكتب إلى العيون التي اخترقت الآفاق تبحث في المجهول، والروح التي زادها الانتظار نقاءً، وشفافية، إلى الإنسانة التي خلقت من شعاع الشمس، وفجرها، فكانت الدنيا بكل ما فيها.
    فكانت تستمع إليه وهي تحتضن الشال المحروق من أحد أطرافه، تأمل في عودة عزام.


    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
    قصة القبلة الأخيرة - حسنة محمود
يعمل...
X