وطن - رؤيا - وداع - للشاعر أدونيس
وطن
للوجوه التي تتيبس تحت قناع الكآبه
أنحني، لدروب نسيت عليها دموعي
لأب مات أخضراً كالسحابه
وعلى وجهه شراع
أنحني ، ولطفل يباع
كي يصلي وكي يمسح الأحذيه
(كلنا في بلادي نصلي كلنا نمسح الأحذيه)
ولصخر يتدحرج تحت جفوني وبرق
ولبيت نقلت معي في ضياعي ترابه
أنحني - هذه كلها وطني، لا دمشقُ.
رؤيا
هربت مدينتنا
فركضت أستجلي مسالكها
ونظرت - لم ألمح سوى الأفق
ورأيت أن الهاربين غداً
و العائدين غداً
جسد أمزقه على ورقي.
ورأيت - كان الغيم حنجرة
و الماء جدراناً من اللهب
ورأيت خيطاً أصفراً دبقاً
خيطاً من التاريخ يعلق بي
تجتر أيامي وتعقدها
وتكرّها فيه - يد ورثت
جنس الدمى وسلالة الخرق.
ودخلت في طقس الخليقة في
رحم المياه وعذرة الشجر
فرأيت أشجاراً تراودني
ورأيت بين غصونها غرفاً
و أسرّة وكوى تعاندني،
ورأيت أطفالاً قرأت لهم
رملي ، قرأت لهم
سور الغمام وآية الحجر
ورأيت كيف يسافرون معي
ورأيت كيف تضيء خلفهم
برك الدموع وجثة المطر.
هربت مدينتنا
ماذا أنا، ماذا؟ أسنبلة
تبكي لقبرة
ماتت وراء الثلج و البرد
ماتت ولم تكشف رسائلها
عني ولم تكتب إلى أحد
و سألتها ورأيت جثتها
مطروحة في آخر الزمن
وصرخت - " يا صمت الجليد أنا
وطن لغربتها
و أنا الغريب وقبرها وطني. "
هربت مدينتنا
فرأيت كيف تحولت قدمي
نهراً يطوف دماً
ومراكباً تنأى وتتسع
ورأيت أن شواطئي غرقٌ
يغوي و موجي الريح و البجعُ.
هربت مدينتنا
و الرفض لؤلؤة مكسرة
ترسو بقاياها على سفني
و الرفض حطاب يعيش على
وجهي - يلملمني ويشعلني
و الرفض أبعاد تشتتني
فأرى دمي وأرى وراء دمي
موتي يحاورني ويتبعني.
هربت مدينتنا
فرأيت كيف يضيئني كفني
ورأيت - ليت الموت يمهلني.
وداع
قلنا لك الوداع من سنين
قلنا لك المرثية التائبه،
يا هالة الملائك الميتين
يا لغة الجرادة الهاربه.
الكلمات أحتقنت بالوحول
الكلمات ازينّت بالمخاض-
عادت لنا أرحامنا الغائبه
وها هي الأمطار و السيول
يا لغة الأنقاض
يا هالة الملائك الميتين.