إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أمل - قصة - حسنة محمود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أمل - قصة - حسنة محمود


    أمــــــل

    قصة
    حسنة محمود


    نظرتْ عبر الأفق، وهي تخرج من صدرها زفرةً طويلةً ،حيث شعرت كأنه قفص لعصفور صغير خرج لتّوه من العش. لكّنها امتلكت من القوة ما كان بمقدورها أن ترد أمواج البحر. وقالت بكلمات مجروحة خدشها الزمن بعنف :
    (إيــه المنحوس منحوس، والمحظوظ نياله)، كل الدنيا في خدمته. سألتها باستغراب : لماذا هذه النظرة اليائسة، والمتشائمة.. ؟ لا تزال الدنيا بألف خير يا شيخة..! (أضحك تضحك لك الدنيا). ضحكت بكآبة وقالت : أسمعي يا بنتي : سأروي لك هذه القصة المضحكة المبكية، والتي ما هي إلا نموذج مهذب للتعساء في الدنيا.
    فأصختُ السمع إليها كيلاً تفوتني كلمة مما تقول. وعيناي معلقتان على ملامح وجهها، ترسم الأحداث وتصورها أبرع من أي فنان كان.
    قالت : في بيئة فقيرة لأسرة عضها الفقر والجوع لسنين وسنين، ومن نزيف الجوع والقهر، وفي غفلة من البؤس والحرمان ولد سعيد.
    أبوه عامل فقير، يكد ليل نهار ليؤمن لقمة العيش الكريمة،على الرغم من صغر العائلة المؤلفة من الأب المناضل، والمرأة الصابرة المكافحة، والقنوعة بما قُسم لها، والصغير الذي أبصر النور خلسة، وبغفلة من البؤس وقسوة الأيام.
    فرحا به كثيراً وتفاءلا أكثر حين أسمياه سعيداً، أملاً أن يكون كذلك في حياته، وتتحسن أوضاعهم على وجهه. ولكن ماذا كان ينتظره؟ ما الذي خبأه الزمن؟ ولم تفصح عنه البصارة أو قارئة الكف.. لهذا الطفل الذي لم يعرف الحياة بعد. كان كعصفور لم ينبت له الريش بعد، لم يتعلم كيف يطير، أو يستعد للطيران، كانت أمه مصدر قوته وشجاعته. فقد توفي الأب بعد صراع مرير مع المرض، والجوع، والتعب، فقد صارع الحياة والقدر قبل أن يصرعه الموت، وسعيد لم يبلغ عامه الخامس، فتمسكت به الأم بعناد محاولة أن تجعل منه يومها المشرق، وغدها المنير، بعد ليل طويل، وشّح أجمل أيام عمرها السواد. فكان انتظارها دائماً يحمل بذور التفاؤل، فتردد دائماً، لا بد أن تفرج ذات يوم.
    كبر سعيد كغيره من أولاد البؤس والشقاء، وكبرت أحلامه. حاول دائماً أن يرسم أحلامه أكبر من شقائه وألوانها أجمل من ليالي العذاب، وانتظار المجهول. فقد حلم بمعجزة تغير حياته، وتعيد إليه ما فقده.
    لم يكمل دراسته بسبب ظروفه العائلية، يجب أن يكد لمساعدة أمه التي ظهرت عليها بصمات الزمان فكانت كمن دفن إخناتون وعادت لتوها.
    كان سعيد دائم التفكير، والشرود، وخاصة عندما تمر فتيات الحي الجميلات من أمام بيته، فيلقين التحية عليه، وعلى أمه، فيشعر دائماً بأن صدره ضاق، لم يعد يتسع لهذا القلب الكبير الذي يفيض بالحب والأمنيات.تدغدغ الكلمات مشاعره،تفجر في صدره أحلاماً وأشياء ،لا يقوى على تفسيرها،عندما تقول إحدى الفتيات بفرحة سعيد، كلمات أمه ترن في أذنه : أنت وسيم وجميل يا سعيد. عيناك كجنح الليل، وقامتك كشجرة الحور التي تنتصب شامخة عند طرف البستان، وفمك كإشراقة الفجر المنتظر فيبتسم ويقول : وهل تّدفع الوسامة مهراً للعروس؟!.هل يجب أن تفصّل الأحلام على مقاس الإمكانات؟
    أم أنه سيجد يوماً ما فتاة عاقلة، تميل إلى القول الشعبي (“شب السوق ولا مال الصندوق”). وهذا ما أعطاه أملاً بأن السعد آتٍ والفرج قريب.
    ذات يوم وبينما كان يستلقي تحت الشجرة الكبيرة، الوارفة الظلال التي بدت كشيخ عجوز يحمي البيت بمن فيه، مسترسلاً في أحلامه، يتأمل زوجين من العصافير يعملان بنشاط لبناء عشهما، ويملأان المكان زقزقة تطرب النفوس، وكأنها لحن موسيقي، عزفته أنامل سحرية. كان كل من الرفيقين يساعد الآخر، في وضع اللمسات الأخيرة للعش، لاستقبال الوافدين الجدد
    إلى الحياة .

    تخّيل نفسه مع حبيبته يبنيان عش الزوجية معا،ً يداً بيد، كانا يرتبانه بحسب ألوان أحلامهما،ينظر في عينيها يداعب خصلات شعرها، وهما يضحكان ويمرحان.
    فجأة جفل وهب واقفاً على صوت طلقة صياد، فأيقظته من حلمه الوردي، ارتعدت فرائصه، خشية أن تكون قد أُصيبت زوجته. تلفّت يمنة، ويسرة، فوجد نفسه وحيداً تحت الشجرة، فتنفّس الصعداء قائلاً : الحمد لله أنني لم أتزوج بعد وإلا كنت الآن أرملاً أنعي
    حبيبة العمر.
    وبعد كل حدث كانت العجوز ترشف من الكأس قطرات تبلل شفتيها لتتمكن من المتابعة.
    وكلما توقفت لسبب ما عن الكلام، سارعت إلى تقبيلها ورجوتها : أحكي، ربنا يطول عمرك. فتذعن لرجائي، وتتابع فتقول: اسمعي هذه النهفة أيضاً.
    جلس ذات يوم على شاطئ البحر يتأمل أعماقه، والسمكات الصغيرة تغدو وتروح بحرّية وسعادة، فتخّيل نفسه صيّاداً. صادق البحر، وخبر خباياه، وصار من ألمع الصيادين على الشاطئ. ظهرت له عروس البحر، فسطع جمالها على الكون وكأن الشمس أشرقت من عرض البحر، فوقفت تلوّح له عن بعد، وتبتسم له بغنج ودلال، وكأنها بهذه الحركات الرشيقة، وغمزاتها التي تخلخل عقول العاشقين، تدعوه للحاق بها، ومرافقتها، سلبت لبّه ونزل الماء مبتسماً ومدّ يديه يعانقها بشوقٍ شاكياً لها طول انتظاره . ورآها تفتح ذراعيها مبتسمة حيث ظهر نهداها، كرمانتين نضجتا لتوّهما، وعيناها بلون البحر وشعرها كخيوط الشمس، وقامتها كغصن بان وشجرة باسقة عجز الزمان عن قهرها.
    ومشى مبتعداً في الماء، دون أن يعرف ماذا يفعل حتى أصبح الموج يتقاذفه ،وهو منهك القوى، فسارع بعض الصيادين إلى انتشاله، وكم كان شديد الخجل والأسف لأنه يحلم في وضح النهار.
    قرر أن يترك الأحلام، أن يبحث عن سعادة حقيقية ويعيش الواقع بكل ما فيه، تذكرأنّه أحبّ فتاة جميلة بسيطة ذات يوم، فقال في نفسه: ( ما الحب إلا للحبيب الأول) وأردف بأنها مهذبة، منبتها كريم تقدّر ظروفي، وتقاسمني الحياة بحلوها ومرّها، ويجب أن أسرع في طلب يدها، قبل أن يسبقني أحد إليها، فهي كانت محط إعجاب الجميع، أثناء عرس صديقتها.
    تعبت الجدة من كثرة الكلام، وحاولت الاعتذار.
    رجوتها بشغف أن تكمل، وأنا سأحضر لها القهوة ،لتنشط ذاكرتها، وتستعيد همتها. فكنت وأنا استمع إليها كأنني أقرأ ألف ليلة وليلة، ولو لا شغفي بحديثها ويقظتي لكل كلمة تقولها لكنت مثل سعيد أعيش أحلام اليقظة، وتخيّلت نفسي مع شهرذاد، ثم تابعت الجدة: أخذ سعيد يرتب ظروفه وبيته بأثاثه المتواضع البسيط، ويستشير أصدقاءه، طالباً إسداء الرأي والنصحية. ربما خبروا الحياة أكثر منه.
    وعندما حانت ساعة الصفر عنده وجاء ذلك اليوم التاريخي والحاسم في حياته، حلق ذقنه بإتقان، وحذر خشية أن يجرح نفسه، قبل أن تجرحه الحياة ثانية، وارتدى أجمل ما عنده وحاول أن تتناسب ألوانها والمناسبة السعيدة ،ولمّع شعره ، وفرقه على اليسار، مع أنه سار على أقصى اليمين، بخطى ثقيلة جداً، وبخبخ نفسه بعطرٍ كان قد خبأه منذ أن عشق بنت الجيران ذات السنوات العشر، حيث كانت صدمته بها كبيرة عندما حيته ذات يومٍ قائلة: صباح الخير يا عمو!
    وقف أمام المرآة يدرب نفسه على مخاطبة والد العروس وهو يطلب يدها.
    وقف بأدب، واحترام، ورسم تعابير جدّية مهذبة على محياه، وانحنى قليلاً إلى الأمام قائلاً : أنا يا عمي بكلّ فخرٍ واعتزاز أطلب … أطلب … أطلب.. وبدأ العرق يتصبب من جبينه ثم احمرّت وجنتاه، واختفى صوته لبعض الوقت، فشعر وكأن والد العروس يحثه على متابعة حديثه – أكمل يا بني.. لكنه بقي صامتاً.. ثم كرر الوالد : أكمل يا بني أنا أسمعك.. فاستجمع قواه وغّير من وضعيّة جلسته، وقال في نفسه : أجل سأكمل ومن سيمنعني من ذلك. ثم رفع رأسه ليكمل حديثه قائلاً: أنا يا عمي : فوجد نفسه يخاطب المرآة، فتنفس الصعداء وقال الحمد الله إن خيبتي كانت أمام نفسي فقط.
    وّدع أمه وطلب منها الدعاء له بالتيسير، وتفاءل حينما أصطحب معه صديقه منصور المتفلسف دائماً.
    وصلا القرية المجاورة، وعندما اقتربا من بيت العروس، دق قلبه بقوة وخجل قبل أن يدق الباب، ثم تشجع ودق الباب، وهو يتصنع الحزم والثبات.
    خرج الأب واستقبلهم بالترحاب، وأجلسهم في غرفة الضيوف، وتوارى عن الأنظار للحظة. توارد أهل البيت للسلام عليهم والاحتفاء بهم، إلا أمل التي كان أمله كبيراً في لقائها والفوز بيدها. وتجاذب الوالد أطراف الحديث معهما. حيث بدأ بالسؤال عن الطقس في قريتهم وعن الأهل وأعمالهم والمواسم.. وكان سعيد يجيب بابتسامة الحمد لله على كل شيء.. المهم الصحة والعافية.
    قّدمت لهما الضيافة، بدأ القلق يراود سعيداً في حين كان نظره يبحث في كل مكان عن أمل ويراقب كل الخيالات التي تجيء وتروح دون أن يعثر لها على أثر فقال في نفسه : ربما هي خجله من لقائه للمرة الأولى يمكن أن تطل فجأة من غرفة لم يلمح بابها بعد. تشجع سعيد واستأذن أبا إبراهيم بالسؤال عن الآنسة أمل عساها بخير وأوضاعها على ما يرام.
    شكره الأب على سؤاله وقال : إنها بخير والحمد لله وسعيدة في حياتها.. سرّ سعيد وتفاءل أكثر، وتذكّر كيف درّب نفسه أمام المرآة على هذه اللحظة الحاسمة، فركز جلسته ورفع رأسه، تنحنح، ونظر إلى منصور، ثم توجّه بالحديث إلى أبي إبراهيم وقال :أنا أقصدك يا عمّي في خدمة، ولي الشرف الكبير أن أطلبها منك مباشرة. رد أبو إبراهيم : بكل سرور يا بني أنت طيّب وابن حلال وطلبك مستجاب إن شاء الله. فأنت ابن الغالي. فقال بحياء : أطلب يد المحروسة.
    ألتفت أبو إبراهيم يستعرض الموجودين وتساءل بصمت : أية محروسة يريد ؟ وطال صمت الأب والحيرة بادية في عينيه، فكرر سعيد لم ترد علي يا عمّي..! ألم تسمعني ..؟!
    ابتسم أبو إبراهيم بإشفاق على بساطته وغفلته قائلاً : أيّة محروسة يا بني؟. رد سعيد : أمل.. إنها مهذبة وكريمة الحسب والنسب.. وأطلب من الله أن يقّدرني على إسعادها. ردّ الأب والحزن يكبر في عينيه على هذا الشاب البعيد عن الحياة. شكراً لك يا بني على إطرائك.. ولكنها تزوّجت منذ عام في قريتكم وستصبح أمّاً قريباً.
    خجل سعيد واستأذن في الرحيل مع صديقه متجاهلاً نظرات الإشفاق من الجميع. أما رفيقه فقد أصيب بصدمة، أفقدته النطق ودفعته إلى دوامة الأفكار المحيرة. إلى أن قطع سعيد صمته قائلاً: يجب أن يموت سعيد ويختفي من الدنيا، ويكتب على قبره “المنحوس، المنحوس إلى يوم تحاسب النفوس”. عندها نظرت إلى الجدة والدموع تترقرق في عينيّ. أما هي فلاذت بصمت حزين.
    = - = - =
    أمل - قصة - حسنة محمود
يعمل...
X