إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

في رحاب الفكر والأدب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في رحاب الفكر والأدب


    في رحاب الفكر والأدب

    - الدكتور: علي المصري -

    دراسة - منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998
    إضاءة
    الفصل الأول البحوث والدراسات الفكرية والنقدية
    الأدب أو الفنّ:‏
    الفصل الثاني البحوث والدراسات القصصية
    دراسةٌ تحليلةٌ للمجموعة القصصية "الاغتيال":
    رائدة أدب الأطفال في محافظة درعا.
    الفصل الثالث البحوث والدراسات الشعرية
    نظرة فاحصة في ديوان عِطر اللوز
    دراسة تقويمية لديواني منصور الزعبي
    ملك الغابات
    الشاعر سليم عياش
    المراجع والمصادر

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: في رحاب الفكر والأدب

    إضاءة
    عزيزي القارئ‏
    أضع بين يديك مجموعة دراسات ومحاضرات، تقاسمتها منابرُ اتحاد الكتاب العرب بدمشق ضمن خطة جمعية البحوث والدراسات في سنوات خلت. ومنبرُ فرع اتحاد الكتاب العرب بدرعا، وصالات المراكز الثقافية بدرعا وإزرع والصنمين. وبعض الأمسيات الأدبية الخاصة.‏
    تناولت فيها بالدراسة نتاج طاقةٍ من الأصدقاء والصديقات من أعضاء اتحاد الكتاب العرب في جمعيات: القصة والرواية، وأدب الأطفال، والشعر، والبحوث والدراسات، وغيرهم.‏
    أصرّ بعضُ الأصدقاء الذين لم يتضمنهم الجزء الأول من كتابي "في رحاب الفكر والأدب" ودراسة نتاجاتهم، وكنتُ قد كتبتُ فيها، على أن أضمن الجزء الثاني تلك الدراسات.‏
    ونزولاً عند رغبة هؤلاء وأولئك التي لاقت قبولاً لديّ. جمعْتُ، ونسّقتُ وقدمتُ دون ان أغيّر فيها أو أبدل...‏
    وها أنا ذا أنثرها أمامك ثمرة جهد نهارات طوال وسهر ليالِ أطول، راجياً أن تنال إعجابكَ... فإنْ أعجبتك فهذه بُغيتي، وإلاّ فلتعذرني، ويعذرّني الأصدقاء والصديقات.‏
    اجتهدت وقدمت ما أستطيع، فلا لوم، ولا تثريب.‏
    فهذا جهد المقل‏
    علي المصري‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: في رحاب الفكر والأدب

      الفصل الأول البحوث والدراسات الفكرية والنقدية
      نحو إنشاء علم عربي للسياسة‏
      وإني على شديد إيماني العميق بحريّة الإنسان، التي هي أثمن من كلّ شيء، في هذا الوجود، يفقد إذا فقدها شرف انتمائه إلى فصيلة الإنسان، ويستحيلُ إلى شيء أشعرُ إلى درجة التمزق بالظلم الذي يسلب الإنسان. في نصف العالم رأيَه، ويسلبه في النصف الآخر رغيفه.‏
      أمّا في العالم الثالث، فلا رأياً، ولا رغيفاً البتّة، لأنه أُريد لنا أن نُصلبَ، وأن نتعذّب، وأنْ نُعرضَ في سوق النخاسة ونُباعَ لمن يدفعُ أكثر، وأن نُمْتَهنَ أكثر فأكثر حين نَقبلُ عرّاب "كامب ديفد" رئيساً للجنة الدفاع عن القدس...‏
      ورغم أنّنا ثُرنا، وناضلنا، ورفضْنا، ولكنّهم وللأسف من داخل الثورة تسلّلوا إلينا- ومن خلال حلبات النّضال دخلوا علينا، فهجّنونا، ودجّنونا، وفرضوا علينا بأسلوب الزّار، والتكايا، والزوايا حيناً، وبمنطق المزهر والطبل والربابة والدفّ أحياناً أخرى؛ إيماناً غبياً بطريقتهم الخاصة، وبمنطقهم الغريب.‏
      إلاّ أننا رفضنا وبإصرارٍ مرة أخرى، ذلك الإيمان الغبي بالطريق الواحد بمنتهى البساطة والعفوية... وكان عليهم أن يقبلوا رفضنا دون تشنج، وعقدِ الفوقيّة أو التحتيّة، وبمنتهى البساطة والعفويّة أيضاً... لأنّه عندما تتعدّد الطرق يكون اختيارُ الأفضل سهلاً، وفرصة سانحة أمام الإنسان ليمارس إنسانيّته وحقه في حريّة اختيار مصيره، لأنّ الحريّة اختيار، ومسؤولية... ومن هنا يتولد عذابنا، وكأنّه قدرٌ علينا أن نسامَ العذاب.‏
      لأنّهم؛ بعنادِ الكفر في أحسن الأحوال، وبحكم الارتباط والعمالة في أردأ الظروف فوّتوا علينا وعلى أنفسهم فرصة الاختيار، فرصة الحرية، فرصة المشاركة في تحمل المسؤولية وحاولوا أنْ يرغمونا على الدخول من البوابة الخلفية "لكامب ديفيد" وخنقوا الناس تحت سقف من الاضطهاد والقمع والتهريج والتجويع، فرفضنا. وانطلت على بعضنا لعبةُ جعجعة طواحين الإعلام الدونكيشوتية، ومحطات الأقنية الفضائية التي ما طحنت قطّ إلاّ الهواء والهُراء... فأجهض الفكرُ، واصطيد الأحرارُ والشرفاءُ كما تُصطاد العصافير، ولو حقوا، وما زالوا يلاحقون ويصطادون كما تُصطاد الجرذان في كلّ مكان، وتلصقُ بهم شتى التهم؛ إرهابيون، يرعون الإرهاب، أعداءُ السلام... فحيثما شاهدت مفكراً حراً يطارد، أو جماعة رفضت أن تستسلم، تستطيع أن تلمس خيوط المؤامرة.. المؤامرة التي تسعى لاجتثاث قيم الخير في مجتمعنا... هذا هو دليلكم الساطع على منطقة تنفيذ المؤامرة التي تُدبَّر ضدَّ أمتنا الضائعة في بحر المتناقضات. والمؤامرات التي تُحاك ضدّ شعبنا المكافح، بملاحقة أحراره، ومطاردة مفكّريه، فحيثما شاهدتم أو سمعتُم بأنّ مفكراً يضطهد وحراً يلاحق، ومجتمعاً يُتّهم بالإرهاب أومساندة الإرهاب، بطريقة أو بأخرى، بأسلوب أو بآخر؛ فاعرفوا أنّ المؤامرة تنفّذ كما رسمتْها الدوائر المعادية لأمتنا ودفاعها المشروع عن حقِّها في الحياة.‏
      وبسبب ذلك. بسبب سلخ المفكرين والأحرار عن الشعب، وكمّ أفواهِهم تدهورتْ الأمورُ، واندفعت إلى التسيّب والتحلّل والتجرّد من كلّ قيم الفكر الخيّرة، كيف لا‍ وقد غُرِّب روادها... فتدحرجت حالنا إلى مستنقعات الأوحال والظلام، فشاهت الوجوه، وفقدت الأشياء أشكالها، وفرّت الأصبغة عن ألوانها، والمفردات عن معانيها، وتعهّر كلّ شيء، وخاب كلّ رجاء، وطفتْ على سطح المجتمع طبقةٌ من الدهماء والانتهازيّة، دفعت عجلة التقهقر بغباء، فضاعوا، وكدْنا أنْ نضيعَ معهم، لولا بقيّةٌ قليلة من إيمان لا يتزعزع، واختلاجة حية من فكر يتوقد ضياءاً يُنير الدرب الطويل المقفر من الرواد -لعل الله يهدي المالكين لزمام القرار في أمتنا إلى التبصّر والحكمة. فيبعدون الدهماء والأمّيين وأنصاف المتعلّمين والقرّادين عن معاهد العلم. ومنابر الثقافة، ليظلّ هناك أملٌ في خلق جيلٍ مثقّفٍ يؤمن بشيء اسمه الوطن. قادر على استيعاب مبادئ الحرية وتطبيقاتها، وتحمل مسؤولياتها -لذهب كلّ شيء وضاع كل رجاء. فبغير الحرية الحقيقية لا أمل يرجى، ولا خير يُنتظر في هذه الأمّة. لا أمل بغير تلاقح الأفكار، واخضاعِها لمصلحة الجميع، لالفئةٍ تستأثر بالسلطة دون غيرها... بالديمقراطية وحدها، وبالحرية نفسها تحيا الشعوب وتنهض الأمم، وتتحادى هادرة على دروب الحياة، تملؤها فرحاً، وتزرعها ابتسامات تزينُ وجوه الملايين...‏
      علينا أنْ ننظر بالعين الساهرة والبصيرة الثاقبة إلى رياح التغيير الذي يعصفُ بالعالم من حولنا، إذ ليس من قدرنا أن نتخلف عن بقية الشعوب أكثر من ذلك. افتحوا عقولكم أيّها المتخلّفون، وشرعوا أبوابها للحقّ والخير والمحبة والحريّة، يا أمةً تقادُ إلى المذبح كالقطعان، وإلى دهاليز سياسات التنازل والتفاوض مع الأعداء. وارفضوا الاستماع إلى دعوات محترفي الجلوس إلى موائد المفاوضات... انضمّوا إلينا، إلى صفنّا، فما زلنا صامدين، تعالوا إلينا قبل فوات الأوان.‏
      نحو إنشاء علمٍ عربي للسياسة‏
      إنّ أوّل ألفباء العلوم السياسية في العالم هو الحوارُ الديمقراطي... وبغير هذا الحوار تتلاشى معلوماتية العلوم السياسية في ضباب الممارسة المغلوطة، إذْ يقول الدكتور جورج جبور في مقدمة كتابه الذي نحن بصدد إلقاء بعض الضوء عليه "نحو علمٍ عربي للسياسة":‏
      "إنّ فقدان الحوار الديمقراطي ظاهرة خطيرة جداً في حياتنا بشكل عام، ومنها حياتنا الفكرية، وبهذا المعنى أدعو، بل أرجو كلّ من بدت صورته من خلال الكتاب مخالفة لتصوره عن نفسه، إلى تقديم وجهة نظره وبالنحو الذي يراه مناسباً، على أن يكون عَلَنياً، فليس بغير الحوار وما يتضمنه من أخذ وردّ، تُجلى الحقيقة التي هي ضالةُ المفكر الجاد" وسبيل الأمّة أو المجتمع إلى التوازن والتقدّم والإرتقاء والتحضّر.‏
      وهل يملكُ المفكّر منّا غير الدعوة والرجاء؟‍‏
      وسط هذا الجوّ العربي العابق بروائح الجالدين والمجلودين، أو المفروض عليهم الرشد والغواية، وفقاً لرشد السلاطين وغوايتهم يقول الدكتور جبّور في كتابه: "صعبٌ استقرار تقاليد لعلوم سياسيّة عربيّة، تنبثق عنها رسالة، ويحمل عبء الرسالة مبدعون، في جو اجتماعي سديمي، لم تتضَّحْ بعد إجابته على أوّل ما يسأل الكائن الحيّ نفسه عنه إذْ ينضج؛ من أنا؟ من أنا في عمقي، في إنْيَتي، وفي مواجهة الغير؟"‏
      على الرغم من هذه السديميّة الكثيفة على امتداد الساحة الفكريّة في هذا الوطن الكبير الممزق، لا بد للمفكّر العربي من أنْ يقامر برأسه في سبيل كلمة صدقٍ يقولها خدمة لأمته في مواجهة "مسرورٍ" وسيفه المسلول. لا بدّ له من أنْ يتجاهل كلّ المعوقات، والمثبِّطات كلّها، وخبزات الأولاد غير المؤدمة كلّها، وأن يكون رائداً فدائياً يحملُ صليبه على كتفيه، وكفنه تحت عطفيه. وما الدراسة هذه التي نضعها ثمرةً دانية بين أيديكم، ورهن أسماعكم هذه الأمسية إلاّ نتاج فكري بمستوى التحدي الذي نُواجهه، وبمستوى المسؤولية التي ندّعي حملها في مواجهة الجماهير، يقول الدكتور جبور: "الدراسة التالية تحاول فتح طريق إلى علم عربي للسياسة، فيها صلفُ الفتح، بل وغروره، وفيها وعورةُ الطريق، إلاّ أنّه فيها اتّضاحُ الهدف واتّساقهُ مع أهداف الأمّة العربية.‏
      "إنّنا إذا كنا نتصدّى اليوم لتكوين وإنشاء علم عربي للسياسة -فليس ذلك سهلاً رغم أنّ هذا العلم يبتدئ مع بداية الإنسان لمعالجته شؤونه العامة على كوكبنا هذا -وليس صعباً أيضاً -لأنه ما من حكيم أو عالم تصدى لهذا الأمر إلاّ وترك لنا تعريفاً صالحاً."‏
      فقد قدّم المؤلف للفكر السياسي العربي تعريفاً على أنّه "التعبير الأعم لتلك الفعالية الذهنية التي يقوم بها الإنسان لدى تصديه لمعالجة المسائل الكبرى الناجمة عن التنظيم الهرمي للإجتماع البشري".‏
      ولو قارنا هذا التعريف الذي قدَّمه مفكرنا الدكتور جبّور مع التعاريف الأخرى لينسجم مع تعبير علم السياسة أو العلم السياسي، لما احتجنا لغير كلمة واحدة فقط هي المنظمة) فيصبح التعريف على الشكل التالي: "هو التعبير الأعم لتلك الفعالية الذهنية المنظمة) التي يقوم بها الإنسان لدى تصديه لمعالجة المسائل الكبرى الناجمة عن التنظيم الهرمي للاجتماع البشري. "ولهذا التعريف كما ترون فضيلة وظيفية هامة هي تحديده السياسة بأنّها المسائل الكبرى).. أمّا العلم؛ ففعالية ذهنية منظمة". وهو بهذا يختلف عن الفكر الذي قد يرتبط به كل ما جرى على ارتباط العلم به من تنظيم. والحقَّ أنّ‍ه إذا كان ثمّة وضوح في صميم ما تتعامل به السياسة، فهو أساساً شؤون الحكم. إلاّ أن ثمة غموضاً في حدود السياسة. أي تخومها.‏
      وفي اعتقادي: يظلّ أيّ تعريف منطقي متماسكٍ للسياسة قاصراً عن مجاراة السياسة في حركتها اليومية، ذلك أن المتابعة اليومية تعلّمنا أنّ السياسة ليست بما هي، بل بما يراها الناس... فما ينشغل به الناس، عامةُ الناس: هو سياسة، وإنّ لم تستبن سياستُه للوهلة الأولى... وبالمقابل؛ قد يكون أهمّ بحث دستوري أو سياسي خارج إطار السياسة إن لم يحظ في جوهره، وفيما يترتب عليه باهتمام الناس".‏
      وهكذا نرى أنّ "هذا التعريف للسياسة، الذي يجاري حركتها اليومية، يجعل منها، كما هي؛ قِمَّة العلوم الاجتماعية، أو العلم الذهبي لهذه العلوم، والتي أفضّل أن يطلق عليها: اسم علوم السياسة من حيث أنّ المجتمع -كمجتمع- إنّما هو في التحليل المنطقي له: المادة الخام للبشر الذين بوعيهم لعلاقاتهم يصبحون مجتمعاً سياسياً...."‏
      ويكتفي المؤلّف بهذا التعريف، وخيراً فعل، خشية بعض الردود "المدججة بجميع أنواع المقتطفات المستخلصة من كتب شخصيّاتٍ -غربية أو شرقية- وأتوقع أن يكون أصحاب الردود من الذين تحكَّمت بهم، وعلى فترة زمنية طويلة، مدارس فكرية معيّنة، أصحابها من الشخصيات المشار إليها" بغية الهروب من النقاشات العقيمة، والتركيز على الجوهر الذي من أجله تدور هذه الدراسة والمنبثق من صميم السياسة اليومية العربية المعاشة.‏
      وهكذا نصل إلى بؤرة الموضوع، موضوع دراستنا هذه -حيث تجشمتُم عناء الحضور لسماعه والذي أطرحه على شكل صيغة تساؤل:‏
      -لماذا نريد علماً للسياسة العربية؟‏
      -وكيف يكون علمُ السياسة عربياً؟‏
      وفي سبيلنا للإجابة نقول: من حيث أن العلم شمولي، فليس ثمة مكانٌ لإضفاء صفة قومية عليه... وهكذا فإنّ القول بوجود علم عربي -للسياسة- يحمل تناقضاً بين حدّي التعبير... ولكن لهذه الفكرة البسيطة نظائر فيما بحث فيه مفكرونا القوميون بشأن الإشتراكية، حتى انتهى القول لدى معظم القوميين العرب الاشتراكيين: إلى أن ثمة طريقاً عربياً للإشتراكية، وليس ثمة اشتراكية عربية.‏
      ولكنّ ثمّة علماً عربياً للسياسة بمقتضى ما قلناه: من أنّ علم السياسة، هو علم المسائل الكبرى لمجتمع ما، هو هنا المجتمع العربي... وهكذا يصبح المعنى المشخص للعلم العربي للسياسة: هو علم المسائل الكبرى التي تشغل المجتمع العربي... وهذا المعنى المشخص للعلم العربي للسياسة يصعد بالعلم المقترح إلى مصاف علم السياسة كما تطور في العالم الغربي، أوربا الغربية، وأمريكا الشمالية) أو كما تطور في العالم الشرقي أوربا الشرقية).‏
      "ذلك أنّ الحقيقة التي تغرب عن بال كثيرين منّا، من الذين تخصصوا في العلوم الاجتماعية -سواء في العالم الغربي أو العالم الشرقي- هي أنّ علم السياسة الذي تلقوه؛ إنّما هو علم سياسة المجتمعات التي درسوا ذلك العلم فيها، وليس علماً شمولياً كما يراد لهم أنْ يؤمنوا -وذلك- مجاراة منهم لإيمان معلِّميهم".‏
      1-ويضرب المؤلف جبور أمثلة حيّة على ذلك توضيحاً لهذه المقولة فيقول: "ولنأخذ مثلاً بسيطاً أولياً من القانون الدولي: كان لهولندا مصلحة معينة في تنظيمات خاصة لقانون البحار، وفي ترتيب المصالح المتضاربة بين الدول، وكانت القوة هي المعيار... ثم في فترة نُضج حضاري معيّن ينبثق من هذا النضج رجل مثل غروشس) تحرّكه مصلحة بلاده، ويحركه الوعي العلمي الواسع، فيضع قانوناً دولياً، أو بالأحرى مقالةً مطوّلة موثقة في قانون البحار ويكون لمصلحة هولندا في قانون البحار هذا نصيبٌ. وإذْ أنّ لهولندا قوتها العسكرية كما لها مؤسساتها العلمية، فهي بقوتها تدافع عمّا تراه حقوقها البحرية، وهي بمؤسّساتها العلمية تكرّس غروشس) أباً للقانون الدولي -وتكرس بالتالي- غيره تلاميذ له يدرُسون عليه، وتزيد بالعلم دعمها لحقوق بحرية لها، لدى تلاميذ غروشس هؤلاء، بعد أن تُقنعهم بحياد العلم لأنّه شمولي، وحياد القانون الدولي -وهو أرسخ العلوم الاجتماعية وأكثرها اقتراباً ظاهرياً من الشمولية أمّا الدارس على غروشس فيصبح إيمانه الفعليُّ بمصلحة هولندا جزءاً من مقاربته الفكرية للقانون الدولي.‏
      2-وإذا أخذنا غروشس مثالاً من القرن السابع عشر، فلأنه يعدّ أبو القانون الدولي، كما تعلّم الدارسون في كُليّات الحقوق. فإذا كان لأحد أنْ يقول: لك كان في القرن السابع عشر، ثم تقدّم العلم، أو القانون، وأصبح أكثر موضوعية "فلأذكر أنّني -والكلام للدكتور جبور- كثيراً ما قرأت بعناية الأعمال المشتركة الضخمة دماك دوغال) ولاسويل) من كليّة حقوق جامعة ييل) الشهيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعرفها حتماً كلّ من اختصّ منّا في العلوم الاجتماعية في أمريكا: لاكتشف أنّ المغزى العام لها هو محاولة المساواة بين سياسة أمريكا الخارجية وبين القانون الدولي: هذه تساوي ذاك وهذا يساوي تلك".‏
      وبالطبع: تأخذ مسألة، هويّة العلم، أو قوميته، أبعاداً أدهى حين يغرق التلميذ من البلاد النامية، أو النائمة، في محاكاة المعلّم المتقدّم، فيصبح فهمُه له فهم التلميذ للمعلّم معياراً للحضارة أي التقدّم، ويصبح في فهمه له متعصباً لفكر المعلّم ومجتمعه إلى أبعد الحدود، حتى لكأنَّه يرى في هذا التعصب هويَّة له ضمن مجتمعه النامي الآخذ، وعلى نحوٍ كاريكاتوري عجيب يصبح المتعلّم فينا متعلّماً، بقدر ما يهدر من حقوق بلده باسم الالتزام بالقانون الدولي مثلاً، أو العلوم الاجتماعية، أو ما أشبه، ليدل بذلك على تميزه، ويغطّي كلّ مركّبات النقص فيه، ويجعل له هويّة مغايرة لكلِّ ما يحيط به".‏
      ويذكر لنا المؤلف مثالين مشخَّصين من سوريّة ومصر، وهما في طليعة البلدان العربيّة تقدّماً علمياً فيقول: "ففي سورية أيّام قرار تقسيم فلسطين، ارتفعت في مجلس النواب لدى بحث ذلك القرار أصوات فقهاء في طليعتها صوت أستاذ في كلية الحقوق يُحذّر من مغبَّة عدم اعترافنا بقرار الأمم المتحدة -نعتذر عن ذكر اسمه لموته-.‏
      وفي مصر حضر المؤلِّف قبل خمس عشرة سنة أو أكثر محاضرة فقيه كبير جداً، كان المؤلف يحلم أن يجلس معه. فإذا به يشن في محاضرته حرباً ضروساً على مفهوم حركات التحرر الوطني. نافياً هذا المفهوم من قاموس القانون الدولي، مستعملاً لغة تّكادُ لغة جون فوستر دالاس) بالمقارنة معها، تُعدُّ لغةً تقدميّة، فأمّا الفقيه الكبير فهو الدكتور وحيد رأفت، وكان يتكلم في الجمعية المصرية للقانون الدولي".‏
      وعودٌ على بدء "وبتبسيط كبير، نجد في الساحة العربية لعلم السياسة:‏
      1ً-اتجاهاً للعلم الأمريكي للسياسة، وهو اتجاه إمّا أنّه أتى جديداً لم يسبقه شيء، كما هو الحال في جامعات الجزيرة العربية والخليج العربي، والأردن، والسودان. أو نما على حساب العلم الفرنسي للسياسة الذي كان تطور في فرنسا ضمن كليات الحقوق، كما في جامعات مصر والعراق.‏
      ثم إنّنا نجد اتجاهاً للعلم الفرنسي للسياسة في المغرب العربي.‏
      إلاّ أنّ العلمَ الفرنسي الراهن للسياسة. إنّما هو في أساسياته ترجمةٌ فرنسيّة للعلم الأمريكي للسياسة، وهي الأقل شأناً بالمقارنة مع التأثيرات الأمريكية الفرنسية.‏
      وأياً كانت هويّة العلم الغربي للسياسة، فهو قليلُ الوثوقية الدونمائية) منفتح على العملية البرغماتية) ومبشر مستمر بمفهوم الحرية، نتيجة ظروف تاريخية قديمة وراهنة. ولهذا يُعنى العِلمُ العربي للسياسة بشؤون تنظيم السلطة ومعارضتها على نحو خاص.‏
      2ً-ثم إنّ في الساحة العربيّة لعلم السياسة اتجاهاً للعلم الماركسي للسياسة، له أثرٌ في عددٍ من أعمال علماء السياسة المصريين الماركسيين. والعلمُ الماركسي للسياسة وثوقيٌ مُبِّشر بمفهوم العدالة أو الاشتراكية. ويعنى عناية خاصة بالمراحل المتتابعة لتطوّر الطبقات وصراعها، وما يوازيها من مراحل على الصعيد السياسي. وبالطَّبع فإنّ جمع هويَّة جغرافية للعلم الغربي إلى هوية فكرية للعلم الماركسي لعلم السياسة، لا يُغطٍّي الحقل كلّه. ففي العالم الشرقي ثمّة لا شكّ انحصار بالماركسية قبل البريسترويكا) إلاّ أنّ لدى الغرب ماركسياته أيضاً.‏
      ثم إنّ هذا الوجود المتزامن والمتواقت لمدارس فكريّة مختلفة في علم السياسة على الساحة العربية -غربية وماركسية -لم ينتج عنه بعدُ فهمٌ متبادل ... فكلُّ عالِمُ سياسةٍ منّا درس في الغرب، ميّال إلى نفي كلِّ علم سياسةٍ شرقي بعلّة دوغمائية.‏
      وكلّ عالم سياسة منّا درس في الشرق، ميالٌ قبلياً إلى نفي كلّ علم سياسةٍ غربيٍ بعلّة بورجوازيته.‏
      ومن الطريف أنّ مصر عبد الناصر، بتوجهاتها المعروفة، كانت غربيّة في علم سياستها كما كان يدرّسُ في جامعاتها، وأنْ سورية البعث بتوجهّاتها المعروفة، ما تزال إلى مدى كبير غربيّة في علومها الاجتماعية كما تُدرَّسُ في جامعاتها، رغم هيمنة الفكر القومي بوسائل تعبيره الكثيرة على الجوّ الأكاديمي العام... كذلك لا بد من أنْ أذكر أن محاولات جديّة جرت في السنوات الأخيرة، وما تزال تجري، أدخلت بها إلى العلوم الاجتماعية في الجامعات السوريّة المفرداتَ الماركسيّة.‏
      في الساحة العربية لعلم السياسة ثمة إذن تبعية لتيارات غربية بشقّيها أوربية وأمريكية، تترك بصماتها واضحة على أدبيّاتنا. وليس هذا الوضع بالفريد في مجال دراساتنا الأكاديمية عامة، كما أنَّه ليس بالوضع الذي لا يمكن فهمه. إلاّ أنّ في الاستمرار فيه خطأ وخطراً ما بعدهما خطأ وخطر.‏
      أ-فأمّا الخطأ: فعلميُّ، ووجه الخطأ فيه واضح؛ ذلك أنّ العلوم الاجتماعية، ولا سيمّا علم السياسة، إنّما هي علوم مجتمعات معينة، أو على الأقلّ علومٌ تتأثر بمجتمعات معَّينة هي المجتمعات التي انبثقت عنها، وما فيها من كليّة أي شُموليَّة، إنّما هي كليّة محدودة بموقع العالِم في مجتمعه في العالم.‏
      ب-وأمّا الخطر: فقومي. إذ يصبح اختصاصُّينا مُغرِّباً) عن مشاكل أمته. أسيراً لأطر تفكيرٍ مفروضة عليه، ضمن ظروف معاشية مفروضة عليه.‏
      وقد أحسن وصف هذا الخطر القومي الدكتور جلال أحمد أمين في كتابه المشرق العربي والغرب) ويمكن الرجوع إلى تفصيل جميل لهذه الفكرة في ذلك الكتاب.‏
      إزاء هذا الوضع الذي نحن فيه، أقترح أن نتقدم خطوة أخرى إلى الأمام. فنضع علمنا العربي للسياسة متمحوراً حول موضوع واحد، هو الهوية القوميّة العربيّة، وما يشتق منها ممّا ينفيها، وهو الاستعمار والاستيطان الصهيوني الذي تتعرض له الأمّة العربية".‏
      موضوع العلم العربيّ للسياسة‏
      قضية القومية العربية ووحدتها حجر الأساس في العلم العربي للسياسة من منطلق قومي عربي بحتْ، بأنّ العرب أمّة واحدة، وأنّ الوحدة العربية هدف أساسي لهذه الأمة، وأنّ في المنطقة العربيّة من المحيط إلى الخليج نزوعاً إلى الوحدة العربيّة، وأنّ العمل لتحقيق هذا النزوع واجبٌ علمي وسياسي وقومي وإنساني؛ أجِدُ أنّ بحثاً جدياً في مسألة تحديد الهويّة هو حجر الأساس في العلم العربي للسياسة.‏
      وأجد أنّ "في وطننا العربيّ" ما يشبه التوتر بين دعوة قومية عربية نابعة من حاجاتنا اليومية والسياسية والقومية، وبين علوم اجتماعية مستوردة، تبدو بعيدة عنّا في همومها، غريبة عنّا كمجتمع، وإنْ كانت قريبة من كلّ واحد منّا كفرد عاقل.‏
      نقول: إنّه كان ثمّة ما يشبه التوتر بين الدعوة القومية، وبين العلوم الاجتماعية، وكان هذا التوتر ملاحظاً في، الموضوع، وفي الأسلوب:‏
      أ-ففي الموضوع لم تركز علومنا الاجتماعية على مبحث الهويّة، وهو المبحث الأول في الدعوة القومية: هل نحن عربٌ؟ أم لا‍!‏
      ب-وفي الأسلوب كان موئل الدعوة القومية الشخصيات والحركات والأحزاب السياسية، وكانت لغتها عموماً عاطفية، أمّا العلوم الاجتماعية فكانت الجامعات معقلها، وكان القيّمون عليها بالمفهوم العام، نخبة مستنيرة بعيدة عن السياسة، مترفعة عمّا يُدْعى بأهوائها... ونتيجةَ هذا الانفصام بين الدعوة القومية، والعلوم الاجتماعيّة، شهدنا إشكالات فكرية ربّما كان أجلى ما ظهرت به في معهد الدراسات العربية العليا الذي أسّسه في القاهرة المفكر القومي الكبير المرحوم الأستاذ ساطع الحصري"‏
      ونحنُ اليوم كأمّة عربيّة "في وضع غير طبيعي كأمّة، من الواضح لدينا جميعاً، كما أظنّ، أنّ عُرانا كأمّة تتمزّق، وأنّنا إنْ استمررنا فيما نحن فيه، فقد يُعلن كلّ حي من أحيائنا نفسه أمة، وكلّ قرية قارة... وثمّ إنّ ما يعترينا من تمزق العرى ليس عرضياً، فإذا كانت الوحدة مطلبنا كدعاة وعاملين للوحدة العربيّة، فأنّ التجزئة مطلب أعدائنا، ورأس حربتهم المستوطنون الصهاينة.‏
      والحقّ أنّنا إذا كنّا نريد وحدة عربية على أرض الوطن العربي، فإنّ أهمّ معوّق لهذه الوحدة، ليس الحدود السياسية القائمة بين البلاد العربية -فقد ثبت في تجربة الوحدة عام 1958 أنّه ليس من الصعب إلغاء هذه الحدود -بل المعوّق هو وجود كتلةٍ من المستوطنين الصهاينة في قلب هذا الوطن... ولو لم تكن هذه الكتلة من المستوطنين قائمة في قلب هذا الوطن العربي لأمكن التقدير بأنّ الأمّة العربيّة في مدّها الذي عرفته أيّام الخمسينيات. بمناهضة الاستعمار الغربي التقليديّ. لكانت مستطيعةً بناء وحدتها من نواة واحدة متصلة جغرافياً من بلاد الشام ومصر."‏
      ولكنْ وللأسف الشديد "فإن المدّ العربي أيّام الخمسينيات، لم يستمرّ إلا سنواتٍ تحالفت فيها على الوحدة ظروف خارجية، استفادت من ظروف داخلية، بل واستثارتها".‏
      ومن الجدير بالذكر أنْ ننوّه هنا إلى مد عربي آخر قبل مدّ الخمسينيات كان "في ثلاثينيات القرن الماضي، ومن لندن صدرصَكّ إعدام ذلك المدّ على النحو المعروف الذي تُجسّده وثائق دبلوماسيّة عديدة، أحراها بالتأمل تلك الكلمات القليلة التي خطّها بالمرستون) يوم 11/8/1840م إلى بونسي) مندوبه في إستامبول، يأمره فيها إخبار السلطان العثماني: أنّ الشعب اليهوديّ إذا عاد إلى فلسطين بموافقة السلطان وحمايته، وبناءً على دعوته، فسيكون هذا الشعب اليهودي حاجزاً ضد أيّة مخطّطات شرّيرة لمحمد علي أو خليفته... وبالطبع نعلم أنّ بالمرستون كان واعياً جداً لمغزى مجيء اليهود إلى فلسطين، ولم يكن أمر رسالته إلى ممثّله عابراً، ذلك أنّه منذ عام 1833م كما نعرف الآن، أعرب عن مخاوفه من قيام محمد علي بإنشاء مملكة تضمّ المتكلمين بالعربيّة".‏
      والآن ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين "نرى الشكل الجغرافي السياسيّ الذي حلم به بالمرستون) قبل قرن ونصف -ونيّف- نراه واقعاً مهيمناً كأقوى ما تكونُ الواقعية المهيمنة... وليت الأمر وقف عند هذا الحد، ذلك أنّ أولئك الذين شعروا بأنفسهم من منطلق تكلمهم العربيّة. مادة موحّدة لدولة عربية، أخذوا يبعثرون ممالك ودولاً ومشيخاتٍ، ويبعثرون لهجات وقوميات. حتى انتهى شأننا، وسوء حالنا، إلى المادة السادسة من معاهدة السادات -بيغن، التي تجعل التزام مصر بكيان المستوطنين الصهياينة متقدّماً على التزام مصر مع أيّة دولة عربية أو أجنبية.‏
      بحثُ الهويّة إذن، مرتبط ارتباطاً عضوياً بمناهضة الكتلة الاستيطانية، فيما إذا كنا مستقرين على أنّ هويتنا الأساسية هي أنّنا عربٌ؟! فإذا لم نكن متفقين على أنّ هويتنا الأساسية أنّنا عرب، بل هي هويّات قطرية؛ مصرية، سوريّة. فلسطينية وغيرها.. ومعنى ذلك انتفاء ارتباط الكتلة الاستيطانية بالهويات القطرية ارتباط إعدام متبادل، وصيرورتها مرتبطة ارتباطاً حيادياً ولنقل: ارتباط تجاور جغرافي عادي) بل وربما أيضاً ارتباطاً تكاملياً بالهويات القطرية".‏
      ونحن نعلم بل وعلى يقين جميعاً، أنّ هذه هي الفلسفة الأساسية لكامب ديفيد) مخيم داود والمعاهدة المنفِذة لها".‏
      وضمن هذا النظام من الأفكار عدم تحديد الهويّة، والقطريات، ونصوص كامب ديفد) تصبح جامعة الدول العربية، من حيث هي جامعة للعرب ضدّ الصهيونية شيئاً من الماضي.. ويصبح مطلوباً إقامة جامعة للدول العربية ينصّ ميثاقها على السلم مع إسرائيل، بالنحو الذي نسب إلى أحد المسؤولين المصريين. وهو الدكتور بطرس غالي. يوم كان وزيراً للدولة للشؤون الخارجية، في مقابلة مع مجلة آخر ساعة) الأسبوعية المصرية بتاريخ 16/5/1984.‏

      وبمقتضى هذا النظام من الأفكار أيضاً لا يعود ثمَّة قضيَّة عربية بمواجهة إسرائيل، بل يصبح الموضوع قضية فلسطينية محضة بمواجهة إسرائيل، وهي قضية من المحتمل أنّها خاسرة، إذ لا أمل لها بنصر عسكري، ولا بتوازن استراتيجي، بل جلّ ما تستطيعه الاستجداء" ومع احترامي العميق، وتقديري الشديد لجيل الحجارة الذي يشكّل ربّما ظاهرة الأمل الوحيدة على امتداد الوطن العربي الكبير الممزّق، فإنه سيقع في فخٍ لا قدرة له على الفكاك منه.‏
      إنّ هذا القول "لا يعني بالبداهة صحّة القول المناقض، وهو أنّ القضيّة العربية ككل، ليست خاسرة بمواجهة إسرائيل... فأساطين الفلسفة الساداتية يتقوّلون بأنّ القضية العربيّة برهنت بنفسها أنّها خاسرة خلال أربعين عاماً ونيفاً من الصراع العربي الصهيوني، لذلك حسب زعيمهم لا بدّ من اللجوء إلى تجزئة القضيّة، طمعاً في الربح!!!.‏
      "نحن إذن، لا نقول أنّ القضية العربية كهوية واحدةٍ أصيلة، ضدّ هوية دخيلةٍ ليست بالضرورة خاسرة. فثمّة ظروف دولية لاهيمنة لنا عليها تفعل بالمنطقة. ولكنْ من الواضح أنّ احتمال خسارتها هو دائماً أقلّ من احتمال خسارة القضيّة الفلسطينية بمواجهة إسرائيل... ففي التمسّك بهويّة عربية واحدة أملٌ يرتجى في مناهضة الكتلة الاستيطانية. وفي الحسّ العام. كما في التحليل العلميّ، ثمّة ثابتٌ أساسي؛ هو أنّ إدارة عمليّة الصراع العربية ضدّ الصهيونية، إنْ تمّت بمقدرة وعلم، فهي كفيلةٌ بتحجيم إسرائيل كخطوةٍ أولى تمهيداً لخطوات تالية".‏
      من كلّ ما سبق يتبيّن لنا " أنّ القول بهويّة عربية، مرتبطٌ ارتباطاً عضوياً بمناهضة الكتلة الاستيطانيّة. يكوّن لدينا من منطلق بحث الهويّة اتجاهين هما:‏
      أ-اتّجاهٌ إيجابيّ يرى في الوحدة العربية هدفاً.‏
      ب-واتجاهٌ سلبي يرى في مناهضة الكتلة الاستيطانية سبيلاً للوصول إلى الهدف".‏

      خلقُ العلم النافع‏
      إنّ ما نقصُدُه من خَلْقِ العلم النافع هو تثبيت دور أقسام العلوم السياسيّة في جامعاتنا وكلياتنا في دراسات الاستعمار الاستيطاني المقارن "دورٌ تتشارك به مع أقسام وكليات أخرى، مثل أقسام التاريخ، والفلسفة، وعلم الاجتماع، ومثل كليّات الحقوق والتربية، والاقتصاد وغيرها. فمجال دراسات الاستعمار الاستيطاني أوسع من أنْ يشمله حقلٌ أكاديمي واحد".‏
      ولتوضيح مفهوم الاستعمار الاستيطاني يقول الدكتور جبور في كتابه: "إذا عدّدنا الصراعات العالمية الكبرى، فلنْ نستطيع إلاّ أنّ نضع في عدادها الصراعين في كلّ من الشرق الأوسط، وجنوب أفريقيا- وإنّ انتهى هذا الصراع الأخير لصالح السكان الأصليين- وإذا أمعنّا النظر في تكييف كلّ من هذين الصراعين لوجدنا أنّ تكييفها واحدٌ، فهما ناتجان عن الوجود الحاكم لحوالي ثمانية ملايين من السكان الغرباء عن المحيط الذي يحيط بهم، نصفهم الأقل في فلسطين والأراضي العربيّة المحتلّة، ونصفهم الأرجح فيما يدعى جمهورية جنوب أفريقيا.‏
      ونقصد بتعبير غرباء عن المحيط الذي يحيط بهم "مجموعة أمور تخصّ الوضع الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي الراهن. ولا نقصد بالضرورة أنْ نخوض في بحث تاريخي أتقنهُ الصهاينة والبربر أكثر ممّا أتقنه العرب والأفريقيون؛ عمّن أقدمُ العربُ أم الصهاينة؟ الأفريقيون أم البربر؟ في كلٍ من فلسطين وجنوب أفريقيا؟!‏
      هذه الغربة عن المحيط) هي التعبير المفتاح لجملة مظاهر متفاعلة ينجم عنها نمط موحّد من السلوك نشهده في التوضّعين الاستيطانيين؛ الصهيوني والأبيض، بمواجهتهما المحيطين العربي والأفريقي".‏
      ويضربُ لنا المؤلف الدكتور جبور بعض الأمثلة لجملة من المظاهر المتفاعلة بين هذين النظامين -هذا قبل إزالة التمييز العنصري -فيقول: إنّ لهذين التوضعين الاستيطانيين- إلى جانب غربتهما عن محيطهما، وهي غربة تنبثق عنها العنصرية بالضرورة -قدرة ذرية لا يمارى بها، بل وتحالفاً ذرياً يبلغ مرحلة التكامل الذريّ، يغطي كلّ الامتداد العربي الأفريقي -ذلك قبل انتصار الحركة الوطنية وتسلّم مانديلا الحكم -بل ويمكن القول: إنّه ما من دولتين في الامتداد العربي الأفريقي تتبادلان الحبّ فيما بينهما، وإنّ يك سرّياً في كثير من الأحيان بناء على رغبة إسرائيل، لأنّ نظام الأبارتايد) الفصل العنصري عدو مشرع لكل أفريقيا ولمعظم الإنسانية بالقدر الذي يتبادل فيه الحب التوضعان الاستيطانيان في فلسطين وجنوب أفريقيا.‏
      ولدينا من الشواهد -بعد أن عصفت رياح التغيير في جنوب أفريقيا- ما يثبتُ أنّ أكثر الدول اهتماماً في الامتداد العربي الأفريقي، بالمصير المحتم للفصل العنصري بعد الدول الأفريقية المحيطة بجنوب أفريقيا، هم الصهاينة.. إنّهم يرون في المصير المحتم للأبارتايد) إشارة حزينة إلى مصير لهم محتمل يحاولون تجنبه، ويجدون في خلق الظروف الموضوعية التي تساعدهم على تجنبه.‏
      ولاقتراح العلم النافع، أهداف ثلاثة هي: علمية، وقومية، وإنسانية.‏
      أ- ويتمثل الهدف العلمي: في تطوير علم السياسة في العالم باتجاه مراقبة ظاهرة هامة، هي ظاهرة التفاعل بين توضع إستيطاني مرفوض أساساً، بمواجهة محيط رافض أساساً. نقول أساساً) لأن ثمّة ظواهر قبول بالتوضع الاستيطاني، رغم محدوديّتها، وتتمثّل هذه الظواهر في اتفاقيتي كامب ديفد، وفي معاهدة أنكوماتي بتاريخ 16/3/1984 التي أطلقُ عليها اسم اتفاقية كامب ديفد الأفريقية)... ويقود هذا العلمُ عادةً إلى استخلاص أسس وقواعد وقوانين ترسي ما أسميّه بعلم الاستعمار الاستيطاني المقارن).‏
      ب-أمّا الهدف القومي: فهو يخص أدبياتنا القوميّة، والنظام الأساسي للجمعية العربية للعلوم السياسيّة التي تنصّ على مناهضة الصهيونية والوجود الصهيوني، لترسيخ مقولة النظام الصهيوني بأنّه نظام عنصري في كل أدبيات وأفكار العلم الغربي، إذْ أنه لا يوصف بالعنصرية إلاّ من قبل العالمين الإشتراكي، والأفرو- أسيوي... ويتابع الدكتور جبّور قوله، لهذا يحدو بنا نحن الاختصاصيين العرب في العلوم السياسية، ومعظمنا تتلمذَ رسمياً في أوربا الغربية، وأمريكا الشمالية، ومن منطلق قومي ولن نخجل كمتحمسين للعلم من منطلقنا القومي العربي، بل على العكس، إلى مضاعفة الجهد لكي نخلق علماً ينفعنا في معركة مصيرنا القومي، علماً مستحقاً valid) كعلم يثبت أنّ التوضع الاستيطاني الأبيض في جنوب أفريقيا -سابقاً- لا يزيد عنصريةً عن التوضع الصهيوني في فلسطين، بل حقاً ينقص عنه.‏
      ثم يعقب الدكتور جبّور على هذه النقطة قائلاً: وكلّي يقينٌ أنّنا إنْ لم نفعل ذلك فسيكون التغريب Alienation فعل فينا كلّ فعله، فأخذ منّا أنفسنا، وملك علينا عقولنا، وتركنا نلهث وراء بريق الحداثة العلمية الغربية واتجاهاتها، وما تدّعيه من حياد علمي، إزاء المصالح القوميّة، نلهث ولا نصل، لأنّ هدف اللعبة التي اخترناها، أو اخترنا أن نعمل ضمنها: هو أنْ نلهث ولا نصل، وأن نظلّ في حالة ترقب الجائع إلى بُلْغةِ خبز حديث وحضاري) تأتيه مغلفة بغلاف أنيق براق، فينشغل عن جوعه بأناقة الغلاف وبريقه.‏
      جـ-وأمّا الهدف الإنساني فواضح، بل هو الأوضح بين ما عدّدنا من أهداف، بخلقنا علماً ينفعنا نحن العرب، هو علم الاستعمار الاستيطاني المقارن... فنسهم ليس فقط -إذ نوحّد الجهد العربي مع الجهدين الأفريقي والإنساني المناهضين للعنصرية- في تسريع ما يراه كثيرون قدراً محتوماً لكيانين شاذين، بل سندعى إلى مائدة إلاهية من باب أعرض".‏
      ما تشهده فلسطين، يضع على عاتقنا تقديم نظرية ضخمة عن المسألة اليهودية، أو ما عرفت بالألمانية باسم البودن فراغي) عبر التاريخ وحتى الآن... نظرية متفتحة إنسانية الطابع، عالمية بعيدة عن التعصب الطائفي والديني، بريئة ممّا أتت به مغامرة هرتزل) الصهيونية في فلسطين من آثام، وما سببته من آلام، بذريعة حلّ المسألة اليهودية).‏
      هذه النظرية الضخمة عن المسألة اليهودية ستكون بالضرورة العالمية ناتجاً إضافياً Be product) لعلم الاستعمار الاستيطاني المقارن، ناتجاً إضافياً إذا أحسنّا صُنعه، فسنزوّد العلم في العالم على نحو ما كانته دائماً أرضنا المشعة بالنور.‏
      وفي المجال العمليّ كان للجمهورية العربية السوريّة السبق لإنشاء مؤسسة لدراسات الاستعمار الاستيطاني، جاء على شكل اقتراح إلى جامعة الدول العربية في 20 يناير1971 مقدّم من السفارة السوريّة بالقاهرة تحت رقم 20/6/14 وس. وقد عممتهُ جامعة الدول العربية على وزارات خارجية الدول العربية بموجب المذكرة قم 531، وممّا قالته هذه المذكرة: وتتشرّف... المتضمنة اقتراحاً بإنشاء مؤسّسة دراسات الاستعمار الاستيطاني، و مرفقاً بها دراسة مبدئية في الموضوع وصنعت بمعرفة معهد بحوث رئاسة الجمهورية في دمشق.‏
      وتشكّلت إثر ذلك في الأمانة العامّة لجامعة الدول العربية لجنة تضمّ ممثلين من الإدارات السياسية والإعلام والثقافية وشؤون فلسطين، لدراسة الموضوع... وتوصّلت اللجنة إلى توصيات تؤيّد وجهة النظر السورية في هذا الموضوع.‏
      وجاء في الصفحة الثانية والسبعين من كتاب الدكتور جورج جبور نمو علم عربي للسياسة" الذي نحن بصدد تحليله والقاء بعض الضوء عليه، حيث‏
      يجدُ الباحث المتقصّي، نص المقترح الذي قدّمه وفد الجمهورية العربية السورية لجامعة الدول العربية لإنشاء مؤسسة لدراسة الاستعمار الاستيطاني.‏
      وبناء على كلّ ما سبق، لا يتردّد المؤلف عن الجزم في القول: إنّ العلم العربي للسياسة -موضوع دراستنا- أساسه علمان:‏
      أ-علمُ الوحدة العربية.‏
      ب-وعلمُ الاستعمار الاستيطاني.‏
      وهما مترابطان فعلاً في الساحة العربيّة... ولأنّ السياسة تعريفاً هي ما هو كبيرٌ من مسائل تتعلّق بمصير الأمّة ووجودها، لا يتردّد المؤلّف في القول: إن العلم العربي للسياسة الذي يقترحه، إنما هو علم على أتم الإنسجام مع التعريف الذي وضعناه للسياسة "فليس ثمّة في الساحة العربية أكبر من هاتين المسألتين:‏
      1-مسألة الوحدة العربية.‏
      2-ومسألة الاستعمار الاستيطاني.‏
      وهكذا، فلا بدّ إنْ أردنا التقدّم، والجدّ في الدعوة القوميّة، من إعداد جيلٍ من علماء المجتمع العربي، وفي طليعتهم علماء السياسة... جيل يجعل من الهمّ القوميّ هماً أولاً، يعرفُ مجتمعه، ويهتمّ بفهمه، لا تثبيتاً له، بل تغييراً وبناءً أفضلَ له.‏
      فتتتلمذُ على أيديهم أجيالٌ تنتفع بهديهم، وينتفعون بعلمهم... وقد قال النبي العربي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم، انقطع ذكره إلاّ من ثلاث؛ ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، وعلم ينتفع به الناس".‏
      فسلامٌ عليكم يوم تنشئون، ويوم تربّون، ويوم تعلّمون علماً ينتفع به الناس... اللهم اشهدّ، فقد نقلت وبلّغت، وإلى اللقاء في غدٍ مشرق عزيز ووحدةٍ عربية مؤزرة.‏

      قدمت كمحاضرة في المركز الثقافي العربي بدرعا بحضور المؤلف الدكتور جورج جبور ثم أعيد إلقاؤها في المركزين الثقافيين بإزرع والصنمين.‏
      النقد(1) criticism‏
      النقد وفي المصطلح: هو نقد أو انتقاد الكلام لإظهار ما به من العيب... وبيان ما يحويه من نفيس المعاني. والناقد: اسم فاعل من الفعل الثلاثي نقد، يقوم بأداء فعل النقد... والناقد صيرفي يُميز جيّد القول من رديئه. والنقد في مفهومه الدقيق هو الحكم judgement.‏
      فكما المعادنُ الثمينة تحتاج إلى صيرفي يميّز جوهرها من خبيثها، أو عن خبيثها، والذهب بحاجة إلى صيرفي يبين نسبة الذهب في السبيكة، وعياره فيها، كذلك الأدب، إذاً فالناقد صيرفي يبيّن لنا غَثّ الأدب أو الفنّ من سمينه. وإلاّ بقي مادة خاماً حتى يأتي الناقد بأداته "النقد" ويكشف لنا جوهر الأدب، ويحدّد لنا قيمته الفنية.. ولولا النقد والناقد لا ندثر الأدب وكثير من الفنون الأخر كالرسم والتصوير والموسيقى والنحت وغيرها فرسم الموناليزا في لوحة الجوكندا لليوناردو دافنشي 1452-1511م) ما كانت لتخلد على مرّ العصور، وتتجدّد على طول الزمن، لو لم تقع عليها عينا ناقد فنّانٍ، فيعلن على الملأ أنّ أجمل منظر في الدنيا هو منظر امرأة جميلة تتألّم، وكأنّه همس في أذن الوجود ليمنحها الخلود!!‏
      ثم ماذا كان مصير ذلك التراث الشعري العظيم. وتلك النماذج الشعرية الرائعة، التي تركها لنا العصر الجاهلي لو لم تأت عينا ابن سلاّم الجمحي، وخلفٍ الأحمر وابن رشيق القيرواني فتطلعنا على الكنوز المخبوءة فيها؟!... وبعد:‏
      فالنقد الأدبي في أدقّ معانيه: هو فنّ دراسة الأساليب وتمييزها، أقصدُ هنا الأساليب بمعناها الواسع "منحى المنشئ الأدبي العام، وطريقته في التأليف والتعبير، والتفكير، والإحساس، وطرق أدائه اللغوية"‏
      وأساس النقد الأدبي التجربة الشخصية، ولا بد أنّ يبدأ بالتأثر، والذوق الشخصي، والتجربة المباشرة.‏
      هذا تعريف موجز للنقد في العربية... فما هي مشكلاته، وأزماته؟‏
      مشكلاتُ النقد العربي‏
      عانى، ويعاني النقدُ العربيّ حتى الآن من مشاكل أربعٍ، كانت كلّ منها ضارة جداً. إنْ لمْ نقل قاتلةً، وهي:‏
      الأولى... مشكلة النقد المثالي: ... أي الذي يقوّم العمل الإبداعي وفق مثالٍ وُجدَ قبلاً.‏
      -فمعيارّية الحكم هي إذاً "قبليّةٌ" ثابتةٌ وخالدة.‏
      -وهي بالنتيجة تُلغي ذاتَ المبدع لصالح "إطلاقاتٍ" قيميّةٍ، لاصلة لها بالواقع في حدود انكشافاته، وقدرة المبدع على تمثّله. وإعادة خلقِه فنيّاً وبأدواتهِ المخصوصة.‏
      الثانية... مشكلة ما يسمّى لدينا "بالنقد الواقعي": سواء تسمّى بالنقديّ، أو الاشتراكي، أو سواهما.‏
      -والذي قوّم ويقوّم العمل الإبداعيّ وفق معياريّة بنت أحكامها القيميّة، على تقدير. وتصنيف مُسبقين لـ"الحدثي المباشر" وينظر إلى هذا العمل على أنه "الكل" الذي هو مركبُ الواقع.‏
      -فهي بذلك تلغي التاريخ وأصوله المتأصّلة المتوارثة، من المركّب... وتراه وفْقَ مثالٍ مُحدّدٍ كمقولاتٍ في أيديولوجيا، انتزعت منها "كليشيهاتها" أو بعضُها. وقدّمت لنا على أنّها نهايةُ المعرفة.‏
      -ولأنّ مثل هذه "المعرفة" المنتقاة من كتبٍ -لا تستطيع أن تعترف إلاّ بذاتها، إذ يكشفُ أوّل اعتراف أو حوارٍ مدى بؤسها، فإنّ النقد المتشكّل منها لا يستطيعُ بتاتاً أنْ يعترف بفرديّة المبدع. أو ذاتيّة إستيعابه وتمثّله للعالم وتعبيره عنه. ولا يستطيع هذا النقدُ أنّ يعترف إلاّ "بوصفته" الخاصة للإبداع.‏
      -ونحنُ هنا أمام ميتافيزيقيا "غيبيّات" من لون جديدٍ، ولكنه يبدو واقعاً على الطرف النقيض من اللون السابق "النقد المثالي".‏
      -ولقد قُدّم لنا هذا الشكل من النقد على أنّه ممارسة لـ "الماركسية في الأدب"، غير أنّه كان في الحقيقة بعيداً جداً عن ذلك... ولم يكنْ غير الولد الهجين للنزعة اللاهوتية المذهبيّة العربية وهي تحاول أنْ تتمركس!.‏
      الثالثة... مشكلة "النقد النفسي" الذي يقوّم العمل الإبداعيّ بما هو حال شطْح مِنْ أحوال "ذاتانية" المبدع.‏
      -إنّ ذاتية المبدع في معياريّة هذا اللون من النقد ترى من حيث هي وجود مطلق أي غيرُ مشروط إلاّ بلحظته... فهو على هذا يكادُ يكونُ خارجَ أُطرِ الزمان والمكان في لحظةِ ممارسةِ فعلِ الإبداع.‏
      -إن هذا اللون من النقد لم يقم على استيعابٍ متمكنٍ لمدارس علم النفس المختلفة ومناهجها وأساليبها... بل هو في حقيقته خلط رديء من الإشراقة الصوفية- أو ممّا التُقط منها التقاطاً مبتذلاً -ومن ملتقطاتٍ تراثية ولاهوتيةٍ، وملتقطات غربيّةٍ حديثة ومتنافرة.‏
      الرابعة... مشكلةُ "النقد الأخلاقي أو الديني" الذي يُقوّم العمل الإبداعيّ على أنّه عملٌ أخلاقي. وفق معياريّة نفعيّة مقدّسة. مسبقة الصنع مسكونة لا يجوز مساسها أو خدش قدسيّتها.‏
      -فهي بذلك تسجِنُ ذاتَ المبدع، بل تعدِمُها، لصالح إطلاقاتٍ قيميّةٍ إرهابية.‏
      -هذا عدا عن أنّها جامدةٌ ثابتة مقدّسة، محرّم المساس بقدسيّتها، فإنّه لا صلة لها بالواقع، لا في حدود انكشافاته الحالية ولا المستقبلية.‏
      -ولا في الموائمة بين قدرات الفنّان المتغيّرة، والمتلوّنة تبعاً لمعتقداته.‏
      ***‏
      أخطاء هذه المشكلات النقدية...‏
      أولاً: إنّ خطأ النقد المثالي أنّه يريد الأدب "دنيّاً" خاضعاً لروائز مسبقة الصنع.‏
      ثانياً: وخطيئة النقد الواقعي أنّهُ يريد مبحثاً رياضياً يستخدمُ لغةَ الخطاب الأيديولوجي والسياسي، وقمعياته.‏
      ثالثاً: وخطيئةُ النقد النفسي الصوفاني. أنّه يريدُ رؤية الأدب "حدساً" تلفيقياً مُقيماً إلى الأبد في الفردانية المنغلقة.‏
      رابعاً: وأمّا خطيئة النقد الأخلاقي أو الديني، فهي أنّها تقف من مبدعات الفنّ موقف القاضي أو الناصح. ومطالبة الفنّ أن يغلّ غلّة، أو ينتج ريعاً يقربُكُ أو يبعدكَ وإلى الأبد عن نارٍ أو جهنم متخيلة.‏
      ***‏
      أمّا الأدبُ أو الفنّ أيها السادة، المعروض على النقد:‏
      فهو بصورة عامة زينة "وتحفةٌ باذخةٌ فحسب، كآنية الوردِ التي تستريح على منضدتي، لستُ أرجو منها أكثر من صحبةِ الأناقة وصداقة العطّر".‏
      الأدبُ أو الفنّ يحيط بالوجود كلّه، وينطلقُ في كلّ الاتجاهات... فترسم ريشته المليح والقبيح، وتتناول المترف والمبتذل، والرفيعَ والوضيع.‏
      ويخطئ الذين يظنون أنّ الفن خطٌ صاعدٌ دائماً، لأنّ الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الأدب أو الفنّ، بل مهمةُ الأديان وعلم الأخلاق... وأنا أُومن بجمال الصبحِ. ولذّة الألم، وطهارة الإثم، فهي كلّها صحيحةٌ في نظر الفنّان.‏
      تصوير مخدع مومس، وارد في منطق الفن ومعقول، وهو من أسخى موضوعات الفن وأغزرها ألواناً... أمّا المومس من حيث كونُها إناءً من الإثم، وخطأ من أخطاء المجتمع، فهذا موضوع آخر تعالجه المذاهب الاجتماعية وعلم الأخلاق".‏
      يقول كروتشه الفيلسوف الإيطالي المعروف في كتابه "المجمل في فلسفة الفنّ" في نقده للمذهب الأخلاقي في الفن: "إنّ العملَ الفنيّ لا يمكنُ أن يكونَ فعلاً نفعياً يتّجه إلى بلوغ لذّة أو استبعاد ألم، لأنّ الفنّ من حيثُ هو فنٌ لا شأن لهُ بالمنفعة"(2) ):‏
      وقد لوحظ من قديم الأزمان أنّ الفن ليس ناشئاً عن الإرادة... ولئنْ كانت الإرادة قوامَ الإنسان الخيّر، فهي ليست قوامَ الإنسان الفنّان.‏
      (1) النقد كما جاء في معجم لسان العرب لابن منظور المصري، مادة نقد، باب الدال، فصل النون 425/3: النقد خلاف النسيئة- والنقد والتنقاد: تمييز الدراهم وإخراج الزّيف منها.‏
      وجاء في معجم محيط المحيط لبطرس البستاني باب النون فترتيب الحرف الثاني فالثالث صفحة 911، نقد الدراهم وغيرها ينقدها نقداً وتنقاداً: ميّزها ونظرها ليعرف جيّدها من رديئها... والنقد في الدارج: العملة المتداولة‏
      (2) -مقدمة طفولة نهد للشاعر نزار قباني نقلاً عن كتاب المجمل في فلسفة الفن للفيلسوف الإيطالي كروتشة مطابع دار الكتاب بيروت 1961.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: في رحاب الفكر والأدب


        الأدب أو الفنّ:
        الأدب والفن لا ينصّب نفسه نقيضاً للدّين، أو العلم، أو الفلسفة، أو الحدْس الإشراقي... والمسألة برمّتها أنّ وسائله مختلفة، وأهدافه متباينة إلى هذا الحدّ، أو ذاك... ولكنّه كحقل من حقول فعّاليّة الكائن البشريّ، يتجاور مع كلّ تلك الحقول المذكورة، ويشربُ من مياهها... غير أنّه لا ينبتُ إلاّ زروعهُ المخصوصة.
        ولقد كان الإبداع العربيّ المعاصر -في مجالات الأدب المختلفة- ضحيّة، في الأعمّ والأغلب لهذه الأساليب من "الملاحقة" النقديّة.
        وإنّ مبادرتّنا لكتابة هذه المحاضرة هي في حقيقتها محاولةٌ لتجاوز أشكال "النقد" السابقة... وقد تعمّدنا أن نركّز على ذاتية المبدع- وبما هي وجودٌ مخصوصٌ ومشروط.
        فالفرد والفرديّة كانا باستمرار، وخلال تاريخنا كلّه، مستهدفين بالإلغاء والمصادرة... وتوكيدُهما الآنَ أمرانِ لا بُدّ منهما لتجاوز ما وصلنا إليه من انحطاط. فإلغاؤهما ليس في المحصّلة إلاّ إخلالاً بتوازن الحياة المجتمعيّة الناجعة نجوعاً كافياً على مختلف المستويات...
        وفي البدء ربما كان علينا أنْ نقوم بطرح السؤال التالي:
        ما هو الأدب بالقياس للواقع؟
        -أهوَ محاكاة له.. أو مماثلة... أو تقليد؟
        -أم هو انعكاس؟!
        -أم استبدال موازٍ؟!
        -أم تغايرْ مواز؟!
        ليس الجواب سهلاً بتاتاً، ولعلّه من غير الممكن إعطاءُ جواب محددٍ وقاطع. فذلك يفترض معرفة تامة بقوانين الأدب... ولكنّ هذا لا يعني أنّنا لن نعطي أيّ جواب كافٍ، وإلاّ ما الحاجةُ إلى تدبيج هذا المقال؟ لكنّ الجواب سيكونُ ممتداً على امتداد فقرات هذا المقال كلّه، ومتى عرفنا ما هذا الأدب، أمكننا حينئذ أن نتكلم عن نقده فما هو الأدب؟ ؟
        إنّ ثمّة ما هو متفق عليه، وهو أنّ الأدب فعّالية إبداعيّة...
        ونحن نرى أنّ الفعّالية الإبداعية عموماً ليست في جوهرها أقلّ من محاولة، ذات كيفيةٍ خاصة ومتعالية، لإعادة إنتاج الوجود البشري ذاته بصورة جذريّة وشاملة.
        ويبرز التمايز المتعالي لهذه الفعالية، عنْ كافة أشكال النشاط الإنساني الأخرى، في كونها تستخدم وسائط مألوفة -مسموعة أو مرئية أو ملموسة- لتخرج منها ما هو غير مألوف. وفي صيغة حلم مستمرِ وفريدٍ يتجاوز الضرورة... سواءٌ كانت هذه الضرورة من أصل كوني كلّي- أي ناجمة عن العمليّة الديالكتيكية الهائلة لحركة المادة- أو كانت من أصل بشري داخلي ومحدودٍ كتلك التي تنتجها -وتعيد إنتاجها باستمرار، وتحت مختلف الأشكال والصّيغ والتسميات- عملية الصيرورة المجتمعيّة والتطوّر البشريّ العام خلال التاريخ.
        وإذا كنّا- من وجهة نظر المعاناة الإنسانية لتراجيديا الوجود البشري ذاته- نستطيع أن نلخص مفهوم "الضرورة/ الأساسي" على المستوى الكوني بأنّها: حتمية الموت..
        وإذا كنّا نستطيع إيجاز مفهوم الضرورة- بمختلف أشكالها وتسمياتها- على المستوى المجتمعي، وخلال التاريخ كلّه.. بأنّها: حتمية الصراع بين فئات المجتمع الواحد وشرائحه وطبقاته، وبين مجتمع وآخر، إلى أنّ تظهر في سياق التطور البشري مستجداتٌ مغايرة،
        فإنّه يمكننا أيضاً أن نقول مؤكّدين: إنّ الضرورات جميعاً تتجلّى متراكبةً في ظواهر، كثيراً ما ضلّلت العقل البشريّ عن إدراك حقيقة الضرورة- أو مركّب الضرورات- فيها.
        وإنّ الفعّالية الإبداعيّة الأدبيّة والفنيّة على وجه التحديد هنا- قد تلمّست تلك الحقيقة بالحْدسِ الفرديّ القويّ، الذي يستثيره لدى المبدعين ذلك الحسّ العامُ بالكرامة الإنسانية وهو يتحرضُ كردٍ على إذلال الحتميات الكونية والمجتمعية للبشر، فيما هؤلاء ينمّطّون وجودهم عموماً وفق مقتضيات الإستجابة لما تفرضه عليهم اشتراطات الظواهر من تحدٍ ومواجهة.
        ملاحظة... إنّنا نلمس هنا، أنّ ذاتَ المبدع- فيما هو يُبدع- تضربُ إلى ماهو أعمقُ جداً من الظاهريّ الذي يستغرقُ فعّالية الآخرين. وهنا ينجلي لنا جوهر العملية الإبداعيّة على أنّه أساساً سعيٌ لإنجاز الحريّة بالمعنى الفلسفي للكلمة.
        فحيثُ تعجزُ الوسائط الماديّة للبشر في مستوى ما، مِنْ مستويات وجودهم، عن تجاوز حتميات واقعهم، يطمحُ الإبداع الأدبيّ والفنيّ إلى الاضطلاع بهذه المسؤولية. ولكنْ، بطرقه ووسائله الخاصة.
        إنّه يساهمُ بالنتيجة في إعادة التوازن المفقود إلى القاع الروحيّ للجماعة التي يخاطبها، وينجز -على طريقته- واقعاً أعلى، وإنْ في الحلم... وهذا يمكن من انتصار الحريّة على عبودية الواقع الواقعي الحدثي الظاهري" الذي ما هو إلاّ نتاج متمظهر لمركب الضرورات وعلائقها في النهاية.....
        إن "النقد الواقعي" عندنا لا يُريد، ولا يستطيع أن يتجاوز حدّاً من معطيات العلم الرياضي/ الاجتماعي، وحدّاً من المنطق العقلي المخصوص... وللأسف فإنّ هذين الحدّين محفوظين ومنقولين كـ"كليشيهات" لنقل كنصوص من طبيعة لاهوتية!!
        في مثل هذا "العلم"! ومثل هذا "المنطق"! لا وجود "ليونغ" واكتشافاته العظيمة في علاقة الفرد بمجمل التجربة التاريخية للبشر... وأصلاً، لا وجود للفرد في ذاته إلاّ بمقدار ما يكون "حرفاً" في الخطاب الأيديولوجي.
        إنّ الأحاديّة هنا تنكشف على مداها... والقصور يبذرُ في أشدّ صوره إساءةً، حين نعودُ إلى موضوعة أنّ الطموح البشريّ لخرق حدّة تراجيديا الوجود الإنسانيّ، وكسرها وتجاوزها، لا يلبيّه الحوارُ الرياضيّ مع القانون، ولا الحوارُ المنطقيّ الفلسفي، ولا الاستبدالات اللاهوتية مهما تكن صيغها وأسماؤها!!
        والأدب والفنّ في محاولتهما الاستجابة لذلك، يخترقان الظاهريّ والحدثيّ، ويستخدمان صيغاً معدّلة منهما، سعياً للغوص الناجع في التأسيسات "الكبرى... ونحو إقامة "أرض" الأدب والفنّ، الجديدة والمتعالية كما بيّنا قبلاً.
        وهكذا تطرح علينا كأولويات مسائل تدخلُ في صُلبِ نظرية الأدب؛
        -كمسألة تحديد صلةِ الأدب بالواقع.
        -ومسألة دور الأسطورة في إنشاء الأدب.
        -ومسألة أسْطرَةِ "الراهن" و"المباشر" الحدثيّ الذي به وعبره يتمّ التعبير عن مركب الواقع.
        -ومسألة حدود التشابك والتفاعل بين الموروث المفهومي /اللغوي/ القيمي/ الاعتقادي، وبين مستجدّات الراهن في ما أسميناه "مركّب الواقع".
        وهذا كلّه يحوّلنا إلى مسألة البحث في خصوصيّة التكوّن التاريخي لمجتمعنا، وتحديد أصوله المتأصّلة، وعلاقاتها بما هو إنسانيّ عام... ثمّ الكيفية الفردية التي بها المبدع -ووفقاً لشروط تكوينه المخصوصة -يتمثّل مركبَ الواقع ويعبّر إبداعياً عنه، فيما هو يعاني تراجيديا حياته ذاتها، تحت ثقل هذا المركّب وعبره، ومنْ خلال انكشافاته الحديثة بماهي "الراهن" و"المباشر"...
        وهكذا وجدنا أنفسنا أمام أوّليات منهج في النقد قد لا تكون -مفردة- جديدة بتاتاً، ولكنّ الجديد فيها هو استخدامها كمركب معياريٍ مُوحّدٍ، لكشف فردّية العمل الإبداعيّ أساساً، بما هذه الفردية- بكلّ ما تعنيه من موهبةٍ وثقافة وقدرةٍ على التعبير والإيصال والإمتاع- هي الإطار الوحيد الممكن لانكشاف "العام/ مركّبِ الواقع في صيغة الكلية والشاملة.
        أما "النقد الأخلاقي أو الديني
        " عندما يريد أن يقوّم عملاً فنياً هو في الأصل غير ناشئ عن الإرادة التي هي قوام الإنسان الخيّر، لكنّها قطعاً ليست قوام الإنسان الفنان، فإنّه يعجز عن تقويم ذلك الأثر الفني.
        فقد تعبّرُ الصورة مثلاً عن فعلٍ يحمد أو يذمّ من الناحية الخلقية... لكنّ الصورة من حيث هي صورة، لا يمكن أن تحمد أو تذم من الناحية الأخلاقية، لأنّه ليس ثمّة حكم أخلاقي يمكن أن يصدر عن عاقل ويكون موضوعه صورةً.
        يقول كروتشيه: "إن الفنان فنان لا أكثر، أي إنسان يحبّ ويعبّر وليس الفنان من حيث هو فنان عالماً، ولا فيلسوفاً، ولا أخلاقياً... وقد تنصبّ عليه صفة التخلق من حيث هو إنسان، أما من حيث هو فنان خلاّق فلا نستطيع أن نطلب إليه إلا شيئاً واحداً: هو التكافؤ التام بين ما ينتج، وما يشعر به..." "لو صحّ لنا أن نقبل ما زعمته المدرسة الأخلاقية في الفن... لمات الفن مختنقاً بأبخرة المعابد، ولوجب أن نحطم كلّ التماثيل العارية التي نحتها ميكيل إنجلو، والصور البارعة التي رسمها رفائيل، لأنّها إثم يجب أن لا تقع فيه العين.
        لو ذهبنا مع أشياء المدرسة النقدية الأخلاقية حيثُ يريدون، لوجب أن نخرج من حظيرة الشعر الجيّد قصيدة النابغة الذبياني -المتجردة- التي قالها في زوجة النعمان، وقد انزلق مئزرها عن نهدين، شابين، مرتعشين:
        سقط النصيف ولم تُرِدْ إسقاطه
        فتناولتهُ، واتَّقتنا باليد.
        ولكان علينا أن نلعن النابغة، ونعتبره ضالاً لا يستحق أن نقرأ سيرته وأشعاره.
        وكذلك معلّقة امرئ القيس وغيرها من القصائد الباقية على الزمان في ديوان عمر بن أبي ربيعة وغيره من الشعراء.
        ونحن من خلال تحليلنا هذا لمشكلات النقد العربي ما تجاوزنا تصنيف المذاهب النقدية المتعارف عليها لدى النّقدة ومصنّفي تاريخ النقد العالميّ، على تعدّدها، لأنّها تندرج ضمن المشكلات النقدية الأربعة السابقة، ومنضوية تحت لوائها، وأهمها:
        1. النقد الذاتي
        1. critique subjective
          <LI value=1>النقد الموضوعي critique objective
          <LI value=1>النقد الاعتقادي critque dogmatic
          <LI value=1>النقد العلمي critique scientifique
          <LI value=1>النقد التاريخي crItique historique
          <LI value=1>النقد اللغوي critique languestique
          <LI value=1>النقد التأثري critique improssionist
          <LI value=1>النقد الواقعي critique realism
          <LI value=1>النقد الأخلاقي critique Morality
          <LI value=1>النقد الاستدلالي critique inductive
        2. النقد الحكمي cirtique judicial
        أمّا النقد الجمالي أو التأثري..
        فإنّ النقد الجماليّ والتأثري هو النقد الذي يرتكز على جماليّة الصياغة؛
        1. فيَعُدُ هذه الصياغة أساساً لخلود العمل الأدبي. ويغلّبها على المضمون.
          <LI value=1>ويعتمد على الذوق الذاتي في معرفة مواطن الجمال.
          <LI value=1>وأنّ العبرة في نظم الألفاظ وهندستها، لا في الألفاظ نفسها.
        2. وغرضه... تمييز الأعمال الأدبية بعضها من بعض.
        وتمييز الأدباء بعضهم عن بعض.
        والكشف عن فرديّة الأديب، واستخلاص السمات النفسيّة، والفنيّة والاجتماعية التي ينفرد بها من خلال مؤلّفاته الأدبية.
        نشأته...
        ينشأ هذا النقد معتمداً على النظرات الفرديّة الجمالية، والإنسانية، والأفلاطونية المثالية القائلة: "إنّ السعي وراء الجمال هو سعيٌ وراء الخير أيضاً، وإنّ الحبّ الإنسانيّ والروحيّ هو الذي يوصلنا إلى الكمال، يرفعنا إلى عالم المثل، حيث يختلط الحقّ والخير والجمال"(1) "
        وينشأ نتيجة لشعور الإنسان بكرامة الفكر، وحريّة الرأي، وقيمة الفرد. ومن أجل ذلك... يشيد بالقيم الجمالية الخالصة.
        ... ويعتمد على الذوق والإحساس الفرديين للتعرّف على الجمال.
        ... ويمتدح البساطة والألفة، ويجعل منبعهما القلب وحده.
        ... ويجعل مهمّة النقد، التواصُل إلى فرديّة الأديب وتميّزه.
        .. وإلى أن خلاص الإنسان في قلبه، لا في عقله. وأنّ الإحساس قد يكونُ أهدى سبيلاً من العقل.
        وهكذا يجب والحالة هذه على منهج النقد الأدبي الجمالي أو التأثريّ أن يستمدّ من الأدب ذاته، على تقدير أنّ الأدب صياغة فنيّة، أي عبارة جميلة، موحية، معبّرة عن موقف إنساني. تتجلّى في هذه الصياغة شخصيّة الكاتب. وأصالته، وموقفه من الناس، والطبيعة، والفنّ. وفي طرق الصياغة يتمايز الكتّاب. ومن تحليل الصياغة نُدرك خصائص الكاتب النفسية والفنية.
        طرائقه..
        في هذا النقد يتناول الناقد النص كلمةً كلمةً، وجملةً جملةً... وأمام كلّ كلمةٍ أو جملةٍ يضع مشكلة، ويحاول حلّها معتمداً على ذوقه الأدبي الشخصيّ:
        1. فهو ينظر إلى الألفاظ، وانسجامها الصوتيّ، وتلوينها العاطفي. وأصباغها البلاغية.
          <LI value=1>وينظر إلى نظم الألفاظ، ودلالاته الفنية والنفسيّة.
          <LI value=1>كما ينظر إلى الصورة ووظيفتها، وتشكيلها للمشاهد.
          <LI value=1>وينظر إلى الصفات واستخدامها، ومدى تواؤمها مع موصوفاتها
        1. <LI value=1>وإلى الموسيقى في الشعر، والإيقاع في النثر، والحركة في اللون.
        2. ونقد الأدب الجماليّ أو التأثريّ، هو نقد وضعٍ مستمر للمشاكل الجزئية في النص:
        أ-فقد يكون في تنكير اسم.
        ب-أو نظم جملة.
        جـ-أو كبت إحساس.
        د- أو خلق صورةٍ.
        هـ - أو التأليف بين العناصر الموسيقية في اللغة.

        وقد يخلو الأدب من كثيرٍ من العناصر التي نُعدّدها: كالخيال، أو العاطفة، وما إليها، ومع ذلك يروقنا لصياغته، وهذا ما نسميه بالمنهج الّلغوي، الذي أوّل من ابتدعه وطبّقّه منذ القديم عبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز".
        نتيجة...
        وأرى أنّ الأساس في كلّ نقد هو الذوق أو التأثير. فنحن لا نستطيع أن ننقد نصاً أدبياً ما لم نتذوّقه، وما لم نعرّض أنفسنا لتأثيره... والذوق الذي أعنيه:
        1. ليس ذلك الذوق الغفل القائم على التحكّم، والتعصّب، والهوى.
          <LI value=1>إنّما هو ملكةٌ يهبها الله من يشاء، تنمو بالثقافة، وترهف بالمران، وتصفو بالممارسة.
        2. وهو أي الذوق، راسبٌ من رواسب العقل والشعور، مع الحدس واللاّشعور. فهو يمثّل خلاصة تجاربنا. ومعارفنا ومشاعرنا، وإحساساتنا التي تجمّعت فينا، وترسّبت في أعماقنا، وسكنت في خواطرنا، وأصبحت جزءاً منا.
        أخطاءُ هذا النقد..
        يخشى في منهج هذا اللون أو الشكل من النقد؛ أن يظلّ الناقد حبيس النصّ الذي يدرسه، فلا ينظر إلى العلاقة بين هذا النصّ وبين الواقع الاجتماعي، والبيئة، والتراث الأدبي، وأعمال الأديب الأخرى.
        كما ويخشى أن ينصبّ اهتمام الناقد على الشكل دون المضمون، أو العكس، وأنّ هناك من الذوق مالا يمكن تعليله، فقد يحسّ الناقد جمال النصّ الأدبيّ ولكنّه لا يستطيع تحديد الجمال وتفسيره.
        ومنه ما يعلّل بالرجوع إلى أصول التأليف التي نستمدّها عادة من كبار الكتّاب الذين حكم لهم الدهر بالبقاء أي بمعياريّة قبلية) تلغي شخصيّة الأديب.
        أمّا حينما نعلّل تأثيراتنا، ونسوغها ونُقنعُ الآخرين بسلامتها وصدقها، وشرعيتها. عند ذلك فقط يتحوّل الذوق أو الإحساس إلى معرفة مشروعةٍ لدى الآخرين(2) .

        فما هو الأدب، وما موقفه من الأسطورة..
        إنّ الأدب فعّالية إبداعية ذات كيفيّة خاصة ومتعالية، لإعادة إنتاج الوجود البشري، بصورة جذريّة وشاملة... والآن ما هو موقع الأدب من المعارف الإنسانية؟
        موقع الأدب ككل معرفة علميّة، أو فلسفيّة، أو دينيّة، تبحث في الظواهر عن "القانون"، وتخاطبه، أو تحاوره بطرائقها.
        1. ففي العلم: يكون الحوار مع القانون، بمعرفته رياضياً من أجل وضعه في الخدمة ما أمكن.
          <LI value=1>وفي الفلسفة: يكون خطاب القانون، بتعرفه منطقياً، دون التعامل معه عملياً.
          <LI value=1>أمّا في الدين: فيجري تجاهله بالاستسلام، وتقديم عزاءات بديلة.
        2. وأمّا في الأدب والفنّ: فالأمور مختلفة جداً.
        القانون بالنسبة للأدب والفنّ، موجودٌ في الواقع. وهما لا يأخذان الوقائع بذاتها كما هي، لأنهما لا يهدفان إلى حوار القانون فيها -الوقائع- رياضياً أو منطقياً، كما إنهما لا يتجاهلانه بالاستسلام له، ولا يطمحان إلى تقديم العزاءات البديلة.
        في الأدب والفنّ: يكون الحوار مع "وقع القانون" على الروح الإنسانية، على تقدير أنّ هذه العلاقة هي في ذاتها "تراجيديا الوجود البشري(3) ... وليس مع القانون ذاته.
        هذا الحوار مع "وقع القانون" أو ارتساماته ينطلق من "الحدثيّ والظاهريّ" بما هو صيغة انكشاف القانون وتجليه. والهدف هو خرق تأثير ذاك "الواقع": بالتوصيف أو الاحتجاج، أو الإبدال أو الرفض الخ... وقد يكون هناك عزاءٌ، ولكنّه ليس عزاء الاستسلام، بل عزاء التعالي. وهذا يخلق "أرضاً" متعالية جديدة.
        واللغة هنا- في الأدب تحديداً-: لم تعد وسيلة، بل تصبح هدفاً في ذاتها، وعبر تكوينها من جديد.
        والزمن الفنيّ هنا: لا يستهدف مطابقة ذاته بالزّمن الواقعيّ، إنّه حالة انشقاق وتعال "منه وعليه"
        وباختصار: يكون الأدب هكذا، تلبية طموحات الروح الإنسانية، لا بما هي محكومةٌ بحتميات(4) القانون وعبوديات الواقع، بل بما هي خروج على هذه العبوديات باتجاه حرية الخلود، إنّه بالتالي تعبير مطلب الاستحالة الذي لا يكون... ولكنّه يكون! وهذا لا يعني أنّ الأدب والفنّ يتجاهلان كلياً العقل المحض، فالروح الإنسانية التي هي مركّب انفعالات الكائن بتراجيديا وجوده، تتخلّق هي أيضاً في العقل وتقومُ به، تماماً كما ينهض هو عليها... غير أنّ لكلّ منهما في "حوار الوجود" طريقه المستقلّة نسبيّاً.... هنا كما أرى تقع خصوصيّة الفعّالية الأدبيّة.
        إذن الأدب في حواره مع "وقع القانون" ينطلق من الواقع الواقعيّ الحدثيّ الظاهريّ، كما يقيم واقعه الفنيّ المتجاور.
        هذه العملية ترتبط كلياً بذاتية الفرد التي هي نتاج تركيبي معقد لفعل العام في الخاص، أيّ أنّها "وجود مشروط" داخل كينونة إنسانية/ مجتمعية... راهنة/ تاريخية، في الوقت ذاته... بهذا يكون إبداع أديب ما نتاجاً جمعياً، في الوقت الذي يلوح لنا فيه أنّه تعبير منتهى الفردية!
        لكنّ الحدثيّ الظاهريّ، لا يؤخذ في الأدب كتصنيف حسابي مدقّق.. أي بما هو ذاته ليس غيره، وإنّما يؤخذ منه -وفق مقتضيات هدف التجاوز الأدبي
        -ومن وجهة نظر الفرد المبدع.
        -وبما يتلاءم مع كامل استعداداته في لحظة الخلق الأدبيّ، إيّاها!
        الأديب إذاً يبدع وفق استجابته في لحظة ما، لانفعاله بتراجيديا الوجود البشري عبر انفعاله أولاً وأخيراً بتراجيديا وجوده الشخصي.
        وهو-الأدب أو الأديب -لا يكون مفهوماً من الآخرين لأنّه يستعمل لغة مشتركة وحسب، بل يكون مفهوماً أساساً لأنه يستند إلى قاع اللاّشعور الجمعيّ الذي يحوي في داخله منظومة الرموز الكبيرة، والتي هي خلاصة نتاج التجربة البشريّة، كما أوضح ذلك جلياً "كارل يونغ" صاحب مدرسة علم النفس التحليلي.
        ولذلك.. فإنّ الأدب والفنّ يضربان دائماً باتّجاه الأسطورة.
        ***
        لا يشكّل الأدب حالة افتراق كبرى مع الأسطورة فقد(5) تبدو، الأسطورة نمطاً معرفياً متعالياً على أساليب الأدب والفنّ والعلوم والفلسفة معاً من جهة، وتبدو -من جهة أخرى كصيغة مخصوصة وفريدة لكشف كامل بما سميناه "التأسيسات الكبرى"
        وتبدو لنا هذه الصيغة وكأنها استكناهٌ لجوهر الوجود البشري ذاته، في بدئه وإلى حدٍّ ما في مصائره... ولكنْ، بتصور يقع: خارج التاريخ كلياً، وداخله كلياً، في الوقت ذاته!
        ولكنّ الأسطورة تقدّم "نمذجة" شبه قطعيّة لرموزها، واستعمال هذه النماذج بعد انتهاء مرحلة النمط المعرفيّ الأسطوري، لم يدخل على مدلولاتها تعديلات جوهريّة أو مهمة.
        ولقد كان من أهم مكتشفات الانثروبولوجيا الحديثة(6) . أنّ مختلف التعبيرات الأسطورية لشعوب كثيرة، في أزمنة متباعدة، وأمكنة متباعدة، يمكن إرجاعها إلى عدد محدودٍ من البنيات أو المفهومات الدلاليّة الأساسيّة، غير أنّ غناها يكمن في التنوّع غير المحدود لطرائق استعمال تلك البنيات والمفاهيم، بتركيبها المتوالي مكيّفة مع الشروط التاريخيّة المخصوصة للجماعات المختلفة التي أنجزتها... وفي هذه النقطة تكمن إحدى أهمّ استرجاعات الأدب، وإحدى أهمّ طرائقه.
        ولكن قبل أن نبحث في علاقة الإبداع الأدبيّ بالأسطورة.. نتساءل: ما هي علاقة الأسطورة بالواقع التاريخي، أي بمركّب حصائل التجربة التاريخية البشرية كما تتبدى في الواقع الواقعي؟!
        -من وجهة نظر معيّنة، تتعالى الأسطورة على التاريخ كما قلنا، هذه حقيقة.

        -ومن وجهة نظر أخرى، الأسطورة كائنة في التاريخ بما هي منظومة رموز كبرى ومنبثقة من تجربته العامّة، هذه حقيقة أيضاً.
        والآن... هل المواجهة البكر للبشر، مع حتميات الطبيعة والكون، كالموت) ومع المعطيات الأولى للوجود الجمعي فالاجتماعي، التطور والصراع)
        هي التي جعلت الوعي البشري ينجز هذا "التأسيس" المتفارق؟... ربما.... غيّر أنّنا لسنا معنيين هنا بمتابعة المسألة من هذا الجانب.
        ما هو أمامنا، يتمثّل في أنّه الردّ التأسيسي الذي نمّط أشكال عمل الوعي لدى السّلالة العاقلة "سلالتنا التي خرجنا منها- على تراجيديا الوجود الإنساني"
        فهي بهذا المعنى: حامل محمولات كلّ واقع واقعيّ، ومحور تمظهراته الحديثة والظاهراتية.
        إنّ الأسطورة -والحالة هذه- بما هي تعبير عن تأسيسات الماضي القائم، في كلّ راهن تفرض علينا البحث عنها خلال التاريخ كلّه. لا في الاستعمالات الأدبية فحسب بل أيضاً وراء كلّ التكوّنات التي تفرض أنماط السلوك. والفاعلية البشريّين.
        وبهذا المعنى. يعيد كلّ عصر "أسطرة" وعيه. لماهيّة الوجود، ولمبادئه الأساسيّة ومصائره... وهكذا تكون الأسطورة عنصراً محورياً بين جملة العناصر التي تحدّد طبيعة الصيرورة واتّجاهاتها ومحصلاتها.
        وبناء عليه، فإنّ كشف العلاقة، بين هذا "العنصر المحوري" للصيرورة في تاريخيّته -وبما هو جملة منظومات رموز أو أنساق رموز متكيّفة، بها تعبّر الفعالية الإنسانية العامة عن ذاتها- تجليات الواقع الواقعي في راهنيته. المقصودة، يجب أن يكون أساس القصد المنهجي لكلّ محاولة في تأسيس نقد ناجع وشمولي.
        والآن قولوا لي بربكم: هل توفرت مثل هذه الدراسات لدى بعضنا ممّن يطرحون أنفسهم نقاداً؟ أو يتصدّون في كل أمسية إلى إطلاقات عامة تمسّ أولا تمس موضوع الأمسية؟
        ***
        الوعي البشري، إذاً يعمل -في علاقته بذاته من جهة- وعلاقته بالطبيعة والكون- من جهة أخرى.

        على أساس ما أسّسه في مواجهاته البكر، من منظومة رموز أسطوريّة كليّة... ولأنّه في صيرورة دائمة، انسجاماً مع الحركة الدائمة لمادة الكون، فإنّه قد فرّع وركّب وولّد من منظومة الرموز الأساسيّة، منظومات وأنساقاً دلالية متراكبة من الرموز الافتراعيّة... الرموز المتجدّدة باستمرار، والمحالة في الوقت ذاته إلى الأسس(7) .
        في الاختراع الأهمّ الكائن البشريّ، وهو يعبّر عن ذاته: في اللغة؛
        خلق الإنسان "جهاز" حفظ المنظومات، وأنساق الرموز الدلالية المتراكمة عبر تاريخه.
        قلنا: اختراع اللغة، أهمّ ما أنجزه لكائن البشريّ على امتداد الأعصر.
        واللغة غير الكلام.. هذا ما أوضحه جيداً، العالم "دي سوسور".
        اللغة ليست مجموع الكلام وفق قواعدها... إنّها حالة ضرب وغوص بعيد في المنظومات والأنساق المذكورة، ولون من إعادة التشكيل لها، مستخدمة ما هو "مجموع الكلام وفق القواعد" كمادة أولية.
        اللغة الواحدة إذاً هي "لغات" بعدد مستعمليها. ومن وجهة النظر هذه فحسب. غير أنّها تظل واحدة، أي قابلة "لمعرفتها المشتركة" من قبل مجموع مستخدميها... الذين تكوّن وعيهم كلّه فيها وبها.
        اللغة، وهي -انسجاماً مع طموح البشر وهمْ يواجهون معضلة الموت عبر إحساساتهم واستجاباتهم، المخصوصة، والكلّية بتراجيدياتهم -تتّسم بأنّها تعبير محاولة خرق الزمان وتحقيق الخلود.
        وخلافاً للعلم والفلسفة والدين، لا يشّكل الأدب حالة افتراق كبرى مع الأسطورة ومجمل الأنساق الرمزية الدلالية المتأسّسة عليها.
        1-شكل حوار العلم مع القانون
        -عبر الظواهر- وطبيعة الحوار وأهدافه، يقيم حالة قطعية كاملة مع كلّ الأنساق الرمزية الدلالية وأسُسها الأسطورية... "وهذا واضح بما فيه الكفاية، فالرموز الرياضية، والمصطلحات العلمية لا تقول إلاّ ذاتها، ولا يمكنُها أن تحمل أيّ بعد دلالي أعلى من منطوقها ذاته"(8) وفي التطبيق يفصح الهدف كلياً عن تلك القطيعة الكلية.
        2-الشكل المنطقي المعماريّ الذي يعتمده حوار الفلسفة مع القانون
        ، هو أيضاً يضع منجزه في الإطار الرياضي بمستوى ما. إنّ مصطلحاته تستهدف ألاّ تقول إلاّ ذاتها. "والمتأسّس على علائق المصطلحات تلك، عبر إنجاز هذه العمارة) من الرؤيات الفلسفية أو تلك، ربّما لا يقبل الإيحاء، ولكنّه لا يسمح به إلاّ في إطار مسيره البنائيّ المتكامل.. الذي يستهدف دائماً أن يكوّن رؤية) جامعة مانعة من جهة، وأن يعاير ذاته بالعلم في كلّ مرحلة من جهة أخرى"(9) هنا أيضاً نجد حالة القطيعة مع الأسطورة، ومجمل أنساق الرموز الدلالية المتأسّسة عليها، كما بالنسبة للعلم، ولكنّ الصيغة هي المختلفة.
        3-أمّا في شكل الحوار الديني للقانون
        ، فثمّة صيغة ثالثة للقطيعة المذكورة.. هنا نجد تجريد التراجيديا، والتجربة التراجيدية للوجود الإنساني كلّه، في مفهوم واحد بسيط هو: امتحان المخلوقات بمحنة الوجود... وهذا بالطبع يحيل الوجود والكون إلى واحدة من لحظات الميتافيزيقيا. "وتعني الميتافيزيقيا علم ما وراء الطبيعة... وهي شعبة من الفلسفة تشمل الانطولوجيا علم الوجود. والكوزمولوجيا علم أصل الكون.. والانتولوجيا علم الوجود وحده". نتيجة الامتحان تقع في "لحظة" أخرى من لحظات الميتافيزيقيا، حيث يكون الثواب والعقاب.
        إذاً هنا الحوار هو، مقابلة تجريد بتجريد، والاستسلام هو شرط قبوله.
        والرموز الدينية، على هذا، مخصوصة وثابتة. إنّها منظومة، "ولكنّها أيضاً جامعة مانعة"
        فالرموز هذه لا تنمو، ولا تولد، ونسقها الدلالي لا اجتهاد فيه.. إنّه أوحد ووحيد، ولا يقبل إلاّ ذاته، مهما تطاولت "لحظة الامتحان".
        هنا.. وفي هذا كله- علم، فلسفة، دين -تقع صيغة هذه القطيعة الثالثة المعنية.
        4-أمّا في حالة الأدب والفنّ
        ، فليست ثمّة قطيعة مشابهة لإحدى الصيغ الثلاث.. هناك حالة افتراق الفرع عن الأصل فحسب.
        ولقد قلنا في فقرة سابقة -الصفحة الأولى- إنّ الأدب والفنّ لا يحاوران القانون في الظاهرات، بل يحاوران "وقعه" أي تأثيراته بما هي "مفردات" تراجيديا الوجود البشري.
        المستهدف في "لعبة" الأدب والفنّ، هو أصل هذه التراجيديا: معضلة الموت، ولكن عبر "المفردات" جميعاً: التأثيرات.. الظواهر.. ردود الفعل البشريّة في كلّ مظاهرها وأشكالها ومستوياتها.
        -العلم.. يحيل الزمن إلى التزمّن.
        -الفلسفة... ترفع الزمن إلى الزمان.
        -الدين... يلغي الزمن بإحالته إلى الميتافيزيقيا.
        -أما الأدب... فهو يحاول خلق زمن البديل، عبر استخدام "مفردات" الزمن الموضوعي /الذاتي، باللغة، وبمحمولاتها، من أنساق الرموز الدلاليّة المتأسّسة على منظومة الرموز الكبرى كما تفصح عنها الأسطورة.
        هذا مع العلم أنّنا قلنا قبلاً: إنّ الأسطورة تقع خارج التاريخ، وتقع داخله في وقت واحد... أي أنّها تحمل الزمن، فيما هي تتجاوز الزمان.. إنّها بهذا المعنى، وفي صلب طبيعتها كمحاولة أنسنةٍ، لأساس التراجيديا البشرية، بتجريد مفرداتها في رموز: تلغي الفردية، أو هي تتجاوز "الذاتي" و"الفردي" إلى "الشمولي" و"الكلي"، وهنا يقع أهمّ أسس افتراق الأدب عنها. "أي الأسطورة"(10) .
        إنّ الأدب يبدأ من "الفرد" ومن "الفرديّة" وعبر مفردات "وقع القانون" بما هي مفردات التراجيديا، كي يستكشف "الكليّ" خالقاً عبر ذلك محاولته في التجاوز نحو الحريّة -بالمعنى الواسع للكلمة- فهو دائماً في إعادة تركيب وتجديد وتطوير لأنساق الرموز الدلالية، ومن وجهة نظر ذاتية على وجه التحديد.
        ملاحظة... بما أن الفرديّة متأسّسة وناجزة في سياق تبدّيات "المركّب الجمعيّ" فهي شكل اتّصال الخاص الإنساني بالعام المجتمعي، وليست شذوذاً على هذا العام أو نشازاً عنه... وسنعبر عن نشاز الفرديّة بمصطلح "الفردانية" وعن شذوذ الذاتية بمصطلح "الذاتانية".
        باستثناء الخطاب الأدبيّ، يقوم كلّ خطابٍ معرفي:
        -الخطاب العلمي.
        -الخطاب الفلسفي.
        -الخطاب الديني.
        -الخطاب الأسطوري.
        بإلغاء الفرديّة، والذاتية، أو بتجاوزهما، وإهمالهما كلّياً، وفق ما بينّا ففي الخطاب الأدبي، تكون الفردية والذاتية أساس تشكيل النصّ ومحور استكشافاته... ودون أخذ هذه الأطروحة -أو المقالة- كمستند أوّلي للنقد؛ تفقد المعياريّة قيمتها، ويستطيع النقد "أو الناقد" أن يتسمى بما شاء، ما عدا تسميته "النقد الأدبي" أو "الناقد الأدبي".
        1. فمعياريّة العلم تصلح للعلم.
          <LI value=1>معيارية الفلسفة تصلح للفلسفة.
          <LI value=1>معيارية الدين تصلح للدين.
        2. معيارية الأسطورة تصلح للأسطورة "إذا كان للأسطورة معيارية".
        وفي كلّ هذه الصيغ التي ينتهجها الخطاب المعرفي، تنبع المعيارية من داخل كلّ صيغة بذاتها فحسب...
        5.أمّا في الأدب فالأمر مختلف تماماً.
        إن معياريّة تقويم الخطاب الأدبي ّ- لا تنبع من داخله النصّي فحسب.
        -ولا من خارجه المعرفيّ فحسب.
        -وهي لا تتحصّل بالجمع الحسابي بين هذين الحدّين، إذْ لا بدّ أن يقع مثل هذا الجمع في التبسيط والتلفيق.
        -بل يجب أن تقوم هذه المعياريّة على "مركّب محصّلات" نظراً لتفاعل حدود كثيرة، تعمل على تركيبها، وهي:
        1-الفردية في تعبيرها- انفعالياً- عن إدراك ذاتها داخل "موضوعها" المجتمعيّ /الطبيعي/ الكونيّ، وبما أنّ هذا الإدراك لا يستهدف "العلم" بل يستهدف الاستجابة لوقع التراجيديا الإنسانية، عبر الصيغة الذاتية المخصوصة هنا.
        2-شرط انكشاف ذاك الموضوع للذات. والانكشاف هنا: مفردات "وقع القانون" في أطرها الزمنية "الذات" وبما هو مدرك وفق تحصيلات الذات من مركبات أنساق الرموز الدلاليّة العامة.
        3-صيغة تبدّي هذه التحصيلات فردياً خلال النصّ بماهي لغة.. إنّ "تبدّيها فردياً" يعني: كيفية إعادة امتلاكها من قبل مبدع النصّ.
        4-تتخّذ اللغة هنا سمة "حياة كاملة" بمعنى ما.. إنّها لا تعود كلاماً، أي مجموع تعبيرات تواصل "مقعّدة" التركيب والمعنى، بل تعطي -هكذا- مستويات متعددة من الدلالة إنّ كينونتها الحيويّة النصية، هي مؤشّر قوة موازاتها للحياة الواقعية وتقاطعها معها من أجل تجاوزها.
        5-هذه ليست كلّ الحدود التي يجب أن تتأسس المعيارية النقدية على محصلات علائقها التركيبية -لأنّ هذا خارج حدود ما نوده هنا-.
        6-وما نودّ توكيده، هو أنّ كلّ معيارية يجب أن تتمتع بالديناميكية أمام النصّ، وبقدرة تعديل ذاتها بما لا يخل بعلائق حدودها المتأسّسة عليها.
        فهم جماليّة النصّ...
        إنّ امتاع النصّ وفائدته، يقعان في قوة "حيويّة كينونته"، وتحديداً في مقدار ما يستطيع "الخاص الإنساني" الذاتي الانفعالي أن يكون عاماً، ومتجاوزاً بالنتيجة، أي بقدر ما يستطيع النصّ منح الإحساس بالإفلات -عبره- من الثقل الكثيف المبهظ للتراجيديا البشرية. وذلك عن طريق حسن التقاط مفرداتها الحديثة داخل البناء الفنيّ الأدبيّ، وجعل المتلقي يقوم بعمليّة مواجهة لاشتراطات كينونته كمحصلة لفعاليتي، الكتابة، والتلقي.
        إنّ جمالية النص تبدر أساساً من ها هنا. لا من مجرّد تحقيق متطلبّات القواعد الخارجية والقبليّة التي تضبط الشكل... ولكنّ هذا لا يعني أنّ تحقيق تلك المتطلبات هو واحد من الشروط الأساسية التي تحدّد النظام المعياريّ للجمالية. فالقواعد الخارجية والقبلية هي تعبير ميراث المزاج الجمعي العام، وهي بذلك ضابط هام من ضوابط التلقي كفعالية موازية لفعالية الكتابة.
        غير أن المزاج الجمعيّ ليس ثابتاً إلى الأبد. إنّه حالٌ صائرةٌ، أي إنّه يتعدّل باستمرار متكيفاً مع مقتضيات. وهو بالمقابل لا ينقلب متناقضاً مع ذاته في قطيعة كاملة لأصوله. ولهذا فإنّ تطوير القواعد باستبدالات بعضها أو أجزاء منها ممكنٌ... أمّا محاولة تجاوزها كلياً في الاستعمال الفرديّ، فهو أمرٌ غير ممكن.
        ولفهم معنى "جمالية النص" إذاً، لا بدّ من الاعتراف:
        أولاً: بما هو أساسي من النواظم التي تحدّد خصوصية كلّ نوع من أنواع الخطاب الأدبي؛ القصيدة، القصة، الرواية، المسرحية، الخاطرة المقالة...
        ثانياً: ولا بدّ من الاعتراف أيضاً بالنهج القاعدي للاستعمال اللغوي، ولكنّ هذا ليس كلّ شيء بطبيعة الحال.
        إنّ كلّ نصٍ هو "لغة" أولاً وأخيراً... لغة بالمعنى الذي حدّدناه قبلاً وليس غير. وهنا يتبدّى لنا معنى كلمة لغة على أنّه: حياة، تماثل، وتقاطع، وتشاكل، وتعكس، وتواز، وتجاوز.
        إن مستوى قوة امتلاك "اللغة" في كلّ نصّ- مع أخذنا بعين التقدير كلّ ما أوردناه في الفقرات السابقة مما يخص تحديد ماهية ووظيفة تلك "الحياة/ اللغة"- هو في واقع الأمر مستوى الجمالية فيه، وحامل معياريتها، والإطار الذي يحدد اشتراطاتها.
        ونلخص ذلك، فنقول:
        1. إنّ فرادة استخدام كلام يحمل أنساق الرموز الدلالية المتأسّسة على منظومة الرموز الإنسانية الكبرى.
          <LI value=1>وتفريغ تلك الأنساق وتوليدها بما يتلاءم وقوة روح الكاتب، فيما هو يحاور تراجيديا الوجود الإنساني، عبر مفرداتها -اللغة- الحديثة، وعبر حوار تراجيدياه الخاصة أساساً.
        2. وبالتالي خلق المناخ النصي الأمثل، لجعل المتلقي يواجه اشتراطات كينونته المخصوصة.
        إنّ تلك الفرادة هي بالضبط محور جمالية النصّ، وأساس النظام المعياري للجمالية الأدبية الفنية بوجه عام.
        إنّ الجمال هو الإحساس الفردي -والمشترك العام في الوقت ذاته -بأنّ ثمّة حاجة نفسية قد أشبعت... وآلية تكوّن داخلي قد أرضيت وتحققت استجابتها للموضوع الجميل بصورة كافية.
        وتشير كلمة "فرادة" التي استخدمناها قبل قليل، إلى سوية أو صيغة استخدام الكاتب لمفرداته اللغوية فيما هو ينشئ نصه... إنّها -المفردات الفريدة- تحمل مدلول "الخصوصية الأسلوبيّة" ومدلول "الموهبة" في الوقت ذاته. وهي بالتالي حدّ الكيفية الذي عليه يجري إفراغ المضمون في الشكل. إذ شئنا التحدث وفق المصطلحات النقدية الشائعة.
        ملاحظة
        1- لاحظنا أنّ استخدام هذين المصطلحين "الشكل" و"المضمون" في النقد كان يثير دائماً مشكلة التفريق بينهما، بما هما العنصران الأساسيّان، والمتمايزان على اختلاف، في النص.
        والواقع، أنّه قد بذلت باستمرار جهود طيّبة لتلافي المشكلة. فكثر الحديث عن "وحدتها العضويّة"... إنما من غير فائدة كبيرة ملموسة. فدائماً كان يبقى هناك افتراق بين الكلام المقول في النص من حيث هو الشكل"، وبين الفكرة التي يحملها الكلام النصيّ من حيث هو "المضمون".. ودائماً كانت تبقى في التقدير مسافة ما بين الكلام النصيّ والفكرة المقصودة... ولعلّ مصطلح "الأسلوب" قد كان على الغالب هو الجسر الذي يمكّن من تجاوزالمشكلة، بالقفز فوقها.
        2-هذه المشكلة التي أثارها هذا الفريق المتّسم بالصورية المنطقية، قد شكّلت ثغرة واسعة في عملية معرفة النصّ. وقد نفذ ما سميناه "النقد المثاليّ" منها إلى المطالبة بتحويل النصّ إلى منجز شكلاني بلاغي... ونفذ منها "النقد الواقعي" إلى المطالبة بالتزام حدّ الوعظ الأيديولوجي... ونفذ منها "النقد النفسي" إلى المطالبة بإقامة النصّ في الشطح الذاتاني.
        وأرى لزاماً علينا أن نطرح السؤال التالي: هل مضمون النص هو فكرة أو مجموعة أفكار فحسب؟ إنّ الإجابة بالإيجاب تلغي مسألة الإبداع إلغاء تاماً، إلاّ فيما يخصّ المقالة كنوع أدبي.
        فإذا كانت مهمة النصّ هي أن يضع المتلقي في مواجهة اشتراطات كينونته على هذه السوية من صيغ المواجهة أو تلك، فإنّه يجب أن يكون قد تولّد أصلاً عن مواجهة عاناها منشئه أو كاتبه... فهو إذاً صيغة "حال" مخصوصة، لا تستهدف قول الأفكار، بل تستهدف إطلاق ذاتها من قيد الفرديّ، إلى رحابة العام المشترك وملائه:
        -إنّها بالطبع تتضمّن الأفكار، غير أنّها لا تنطقها.
        -إنّها تشي بها. وتستحضرها، ولكنّها لا تقولها... لأنّها تستهدف تجاوز اشتراطات الكينونة بكلية الروح، لا بالفكر وحده... فالتوصيف هو جزء من صيغة الحال تلك، وليس كلها.

        إنّ إعلان هذه الصيغة المخصوصة من حال المواجهة مع اشتراطات الكينونة باستهداف إطلاقها إلى رحابة العام المشترك الإنساني واملائه، أيّ إنشاء النصّ الأدبي، لايتم إلاّ باللغة..... اللغة بالمدلول الذي حدّدناه قبلاً، لا بما هي مجموع كلام مقوعد وحسب.
        إنّ مستوى قوة امتلاك اللغة، يحدّد مستوى قدرة منشئ النصّ على حريّة التصرف بأنساق الرموز الدلالية. وإعادة تشكيلها وتوليدها وتفريعها.. أو لنقل إعادة خلقها بالمعنى الفني الأدبيّ، وهو ما يحدّد بالتالي قوة حضور "صيغة الحال المخصوصة" في رحابة المشترك الإنساني وملاته، أي هو ما يحدّدُ قيمة المضمون وأهميته وتأثيره.
        إنّ لغة النصّ التي هي شكله، لا تكون هكذا مجرد شكل لإعلان المضمون، بل إنّها تكون هي الحال المضمون معلناً بذاته، في صيغة مخصوصة أتاحها ما أنجزه المشترك الإنساني تاريخياً. ولكنه عبر تمثّل فردي محض، يريد توكيد ذاته في إطار الشراكة والمشاركة.
        هل نحن هنا نتحدث عن الوحدة العضوية بين الشكل والمضمون؟!
        ليكن... ما دمنا نردم الثغرة التي خلقها التفريق النقدي الصوريّ المنطقيّ بين مفهومين كلّ منهما هو الآخر في حقيقته!
        إنّنا نرى النصّ الذي يقول أفكاراً تتمتع باستقلالية واضحة هو الأكثر عجزاً عن إعلان الحال- بالمدلول الذي حدّدناه لكلمة الحال قبل قليل- إنّه أي النصّ، يبقينا على مسافة بيّنة من أطروحاته، لأنّه لا يثير فينا ذلك المشترك بقوة جذبنا إلى المشاركة، ولأنه يملى علينا إملاءً... ولايدخلنا في التجربة.
        وفي النصّ، يبدو أيّ انكسار في زخم ظهور "اللغة" انكساراً في زخم حضور المضمون / الحال. فالنص يجادلنا بذاته، أي بما هو لغة منشئة، ولا يجادلنا بالأفكار التي ينوي صاحبه قولها لنا قبل الإنشاء.
        ويبدو لنا واقع أسلوبيّة النصّ، على أنّه الكيفية التي ينتهجها منشئ النصّ- فيما هو يعلن لغته- في استخدام الرموز الدلالية وتفريعها وإعادة خلقها، كما يقيم بنيانه الأدبيّ النصيّ المحدود... إنّ الأسلوبيّة هي شكل التنسيق الشخصيّ لقوائم الرموز في "الحيالة النصيّة الأدبية".
        إنّ الكائن لا يستطيع أن يفكّر إلاّ باللغة -لغته هو المستحضرة من اللغة العمومية المتوارثة- هذه حقيقة أصبحت أمراً مقطوعاً به. ولكنّ اللغة -أي لغة- لا تكون إلا في كونها مجموع ترميزات تنطق الصور.
        ليست هناك إمكانية للفصل بين الكلمة والصورة، بين الكلام وأنساق الصور، بين اللغة وبناءات البنيات الصوريّة والتصويريّة. هذه أيضاً حقيقة مقطوعٌ بها نهائياً.
        وعلى هذا الأساس، كلّ نص هو بناء من أنساق الصور.. بناء تصوري تصويري يهدف إلى إعلان ذاته بما هو تجربة مواجهة منشئة لاشتراطات الكينونة... بغية تثبيت الذات في سياق عملية المواجهة الإنسانية العامة لتراجيديا الوجود البشري، عن طريق تحضير ذلك في الآخر... هنا الصورة تبدو على أنّها اللبنة الأساسية في المعمار النصي الكبير.
        حيويّة معماريّة الصور عبر أنساق البناء، هي جوهر الأسلوبية. ولكنّها في الوقت ذاته هي لغة النصّ، وهي مضمونة كحال مواجهة، وكفعالية مشاركة:
        1. ويستطيع بناء أنْ يكوّن من حجر واحدٍ كما في نضبٍ.
        2. ويستطيع أنْ يكوّن من أنساق من الحجارة التي تحمل كلّ التوق الإنساني كما في معبد.
        كلاهما ذو فائدة ومدلول، ولكنْ لكلّ منها معيارّيته الخاصة، وحجم أهميته وقوة دلالته:
        -في الشعر العربي القديم نجد النصب.
        -في النص الأدبي العربي الحديث نجد المعبد.
        وبالنتيجة؛ النص يكون ذاته أولاً وآخراً.
        أمّا الهدف البلاغي، القول الأيديولوجي، هذاء الشطح الذاتاني... كلّها حالات خروجٍ على طبيعة النصّ!!.
        اللهمّ أرجو أن أكون قد أوصلتُ، فبيّنْتُ، وسلام على المؤمنين العارفين.
        البنيوية
        تعتبر البنيويّة منهجاً في البحث، وطريقة في الكشف عن علاقات النصّ وقوانينه. أمّا البنيوية في الأساس:
        -من حيث هي منهج نقدي شامل.
        -أو طريقة بحث في مكوّنات الواقع.
        -أو كشف علائق هذه المكونات وتفاعلاتها:
        فإنّها تطمح أن تسجّل إضافة حقيقيّة في مضمار المعارف الإنسانية ثلاثة مفاهيم أساسيّة؛
        تشكّل في علاقاتها وتفاعلاتها الإطار العام للبنيوية وهي: البنية- والنظام-و الوظيفة:
        1-البنية: هي نظام تحوّلات لغوية، ثم تطوّرت إلى نفسية، ورياضية، ومنطقية، وامتدّ مفهوم البنية ليشمل مختلف العلوم الإنسانية.
        وعلماء اللغة -وهذا ما يعنينا- يتحدثون عن بنى صوتية، وأخرى تركيبية، وثالثة للمفردة.
        والبنية: هي كلٌ مكوّن من ظواهر متماسكة يتوقف كلّ منها على ما عداه.. ولا يمكن أن يكون ما هو، إلاّ بفضل علاقته بماعداه.
        2-النظام: هو الإطار الذي تنتظم من خلاله علاقات عناصر البنية. وبالتالي:
        فهو إذن يتشكل من العلاقات القائمة بين عناصر البنية.
        على أنّ التبدّلات التي يمكن أن تطرأ على البنية لا تؤثر على نظامها.
        على الرغم من أنّ تحولات البنية هذه مستمرة، وهي تقوم دائماً بتوليد عناصر جديدة تثري البنية.
        3-الوظيفة: البنية نظام تحولات، والتحولات علاقات لعناصر البنية.
        والنظام إطار لهذه العلاقات ينظمها، ويضبطها.
        والوظيفة بالتالي تعني: القيمة الاتصاليّة للّغة، التي تعمل على تحليل اللغة، وفهمها، وتفسير الوقائع المرتبطة بها.. مما يؤكّد ارتباط الوظيفة بالمعنى.
        البنيوية في الأصالة اللغوية الفنيّة في الشعر أو في النظم...
        إنّ أصالة أيّ شاعر، لا تظهر إلاّ في الإشعاعات الدّالة، والظلال الموحية، وفي الفروق الدقيقة التي تطوى في داخل الأثر الفنيّ، وتكمن في النصّ الأدبيّ ذاته. فمثلاً: قد تتشابه الفكرتان، أو تتماثل الاستعارة عند شاعرين، ومع ذلك تبلغ عند أحدهما مالا تبلغه عند الآخر. وذلك لما يضفيه الشاعر على تعبيره من خصائص -نفسية وموسيقية، ولغوية، وذهنية، وأخرى غيبية.(11)

        ليس هناك تعبير يمكن أن يتساوى هو وتعبير آخر مهما اتفقا في المعنى أو الفكرة.
        فإضافة كلمة -أو حذف أخرى.
        تقديم اسم على فعل- أو تأخير مبتدأ عن خبر،
        تعريف كلمة- أو تنكيرها.
        إظهار كلمة -أو إضمارها.
        استعمال أسلوب معيّن من أساليب النهي، أو الأمر، أو الاستفهام، أو النفي وغير ذلك من أساليب اللغة الكثيرة التي ليس المجال مجال تعدادها... كلّ ذلك من شأنه أن يلوّن العبارة الأدبية بألوان جديدة. ويضفي عليها معاني جديدة وحديثة، يكشف بها المنشئ الأدبي- شاعراً كان أو كاتباً- عن معان نفسيّة، يحمّلها كلّ ما يعانيه من مشاعر تسافر فيه وتضطرم في أعماقه، وكلّ ما مرّ به من تجارب حلوة ومرّة، إلى الناس الآخرين.
        إنّ هذا ليس جديداً. وللأسف الشديد جداً جداً، أنّنا نكتب ونتحدث قبل أن نقرأ.. أجل قبل أن نقرأ.
        لقد كشف الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني، قبل أكثر من ألف عام 471هـ في كتابه "دلائل الاعجاز في الصفحة 75-77 وما بعد" وهو بصدد الحديث عن النظم، عن كثير من الأسرار البلاغية الكافية في عوامل الصياغة، وبيّن كيف أنّ تغييراً فيها، ولو بسيطاً، يمكنه أن يحمل من المعاني، ويرفع القيمة الجمالية والفنيّة إلى مستوى لم يكن للكلام للنظم أن يبلغه، لولا هذا التغيير.
        وقد ضرب لنا الأمثلة الكثيرة على ذلك، نأتي على مثال واحدٍ منها، وعلى الذين منّ اللّه عليهم بنعمة القراءة، ونعمة الفهم ممّن يرغبون الاستزادة أن يعودوا إلى كتابه الآنف الذكر، وقرينه "أسرار البلاغة" ليروا كيف يعيش المستغربون منّا، والمستشرقون منهم، على فتات موائد الفكر العربي الإسلامي منذ أكثر من ألف عام.

        وإنّي لأعجب من كاتب، أو شاعر، أو قاص يطرح نفسه على الساحة الأدبية ولم يطلّع على ما قاله أبو يعقوب يوسف السكاكي -626هـ -في كتابه "مفتاح العلوم".. وعلى ما قام به الإمام جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الخطيب -739هـ- من تلخيص للمفتاح! اللهم اغفر لقومي فهم لا يقرؤون.
        نعود والعود أحمد، إلى مثال واحد من الأمثلة التي ذكرها الإمام عبد القاهر الجرجاني، وليكن من الأمثلة التي اختارها الدكتور عبد الفتاح لاشين لكتابه "الخصومات البلاغية والنقدية في صنعة أبي تمام صفحة 213 وما بعد" حيث يقول:
        "ومن دقيق ذلك خفيّه، أنّك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: وأشتعل الرأس شيباً، لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلاّ إليها، ولم يروا للمزيّة موجباً سواها... هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم.
        وليس الأمر على ذلك... ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزيّة الجليلة، وهذه الروعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة.. ولكن لأنّه يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو من سببه، فيرفع به واشتعل ما يسند إليه الرأس، ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى شيباً منصوباً بعده.. مبيّناً أنّ ذلك الإسناد، وتلك النسبة إلى ذلك الأوّل إنّما كان من أجل هذا الثاني، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة" كقولهم:
        طاب زيدٌ نفساً بدلاً من طابت نفس زيدٍ.
        وقرّ عمروٌ عينا" بدلاً من قرّت عين عمروٍ.
        وتصبّب محمد عرقاً بدلاً من تصبّب عرقُ محمدٍ.
        وكرم عليّ وجهاً بدلاً من كَرَمَ وجه عليٍ.
        وحسنَ سعيد أهلاً بدلاً من حسن أهل سعيد.
        وأشباه ذلك مما تجد فيه الفعل منقولاً عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه. "إنّه تعبير في هندسة الجملة، وتبديل لديكورها الداخلي. دون تغيير أو تبديل في المواد والأثاث".
        فنحن نعلم: أنّ اشتعل للشيب في المعنى، وإنْ كان هو للرأس في اللفظ، كما أنّ طاب للنفس، وقرّ للعين، وتصبّب للعرق، وكزمَ للوجه، وحسن للأهل.. وإنْ أسند كما أسند إليه.(12)

        ويتبيّن لنا. أنّ الشرف كان للمعنى، لأنّه سلك به هذا المسلك، وتوخى به هذا المذهب. وليس للاستعارة، فكلاهما استعارة "تغيير الهندسة والديكور الداخلي".
        أما أن تدع هذا الطريق -تغيير الهندسة والديكور- وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحاً فتقول:
        اشتعل شيب الرأس.
        أو اشتعل الشيب في الرأس.
        ثم تنظر.. هل تجد ذلك الحسن، وتلك الفخامة؟
        وهل ترى الروعة التي كنت تراها؟
        فإن قلت: فما السبب في أن كان اشتعل إذا استعير للشيب على هذا الوجه، كان له الفضل.
        ولم بان بالمزّية من الوجه الآخر اشتعل الرأس هذه البينونة؟
        فإن السبب: ليس في تغيير الهندسة خارجياً، ولا في تبديل الديكور داخلياً، بل أيضاً للمعنى الجديد الذي تأتّى إلى الجملة نتيجة لهذا التغيير وذاك التبديل.
        وإليك شرح ذلك:
        المهمّ في المعنى الجديد للجملة، وهو لمعان الشيب في الرأس -الذي هو أصل المعنى- على الشمول، وأنّه قد شاع فيه، وأخذه من نواحيه، وأنّه استقرّ به، وعمّ جملته، حتى لم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلاّ مالا يعتدّ به.
        وهذا ما لايكون إذا قيل: اشتعل شيب الرأس.
        أو: اشتعل الشيبُ في الرأس.
        بل لا يوجب هذان اللفظان حينئذ أكثر من ظهور الشيب فيه على الجملة.
        توضيح: ووزان هذا قولك: اشتعل البيت ناراً فيكون المعنى أن النار قد وقعت فيه وقوع الشمول، وأنّها قد استولت عليه، وأخذت في أطرافه ووسطه وكل ركن فيه.
        أمّا إذا قلت: اشتعلت النار في البيت لاحظ التعريف في الفاعل
        أو: اشتعلت نار البيت لاحظ التنكير في الفاعل
        فلا يفيد ذلك -ما ذكرناه من الشمول- بل لا يقتضي أكثر من وقوع النار فيه. وإصابتها جانباً منه.. فأما الشمول، وأن تكون النار قداستولت على البيت كلّه وابتزّته، فلا يعقل من هذين اللفظين البتّة.
        أرجو أن تعلموا أن في هذا المثال شيئاً آخر من جنس النظم:
        وهو تعريف الرأس بالألف واللام... وإفادته معنى الإضافة من غير إضافة شيب الرأس وهو أحدُ ما أوجب المزيّة... ولو قيل: واشتعل رأسي فصرّح بالإضافة لذهب ببعض الحسن.
        هكذا يحلّل الإمام عبد القاهر الجرجاني الصورة البيانية، وبهذه النظرة الشاملة ينظر إلى اللغة.
        فاللغة عنده وحدة لا تنفصل فيها الصورة الشعرية عن التعبير الأدبي، بل هما كلّ لا يتجزأ، ولا تكتسب فضيلتها إلاّ من السياق، ولا تستمدّ قوّتها إلاّ من النظم.
        ففهم الاستعارة، وتفسير معناها، لا يمكن تحقيقه إلاّ بعد العلم بالنظم، والوقوف على حقيقته...
        لقد عرفنا أيّها السادة؛ من تحليل عبد القاهر الجرجاني للمثال السابق. كيف أنّ استعارة الاشتعال للشيب ليس كلّ ما في المثال من روعة. لأنّ الاستعارة نفسها تتوافر في أكثر من تعبير، ومع ذلك تكتسب من كل تعبير على حدة، معنى خاصاً، وتأثيراً مختلفاً، ففي كلّ من: واشتعل الرأس شيباً، واشتعل الشيب في الرأس، واشتعل شيب الرأس، تتوفر الاستعارة، ومع توافر الاستعارة في كلّ جملة من الجمل الثلاث، نرى وظيفة، ودلالة، وتأثيراً يخالف في كلّ جملة الأخرى.
        -وعلى ضوء هذا التحليل الذي بسطه عبد القاهر الجرجاني.
        -وعلى ضوء فكرة النظم عنده.
        ننتهي إلى حقيقة لا سبيل إلى الشكّ فيها، وهي:
        أنّ الفنّ ليس في الفكرة.
        ولا في المعنى الأخلاقي الفلسفي.
        ولا في المضمون بعامة، مهما تكن قيمة هذا المضمون.
        وإنما الفنّ هو؛ في تطويع الشكل للمضمون، والمضمون للشكل، وفي ذلك إخضاع التجربة للصورة اللفظية، أوليست هذه هي البنيوية الحديثة حيث تزول فكرة الشكل والمضمون لتداخلهما معاً في لحمة واحدة؟؟
        كلمتي الآن للأخوة الذين يتصدّون لنقد أي أثر أدبي، أقول:
        اقرؤوا أولاً... واقرؤوا ثانياً، واقرؤوا ثالثاً، ورابعاً وخامساً وووو ثم تفضلوا بآرائكم النقدية، ونظرياتكم التقويميّة.
        وعلى هذا الأساس السليم لمعنى الخلق الأدبي، يكون مجال النقد الأدبي منصباً إلى حد كبير على ما يكون في داخل الأثر الفنّي من علاقات تنشأ من الصياغة اللغوية، وترتدّ إليها -وهذه صفة تتفرد بها لغتنا العربية الجميلة عن لغات العالم كلّه.
        وعلى هذا الأساس لا يتم تشابه، أو تشاكل. أو ترادف في صورتين لشاعرين، أو تعبير أدبيّين لكاتبين مختلفين... إلاّ إذا نقل الآخر عبارة الأوّل نقلاً كاملاً، دون أن يشير إلى مصدر النقل... عندئذ. وعندئذٍ فقط يكون الأخير سارقاً من الأول، أو ناقلاً دون أن يشير إلى ذلك.
        (1) -
        انظرالحاشيةفيالصفحة 102.
        (2) -
        قدمتمحاضرةفيصالةاتحادالكتابالعربفرعدرعا 1995حزيران.
        (3) -
        تراجيديا tragedy : المأساة 2) الحتميات: كونيةكالموت،ومجتمعية: كالتطوروالصراع.
        (4) -
        تراجيديا Tragedy المأساة، 2- الحتمياتكالموت،ومجتمعيه : كالتطوروالصراع.
        (5) -
        جاءفيمادةسطرصفحة 363منالجزءالرابعلمعجملسانالعربلابنمنظورالمصري: واحدالأساطير: الأسطورة. والأساطير: الأباطيل. أحاديثلانظاملها. وقالأبوعبيدة: سطّرعلينافلانأتانابالأساطير،أيبالأباطيل.
        وجاءفيمادةسَطَّرفيالصفحة 410منقاموسمحيطالمحيطلبطرسالبستانيسَطّرَ: ألّف... وسطرهبالسيف: صرعهوقطعه.
        وسطرعلينافلان: أتانابالأساطير.
        وأساطيرالأولين: أيأشياءكتبوهاكذباً.
        (6) -
        الأنثربولوجيا Anthrobog: علميبحثفيأصلالجنسالبشريوتطورهومعتقداته.
        (7) -
        الأسس: هيحتميةالصراعوالموت.
        (8) -
        انظرمجلةالناقدالعدد 32شباط 1991الصفحة 14ديالكتيكالحياةوالموتفيأدبزكرياتامروخليلحاويالصادرةعندارريا7ضالريسلندن.
        (9) -
        المرجعالسابق.
        (10) -
        انظرمجلةالناقدالعربي 32شباط 1991الصفحةديالكتيكالحياةوالموتفيأدبزكرياتامروخليلحاويالصادرةعنداررياضالريسلندن 2) المرجعالسابق.
        (11) -
        محاضرةألقيتفيصالةاتحادالكتابالعربفيدرعا،كانونأولعام 1996.
        (12) -
        انظربحثالمسندوالمسندإليهفيالكتابالسيبويه.

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: في رحاب الفكر والأدب

          الفصل الثاني البحوث والدراسات القصصية
          إطلالةٌ جديدة على الحبِّ والوحل.‏
          الحبُّ والوحلُ، رواية رومانسية تعالج قصة إنسانيةً اجتماعية بطريقة إبداعيّة مغرقة في جمال أسلوبها، وبراعة تصويرها، وتغلغُلها عبر سراديب النفس البشريّة، والكشف عن مكنوناتها.... أبدعتْها موهبةُ القاصَّة الدكتورة إنعام المسالمة في فترةٍ مبكِّرة من خمسينيات هذا القرن، في فضاءات درعا المترامية بسهولها وهضابها ووديانها السحيقة المطرِّزة بالخُضرة، حيث الماء يرشح من كلِّ جانب، هناكَ في أقصى الجنوب من سورية، متاخمة للحدود اللبنانية، الفلسطينيّة، الأردنية.... "رواية ممتعة جداً يقرؤها الإنسان فيتمنى أن يعيدَها.. وفي كلِّ مرةٍ يستطيع أن يستخرج منها معاني مخبوءةً.. إنّها قصَّة الجنس البشري بأكمله.... قصة كل واحد منا في محاولته لتغيير العالمَ، وخلّقِ عالمِهِ الخاص المنسجم مع تربيتّهِ وأوهامه.... إنّها قصّةُ المثالية والمبدأ والأخلاق، في حربها البائسةِ ضدَّ عالمٍ يغمرُه الشرُّ والفساد والتعصُّبُ.... ولكنَّنا وللأسف -كل منا خادع لنفسه، مخدوعٌ بنفسه، إلاَّ من رحم ربُّكَ وقليل ماهم".‏
          وتعدُّ الكاتبةُ من رائدات فنِّ القصَّة الأوائل في محافظة درعا، ولو تحرينا الدقَّة أكثر لقلنا إنها الرائدة الأولى لهذا الفن أو الشكل الأدبي في منطقتنا، وقد نالت هذه الرواية جائزة دولة الوحدة- سوريا ومصر- التقديرية كأفضل روايةٍ في ذلك الحين.‏
          تقع الرواية في مئة وثمان وأربعين صفحةً، تتتابع خلالها أحداثُ الرواية هذه الملتحمة فيما بينها بوشائج متينةٍ لا انفصام لعراها خلال تطوُّرِ الحدث وتساوقه وإيغاله في الكشف عن خبايا النفس الإنسانية في ليلها الطويل في أحضان مجتمعٍ لا يسرُّ عدواً ولا يرضي صديقاً، مجتمع من الذكورة، لا تحظى فيه الأنثى بشيء من الاحترام، أو من المساواة والعدل.... وتستمرُّ الروائية إنعام مسيطرةً على خيوط اللُّعبة الفنيّة في روايتها. وتحرِّكها ببراعةٍ ودقَّةٍ متناهيتين، دون أن تفقد زِمامَ الحدثَ من يدها مما جعلنا نشعر أنَّها تلوي عُنق أبطالها، وترغمُهم على قبول ما ترضاه هي لهم من القيم التي ربَّما هي نَفسُها آمنت بها، وتريدُ أن تثبِّتَها في مجتمعها وبناتِ جيلها وشبابه، حيثُ تتساوق الأحداثُ جميعُها لتصبَّ في المجرى الرئيسي للرواية، الذي يري لنا قصَّة كفاح "إيناس" و "أحمد" الجامعيَّين.... إنَّها قصةٌ إنسانيةٌ بالمعنى الشامل "ولكنَّها أيضاً اجتماعيةٌ بمعنى أنَّها تتعرَّض لقيمٍ اجتماعيةٍ معيَّنة، وتُهاجمها.... ولعلَّ الخيط الذي يشدُّ خيوط الرواية بعضها إلى بعض - هو العلاقة القائمةُ على التناقض بين الوهم المثالي، وتجربة الحياة اليوميَّة".‏
          أ- إيناس... تلك الفتاة المتمرِّدةُ على العادات والتقاليد الفاسدتين في مجتمعنا، والمقولات السقيمة المسبقّة الصنع، التي يتناقلُها الأغبياءُ، جاهلاً عن جاهل، فتضرب بهاعرض الحائط لتختطَّ لنفسها طريقاً وسطَ ا‎لأشواك والعُقد الاجتماعية، والنفسيَّة التي كانت هي المحركُ الرئيس لخطِّ صعودها المستمر المتفاعل مع الحدث الذي كان انعكاساً لردودِ أفعالِ الآخرين وأفعالها، فقيَّدْت حياتَها، وربطتْ مصيرها بأصفاد وأغلال قاسية، داخل أسوارٍ عاليةٍ من الأوهام المريضة، أخرجتْها عن مجراها الطبيعيّ، وأوقعتها في مأزقَ ومزالق عكَّرْت تساوُق تسلسل حياتها النفسيّة، وبعثرتها وذرتها في مهبِّ الريح، وأغرقتْها في أوهامٍ وعقد نفسية جديدة أشدَّ هولاً، وزجَّتْها في إرباكات اجتماعية أسوأ بكثيرٍ مّما ثارتْ من أجله وتمرَّدت عليه، وليْتهالم تثُرْ، ولم تتمردْ وعاشت كبقية القطيع لو فرت على نفسها الكثير من المعاناةِ والألم، وماكان أغناها (عن وجَعِ القلب وشتات الفكر، والتعلُّق بمقولات لانصيب لها على ساحة الواقع، وأرضيّة التطبيق لدينا وجود.‏
          فالحرُّيةُ مطلب إنساني مشروع، يساوي وجودَ الإنسان أصلاً على هذا الكوكب. والحرّيةُ في نظر جيلنا الغارب، كانت مشروعاً نهضوياُ وللأسف غير مضمون، وغير مأمون عبر المتغيّرات الاجتماعيَّة التي عصفت بنا منذُ الثلاثينات من هذا القرن... لا بل منذُ أقدم العصور أيامَ السومريين والبابليين والكنعانيين العرب قبل خمسة آلاف سنة حتى يومنا هذا...‏
          نحنٌ عبيد، أقنانٌ للسلطتين الدينيَّة والمدنيةِ، تتعاونان منذُ فجر التاريخ منذ ذلك الحين على ركوبنا، وتسخيرنا لمصالحهما وأغراضهما الدنيوية غير المتعارضة مبشريننا بآخرةٍ تغمرُها الجنّةُ الموعودة التي أعدت لنا للمتقين...مكتفين هم بنعيم هذه الدنيا... وربما حجزَ بعضهم قصوراً في ذلك الحلم الممطول... أمّا الحرّيةُ في لغتنا في حياتنا فبلا مدلول لها وحتى لو أتيحت لنا، لا سمحَ الله، لَحِرْنا بها، ولما عمِلْنا بها لأنَّ الحريَّة مسؤوليةٌ ضخمة، تضع على عاتق الإنسان الحر مسؤولية وجوده، مسؤولية خياراته ونحن ما اعتدنا على الحريَّة، فماذا نصنعُ بها، إنّها عبء يثقل كواهِلنا ولا نقوى على حمله، وهذا ما صنعته إيناس بنفسها بحياتها، سمَّمتها، وأتعست نفسها ومن حولها، لقد ناضلت من أجل الحريَّة حريتها هي، ولمّا ملكتهما ضاعتْ وضلَّت عبر سراديب النفس المظلمة... حقُّ أن نحلمَ بالحرّية ونثور من أجلها، ونفكر فيها ولكنَّنا لا نستطيع أن نمارسهَا، لأنهامسؤوليَّة صعبةٌ، تحتاج إلى فهم عميق، وإرادة صلبة، وثمنٍ باهظ لا نستطيع دفعَه، ولم ندفعه، على امتداد مجرى التاريخ، لأنَّنا مجتمعٌ أبويٌ، بطريركي، نصنعُ كلٌ في أسرته مايشاء، فهو الربُّ والأبُّ... وهكذا ضلَّت إيناسُ، وضاعت على دروب الحرية، وشقيت وأشقت كلَّ مَنْ حولها من أصدقاء وأعداء.‏
          قصة إيناس... صحيح من الناحية النظريَّة إنَّها قصَّةُ فتاةٍ متمرِّدة على مجتمعها، على حياتها المكبَّلة بالقيود، تثقبُ بأظافر تمرُّدها وجه السماء، وتلغي كل مقولات الفكر السقيم، وتكسِرُ قمقمَ الجنس والخوف والخرافة، لصالح مقولات مثالية حُبلى بمواسم لا تثمر، ولا تسمن، ولا تغني من جوع... بل تتكشَّفُ ثورتُّها عن أوجه حياةٍ سوادءَ قاتمة عبر دهاليز نفس إنسانية مريضة ومعتلَّة... فخسرت نفسها، وروحَها، وجسدَها، وحرَّيتها لصالح أوهام وقيم مثاليَّة لا توجد إلاّ في عقول حفنةٍ من المهووسين الحالمين ببناء المدينة الفاضلة، وبلوغ النرفانا التي لابلوغ إليها، ولا طريق... لصالح قيم عصر النهضة الأوروبية الذي تصرَّم منذ قرون متعددة.‏
          ربَّما كانت حياةُ إيناس، قصةُ إيناس، أوراقاً حقيقية ممهورةً بأحداث عمرها المندثر، وأنامل جسدها الفاني... أقول ربَّما... فالإنسان هو أفكارهُ، ودواتهُ، ورحلةُ أصابعه على الورق... وعقدةُ إيناس، شكوَى إيناس هي أنَّها أنثى، ولم يخلَّف أبوها غيرها، سمعتها مراراً ومن أكثر من فم: ليتَها كانت ولداً، لما خفنا عليها... وَسمتْ هذه المقولةُ، فكرها بميسم من نار، وأشعلتْ بداخلها آلاف الحرائق... وليس جديداً أن تحترق امرأة في هذا الشرق العجيب "فنصف تراب صحارينا معجون برماد الضفائر الطويلة والنحور المطعونة... ,ليس جديداً في منطق السكين والفأس أن تذبحَ امرأةُ على سرير ولادتها -كإيناس- أو على سرير زفافها- كغيرها من الأخريات..‏
          فنحنُ ندحرج رؤوس النساء، كما ندحرج أحجارَ النرد في مقاهينا.. وكما نصطادُ العصافيرَ على روابينا.. قبلَ شهريار، وبعدَ شهريار، ونحن نغتالُ العصافير المؤنَّثة... نسلخها، ونأكلُها، ونمسحُ بدمائها شواربنا المهتزَّة كأذيال النسانيس..‏
          الجديد - في قصَّة إيناس- هو أن يرفضَ الميَّتُ موتَه، وأنْ يعضَّ الجرحُ على نصل الخنجر" وهذا مافعلته إيناس، أرغموها على الزواج من ابن عمها، من ثروة عمِّها لتُضَمَّ إلى ثروة أبيها... فرفضَتّ، ورضيت أن تحملَ صليبها على كتفيها، إنّها إحدى المصلوبات على جدار التاريخ والخرافة... وهكذا تمرَّدتْ، وثارت... ولكنها تبدو وهي على خشبة الصلب، أكبرَ من قيدها، ومن مساميرها، وأقوى من جميع صالبيها.‏
          الموتُ الصامتُ هو وحدَهُ الموتُّ، وأمّا الذين يثقبون بأظافرِهم رخامات قبورهم، وينقشُون على خشب توابيتهم سيرة ذواتهم، خطَّ حياتهم، فلا أحد يستطيع أن يهزمَهم" ... وهذا ما فعلته إيناسُ، فثارت على قبرها وعلى حافِره، ورفضت قرار إعدامها... ولكنَّها وللأسف تمادتْ بثورتها، ولجَّت في تمرُّدها، وأغرقت في عنادها، وتشبَّثت بمقولات منطقها المغلوط، ولم تدرك الفرق بين النظريَّة والتطبيق، فالنظرية أياً كانت، هي أفقرُ من الواقع... النظريَّةُ جامدة ميِّتةٌ والواقع حيٌّ يُعطي في كل لحظةٍ احتمالات جديدةً، ويفرزُ كلَّ ماهو جديد... لذلك انسحقَ قلبُها، وضاع عمرُها، وضلَّت في متاهات قيم اختارتها من عصر غير عصرها، ومن مجتمعٍ غير مجتمعها... وأرادتْ أن تلوي عنقُها، وتسوِّدها في حياتها، وتغلّبتها على غيرها.. فحطّمتْ... وتحطَّمت.‏
          ثارت على أنوثتها... ولكنَّها ظلَّت أنثى‍!‏
          حصلَتْ على حريتها... ولكنَّها رزحت تحت نير تعنُّتها وعبوديَّة أفكارها!‏
          رفضت الزيفَ والكذبَ... ولكنَّها كذبَتْ على نفسِها وصدَّقت زيف مالَّفقت!‏

          ولنفترض أنّها اكتسبت الدنيا وماعليها... ولكن ما الفائدة وقد خسرت نفسها؟‏
          ب- وأمّا المحور الثاني، أو الشخص الثاني من قطبي الرواية فهو المهندسُ "أحمد". وهو الذي يروي لنا أحداث الرواية، تفاصيل الرواية بأدقَّ دقائقها وتفاصيلها، وأحمدُ رجل جادٌ رصين، يستغرقه عملُه ويغرق حياته في لُجّةِ العمل والهندسة والمصورات ليهرب من ضياعه... من غُربته اللتين تمزِّقانه... ليتخلَّص من وحدته القاتلة التي تلفُّه في غياباتها... يبحثُ عن صديقٍ حميمٍ يفضي إليه بمكنوناتِ قلبه، ودَخيلةِ نفسه، ومايمزِّقه وينهشه من الداخل، وقد عزَّ الصديقُ... وبعدَ طول اغترابٍ، ومعاناة وحدةٍ قاسيةٍ، وصبر مرير طال، يجدُ هذا الصديق الصدوق... يجدُه على أضواءِ حبٍّ سحري يكشف له عن أسرار حياته... ومن هنا تبدأ أحداثُ الرواية في الاشتباك والتفاعل، بين أحمد الجديد، وأحمد القديم، فتتوتَّر حيناً، وتسلُسُ أحياناً أخرى، تدفعُ الحدثُ الروائي بعصاً سحرية تحت أروقة أسلوب روائي فذٍ متمكِّن، من خلال حوارٍ ذكيٍّ بين "الأحمدين" بلغةٍ مصقولةٍ برَّاقة، تحملُ درجات عالية من طاقات التفجير في التعبير الموائم لمقتضيات الحدث، وهذه نقطةُ تفوقٍ تحسَبُ لصالح الرواية في امتلاكها لناصِية اللغة الروائية، التي تتكاثف وتتكاثفُ لرسمِ المشاهدِ والصورِ واللوحات البارعة التي تخطفُ إعجابَكَ ببريقها... أحمدُ القديم الذي صارع أمواجَ الفراغ والوَحدة والشتات والتمزُّق... وأحمدُ الجديد الذي نفضَ عن عباءةِ حياته، الصورَ القديمَة القاتمةَ، وطردَ أشباحَ الغُربة التي كانت تتسربلُه بالضباب.. فأضاءَ نورُ الحبِّ عُمْقَ أعماق روحه المتعطِّشة للحياة والنور، ومنذُ آنئذٍ، انقلبَ إنساناً جديداً، ويخاطبُ أحمدَ القديمَ قائلاً: "لم تعدْ حياتي مملوءةً بالصور القاتمة، بل دخلها شيءٌ مرّمري مُشرق، وأضاءَها نورُ الحبِّ، فأصبحتْ أفكاري تموجُ بالحياة والحركة، وبُعثتُ في يومها إنساناً جديداً".‏
          ويتابعُ "أمّا صديقُك - أحمد القديم- فقد اهترأ، واندثرت بقاياهُ يوم ولد -أحمد الجديد- وأصبحَ سعيداً بمشاكله وأمانيه، بأحاسيسه وآماله..." ويدورُ بينهما حوارٌ ذكي جميل، يُنبي عن سعَة أفق وثقافة عميقة.‏
          وأحمدُ الجديد هذا الذي لمسَ الحبُّ قلبَه بأصابعه السحريَّة، وأضاءَ قناديلَ حياته بأقباس نورانيَّة... شابٌ جدِّي من بيئة محافظة في حيٍ من أحياء مُدننا التي يؤمُّها طلابُ العلم للدِّراسة في معاهدها وكلِّياتها من كل حدبٍ وصوب، ليتزوَّد بسلاح المعرفة ليعينهم على تذليل مصاعب العيش.. يدرسُ أحمدُ الهندسة، ويتفوق، ويحصل على منحةٍ دراسية في الخارج، ليعودَ بعد انقضاء مدَّة دراسته سالماً غانماً... ويعملُ بجدٍونشاط، ويَسَّتغرقُه العملُ... وهاهو ذا يحدَّثُ أحمد القديم قائلاً: "لعلّك تسخر مني لو قلتُ لك إنّ أمل مراهقٍ في قوته وعنفوانه، في اندفاعه وحيويته، قد استيقظ في أعماقي رغم كلّ العواصف التي هبَّتْ وتهبُّ على أيامي...‏
          أمّا رأسي، صندوق أفكاري، فامتلأ بالأفكار بعد أن كان خاوياً، ومع ذلك لن ينفجرَ كما كنّا نتوهّم قبلاً... وعينايَ مملوءتان بالدموع، ومع ذلك تُبصران... وقلبي مملوء بالحب وينبض بالحياة، وأحسُّ أنَّه يستطيع أن يحتوي العالم أجمع، وكلَّ مافي هذا العالم الكبير من بؤسٍ وألم، من تعاسة وشقاء، من محبِّةٍ وصفاء..‏
          وا أسفاً يا صديقي! على الأيام التي مرَّت يوم كنَّا نعيش كقطعٍ جليديةٍ دون أحاسيس، أمّا الآن أصبحتُ أحسُّ الحياة في إيماءةِ كلِّ طير، وأستنشقُ عبيرَها في كلِّ عطرٍ، وأتملّى جمالَها في كل ابتسامة خجلى، أو نظرةٍ حَييَّة، وحتى في كلِّ معنى هادئٍ حزين.‏
          وأصبح للابتسامة والدمعة ألفُ معنىً ومعنى! أما ابتسامتُها -هي- فأصبحت تعني لديِّ ربيعاً لا يعرف القحط! وطيفُها مازال يمدُّ حياتي بكلِّ معنىً خالدٍ جميل لا يعرف الفناء! وحديثها ...و... فللحبِّ أثر في تغير شخصية الفرد ويُجمل الحياة.‏
          ونتساءل مَنْ -هي- هذه التي غيرَّت حياة أحمد وبدلت، ماشاء لها التغيير والتبديل؟ والجوابُ: إنَّها إيناس!!‏
          ومن هي إيناس؟ وما قصَّتُها؟ وكيف تمَّ ذلك؟ فهذا مَسْردُ الرواية.‏
          جـ- لمنزل أحمد شرفة تطلُّ على شارعٍ رئيسي في المدينة، يتأمّل من خلالها حركة الحياة... وفي ليلٍ أسود كئيب، جلس يتأمل ماحوله، وأمامه في الجهة الأخرى نافذةٌ تطلُّ على الشارع، وعبرَها ضوء ساطع في الجوِّ القاتم... رآها -هي- مُكبَّةً على شيء تقرؤهُ، غير عابئةٍ بالأعين التي تخترق الظلام إليها... فتحرّك الفضول في أعماقه، ليتمادى عنقُه في تطاوله...، ورأى بيدها ورقةً، فقال في سرّه لعلّها رسالةٌ، وهي مُنصرفة إليها تطويها تارةً، وتنشرها أخرى، ثم تضمّها من جديد، وتُكبُّ على منضدتها حيث تسندُ رأسها وغدت لا ترفعه، وخالها تبكي.‏
          أنهى دراسة الهندسة، ونأى عن بلده إلى أوربَّا لاستكمال اختصاصه، وافتقدته الشرفة، وافتقد صورتها... ومرَّت الأيامُ في أوربا ولياليها كحلمٍ جميلٍ، نهل منها كلَّ ماكان بحاجةٍ إليه، فقد كان جائعاً ظامئاً، فلم يدع شيئاً إلاّ وتذوقه... وعاد لوطنه بعد انتهاء اختصاصه ولا يدري كيف تذكَّرها -هي- وقد رأى النافذة مغلقةً... وتساءل: أتَراهاعادت إلى أهلها؟ إلى أحضان بلدتها؟ ولكنْ من أي بلدةٍ هي؟ ..‏
          ولم تمضِ سوى أيامٍ قليلةٍ حتّى غرق في خضمِ الحياة المفعم بالعمل والمتاعب، فقد التهم الحياة كوحشٍ جائع، وأقبل بشرهٍ كبير على العمل، إلى أن وجد نفسه صريعَ الإرهاق... ونصحه الطبيبُ أن يستجمَّ ويستريح في مكانٍ هادئٍ، يُريح أعصابه من ضوضاء المدينة.‏
          اتجه بسيارةٍ صغيرة وبيده حقيبةُ ثيابه، وراح ينتقل من مَصيف لآخر، ينعم بالراحة والهدوء، إلى أنّ وصلَ قريةٍ يهرولُ الناس إليها للاستجمام والمعالجة، وهناك لا يدري كيف ساقه القدر إلى مشفاها الشهير، رغم أنَّه ليس بحاجة إلى ذلك، وبعدَ الفحص أحالوه إليها -هي- كان وجهها مألوفاً لديْه، وإن كان لا يذكرُ من أين ومتى عرفَ صاحبته!‏
          تأمَّلته ملياً، وهزَّت رأسها ببطءٍ، وكأنَّها تتذكر شيئاً، ثم سألته إن كان من مدينة... فأومأ لها بالإيجاب... فقالت له: ألست المهندس أحمد صاحب الشرفة؟!‏
          ردّته عبارتُها إلى الماضي ... وتذكَّرها وهي تقرأُ وتبكي... وتطلَّع إلى يدها اليمنى يبحثُ عن خاتمٍ يطوِّقُ إصبعَها، وارتدَّ بصرُه خائباً، وبحث عن إصبع اليد الأخرى التي كانت مدسوسةً في جيب ردائها الأبيض، محدِّثاً نفسه: لعلّها تزوَّجت؟!‏
          ثم مالبث أن رأى ملامحها تكتسي بنقاب من الجدِّ والصلابة، وأنهت المقابلة بالنداء على المريض التالي... خرجَ، بينما ظلّت أفكاره تحومُ حولها... وتساءل عن سبب اهتمامه بها؟ ... وبعد محاولات متعددة أقنع نفسه؛ لأنَّه لا يعرف غيرَها في هذه المنطقة.‏
          وتكرَّرت زياراتُه لها... ونبتْت الأُلفة بينهما، ونمتْ بهدوء، وأعجبَ بوداعتها، وأتيحَ له أن يرى يدها اليسرى فكانت خاويةً بلا طوق... وظلَّ ستارُ مخملي أسود يغلف حياتها... ودفعه الفضولُ لإزاحة هذا الستار، محاولاً أن يصلَ إلى الأسباب،ولكنَّها كانت تعرف كيف تصدُّه برفقٍ، وتحوِّل مجرى الحديث وجهةً أخرى.‏
          وسألها مرّة لم لا تتزوجين؟ وأردف بسؤال آخر...‏
          فاربَّد وجهُها، ولم تجب، واكتفت بأن هزّت رأسها ببطء... وبعد لأيٍ تحدَّثت حديثاً فلسفياً نفسياً عميقاً غيرُ مقنع، حيث لم تتمكن هي من إقناع نفسها، لأنَّها بدت أسيرةً لخيالها المعتلِّ، الملجأ الوحيد الباقي الذي تفيء إليه، وحكَت وقالت الشيء الكثير...وأخيراً، تمتمت معتذرةً عما كشفته له من أحزانها.‏
          وهكذا التقى المريضان؛ هو مريض الجسد، وهي مريضة الروح "وماأتعس الإنسان الذي لا يستطيع أن يتحرّر من قيود ذاته!!"‏
          وقبيل أن يودعها وعدته بالسؤال عن صحته إذا ماهبطت إلى مدينته... وعادَ واستغرقته عملُه... وهي في صمتها غارقة...‏
          وانساق مع تيار الحياة، فالعمل يجتذبه بسحره الغامض، والمغامرةُ تحفِزهُ لاقتحامها، والمغامرة والعمل متوافران في ذلك البلد الغني المجاور، فلم لا يقفزُ إليه؟!‏
          حزمَ حقائبه وانطلق وراءَ العمل والمال... واستغرقه العمل في ذاك البلد من جديد، إلى أن وقع متعباً فريسةً للإرهاق... وعثر على طبيب شاب، دفعته المغامرة مثله، ومن بلده ذاتها... فعالجه، ودعاه إلى منزله، وقدَّم له زوجته، صبيةً، جميلةً، رشيقة.‏
          فعرفَ بعض أقاربها الذين كانوا زملاءه في الدراسة... وتذكّر طبيبته إيناس، وبدأت تداعيات الذاكرة بها، وأظنُّها لن تنتهي إلاّ إليها...،ولكن الذي يفصلُ بينهما خشيتهُ من ماضيها، وإن لم يكن متأكداً من ذلك الماضي، فهو لن يحتمل ذلك الماضي لو كان!!‏
          وأقلق صديقه الطبيب وضعُه كعازبٍٍ... فعرض له أنّ لزوجته شقيقةً اسمها هيفاء تليقُ به، وأنَّها ستأتي لزيارتهما..‏
          وراحت الأمواج من الأفكار والصراعات تتقاذفه... فماذا لوكان لهيفاء ماضٍ كماضي إيناس؟ لابد أن سيسرق منه شيئاً منها، من أفكارها، كما سلبَ ماضيها، وحتّى حاضرها... هذه هي العقدةُ التي ظلَّت مسيطرةً على أفكاره وظلّت ملازمةً له مدى الحياة، وتقف حائلاً بينه وبين أيَّةِ امرأةٍ أخرى تُرشَّحُ للزواج منها، ولم يستطع بُرءاً منها، وهو ابن المدينة، وخريج جامعات أوربا.‏
          وبقع أحمد في صراعٍ طويلٍ ومرير على امتداد صفحات الرواية، تعذِّبُه وتشويه هذه الظاهرة التي استحكمت فيه... فهو لايريدُ غير إيناس، ولكنَّ ماضيها ينهش روحه، يعذِّبه، يُضنيه، ويصلبُه، ويحرمُه كلَّ طيبات الحياة.‏
          ويحاول مراسلتها، مرة، وثانيةً، وو... فلا تجيب... ويكررُ المحاولة بعد حين، فلا أمل، يعودُ في إجازة إلى بلده، إلى داره حيثُ الشرفةُ، والحديقةُ، يتمسَّحُ في جنباتها وبه ولهٌ شديدٌ لرؤية كلِّ زاويةٍ من زواياها، ويتذكَّرها، فتعصفُ به ذكراها، ويتلاعبُ به طيفُها، فيحولُ دون إصغائه لعرضِ شقيقته، عن فتاةٍ جميلةٍ رائعةٍ تسكُن تلك الدار... هرباً من الذكرى.‏
          وينطلق إلى لبنان الدافئ اللذيذ المريح -لبنان القمر والسحر والجمال... وهناك يلتقي بزميلٍ قديمٍ رآه بين حسناوتين... فيعرفُه من بعيدٍ فجاء مهرولاً إليه، ولعلّه بحاجةٍ إلى رجلٍ آخر يُريحه من الثانية... واستقبل كلٌ منهما الآخر بحرارة بالغة، واقتسما الصيد، كانت إحداهما خطيبتهُ، والأخرى شقيقةُ زميله، فتاة رائعة رشيقة، مثله تبحث عن المُتعة البريئة، ولم تكن تبحثُ عن زوج، وإلاّ لفر منها... وكاد أن يطمئن إليها للطافتها ورَّقتها وبراءتها، لولا خوفه المزمن العاتي من أن يكون لها ماض...‏
          وفجأة تبرز إيناس دون توقع، لمحها من الخلف جالسةً ترتدي ثياب الحداد، مولِّية لهما ظهرهَا... ورغماً عنه، وبعد محاولات يائسة، ينتصر شوقهُ إليها على لباقته، فينسى التي معه ويسيرُ إليها، فتعرفهُ، وتقف لتحييه: أحمد!! أهلاً بك يا أحمد... يجلسُّ قبالَتها، تسأله عن سبب مجيئه إلى لبنان؟ وكيف ترك البلدَ الذي يعمل فيه؟ أفي إجازة، أم نهائياً؟ ... فلا يجيب،لأنَّه كان غارقاً بآلاف الأسئلة بينه وبين نفسه... والهواجسُ تتلاعبُ به، والشكوكُ تعزوه من كلِّ حدبٍ وصوبٍ عن ماضيها، هذا السدُّ الهائل الذي يقفُ بينهما... "فالرجلُ الحقُّ لا يعيبُ على الفتاة ماضيها، وهي الأضعف كما يفترِضُ فيها، ولكنّ الرجل من يعيب على نفسه، أن يستغلّ ثقة الفتاة؛ ويجعلَ لهاماضياً، منفصلاً عن مستقبلها.." وأنهيا حديثهما ورجتهُ أن يهب إلى رفيقته التي تركها لوحدها..‏
          ربابُ الرقيقةُ الرائعة المتحضرة، أخت زميله، خفّفت عنه الكثير ولولاها لانفجر، أو ربّما انسحق تحت مطارق أفكارِه السوداء التي لا ترحم، ولا يقرُّ لها قرار...فأشفق عليها، واحترمها، فهي لا تسعى للزواج، بل إلى المتعة المبّرأة عن أي غرض... أمّا إيناسُ فهي التي سمّمتْ حياته، وشوشت أفكاره، ونصبت حاجزاً عالياً بينه، وبين أيّة امرأة أخرى... لا، لا ،لا دخل لها، بل شعورهُ نحوها هو الذي أقام تلك السدود.‏
          وبعد صراع عنيف حزَم أمرهُ وذهب إلى فندقها علّه يحصلُ على جوابٍ شافٍ منها، فأقبلت بشحوبها وقد ازداد وضوحاً، وضعفها الذي تحاول إخفاءه، وسألها: إيناس هل أنت مريضة؟ ... فأجابته،ودار بينهما حوار طويل ثم لفهما الصمت، عزّاها بوفاة والدها... وانتهت إجازة إيناس، وعادت إلى بلدها... أمّا هو فعاد أيضاً إلى بلده، لأنَّه ماعاد يستطيعُ أن يظلَّ في لبنان، وطيفُها يلاحقه، ويقضُّ مضجعَه، ويضخِّم أحزانه، ويضيِّقُ الخنّاقَ حوله.‏
          لم يستطع المكوث في مدينته... فقد وجد نفسه وقد شدَّ الرحال واتّجه إلى قريتها ونزل في بيت أهلها، لتعود من عملها فتجده هناك بانتظارها، ففوجئت برؤيته، ولمحَ في عينيها أكثر من الألم وأقتم من اليأس.‏
          يقولُ: وأسرَّت لي أُمُّها أن إيناس مريضةٌ، وأن في حياتها شيئاً تجهله، ولا تسمح لأحدٍ أن يُشاركها مابِها، وبكت معتذرةً... ثم طلب من إيناس الانفراد بها، فانتفضت كعصفور اكتسحته برودةُ الطقس، فأدخلتها أمُّها لغرفتها... وطلب من الأم يد ابنتها بحضورِ صورة الوالد الراحل.‏
          فأجابت الأم قائلةً: إيناس مريضةٌ، وهذا لا يليقُ بك!‏
          إذن لابدَّ من الانتظار حتّى تشفى... وغادر بلدتها بعد انتهاء إجازته، وعادَ إلى مدينته، ليحزمَ حقائبه، ويسافرَ إلى البلدَ الغريب حيث يعمل.‏
          وحزَّ في قلبه أنّه ترك إيناس على فراش المرض، وعيونُ أمِّها لا تنقطع عن البكاء، وذكرى زوجها الراحل مازالت ماثلةً أمام عينيها... وكم تمنَّتْ هذه العجوز أن أكونَ أخاً لإيناس لأَرعاها... وقلتُ لإيناس قبل مغادرتي، إنّي راحل غداً يا إيناس، وقبل أن أودعك، اطلبُ منك أن تحيطي نفسك بعناية أكثر لتتحسن صحتُك سريعاً، فآتي لآخذك معي... عِديني بذلك، لأنَّ صحتك تهمُّني، كما تهمُّك تماماً بل أكثر ... ورغم ذلك كانت تتجاهل كلَّ ما يصدرُ من العيون، وإن كانت إيناس المرأة تستطيع أن تحسَّ بماهو أعمق من أن يقال، وأقدس من أن يحكى.‏
          وبانَ الفرحُ على وجهِ الأم وهي تستمع لحديثي، وتابعتُ: إيناس سيكونُ مستقبلنا مليئاً، سنحسُّ دفءَ الحياةَ معاً.. فتمتمتْ إيناسُ: لا، لا ياأحمد، لا تقلْ ذلك، لا تقُلْه أبداً... فأنا لا أستحقُّ منك كلَّ ذلك... وظلَّت تحكي حتى شرقت بدموعها، وهربت من مجلسنا، فسكتُّ رغماً عنّي، وانصرفت.‏
          حاولت أن أُبقي على صِلتي معها بكل الوسائل، بالهاتف، بالرسائل، بالذكريات، إلى إنْ كانت ذاتُ رسالةٍ، حكتْ لي القصّة بأكملها، بل كان في الأمر أكثر من قصّة:‏
          قصّة فتاة قضت طفولتها وشبابها في مجتمع ظالمٍ، رفضتْ الزواج من ابن عمها، ودرست عناداً لإهلها، لأنّ الدراسة للذكور، فبزّت أقاربها ذكوراً وإناثاً، وتخرّجت طبيبةً بجدارةٍ، لتُثبِت عكس مقولاتهم، وتعزز أنوثتها... ولم تترك مجالاً لمتحَدِّثٍ، أو فرصةً لمتخرصٍ حسود، كمالاً وخُلقاً، وسلوكاً... وصارحته أنّها ماعرفت الحب الحقيقي إلاّ منذ عَرَفتْهُ... أماتجربتُها الأولى، فكانت أبعد ما تكون عن الحبِّ وعبيره... وهي لم تقدِّم شيئاً، ولم تخسر شيئاً في تلك التجربة... إلاّ أنّها ترفض أن تتزوّجه كيلا تعكر حياته... وتتابع: لقد اقتحم ذاك أسوارَ حياتها العالية، حياتها الخالية من أية تجربة... مع ذلك لم تستسلم، ولم ترمِ سلاحها، لأنَّها كانت تخشى الخديعة وتكره الكذب ... ذاك أحبّها بصدقٍ وحرارةٍ، دون أن يلجأ إلى تلك الكلمات، بل كان ينفِّذُ ماتريدُه منه، فتصنعَهُ على عينها، دون أن يتذمَّر أو يعترض... لأنه كان في خيالها السجين صورةً لفتى الأحلام، وكان حريصا على الفوز بقلبها.‏
          أنهى دراسته وجاء يستشيرُها في التقدم إلى أهلها لخطبتها، لكنَّها اعترضت، لأنَّها مازالت طالبةً، وتحتاجُ لثلاث سنوات، وعليه هو أن يذهب لدراسة الاختصاص الذي أرادته له... وبعد عودته سيتمُّ كل شيء.‏
          وذهب لأوربا للحصول على الدكتوراه في الطبِّ، وبدأت تسمعُ عنه، مالا تستسيغهُ، ومايُسيء إليها...، وأخذ يتنكَّرُ للقيم التي زرَعتْها فيه... فهوى عن عرشه بعد أن تصدَّع... فتجاوزته، وعزفت عن أخلاق الذئاب... فما وجدتْ بغير الكُتاب ملاذاً، فنجحت بتفوقٍ، وعملت ونجحت بعملها... وهاهي ذي تدفع ثمن غلطةِ حبها غدراً، وصمتاً ودموعاً لا تنهمر، وأناتٍ لا تُسمع... وعادَ إليها نادماً متأسفاً، تقول: عاد إليِّ باكياً مُعتذراً... لم أحْنقْ... فقد كانت العاصفةُ قد انجلت وحلَّ محلّها الوداعةَ والصفاء... لكنّني شعرتُ باحتقارٍ شديدٍ له، وبرثاءٍ مشوبٍ بالألم... وكأنِّي متفرجةٌ على هذه المأساة، فقد طردّته من حياتي، وأصبح خارج عالمي... لأنَّني لا أجمعُ نِفايات العالم وأقذارَه... ولم أقبلْ توبتهُ، وذهب، ولم أشعر بالأسف لا نصرافِه الذليلِ، وتقيَّأت فعلاً... وشققْت طريقي وأنا أذكر ماقالوه يومَ رفضتُّ الزواج من ابن عمي: تُرى ماذا ستكونُ عليه نهايةُ هذه المجنونة؟ ...وظلْلتُ وحيدةً، وبنيتُ حياتي على هذا الأساس... ولو أنّي قبلتُ أمراً مسلّماً به في ذلك الحين، كما تفعلُ معظمُ الفتياتِ لجنَّبْتُ نفسي مشقة الطريق وقساوة الصراع، ولأرحتُها من مرارة التجربة".‏
          لقد غفرت إيناسُ للناس جميعاً، وبدأت نفسُها تصفو، ولكنَّها لاتريدُ أن تضيفَ إلى الماضي الذي مَرّ مستقبلاً، أو حاضراً مُرَّاً مثله، ولن تسمحَ لنفسها أن تتزوَّج رجلاً مهما أحبَّتْه، مادام رجلٌ قد مرّ في حياتها، لأنَّها لن تسمحَ لنفسها باحتقار نفسها.‏
          وطلبت منهُ أن يبحث عن امرأةٍ يتزوجها، فهي لا تريدُ أن تعذِّبَه أوتشقيه لأنَّها تحبُّه، وكل ماتخشاه من الرجل هو أن يعيِّرَها لأنَّها شربت كأساً غير كأسه قبله... مسكينةٌ إيناس مظلومةٌ وظالمةٌ، ظلمَت نفسها، وظلمها هو... كلُّ ذنبها أنَّها عاشت في بيئةٍ ذات أفكارٍ معينة وتأثرت بها، وكان ردُّ فعلها عنيفاً عليها، وأحاطت بها ظروفٌ قاسيةٌ عدا تجربتها المُخفقة في عالم الحب الجميل... ولو أنَّ من أخفقوا بتجربة حُبِّهم أغلقوا على أنفسهم -كإيناس- لمابقي من مظاهر الحياة والأحياء شيء.‏
          المرأةُ دائماً تملك مايُغيِّرُنا، تملكُ مايقلبُ ثورتنا هدوءاً، ونزقنا حِلماً، وطيشاً وتعقلاً، أو تعقلنا جنوناً.‏
          وتتصل بأحمد زوجةُ صديقه الطبيب طالبةً منه الحضور إليها، ويذهبُ أحمدُ وفي رأسه ألفُ احتمالٍ... وصلَ ليرى الفاجعة بعينيها الدامعتين، فصديقهُ الطبيب مشلول وفي غيبوبة نتيجة حقنهِ بالمسكِّنات... وهي تبكي وتنتحب وتشرقُ بالدموع... ويضيعُ أحمدُ في لجةٍ من الأفكار الهوج، والحيرة القاتلة، ويتوهُ في عوالم لا تحدُّ، ويستغرقه صمت عميق، لايستفيقُ منه إلاّ على صوتها يُردِّدُ كالببغاء: أنا وحدي وغريبة لا أستطيع.... ويستدعي طبيباً، يفحص صديقه، ويكتبُ وصفةً، ويذهب باحثاً عن الدواء، ويعودُ به، والطبيبُ مازال يتأمَّل المريضَ وعلائم الأسى والحزن باديةٌ على محيَّاهُ، والزوجة مازالت تنشجُ وتشهقُّ بالبكاء وتكادُ تمزّق ثيابَها...‏
          انصرف الطبيب، وبقي أحمد يصارعُ آلاف الأفكار والاحتمالات... ويغرقُ في صمت رهيب... ويأتي طفلها الوحيدُ من مدرسته، فيذهلُه، ماهمْ فيه من حيرة وحُزن وألمٍ وأسى... ويرى والده فلا يقوى على احتمال مايراه، وينظرُ إلى أمه "كومةٌ من الفزع. كتلٌ من الأسى... لم تجدْ شفتاهُ بسؤال، بل تبلور السؤال الخائف، السؤال المرتجف في نظرات العزيز الصغير... اختلج الخوفُ على الشِّفاه الصغيرة... ومافتئت صحراءُ العالم وكآبةُ العالم، ووحشةُ العالم أنْ أغرقتْ السؤال في وحشيتها وكآبتها وصمتِها الحزين... وضاع السؤال المترنِّح في حدقتي الصغير في صمت الكآبة والوحشة...‏
          في سكون الفزع وارتجاجات الرعب... ضاعَ كما يضيعُ نجمٌ صغيرٌ ضعيفٌ في سماء سوداء واسعة مملوءة بالعواصف والرعود... لم يجبُهُ أحدٌ، وتمثَّل فزعُ أُمِّه في عينيها... وانتقلت عدوى الرعب إلى عيني الصغير، فتمثّل الفزعُ فيهما... في حدقتيْهما البريئتين بدا عالم الخوف يرسل أشرعتَه...." يتابع أحمد الجديد لأحمد القديم:‏
          "لو كان لك قلبٌ أيُّها الألم لما فعلت ذلك... ولكنَّك أعمى دون قلب... وما أكثر من لا يُبصرون بقلوبهم، فيفقدون أروعَ وأبدعَ خلجات الحياة... خدرٌ بدأ ينقرُ من أعماقي، وشيء ما يتحرّك فيها... بدأ بدبيبٍ بطيءٍ ثم استيقظَ العملاقِ، فتحركت إنسانيَّتي، وبدأت أشعر بأني أستعيدُها..."‏
          لستُ مشلولاً - كما خُيّل إليّ- لم أعد مشلولاً!!‏
          (إنَّني أتحرَّكُ، أُحسُّ وأشعرُ أملكِ إنسانيتي... فإنسانيتي قد عادت لي... أعادها لي طفلٌ في عينيه ألم يمزِّقُه، وحزنٌ يكويه، وغاباتُ ضياعٍ تبتلعُهُ...‏
          كانّ الطفل نبيي ... وطبيبي ... حبيبي ...ومخلِّصي.‏
          كان الطفل مسيحي المنتظر... مسيحي المنقد...‏
          للطفل الصغير أهمية في تغيير الحالة النفسية للشخص من قلقه ومضطربه إلى إنسانيةٍ متفائلة.‏
          ... محظوظٌ أنا... أنا الذي عادت له إنسانيته... منَحها لي من جديد طفلٌ بعينيه دموع وفي فؤاده جُرحٌ مدمَّى... وفي حُزنِهِ، ومن دمِ جُرحه، غمَّس الإلهُ لي عشائي المقدَّس... وأعاد لي سرَّ الحياة...لابل سرق الصغير لي سر الحياة ودفع ألمه ودموعه، كما سرق بروميثيوس النار للإنسان... المنقذان "الطفل وبروميثيوس".‏
          وهكذا عادت لأحمد إنسانيَّته وحريَّته ... فودَّع بيتَ صديقه المُسجَّى، بعد أن قدَّم مالديه من بضاعةٍ تعينُ على الصبر والاحتمال والتجلُّد.‏
          وعاد... عاد للتفكير بإيناس، إيناس المنعطف الأوَّل في حياته... وكتبَ لها عن كل شيء، عن اللحظة التي كاد أن يفقد فيها عقله وقلبه، لولا أن أعادهما إليه ذلك الطفلُ الصغيرُ، طفل في عينيه ألم، وتحت جفونهِ دموعٌ... أعادَ له سرَّالحياة، جوهرَ الحياة... فكيف بها هيَ تعيشُ بلا أمومةٍ، بلا أنوثةٍ، بلا أبناءَ، بلا زوج.؟!‏

          وطلبَ منها أن تعتني بالزوجةِ المحزونة التي قال عنها يوماً أنها جميلة يانعة... ورحلت الزوجةُ والابن والزوج عائدين لأرض الوطن... وأخيراً، أراح الله الزوج من تعبِه ومرضه وتوفاهُ الله تاركاً خلفه هذا الطفل يواجهُ أعاصيرَ الحياة... هكذا قضي الأمر.‏
          وأخيراً وبعد طول انتظارٍ أحرّ من الجمر، وصلته رسالة من إيناس تفاجئه فيها بأنها قد باعت المنزل، والأملاك الأخرى، ورحلت مع أمّها إلى بلادٍ جديدة، إلى أرضٍ مجهولة، وقالت: " إنّها تبعثُ برسالتها من البحرِ، من مرفأ رست سفينتها فيه لتستأنف المسير إلى ميناءٍ آخر لم تذكر اسمَهُ، لأنها تريدُ أن ترسو بأحزانها لوحدها"، إنّها تهرب من الجميع، بعد أنْ ارتكبتْ جريمة قتلٍ كما أسمتهْا... ولكن من قتلتْ؟‏
          كتبتْ تشرح الأمر قائلةً: "لقد قتلتُ صديقكَ الطبيب.... قتلتهُ دونَ قصدٍ" ودون أن تقترب منه طبعاً... وكدتُ أظنُّ بها الجنون، لولا ما فسَّرت به قولها: فقد كان هو... هو فتاها الأول.... ورغم أنّه مات لديها قبل أن يموت تحت وطأةِ المرض فإنَّها تعتقد أنّهاهي القاتلة... قتلتهُ إذ رفضت عودَته إليها‍‍!...‏
          " مسكينةٌ إيناس، الشعورُ بالذنبِ، الشعورُ بالإثمِ يلاحقانها، وهي لم ترتكِبْ أيَّة إساءةً في حقِّ أيِّ إنسان... وهي لم تؤذِ أحداً..."‏
          كيف أقنعت أمَّها بالذهاب؟! سأعرف أين ستستقر وسأجبرها على العودة إلى الوطن؟ وأنا لماذا أبقى مشتتاً ضائعاً، لابُدَّ لي من العودة إلى أهلي، إلى شُرفتي لأبدأ من جَديد...‏
          وقفل عائداً إلى مدينته... وهناك أخذَ يحسُّ بالصمت المقيت... لا رساله، لاحركة، لاشيء مطلقاً... وراح يُعلِّل نفسَه بعودتها، فهو لم يقطع الأمل، وهي أمله ورجاؤه، وأخذ يتساءل: من يدريني كيف ذهبت تلك العجوز معها؟‏
          مالذي سيحل بهما لو أصاب أحدهما مكروه؟‏
          أمُّها امرأة ضعيفة عجوز، وهي نقطة الضعف في فرار إيناس، ولابُدَّ أنَّني سأنفذُ من نقطةِ الضعف هذه... لأنَّ الأمَّ لنْ تستطيع العيش في الغربة... وهي تحبُّ أمها، فلابُد أن تعودَ بها يوماً...‏
          وسافر إلى قرية إيناس، ليقف أمام سكِنها يندُبها، ويُناجي حديقتها وظلالها كما وقف الجاهليون على الرسوم والأطلال يناجونها ويستنطِقونها... لا يكاد يفارقها حتى يعود إليها... وبعد زمنٍ انطلق إلى لبنان، لكنَّه لم يستمرئ الإقامة فيه.... لذلك عادَ إلى بلده إلى أهله على هودجٍ من الأسى والوجع والضيق... وأغرق نفسه بآلاف من الأسئلة المحيرة تتعلق بأملٍ ممطولٍ وعودةٍ لن تتحقَّق... وظلَّ ينتظرها، وينتظرها مادام كوكُبنا يدور، وشمسُنا تتدلى عناقيد نور... وسيظلُّ ينتظرها إلى أن يرث الله الأرض وماعليها.‏
          هذا هو مجمل رواية "الحب والوحل" للدكتورة إنعام المسالمة التي تختلف في تقنيتها فتخرج عن الخطِّ الكلاسيكي لمعظم القَصص والروايات العربية"، "معرفة، فاستلطاف، فحبٌّ، فزواج" ... إنَّها مأساة اجتماعية ذات أبعادٍ إنسانيةٍ ونفسيةٍ وفلسفيةٍ، تفسِّر شكل رؤية الروائية إنعام للحياة التي تتلخص بالصِّدق، والوفاء والحب القاتل، والثورة على القديم الرثِّ لصالح قيمٍ جديدةٍ تتبنَّاها وتسعى لتثبيتها.‏
          لذلك يظل القارئ لهذه الرواية يلهثُ وراء الحدث والعرض الروائي المشوّق، وبلهفة بالغةٍ للوصول إلى ميناء يرسو معها فيه، وإراحةِ نفسه المضطرمة اللاّهثة من تتابع الأحداث في حوارٍ حيٍ وساخنٍ، ولغةٍ متمكنةٍ من استكناه أبعد الحركات النفسية غوراً في داخل الإنسان، فلا النهايةُ تأتي، ولا الحدث يتوقف حتى السطور الأخيرة من الرواية، حيث يجدُ المرء نفسه على تخومِ نهايةٍ تتوالد منها بداياتٌ واحتمالاتٌ لها أوَّل وليس لها آخر... يصلُ إلى خاتمةٍ إنّ صحّت التسميةُ إلى لا نهايةٍ حُبْلى بآلاف الاحتمالات والتوقّعات... وهذه نقطة التفوق في هذه الرواية، لأنها تترك للقارئ دوراً يشارِكُ فيه في صنعِ النهاية التي يريدُ.‏
          نقطة أخرى لم توفق بها "رواية الحب والوحل" وهو اسمُها غير اللاَّئق للرواية، إذا لم يحالف الحظُّ الروائية إنعام في هذه التسمية، إذ كان حقُّها أن تسمى الحبُّ والغمام أو الحبُّ والسماء أو الحب والطهر... لأنَّ شخوصَ الرواية عيِّناتٌ نظيفةٌ جداً من البشر، لاتتلاعبُ بهم عواطفُ هوجاء تخرجهم عن وقارهم ونظافتهم، حتى حين يختلطون في أجواء تستدرج البشرَ للوقوع في الآثام... يظلُّون طاهرين أنقياءَ من الداخل والخارجِ لا تتسرَّبُ إليهم الشُّبهاتُ أو الظنون.‏
          تدخلهم إلى مخبرِها الروائي فتكسوهم لحماً وخلقاً سوّياً، وخُلقاً نقياً... وترسمُهم، من الخارج كما ترسمُهم من الداخل... إنَّها تكتبِ في عالمٍ نظيفٍ عالمٍ معقَّم، ربَّما تسرَّبتْ للروائية هذه النظافةُ من مهنتها كطبيبة أسنان، أو لأنَّها أحاطت نفسها بسياجٍ عالٍ من القيمِ التي ورثَتْها نتيجةً لتربيتها البيئية الرفيعة.‏

          إلاّ أن مأخذاً واحداً يؤخذُ على شخوص رواية "الحب والوحل" هو الصرامةُ الحادة التي تفرضُها عليهم المؤلفة فتلوي أعناقهم وتُخضِعهم لصالح هدفٍ مرسومٍ، وتوظِفُهم لخدمة ذلك الهدف.‏
          وأمّا اللُّغة التي كُتبت بها الرواية، فلغةٌ جميلةٌ، ترقُّ في مواقف الرقِّة، وتقسو في مواقف القسوة، وتعنفُ في محاسبة الذات، وأزمة الضمير.. فإنعامُ في روايتها متمكِّنة من عِنان اللغة، فهي بين يديها ليَّنةٌ، طيِّعة، عجينةٌ تصنع منها ما تشاء، تُكوِّرها، تدوِّرُها، تمدُّها، وتقصرُها بحذقٍ ومهارةٍ، وقلما نبتْ كلمةٌ هنا، أو خرجت عن مألوفِ استعمالها هناكَ... تراكيبٌ عربيةٌ سليمةٌ، لاهُجنةَ ولا إغراب.. وتصوير فنيٌ رائعٌ يتكاثف أحياناً كثيرة ليشكل لوحاتٍ بارعةٍ لا تقلُّ عن اللوحات الشعرية رقَّة وخيالاً وجمالاً.‏
          قد لا أشارك إنعام في صرامتها هذه، وقسوتها تلك، بل قد أزعُم أنّها تفتعِلُ الحدث وتسوقه أمامَها بقوة لا ترحمَ، وإرهابٍ يصلُ إلى حدِّ القمع تمارسُه على شخوصِ روايتها... فهي تظلُّ تحرِّك خيوطهم وتُتابع مصائرهم وفق خطّةٍ مرسومة...‏
          ترتفعُ هذه الرواية رغم بعض المثالب التي مسَّتْها بأطرافها مسَّاً دقيقاً، إلى أفقٍ سامٍ، لا أظنُّه دون مستوى مرتفعات وذرنج، للقاصَّة إميلي برونتي التي ماتت ولم تسمع تقريظاً لروايتها، حتى جاء بعد موتِها من أزاح الغبار عنها وأطلَقها في عالم الأحياء، تطبُع مِنْ جديد، وتُمثِّلُ، وتُصوَّرُ على شاشاتِ السينما والتلفاز.. وأرجو أن لا أكون كذاك....‏
          ولعلّ إدراك الدكتورة إنعام لحركة مجتمعنا، هذا المجتمع الذي يحكمه النِّفاقُ والجهلُ والمظاهرُ المخادعة، والذي لايمكن أن يتقبَّلَ النُبْل والمثاليةِ، هو الذي أوقفَ تدفق هذه الموهبة الثرة التي أنتجت "الحب والوحل" فتفيضُ علينا برواياتٍ أخرى.. ومن هُنا كان العنصرُ المأساوي يتَّضحُ في الرواية كلَّما قاربت نهايتها على الرغم من محاولات إنعام التخفيف من وطأة الحدث وكسرِ مأساويته.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: في رحاب الفكر والأدب

            دراسةٌ تحليلةٌ للمجموعة القصصية "الاغتيال"
            نحن على أبواب مجموعةٍ قصصيةٍ، للقاص الأستاذ ميلاد قندلفت(1) وقد أطلق عليها اسم "الاغتيال" وهو اسمُ أوّل أقصوصةٍ فيها.‏
            وها نحن أولاء نفتح أبوابَها، لنفكّ طلاسِمها واحدةً واحدةً، ونلج رِحابها،ونتجوّل في رياضها: نُفسِّر هذه، ونلقي الأضواء على تلك، حتى تصبح واضحةً بمعانيهاومقاصِدها ووظائفها، ثم نتحدث بعد ذلك عن فنِ القاص، وأسلوبه، ولغته.‏
            نبدأ بالقصة الأولى، فالثانية، إلى آخر الشوط:‏
            1- الاغتيال:‏
            محمدٌ أبوالليل بطلُ قصة الاغتيال، يتأبّى على الموت، ويقهرُ الاغتيال، لأنّه يؤمنُ بالوطنُ والحبّ، فهو صاحب قضيّةٍ، وأصحاب القضايا لا يموتون، يكبرُ بالوطن، والوطنُ يكبرُ فيه، يمتزِجان ويشتبكانِ، لافكاك لارتباطهما وتوحُّدِهما.‏
            وتختلطُ الحقيقةُ في هذه القصة بالحلم، والواقع بالمستقبل المأمول، معبرةً بذلك عن الصلة الوثيقة بين ثوارِ فلسطين، والأرض الفلسطينية، مفصحةً عن انتصار الإنسان القضية على زعازع الفناء... ولكن حين لم يجدوا فلسطين على ساعده الأيمن، وقلب الحب ليس على ساعده الأيسر، عندها فقط شعر بالموت يتسلّل إلى نفسه.‏
            2- عقد الزواج:‏
            فعلاً لم يكن يربطها به إلا ورقةُ عقد الزواج، إنّها حواءُ، حواءُ التي أغوت آدم قبله، وهبطت به إلى مستنقع الشقاء.... هو تبدأ حياته عندما يتزوج لأنّه يبدأ ببناء الأسرة، وهي تنتهي حياتها عندما تتزوّج، لأنها تكون قد ألقت القبض على الرجل الذي ستعكر صفو حياته، وتعبث في عيشه، وتنفث سمومها فيه، هذه هي سيرة حواء منذ سقوطها، وهذه هي قصة بطلةِ عقد الزواج، فإن كان في الواقع ماقد يُخالف ذلك، فهذا شأن آخر.‏
            3- بصيصُ أملٍ منطفئ:‏
            يمثلُ الطالب باسمٌ بكلية الهندسة بجامعة دمشق، جيلاً من الشاب المعاصر، الذين تصفعُهم الحياةُ بأعز أمانيهم، وتُخيب آمالهم، وتبعثر جهودَهم.. فآمالُهم الطموحة أكبر من أن يحتملها الواقع الآسن أويحققها لهم، فيستكينون للإخفاق، ويستسلمون للعنة الواقع المتردي، والحالة السيئة التي آلت إليها تطبيقات القوانين الناظمة لحياتهم.‏
            فبدلاً من أن تحلَّ لهم عقبات العمل، وتسهِّل أمامهم الحياة، تسوِّدُها في وجوههم، وتُشعرهم بالظلم والحيف اللذين يسحقان كرامة الإنسان ويحطمان آمالَه... حقوقهم تهضم في وضح النهار ليتمتعَ بها زيدٌ من الناس، بلا سبب، أو مؤهل، أو تفوُّق، إنّما فقط لأنّه ابن عبيدٍ من الذوات... وهكذا تنهار القيم، وتسقطُ حُرمة القانون تحت نعال ذوي النفوذ، ويتراكم الظلم في نفوس الأجيال، فتفقدُ حتى الشعور بالأمل، ويصبحُ الوطن سجناً كبيراً يُطفئ نورالحياة في النفوس، ويصبحُ عبئاً ثقيلاً لا يُحتملُ، يسُدُّ أيّة بارقة أملٍ محتملة، ويغلقُ كل بوابات الخير في حيواتهم.‏
            أمّا أم هاشم فتمثّل حُثالة المجتمع الحديث المشوّه، الذي نما على هامش الثورة، فتفسخت قيمهُ، وفقد أخلاقه، وتأثر بساستِه، فتحول بجشعهم وطمعهم إلى ذئابٍ تنهشُ لحوم الناس، يُنشبون أظافرهم في أجسادهم، والمهمُّ هو الكسبُ، الربحُ.‏
            وأمّا الراسبون الذين يظلُّون محتلِّين للسكن الجامعي، فيمثلون تلك الشريحة الظالمة المستهترة التي تدوس على كل القوانين والتشريعات والأنظمة، ويخضعونها لرغباتهم ونزواتهم ومصالحهم، فتُمثل شريحةً ظالمةً من شرائح الفساد التي استشرت في صفوف هذه الأمّة البائسة، فحوّلتها إلى قطعان بشريةٍ تائهة حائرة لا راعي لها، لا ماضي لها، ولا حاضر، ولا مستقبل لا شيء لها في هذا الوطن السجن غيرالقهر والذل والعسف والجور.‏
            4- الهاجس:‏
            يمثل الأستاذ غالب مسؤول نقابة المعلمين جيلاً ثُقِّفَ حسب المنهج الرسمي، لا يفهمُ، لا يسمعُ، لا يرى إلاّ ماتدسُّه السلطة له من معلومات، فهو مبرمج وفق رغبات السلطة، ومُسوقٌ لبضاعتِها، أياً كانت هذه البضاعة، يُدافع عنها بكلِّ مافي دواليب سيارته من هواء، يدفعه ماتراكم في نفسه من غشٍ وخسةٍ وتهالكٍ على المنصب ومكتسباته.‏
            أما نقابة المعلمين أو أي نقابة أخرى في بلادِ العالمِ الثالث والديمقراطيات الشعبية المسبقة الصنع، فهي مخفر شرطةٍ للسلطة ضدّ أعضائها، وعصاً تلوَّحُ بها السلطةُ وتضربُ بها كلَّ من يُحاول أن يفكر بشكلٍ يُخالف توليفها.‏
            5- انتبه المصعد مُعطّل:‏
            قصة تحدثُ وأمثالُها يومياً آلاف المرات، وتفضحُ التسيُّبَ الذي آلت إليه الأمور العامة، وتسلِّطُ الأضواء على أكثر من خلل اجتماعي، انحدرت إليه الحياة العامة، فحوّلها إلى جحيمٍ يصطلى الناس بنارِه، ويحترقون بلظاهُ، بل وربّما دفع الناس حيواتهم ثمناً لهذا التسيُّب كما حصل للدكتور علي.‏
            6- تظاهرة من أجل خديجة:‏
            التظاهرُ من أجل خديجة قصةٌ رمزيةٌ تعلم الناس معنى النضال من أجل تحقيق الذات. وجميل النوري بطلُ هذه القصة مثلٌ رفيع جداً لنموذج من المناضلين الشرفاء، الذين انتصروا على خوفهم، وتغلّبوا على فقرهم وضعفهم، وقهروا جلاّديهم، فتطاولوا، وتعملقوا حتى أصبحوا منائر يأتمُّ بهم الصالحون... أمّا الناس من بقية القطيع، المسجونون داخل خوفهم، والمختبئون داخل قوقعتهم، فإنّ انتصار جميل يرعبهم، يجمدُ الدم في عروقهم، إن كان ما بعروقهم دمٌ؟! ويصيبُهم بالكساح، فلا يقدرون على المسير، فيزحفون على بطونهم.‏
            7- الدائرة الضيقة:‏
            تعالج قصة الدائرة الضيقة حال المرأة التي ترفض حقائق الحياة دائماً، ترفضُ الصدق، لأنها تريد أن تعيش داخل أوهامها، لو سألتها عن أولادها الستة، وأمكنها أن تضلِّلك، لقالت على الأقل إنهم أبناء زوجها.‏
            باسمة تغرق في رومانسية العلاقة المرتسمة بذهنها فقط مع كمال، وترفضُ أن تعترف بالواقع المعاش والمحسوس... في حين أن سها أكثر وعياً، وأعمق نضوجاً وواقعية، فرأت بالعودة إلى زوجها وأولادها الحلّ الصحيح والوحيد، بعد تغليب الرأي ووجهات النظر طوال ليالي السهد والعذاب.‏
            8- قصاصة حب:‏
            إنها مشاعر إنسانية طبيعية صادقة، تحدثُ في كلِّ عام مئات المرات في المدارس الإعدادية والثانوية والجامعات... وفاطمة كأية فتاةٍ بلغت تبحثُ عن فارس الأحلام، ولأسبابٍ شخصيةٍ ونفسيةٍ واجتماعية، وجدت عليا فارسَ أحلامها المنشود، إنه أستاذها فأحبته دون أن يعلم شيئاً عن هذا الحب.‏
            وحين عرف الأستاذُ علي بهذا الموضوع، عالجه بصورة تتفق مع الأصول التربوية السليمة، كما أراد السيد القاص ميلاد قندلفت، الذي غلب العقل على العاطفة، ونصر الأخلاق على الانحلال... فالأستاذ عليٌ لم ينكر على الفتاة حبها، بل حاول أن يرتفع به إلى حبٍ أخوي أسمى من أغراض الجسد... وحين تمادت فاطمةُ وطلبت تذكاراً منه، لم يغير موقفه، وظل صلباً، مدرعاً بأصول التربية والأخلاق، ومن أجل ذلك شعر أن حملاً ثقيلاً انزاح عن كاهله، حين علم أن الجنازة المارة أمامه لفتاة اسمها فاطمة العبد الله، هي ليست فاطمته التي لابُد أن تكون جراحُها قد اندملت بعد مضي أسبوع على فراقها.‏
            9- المعلمة والمدفأة:‏
            قصة رائعة اختلطت فيها الحقيقةُ بالرمز، فاستحقت أن تكون بجدارة مسك الختام، فهي من نوع فذ من الأدب الرفيع الذي يحلِّل أعمق المشاعر الإنسانية، ويرتقي بالحياة ويسمو بها، ويجعلُها أكثر سعادةً وبساطةً وتستحق أن تعاش، رغم الفقر المدقع الذي يُلون هذه الحياة، ولم يستطع لا اليمين ولا اليسارُ أن يخفف من غلوائه، وذلك حين أخرج أطفالُه قماشَ جيبية... ورغم ذلك لم يستطع أن يُعكر صفو الحياة الزوجية، أو أن يعكس ظلاله القاتمة عليها.‏
            فالسعادة تتبعُ من داخل النفوس النقية، والأرواح الصافية الهنية، لا من داخل الجيوب الغنية.‏
            ***‏
            الأستاذ القاص ميلاد قندلفت، صوتٌ أدبي مألوف على المنابر الثقافية في درعا، فلكم حضرنا له أمسيات قصصية أتحفنا بمضموناتها ومتعنا بمعانيها الحلوة، وأغرقنا في تحليلها وفك رموزها... وأطلعنا من خلال قصصه على طعوم ثقافته المتعددة الجوانب، وعلى قُدرته الفنية العالية في استخدامه لأدواته الفنية القصصية.‏
            تحسّ وأنت تقرأ هذه المجموعة القصصية وغيرها من نتاجه الأدبي، أنك أمام أسلوب علمي رصين، يُعبر عمّا يريد بلغةٍ بسيطةٍ واضحةٍ لا لُبْس فيها، تستعمل فيه الكلمات للمعاني التي وجدت من أجلها في الأصل، دون زخرف أو أي ترهلات بلاغية.‏
            ولا أستطيع أن أصف الأسلوب الذي كُتبت به هذه القصص بأنّه أسلوب أدبي رفيع... فالقاص لايريد هذا، ولا أظنه يُعجزه، إنما يريد أن يعبر عن الفكرة بأوضح عبارة وأدق تعبير، ومتى استطاع أن يوصل لك ما يُريد بمنتهى الوضوح، تنتهي مهمة اللغة، لأنّها أوعية للمعاني التي يريد، لا يتلاعبُ بها، ولا يستعملها استعمالات مجازية يخرجها عما وضعت من أجله، ولا يقسرها ولا يلوي عنقها ليخضعها لما ليس من استعمالاتها... وأما التراكيب فكلها متينة سوية بعربية سليمة لا تخالف قاعدة، ولا تخرج على أساليب العرب.‏

            الأفكار في القصص جميعها واضحةٌ دقيقةٌ محددة، وظفها الأستاذ ميلاد لتؤدي كامل دورها الذي اختاره لها، فمعانيها هادفة ملتزمةٌ رغم تعدّدها.‏
            فمرةً يسلط الأضواء الكاشفة على بعض قضايا التسيُّب المنتشرة في المجتمع، فيفضحُها ويُعريها ليعتبر الآخرون، ومرةُ ينحو منحى الرمز كما في قصة الاغتيال حيث يتأبى أصحابُ القضايا على الموت والاغتيال ماداموا مؤمنين بقضاياهم.. ومرة ثالثة يستبطن أعماق المرأة ويحللها من الداخل، ويحكم بأنها تجهل حتى مصلحتها ومصلحة من حولها إلا من رحمها الله كـ سها).‏
            وقلما يلجأ القاص إلى استعمال الخيال، فما حاجته للخيال؟ مادام الواقع بين يديه بكل أوجاعه وأوحاله وعاهاته!! فهل انتهينا من معالجة كل قضايا الواقع ومشاكل الحياة، ولم يبق شيء نعالجه، حتى نلجأ إلى الخيال؟! ربما جاء الخيال مسربلاً بالرمز عن غير قصد، كما في قصة الاغتيال، وفيما عدا ذلك فما للقاص من حاجةٍ إلى الخيال.‏
            وهو في حلوله المطروحة من خلال قصصه، لا يلجأ إلى الحلول التلفيقية، بل يُعالج الأمور بصورةٍ جذريةٍ لا لُبس فيها، ولا غموض كموقف الأستاذ علي من تلميذته، فاطمة، أو كما فعل بطل قصة عقد الزواج.‏
            (1) مدرس في مادة اللغة لأنكليزية في ثانويات درعا ومعاهدها.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: في رحاب الفكر والأدب

              رائدة أدب الأطفال في محافظة درعا.
              "الأفعى والراعي" مجموعة قصصية في أدب الأطفال صادرة ضمن مطبوعات اتحاد الكتاب العرب عام 1982، طرَّزتها ريشة الأديبة المبدعة نظمية أكراد، التي تعدُّ بحق الرائدة الأولى لهذا اللون من القصِّ، على امتداد سهول حوران وروابيها، بل وأجرؤ على القول بأنَّها المجموعة القصصية الأولى التي وضعت حجر الأساس في بناء هرم هذا الفن القصصي المستحدث في محافظتنا، وفتحت الباب على مصراعيه أمام المبدعين والمبدعات من الكتّاب ليلجوا عالم هذا النص الذي غزانا حديثاً من الأدب الغربي، وإن كانت له جذورٌ موغلةٌ في التاريخ في صدر العصر العباسي الأول إلى حدٍ ما، حتى في العصور الجاهلية وانطلقت به نظمية دون عثراتٍ أو انزلاقاتٍ، فمهدت الطريق لغيرها، وذلَّلت الصعاب، ووطَّأت لهم سبل الكتابة والإبداع.‏
              تقعُ المجموعة القصصيَّة "الأفعى والراعي" في مئةٍ وأربعٍ وأربعين صفحةً من القطع الصغير، على أوراقٍ بيضاء وصفراء ملوَّنة وصقيلة، تبهجُ النفس وتسرُّ الخاطر بمُنَمنمات أطَّرت صفحاته بأوراقٍ ملونةٍ زاهيّة، بناءً على خِطَّةٍ مدروسةٍ مُسبقةٍ، لمعرفةِ الأديبة المؤلِّفةِ العميقة بتأثير الألوان في عقول الأطفال ونفوسهم، كيف لا!! وهِي الأُستاذةُ القديرة، المربِّية الكبيرةُ، والدارسة الخبيرةُ، التي خبرت ذلك، فهدْتها دراساتُها الجامعية في كلِّية الحقوق واجتهاداتها في الدراسات العليا، ونيلُها درجة الماجستير في هذا الجانب العلمي الوظيفي، الذي لوى لها عُنق أصول التربية فخضع لها طائعاً، وفتح لها الباب للتغلغُل في عُمق أعماق نفسيَّة الطفل، ومايسرحُ فيها من خيالاتٍ خصبة، ويرتعُ فيهامن أحلامٍ ملونة مبدعة -سواء في الجانب التدريسي العملي، أو الجانب النظري العلمي- فوظَّفت هذا وذاك لإبداع هذا العمل الفني الرائع لبناء أجيال تتمتَّعُ بالذوق، والصحَّة النفسية، التي تفتح كوى مواهبهم على مدارج الإبداع والتفوُّق في ميادين الحياة، تشاركُ بجهدها هذا كوكبةٌ من الزملاء المبدعين في هذا الفنِّ الجديد المستحدث، فأغنوا مكتبتنا العربيَّة، بفيضِ قرائحهم وثمارِ قراءاتهم، وزبدة ثقافاتهم ذات الطعوم الغربيَّة التي ابتدعت هذاالفنَّ القصصي التربوي النافع، وأخضعوهُ لما يتناسبُ مع عاداتنا وتقاليدنا وتربيتنا.‏
              كلُّ ذلك، صاغتْه الأديبة بأسلوبٍ عربي مبين، يتناسبُ مع القدرات اللغوية للأطفال النابهين، فتخيّرت الألفاظ العربية السهلة المنتقاة، محافِظةً على نظافةِ اللغة وخُلوِّها من المعقِّد والدخيل، دون الهبوط بها إلى مستنقع العاميِّة والعُجمة.‏
              كذلك جاءت التراكيبُ متينةً سهلةً بعيدةً عن الهلهلة "والانفلاش" مفصّلةً على قدر المعاني دون نُبوٍ أو زوائد وترهُّلات، بل ظلَّت رشيقةً، حيَّةً، مترابطةً فيما بينها لتؤلف تناسقاً مُوائماً للمعنى، وأحياناً لموسيقى الايقاع اللفظي.‏
              وقد وُفِقت في اختيار العنوانات المناسبة المشوِّقة لقصصها التي تتلاءم مع خيالات الطفولة ورؤاها من مثل "النخلة الشامخة، المطار الصغير"، وكذلك حالفَها التوفيق في اختيارالأسماء المحبَّبةِ لمن يشغلون دورَ البطولةَ في قصصها من مثل "العصفورُ دودي"، التينةُ الحمقاء، الغراب والبلبلُ، ماهر بطل قصة المطار الصغير، سميرةُ بطلة قصة البحر الأزرق.‏
              وأمّا الحوار الذكيُّ الذي كانت تديره بين شخوص قصصها، فقد كان يرتفعُ ليحظى برضا القرّاء الكبار، ناهيك عن الأطفال، انظر معي إلى هذا الحور الجميل والمعبِّر بين الغراب والبلبل: انظر إليِّ يا صديق البلبل، ألستُ جميلاً مثلك؟‏
              وعندما ألحَّ الغراب لاستماع الجواب: غرَّد البلبلُ وأجاب الغرابَ قائلاً:‏
              - لا أريد أن أزعجك.... أنت أعرف بنفسك منّي... لو كنتَ تعرفُ أنَّك جميلٌ لما احْتجتَ إلى سؤالي، ولأغنتك ثقتُك بنفسك عن رأيي فيك!!‏
              - هل تعني أنَّني قبيحٌ وغيرُ محبوب؟‏
              - لم أقل هذا!؟‏
              فدار الغرابُ حولَ نفسه بخُيلاءَ وقد لوَّن ريشه وزيَّن مظهرهُ، وقال: جميلٌ! ألا تراني؟‏
              ضحكَ البلبلُ وقال: -إذا زيَّنْتَ مظهرَكَ الخارجي يا عزيزي، فكيفَ تستطيع أن تُغيرِّ صوتَكَ وما بداخلكَ؟! إنَّ داخلَك أقبحُ من منظركَ الخارجي.‏
              - وأمَّا العِظة والنصح فخيرُما نمثِّلُ له في الخطاب الذي وجَّهه النهرُ إلى الجبل المغرور الذي يشمخ عالياً، مُتعالياً على الآخرين، فقال: "أيُّها الجبلُ العظيم، أيُّها الجارُ المنتفخُ، إنك تبالغُ كثيراً، انظر إلى تلك السهول إنَّ تُربتَها أكثر خصوبةً من تربتك، ولكنَّها عطشى، ولا يوجد فيها الماء الذي يرويها لتنتج أحلى الثمار، وأوفرَ الغلات، وأجمل الأزهار والأشجار.‏
              إنَّك أيُّها الجارُ الكبير عظيمٌ وغنيٌ بأمورٍ كثيرة، ولكنْ لا يحقُّ لك أن تحرمَ غيرك ممايملك.‏
              ولا أن تدعيَ لنفسكَ الفضلَ في كلِّ شيء، وتزعمَ أنَّكَ لا تحتاجُ إلى سواكَ... فأنا أروي أشجاركَ، وهي تزيِّنك وتجعلُك مقصدَ الناس، وتجلبُ لك العصافير، وتلطِّف الأجواء فيكَ وتشدُّ إليك السحبَ التي تُكلِّلُكَ بالثلوج وتمدني بالماءِ لأبقى، إنّك يا صديقي أكبر وأضخم مِنَّا جميعاً، وقد يجدُ الناس في جوفك الصخور التي يبنون بها البيوت، ولكن لا تنسى أنَّك لولانا نحنُ؛ النهر، والأشجار، والعصافيرُ والسحابُ، وكلُّ النباتات، والحيواناتُ الصغيرةُ المتنوِّعةُ، لماقصدك أحدٌ، ولمااهتمَ بك أحدٌ، إن الطبيعة يا صديقي متكاملةٌ، كلُّ مافيها يُعطيها قيمةً، فامنح عطاءَكَ بصمتٍ وتواضعٍ، وتعلَّمْ من أمِّنا الشمس التي تمنَحُنا الكثير، دونَ مِنَّةٍ ودون حساب".‏
              هذه هي المجموعة القصصية الأولى للكاتبة نظمية أكراد، إذ راعت فيها الاعتبارات التربوية في مخاطبة المرحلة العمريَّة الثانية للأطفال، وكانت حريصةً على القيم الاجتماعيةِ وبثِّ محبةِ الناس، وعملَتْ على تعزيز محبَّةِ الأهل والتمسُّك بالأرض والوطن.‏
              تحتوي هذه المجموعة القصصية الجميلة على ستِّ عشرةَ قصةً، لا تقِلُّ كلُّ واحدة منها عن أربع صفحات، ولا تزيدُ على ثمانٍ إلاّ واحدةً منها هي أمُّّ الكتاب، القصة الثامنةُ "عصفورٌ في مملكة الغربان"، التي تُمثِّلُ تراجيديا الوجود البشري في هذا العالم.‏
              تندرجُ هذه المجوعة القصصَّيةُ تحت عِدَّةِ محاور تتقاسمُها كلُّ بمقدار، هادفة إلى بناء جيلٍ من النشء، الجديد، يتمتَّع بالصحَّة النفسيِّة، والعافية البدنيَّة، وصفاء الذهنية، ذلك كلُّه لاستنبات بذورٍ اجتماعية خيِّرةٍ، وقيم إنسانية بنَّاءةٍ، ومناقب أخلاقية رفيعة، تُؤتي أكلَها ثماراً يانعة، لتغذية مجتمع المستقبل الأفضل، وتطعيمهِ بمعارف جديدة، وحياة نظيفة، لخلق مُناخٍ اجتماعي مُتناسقٍ يُساعده على تفجرِ المواهب ورعايتها، ضمنَ قيم آمنّا بها، ونسعى إليها.‏
              قيم تخيّرتها الكاتبة بعين الخبير الدقيقة، وتجربتها العملية والعلمية الناضجة، وحكمتها البالغة، لتثِّبتها في نفسِ الطفولة الغضَّة، ولتسوِّدها على غيرها من القيم القديمة الصالحة، والمستحدثة المستطرفة، وفقاً لنظريات التربية الحديثة التي ارتأتها مناسبةً لمجتمع متخلِّف كمجتمعنا -إنَّها نظرةُ الخبيرة الفاحصة المتأنية التي قلَّما تخطئُ... وأهم هذه المحاور:‏
              1. تربية نفس الطفل تربيةً صحيَّةً سليمةً من العقد والآفات.‏
              2. غرسُ قيم الفضيلة والأخلاق الحميدة في أرضها الخصبة.‏
              3. تنمية حبِّ الطبيعة والإلحاح على نظافة البيئة وعدم تخريبها.‏
              4. الاهتمامُ بالصحَّة البدنية والابتعاد عن كل مايسيء إليها.‏
              5. تثوير حبِّ الوطن والدفاع عنه، وعن وسائل دفاعه وثرواته.‏
              * أما القصة الأولى : "الأفعى والراعي":‏
              التي وسمت المجموعة باسمها، فهي قصة أبي إبراهيم الراعي ونايه الذي يسحر ماحوله من طبيعةٍ وحيوانٍ بأنغامه الشجيَّة وابنه إبراهيم فيما بعد - والأفعى التي كانت تطرب لصوت نايه، فتخرجُ من تحت الصخرةِ التي كان يجلس عليها لترقص بسرورٍ وغبطةٍ، ثم تنقده عند انتهاء العزف بقطعةٍ ذهبية لحُسن ألحانه.. هكذا كانت تفعل كلِّ يومٍ بعهدٍ عقداهُ بينهما .‏
              قرر أبو إبراهيم السفر لأداء فريضة الحجِّ بعد أن أصبح ميسرَ الحال، وأسرِّ لابنه إبراهيم قصَّة الأفعى والقطعة الذهبية، وأوكله برعاء أغنامِه، ودلَّه على الصخرة التي سيجلسُ عليها ليعزِفَ ألحانه، فتخرجُ الأفعى تتلوى طرباً، وعند انتهاء العزف تنقدُه قطعة ذهبية وتمضي.‏
              وأوصاه ألاّ يُزعج هذه الأفعى وألاّ يغضبها أبداً مهما تكن الظروف...‏
              وهكذا استمرت الحالة اليومية، إلى أن داخل الطمع عقل إبراهيم، وقِلَّةُ صبره للتآمر على الأفعى وقتلها للحصول على الكَنْز دفعةً واحدة... وكادَ الأمرُ أن يتمَّ لولا أنه أخطأ قتلها، فلدغته فمات... وعاد أبو إبراهيم الذي ماعاد بإمكانه لا الحصول على القطعةِ النقدية، ولا الثأر لابنه.‏
              هذه القصة قديمةٌ في تراثِ الشعوب، منذُ عهد دبشليم ملك الهند، إلى قصيدة ذات الصفا للنابغة الذبياني في العصر الجاهلي الذي سبق الإسلام، وحتى يوم الناس هذا....‏
              إنَّما الجديد في هذه القصة -بالإضافة إلى أهدافها القديمة المتمثلة في التنديد بالطمع والحضِّ على الوفاء بالوعد، والابتعادِ عن الغدر والخديعة - هو أنْ وظَّفتها الأديبةُ القاصة لخدمة أغراضٍ تربويةٍ جديدة، ماكانت لتحتويها في كلِّ صياغاتها وترجماتها القديمة، ولا من أغراضها، هي:‏
              - ضرورةُ إطاعة الأطفال لتوصيات أوليائهم، فهم أكثر تجربةً ومعرفةً منهم.‏
              - إن مخالفتهم لتلك الوصايا توقعُهم في أخطاء قد تودي بحيواتهم كما حصل لإبراهيمَ.‏
              - المحافظةُ على الودِّ، وعدم خدشِ بناءِ الثقة، لأنَّ كسرها لا يجبَرُ.‏
              *القصَّةُ الثانية "التينة العطوف" :‏
              تتلخص هذه القصَّة في حدبِ شجرة التين على الطفل الرضيع، وهدهدتها له مدَّة غياب أمه التي استغرقها عملُها، والترويح عنهُ، ومحاولتها إمداده بالغذاء، وتنبيه الأم كي تسمعَ بكاءَ ابنها فتهبَّ لنجدته، بعد أن أعيتها الحيلُ.‏
              لقد استغلَّت الأدبية القاصة قصَّتها هذه:‏
              - لتزرع في القلوب تقديس الطفولة واحترامها.‏
              - ولتظهِر تعاطف الطبيعة مع الإنسان، واستجابتها لنداءِ الطفولة ومساعدتها.‏
              - للتركيز على تحبيب الطبيعة للأطفال، للمحافظة عليها، وعدم إلحاق الأذى بها.‏
              * القصة الثالثة "النخلة الشامخة":‏
              هي قصةٌ رمزيةٌ ذات مضمونات اجتماعية، قصدتْ إليها الأديبةُ بأسلوبٍ قصصي جميلٍ شائق، بعيداً عن المباشرة والوعظ المُمِل، حاكت بأسلوبها هذا ابن المقفع الذي ترجم رائعة الفيلسوف الهندي بيدبا "كليلة ودمنة"، في جعل الحوار فيها على ألسنة الطير والحيوان والنبات، مبتعدةً بذلك عن السرديَّة والركود في مستنقع المباشرة، وقد وظفتها لخدمة أغراضٍ مرسومة في مقدمتها:‏
              -التعاطف مع الطبيعة وغرس محبَّتها في نفوس الأطفال.‏
              - الاهتمام بالأرض وكنوزِها الطبيعية الدفينة.‏
              - فتح بصائر الأطفال على ماهو أعمق من المرئي والسطحي.‏
              - عدم الاكتفاء بالنظرة العجلى لماحولنا، وتعمُّق الأشياء.‏
              * القصة الرابعة "الكنز":‏
              هي قصَّة الطفل اليتيم أحمد، الذي فقد والديه، ولم يجدْ مَنْ يؤويه، فأخذ يجوب الشوارع متعرضاً للأذى والعذاب من أترابه.... ثم يحتضنُه شيخٌ طاعن في السن يعيشُ وحيداً في بيتٍ يقعُ بأكنافِ القرية، يشتمل علىغرف كثيرة.‏
              يسلِّمه مفاتيح الغُرف ليتعرَّفَ عليها جميعها، إلاّ واحدة منها ينهاه عن فتحها حتى يكبر ويشتدَّ عودُه، وسمحَ له أن يأكل من الثمار التي يريد، على أن يجمعَ بذورها في كيس سيحتاجه عندما يفتحُ الغرفة الأخيرة، وكان قد سأله عمَّ في هذه الغرفة؟ فأجابه إن لك فيها كنزاً عظيماً.‏
              أخذ يفتح الغرف يوماً بعد يوم يتمتعُ بما فيها من لعبٍ ومسلِّيات كثيرة، ووجد في إحداها مسبحاً نعم به زمناً طويلاً، حتى ملَّ من اللعب مع مرور الزمن... فانصرف إلى الحديقة يعتني بأشجارها ونباتاتها، حتى تبدلَّت وأزهرت وأينعت ثماراً دانية، واستغرقه العمل زمناً.‏
              مرض الشيخُ وماتَ... ثم كبر الفتى واشتدَّ عوده، وأحسَّ بنفسه القوة ففتح الغرفةَ، ودُهش حين لم يجدْ فيها غير حصانٍ مربوطٍ... خاطبه الحصان بأنَّه موك‍لٌ بأن يحمله بعيداً إلى الكنز الذي وعدَه به الشيخ... اعتلى ظهر الحصان، ووضع أمامه كيس البذور، وانطلق به إلى مكانٍ بعيدٍ.. وعند أرضٍ بورٍ،لا شجر فيها ولا نبات، وعند جدولِ ماءٍ عذبٍ أنزله الحصان وأنزل كيس البذور، وقال له: هُنا كنزُكَ... ستجدُه، وأنا معكَ.‏
              صنع محراثاًً من الخشب وشقَّ به التربة، ونثر البذور، وجعل الماء في سواقٍ يسقي الأرض بها، وبنى كوخاً، ولم تمضِ مدَّةُ، حتى اخضرَّت الأرض، ونمت المحاصيل وشغله جناها، حتى غمرتهُ، وتكدَّست عنده.‏
              قال للحصانِ يوماً: رافقني إلى قمِّة ذلك الجبل، لأبحثَ عن الكنزِ الذي وعدني به الشيخُ.‏
              فقال الحصان : إنَّ الكنز هو ماتراه بين يديكَ من غِلال! وهل هناك كنزٌ أكبر من هذا؟‏
              - فحمد الشاب اللّه، ودعا لراحةِ نفس الشيخِ الذي علَّمه قيمة العمل في صياغةِ الحياة.‏
              - وعلَّمه أنَّ العمل هو الكنز الذي لايفني ولا ينضب.‏
              - وهذه أهم المعاني التي رمت إليها القصَّةُ، وزادت عليها القاصة:‏
              - تنمية حبِّ التعلق بالأرض لدى الأطفال، وأنَّها مصدر الرزق والخيرات.‏
              - ولتثبت قيمة العمل الذي يُعطي الحياةَ طعمتها، ونكهتها، ويُعيدُ للأرض بركتها.‏
              * القصة الخامسة "النحلةُ والذبابة":‏
              قصة إرشادية موجّهَهٌ إلى الأطفال، تحثُّهم على المحافظة على البيئة لتظلَّ نظيفةً، بعيداً عن التلوث والقاذورات، بصورة غير منفرِّة، غير خطابية، لأنَّها تديرُ الفكرة بمقارنة بارعةٍ بين الشيء ونقيضه، بين النحلة والذبابة.. النحلة التي لا تحطُّ إلاّ على الأزهار تجتني منها الرحيق فتحوِّلُه إلى عسل مغذٍ فيه منافعُ للناس... وبين الذبابة التي لا تقعُ إلاّ على عُلَبِ القُّمامة والقاذروات فتحمل بخرطومها وأطرافها الجراثيم، والأمراضَ، والسمّ الزعاف الذي يضرُّ الناس ويُميتُّهم... وتُغلِّبُ نتيجةُ الحوارِ النحلةَ على الذبابةِ، وتؤكِّد مجدّداً على :‏
              - ضرورة المحافظة على نظافة البيئة، والمتنزهات والحدائق العامة.‏
              - الابتعاد عن القاذورات وأماكن التلوث.‏
              - ضرورة اتِّقاء الذباب ومكافحته لأنّه الناقل للأمراض والسموم.‏
              * القصة السادسة "مابداخلك أقبحُ":‏
              إنها قصة الغرور والشعور بالنقص، وتقليد الآخرين... جرت حوادثها في حواريَّة ذكية بين غراب قبيحٍ مغرورٍ... وبين بلبلٍ عاقل وجميل، مفادُها أنَّ الغراب أراد أن يُقلد البلابل بجمال شكلها وألوانها وعذوبة صوتها، فأخفق في خِداع البلابل والحمائم، بمخبره ومظهره، حتى ولو حاول الخَديعة بتغيير شكله ولونه، إلاّ أنَِّ الحقيقة انكشفت حين واجهه البلبلُ بقوله: إنَّ داخلَكَ أقبح من منظركَ الخارجي.‏
              تهدفُ هذه القصة إلى تهذيب نفس الطفل في الأعماق الجوانية، وتنقيتها من الشوائب والمناقص والعقد، فتعمل على :‏
              - الابتعاد كل الابتعاد عن الغرور والادّعاء والخُيلاء، والتزُّين بالتواضع والأُلفة.‏
              - الإلحاح على أنّ المظهرَ لايُغني مهما تطاول الزمن، فلابُدَّ للحقيقة أن تظهر.‏
              - التحلي بالفضيلة والابتعاد عن الرذيلة والنميمة والمِكر والخداع والسعايات.‏
              * القصَّة السابعة "المطارُ الصغير":‏
              إنَّها قصَّة فتح مواهب الطفولة على مدارج الإبداع والتفوُّق، عن طريق أُلهيةُ ماهرِ التي حوَّلت قاعة البيت مطاراً صغيراً زاهي الألوان، ساطع الأنوار لأسراب الطائرات التي صنعها بنفسه وزّيَّنها بالأعلام الوطنية، وكتب على باب القاعة "ممنوع الدخول لغير الفنيّين" وعلى لافتة أخرى "خطر... ممنوع التدخين".‏
              - إنَّها قصة إيقاظ الطفولة بوقت مبكرِّ لدعم عملية الخلق والإبداع يضاف إلى ذلك.‏
              - التفتُّح المبكر للطفولة على الملاحظات الدقيقة، "ممنوع الدخول لغير المختصين، خطر ممنوع التدخين".‏
              - توجيه الأطفال توجيهاً وطنياً رصيناً، للحفاظ على مؤسَّساته وأسرارِه العسكريَّة.‏
              - إنِّها تزرعُ الطموحَ وصورة المستقبل الزاهي في تُربة الطفولة البكر، وتحبب الأطفال امتطاء صهوات الريح لحماية سماء الوطن.‏
              * القصة الثامنة "عصفورٌ في مملكة الغربان":‏
              هي أطولُ قصص المجموعة التي نحنُ بصدد عرضها ودراستها.. إنَّها قصةُ تراجيديا الحياة البشرية في هذا الوجود.. قصةُ نضالِ الفرد للحصول على حرِّيته واستقلال اختياره.‏
              وبالتالي فإنَّها قصةٌ سياسيةٌ اجتماعيةٌ تنتظمُ بين تضاعيفها عمليَّة الخِطاب السياسي الموجه والملتزم وتوجيهه الوجهة الديمقراطية السليمة، تحت ستارٍ شفيف من "المُقَفَّعِيَّة" لأن القصة وتجري على لِسان العُصفور "ديدي" العاشق الذي دفعتْهُ عاطفة حبِّه إلى العماءِ وتجاهلِ حقوق الجِنس الآخر، ومصادَرةِ حريَّة اختياره، ورفض قبول سماع الرأي الآخر... إنَّها أمُّ الكتاب.... وبين طيور أخرى كالغراب والحمامة.‏
              هي برأيي أقدرُ قصص هذه المجموعة على تشخيص الداءِ، ووضع إصبعها على الدواء الناجِع الشافي الكافي ألا وهو الحريَّة، باحترام حريَّة الرأي، وقبول مبدأ الحوار لسماع الصوت الآخر، وعدم مصادرة خياره... بأسلوبٍ هادئ ورصين بعيداً عن جلجلة الخطاب السياسي، ومقامات السياسيين الجوفاء، والمقولات العمياء التي يصل فيها الغباء إلى حد تطبيق الديمقراطية بالعصا والاعتداء، ويقصد تقديس الكاتب للحرية.‏
              تعرض القصَّة هذه لمطلب الحريَّة والديمقراطية، الهَمين الوحيدين اللذين يشغلان كلَّ إنسان على هذا الكوكب بأسلوب رقيق شفّاف يختفي وراءَ غِلالة حبٍ شفَّافة للعصفور "ديدي" الأناني، الذي يُصادر حريَّة عصفورة "مايا" ويريدُ أن يحرمَها حقَّ اختيارها لشريك حياتها، وقسرِها رغم إرادتها على حبِّه والزواج منه.‏
              صحيحٌ أنَّها تمسُّ الموضوع مساً رقيقاً، ولكنها ليست خافيةً على أحد فكُّلنا نقف في صف العصفورة "مايا" ونَدينُ العصفورَ "ديدي" وتصرُّفه المستبد الأشر...‏
              فالحريَّةُ المتنازع عليها في هذه القصة، ليست شعاراً يُرفع، ولا مطلباً طوباوياً غائماً لن يتحقق... إنَّها ممارسةٌ وفِعلٌ خلاَّق يُعيد لمايا الجميلة حريتها، ومشروعية اختيارها بنفسها، وبالتالي احترامها لنفسها ولإنسانيتها.‏
              إن "العصفور ساري" لم يجنِ شيئاً حتى يوجَّه إليه كل هذا الحقد والكراهية، فهو قد مارسَ حقَّه الطبيعي في أن يُحب، ولم يعتدِ على حقِّ الآخر... وأمّا العصفور "ديدي" فتدفعه نزواتُه الشخصية وغروره بجماله وأناقته وألوانه، إلى الرغبة في اغتِصاب مواطنّته العصفورة "مايا" الجميلة إجبارها على حبِّه... ولكنَّها اختارت ساري بحريِّة وتشبَّثت بحريَّتها وحقِّها في احترامِ اختيارها الذي يساوي وجودها في هذه الحياة، وإنّ تعلُّقها بحبيبها "ساري" يمثل قمة مشروعها النهضوي لمستقبلها، وعندها الاستعداد لأن تناضل نضالاً مشروعاً وفق كل الأعراف والشرائع... وستظلُّ كذلك بالصبر والتصميم حتى تُحقِّق ماتُريد.‏
              وأمّا مواقف "ديدي" فتمثل ردودَ الفعلِ المريضة للمهزومين، وانهيار عجرفتهم وخيلائهم أمام أضواء الحقيقة الساطعة، وما الاستسلام إلى اليأس والفشل والخيبة، والسقوط في هوة السوداوية القاتلة، إلاّ لأنهم اعتادوا على فرض آرائهم هم فقط، وتنفيذ إرادتهم في كلِّ الظروف وظنهم أنهم يقولون للشيء كُنْ فيكون.... أمّا أن يتمرَّدَ أحدٌ ويُصرَّ على الوصول إلى حقِّه المشروع، فهذا مخالف لرغبتهم وغير مشروع في عرفهم... فالآخرون ليسوا إلاّ دُمى يحرِّكونها كيفما يشاؤون، وهل للدّمى حق في تقرير المصير؟!‏
              لاحظ أصدقاءُ "دودي" هذا الانقلاب في حياته، وأقلقَهم يأسُه وقنوطُه وعزلته، فحاولوا نُصحه وتنبيهه.. وللأسف كان يثورُ ويغضب، ويطلق ألسنَةَ ثورته في تسفيهِ تصرٌّفاتِ "مايا" وحبيبها "ساري" الذي لا يُساويه جمالاً ولا مكانةً، ويصبُّ جامَ غضبه على "مايا" التي فضَّلتْ "ساري" عليه، تعبيراًعن حقها في الحرية، واختيار مصيرها وشريك حياتها... يظهرُ عليه كلُّ ذلك بصورة فجَّةٍ غير مقنعة تفقده احترام الآخرين له وتحملهم على السخرية من ثورته التي لا لزوم لها.‏
              انهزم "دودي" عند أوَّل تجربة مستهجنةٍ لديه، هي حصول الآخرين على حريَّة اختيارهم. وأشدُّ ما يؤلمه أنَّ الآخر أنثى، فليس من حقِّها أن ترفضه... لذلك ابتعد مغلوباً على أمره مقهوراً يحرق الإرم، ويود أن ينتحر أو يحرق نفسَه ويزهقها... سخرت منه الطبيعةُ، والأشياءُ وجمع المعارف والأصدقاء... وراح يرزحُ تحت أوهام ظلامٍ دامس، وكآبةٍ لا حدَّ لبؤسها، فوهَنَ، وضعفَ وفقد الرغبة في الحياة، كلُّ حُججه المزعومة أنَّ "مايا" فضَّلت عليه آخر... أمرٌ لا يستطيع احتماله... فهو الذي يحبُّ ويكرهُ، يحكم ويرسمُ، ويفعل ببقية العصافير مايريد، يقهرهم، يمعسهم، ويحرمهم من حرياتهم، ويجردُهم من أبسط حقوقهم ويُميتُهم ويُحييهم، كالربِّ في السماء يفعل بالعباد مايشاء.... والويلُ كلُّ الويل لمن تسوِّل له نفسه الخروج على طاعته أو التمرُّد على رغباتِه ونزواته ومشيئته!... وإلاّ فلا تستحقُّ الحياة أن تُّعاش!!‏
              "دودي" العصفورُ المدلل لا يريد الحياة، ويرفض كلَّ الوساطات في إقناعه أنَّ الحياة تستحقُّ أن تُعاش... ويصر على عناده وعنجهيته، مادامت هذه الحياة لا تخضع لنزواته ورغائبه.... وتتكرَّرُ دعواتُ الأصدقاءِ لتثنيه عن عناده... ويتكرَّرُ معها تعسُّفه وقسوته لنفسه ولغيره... وأخيراً يواجهه أحدُ أصدقائه القدامى بُجبنْه وخيبته وغطرسته، ويُقنعه بأنَّ للحياة وجوهاً كثيرة غير التي يراها، حتَّى حصل منه على وعدٍ أن يظلَّ على قيد الحياة... وليفعل بعدها مايريدُ.‏
              حزم "دودي" أمره وفضل أن يختار المنفى محلاً لإقامته بين الأغربة في مملكتها السوداء.. وبعد مداولاتٍ ومفاوضات، قبلته لاجئاً بشروط أملتها عليه: كأن يكون رصيناً، حزيناً، أسودَ الوجه، صامتاً... دخل مملكتها، وأخذ ينفِّذُ كلَّ مايطلب منه، ويقتلُ الوقتَ بالقراءة والتأمُّل ... ونسي مجتمع العصافير وصديقته "مايا" وشفي من جرحه الذي خلَّفته له.‏
              ورويداً رويداً أخذ يملُّ عيشةَ الغربان، والوجوه العابسة، التي تصادفه في كلِّ حين، والأجسام الهزيلة، واللون الأسود... وأحسَّ شيئاً فشيئاً أنَّه يفقدُ حرَّيته التي حاول أن يحرم منها الآخرين، وأحسَّ كذلك أنَّه فقد اختياره وعاد قِناً كما أراده للآخر... وأحسَّ قيمة الحرية واختيار المصير... وفقد القدرة على البسمة، والمتعة والحياة الجميلة، وحُرِم من العندلة والأصوات الجميلة، فتسرب الحزن واليأس إلى نفسه، وتمنى أن يتخلَّص من هذه الحياة المقيتة الرتيبة بأيَّة وسيلةٍ، وأنْ يعود إلى عالم العصافير الذي هو عالمه الحقيقي، وهو لايحتاج إلاّ لمن يشجّعه ويدفعُه في هذا الطريق... لأنّ أثرته وغطرسته مازالتا عالقتين في زوايا نفسه المريضة.‏
              ويُقَيَّضُ له الفرج ذات يومٍ ربيعي رائق، برؤيّته حمامةً بيضاء رشيقة تعبرُ السماء مسرعةً مارَّة بأجواء مملكة الغربان، فينشرح صدره لها، ويحسُّ بدبيب الحياة يجري في أوصاله، والشباب يسري في دمه.. نادى عليها، وشكا غربته إليها، وبسط تعاسته بين يديها، فأشفقت عليه، وقالت: هيا معي..‏
              أمسك بيدها وطارا حتى وصلا غديراً تتلألأ صفحةُ مائه كالمرآة، طلبت منه الحمامة أن ينظرَ إلى الماء، ثم سألته عمَّ رأى، فأجاب رأيتُ نفسي، وكأنَّها لاحظت الفرحة تغمره، قطفت وردةً وزيَّنت بها رأسهُ، ثم طلبت منه أن ينظر في الماء، فنظر، فوجد نفسه كملكٍ متوج والبسمةُ تضيءُ وجهه، فقالت له ما معناه: كن جميلا تر الوجود جميلاً، فالحياة لا تعكسُ إلاّ صورتك... فأنت الذي ترى الحياة وتجعلُها مرحةً، وأنت الذي تملؤها قتامةً وحزناً.‏
              شكر العصفور "دودي" صديقته الحمامة من كلِّ قلبه، ووعدها أن يعمل بنصيحتها، عاد العصفور"دودي" إلى مملكة الغربان فرحاً مسروراً بزِّيه الجديد... فأُنْذِرَ إمّا بالعودة إلى شروطهم السابقة أو بالمغادرة... وفي صبيحة يومٍ ربيعي أنيق فتح عينيه على مدارج الزهور في الحقول الخضراء، وأخذ يزقزق بصوته الجميل، فانتقلت بهجتُه ومرحُه إلى بعض الغربان "واجتمعت حولَه معجبةً بغنائه ومرحه، وبدأ بعضها يُقلِّدُه، فيثير سُخرية الآخرين ويضحكون منه.‏
              ذُعر ملك الغربان، وقلق أشدَّ القلق، وطلب من العصفور الشاب المرِح مغادرة مملكته فوراً، فغادر والابتسامةُ تعلو وجهه وتضيءُ محيَّاهُ، بعد أن ودَّع الغربان ومملكتهم... وانطلق بعيداً، حتى وصل خميلةً جميلةً، وأطلق لصوتِه العنان، حتى اجتمعت عصافير الغابة لتنظر ماجرى... وظلَّ في مرحه وعندليّه ليُعوِّض مافاته، معبِّراً عن سعادته بعودته إلى سابقِ عهده بين صحبه وذويه، تلفُّه السعادةُ والهناء:‏
              - أرأيت معي كيف تمَّ بناءُ هذه القصة، فتمحورتْ حول هدفها الرئيسي، وهو مطلب الحرية، والدِّفاع عنه بكل ماهو متاح.‏
              - ضرورة احترام الرأي الآخر، وإتّاحة الفرصة لحريَّة التعبير.‏
              - احترامُ حريِّة الجنسِ الآخر في اختيار شريك الحياة، وشكل الحياة.‏
              - الكفُّ عن العناد وقبول مبدأ الحوارِ، دون اللجوء إلى الأفعال غير المشروعة.‏
              - عدم التسرع في اتخاذ القرارات، خشية الوقوع في الخطأ.‏
              - أن تظلَّ روح التفاؤل في الحياة هي السائدة كي لا يقعَ المرء في وهدة التعاسة والحزن.‏
              - ضرورة التلاؤم مع المحيط الاجتماعي والطبيعي وأفراد جنسه.‏
              - عدمُ التعالي على الآخرين كما فعل "دودي" مع "ساري".‏
              * القصة التاسعة: "البحرُ الأزرق":‏
              "البحرُ الأزرق"، قصَّةٌ رمزيةٌ لعبَ خيالُ الطفلةِ "سميرة" دوراً رئيسياً في رسم ملامحها العامة، التي تتلخَّص برحلةٍ بحريةٍ خيالية، ترسو فيها على شاطئ مدينة من مدننا الساحلية التي ترزح تحت كابوس الاحتلال البغيض، الذي نشر الدمار، وزرع الموت في كل مكان.... أحسَّت "سميرةُ" منذ اللحظة الأولى بالحزن والأسى لما حلّ في أطفال مدينتها، ورثْت لأثوابهم الحائلة الألوان، ووجوههم المغبرَّة القاتمة.... وخالطها شعورٌ بالضيق يُنذرُ بالثورة، فيعلُو أزيزُ الرصاص، وترتفعُ أغاني الفدائيين، وتنتشرُ جثَثُ القتلى في كلِّ مكان، وتلوِّنُ الدماءُ رمالَ الشاطئ، وترفِدُ البحرَ بلونِها الأحمر القاني... وهنا استيقظت من حُلمها الذي رسمته بطبشورة زرقاء، فأخذت قطعة قماش مبلولة ومسحت بها سفينة الحلم والبحر الأزرق... وقالت في اليقظة وبإصرار: "سنعودُ... سنجعلُ الشمسُ تشرقُ، والسماء صافية كما هي هنا.... سنجعلُ البسمةَ معطَّرةً، سنجمعُ شهداءَنا من كل مكان، وسنكونُ نحن الأطفالَ نلبسْ الثياب الجديدة الجميلةَ، وننصبُ تمثالاً كبيراً في الساحة الواسعةِ على البحر لشهداء بلدي تمثالاً دائم التوهج، يرسلُ ضياءً إلى كلَّ اتجاه".‏
              - إنَّها قصَّةُ تسعى إلى تربية الروح الوطنية، وزرع الأمل لتحرير الأرض في قلوب الأطفال.‏
              - تعملُ على ترسيخ حبِّ الوطن في ضمير الطفولة وعقلِها الباطن، وربط ذلك بخيطٍ رائعٍ ذكي وهو تبديلُ الثياب البالية بالثياب الجديدة.‏
              - ترفعُ عالياً دورَ البطولة، ومكانة الشهداء، وأهميَّتها في تحرير الوطن واستعادة الأرض.‏
              - التركيزُ على أهمية دور الأطفال اليوم، الذين هم رجالُ الغدِ.‏
              - تبشّرُ على هيئة نبوءةٍ بعودةِ اللاجئين إلى أرضهم بفلسطين، وإن لم تذكر بالاسم.... لتظلَّ فكرة العودة راسخةً في الضمير، متمكنةً من العقل الباطن.‏
              * القصة العاشرة "البومةُ وغصنُ الشوك":‏
              خلاصتُها ملاحظاتُ حمامة بيضاء، لما تزرعُه البومة يومياً من تعكير صفوِ حياةِ مجتمع الطيور في الغابة، بما تبثُّه من فرقةٍ، ونميمةٍ، ونشرٍ للذعر، والموتِ، فيستفحلُ الشرُّ في مجتمع الغابة، لتنفِّذ مآرِبها، على مبدأ فرِّق تسُدْ.‏
              ساءَ الحمامة مااكتشفَتْهُ، فاستفرت بقيَّة الحمائم ليُصلِحنَ ما أفسدتْهُ البومةُ، ويرتُقْنَ الفتقَ الذي أحدثَتْهُ في حياة المجتمع، لتعودَ الأمورُ إلى سابق عهدها، فحملنَ أغصان شجرة الزيتون رمزاً للمحبَّة والسلام.... إلى أن أدرك الجميعُ دورَ البومةِ في نشر الفسادِ والشرور.‏
              شعرَتْ البومةُ بُعزْلتها بعد أن تحامتْها بقيَّةُ الطيور، وبالكُرهِ يحيطُ بها من كلِّ جانب... فخلعت ريشَها، وتنكَّرتْ بريش حمامةٍ بيضاء، وأخذت تطوفُ بين طيور الغابة، بِزَعم أنَّها تنشرُ الأمن والوئام، بطريقةٍ كانت تزيدُ نارَ الشحناء اشتعالاً.... وأحسَّت الحمائم بسلوكِ هذه الحمامة الجديدة، فوضَعْنَها تحت المراقبة وشيئاً فشيئاً بدأ ريشُها الذي تنكَّرت به، يتساقطُ، إلى أن ظهرَتْ على حقيقتها... فطردْنَها، ومن يومها عاشت وحيدةً منبوذةً في الخرائب، وغَدتْ رمزاً للتشاؤم، تنعبُ للدمار.‏
              - فالقصَّةُ ذاتُ دلالات اجتماعية لتمييز الغثِّ من السمين، والصلاح من الفساد.‏
              - تشخيصُ الداء، ومعرفةُ الدواء، قبل استفحال المرض وتمكُّنه.‏
              - التنبيه على ضرورة يقظة المجتمع إلى الذين ينشرون الفرقة والفساد.‏
              - وتكشف للأطفال في وقتٍ، مبكرٍّ عن ضرورة التعاون، ورصِّ الصفوف لدى الشعور بأيِّ خلل في بناء المجتمع وسيرة الحياة، لبناء المجتمع السليم المعافى.‏
              * القصة الحادية عشرة : "الغيمة الصغيرة":‏
              قصةٌ طريفةٌ تجري أحداثها من خلال حوار ذكي بارع بين الصغير سامر والغيمة الزرقاء التي مرّت فوق حديقة منزله.... وظّفتها الأديبة الكاتبة العظيمة ببراعةٍ محكمةٍ لتزرعَ في أرض الطفولة الغضّة ماتراه صالحاً من القيم، كأن يكون:‏
              - الهدف من هذه الحياة هوأن تجعلها سهلةً وأكثر سعادةً، لترى البسمة على كل الشفاه، والفرح يضيء كل الوجوه، والرضا يلف الجميع.‏
              - الاتحاد منعةٌ، والتعاون قوة، يخلقان مجتمعاً أفضل، وحياةً أمتع.‏
              - غرس بذور القدرة على العطاء قيمة أخلاقية، في أرض الطفولة البكر.‏
              - إبراز قيمة الإنسان من خلال قدرته على إجادة مايعمل، قيمة ما يُنتج.‏
              - التوكيد أن العمل يمنحُ الإنسان الشعور بقيمة وجوده، والثقة بنفسه بين الناس.‏
              * القصة الثانية عشرة : "ماردُ البحر والمدينة المترفة":‏
              إنّها حكايةٌ من مردّداتٍ شعبيّة أسطوريّة، وظّفتها القاصة بعد تحوير بسيطٍ لتخدم أغراضاً اجتماعيةً وإنسانيةً خيرةً.... وأبرزَتْها بحلْتها الجديدة للعبرة والموعظة، تفضحُ من خلالها غطرسَة بعض المترفين وإثرتهم.... وتحاول بذلك وضع اللبنة الأولى في بناء طفولةٍ صحيحةٍ معافاةٍ تؤمن بمجتمعٍ نظيفٍ مُدركٍ بمسؤوليته تجاه العالم الفسيح والإنسانية التي ينتمي إليها.‏
              وهي تهدف بالتالي إلى خلق التوازُن في توزيع الثروة بين الفقراء والأغنياء، وتسعى للتوفيق بين البلاد الغنية والبلاد الفقيرة ليعمّ الأمن والسلام، وتسود المحبة والوئام.‏
              * القصَّة الثالثة عشرة "الصغيرة والعملُ":‏
              إنّها أيضاً مردَّدةٌ شعبيّةٌ من التراث استثمرتْها القاصّةُ، وأخضعتْها ببراعةٍ لتحملها مضموناً اجتماعياً يبين قيمة الجهد والعمل، وأنّه مامن شيء إلا وله ثمن، إضافة إلى مضمونات أخرى تتواءم مع المنهج الذي اختطّته لمجموعتها القصصية هذه في تربية الطفولة ودفعها على الطريق السليمة، والأخلاق الحميدة،، والسيرة القويمة.‏
              وخلاصته تمنيات ثلاث فتيات لمستقبلهن، وقد صادف ذلك تفقد ملك البلاد لرعيته، فحقق لهن دون أن يعلمن أمنياتهن، كل كما طلبت.‏
              - وتأتي الوظيفة الرئيسةُ لهذه القصة من أنّ الأماني يمكنُ أن تتحقّق أحياناً، ولكن لابد من السعي والعمل لبلوغ المُنى والمراد، وإلا ستسودُ روح الكسل والتواكل، ويُسيطر الخمول على العباد.‏
              - وتفيدُ أن الحياة لا تكتسبُ معناها إلا ببذْل الجهد، والعمل المثمر، إذ على الفرد أن يسعى ويكدح، فلا تنال اللذة إلا بعد التعب، وهذا مافعله الملك بالطفلة الصغيرة، بعد أن حقق لها أمنيتها فراح يدفعها إلى التعلم والارتقاء، فأجادت العمل.‏
              * القصة الرابعة عشرة "النَسرُ":‏
              تروي لنا هذه القصة قِصة نسرٍ عاش في قمة السماء، مسيطراً على أجوائه وما يحيط به وماتحته من سهولٍ ووديانٍ وأرضين.... ومع مرور الأيام هَرِمَ النسر وشاخ، فضعفَ جسمه، وخارت قواه، ولم يعد قادراً على الصيد.‏
              وفي يوم ربيعي جميل، تناثرت الطيور مغردةً في كل مكان، وانتشرت الحيوانات الصغيرة تتراكض باحثةً عن رزِقها، خرج النسر بدورهِ من عشه، وكان جائعاً، فضرب الهواء بجناحيه، وارتفع قليلاً، فلم يقو على الطيران بعيداً، فسقط على الأرض منهوكاً.‏
              اقتربت منه الطيورُ، ورثت لحاله، وحزنت لمصيره التعس، فحز ذلك في نفسه وأحس بالهوان.... نظر إلى الطيور بشممٍ وكبرياء، فتراجعت جموعُ الطيور، وتحامَل على نفسه واستجمع قواه، وضرب الهواء بجناحيه بأقصى مايمكن من طاقةٍ إلى أو وصل الذروة الشاهقة وسقط على عُشّه جثة هامدة.... فعاش نسراً ومات نسراً.‏
              - إنها قصة ترمزُ إلى الاعتداد بالنفس، والحفاظ على الكبرياء، ورفض مواقف الذل والهوان، ولو أدى الأمر إلى أن يقف المرء على عظام كبريائه.‏
              * القصة الخامسة عشرة "غباء حمار":‏
              هي قصة هادفة موجهة تدعو إلى أخذ العلم باليقين، لا بالظن والتخمين.... وأن يتأنى الفرد في استنتاج مايخطر بباله، مادام بإمكانه تحري الحقيقة والوصول إليها... كذلك تدعو إلى عدم التسرع في نقل الإشاعة، ونشر الأقاويل الكاذبة، قبل التأكد منها.‏
              فهي تروي لنا قصة الحمار الذي فسر حالة انشغال الكبش الأبيض بما حلا لهُ أن يفسر، وراح يهرِفُ بما لايعرف حتى اجتمعت الدواب كلُّها وجلب الحصان الأربطة والعقاقير معه للإسعافات الأولية، قال: أفسحوا لي الطريق لأرى الجرحى وأسعفهم، هيا كلٌّ إلى عمله.‏
              قال له الكبش: أيُّ جرحى تقصد أيها الحصان؟‏
              فأخبره بما نقله الحمار من أن زوجته النعجة ولدت خروفاً بعينين كعيني الكلب، وذنب طويل جميل كذنب الذئب... فقال الكبش لا تكمل، فقد قصُّوا علي ماقاله الحمار... وشكر الجميع على نخوتهم ولهفتهم ومبادرتهم... واحتارت الحيوانات بما تفسِّر ماقام به الحمار إلى أن قالت العنزة: "إنَّه غبي فقط، لا يعرف نتائج مايقول ومايفعل... واستدعوا الحمار ليكرموه، فلماجاء، هجموا عليه، وأوسعوه ضرباً ورفساً وعَضاً... وقال الكبش للحمار: "يالغبائك الذي ليس له دواءٌ أو حلٌ، إني أعذرك".‏
              ووجّه كلامه بعد ذلك للجميع "كل عامٍ وأنتم بخير، غداً عيد الأضحى أستودعكم الله، أنا على استعدادٍ للذبح، فالذبح أهون وأكرم من العيش مع هذا الحمار المفتري، الذي يجعل من الحبَّة قُبَّة".‏

              وأخيراً، فإنها إن دلّت على شيءٍ تدلُّ على الغباء، وسوءِ التقدير اللذين اتّصف بهما الحمار.‏
              * القصة السادسة عشرة "الجوزةُ والجبل":‏
              إنَّها حواريةٌ لطيفةٌ بين الجبل المغرور الذي يشمخ تيَّاهاً، فتأخذه العزةُ بالإثم، ويغتر بفضله على الآخرين، ويتبجح بقدرته وادعائه بالرفعة، وينسبُ لنفسه كل فضلٍ، ويدلُّ على الآخرين بفضله وخيره... وبين شجرة الجوزِالضعيفة التي لم تستطِع مُحاجَته، إلى أن تصدى له النهر الذي عرّاه أمام الجميع، وجرّده من مزاعمه كلّها، وادّعاءاته الباطلة التي لا محلّ لها "تزعم أنَّك لا تحتاج إلى سواك، فأنا أروي أشجارك، وهي تزينك وتجعلك مقصدَ الناس، وتجلبُ لك العصافير، وتلطِّف الأجواء فيك، وتشدُّ إليك السحب التي تكلك بالثلوج... إنّ الطبيعة ياصديقي متكاملةٌ، كلُّ مافيها يعطيها قيمة، فامنح عطاءك بصمت وتواضعٍ، وتعلَّم من أمِّنا الشمس التي تمنحنا دون منَّةِ ودون حساب.‏
              راحت شجرة الجوز ترفعُ رأسها... والعصافيرُ، والصخورُ، والتلالُ كلُّها تستمعُ إلى كلام النهر وترفع رؤوسها معتزّةً بدورها، وبمكانتها، خجل الجبل من نفسه وطأطأ رأسه خجلاً، وانفجر بالبكاء، فتدفَّق دمعُه نبعَ ماءٍ رقراقاً، ركض بين الصخور والأشجار منحدراً إلى النهر العذب، فعانقهَ واتحدا معاً في مسيرة عطاءٍ للحياة لا تنتهي، فصفق له الجميعُ... فسكن الجبلُ من يومها مطمئناً متواضعاً راضياً بمايقدمه" ترمي هذه القصّةُ إلى :‏
              - بثِّ روح التواضع، ونشر قيم المؤاخاة بين الجميع.‏
              - كبح روح الغرور، والتعالي على الآخرين.‏
              - تبيان أنّ لكلّ فردٍ دورَهُ في هذه الحياة.‏
              - أن يتحلّى المرء بروح العطاء، وخدمة الآخرين.‏
              - أن يفتح قلبه للناس والحيوان، ويحترم الطبيعة.‏
              وهكذا نأتي على أخر دراسة هذه المجموعة التي تضمنت "قصصاً تُراعي الاعتبارات التربوية في مخاطبة المرحلة العمرية الثانية للأطفال، وتدعو للحرص على القيم، ومحبَّة الناس، وعدم خداعهم، وإلى العمل والتمسُّك بالأهل والوطن، بأسلوب مبسط ينسجم مع خيال الطفولة وينميه" .*)‏
              الأمل الكبير‏
              بين مضارب الأهل من بني طيءٍ في سهول حوران الفسيح، نصبتُ خيمتي لأستريح، بعد سفرٍ طالْ، قُرابة أربعين عاماً، تناثرت خلالها أجزائي وكلماتي على امتداد ثلاث قارتٍ -آسيا، وأوربا، وأفريقيا- وعدتُ لأنعمَ بحرارة اللقيا، ودفء العلاقات، وصدق الوداد.‏
              صحيح أنَّني اغتربت، وأسرفتُ في الغُربةِ، وتمثَّلْتُ "بروتوكولات" الحضارة كلها، ولكن أوتاد الخيمة ظلَّت مغروسةً في صدري، وقامات بنات القبيلة المشرَّعة كالرماح الردينية ظلت تسكنني وتتحركُ في خاطري، وأمسيات الربع تستبي خيالي وتخلبُ لُبي، ورائحة الشيح والقيصوم تشرشُ في رئتي.‏
              شيء واحد ظل يلازمني من بقايا رحلتي الطويلة والاغتراب، هو "الإحساسُ بالزمن" هذا الإحساسُ الذي يُطاردني مع عقارب الساعة، ويدعوني لاهتبال دقائقه وثوانيه، فيُقلقني ولكنني راضٍ به، أوزّعُه بين عملي اليومي في الكتابة الجادة، وبين قراءة مايصلُني من رسائل الأخوان والأصدقاء ونتاجهم الأدبي والفكري والعلمي، ومايستجدُّ من كتب في مجال الاختصاص.‏
              وبالأمس حمل البريدُ إلي "الأمل الكبير" ... والأمل الكبير قصةٌ أنيقةُ المظهر وربما المخبر، غِلافُها برَّاقٌ، ساحرُ الخطوط، يعلو جبهته اسمُ "محمود نجيب الفلاح" ... أقرأُ الاسم، فيشرق في فكري تاريخ، ويسطع في قلبي قبسُ حكايا، سمعتُها منذُ زمنٍ بعيدٍ - عندما كنتُ مدرساً لمادة اللغة العربية في ثانوية الصنمين، على بُعد خمسين كيلومتراً جنوب دمشق - عن تاريخ هذه الأسرة، منذ اليوم الذي استضافت به الملك فيصلاً في مطلع العشرينات من هذا القرن وهو في طريقه إلى دمشق لاعتلاء عرشها، حيث كانت مضافة عميدِ أُسرة الفلاح ندوةً للمشورةِ والرأي، ومآباً للثوَّار العرب إبّان مقارعة الاستعمار، وماقدّمت من شُهداء في ذلك الزمن، وماتلاه من أعصر، وكم عانى بعض أفرادها من ظلم وجورٍ وسجن وتشريد في مختلف العهود.‏
              تذكرتُ كلُّ هذا وذاك، ولم أنسى طعم الديوك اللذيذ على مائدة هذه الأسرة إذ ذاك يوم كنتُ أُدْعى إليها في ذلك الزمن السحيق.‏
              "والأمل الكبيرُ" عنوان قصةٍ متوسطةٍ الحجم تقع في مئةٍ واثنتين و ثلاثين صفحةً على ورقٍ أبيض صقيل، ولفت نظري ناشره(1) وأما المؤلف، فتربطني به وشائج صداقة لا انفصام لعُراها، وقرابةُ فكرٍ وحّدتْ أهدافنا، ومهدتْ سبلنا للوصول إليها.‏
              بدأت ألتهم صفحات الكتاب، وصورةُ أبي بشار محمود تتكئُ على مسندِ كلّ حرفٍ من حروف كلماته، ونبرةُُ صوتِه تخترِقُ الأذنَ لتصل إلى القلب، وإشارةُ يده تلوحُ لي مع كل فاصلةٍ، ووراءَ كل إشارةِ استفهام... ورويداً رويداً نسيت أني أقرأ كتاباً، وإنما أنا مُشتبكٌ في حوارٍ مع أبي بشار، بكل مافي الحوار من حرارة، وصدق في الأداء، وعمق في التجربة... يرتفع صوتُه حيناً، ويخفِتُ أحياناً أخرى، يبتسم هُنا، ويعبس هناك، وأما قهقتهُ فأسمعُ صداها يتجاوبُ في أنحاء صدري، فتنعكس على قسمات وجهي وامتداد شفتيّ.‏
              ***‏
              قرأت "الأملُ الكبيرَ" فقرأتُ فيها قِصَّة حياة محمود الفلاح، بشحمه ولحمه منذ أن اكتحلت عيناه بنور الحياة، في الهزيع الأخير من الثلاثينات، حتى عرفته رجلاً ولا كلُّ الرجال... رأيتُه يرسم حياةّ ذلك الطفل الذي ولد قبيل شبوب الحرب الكونية الثانية "في قرية بسيطةٍ، ضمن عائلةٍ متوسطة الحال مادياً، لكنّها معروفةً بشهامتها وكرمِها" كما دوَّنها... ولا ينسى ذكرَ أدقِ التفاصيل، وكأنَّه ركَّب على سنان قلمه آلة تصويرٍ، تلتقطُ كلَّ مايُعرض أمامها، وتُصوِّرُ بضوءِ القلب لا العين، وفي أحيانٍ أخرى تراهُ يُسلِّط الأضواء الكاشفة على بعض القضايا، فيجسِّمُها لك وكأنَّك أمام شاشةِ عرض للصورِ المجسَّمة "البانوراما" فترى الحدث، بحجم الشاشة واتساع الزمن، وتتصَّببُ عرقاً انفعالاً مع وقع الحدث، وتُهِمُّ أن تتحرَّك لنصرتهِ، حيناً، أو للدفاعِ عنه أحياناً أخرى.... وينجح محمودٌ أيّما نجاحٍ في عملية التوصيل حتى لَيجعلُكَ تشتبِكُ مع دفقاتِ الحدث، لاتدري، أأنت الفاعلُ، أم المُنفعل!!..‏
              يجرَي كلّ ذلك تحت سمعِكَ وبصرِكَ ببساطةٍ وعفويّة دون تصيد لعناصر القصة، وشروطها الفنية، أو الإغراق في تقنية السرد والحوار، أو التلاعُب في تغيير أحجار اللُّعبة، ومهارة تنقيلها، بين الخطف خلفاً، أو اصطناع الحدث وتحريكه قسراً، أو افتعال التأزيّم للَفتِ النظر وشدِّ الانتباه... ويستعملُ لُغةً، إن لم تكن هي الدارجة اليوميَّة، فإنّها ليست العاميّة على أي حال، ولكنّها ليستْ المعجمية المقعرة أيضاً، ولا تخلوُ في كثيرٍ من الأحيان من لمساتٍ فنيةِ هُنا، وإشراقياتٍ بيانيةٍ هُناك.‏
              محمودٌ، لاتهمُّه اللغةُ إلاّ بقدرِ ما تحملُ من طاقاتٍ تعبيرية قادرةٍ على تفريغ كلّ الشحنات الفكرية والعاطفية التي يمورُ بها خياله الرشيق، وإن وجدت كلمةٌ أنيقةٌ هُنا، أو جملةٌ رشيقةٌ هناك، فلأن محموداً شاعرٌ بالدرجة الأولى، وكاتبٌ من الدرجة الثانية.‏
              الشتاءُ في المدينة درعا عند محمود، لا تُميزه عن الشتاء في قريته الصنمين نبوةٌ.‏
              فالمطرٌ غزيرٌ، والبردٌ قارصٌ، والجوعُ يعضُّ المعدة الخاوية ويلتهم الأمعاء الفارغة... آه لو تقرأ معي جوع محمود!! وهو يصف الشاب محمودَ وزميلهُ في ليل المدينة الغريب. في زمهرير الشتاء، وقد عضُّهما الجوعُ بأنيابه العُصل ِ وقد خلا وفاضُهما من أيِّ عقدٍ على نقدٍ... "أمطارٌ شديدةٌ، وبرد وثلجٌ ويشعر الأطفالُ بدوارٍ وخورٍ، وألم في الرؤوس، وعشوةٍ في العيون... وأصبحوا لا يقدرون على المشي إلاّ قليلاً... غذاؤهم الماء فقط في أيامهم الثلاثة الماضية".‏
              أرأيت؟! إنه الجوع... ولكنّه جوعٌ مغمس بالكبرياء، يحرسُه الحياءُ، ويصونهُ الإباءُ، وتنيرُ دروبَه أخلاق الحيِّ وتربيةُ البيتِ، وتقفُ أمامه سمعةُ الأهل والعشيرة، إنّه الجوع الإيجابي المتمنع، المتأبّي على الاستسلام، وليس الجوع السلبي المذل، الذي تنهدِمُ معه القيمُ، وتزلُّ به القدم في مهاوي التسوّلِ وإراقةِ ماء الوجه، وتسوِّغُ له المبُررات للانحراف، وماقد يحطُّ من قيمة الإنسان السوي، والمجتمع القويم المعافى.‏
              هذا الموقف الإيجابي الرائع من محمود، أمام جحافِل الجوع الزاحف على البطون، ليس الموقف الإيجابي الوحيد في قصته "الأمل الكبير" بل يكادُ يندرجُ على المواقف كلها في هذه القصة، إن جاز لنا أن نسميها قصةً، لأنّني أرى أنها تندرجُ تحت عنوان مايُسمى بالسيرة الذاتية، أو البوح.‏
              محمود، لا يريدُ أن يكتب قصةً فنيةً، أو أن يتقيد بشروطها الكلاسيكية المعروفة، إنما يريد أن يُسجل حياةً حيّةً نابِضةً، عاشها، ولازال يتحرك فيها، أو تحرِّكه خيوط اللعبة الكبيرة فيها... أجل يُسجل حياةً، ولكنها ليست الحياة الملطخة بسخام الواقع المتردي، إنّما الحياةُ الجميلةُ التي يريدُها الفردُ المناضلُ الشريف لنفسه، ولغيره من الناس، إنّه يريدُ للحياة أن تكون هكذا سمواً وارتفاعاً، حتى وإن لم تكن، والأمر بسيطٌ جداً لدى محمود، لا يحتاج إلى كبير فلسفةٍ، يوجزُه قوله التالي: "أن أكون فاضلاً أو لا أكون" هو يريد أن يصنع مجتمعاً عاشهُ حلُماً، ومارسه فكراً وعملاً، ويرفضُ أن يعيش كبعضهِم في ظلال التاريخ مطلولٍ بالفجيعةِ، مُرعدٍ بالهول، والذُلِّ -فهذه مسيرةُ كلِّ الأفراد المتفوقين النابهين في تاريخ الإنسانية الذين يصنعون تاريخاً لشعوبهم... فلربَّما تشبَّه محمود بهم، وانتهج سبُلهم.‏
              وسط معمعة الجوع والبرد، وفي قمة التحدي الإيجابي لإشكالية الجوع، والإباء الشامخ لإنسان ريفنا السوري الذي يصوغُ جوهر الحياة، وتكسو العِزة أخلاقه، لم يُسئ محمودٌ إلى المدينة، ولا لإنسان المدينة، بل جعلنا نحسُّ معه دوافع الخير عندَها، وعلى حالها كما هي في الريف، بعيداً عن زَنخة الصراع الطبقي وهرتقة حقد البروليتاريا.‏
              وهكذا تسندُ قيم القرية في وطننا خاصِرة المدينة، وتمدُّها بكل ماهو خير وجميل، لتشكلان معاً مسيرةَ صادقةً، على دروب الشيم العربية الأصيلة، وسنن الدين الحنيف.‏
              والشيء الجميل الذي يُبهج النفس في "الأمل الكبير" هو ذلك الوعي المتنامي على امتداد الحدث، عند أبطال قصة الأمل الكبير، بدءاً من المدرسة الابتدائية، ومروراً بكل المراحل المتعاقبة، هذا التنامي الواعي الذي يُضيءُ الجوانب الجوانية التي تنعكس بالتالي على كل ما يحيطُ بالبطل، داخل هذا الكون الفسيح، فيفسِّرهُ، ويُفلسفُه، وينشرُ خيرهُ ومناقبه على كل ما يحيط به، ومن يتعامل معه بصدق، وأمانة وإخلاص، ويُحدد شكل رؤيته للحياة، ومايتوجَّب أن تكون عليه.‏
              ولا يتوانى في رَتق جوانب الخلل في سلوكيات أبطاله، بل وإصلاحها، إذا كان في هذا الرتق وذاك الإصلاح يزيدُ شخوصه وعياً وتنامياً، وكأن محموداً كان يكتب ونصب عينيه أبطال ثلاثية نجيب محفوظ، الذين كان من أهم ما يميزهم، تنامي الوعي عندهم على امتداد الحدث والسرد الروائي.‏
              وأبطال محمود ليسوا بالعمالقة الذين يصنعون المستحيل ويتجاوزون المدركات، ولا هُمُ الأقزام الخائبون الذين لا يلوون على شيءٍ أبداً، إنهم من عامة الشعب، أبناء عمال وفلاحين، من الذين تدفعُ الحياة مسيرة مواكبهم، فمنهم من ينجح، ومنهم من يخفق، ولكن الاثنين يظلان أسوياء، في نجاحهما وفي إخفاقهما، لا.تتعتهما الأحداثُ، ولا تقذفُ بهما هوج الرياح، فالخطُّ البياني للحياة عند محمودٍ هو هذا الخطُّ السويُّ الصاعدُ، وليس للهبوط عندَه حظٌ ولا نصيب.‏
              أبطالُ محمودٍ من أبناء الطبقة المتوسطة، التي ارتقت بالعمل، تحت رقابة الأخلاق الصارِمة، والعرف والعادة، ولم تغزهم سمومُ الثقافة الفجَّة وتسطو عليه شطحات أنصاف المتعلمين الذين يظنُّون العلم ثورة على القيم الاجتماعية الجيدة، وتعهرُّاً في سوق المبادئ المستوردة، العلم لديهم ليست معلومات تدرس، ولكنه تطبيق وانسجامٌ مع قيم الحياة الخيرة يُضيئها، ويجعلُها ذات طعومٍ مُميزةٍ، يُغني الحياة ويُثريها، ويجعلُها تستحقُّ أن تعاش.‏
              ومحمود، لا يقسِرُ أبطاله على هذا ولا على ذاك، بل يجعلُها سجيةً من سجاياهم، وهو لا يُنطقُهم، إلا بما يتلاءم مع تنامي وعيهم ومعارِفهم وتراكم تجارِبهم اليومية وخبرات حيواتهم المتساحبة على امتداد القص، وأخص بذلك أولئك الذين عاندتهم عجلة الحظوظ في الحياة وسننها، أو أولئك الذين كان ارتقاؤهم عسيراً على سلِّمِ الحياة، حتَّى ذلك الحارسُ الذي كانت تتبدّى لنا إيجابيات تجاربه، من خلال أحاديثه التي يُضمِّنها عصارة فكره.‏
              الأحداث لا تغير طبيعة شخوص قصة "الأمل الكبير" تراجعاً، بل تدفعها إلى الأمام، وتزيدُها تصميماً على مواصلة الارتقاء، وهذالا يعني أن الكوارث التي تحلُّ بهم مفتعلة أوسطحيّةٌ، أبداً، بل لأن هؤلاء الأبطال أسوياء حقاً وغير معقدين، وهُم لايعرفون الحياةَ إلاّ صعوداً أو ارتقاءً... فالبطلُ الذي يُفصَلُ من المدرسة من الصف الثالث الإعدادي ، هو على الرغم من فقره وضيق ذات يده، لم ييأس بل ظلّ يُكافح بصدقٍ، وهبط إلى العاصمة، وعمل وتابع دراسته، وماشعرَ أنّ الحياة تنكرت له، ولا كانت سوداء متجهمة في وجهه، لأنّه كان مُقتنعاً بكلِّ خطوةٍ يخطوها.‏
              وأوّل ما غزا قلبه مآذنُ المدينة وتسبيحُ الإله فيها، ثم مياهُها العذبة الباردة التي تقنعُك بنعم الله العميمة، ثم رائحة خبزها التي تذكرك بريح الجنّة، وأما صوت جرس القطار الكهربائي، الذي كان جزءاً من الفلكلور الدمشقي، فكان يُشجيه... ويمعن محمودٌ في رسم جزئياتٍ غابت عن شوارع دمشق اليوم وحواريها، يذكرُ باعة عرق السوس المتجولين ورنين طاساتهم، والسقائين بقربهم المعلقة على أكتافهم، يرشون شوارع المدينة، وباعة الصبار على الأرصفة بزركشاتهم وأصواتهم، وباعة الشوندر و"الحبوب" وغيرها من نمنمات الصُّور في صناديق الدنيا على ظهور المتجولين في كل مكان، هذه التشكيلة الرائعة من اللوحات التي تُغريك في الحياة، وتزيد المدينة بهجةً وعذوبةً، وتقربك منها فتحبُّها وتحبكَ.‏
              يقول: "ما أجملك أيتها العاصمة!! ماأجمل حدائقك وأشجارك وأزاهيرك وأورادكِ!!" وليس عجيباً من محمودٍ أن يحب الطبيعة الحية الصاخبة في العاصمة الطربة الندية وأنهرها المنسابة شرايين حياة وعطاء، فهو ابن الريف الهادئ الظمئ المستكين، ليس ذلك فحسب بل لأن محموداً وأبطاله لا يُضمرون إلا الحب، ولا يوجد في قلوبهم مُتسع لغير الخير والجمال... حتى أن ذلك انعكس على حياة محمود بعد ذلك، فأفنى سني عمره، يحبُّ حتى الذين سبَّبوا له المتاعب وناصبوه العداء... وكل ماكان يؤرقه، هو كيف يتسع هذا الإهاب الإنساني الذي خلقه الله في أحسن تقويم، لغير الحبِّ وقيم الخير والجمال!؟‏
              ومع ذلك محمودٌ لا يستنكر شرورَ الحياة، ولا تأفُّفه مِنها، لأنه يعتبرُها قضاءً مقدراً لابُدّ من نفادِه، وماعلى المرء إلاّ أن يتلقى قضاء الله بصبرٍ لا ينفذ، وإيمان لا يتزعزع، وإنما يستلهم اللطف فيه.‏
              ومادُمنا بصدد الحب الذي يحمله القاص تضاعيف قصته -هذا المعنى المجرد المظلومُ، الذي يواجهُ كلاً منا في ربيع شبابه على حينِ غرَّةٍ لانفهمهُ، ولا نستبطنُ أنفسنا عن كنهه، فنضلُّ طريقه، ونتعثر على دروبه في كثيرٍ من الأحيان، فينحدِرُ بالكثيرين منا، وقد يشفى البعضُ الآخر منهُ، تاركاً وراءَهُ جراحاتٍ تظلُّ بين داميةٍ ونازفةٍ، أمداً طويلاً، وربما على امتداد مسيرة حياته -وحين يقعٌ محمودٌ أو أحد أبطاله في بؤرة الحب فجأةً فيتعلق بزميلةٍ له على مقعد الدراسة، فهي وإن كانت كمايصفُها "جميلة لطيفة ذكية، فأحبها حباً عذرياً عميقاً نقياً طاهراً صافياً..." فإنّه يظل متزناً، عاقلاً، لا يعصف به الحبُّ، ولا يُتعتِعُه العشق، ولا يهونُ به الهوى، بل يتلقاه بنفسٍ مطمئنة، ويُباركه بقلبٍ منيبٍ، بعيداً عن العقد والنرجسيات، وكأنه أمرٌ طبيعي جداً لا ريبَ فيه، هوكذلك في الحقيقة والواقع، والخطأُ ألاّ يحبُّ الإنسان، إن لم يُحبب فلعلَّةٍ أو لمرضٍ أو لعقدةٍ ما... وقد أحبّ محمودٌ أو بطل محمود الحب الصحيح المعافى، الذي يرتقي بصاحبه إلى مستوى الخلق السوي القويم، فيدفعُه إلى الطُّهر والتعفُّف والنجاح، وحتى حين تعرض عليه فتاته الزواج منه إبَّان تقديمها فحص الشهادة الثانوية، حين حلَّ على أهلها ضيفاً لدى نزوله من الريف، يأبى شرفُه ومروءته أن يخدعها أو يغرِّر بها... ولكنه أيضاً لم يجرح كبرياءها، أو يستهين بعواطفها، يقول: "ولكن الشاب اعتذر عن الزواج حالياً، لوجود مهام وواجباتٍ أمامه، فظروفه صعبةٌ، وطلب تأجيل بحث الموضوع لما بعد الانتهاء من الدراسة الجامعية"، ويمضي كلُّ منهما في طريقه، فتتزوج الفتاة، ويتابع هو مسيرته الموزّعة بين انتمائه السياسي ودراسته، حتّى يُنهي دراسته الجامعية، التي فرضت اتجاهاتها عليه، ظروفه المادية، فكانت كليةُ التجارة نصيبُه، ويُقاسي بطلُه آلاماً جسيمةً لاكتساب لقمة عيشهِ، وينال مساعدة الجامعة، وهنا يستغلُّ هذا الموقف ليحدِّثنا عمَّا جرى معه في منطقته أثناء إنجاز إجراءات معاملة فقر الحال، ليُبين لنا سوء الإدارة، وفساد القضاء، وتفسُّخ أخلاق الطبقة الحاكمة في ذلك الزمن.‏
              ويظلُّ بطلُ "الأمل الكبير" ملازماً لحركة التحرُّر الوطنية وللعمل القومي، ويدفعُ الثمن غالياً في كل مناسبةٍ من المناسبات الوطنية والقومية، ولكنَّها لا تفُتُّ في عضده، ولا تذهب هدراً، بل تضيف شيئاً جديداً إلى مخزونه النضالي، وتعمقُ تجربته التي ستُشكل الهيكل المستقبلي لشخصية البطل الذي يكتشفُ زيفَ الشعارات التي ضحى من أجلها، والإفلاس الفكري للحركة السياسية التي انضوى تحت لوائها، وضيع نصف عمرِه يُعانق طواحين الهواء، ويتبين له خلُّوها من أي مضمون نضالي، على المستوى الوطني، وعلى المستوى القومي، وتصل الأزمة إلى ذروتها، حين يُلقى به في غيابة السجن حينذاك، ليذوق أقسى درجات العذاب والهوان، ويكشف لنا ذلك من خلال رسالةٍ بعث بها إلى صديقته، سراً، تستحق أن يقف الناقد عندها طويلاً، يتملّى فيها ملامح مرحلةٍ مُظلمةٍ تلتها مراحلُّ أشد ظلاماً وأقسى عنتاً، رسّخت في نفوس الواعين من أبناء هذه الأمة عُقمَ كل المقولات السقيمة التي قادت إلى الهزيمة تلو الهزيمة ، فلا الوحدة تحقّقت، ولا العدالة الاجتماعية انتصبت، ولا الفقر زال، ولا العلم تقدّم، ولا المساواة ترسَّختْ، ولا الحريةّ أُطلقت.‏
              وينكبُّ البطل في هذه المرحلة وما تلاها على المطالعة الغزيرة، لتظهر آثار الثقافة على تفكير البطل وسلوكه، وبخاصةٍ فيما جرى في محاورات أفلاطون وجمهوريّته الخالدة، ومن سبقه من عمالقة الفكر اليوناني كسقراط وأرسطو وغيرهما من علماء الحضارة الفرعونية والعربية ومن جاء بعدهم من أنبياء وقدِّيسين، مروراً بثقافة العصر الحديث، وما انتشر فيه من آراء الفلاسفة المثاليين والماديين والوجوديين والبرغماتيين وغيرهم.‏
              وتتركز مطالعات البطل في موضوع التربية حول الجذور والأصالة، فيجدُها مجسّمةً في النبي العربي العظيم محمدٍ، ودينه القويم، وصحابته المرضيين، ويقفُ بإجلالٍ أمام شخصية عمر بن الخطاب، الصورة المثالية السامية للحاكم العربي المسلم، فيقول لنا واصفاً إياه: "حقاً إن الشاب كان يرى في ابن الخطاب الصورة المثالية للحاكم العربي، وكانت هذه الصورة مطابقة لماقرأه في التاريخ، ولحديثه آنف الذكر مع رفاقه، وإن على الحكام أن يسكنوا الخيام خارج المدينة، وأن يعيشوا عيش العوز والتقتير، ليكونوا كلاب حراسةٍ لا ذئاباً فاتكةً".‏
              ويُتابع لنا تصوُّر بطلهِ للحياة ونقده للواقع قائلاً: "ولكنّه كان يشعر دائماً أن هناك تناقضات كثيرةً، داخل صفوف التقدميين، وأمراضاً يجبُ التخلص منها، وكاد يقتنع بأن هذه التنظيمات يجب أن يعادَ النظر فيها".‏
              ثم يعرضُ علينا سيرة بطله، وموقفه من بعض القضايا القومية، فيحدِّثنا عن الثورة الجزائرية، وماأصابها من تشرذُمٍ، ثم عن الثورة الفلسطينية، وكيف أن البطل تنادى مع مجموعةِ من الشباب للكفاحِ داخل الأرض المحتلة، وكيف شكلوا تنظيماً سرياً، متدرج القيادات نفّذوا من خلاله عِدّة عمليات فدائية ميدانيّةٍ، ثم سَعوا إلى توحيد جميع التنظيمات في جبهةٍ وطنيةٍ واحدةٍ من أجل خدمة الهدف الكبير على الوجه الأمثل... وفي إحدى العمليات الفدائية داخل الأرض المحتلة يُقتل البعض، ويكونُ من نصيب صديقه حسن الوقوع في الأسر... ثم يروي لنا البطلُ تفاصيل كثيرةً ورائعةً عن أسره داخل زنزانات العدوِّ، وعن المحاكمات الصورية التي كانت تُعقدُ لإدانتهم مُسبقاً،ويذكرُ لنا طرفاً من الحوار الذي كان يدور في قاعات تلك المحاكم، بينَ القضاة والأسرى.... كما أراد.‏
              وفي غمرةِ من حياته الوظيفية التي كان راتبُها مصدرَ رزقهِ الوحيد، يتعلّقُ بحبِّ زميلةٍ له في العمل تشاركه الفقر والفاقة، ويطلب الزواج منها، ولكنّها تصدُّه برفقٍ، معللة أسباب رفضها، فقر الطرفين، وهي تحلمُ بحياةٍ رافهةٍ وتحبُّ الثراء... ويفترقان، على أن يظلاّ صديقين.... وينفتح في قلب بطل محمود في "الأمل الكبير" جرحٌ جديدٌ أعمق من مساحة صدره، ليصبح هذا الجرح فيما بعد مصدراً لنبعةٍ شعريّةٍ حزينةٍ النأمةِ، ستورقِ في مقيلات الأيام لتنعقد ثماراً دانيات.‏
              ثم تتوالى النكبات على بطل "الأمل الكبير"، فيرسب في نهاية امتحان السنة الجامعية الثالثة... ثم يمرضُ أبوه ويقضي نحبه "تاركاً وراءَه زوجةً وأحد عشر ولداً"... ليصبح هو المعيل الوحيد لهم ... ثم ينقسمُ التنظيمُ الذي ضيَّع عمره من أجله.. إلى يمينٍ ويسارٍ، وشيعٍ وأفكار، وهو الذي كان السبب في فشله في سنته الدراسية الثالثة، وما أصابه من ويلاتْ... إزاء ذلك كله يقرّرُ البطل اعتزال العمل السياسي، ويكرّس جهدَهُ لإطعام إخوته وتربيتهم بمساعدة أمه وأخواله.... ومن أجل ذلك، ناصبته عناصر تنظيمه العداء، ومارست عليه الضغوط، والإرهاب، ولكنه لم يرضخ ولم يستسلم، ويتابع دراسته بعد حرمانه من المساعدة الجامعيّة لرسوبه، ويتخرّج من الجامعة، ليعمل في مؤسسات الدولة، وتتحسنُ حالُه قليلاً ويظلُّ على صفاته وحبِّه لكلِّ أصدقائه من أحسن منهم ومن أساءَ... ثم ينهجُ كبقيةِ خلق الله فيتزوج من ابنة عم لأبيه، فتُسعده، وكأنّ القدر أرادَ أن يبتسم له ويعوِّضَهُ عن كلِّ ما أصابه من نكباتٍ وأخفاقات....‏
              فتغدو هذه الزوجة له أماً وأختاً، وأباً، وصديقاً، تتسعُ أخلاقها لتستوعب البطل ومن لفّ لفهُ، مقدرةً لمسؤولياته الجسام، فتشاركه حلوَ الحياة ومرها، بنفسٍ مطمئنةٍ راضيةٍ، وقلبٍ كبيرٍ يتسع لحبِّ الجميع.‏
              دون أن تغفلّ عن نفسها وبيتها الذي أصبح جامعةً يتخرجُ منهُ الواحدُ بعدَ الآخر، حتّى أنجبت، وربَّتْ، وعلمتْ، ومازالت تستقبلُ وتودِّعُ، دونُ كلل أو ملال، تتجدّد مع الزّمن وتشبُّ مع الأطفال والشباب.‏
              إثر كلّ تلك الأحداث المروِّعة، وماأفاءَهُ الله على البطل القصصي لمحمود، تتعمق المشاعر الدينية لديه، وكأن القاص اتخذها وسيلةً ينقلُ من خلالها آراءه ورؤاهُ، فيحيا حياةً نظيفةً المظهرِ والمخبرِ... ويُعيدنا بلمسةٍ ناعمةٍ إلى سيرةِ بطله الذي يُصادق رجلاً يلقّبُ بأبي الهول، لطيف المعشر، حلو الحديث، نقيَّ السريرة، يروي على مسامعه رؤيةً أرمضته، تتصل بسبب أو بآخر بالكوميديا الألهية، لدانتي، أو برسالة الغفران للمعري، يخلصُ منه إلى أن الصدق سيكون الدستور الذي ينهجهُ الصديقان، ويخوضُ مع البطل في مناقشاتٍ، نطلّعُ منها على ثقافةِالمؤلف أو البطل، وسعةِ اطلاعِه... ويصبحُ المنهجُ الديني هوالناظم الرئيسُ لأفكارِه ومسلكِه، ويتمنّى على أصدقائه لو يُتابعونه طريقهُ، وينسجوَن على مِنواله.‏
              ينتقلُ بعد ذلك ليحدِّثنا بطل "الأمل الكبير" بأسىً عن الخامس من حزيران وماجرَّهُ على الأمة من فَشلٍ وخيبةٍ وخُسران، ثم يردف ذلك بحرب السادس من تشرين ويشتركُ البطل فيها وقد أصبح ضابطاً مجنّداً، يُسهم في الدفاع عن حياض الوطن، وتنتهي الحرب ويعود إلى عمله مديراً عاماً لإحدى مؤسَّسات الدولة، حيثُ يتاحُ له خلالها زيارة كثير من بلاد العالم الغربي والتعرُّف على مافيه من جشعٍ للربح، وبلاد العالم الشرقي ومافيه من ظلم وجورٍ وانتهاكٍ للحرية، والتعرّفَ على كثير من طباع البشر في الشمال والجنوب، ولمس كثيراً من الجوانب المشتركة بين الشعوب، واستهوته الحريّةُ والصدقُ اللتان تمثّلان ذروة قيم الخير لدى المجتمعات البشرية، وزاد إيمانه عُمقاً بأن الخلافة الإسلامية الراشدة وحدَها القادرةُ على أن تحلّ كل قضايا الإنسان على هذا الكوكب.‏
              وأما بيت الحارس البائس أحد الأمكنة التي غدت مسرحاً في القصة، فيخصُّه بصورة قاتمة من صور البؤس الذي يلتهم ذوي الدّخل المحدود في مجتمعِ المتناقِضات... فهو عبارة عن دارٍ استأجرها المديرُ العام "البطل" لا تتجاوزُ مساحتهاستة عشر متراً مربعاً، بارتفاع ستة أمتار" ركبت غرفتاه على غرفتين كأنّهما علبٌ من الكبريت، يُصعد للعلويتين بدرج من فسحةِ الدار الصغيرة، التي تشتِملُ على المنافع كالمطبخِ والحمام.... وكانت تستخدم فيما مضى بيتاً لحارس محطةِ سكة حديد الخط الحجازي أيام العثمانيين، وأُلغيت فيما ألغي من مرافق عامة في العهد الجديد، فاستأجرها "بطل الأمل الكبير" بعد أن قام بإصلاحها، وكان حفياً بها ينعمُ بالرضا وهدوء البال وضآلةِ الأجرةِ.. ولم يعكر عليه صفو حياتِهِ هذه إلا تلبيّه لدعوةٍ من أحد أصدقائه القدامى حديثي النعمة، الذين امتلكوا بين عشيةٍ وضُحاها، القصور الفخمة، والخدمَ والحشم- بملابسهم السوداء وقمصانهم البيضاء وأربطة العنق العرضانية "بابيون"... وتتجلّى هنا ثورةُ البطل، إذ لم يستطع أن يحتمل هذا الزيف وهو الذي يعرف ماضي صديقه وأسرته التي كانت دون خطِّ الفقر، فيخرجُ عن طورهِ، ويبصقُ في وجه هذا الصديق القذر، الذي يمثل قمّة التقدمية، والزنا في الفكر، والعهر في المبادئ، ويقودُ زوجته، ويغادر قصر الزيف، والبهتان، ويقطع أية صلةٍ تصله بصاحبه وإلى الأبد... وهوراضٍ كل الرضى عن نفسه، مقتنعاً بتصرفه.‏
              ثم تتجّه أحداثُ قصة الأمل الكبير اتجاهاً مغايراً حتى نهاية الكتابِ، حيث يجتمع أصدقاء البطل حولهَ وفي بيتهِ، وتتكرّر هذه الجلسات بين الفينة والفينة.‏
              منهم الاقتصادي الذي تخرج من أكاديميات أوربا، والآخر ضابطٌ من الجيش، وثالثٌ أستاذٌ في كلية الفلسفة، ورابعٌ صحفيٌ، والخامس أديب يساري، والسادس مُربٍ، والسابع محامٍ، والثامن طبيبٌ وأستاذٌ في كلية الطب، والتاسع عاملٌ في أحد المصانع، والعاشرُ فلاحٌ هجر الزراعة نتيجة القحط ونزح إلى المدينة طلباً للرزق فاشتغل حارساً في أحد المستودعات لِكبر سنه، وأخيراً زوجة البطل التي تمثل العنصر النسائي في هذا المزيج الغريب.‏
              هؤلاء المجتمعون يجدون أنفسهم منساقين في أبحاث وطنيةٍ وقوميةٍ، تبحث أوضاع هذه الأمة المتدهورة، وكلُّ يُدلي برأيه، حسب درجة ثقافته، ووعيه، وفق منظورٍ اختصاصِه،ووجهةِ نظرهِ... بطريقةٍ حوارّيةٍ تقريريَّة متخصِّصة، ففي جلسةٍ مثلاً يتحدَّثون عن الشيخوخة ووجوب ضمانِها... وعن الضمان الجماعي لحمايتها من الفقر والعوز... ثم يتناولون في جلسةٍ أخرى نشوء الأمم وتشكُّلها، وهموم الأمة العربية... ومسؤولية الدولة تجاهَها بعمقٍ وإسهابٍ... وفي جلسة ثالثة، يُفصِّلون في مفهوم الحرية، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية، بما يُمتّعُ النفسَ ويرضي العقل، وهكذا تستمرُّ الجلساتُ والمداولات، فتستغرق محاوراتُهم هذه حوالي ثلثَ القصة "زهاء خمسٍ وأربعين صفحةً".‏
              يتخلّلُ هذا القسم وصفٌ رومانسيٌّ رقيقٌ للطبيعة بسمائها ونجومها، صفائها وغيومها، بأورادِها وثمارِها، مما يجعلُكَ تنعمُ بظلالِ القمر وعبقِ الياسمين، ورقةِ الهواء العليل، مِمَّا افتقدناه في القصة قبل هذا القِسِم.‏
              أما بعدُ:‏
              فهل باستطاعتي بعد هذا العرض أن أنقدَ الكتاب؟‏
              أو أن أكونَ موضوعياً في نقدي، وفي قلبي هذا الحبُّ الكبير لمحمود؟‏
              وهل أبرئ نفسي من الانحياز إلى مصلحة صاحبِ الكتاب؟‏
              لست أدري!‏
              لقد كتبت فإن أصبتُ فهذه غايتي‏
              وإلاّ فحسبي من حب محمودٍ ما يكفيني .‏
              *) قرئت في أكثر من أمسية في محترف المؤلف بدرعا.‏
              (1) "دار الأهالي للنشر والتوزيع بدمشق" وهي دارٌ معروفةُ بجدِّيتهاواتزانهامن خلال ماقدمته من منشورات حتى الآن.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: في رحاب الفكر والأدب

                الفصل الثالث البحوث والدراسات الشعرية
                مياسم ديوان الربيع الأسود ومواسمه‏
                على بطاح درعا الفيح ، وعلى امتداد سهولها التي تُغريك بحبِّها والإقامة فيها؛ التقيتُهُ في الزَّمن السحيق من هذا القرن الكسيح، يقرضُ الشعر، ويردّدُ أبياتاً ضخمة المعاني لشعراءَ فحول في زمنِ الجاهلية وما تلاهُ من عصور، ويترنَّمُ في إنشادها وتفخيم حروفها؛ إنَّه الأديبُ الشاعر عبد الرحمن الحوراني؟‏
                شبَّ ، وشبَبْنا، وتقاذَفَتْنا رياحُ هُوج بحثاً عن بُلِغ العيش المغمَّس بالآمال الكبار، فلا بُلْغَةُ العيشِ ائْتَدَمتْ، ولا الآمال الكبارُ تحقَّقتْ، ووجدْنا أنفسنا تخبُّ بأوْزارٍ ثِقال، وآثامٍ اقَتَرفْناها، كنَّا نظنُّ أنَّ الأجيالَ لن تغتفرها لنا، ومع ذلك رَضينا، ولكنَّ البين لم يرضَ بنا!‏
                التقيتُهُ بعد أكثر من ربع قرن، ضابطاً متقاعداً من قوى الأمن الداخلي، في قريته النائية "طفس" من أعمال درعا بين كتُبِه ودفاتره. أطرحُ عليه أسئلة كثيرة، ويجيبُ عليها بسُخريته المعهودة التي تُنبيكَ عنْ ذكاءٍ متوقِّد، وخبرةٍ بالناس والزمان، وكأن الماضي المشرق اختفى من آفاقه، وخيَّمَ الشؤمُ والقتامُ على مستقبل الأيام..أُذَكَّرهُ بمقطَّعاته الشعرية التي ما زالت ترِنُّ بذاكرتي، فيجيب مُتلهِّفاً وقد أشرق فكرُهُ، وتهلَّلتْ أساريره، بجملٍ سحريةٍ راحتْ تتدفق من لسانه الذرب، ومد يده إلى مكتبته، ليفتح دفتراً أنيقاً راح يُنشدني مِزَقاً من روحه التي نثرها على صفحات الورق، فأشجاني...أسألُهُ المزِيدَ ، فيقولُ: إِلَيْكَ دِيواني "الربيع الأسود" فأقرأ به ما شِئْتَ.‏
                -لِمَ لم تنشرْه؟‏
                -لأنِّي ضنينُ بفضيحة بنات أفكاري!‏
                -ما دارً في خلدي يوما أنَّكَ تبخلُ بعطاءٍ يا أبا أَيهم؟‏
                - أخي علي: بناتُ أفكاري ثكالَى مُسَرْبلاتُ بالسَّواد من أيَّام كربَلاَء!‏
                - ومَا العيبُ في ذلك إذا كانتْ هي هكذا؟ إنَّ مَنْ لا ينشر ما كتب، كَمَنْ ينتحرُ بمدادِ دَواته.‏
                - لا بأس، اقرأهُ. واكتُبْ عَنْهُ، فإنْ أَعْجبني ما تكتُبُ ، فَلرُبَّما أتحمّس وأدفعه للنشر.‏
                حملتُ مخطوطة الديوان وعدتُ إلى محترفي، ورحت أتجوَّلُ عَبرَ الربيع الأسود فلم أتركْ شوكةً من أشواكه إلاَّ واستنطقْتُها، أو وردةً ذاويةً إلا استفسَرْتُها عن سبب ذُبولها، وعند ما استويتُ على بُركانِ التَّلقِّي المبدع للتجربة الفنية الحورانية ،تناولتُ ريشتي لأدوِّنَ بصورة واعيةٍ ما عاشه الحوراني بصورةٍ غير واعية، ووجدتني أنزفُ فأقول: الربيعُ الأسودُ ؛باقة من الأوراد الحزينة الذاوية، وسط حقول الشتاتِ والضياع. وصورةُ من صورِ التمزُّقِ الإنساني حينما تعصفُ بالمرءِ رياحُ الغُربة والشقاءِ، لتقذفهُ فريسةً لبراثنِ الوجع البشري والمعاناة السرمدية.‏
                ووجدتُ في الربيع الأسود؛ ملحمةً للضياع البشري في وهادِ الانسحاق على أشواك المسؤولية القاسية، حينما يجدُ الإنسان أنَّهُ يمتلكُ شيئاً واحداً هو ألاّ يملك ، في زمن تدهورت فيه القيمُ، وتحطمتْ المبادئُ ، وانتصبتْ صواري الزِّيف والبهتان مارداً يُدمِّر كلَّ دوافع الخير والكرامة في الإنسان على أرضه وفي وطنه بين أهله وذَويه.‏
                ورأيتُ في الربيع الأسود صورةً من صور الانسحاق البشري تحتَ عجلاتِ الغُربةِ بين الأهلِ والأصدقاء الذين أعمتْهم شهوةُ السُّلطة والتحكُّم في العباد، وتفسخت أخلاقُهم تحتَ وطأه لهيب سياط الجاه والسلطان والفسادِ، وكلِّ أتعاب المشيخة والسيادة والإمارة، وجميع أسماء التعجب والإشارة.‏
                وتمثَّلتْ أمامَ ناظريَّ خلال قصائدِ الربيع الأسود؛ معركةُ النَّقاءِ الإنساني البَكْر، حينما تقذِفُ به، إلى أو حال الرقِّ والعبودية، قوى عمياء شرسة ، فتجعلَ تنفُّسهُ مُستحيلاً، وتحرمُه حتى من صَفاء أحلامه، وتطرحهُ على عفنِ الأرصفة وأقذارِ الساحات خرقةً باليةً، وممسحةً لأحذية كِلاب السلطان، وتحرِّم عليه حتى شعورهُ بتفاهته ومهانته ، إلاّ بسلطان.‏
                وتتفجر في الربيع الأسود مأساةُ الإنسان العربيّ المعاصرِ الَّذي تطحنه أجهزة إعلام الخلافة الشرسة، فتلوكهُ بين أشداقِها وتبصقُهُ علقةً مسطحة، تكتبُ عليها اليوم ما تنقضُه في الغدِ ، وما تكون قد مسحتهُ بالأمس ، فتجردهُ من عقله وحواسه وقيمهِ البشرية المشروعة، لتزرع فيه الكفر بالماضي، والهلَعَ من الحاضر، والخوف من المستقبل، إذا بقي مستقبل ! وتُّفجرُ فيه الحقدَ والقرفَ، وتبذُرُ في أعماقه الكُرهَ لنفسه ولمن حوله وللعالم أجمع...وتسلِّطُ عليه جرافاتِ الدعاية الجبنة أبي الولد الطَّيَّبة) ومعجون الحلاقة الناعم) وخيّال مارلبوروالمِقْدام) وتصفُعُه صَحُفُ الصباح لتبصقَ في وجههِ وتقنعَهُ بغبائه وسذاجته، بمفرداتها المثقوبة كالأحذية القديمة، مفردات العهر والهجاء والشتيمة، فينبطحُ جيفةً نتنةً، تنبعثُ منه روائح التفسُّخ والغربة، والانحلال والشقاء والإفلاس.‏
                والربيع الأسودُ "منشيت" عريض بجيل النكْسة بعد النكْسة ، والهزيمة بعد الهزيمة، لأجيال العَبَثِ والاغتراب والضَّياع ، تنفيذاً لمرسوم من الباب العالي والبلاط السامي؛ بإقالة فكره، وقلبه، وحواسه الستْ،. وتوظيفه بمرسومٍ آخر في جوقة النباح من المساء حتى الصباح على أن تتوفر فيه مواصفات فنية وتعبوية أهمها:‏
                -ألاّ يرى إلاِّ بمنظارها.‏
                - وألاِّ يسمعَ إلاّ كِذبها.‏
                -وألا يتنفس إلا من زكامها.‏
                -وألا يقتاتَ إلاَّ على علفها.‏
                - وألاَّ يشربَ إلاَّ من أوحالها.‏
                - وألاَّ يحسَّ إلاَّ بقرون استشعارها.‏
                - وألا يحلمَ إلاَّ بأضغاثها.‏
                - وألا يعبد إلاّ صنمها، واحداً أحداً لا قبله ولا بَعْدَهُ وإلى الأبد. والبلاطاتُ التي تَمُنُّ عليه بالحياة، وتُفضِّلُ عليه حين تترُكُه يعيشُ كالكِلاب وأردأ، لا تريدُه إلاَّ ظلاً لأوْهامها، وصدى لِنْرجسيتها، وشبحا لتصوراتها، ومشجباً تعلَّقُ عليه خيبتها وفشلها وهزائمها، وشاهد زُورٍ وهي تتقلدُ أوسمةَ مُعاهداتِ استِسْلامها، وأوشحة انتصاراتها الدونكيشوتية الدراماتيكية المزعومة في عالم هباء، أسموه "العالم الجديد".‏
                وقرأت في الربيع الأسود قصة التاريخ للإنسان العربي المهزوم أمام معطيات الحضارة المعاصرة، حينما تهتزُّ أمامه صورة العالم الظالم، وهو يريدُ له أن تصبح الهزائم محافل انتصار، والانتحارُ على مذبح الفرقة والشتات زَهْواً وأكاليل غَار ، حين يتطاولُ الأقزامَ فَيُظنُّ أنهم مردةُ وأبطال ويصبح الصعاليك عمالقةً، والمومساتُ حرائر والعُهر مبادئاً ، وأقبيةُ البغاءِ ساحاتِ بطولة، وقاعاتُ الرَّدْح ميادين نضال، ومؤتمراتُ المنتجعاتِ للاستسلام شريعةً واستبسالا.. في قصور ألف ليلة وليلة.‏
                وفي الربيع الأسود صورة للإنسان العربي المُستباح أرضاً وعرضاً، وقد جفت منه الدموعُ، لأنها أكبر من مساحة الأجفان، واستُنزفت منه الدماء، لأن الجراحاتِ أوسعُ من حجم الطعناتِ وهولها، فانكفأ على وجهه ينكش الأرض بحثاً عن الديدان والطحالب، واغتصبتْ الحريةُ على امتداد ساحات الوطن وتحولت إلى مشانق سوداء فأجهضتِ النساء، وجفتِ الأرحام، وخُصيَ الرِّجال، واحترقتِ الأشجار ..وسقطت السَّماء، ومات الله والإنسان في موجةِ التنازلات والمفاوضات والاستسلام.‏
                واكتشفت في ديوان الربيع الأسود موت الإنسان البشر، وبعث الأدميَّ الرقم، رقم يُسَوِّدُ بياضَ السِّجلات، ويتهالكُ على أرصفة المؤسسات والجمعيات....‏
                ويُصلبُ على أبواب الأفران في البرد القارس والشمس القاتلة، وينبطحُ على عتبات الهجرة والجوازات المقدسة، وتجفُّ أوصال الحياة من جسمه على بلاط المستشفيات.‏
                والربيعُ الأسودُ، ديوانُ شعرٍ أبيض لأديب مغمورٍ لا تعرفُهُ الصحف والمجلات ،لكنّ جذوره ضاربة في أعماق ضمير الإنسان العربي اينما كان على أرضه المستباحةِ، وفروعه تنتصبُ بشكل مأساوي في وجدان المواطنِ المُبعثر تحتَ أعقاب الكعوب الحديدية لجنون السلطان ذي الطلعة السَّنية، تسحقه بوحشيةٍ فظة، وغباءٍ منقطع النظير، حتى في أقبية الحدائق المعلقة في بابل، وتحاصُره حتى في المنام والأحلام ،وتسحقه في اليقظة ، وتقطع أمامه كُلَّ سبيل إلى الخلاص، وتسُدُّ عليه كلَّ طريق للنجاة، وتهرسُه وتهزِمُه دون أنْ تترك له فرصة للتفكير ولو ببصيص أمل ، ولو لحظة يستجمع بها خيوط الصبر، حتى الصبر يلوكُه ويبصقه.‏
                وديوان الربيع الأسود، وردة بيضاء كالصبح، وزنبقة نقية كالطل في مقبرةٍ قديمة تغصُّ بالجثثِ المتفسِّخة، والأنقاض المتراكمة، تتطاولُ للانتصابِ فلا تقوى ، وتحاولُ الوقوفَ ولكنَّ محاولاتها تذهبُ أدراجَ الرياح، إنها أورادُ عِجَافُ في ربيع أسودَ وزمنٍ أغبرَ، تلفُّها دوَّامة من القلقِ النُحاسيِّ على إيقاع ساعة زمن توقفتْ منذ زمن بعيد قبل أن تبدأ في الكامب).‏
                هذا هو ديوان الربيع الأسود للشاعر المُجدِّدِ عبد الرحمن الحوراني، تعتورُ هذا الديوان قصائدُ ملحمية لنفوسٍ إنسانية حيةٍ، في ظروفٍ غير إنسانيةٍ ، لا تُتيحُ لها التنفس حتى من تحتِ الماء، من تحتِ الأنقاص بين غُبارِ الهزائم، وتعّبرُ هذه القصائدُ بصدقٍ منقطع النظير، ووفاءٍ يستَلُّ الاعجاب لهذا الجيل العتيد، تصل إلى حدِّ الفجيعة عن صمودِ الألم أمامَ جحافلِ التَّتار.‏
                ويحاولُ الشاعر عبد الرحمن الحوراني أنْ يكسو قصائد ديوانه بغلالةٍ سديميةٍ من نقاءِ الإنسان العربي وانفعالاته الحيَّة، قبل أنْ تُدَنِّسَهُ بهارجُ السلطة، أو ْسياطُ أمير المؤمنين، ولكنها على الرغم منه تبدو ومُطرزةً بخيوطِ الشقاءِ، ومُوَشاةً بأهداب الإنسحاق والغربة. وَيَتلامحُ عَبْرَ جرْسِ انفعالاتها المبحوحةِ وَقْعُ أقدام الغُزاة الطامعين من خُلفاءَ وأمراء وسلاطين ، وسلاجقة وتتار وعثمانيين، وطوابير بغاةِ صهاينة وصليبيين.‏
                وتتوزع قصائدُ الديوان على ثلاثة أبواب كما أرادها الشاعرُ، وكلُّ بابٍ يتضمنُ مجموعةً من القصائد تُشَكِّلُ اتجاهاً واحداً تقريباً. وتتصدرُ الديوان قصيدة بعنوان: "عيدُ ميلادي" ويا له من عيد ميلاد ، مُفعم بالأسى والحرمان! حيثُ تنساب كلمات القصيدة من شقِّ ريشةٍ اعتادتْ أصباغ المرارة، وألوان الضنى، فغرقتْ خُطوطُها في بحرٍ من الحزن الأبدي والشقاء المُقيم. يتجوَّلُ الشاعرُ في تضاعيفِ القصيدة بين البيت والمعبد والوظيفة أو القيد كما شاء له أن يُسميها، كألوف البُسطاء التاعسين، ويعود وكل زادهِ لعنةُ يصفع بها وجه الحياة، ومولده، والزَّمن ، وهكذا يصبحُ العُمْرُ كلُّه لعنةً، تُطارده المصائر الشقية التعيسة:‏
                غداً عيدي‏
                عيد ميلادي‏
                ستفرحُ زوجتي فيه، وأولادي..‏
                وأطفئ شَمْعَ أعْوامي‏
                شمعةً، شمعهْ..‏
                ..ويجيشُ في وجدانه قهر عميقْ‏
                قهرُ يُشابهُ طعمُهُ، طعْمَ الحريقْ‏
                فيرتفعُ وجهه نحو السماء‏
                ويلعنُ الكونَ الصفيقْ‏
                ويلعنُ يومَ مَوْلده، ويومَ ميلادِ الرقيق...(1)
                وفي قصيدة أخرى بعنوان" جيلُ الرفض" حيث تتوالى إيقاعتها بنبرةٍ مأساويةٍ ، تسْطعُ منها رائحةُ التحدِّي، والإباء، والكفرِ بكل شرائع الأمم المتحدة الظالمة، ويُصر الشاعرُ على أنَّ الحقَّ العربي لا يُستجدى، إنما هو معلقُ بأطراف السيوف اليعربية. ويرفضُ الحوراني الحلول الاستسلامية كلها، لأنَّ الحلَّ برايه يجبُ أنْ ينبعَ من ضمير الأمةِ العربية وإرادتها ومن أرضها، ويؤكد تصميم شعبهِ على النضال، شعبه النقي الذي هَزَمَ جحافل الروم والتتارِ والصليبين على تعاقبِ الأعصر، وكأنه يستشرفُ مستقبل الأمة العربية وهي تمتلك إرادة القتال:‏
                ..القرارات الكثيرة‏
                والقرارات الحقيرة‏
                ماذا تعني؟‏
                غير تسويفِ القضيهْ...‏
                تمنحُ الحقّ!!‏
                إنِّما الحقُّ بأطرافِ السيوفِ العربيِّهْ...‏
                لا نخافُ الموتَ،‏
                أَوْ نَخْشى المنيهْ... في القضيَّهْ..‏
                فلقد عِشْنا زمن الفشلِ الراعف‏
                نجترُّ المآسي الدَّمويهْ..‏
                ثم يدعو الشاعرُ إلى إشعال نارِ الثورة العربية، بسواعدِ أبنائها، بالقصيِّ بالنشاب بالحجارة، بكلِّ طاقاتِ التفجير والإثارة، التاريخ يُذكي ، والمستقبلُ الواعدُ نصْبَ أعينهم:‏
                ..منذُ فجر البشريهْ...‏
                تاريخُ أمَّتنا‏
                يزهو بأمجادٍ نديهْ...‏
                يحملُ البُشرى لأبناءِ البريهْ..‏
                مشيئةُ الثورة والتحررِ‏
                .... نحمل القسيَّ والنشَّاب والحجارهْ‏
                نمسي قبائل بربريهْ..‏
                وفي قصيدة ثالثة بعنوان" 10 حزيران 1967" تنساب موجة حزينة من حَنْجرةِ الحوراني تحملُ كل أوجاع الجرح الحزيراني ومرارة الهزيمة، فيها تنويعات ملحمية من الحسرات التي تكوي القلوبَ، والنُّواح الذي يقطِّعُ نياطَ القلوب، فلْنستمعْ إليه وهو يُجرِّعُنا كؤوسَ الهزيمةِ المرَّةِ مترعةً على الرغم مما فيها من مرارةٍ وعذاب:‏
                رهنْتُ في الحانة سيْفي،‏
                وجوادي..‏
                عندما غابَ النَّهارُ..ودبَّ في الكون الغَسَقْ‏
                لأنَّ دُنيايَ...ودُنياي.‏
                بلادي..‏
                قصةُّ التَّهريج في المقهى البليدْ‏
                ينسجها ؛الموتورُ، والثرثارُ‏
                والحاكي العتيدْ..‏
                والإذاعاتُ التي تُدرْوِزُ الأخبارَ‏
                بلا خجلٍ، وفي وضح النهارْ‏
                والعارْ...‏
                أرأيت!؟ للشاعر: سيفُ وحصانُ، ولكنْ مع وقَفِ التنفيذ! ألم يَرهِنهما في الحانة في نهاية النهار؟ تحت وطأة كابوس التهريج في المقاهي ، حيث جموعُ الدهماء تجترُّ أحزانَ الهزيمهْ، ولكن الذي يسحقه وينسفُه من الداخل هو نُباحُ الإذاعات المسعورةِ، التي تُسَوِّقُ الهزيمة، وتسلبُه حتى الشعور بلذة الانتحار أو الاستسلام على شفرةِ الندم، فيستكينُ مُجَلَّلاً بالعار.‏

                أما الزمان فقد انتهى بالنسبة للشاعر، وها هو يُجرجر قدميه المثقلتين بالقيود خارج محطات الزمن، وتتداعى ذاكرةُ الشاعر متدحرجةً خارجَ الزمن إلى أعماق الماضي السحيق البعيد، حيث تلتمعُ كهوفُ مخيلته العتيقة بصور بالأسود والأبيض على شريط باهر لا ترابط لمحتوياته ، وعلى شكل تهويماتٍ أو ومضاتٍ خاطفةٍ كالتي تمر! على ذاكرة مذبوح ،ثمناً لدمهِ المسفوح، وقبل آخر نبضةٍ من نبضات قلبه الذي توقف على برزخ الزمن المقهور... صور وأصداء لاساطير حكتها عجائزُ ماتتْ من زمان ، ولكنها ظلت تتأرجح على حبال الذاكرة مع اهتزاز ظلال نيران المواقد في كهف الشتاء. إنها رجعُ أصواتِ معلم، نبراتهُ المؤمنة المبحوحة على شفير الاخلاص ومذبح العطاء تصافح عيون أطفال صغار. صور من صور الشعب النقي الذي تخرجُ من بين أفراده أرتالُ من الأنبياء ، يضيئون المشاعل لعصور الازدهار:‏
                واساطير العجائز... حول مدفأة الشتاءْ..‏
                وتعاليمُ المعلم.... للصغار الأبرياءْ...‏
                إنَّنا شعبُ نقيٌ وتقيٌ.... كان مِنَّا الأنبياءْ...‏
                دَمُنا صاف...‏
                وأعطينا الحضارة والألقْ،‏
                قبلَ... أو بعد الغرقْ... والبقاء‏
                ويلتَمعُ ضبابُ الحلمِ بشكلٍ خاطف، ليقتلعَ الشاعرَ من جذوره، ويُلقيهِ في وَهدة اليأس، والمعاناة، تصفعُه رياحُ الهزيمة المفجعة، فإذا سيفُهُ قطعة من خشبٍ، وحصانه هيكل من قصبٍ ، يُجابهُ بهما معركة التحدي، وأَنْواءَ القدرِ التي لا ترحمُ الضُّعفاء:‏
                كانَ سيفي قطعة من خشبْ..‏
                وحصاني هيكلاً من القصبْ..‏
                بهما أصمدُ في وجهِ التتار..‏
                والتحدي والغضبْ...‏
                أَجْبَهُ القدر الذي لا يرحمُ الضعفاء‏
                وأُخوضُ في اللَّهبْ...‏
                إنَّ روحَ الشاعر اليقظة، وعقلهُ الباطن الواعي ، يرفضان الهزيمة، ويتمردان بعد الانهيار الموجع، فإذا به يصمدُ في معركة التحدي في مواجهة التتار. وكأنه بذلك يستشرف نُبُوءةَ مُستقبلٍ تنتصرُ به إرادةُ أمَّته، إرادتُه حتى ولو خوَّضَ في اللَّهب.‏
                في خضم هذا السيل الجارف من الآلام والمواجد ، لا يفقد الشاعر إيمانه، يل تظلُّ قواعد الإيمان صُلبةً شامخةً في ضميره، تكسوها مِسحة صُوفية شفافة، وثقة لا تحدُّ بالأصولِ العربية العريقة التي يجري نُسغُها في عروق الشاعر، فتجري على لَسانه آياتُ كِتابِ الله لقَوْمِه والعالمينَ، مُسْتَجيراً بها من حَمَاقة أمير المؤمنين، خيانة أمير المؤمنين، تخاذل أمير المُؤمنين الذي تكفيه بغداد إذا بقيتْ له بغدادُ ، ولا يُضيرهُ تسليم أجزاء الوطن نهباً لجحافلِ التتار:‏
                في جُعبتي تمائمْ،‏
                وعلى لساني آية الكرسيّْ‏
                وَأَقْوالُ النبيّْ..‏
                ياَلأُمّي!... وأَبي!...‏
                مات من قهرٍ أبي...‏
                جّنَّدوني رَقماً، في جيش مَوْلانَا الغبيّْ..‏
                عَزَّهُ اللهُ،‏
                وأدامَ القصْرَ والتخْتَ الَهِنيّْ...‏
                بغدادُ تكفيه،‏
                ماذا يضير ضياعُ القُدسِ‏
                أَوْ قَبْرِ النبيّْ..‏
                واخجلتي مِنْ صِبْيَتي! مِنْ زَوجتَي!...‏
                من وطني المنهوب، من مدينتي‏
                عجيبة رُؤى هذه القصيدة !حيثُ يتَغَمَّسُ فيها الحلمُ بالواقع في ازْدِواجيةٍ رائعةٍ.‏
                تُعتِّبرُ عنْ عُمق الجراح التي تنز القيح والصديد، ومساحاتها الشاسعة في الوجدان العربيْ، التي خلفتها هزيمة حزيران. وتحملُ القصيدةُ في انفعالاتها جسامة التحدي، وضراوة المقاومة التي يُعانيها الشاعر عبد الرحمن الحوراني، من جراء الشيء المكسور في داخله، ومن هَوْلِ الهزيمة التي زَلْزَلتْ أعماقهُ ومزَّقَتْهُ، ، فاندفع في موجةٍ من النقدِ الذاتي الجارح يُساوي مساحة الفجيعة وحجمَ الطعنة والمعاناة والقهر:‏
                وشارَفَ المهزومُ أطرافَ المدينة...‏
                فَبَاعَ أسْلحةَ الدِّفاع،‏
                لطمْسِ آثارِ الهزيمهْ...‏
                واشترى قدحاً من العرق‏
                حتى يُحرَّر نفسهُ، من قهر آلافِ السنين،‏
                وأوزارِ الجريمهْ...‏
                وُيُشْبع هيبْةَ السُّلْطَانِ، لِيسترضي حَريمهْ...‏
                وبملءِ صوْتِ الشاعر المكسورِ، صوته~ المهزوم ،صوتهِ المذبوح يصرخُ في وجه السماء، في المهزومين، والمجذومين، والمرضى بعُقدةِ الإثم؛ أنْ حَطموا أصنامَكم، واقتلِعُوا العُقولَ المزيفة التي خربتْ ضمائركم ،فيقول:‏
                حطموا الأزْلامَ والأصنامَ.‏
                صَنماً إثر صنم...‏
                حطموا العقلية المُزيفهْ...‏
                مَنْ ذَبحُوكم كالغَنَمْ...‏
                دُوسُوا على العقلية التي قدْ خربتْ،‏
                ضمائرَ الشعبِ.‏
                ومرَّغتْ أنْفَهُ تحتَ القَدَمْ...‏
                أمِّا في قصيدة أخرى بعنوان"أنا" فتتجلى ذاتيةُ الشاعر وحياتهُ المعجونة بالخمر وبالسهر، وتبرزُ بشكلٍ واضحٍ جليٍ المخططاتُ التصفويةُ التي أعدتها له جوقةُ البلاط ومن يخَططُ لها، لنسف قيم الوطنية والقومية، وكل قيم الخير في الإنسان العربي، لتُّفبرِكهُ كما تشاءُ أطماعُها التوسعية، لا في احتلالِ أرضهِ وعرضه فحسبُ ، فهذه قد استُبيحتْ منذُ زمن بعيد ، بل لاستلاب روحهٍ وقيمهِ ودينه وأخلاقهِ وآدميتهِ ، ولترسم له مكانها ما تريده القوى المعادية. ويصرخُ الشاعر الحوراني بكلماتٍ مكشوفةٍ بَعْدَ أن تفجرت مراجل الكبت وسنواتُ التذرع في صدره، كَمَارجٍ من شواظٍ لا يُبْقي ولا يذر. معبراً عن هذه الأنا بتفعيلاتٍ ملحميةِ الوجع، أسطورية القهر، مكشوفة التعبير بما لا لُبس فيه، حيث تتحول الحروف فيها إلى مُدى تغُوص في اللحم حتى العظم، وتحفر الضمير حتى النهاية. وتثقبُ في النفس هاوية سحيقة لصورة هذه الأنا المفجوعة، حيث يتعانق فيها الانسحاق بالضياع في مزيج من العدميةِ والتلاشي، حينما يتحول الإنسان الأَنا ، تحتَ مطرقة التدفق الجنائريِّ إلى مطرُودٍ ، مُلاَحَقٍ، إلى رَقمٍ يَمُرُّعبرَ سجلات المُتَسَلِّطين النَّحاسين .دون ان يشغل أية مساحةٍ ما في حسابات من يبيع ويقبض الثمن، دون أن يتحرك فيهم شعور أو ينبض عرق، ودون أن يثير أي اهتمام أو انتباه. مثلهُ مثلُ آلاف وملايين المسحُوقين من الأرقام الهزيلة، الرقيق التائهِ على أرصفة النخاسة لمن يدفعُ أكثر .‏
                وبواقعيةٍ صادقةٍ منقطعةِ النظير، وبعينِ الأديب المبصرة الثاقبة يفتحُ لنا الشاعر ثغرةً من خلال- أَنَاهُ- على الواقع العربي الضحلِ والموحل والمخزي، لينقُدهُ بلكماتٍ موجعة ٍكالحقيقةِ المُشينة التي آلت إليها حال كل المعذبين في هذه الأمة ، يعتنقونها قدراً لهم، وَصليباً تُصْلَبُ عليه نفوسهم ببشاعة، فمن هي هَذِه -الأَنا-:‏
                أَنَا....أنا تافه كألوفِ الطيبين..‏
                أنا...مثل ألف مليونٍ حزين...‏
                ..أمُرُّ مثل الحلم في دفاترِ النُّفوسْ.‏
                أَوْ في سجلات الحبُوسْ....‏
                تَعلكني الخُمور وَالسَّهرْ..‏
                وَكلُّ نخاسِ يتاجر بالبشر..‏
                رَقْمُ أَنَا ..كأمثالي أعِدوا للبغاء،‏
                يدوسهم ، يهرسهم ربُّ الحِذاء.‏
                يصنع فيهم ما يشاء.‏
                يبرمجهُمُ بغباءْ...‏
                آهِ...ما أكثر الأرقام!‏
                تغلوا تضطرمْ،‏
                لكنها زبد تشوه السيل العرمْ...‏
                أرأيت معي هذه -الأنا- المبعثرة في سجلات السجون والنفوس، قشة تافهة تتقاذفها السيول شجى في الحلق وقذى في العين؟! إليك شريحة أخرى مِنْ هذه الأنا المطروحةِ على أوْحالِ مسرح الحياة المأساويّ. تتناهَشها براثنُ الضَّياع وأنيابُ التمزق الإنساني على تخومِ الغربة المتوغلة في غيابات الأنا، على شواطئ الهزيمة والإنكسار:‏
                أنا!...مَنْ أَنا؟!‏
                أنا ...بيْدَقُ في رُقعة الشَّطْرنج‏
                أَنَا...لمْ أَعْرِفْ هزيمةْ...‏
                خُلقْتُ مِقداماً، كما قالوا‏
                لأدْفع؛ في عَزيمة..‏
                نفسي فِداء للِمليكِ،‏
                فَأَنا الوليمهْ..‏
                ودَمي مُباحُ للمتوجِ بين أثداء حريمهْ‏
                هكذا تتدحرج الحياةُ ، وتتسربُ من بين أصابع الشاعر خدمةً لصولجان الملوك والمتوجةِ بين أثداءِ الحريم. والكلامُ حتى الآن واقعي محسوس، ولكنْ هل توقفتْ إحساساتُ الشاعر الحوراني المنشارية الحادة في شق ضمير -الأنا- المُكَرسَّة للخدمة حتى التلاشي في رُقْعَةِ الشاه؟‏
                لا، سَيُكْمِلُ الشَّوْطَ بيدقاً ليفتح أمامنا الشرخ المرعب في جدار هذه -الأنا- المصلوبة عند أقدامِ الشاه، فهذا حكمُ قدره، أنْ يكنسَ تحتَ أقدام المتوج، ويَدافعَ في معركة خاسرة، لا بد أن يتلاشى فيها وينهزم، ويستحيل إلى رماد تذروه رياحُ الهزيمة، إلى حطامٍ لا تُحَدِّدُهُ معالم.‏
                ...تَأُكُلُني الأفراسُ، والأفيال، والقلاعْ‏
                فكلها حاكمة كبيرة‏
                فَكُلُّها آمرة قديرة..‏
                هذه حاشية الملكْ‏
                حكايتها ، كحكاية السمكْ‏
                كبيرهُ يأكلُ صغيرهُ...‏
                والصغار، يُؤكلون، ويخُرجون، وهم جياع...‏
                فهل عرفنا بعد ذلك مَنْ-أَنَاه-؟ هل تلمسنا ملامح أناه المبعثرة على رُقعة اللعبة في وطننا الكبير؟ ربما لم تتوضح! فتعال معي نجوس مرة أخرى عبر مسارب القصيدة ودهاليزها النازفة قيح التعب، نتعرف على - أناه-:‏
                ..تعرفني دوائر الضريبة والتجنيد...‏
                تعرفني كل المتاريس‏
                ومعاهد التدريس‏
                تعرفني حقولنا.‏
                وبيادر الدريس‏
                والزفتُ والإسمنت والحديد...‏
                تعرفني شوارع المدينة العديدة‏
                تعرفني أقبيةُ الفقْر والحاجة الشديدة‏
                تعرفني أُسْرَتي فقطْ ليلة الخميسْ‏
                بربطةِ الخبز وصُرَّةِ الكبيس‏
                زادُ أمثالي العبيد...‏
                فهل عرفناه؟ عرفنا أناه؟ إنسان المصلوب؟ إذا لم نكن قد عرفناه بما فيه الكفاية ، فتفضلوا معي نستقرئ واقعهُ الممزوجَ بالقيء والغثيان على أرضية القصيدة الملطخة بسخام الواقع:‏
                تعرفني محافلُ النُّوابِ والنيابهْ‏
                رَقماً يصبُّ للقائمة المُهابهْ‏
                والآلهة المفجوعة‏
                صوتاً هزيلاً للقائمهْ المطبوعهْ‏
                فأنا لا أعْرف القراءَة،‏
                حتَّى وَ لاَ المسموعهْ‏
                وَبَعدَهَا أَنَامُ،‏
                دَوْرة محسوبهْ‏
                في عفنِ سنيها ، الخمس،‏
                أو الخمسينْ‏
                لا يهمُّ..يا شعبنا المسْكينْ‏
                مسكينةُ تلك السنين‏
                حُكْمُ الشعبِ بالشعب،‏
                يا شعبنا المسكين..‏
                وهكذا ينعي الشاعر الحوراني ما فات، وما هو آتٍ ، على أوْحالِ الواقع المُخْزي، وَجَعاً وَعَاراً وخيبة أملٍ، تسْمُلُ العيون، وتجعلها موانئ للذُّبابِ والعفن، فتستحيلُ الأنا ممسحةً، لا شيء ،حتى ولا رقماً.‏
                وحين يصلُ إفلاسُ هذه الأنَا إلى برزخ العَدَمِ والتَّلاشي.. يستيقظُ الإلهُ الثاوي في غيابات نفس الشاعر، ويُشرقُ الأملُ من جديدٍ، وترتفعُ أعلامُ الثورة المرتقبة، ثورة الجماهير المسحُوقةٍ، في نَبُوءةِ ما كان بوسعِ الشمسِ أنْ تمنعهَا من الإشراقِ، وتشمخُ الأنا ، وتهزِجُ للجميع:‏
                أَمَّا- أّنَا - وثورتي‏
                فالبيتُ للجميعْ‏
                والخبزْ للجميعْ‏
                والشُّغل للجميع‏
                ووَاحدْ؛ صَيْفنَا والربيع..‏
                أما بعد؛ فقد قرأتُ يا أبا أيهم، وكتبتُ ، فهل أعجبتْكَ كتابتي؟‏
                فإنْ أعجبكَ ما كتبتُ، فعليكَ البر بوعدك، ودفع ديوانكَ للنشرِ،‏

                14/2/1991‏
                (1) الرقيق: من الرق أي العبودية‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: في رحاب الفكر والأدب

                  نظرة فاحصة في ديوان عِطر اللوز
                  عِطرُ اللوزِ..ديوانٌ شعري قشيب متميز ، له خصوصيته، وطابَعُه، ونكهتُه، وطعومُه، التي لا تبلى على الدهر، وتجعله في منأىً عن التأثُّر بأية تجربةٍ شعرية أخرى.‏
                  نحن أمام صوتٍ شعريٍ قويِّ النبرة، واثقِ الخطوة، واسع العارضة. يدقُّ أبوابَ الكلمات، ليغتصب بكر المعاني، بجُرأةٍ وقوةٍ عظيمتين. لا يهابُ مِقصَّ الرقيب، لأنه يؤمن بوطن، والرقيبُ يؤمن بنظام. لا يخشى بياطرة الكلام، والنقيق في الظلام.‏
                  نحن أمام إبداعٍ شعري له طرافته الخاصة، وجرسهُ المتميِّز، وإيقاعاتهُ العذبةُ التي تأسُر القلبَ، مما يميزه عن أي إبداعٍ شعري آخر على روابي درعا الطافحة بالندى، المغمسة بالرغاب ، رغم كثرة العنادل، وترجيع الحمائم، وشدو البلابل والحساسين.‏

                  يتميزُ ديوان عطرِ اللوز بمفرداتهِ المعبِّرة: الوِحام، التشهي، دبيب، مرقى، بشمنا، المريدون، الفيض".‏
                  وتراكيبه المبتكرة، كقوله:"في بال عود، دبيب المليحات، تفترش الذوبَ، وتُقرئ غمَّازَتَيْها السلام، نعبرُ رعشة الأنسام، ترويدة الرُعيان، وأورق آيُ الكتاب، وأمطرتْ الفاتحةُ".‏
                  وبصوره ولوحاته البكر المبتدعة، كقوله: "مخطئٌ من قال إني مدرك فحوى السؤال، سطوةُ البدء تزيحُ الستر عن عُقم المحال، الجوابُ الفدُّ ما يُخصب في العقل سؤال، صيحة النورس للشاطئ للبحر انتماء، كانتماء القتلِ للمقتول عشق وانتهاء، السنديانةُ تنتهي لكنها تبقى مزار، نتوه ببحر اليقين المعلب في العنعنات، نُباع بطلسم حرفٍ أتانا من الغيب مثل السحاب".‏
                  تحس أيها القارئ العزيز، وأنت تقرأ قصائد هذا الديوان ،مياسم الفكر القومي الواعي الحصيف، الملتزم بوجدان هذه الأمة وطموحاتها، حيث يدفع الشاعر يوسفُ صياصنة تيَّاره الشعريَّ ليمسَّ أدقَّ التفاصيل ويلمسَ أخطرَ مفاصل الوجع في أساها. ويتغلغلُ الشاعر إلى أعمقِ مكامنِ الوعي بأهداف الأمَّة العربيَّة في الحريَّة والوَحدة...وتنفتحُ نوافدُ فكركَ بشغفٍ لتلحظَ سعة مناهلٍ المعرفة التي استقى منها الشاعر معارفه، وتلمس غزارة الثقافة التي يرود باسقاتِها، وكثافة المخزون المعرفيَّ بتاريخ هذه الأمة، والأحداث التي عصفتْ بها، حيث شكلَ منها الشاعرُ مادَّته الشعرية.‏
                  وعطرُ اللوز.. معرض فني باذخُ من معارض البلاغة، تتألَّقُ فيه موهبةُ يوسف صياصنة الشعرية في سماء اللغة التي تُشرِقُ في الضمائر . ويتأنقُ الشاعُر في اقتناص الصور الغارقة باللون والحركة والظلال. ويبدعُ في اصطياد أجمل اللوحات الفنية المزركشة ، فينثرُ في جنباتها أغماراً مكدَّسةً من الأفكار، والمشاعر، والعواطف التي قلما يتاحُ لنا قراءة مَثلها في ديوان شعري آخر.‏
                  يفجؤُكَ المعنى منذُ الصدمةِ الأولى، ويزدهيكَ كلما تأملته ، وهو يسافرُ فيكَ ، فينمو ويكبر بداخلك، وتكبرُ أنت فيه، فيتعانقُ كبرا كما إكليلاً من الغار ينضفر على حوافي الصور الساحرة، وعلى شفاه الحروف الغافيات على دنان النبيذ المعتقِ في معانيها، فتسكر ويتعتعُها عِطر المشاعر الصادقة في مفاصلها ، وروعة العواصف الساجية في مجاليها ، وتستبيها لوعة النقاط، ولهفة الفواصل الحافيات سعياً للوصول إلى المشاركة في تفقد شلالات مواكب المعاني والأفكار والمشاعر الراعفات في بحار القصائد.‏
                  القصيدة في ديوان عطر اللوز قلعةٌ حصينة ذاتُ أسوارٍ منيعةٍ ، لا تستطيعُ أن تنفذَ إلى كنوزها إلا بسلطان... لا تنفذ إلى مقالع العنبرِ والمرجان في معانيها، إلا إذا أعملت قدحَ زنادِ الفكر للإحاطة بأساطين بنائها، وأسريت عبر مسارب الزمرَّد والياقوت في مغاور رموزها المحيرة، إلاّ إذا تمثَّلْت الظلال والأفياء في صورها، واستوعبت زخارف فسيفساء أرضية اللوحات المنمقة...إذا أدركتَ سِرَّ أساطين بنيانها، وحللت الرموز القابعات في مغاورها وفككت أجزاءَها، إذا أضأت ظلال الصور، ونثرت كُنوزَ اللوحاتِ على مدى مساحة الرؤيا..فعندئذٍ فقط تَنْعتقُ المعاني أمامكَ من إسارها وتنهمرُ على اصابعكَ خيراً وبركةً ، فتغْمِزُأنفكَ وقَلبكَ وخيالك، وتُغرقُكَ بديمةٍ من الأنغام والموسيقى الهائمة، والعواطفِ الدافئة، ولا عاصم لك يومئذٍ من طوفانها إلاَّ الالتجاء إلى زوارق حروفها. فهي التي تنقلك إلى موانئ الشمس والضياء والنعيم.‏
                  القصيدة في ديوان عطر اللوز ليست هرماً موسيقياً صاخباً، عالي البنيان، متماسكَ الحلقات، تقرعُكَ موسيقاه الداخلية، وقوافيه الخارجية بسياطِ من نحاسيَّات الربابة، وعذابات نقرة الوتر الواحد... أبداً ، أبداً؛ الموسيقى في قصيدة عِطر اللوز مجموعة سواقٍ تتشكلُ هنا وهناك، لتنسابَ أنغاماً هادئةً، وأنساماً رقراقةً، وروحاً خفَّاقةً، وحفيفَ أوراقِ وردٍ تتراقصُ على شِفاه الحروف، وتختالُ بدّلٍّ على شُرفات الكلمات.‏
                  الموسيقى في القصيدة اليوسفية روح داخلية نشطة، تتمايل على سحبات الرصد، وتوجَّع الصَّبا والنهوندِ، بين مقاصير الحروف العائمات ، وغاباتِ الكلمات الساجية، حيثُ التفعيلة تسندُ خاصرة التفعيلة الأخرى بشوقٍ وحنيّه، تُغرقُكَ أيُّها القارئُ العزيز في دفَقْةٍ من الأنغامِ والضياء والظلالِ والصورِ والرطوبة الربيعية.‏
                  ***‏
                  أغراضُ الديوان ومقاصده، تتشابكُ في القصيدة الواحدة، أيةِ قصيدة من قصائد الديوان ،فتحسُّ وكأنك في بستان داني القطوف يانع الثمر، تمدُّ يدكَ لتجني ما تشاءُ من رخصِ المعاني، ولطيفِ الصور.‏
                  1ً- فتتداخلُ القضايا الوطنية والقومية، بأبعادهما السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العديد من قصائد الديوان، ويتماسك سداها بلحمتها، لتقدم لك نسيجاً متجانساً تسكنهُ روحُ واحدةُ، وتدفعه آمال وطموحاتُ واحدة، وتتلاعبُ فيه مقاديرُ شتى، كما في قصيدة "يا أمَّة أحبها" و"الموت بالمجان" و"مهلهل في زمان النفط".‏
                  يُحاصرنا زمانُ المَحْلِ.‏
                  واسترختْ على اجفانهِ الأفعالُ‏
                  والكلماتْ..‏
                  ..نعافُ الريَّ من فنجانهِ المسكون‏
                  بالآلامِ والنكباتْ...‏
                  نرتدُّ ؛نُداري الجرحَ بالأوجاعِ‏
                  نستدعي هموم الأمسِ‏
                  نَغْسلُها من الأدرانِ‏
                  نُطلِقُها خَفافا...‏
                  نُحضِرُ المعشوقَ من أوراقه‏
                  الصفراءَ‏
                  نجلوهُ- كَما كُنَّا على الأيَّام..‏
                  تَوقاً وأنعطافا..‏
                  ***‏
                  ...مَن يُذيبُ السرَّ في الإبريق‏
                  وَالكاساتْ؟‏
                  يُعيدُ المجد للكلماتْ؟...‏
                  للأحزانِ تعبُرنا بلا آهاتْ...‏
                  ورغم مرارة الذكرى،‏
                  ورغم المحل يُخصبُنا،‏
                  حُضوراً بَيِّنَ القسماتْ..‏
                  يرشُّ العِطر للغاباتْ...‏
                  والشَّاماتْ للخدَّينْ،‏
                  جُنْحَ الليلِ للجفَنَيْن،‏
                  والألحان للناياتْ..‏
                  ***‏
                  يُذوِّبُ عطرَهُ فينا‏
                  فيملَؤنا،‏
                  بماضٍ صارَ- في صحرائنا الجرداء-‏
                  بعضاً من أمانينا....‏
                  وحينَ نصارِعُ الأقدارَ‏
                  يزرع عشقَهُ فينا...‏
                  فينمو واحةً خضراء.‏
                  ينمو في مآقينا...‏
                  فنصحُو نجبهُ الأقدار‏
                  نصحو نُسرِجُ الأمهارَ‏
                  نصحو نُشْعِلُ الاقمارَ‏
                  نصحو نَشْكُمُ الظلماتْ...‏
                  ***‏


                  الشعور الوطني ، والشعور القومي، هاجسا الشاعر، يسكنانه، ولا خلاص له من إسارِهما، منهما يبدأ ، وإليهما يُغنِّي وينشدُ.‏
                  والوطنُ عندَ الشاعر أُلفَةُ الناس، وانتماء إلى الأرض وذوبانُ فيها، لا مجموعة ولاءات يوزِّعُها بين زيدٍ وعبيدٍ من البشر.‏
                  الأرضُ عند يوسف تبدأ من درعا، منها ينطلقْ وإلى صدرِها يعود. الطريقُ إلى دمشقَ يبدأ من درعا، والطريقُ إلى مصرَ يبدأ من درعا، والطريق إلى المغرب العربي وبقية العالم يبدأ من دَرعا..الطريق إلى "بابلو نيرودا" و"عِزْراباوْند" و"إلزا أراغون"و"ناظم حكمت" يبدأ من درعا. كما في قصيدة ياأمةً أحبها، وعطر اللوز، وفي الشك منجى.‏
                  ...أهلي ، وعشاقي‏
                  وعطرُ اللوزِ- في أردانِكُم-‏
                  بُرْئي...‏
                  فمنْ يأتي بقُمعِ الطيبِ‏
                  - من ذرعاتَ-‏
                  يُشفْيني؟‏
                  فأعيطه اللآليءَ‏
                  والعقيقَةَ ،والصبيّْ‏
                  ***‏
                  ما حارتِْ الأبصارُ.‏
                  ما انكشفتْ لغيرِ الطيبِ‏
                  في "الزيدي"‏
                  وموج القمح في "الخمان"‏
                  والأطلال في" الشلبي"‏
                  وفي "المنشيَّة" ابتردت‏
                  بريح الغرب، والزيتون،‏
                  والرمان، والعنب،‏
                  مشت في "تلةِ السلطان"‏
                  فامتد الطواف بها‏
                  إلىالأردنِّ‏
                  مارتاحتْ‏
                  ولا من حولها النُسَّاكُ‏
                  قد وهنوا، من التَّعبِ(1)
                  ***‏
                  وها هو الشاعر يوسف يردُّ على الذين يلومون انتسابه للأرض، لدرعا ويعجب من نقدهم هذا، ويرد عليهم بأسً ولوعةً، مستهجناً تنكُّرَهمُ لمسقط رؤوسهم كما في قصيدة لمن أغني.‏
                  يلومونَ انتسابي‏
                  للْحمى،‏
                  للتربةِ الحنَّاءِ،‏
                  للإنسانِ‏
                  تَرْبطُني به الغصاتُ‏
                  والنُعمى.‏
                  فأمِسِكُ معوَلَ الفلاّحِ‏
                  من شوقٍ‏
                  يُلاقيني.‏
                  فنخرجُ قبل أنْ تصحو‏
                  ديوكُ الحي‏
                  والقطعان.‏
                  أواسيه، يُواسيني‏
                  فأغويه ، ويُغويني‏
                  فنفتح سرةَّ الدنيا‏
                  -نزيلُ بكارة البستان-‏
                  نلمَسُ نهدَها في عشقِ‏
                  بستانيِّ للتفاح.‏
                  نُثلِّمها- كجرحِ الوردِ-‏
                  نفتحُ خصرَها للريح،‏
                  نمشط شعرها المشلوحَ‏
                  أغماراً.‏
                  ونخصبُ رحمها‏
                  تستعجلُ الميلادَ‏
                  تنهضً جنةً خضراءْ.‏
                  تسمعنا حديثَ البوْحِ‏
                  تسحُرنا‏
                  بكلِّ مفاتن الأُنثى‏
                  بكل نضارةِ العذراء‏
                  بالمشقوقِ..بالمفلوقِ‏
                  بالريان للعشاق‏
                  - في حقلٍ فسيح تاه-‏
                  في الأطياب والألوان‏
                  ***‏
                  يتصدى الشاعر بعد ذلك وبأسلوب مريرٍ ساخرٍ، لقضايا الفكرِ القوميّ، التي ماعَت، وشطَّتْ واختلطتْ ببعْضِها ، فما عُدْتَ تُمَّيزُ الرؤْيا، ولا تعرفُ ما الصوابِ. ..تلكَ القضايا الضروريةِ والملحة، والتي تتركزُ وللأسفِ فيما لا يُمكنُ تحقيقُّه على أرض العرب في الزَّمن الحاضر أبداً، أنها الحريةُ والوحدةُ ، مؤرَّقتا كلِّ نظامٍ من الأنظمةِ العربية القائمة، أو النائمهْ .‏
                  غنية؛‏
                  تميتها التخمةُ،‏
                  مثلمات يُميتُها السغَبْ..‏
                  قويةُ؛‏
                  تطيرُ الصاروخ باتجاه صدرها.‏
                  وتغرز السكين في الركبْ..‏
                  وفي الدفاع والهجوم‏
                  سيفُها خشبْ...‏
                  تجزَّأتْ أوصالُها‏
                  كما يُجزَّأُ البطيخُ‏
                  أو يُفرطُ الرُّطَبْ...‏
                  تشرنقتْ‏
                  -على حوافي الموت-‏
                  ضرعُها سبيل للتجارِ‏
                  - في موانئ الحيتانِ-‏
                  قمحُها جَلَبْ..‏
                  ورُمْحُها جلَبْ‏
                  وكُحلُ حورِ العين- في جَنَّاتِها‏
                  جَلَبْ..‏
                  دَجاجةُ تُقلِّبَ الرمالَ‏
                  لليمين والشمال‏
                  لا يطالُها تعَبْ..‏
                  ..بأن يكونَ زيتُها وقطنُها‏
                  معادلَ الدولارِ والذهبُ...‏
                  وصاحبُ السُموِّ‏
                  مثلُ صاحب القرار‏
                  -من أقرانِه العشرين-‏
                  مثلُ ناقة البسوسِ‏
                  في مصارِفِ اليهودِ تُحْتَلَبْ..‏
                  ويأكل"الكافيارَ"‏
                  قبل نومهِ، وبعدهُ‏
                  -ويلحسُ الزلوعَ طولَ يومهِ-‏
                  ويلبسُ الديباجً...والحرير..والقصبْ‏
                  ويشفُط الحَبب...‏
                  ***‏
                  حتى هذه الحريةُ ، وتلك الوحدةُ ، يبدأ بهما الشاعرُ من درعا.. هذا الانتماءُ الأصيلُ للأرضِ، لمسقطِ الرأس، للإنسان، يُعطي الشاعر يوسفَ صياصنة بُعْداً وطنياً وإنسانياً قلَّ نظيرهما، لأنَّ التجارب الإنسانية الحقة، والمعاناةَ الإنسانية الصادقة، واحدة على هذا الكوكب، وكلَّما كان الأديبُ أو الشاعر صادقاً أميناً في نقل تجربته المحليةِ، كان أقربَ إلى الإنسانية آنئذٍ من أيَّة لحظةٍ أخرى .عُدْ إلى معظم القصائد تجدها طافحة بمثل هذه المشاعر. من مثل قوله:‏
                  فقولي :وقولي، وقولي‏
                  فعاشق أرضٍ‏
                  يزور العشيات..‏
                  دوما..يُوافي‏
                  "نبوخذَ" أَسْرجَ فيه فتيلاً‏
                  ليشرحَ للخلقِ‏
                  سِفَر الرُّعاةِ...‏
                  البوادي‏
                  الذين أضاؤوا شموساً‏
                  وأعلو بناءَ الهدايةِ والعلمِ‏
                  بينَ الشعوب.‏
                  طويلاً...‏
                  وفي كلِّ سَفح ظليلٍ ووادي‏
                  وأسْرَج للرفضِ خيلاً‏
                  تقيِّدُ كُلَّ الطيور.‏
                  وتمضي إلى الفتح‏
                  تُعلي قباب الشهادة‏
                  حتى عنان السماء‏
                  وتمضي‏
                  ولا شيءَ يوقفُها عن سبيل الجهادِ‏
                  سوى النصرِ‏
                  إرجاع كلِّ البلاد السبايا‏
                  وتوحيد كلِّ الجهات الحبالى‏
                  بمجد يعود‏
                  منَ الماءِ للماءِ..‏
                  ويفتح كُلَّ السجونِ ،السواليلِ‏
                  يُخرجُ كلَّ القيودِ‏
                  الحدودِ المنافي..‏
                  ***‏
                  2ً- يلجأ الشاعرُ في أغلب الأحيانِ إلىالرمز ، يُخفي وراءهُ ما يشاءُ ، فيقوده ذلك إلى حلباتِ الفكر الصوفي ومجاليهِ..فتعال نصْطَلي معاً في جحيم البحثِ عن الحقيقيةِ المطلقة، التي شغَلتْ الإنسانَ منذُ أنْ درجَ على دروب هذا الكوكب الحائر...تعالَ ندخلُ مجالي الفكر في قصيدة "العومُ في بحرِ ليلى"لترى كيفَ يذوبُ السؤالُ على أبواب البحث، ولترى كيف يسبُرُ الشاعر كبد الحقيقة ليصلَ إلى "النرفانا" حيث السعادةُ الأبدية، وانظر كيف ينبعُ صِدقُ الشاعرِ في حدسهِ، لأنه ينبعُ من عمقِ إيمانه فيما يعتقدهُ، وما يقوله معتبراً عن هذا الاعتقادِ... تعال نلمَسُ الحيرة للوصول، تمزُّقَ قلبَ الشاعرِ، وعقله في قصيدةِ "كيف " وهي تدقُّ أبوابَ الذاكرة على تُخومِ الضياع:‏
                  من يُرينا؟‏
                  كيفَ يَطوينا،‏
                  الوجودْ؟‏
                  مَنّ يُرينا؟‏
                  كيفَ صارَ الطينُ‏
                  دودْ؟‏
                  منْ يُرينا؟‏
                  كيفَ بَعدَ الموتِ‏
                  نبقى؟‏
                  مِثلَ لحنٍ،‏
                  خالدٍ،‏
                  في بالِ‏
                  عُودْ؟‏
                  في الديوان كما سترى يا قارئي العزيز، نأمةُ صوفيةُ مغرقة في دروب البحث المضني عن مقامات الوصولِ إلى المحجةِ الأبدية.. ولكنها ليستْ الصوفيةَ الضبابية المتشحةَ بالهلوسة واللاوعي،التائهة ما بين أقطار السماوات والأرض..بل هيَ الصوفيةُ المعافاةُ ،التي تقوم على الوعْي، والنشاطِ الذِهني، في البحث عن الحقيقةِ الكونية المطلقة، فإليكَ نسوقُ هذا الشاهدَ من قصيدةِ "تراتيل غير صوفية"‏
                  بِبِرِّكَ يا ربٌّ!!‏
                  كيفَ الوصولُ إليكَ؟‏
                  لنمضي..‏
                  ونلعبَ بالنارِ.‏
                  نقرعُ كلَّ النواقيسِ...‏
                  نَعفي جميعَ النواميس..‏
                  من وزرها والنظامْ...‏
                  ونُشعلُ كلُّ المآذنِ بالذكرِ‏
                  نرقبُ إبداعَ عرشِ جديدٍ‏
                  و"كرسيَّ" آخر‏
                  أكبرَ‏
                  أجملَ‏
                  أكملَ للسرِّ‏
                  أَلْيَق بالواصلين إليكَ!!‏
                  وللعشقِ نتلوا،‏
                  مواجيدَ آدمَ‏
                  سراً وجهراً‏
                  فأيُّ المواجيدِ أليقُ فيكَ؟‏
                  3ً- أما الغزلُ في ديوان الشاعر يوسف صياصنة، فهو متداخلُ مع غرض الوصف، ومشتبكُ فيه...ونستيطعُ أن نحكمَ أنَّ غزَلَ الشاعر ليس ذلك الغزلَ الرقيقَ الرطب المتشهى الذي يرشحُ عاطفةً ورياً وصبابةً... ولا هو ذلك الغزل العُذريّ الذي يترفع عن أوصاف الجسدِ المادية، والإيغال في نقلِ تفاصيلها..ولا هو ذلك الغزل العُمرَيّ المسافر في تفاصيل الجسد وأغراضه، ووصف جمر اللقاءات في الليالي المقمرات.‏
                  لا هذا ، ولا ذاك..إنه مزيج متجانسُ من كلِّ هذا وذاكَ، وأهمُّ ما يميزُه ذاك المنحى العقلي، الذي يظلُّ فيه الذهنُ رقيباً وضابطا لخفقات القلبِ، وراتعاشات الفؤاد. ومن جراء ذلك قد نحسُّ بعضَ اليبس والجفاف في عاطفة الشاعر في بعض الأحيان، على عكس ما شاهدناهُ في شِعره الوطنيّ والقوميّ والاجتماعيّ، حيث تتدفقُ العواطفُ مشتعلةَ لاهبةً، وتنثالُ المشاعر جياشةً حارةً، ويتفجرُ الصدقُ على شفاهِ الحروف...ومع ذلك، فإننا لا نستطيعُ أن نجورَ في وصفنا لعواطف الشاعر ومصداقيتها وحرارتها في كلِّ الأحيان.‏
                  والشاعر يوسف لا يفتعِلُ الحبِّ، ولا يخُطِّطُ للمواعيد، إنما هي سوانحُ قلبٍ شفهُ الوجدُ يوماً، وساقتهُ العواطف إلى مذبح الحبِّ.‏
                  المحبوبةُ في ديوان الشاعر ليستْ بدوية مترفةً، ترفلُ بعباءتها فوق مبذلها..ولا هي قروية حصدتْ أشعةُ الشمس زغبَ المُخْمَلِ من وجنتيها..أبداً، إنها غادة متمدنة، يلهثُ الصيف على خيطانِ قميصها الأرجواني، وتنفلتُ عنها الثقافات مُعبرة بجملةٍ مؤنقةٍ هنا، وإيماءة رشيقة بأطراف الأنامل الصبيغةِ هناكَ، وخصلةِ شعرٍ تتناوسُ على هلالِ جبينها، وتهمس العطر في أُذنيها، كقوله:‏
                  يا منْ رأي!!‏
                  شلاّلَ طيبٍ‏
                  صَبَّ ذوْبَ المِسْكِ‏
                  - مُرتاحاً على الأكتاف..‏
                  يختارُ منَ الألوانِ‏
                  أحْلاها-‏
                  وَسَمَّرُ مكان؟...‏
                  ويظلُّ الحبُّ عندَ الشاعر عقلياً كما قُلنا. قدْ يزول . ويعفو عليه الزمن، إلاّ أنَّ الجمرَ يظلُّ يتلظّى تحتَ الرمادِ، ويبقى الصدى مُرتسماً على صفحاتِ الذاكرةِ،كقوله:‏
                  وستبقى القبلةُ الأولى‏
                  -على المقعدِ-‏
                  عَقدَ الفَلِّ‏
                  تهديه إلى الآتين‏
                  -للذكرى-‏
                  وترويه إلى النساكِ‏
                  -في الحضرة-‏
                  آلافُ النجوم...‏
                  ***‏
                  هكذا مررْتُ برياضِ ديوان عِطرِ اللوز، للشاعر والأخ والصديق يوسف صياصنة...أستوقفتني وردة هنا، وتعلقتْ بأثوابي فُلَّة هناك...تعمقتهُ، سِرْتُ في أفيائه وظلاله، وحاولتُ أن أدرسهُ..‏
                  ولكنْ بيني وبين ذلك شأوا بعيداً ..وما نثرْتُه من سطورٍ سابقات ليس سوى صُوى على دروبِ هذا الديوان.‏
                  يخطئُ مَنْ يظنُّ أنَّهُ قادر على الإحاطةِ بمعاني قصيدةٍ واحدةٍ من قصائد يوسف... فكيفَ يحقُّ لي أنْ أزعُمَ لنفسي أني قادرُ على الإحاطة بديوان عِطْر اللوز كله؟ وهو الذي صاغهُ من مِزَقِ قلبه، وآهاتِ روحه، ونشرَها على حبالِ الوجدِ والضنى، غناءً حُلواً على المدى.‏
                  لقد اجتهدْتُ ، فإنْ أصبتُ فهذا حُبي ليوسف، وإنْ أخطأْتُ فلي من قلبه الكبير الصفحَ والغُفران.‏
                  والصداقةُ الخالصةُ من وراءِ القصد.‏
                  (1) ما بين قوسين كلها أسماء أرضين ومواقع في درعا‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: في رحاب الفكر والأدب


                    دراسة تقويمية لديواني منصور الزعبي
                    استقبل جمهور القراء في محافظة درعا ، ديوان منصور الزعبي.
                    بشيءٍ من الاستغراب والدهشةٍ ، وتساءل بعضهم :
                    -متى كان منصور ينظم الشعرَ، أو يكتبُ الخاطرة؟!
                    وكأن الكتابة، أو نظم الشعر وقف على زيد أو عبيد من الناس. او أنها مقصورة على سنٍ معينة. وسألتُ منصوراً رأيهُ فأجابَ: "كيفَ يتناسون أنَّ والدي محموداً الزعبي شاعر مطبوعُ من أرقِّ شعراءِ الغزلِ في حوران منذ نيفٍ وستين عاماً؟
                    وله ديوان شعرٍ مطبوعُ ، وما للوراثة من دور مُهم في انتقال المواهبِ من جيلٍ إلى جيل، ناهيك عن أن لي الآن ابنةً يافعةً تجيدُ نظم الشعرِ أيضاً ، في جدِّها وأبيها وعشيرتها.." فأعجبني هذا الكلام... وقلت:
                    انقسمَ القراءْ إلى مادح، وقادحٍ، ومحايدٍ:
                    1- فالصديقُ أثنَى على الدِّيوان وقرضه، وشجَّع صاحبهُ على متابعةِ تجربتهِ الأولى تلكَ ، والتعبير عنها ، والاستمرار بالكتابة.
                    2- وغيرُ الصديقِ، أو الشانئ، أو لنقلْ الحسود. أزرى بالشاعرِ أو الأديب؛ إمَا حسداً، أو جهلاً، أو تعالماً، دون أن يمسَّ التجربةَ الادبية لا من قريب و لا من بعيد، لأنَّ قدْحَهُ كانَ منصباً على صاحب الأثرِ، لا على الأثر نفسه.
                    3- وهناك صنف ثالث من القراءِ الحيادِيين، تناولوا نقدَ الكتابِ -وأظن هنا أنَّ كلمة نقدٍ متورِّمةُ المعنى- بمقولاتٍ عامةٍ، فضفاضةٍ، غير مسؤولةٍ أو مختصةٍ، أرضتْ أذواقَ مُطلقيها. وعبرت عن معارِفيتهم، مُظهرين شيئاً من الدَّهْشَةِ لجرأةِ منصور في طرح تجربته ومعاناته، مرسومةً على الورق، بين أيْدي الناس، وتحت أسماعهم وأبصارهم، على تقدير أن الكلمة تظلُّ ملكَكَ مادامت في صدرك ، أما حين تُجازفُ بنشرها، فإنها تخرج من حيزِ ملكيتكَ، وتصبحُ مُلكاً للناسِ ، للآخرينَ. وهم عندئذٍ أحرار في إبداءِ ما يشاؤون مِنْ نَقَداتٍ أو تقريظات . وما كان أغناهُ عن مثل هذا ، كي لا يُصبحَ هدفاً لسهام الآخرين غير المنصفين.
                    - تابعْت بطبيعتي ما يُقال في الكتاب. وفي مقدمته التي صدَّرتُه بها، ورصدْتُ بدقةٍ وعنايةٍ مُعظم تلك"الأقوالِ أو الأقاويل". ونالتني ألسنة القراءِ المنصفين بالخير. وغيرهم بالشر. ورحبتُ بهذا، واتسع صدري لذاك:
                    فـ"
                    على قَدْرِ أهْل العَزْمِ تأتي العزائمُ
                    وتأتي على قدر الكِرامِ المكارِمُ".
                    ونُقِل إليَّ كثير مما دار علىتلك الألسنة، وكان تقويمي لها في مُجملها مشجعاً، مما دفع منصوراً إلى متابعة تجربتهِ الفنيةِ والتعبير عنها بوسائله المتاحةِ.
                    -وسألني منصورُ الرأي.
                    -فقلتُ: عليكَ أنْ تتجاوز ذاتكَ.
                    وألاَّ تكررَ نفسكَ.
                    ولا تعيد ما أبدعتَ.
                    كي لا تقعَ في صُمغ الطوباوية والاجترارْ.
                    فالإنسانُ الحقيقيُّ، وتاريخه كلهُ: هو أفكارُه، ودواته، ورحلةُ أصابعهِ على الورق. ولا تخشَ النقدَ ، والتجريحَ، وألاّ يُضيرَكَ ماقدْ تُواجهه من إرهابِ فكريِ، فهذا ليس جديداً في تاريخ إرهابنا"ولكنَّ الجديد أنْ يثورَ المذبوحُ على ذابحهِ، والقبرُ على حافِرِه..الجديدُ أنْ يرفُضَ الميتُ موتَهُ، وأنْ يعضَّ الجرحُ على نَصْلِ الخنْجر...فالموتُ الصامتُ هو وحدهُ الموت، أما الذين يثقبون بأظافرهم رخاماتِ قُبورهمُ ويكتبون شِعراً على خشب توابيتهم..فلا أحدَ يستطيعُ أنْ يهزمَهُمْ ".
                    - ومجملُ - النقدات- أو الأقوال الثلاثة السابقةِ، منطقي ومقبول من وجهة النظر النظرية القائلةِ :ما مِنْ أحدٍ يمتلك الحقيقة كلها.
                    أما مِنَ الناحية الفنية، والعملية، والواقعية، فمجملها كلام انطباعي في أحسن الأحوال غير مسؤول، لا يملك قدراً ضئيلاً من مصداقية معجم المصطلحات النقدية. أوما يستحق أنْ يوصف بالنقد المنهجي أو الموضوعي ، ولا حتى القولِ النقدي والوصفي وبالتالي: فلمْ ينلِ الكتاب حقه من الدراسة والتقويم، وتقويمه حق له، وواجب علينا نحن القراءَ.
                    وربما كان هذا- مع احترامي الشديد لكل ما قيل في ديوان منصور وما يقال- ليس ذنب هؤلاء وأولئك ، أقول رُبما:
                    أ- لأنه لم تتشكل لدينا في سوريا حتى يومنا هذا، مدرسة نقدية متكاملة لها قوانينُهاوأسسها ومصطلحاتها النقدية المؤصَّلة، كمدرسة مارون عبود، ومدرسة ميخائيل نعيمة في لبنان، أبو مدرسةِ أبولو،ومدرسة الديوان ومدرسة محمد مندور في مصر، أو مدرسة الصادق النيهوم وحامد أبو زيد وجماعتهم في مجلة الناقد.
                    ولكنَّ هذا لا يعني أنهُ لا يوجد عندنا محاولات جادة لإنشاء حركة نقدية في سوريا يقودُها أدباءٌ نابهون- مع الإحترام اللألقاب والأسماء على سبيل التمثيل لا العد والحصر والإحصاء- حسام الخطيب، ومحيي الدين صبحي، ونعيم اليافي. وسمر روحي الفيصل، ويوسف اليوسف وغيرهم. ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلنا نقررُ وجودَ مدرسةٍ نقديةٍ متكاملةٍ لها أسسها ومصطلحاتها ومعجمها النقديّ. إنما هي محاولاتُ شخصية جادة ،لم تلق ما تستحقه من الرعاية والتشجيع من الدوائر الأدبية المسؤولة ، وإننا لنرجو لها أنْ تتوّج بالنجاح.
                    ب- وهناك خطأ إجرائي قاتل وهو أنَّ السوادَ الأعظم من مُتسَلِّقي أعمدةِ النقد في الدوريات اليوميةِ والأسبوعية والشهرية، والمتنطعون في أكثر الأوقات والجلسات الأدبية للتقويم؛ أنهم يتكلمون قبل أنْ يقرؤوا، ويكتبون -هذا إن كتبوا ولا أظن- قبل أن يفهموا، وينتقدون مرتجلين، ما ليس لهم به عِلم أو بصرٌ.
                    ولذلك أقولُ : إنّ النقد الموجَّه إلى ديوان منصور يبقى سطحياً مهما عمق. واعتباطياً مهما حَشَوْه بألفاظ المنهجية والموضوعية. لأنّ من يتصدى للنقد، ويجعلُ من نفسهِ قاضياً عادلاً ، لا بُدَّ أنْ يتزوَّدَ أولاً بالموضوعية والمنهجية العلمية.
                    ثم من أن يتسلح بمعرفةٍ عميقة في عُلومِ الاوّلينَ والآخرينَ في البلاغة، كعلمِ المعاني، وعلمِ البيان، وعلم البديع، وعلمِ الصياغةِ، وأن يكونَ على اطلاع واسعٍ على المناهج النقدية للمدارس النقدية التي تملاً هذا العالم الواسعَ حولنا، وطرائقها:
                    1. كمناهج وطرائق مدرسة النقد المثالي.
                    2. كمناهج وطرائق مدرسة النقد الواقعي.
                    3. كمناهج وطرائق مدرسة النقد النفسي أو التحليل النفسي على مختلف أنواعها.
                    4. كمناهج وطرائق مدرسة النقد الأخلاقي أو الديني أو البطريركي.
                    5. كمناهج وطرائق مدرسة النقد الذاتي.
                    6. كمناهج وطرائق مدرسة النقد الموضوعي.
                    7. كمناهج وطرائق مدرسة النقد العقائدي أو العقيدي أو الاعتقادي.
                    8. كمناهج وطرائق مدرسة النقد العلمي وفروعها.
                    9. كمناهج وطرائق مدرسة النقد التاريخي.
                    10. كمناهج وطرائق مدرسة النقد اللغوي.
                    11. كمناهج وطرائق مدرسة النقد التأثري.
                    12. كمناهج وطرائق مدرسة النقد الجمالي أو الانطباعي.
                    13. كمناهج وطرائق مدرسة النقد البنيوي الحديث.
                    ومناهج وعلومٍ كثيرة ليس هُنا مجال التوسع بها. فهي مبثوثةُ في بطون أمهاتِ الكتُبِ وغيرها، ليس ذلك فحسبْ،بل وبمعرفةٍ دقيقةٍ للأمثلة والشواهدِ لكلِّ مدرسةٍ من هذه المدارس النقدية، والفروق الدقيقية، والحواجز الواهيةِ التي تفصلُ بينها.
                    -فأينَ هذا، من هؤلاء، وأولئك؟
                    هذا بصرفِ النظر عن أنَّ النقد:
                      1. ليس قوالبَ جامدةً.
                      2. ولا مقَولاتٍ مسبقة الصنع، تصلح لكلِّ زمانِ ومكان.
                      3. ولا تحايلاً على فن القولِ وذرابة لسان.
                    أبداً...أبداً..النقد فنُ قائم بذاتهِ،بل ومن أجل الفنون ،ولأنهُ المحكُّ الحقيقيُّ للفنونِ والآداب، وبه. يعرفُ جَيدُ النظم أو النثرِ أو الفنّ ، من رديئه، وما الناقدُ الحقيقي إلاّ فنان آخر، يعيشُ بصورةٍ واعيةٍ ويتمثل بطريقة فذة، ما عاشه الفنان أو المنشئ وتمثله بصورة غير واعية ساعة التلقين المبدع.
                    ورغم كلَّ هذا وذاكَ، فعلى منصورٍ أن يحتمل كل ما قيل، وما قد يقال، وأن يتسع صدرهُ للسعاتِ ألسنةِ الآخرين، ونصب عينيه قول شاعر العصور:"كفى المرؤ نبلاً أنْ تُعَدَّ معائبه"
                    والأن..فبعد ما كان بالأمسِ وقفاً على منصور ، أصبح الأن في متناولِ أيْدينا، نصنعُ به ما نشاءُ، ننقده، نُشرِّحُه، نُجرِّحه، نقوِّمُه، نَخْسِفه، نُنَسِّفُهُ، نسجنُهُ، نُعدمُهُ، فكلُّ مُيَسرُ لما خلق له.
                    شعرُ منصورٍ ، نثر منصورٍ ،خاطرة منصورٍ ، ولدت..وما عادَ يَعْنينا الحَمْل أو المخاضُ، أوِ الرضاعةُ. فالمولودُ شبَّ ونما وأيفعَ تحت سمعنا وبصرنا، ونحن اليوم حيالهُ:
                      1. فإمَّا أنْ نُصادِرَهُ، ونَتَسَقَّط أخطاءَهُ، ونعددَ زلاتِهِ، ونحكم عليه بالإعدامِ.
                      2. وإمَّا أنْ نَتَعهَّدَهُ، ونرعاه، ونشجعه على الحياة ، ونساعده على البقاء ، ونُنقيهُ من شوائبه وأخطائهِ إنْ وُجدَتْ...ولكلِّ واحدٍ الحقُّ فيما يُريد.
                    وحتى منصور نفسه، يقف معنا، وإلى جانبنا، وعيونه مفتوحة ، وآذانه مصغيةُ، ويقول :أحْسَسْتُ شيئاً يتوَّلدُ بداخلي، يتحرك بخاطري، ويغالبُني، فما عُدْتُ أستطيع كبتهُ، أو أتغلب عليه، فعانيتُ تجربةً إنسانيةً بكل حرارتها، بنارها ودخانها، بطقوسها وكهنوتها. فتشكلتّْ لّديِّ صورة عنها، بكل مضامينها وتفاصيلها، فعبرتُ عنها بالطريقة التي فرضتْ نفسها علىَّ، والصيغةِ التي تنَزَّلتْ بها، ولا تُهمُّني بعد ذلك التَّسْمياتُ أو الشكليات ،فقدْ أنتهى كلُّ شيءٍ، وصار من حقي بعد اذاعتها ونشرها أن أسالَ القراءَ الأعزاء أو الأعدقاءَ:
                      1. هَلِ استطعتُ أنْ أنقلَ لهم ما في خاطري؟
                      2. وهَلْ تمكَّنْتُ مِنْ أنْ أُطلعهم عما في داخلي وأعماقي الجوَّانية؟
                      3. وهَلْ جَعلتُهمْ يُشاركونني وجعي وخيبتي؟
                      4. هَلْ وَصَلَ إليهم أوارُ اللهيبِ الذي كُنْتُ أصْطلي به؟
                      5. هَلْ وصلَ صوتي إليهم وحركتهم همومي الوطنية؟
                    إذا حققتُ شيئاً من ذلك فهذا ما أردْتُ، ولا أدَّعي الكمالَ، فالكمال ُلله وحدهُ.فهل أنامُطالبُ بأكثر من ذلك؟ أرشدوني إن كنتم تعلمون ‍‍!!
                    لقد اصغيتُ لتساؤلاتِ منصورٍ بقلبٍ مفتوح، وتناولت مجموعته الثانية وهي الآن بين يديَّ، بغُبارها ودخانها ونارها، أقلبها فأجدُ فيها الجديدَ والفريدَ، أقارِنُها بمجموعتهِ الاولى التي فاجأتْنا بغضبها، وثورتها، وتمردِها، ونارِها المشبوبةِ، فأجدُها هذه المرة قدْ نضجتْ على نارٍ هادئةٍ ، على جمر نيران المجموعة الأولى التي خبتْ ألسنةُ الغضبِ فيها. فقد بدأتْ تجربةُ منصورٍ تهدأُ وتتزنُ وتتوازن، ،مُشكلةً تياراً جديداً، فيه من التجربة السابقة طعومها،ومن المجموعة الأولى طريقتها ،وفيها من الجديد قدرة على التعبير أكثرُ ، وامتلاكٌ لأدواتِ الفن أفضل بلغة بسيطة مألوفةٍ ؛وهنا يكمنُ سرُّ سحرها وتأثيرها، لأنَّ اللفظَ المألوف في الأدبِ، هو الذي يدفع مشاعرنا إلى التداعي ، لأنَّه قدْ تلوَّنَ بِلَونِ نفوسنا.
                    علماً أن الكتابة الشعرية بحدِّ ذاتها مغامرة..إنها سفرُ في المجهولِ والغرابة. واللغة الشعرية بوجه خاصٍ بالنسبة للتجربة الشعرية هي بحدِّ ذاتها خيانةُ..لأن التجربة الشعرية بعد انتقالها إلى الورق، هي اصغر بكثير من التجربة الداخلية التي يعيشهاالشاعرُ.. والفرقُ بين القصيدة قبلَ، وبعدَ ، إنتقالها إلى الورقة، هو الفرقُ بين القُبلةِ والشفة، بينَ الطعنةِ والخنجرِ، بين السكرِ والنبيذِ...ونارُ الشِّعرِ لا يمكنُ أنْ تضيعَ، فما يُضيءُ من تجربتهِ يُضيءُ ،وما يبقى بشكلِ رمادٍ، يبقى بشكلِ تراكُماتٍ خلفَ جُدرانِ النفسِ، ينتظرُ فرصةً أخرى ليضيءَ بدروه... وهكذا يتبينُ أنِّ الشعرَ كمادةٍ متفجرةٍ، تبقى مطمورةً تحت الجلد والأعصابِ، حتى يحدثَ شيء ما ، لا ندري ما هيَّتَهُ، ويكونُ التفجيرُ الشعريُّ بعدها، كما التفجير النوويِّ هائلاً ومُرعباً. هذا كلام خطير وعميق ، قد لا يفهمه الكثيرون من المتكئين على وسائد التقوُّل والراحة إلاّ مَنْ أوتيَ من العلم شيئاً كثيراً، لا يدرك معناه إلاّ من اصطلى بنار عملية الخلقِ والإبداع ساعة التلقين المبدع، واشتوى في جحيمها..فكانَ اللهُ في عَوْن هؤلاءِ، وجَنَّبَ أُولئكَ الخطأَ والضلال فـ"
                    لا يَعرِفُ الشوق إلاّ من يكابده
                    ولا الصبابةَ إلاّ منْ يُعانيها"
                    سمعت بضع نقداتٍ في مجموعةِ منصور "أزهار الغضب" على لسان بعض المثقفين أو مدعي الثقافة حسب المنهج الرسمي، فوقفتْ في حلقي قاسية مؤلمة كالشوكة، وحزنتُ أن يُبتَلَى الأدبُ والفن بصورة عامةٍ، والشعر بصورةٍ خاصةٍ بمثلٍ هؤلاء، فهم يُريدونَ الأدبَ والفنَّ والشعر خادماً، ممسحة لأعتابهم. أوْ لا يكون.. وفجيعةُ الشعرِ الأساسية في مُواجهةِ هؤلاء من ذوي الثقافةِ المسبقةِ الصُّنع"هي أنه دخل في نِطاقِ البرمجةِ، ومشاريع- الخطط- السنويةِ،أو السنوات الخمسِ، أو العشرِ، وتخطيطاتِ الحكم الأحاديّ النظرةِ..فأصبحَ يُخَطَّطُ له في الغرفِ الضيقةِ، كما يخطط للمزارع التعاونية، والمؤسساتِ الاستهلاكية، وتعبيدِ الطرقاِت، وبناءِ معامل الحديدِ والصلبِ... تِلْكَ هي كارثةُ الشعر الذي يعيش في حالة إقامةٍ جبريةٍ"في بلاطِ الأميرِ، أوْ اسطبلِ الأمير، ويمنع من ممارسة حركته الطبيعية، وحريتهِ الإنسانيةِ.
                    وأنا لن أُنصِّبَ نفسي، هاهنا ، مُعلماً للنقدِ.
                    ولا وصياً على الآخرين، أو النيابةَ عنهم.
                    ولا حائلاً بينهم وبينَ ما يريدون أنْ يقولوا أو يفْعلوا.
                    ولا مدافعاً عن أزهار الغضبِ عند منصور ، فالبقاء للأفضل.
                    إلاّ أنهُ من حقي مثاقفة الأخرين، والحيلولة دون كلِّ ما هو غير صحيح ونظيفٍ في الأدب ، أو إطلاقاتٍ نقديةِ فضفاضةٍ وغير مسؤولةٍ، من هذا الموقع ،أقولُ: إنَّه" منَ الطبيعي أنْ يكونَ التذوقُ الشخصيّ الغامضُ هو بدايةُ اللقاءِ مع النصِّ، وأنْ يكون الانطباعُ الأولُ، مزيجاً من المتعة الفنية التي ترجعُ دائماً إلى نوع من الشعور بالحرية، تتخللهُ مشاعرُ أخرى من الدهشةِ والحيرةِ والافتتان.
                    هذا التذوق هو المقدمةُ الضرورية للفهم، والتفسير، والتقييم.
                    هذه القراءةُ "الأبداعية"التي تبدأ بالمتعةِ المختلطة بالتردد، والحيرة، والإعجاب، والإنجذاب ، قدْ تبدأ في الوقتِ نفسه في الدخول في علاقةٍ حميميةٍ مع النص الذي نشعر شعوراً أولياً بقيمته الفنية لحظة أنْ نُجرِّبَ ما يمكنُ أن نسميهُ "اللحظة الجمالية"...وهذه اللحظة الجمالية تُطالبُ بدورها القارئ ،او المستمع الحائر، بالمزيد من الاندماج والانصهار في أعماقِ النصِّ، وفي أعماقِ ذاتهِ في آنٍ واحدٍ،. أيْ تُطالبه بما يصفُه أحدُ فلاسفةِ التفسير المعاصرين "جادامر ولد 1900م" بتداخل الآفاقِ، واندماجها، وانصهارها "أفقِ القارىء ،مع أفقِ النص".
                    ومهمة الناقدِ- الذي يبدأ قارئاً، ثم ينتقل إلى اختبار قيمةِ العملِ الأدبي- هي تفسير قراءته للنصِّ ، وترجمتها إلى خبرةٍ لها قيمةُ ، هذا ما يُقرره الدكتور شكري محمد عيّاد ، في دائرة الإبداع ، في مقدمته للكتاب في أصول النقد صفحة 154 طبعة 1986.
                    فقراءة النصِّ، إذنْ، نشاط أو فعل إبداعي. وهي تجربة تتمُّ في الزمان. أيْ هي علاقةُ بين القارئ والنصِّ، ولذلك ينفتح على إمكاناتٍ معنويةٍ ووجوديةٍ غير محدودةٍ..ولا أجدُ الآنً ضرورة للدخول في تفصيلاتٍ مرهقةٍ عما تسميه بعضُ مدارسٍ النقد الحديثة، أو نقدِ النقدِ- وبخاصةٍ مدارسُ التفكيكيينَ من مثل" دريدا ، وبارت"- تداخلَ النصِّ، وسياقاتِهِ التي لا تنتهي.. ولا ضرورةَ كذلكَ للتعرض لمشكلاتِ قراءة النص عند التقليديين او المجددين "من شرحٍ يُرادُ به الفهمُ الحرفيُّ للنصِّ، ومعرفةُ معاني كلماتهِ وجملهِ، وارتباطُ بعضها ببعض، وتفسير يقصدُ منهُ معرفة دلالة النصِّ، جملة ،واجزاءً، على أمورٍ اخرى خارجة عنه، كالحالة الاجتماعية، أوالسياسية، أو الحالة النفسية للقائل".
                    "وفي كلِّ تجربة اتصال أو تواصلٍ مغامرةُ... وفي كل مغامرة فشل أونجاحُ ،وبقدرِ ما يكون الناقد متوهج الفكر متقد الذكاء ،يقللُ من احتمالات الفشلِ ويزيدُ في فرصِ النجاح".
                    ونحن اليومَ في مواجهةٍ مع تجربة منصور الجديدة ، وقد قلتُ كلمتي فيها، بكلِّ حِيطةٍ وحذرٍ، منتقياً من صيغ الدَّلالةِ مالا يحتملُ التأويلَ، أوسوء الفهم، وسأتركُ البابَ مفتوحاً على مصراعيه، لأقوالِ الآخرين ونقداتهم، كل حسب إمكاناته الفكرية والمعارفية، فهذا حق للجميع. وقد بينتُ طريقة قراءة النصِّ، وبالتالي مُهمةَ النقد حيالهُ.
                    فإليكم، سِفْر منصور "خُذُوه فَغُلُّوهُ ثم الحجيمَ صلّوهُ".
                    أو اقرؤوه ، وأفهموه، ثم انقدوه.
                    اللهمَّ "... إني دعوْتُ قومي ليلاً ونهاراً ، فلمْ يزدْهمْ دُعائي إلا فراراً. وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم، جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهمُ، وأصروا ، واستكبروا استكبارا." ولكنني لن أدعو عليهم كما دعا سيدنا نوح عليه السلام على قومه: "..رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" بل سأقول كما قال النبي العربي الأمين عليه الصلاة وصحبه أجمعين حينما خرج من الطائفِ وهو مهيضُ الجناح دامي الكعبين... قال" " رب اغفر لقومي فهم لا يعلمون".
                    اللهم سدد على درب الحق خُطانا، ولا تجعلنا من الخطائين الذين تأخذهم العزةُ بالإثم، فبك نعتز . وبك نستعين. وأتمم علينا نعمتك. والحمد لله رب العالمين.
                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: في رحاب الفكر والأدب

                      ملك الغابات
                      ملك الغابات .... والزوابع.‏
                      يتشهى تاجهُ‏
                      كالريح يجيءُ،‏
                      مثقلاً بضباب المفازات والقبل.‏
                      ووداعاً محرقاً‏
                      عابراً كتيهِ الغروبِ‏
                      نافذةً للرؤى..والبنفسج.‏
                      مفعماً بالرخام المعتقِ،‏
                      قصيدةً،‏
                      مداراتها نصولاً،‏
                      أثخنتها الكلماتُ الجريحةُ.‏
                      غزا نُسغَها طحلب هلامي،‏
                      ليزُفَّ للخليفة أحوال‏
                      بُحيراتِ الحزن.‏
                      وكيف تُسكبُ الأحلامُ؟!‏
                      في جُمَم الرِّيحان..‏
                      ***‏
                      كالطوفان ...تجتاحكَ أصداء العصور‏
                      كي لا تصير جراحُك،‏
                      مواكبَ بجع.‏
                      وفضاءاتُكُ مقاصل،‏
                      تغتسلُ براياتِ دَمِكَ.‏
                      رِفْقاً!! أيا ملك الغابات والزوابع!‏
                      لمَ كنت جمرَ السؤال المفزع؟‏
                      يومَ أنزلوكَ الجبَّ‏
                      أو السجنَ‏
                      أو القبرَ...سيانْ.‏
                      فقد طوقَتْ عيناكَ،‏
                      أعناقَ مُستقبلكَ الدامي.‏
                      وغابت عن أعين الحراس‏
                      خُطى أماسيكَ الواعدة.‏
                      وعبثاً حاولوا؛‏
                      إسقاط ميلادك.‏
                      من دفاتر الأحلام...‏
                      ***‏
                      رسائلكَ منافٍ.‏
                      أناتُكَ ظلال.‏
                      وارفُ لونُ دمِكَ.‏
                      تجترّكَ السياط.‏
                      وتمضغكَ الآلام.‏
                      والسرادق يتسعُ‏
                      وتتراكم في الرُّدهِ،‏
                      -المنسوجة من أنين-‏
                      بقاياكَ ...وبقايا قوس قزح‏
                      ***‏
                      نيلجية كالصباح المسافر‏
                      تأتينا أغانيكَ‏
                      وأنَّاتُكَ‏
                      مملوءةً بالجراح العاريه.‏
                      فتشعل فينا اليراعَ والمواسمَ‏
                      حصاداً راعفاً لخطاك‏
                      تاجاً متأحِّجاً لجوجاً‏
                      لملكِ الغابات والزوابع‏
                      يومها...تلبسَّكَ الأرجوانُ‏
                      وكنتَ وحدَكَ وحشياً‏
                      تحتضنُ نعشكَ والسؤالَ‏
                      عن معنى الحقيقة والغبار.‏
                      ***‏
                      يالذي أقدارُه..أقدارْ‏
                      ذاكرتي مدىً لانكساراتكَ‏
                      رداءً عاوياًلأقدارَكَ‏
                      جناحاها متاهة‏
                      تتقرَّى رؤاكَ.‏
                      فاتحةً للسماء والسنابلِ‏
                      تراودُكَ عارياً‏
                      كالشمس والتراب.‏
                      متوجاً كالريح تجيء‏
                      مثقلاً:‏
                      بضباب المفازات والقُبل‏
                      والسؤال عن معنى؛‏
                      الحقيقه والغبار‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: في رحاب الفكر والأدب

                        الشاعر سليم عياش
                        فضاءت "ملكِ الغابات " همس حول القصيدة‏
                        نحنُ أمام نص أدبي متميزٍ ،عميق الغور، يتغلغل إلى عمق أعماق النفس الإنسانية في انسحاقها تحت كُعوبِ المهمازية السلطوية الغاشمةِ، ليكشفَ لنا عما يتلاطم فيها من صراعاتٍ نفسيةٍ لقلق مُسافرٍ يُريدُ أن يتمردَ حتى على السماء، ذلك كلهُ من خلالِ حُلمٍ بشريٍ، يطمحُ لاختراقِ حُجبِ الغيبِ، علهُ يوصلُهُ إلى مَحجّتَهِ التي لا وصول إليها.‏
                        والشاعر سليمُ عياشٍ. في حُلمهِ هذا - أو لنقل في حُلمِ القصيدة المحددةِ بين أيدينا- جنازةٌ لقلقِ الإنسان الذي اغتالته الحيرةُ، وافترسته الكُعوبُ الحديديةُ على بَوّاباتِ القلق الذي يُدَمِّرُ كلَّ مُرتكزاتِ العقل الباطن، في فيضٍ من اندفاعاتِ الفكرِ الإنسانيِّ المُتسامي على شكل فقاعات غير هوائية، هذا إذا أبقتِ الحياةُ الآبقةُ شيئاً منَ العقلِ المتأينِ في الأعماقِ القصيةِ منهُ- يظل مستيقظاً.‏
                        وينحو النصُّ "ملكُ الغابات" الذي نُعالجهُ منحىً رمزياً، بل رُبما مُغرقاً في رمزيته، بسبب افتقار أبجديتنا المادية المنشأ إلى أبجدية تتحدثُ عن العمليات النفسية الموغلة في ما يمكنُ أن نسميهُ حافة الحُلمِ، أو حُلْمَ الهاوية الفاغر الشدقينِ لالتهام كل ما يمكن أنْ يُسافِرَ في تراكماتِ الذَّات الإنسانيةِ الواعيهِ من جزازاتِ اللاوعي المتكاثفِ في دُروب مقاماتِ الوصول إلى أشواقِ اللاوصول لحقيقةِ هذا الكون المُلْغِزِ.‏
                        لمْ يجدْ سليمُ سُلَّماً يَرْقَى عَلَيه ، أو بهِ ، إلى شُرفاتِ جحيمه أوْ "نرفانته" الَّلتين لا يريد أن يرقي إليهما إلا ليبدأ مسرحية القلقِ منْ فصلها الأوَّل ، لحظة انطفاءِ الكواكبِ الغاربة قُبيلَ رفع الستارةِ عن بدءِ الفصلِ الأوَّل من لعبةِ القلق في الحياة، أوْ لِنقلْ عبثيةِ الحياة، وإشكالاتها . وهل يجدُ سليم كهذا السلم غيرَ الحُلْمِ مطيةً يَرقي بها أوْ عليها، أوْ أنْ ينْزَلِقَ فيه؟! يقول:‏
                        مَلِكُ الغابات...وَالزَّوابِعِ‏
                        يتشهَّى تاجَهُ.‏
                        كالريح يجيءُ‏
                        مُثقلاً بضباب المفازات والقُبَلِ.‏
                        وَوداعاً مُحْرِقاً ،‏
                        عابراً.,.. كتيهِ الغروبِ،‏
                        نافذةً للّرُؤى...والبنفسج.‏
                        مُفعماً بالرُّخام المعَتَّق،‏
                        قصيدةً:‏
                        مَداراتُها، نُصولاً،‏
                        أَثْخَنَتها الكلماتُ الجريحة.‏
                        غزا نُسْغها طحلبُ هُلامي‏
                        ليَزُفّ للخليفة أحوال‏
                        بُحيراتِ الحزن.‏
                        وكيف تُّسكبُ الأحلامُ‏
                        في جُمم الريحان..‏

                        أبداً ..أبداً الحلمُ هو الزورقُ والشراعُ اللذان سينقُلانه من بؤرة القلق وحُمياها، إلىواحة مُثقلةٍ بأوجاع السؤالاتِ التي تتوالدُ بعضها من بعض ، دون أن تُفكرَ في دفاترِ الإجابات عن جواب.‏
                        فملك الغابات الذي تاه في فجاج آفاق انعدام الرؤية والزوابع ، ينزف شهوةً ، ويتقطرُ رغبة أن يبلغ مُرتقاهُ حاملاً على كتفيه كل أعباء القبل والمفازاتِ المغلفةِ بضباب الرياح السافية لآمال الخلائق التواقة للخلاص...أوْ أنْ يُودِّعَ قلقهُ وحيرتهُ على شرفاتِ غروبٍ مُشتعِلِ الأطرافِ الموغِلَةِ في التيهِ...لتنفتح للرؤى البنفسجية احتمالات في أقصى إمكانات غايات الوصول، إذ الوصول مستحيل، لانغلاقه بنوافد معتقةٍ بالرخام المتداعي تحت مطارقِ قصيدةٍ تفتح جراحات النفس المعذبة، التي تتجاوزُ حدود الطعنة النجلاءِ في رَحمِ الكلماتِ الجريحة، التي تنهالُ على نُسْغ الحروف ارتشافاً لأهوال المآسي، وتُمزِّقُ غلالةَ التوقِ لبلوغ الحُلمِ المُشتهَّى طحلباً مُضمخاً بغُبار بحيراتِ الحُزنِ الذي أغرق الخلائق بطوفانه العقيم الكانع في موانئ القلق، ينتظرُ كالآخرين، على رصيف الأمل، بُشرى الخلاصِ في عبقِ الريحان الحلم:‏
                        كالطوفان...تجتاحكَ اصداءُ العُصورْ‏
                        كيْ لا تصيرَ جَراحُكَ،‏
                        مَواكبَ بجع.‏
                        وفضاءاتك مقاصلَ،‏
                        تغتسلُ براياتِ دَمِكَ...‏
                        رفقاً...أيا ملكَ الغابات والزَّوابع!‏
                        لمَ كُنْتَ جمر السُّؤالِ المفزع؟‏
                        يُوْمَ أنْزلُوك الجُبَّ‏
                        أو السجنَ‏
                        أو القبرَ...سيانَ.‏
                        فقدْ طوَّقتْ عيناكَ‏
                        أعناقَ مستقبلك الدامي.‏
                        وغابتْ عن أعينِ الحراسِ‏
                        خُطى أماسيكَ الواعدهْ،‏
                        وعبثاً حاوَلوا؛‏
                        إسقاط ميلادك...‏
                        من دفاتر الأحلامْ...‏
                        ولكي يبقى سليم ممسكاً بخيوط اللعبة- بعد أن أُسْدلَ الستارُ على نهاية الفصل الأول من حُلْمه النازفِ شُقْرةً في بلقع العلقِ- يمتطي صهوةَ الرؤى مخاطباً الحلمَ الواعدَ نفسه ، الذي همى عليه أشتات أحلام اندلقت كالطوفان لا تُبقي ولا نذرُ؛ ويُبشرهُ بنهاية الفصل الأول الذي انتهى منْ حُلْم قصيدته؛ عن الهزيمة الساحقةِ التي مُنِيتْ بها أسرابُ الجراد الغازية للتجسس والرِّيبة ، عبر نوافد الرخام البارد للرؤى البنفسجية في مدارات قصيدةٍ أثخنتها الكلمات المطعونة بنصال الطحلب الهُلامي الذي تسرب من خلال شرايينها حاملاً رسالة الدمار النهائي الطافي على سطوح بُحيرات الحزن في نفوس الحزانى، إلى جلالةِ العُهْرِ السُّلْطاني، عن سرقةِ أحلامهْ الوردية، وتحطيم مُقوِّماتِ حُلمها حتى في الأحلام ذاتها، المطلة على أشباح قصيدته الحالمة في حُلمه.‏
                        وها هو ذا في مطلع الفصل الثاني منْ مأساته يحذره من اجتياحهِ بطوفانِ أصداءِ أعمارٍ، يظْنُّ أنها ما زالتْ باقيةً، قبل نفاذ الزمن الغافي على ضفاف الجراحات، أوْ أهدابِ الرؤى ، مواكب للفَرح الراقصِ في مُؤقِ حُلْمه الذي رُبما استحالت أهدابه إلى مقاصل تغتالُ نسمة الفرح، وتغتسل في بحر دمه المسفوح بمهرجانٍ جنائري ، تخفقُ في فضاءاته راياتُ التشفي والانسحاق معاً.‏
                        فرفقاً...ايها النزيفُ المتدفقُ من شُرفاتِ مأساة ملكِ الغابات والزوابع...‏
                        رفقاً بنفسك أيها الحلم الحالم المزروع في رحم العذابِ ، في خاصرة السؤال المقلقِ المفزع في ذاكرة الأيام..‏
                        لا تُلقِ أسرابَ أمانيكَ ، بقاياكَ في أَتون القلق المتأجج بنارِ الحيرة في السؤال. وتمرّد على السِّجن ، على القبرِ . وسطرْ ملحمةَ البقاء ، محلمة انتصار الذات على الذات. ولا تقبل بأقلَّ من انتصار سيزيفَ على آلهة الأولمبْ.‏
                        ولتبقَ عالياً مُحلقاً في آفاق آمال الحلم المطرزة بخضاب المستقبل الدامي في غابة الجواسيس وأعُينِ النواميس...وخُضْ لُجَّةَ الانتصار ِ الواعدةَ بانتصاراتِ آتيةٍ ، رغم المحاولات العقيمة لمحوكَ وطمسِ معالمك....‏
                        ولكن ، لن يستطيع الزمان إيقافها، ولا فرسانه من اقتحامها، لأنَّ عينيْكَ الباصرتين اخترقتا أسداف مستقبلِ أيامكَ القادماتِ ، وطوقتا خصر الزمن المتداعي كما صاغوهُ ، وأرادوه ...وعبثاً حاولوا ويحاولون ، لأن زمنك عزمكَ تأبيا على الزوال، تحت مطارقِ مُطارداتهم المتوالية، وغاراتهم المتعاقبة على تخوم ميلاد عقائدكَ، قصائدكَ الممطرةِ على دفاتر الحلمِ في سفر النضال.‏
                        رسائلكَ منافٍ.‏
                        أنَّاتك ظلالٌ‏
                        وارفُ لونُ دَمِكَ.‏
                        تجتركَ السياطُ.‏
                        وتمضغكَ الآلامُ.‏
                        والسُّرادِقُ يتسعُ،‏
                        وتتراكمُ في الرُّدهِ،‏
                        -المنسوجةِ مِنْ أنين-‏
                        بقاياكَ‏
                        وبقايا قوس قُزَحْ...‏
                        فيا أيها المسيح المهاجر !! الذي صلبَ جلاديه على جُدرانِ الزمن، وظلتْ رسائلهُ منافي واغتراب رُؤى في ضمير الأدعياء المنافقين، الذين يُتاجرون برسالاتك، ويرقُصون كالقرود على إيقاعات أنّاتِكَ... ويستحمون في برك دمائك التي أنارتْ بوهجها ،للمخلصينَ، دروبَ الحياةِ، وعلمتهم كيف ينتصرُ الجَسدُ على السوطِ . وكيف يتعمدُ الجرحُ نبياً على مسامير الصليب. وكيف تنفتح ضفافُ الجراحات في نهر الآلام المتطاولة على قهر مواقيتِ البشرومفكرةِ الزمان، سُرادقَ يتسع لكلِّ المعذبين في الأرض، الذين استطاعوا أنْ يقهروا السياطَ، وينتصروا على كلِّ الجلادين، على الموتِ، ويكتبوا على خشب توابيتهم سيرة الحياة الباقية ، قصة الحياة التي لا تفنى ،بل وتتحدى الفناءْ...‏
                        فيا ملكَ الغابات والزوابع ‍‍!! ويا أيها الحلمُ المُتمردُ على اليقظة في رُدُهاتِ مجدكَ المنسوجة من خيوط الضياء في شمسكَ المتشظية على أطيافِ ألوان قوسِ قُزَحٍ؛ عُدْ...يقول:‏
                        نيلجية...كالصباح المسافر‏
                        تأتينا أغانيك‏
                        وأَنَّاتُكَ‏
                        مملوءةً بالجراح العارية..‏
                        فتشعل فينا اليراع والمواسم‏
                        حصاداً راعفاً لخطاكَ،‏
                        تاجاً متأججاً لجوجاً،‏
                        لملكِ الغابات والزوابع...‏
                        يومها:‏
                        تَلَبَّسكَ الأرجوانُ.‏
                        وكنتَ وحدكَ وحشياً‏
                        تحتضنُ نعشكَ..‏
                        والسؤالَ‏
                        عنْ معنى الحقيقة والغبارِ...‏
                        في دغشة الصباح القادم. من سفر متهارب مع ضباب الأضواءِ المنطفئة على شواطئ الحلم: تأتينا أغانيكَ المعطرةُ بنزف الجراحات المتمردة على الطين والصلصال عاريةً، تلعقُ دم السامريِ الجديد، المصلوب على ظهرهِ، فوق خشبات صليبهِ المتهاوي تحت قدميه ليمنحنا الحياة والأمل رغمَ مجاهل حقولِ الخوف والتخويف، حصاداً راعفاً عبر مسيرة الأيام القاسية تحت ضغوط الأعقاب الحديدية ، مُكللاً بتاجٍ تتأجج فيه رؤىَ لجوجة تنشدُ بزهوٍ أغاني الرُّعاةِ في حُلمكَ الأمَميِّ يا ملكَ الغابات والزوابع.‏
                        يومها فقط ؛ انتصر الحلمُ على اليقظة ، والجرحُ على حد السكين، تماماً كما انتصر القبرُ على حافره، والميتُ على موتهِ ، والكفنُ على صانعه، والقيدُ على واضعهِ...فكان الحلمُ حقيقةً ، وكان النصر وحشاً يجتاحُ صحراء السؤالِ تلوَ السؤالِ، ويُبَدد عتمة الوحدة القاتلة التي تحتضنُ معنى الحقيقة، أو جوهر الحقيقة، المجللة بسربال الغبار المستثار على نعشِ السُّؤال ، حيث الحقيقةُ الوحيدةُ القائمةُ فقط ، في فحوى السُّؤالْ ...يقول :‏
                        يالذي أقدارُهُ ..أقدارْ!!‏
                        ذاكرتي‏
                        مدى لانكساراتك‏
                        رداءً عاوياً لأقْداركَ.‏
                        جناحاها متاهةُ‏
                        تتقرى رُؤاكَ،‏
                        فاتحةً للمساء والسنابلِ‏
                        ..تُراوِدُكَ عارياً،‏
                        كالشمس والترابِ‏
                        متوجاً.... كالريح تجيءُ.‏
                        مُثقَلاً:‏
                        بضباب المفازات والقُبَلِ‏
                        والسؤال ، عن معنى؛‏
                        الحقيقة والغبار...‏
                        في هذه المقطع الأخير من مأساة ملك الغابات والزوابع ، أو لنقلْ في المشهد الأخير من تراجيديا ملكِ الغابات والزوابع، وقبل إسدالِ الستارة على ملحمة ِ الحلم الذي يتشهى أنْ يتوجَ ملكاً للنواميس على مدارج الأقدارِ، دروب النضالْ؛ ناقوساً يتشظى في فضاءات الوجودْ، قدراً يتكسر على شطآن الذاكرة المثقلة بصدى تشظيه وانكساراته العارية توقاً يفضحُ خيمة الجورِ والعسفِ تحت خيمة الأقدار الهمجية، التي تتهجى أبجدية الرؤى التائهة في انفتاح أجفان السنابل الغضة على زرقة السماء، وغربة التراب الصاعد في نسغ العطاءِ والحياة، حيث يراودُ رغبة الترابِ والشمس في الإنجاب والخلفة لمدارج الأجيال، بوضوح وبراءةٍ وجلالْ.‏
                        فبالرفاِه والبنين يا نيلج الحلم المتنامي في ضمير ملكِ الغاباتِ والزوابع.‏
                        هَلُمَّ... هَلُمَّ... أقْبلْ كالريح كالإعصار ، أيها الملكُ المتوَّجُ بالعذاب... ومزِّقْ حُجُبَ القُبَلِ المَزْروعةِ في ضبابِ المفازات حيث ينتصبُ السُّؤالُ حقيقةً واحدةً لا قبلها ولا بعدها من مجد السؤال، لتجدِّدَ فحوى السُّؤالِ، معنى الحياة، سر الحقيقة والغُبار...‏
                        إنَّنا نقفُ مبهورين عند خواتيم قصيدة سليم عياش، لاهِثين تعباً، وتوقاً لمعرفةِ أسرار لُعْبتهِ الشعرية التي عبثت بوعينا وإدراكاتنا على امتداد معانيها المتساوقة بنفس عالي النبرة، وجرسٍ لا يتوقفُ عن الجلجلة الحزينة في صدورنا ...."لأنَّ الشعرَ عندَ - سليم - الشاعرالواعي، قيمة معرفية تتزودُ بالوعي التاريخي لأشكالِ القصيدة. فتمارسها لكونها مفهوماً تغييرياً، وشحنة من الخيال تتمازج، مع الوعي، وقد تخرج عليه ، لكنها تظلُّ منضبطةً بشكلها، دُونما فوضى ، وبعثرةٍ ،لحلمهِ ، وتفتيتٍ لمعرفتهِ.‏
                        فإينَ نجدُ هذا الانضباط؟‏
                        وكيف يتوازنُ دقيقاً مع جموح المُخيلة؟"‏
                        سؤالان نطرحُهُما، ولا بُدَّ من إجابةٍ عنهما.‏
                        "والجوابُ يكمنُ في موسيقى اللغةِ، الراسمة صُوراً، هيئاتٍ . مشاهد صاخبة حيناً، وخافتةَ حيناً آخرَ.‏
                        تصخب إذْ تلهبها التفعيلة ، فتعلو وتعلو ، كذارع قائد الأوركسترا المتوتر. المؤشر بعصاهُ ..ثم ما يلبثُ أن يهدأ ، لتنسابَ الموسقى هادئةً ، نابعة من روحه، ومن أرواح فرقة العزفِ ، الناسين آلاتهمْ العازفةِ...لتعزفَ أوراحُهمُ موسيقى صُورٍ يتخيلونها.‏
                        لقد صارتْ آلاتهم في دواخلهمْ ، وصاروا همُ الموسيقى جسداً وآلاتٍ.‏
                        وتحولت عصا القائد الأورْكِسْترالي موجاتٍ أثيريةٍ ، مثل طيفٍ، يرققُ الحياة، يُغْني الكونَ"...هكذا استطاعَ سليمُ أنْ يعزفَ ألحانهُ لترتسمَ في أخيلتنا وترتفع بها في ضبابٍ سديميٍ ، وإنْ لم يحجبِ الرؤية، لكنه جعلها صعبةً في كثير من الأحيان.‏
                        ومجموعة قصائده التي بين يدي:‏
                        -رمادُ الهذيانِ.‏
                        -طقوسُ متزمتةُ.‏
                        -النقيضُ.‏
                        - الشريدُ.‏
                        كلها تغْرِفُ مِنْ بئرٍ واحدةٍ...ونُصنِّفُها كَــ "شعرِ مُلاقحةٍ لا ملاحقةْ؛ وَزْنُ، ونثرْ ...صخبُ ذُروةٍ ،وسكون قاع...تقاربُ وتباعدُ....من حُزنٍ شفيفٍ ، إلى فرح عارم...منْ غضبٍ عاصفٍ إلى يأسٍ وإحباطٍ ...تتجسدُ الألفاظ المختارة أفعالاً تُحركنا، ننفعل معها" وتفعلُ فينا بقدر ما هو مرسومُ لها أنْ تفعلَ.‏
                        وأخيراً ، وليس آخراً، إذا كان لا بد لي من تعقيبٍ على هذا النص وغيره من النصوص المشار إليها للشاعر سليم عياش، فإني أشير إلى أنه "إذا كان على الفن خلقُ المجازات، وبث الرموز، فعلى عاتق النقد يقعُ عبءُ فكِّ الشفرات، وحل الرموزِ، وقراءة ما بين السطور.‏
                        على أنه في ظروف الحظر الثقافي، تختلُّ مهمة النقد أيما اختلال،‏
                        إذْ إنه إذا كان الكاتبُ الإبداعي يلجا إلى الرمز ضارباً بذلك عُصفوري:‏
                        -الإجادة الفنيةِ.‏
                        والسلامة الشخصيةِ...بحجر واحد.‏
                        - فإنه يترك رفيقه الناقدَ في وضع جدَّ سيءٍ..‏
                        إذْ يتعينُ عليهِ- أي الناقدِ- أنْ يفُكَّ الرموز مُفصحاً عن المحظور:‏
                        أ-وهو إنْ فعل ذلك في سياق الإعجاب والإطراءِ، عُدَّ مُتواطئاً مع الكاتبِ في الفكر المحظورِ، وجرَّ على نفسه، وعلى الكاتب أو الشاعر الذي كشف أسرارهُ متاعب جمةً.‏
                        ب - وإنْ فعلهُ في سياقِ محايدٍ ، فقدْ يؤخذْ بعدُ بالشبهات.‏
                        جـ- وإنْ فعلهُ في سياق التنديد، فهو غانمُ لسلامته لدى الحاظرين)،ولكنه عميلُ خائنُ للقضيةِ ، بائع للضمير لدى المثابرين في الكفاح من أجل حُريةِ القول،‏
                        أَكُل السُّبُل خاسره إذن؟‏
                        ليس تماماً!!‏
                        فثمةَ سبيلان آخران بعدُ ، لدى الناقدِ المحاصر:‏
                        أ‌. سبيل الصمتِ...بمعنى ألا يكتبَ الناقدُ عن الأعمال الملغومة بالمحظور.‏
                        أوْ أنْ يكتب عنها شاقاً لنفسه مسالك آمنة حول الألغامِ، فيتناولُ كلًّ شيءٍ في العمل الفنيِّ، خلا ما كان منه مورداً للمهالك.‏
                        ب‌. أما السبيل الثاني..فيتمثل في التخلي عن المهمة التقليدية للنقد، والتي هي كما قلنا: الإفصاحُ عن المستور وتسميةُ الأشياء بأسمائها، واللجوء إلى صيغةٍ مخففةٍ من أساليب الفن، باستخدام تسميات التعمية وبدائل الواقع ، إلى جانب الاكتفاء بالتحويم حول الموضوع، ومسهِ مساً رفيقاً يتحاشى لفت الأنظار، وتفجير الألغام.‏
                        وبعد؛...ترى أي سبُلِ الحيطة والاتقاءِ اتخذتُ في نقدي للنصِّ؟‏
                        ليس منْ شأني الإجابةُ عن هذا السؤال!!‏
                        لكنني لا أعصمُ نفسي ،ولا أعصمُ غيري ممن يقدِّسون حرية الفكر، وحرية القول، ويحاولون الخوض في حقولِ الألغام ، من شبهة الاحتياط، وفرضِ الرقابة على الذات طوراُ عن وعي ، وطوراً عن غير وعيٍ.‏
                        وهل يلامُ في عصر الظلام، منْ يمشي متحسساً الجدران؟!".‏
                        اكتب يا سليم ، فما زال في العمر متسع للاحتمال!!‏
                        الشعر النبطي في حوران‏
                        الشعر النبطي - نبط الماء نبعَ، ونبطَ البئرَ إذا حفرها وابتدعها ، والاستنباط الاستخراج(1) - او الشعر العامي، أو البّداوي نسبة إلى البدواة، كما يحلو لبعضهم أن يُسميه، كلُّها أسماء لمسمى واحدٍ . إذْ لا يوجد أحدُ منَّا لا يعرفهُ في الريف والقُرى والبوادي والصحاري على امتداد الوطن العربي في آسيا، من جبال طوروس والأناضول شمالاً ، إلى اليمن وعمان جنوباً، ومن ساحل البحر الأبيض والبحر الأحمر غرباً إلى شرقي الخليج العربي وجبال زاغروس وكردستان شرقاً.‏
                        هذا اللونُ من الشعر موجود كحقيقةٍ واقعة ، شِئنا أم أبيْنا، بلهجتهِ ولغته وبحوره ومقاصده ومعانيه وأغراضه، يعرفنا ونعرفه إلى الحد الذي يهدمُ حدودَ الكلفة ما بيننا.؟‏
                        نُنشدُه في جلساتنا وحركاتنا، ونُغنيهِ على إيقاع الربابة في مجالسنا وسهراتنا . نحمله شيئاً من همومنا ومقاصدنا وحاجاتنا، ونضمِّنُه فروسيتنا وصَبانا، مفاخرنا وأمجادنا، عِشقنا وهوانا، وكلَّ ما يُثقلُ أعماقنا من آمال ورغاب.‏
                        ظلَّ هذا اللونُ من الشعرِ ، على كثرته وغزارتهِ، على حاله دونَ أن تمسه يد العناية كغيره من الأشكال الأدبيةالأخرى. منذ أقدم العصور الجاهلية حتى اليوم. إلاّ ما جاء عفو الخاطر. ظلَّ مستوحشاً جافياً على نفوس بعض الناس محافظاً على بداوته من حيثُ اللغةُ والصورُ والأوصافُ ،وهذا ما حدا بعضهم على تسميته بالشعر البدَّاوي.‏
                        ولا نستطيع ُ أنْ نُنكر شيئاً بسيطاً من التطور الذي لحق بهذا الشعر نتيجةَ تحضُّرِ بعضِ شُعرائه، وسُكناهم في الحواضر، فأسلس قيادَهِ، ورقت حواشيه، واستؤنستْ لغتُه، واخضرَّتْ صوره، وابتلتْ جوانحه ، فأخذ من ريح الحضارة روحاً ساعدته على الاستمرار، ومواكبة الحياة الاجتماعية.‏
                        هذه الأسباب وغيرها دعتنا للتنادي لعقد ندوةٍ تجمعُ بعض المهتميِّن بالأدب عامةً وبالشعر خاصةً، وبهذا اللونِ على وجهِ الخصوص ،للبحث عن أسباب للنهوض بهذا الشعر ، وتنهيجه، واستئناسهِ ليحمل همومَ العصر ومُشكلاتهِ، ويحظى بالاهتمام كغيره من الأشكال الأدبية الأخرى. وقد قيض الله لهذه الندوة أن تنعقد في مطلع آذار عام 1995م في منزول الشاعرالرقيق محمود الزعبي في اليادودة غربي درعا، ضمت كلاًّ من الأدباء والشعراء: محمود مفلح الزعبي، وعازر غنيم بشارة، ويوسف عويد الصياصنة، وعبد الكريم الحمصي، ومحمد إبراهيم عياش، وأحمد قداح، وهاجم عيازره، وعبد الإله مفعلاني، ومنصور الزعبي، وعبد السلام محاميد ، وآخرين برعاية راعي الندوة علي المصري الذي قدم في هذه الندوة ورقة عمل تم بحثها نقطة نقطة، واتخذت توصيات للنهوض بهذا الفن من فنون القول ، أرسلتْ بعد التداول إلى رئاسة اتحاد الكتاب العرب بدمشق ، نرجو أن ننشرها في الجزء الثاني من هذا الكتاب، إذا قدر لنا أن ننجز إصدار الجزء الثاني.‏
                        ولا نزعم لأنفسنا الريادة في هذا الموضوع، فقد سبقتْنا محاولاتُ باءت للأسف بالإخفاق والخذلان، لأنَّ القائمين عليها ليسوا من أهل الأدب المختصين، فجمعوا أكثر الشعر في حوران من هذا اللون في ديوانين، وبدلاً من توثيقهما لأصحابهما ونشرهما، قاموا ببيعهما لمشايخ الخليج بعد أن نحلوها لأنفسهم وقبضوا ثمنها بخساً لا يُسمن ولا يُغني من جوع، نقولُ ذلك للانتباه إلى مثل هؤلاء العواسج على الأدب والأدباء الذين باعوا ويبيعون هذه الأمة وتراثها في أسواق النخاسة وبأبخس الأثمان. فهناك وبحدود علمي محاولات شبيهة بتلك المحاولة البغيضة، وإنْ كانت بأساليب مغايرة ، تجري فصولُ مهزلتها على الساحة هذه الأيام.‏
                        طرائقه، وأساليبه معروفة وتكاد تكون مُقننةً..‏
                        1) يبدأ هذا الفن من فنون الشعر بالتحية والسلام على الحاضرين، لأنه ما قيل ليُدون ويكتب ، بل ليقال ويُنشد . ثم يتجه الخطابُ للرفيق أو الصديق أو النديم الذي قلما تخلو قصيدة منه. وقد يكون هذا النديمُ المخاطبُ إنساناً، أو حيواناً، أو جماداً على أساليب التشخيص ، للبث والنجوى،وليُسري بهذا عن نفسه وما يعتلجُ في خاطره، فيشكو إليه النصبَ والهجر والنوى، وما يشغلُ باله ويعني قلبهُ من حبِّ ، وما يعتملُ في نفسه من أشجان ، وما يدور في فكره من أحلام. وربما يكون ذلك جسراً ينتقلُ عليه إلى الحكمة وغيرها.‏
                        2) ثم يقتحم باب الحكمة والموعظةِ ، فيُلخِّصُ الشاعرُ لنا تجربته الحياتية، ويرسم لنا صورة عن عالمه الداخلي، وما يمورُ به خياله الخصبُ من صور وتلاوين لمجريات الحياة. وما يحملهُ من تصورٍ لقيم يؤمنُ بها ويتبنَّاها، ويتمنى أنْ تظل ثابتةً في المجتمع حوله، ماثلةً للعيان، تتعاورُها الأجيال.‏
                        3) ثم يُعرِّجُ الشاعر على موضوعه الأصلي من القصيدة - بعد أن يكون مهَّدلة ببيتٍ أو بيتين من الشعر ينتقل عليهما- كالمديح والفخر والرثاء والهجاء والغزل وغيرها من الفنون والأغراضِ التي تُشكلُ هاجس الشاعر ..وكثيراً ما يُطيلُ الحديث في هذا الموضوع، فيُقلِّبُه الشاعرُ يميناً وشمالاً، ويُفتِّقُ أبوابَ القول حوله ، حتى يوضحهُ ويجلوَ معانيهِ، ويزيل اللُّبسَ عنه، هذا إذا كان الموضوع مُناسباً والريحُ مُواتيةً... وقدْ يقتصرُ القول ويختصر الكلامَ أحياناً، ويُعمِّي طريقة العرضِ ويورّي، ويُكنِّي، ويغمزُ، ويهمزُ إذا كان العرضُ أو الموضوع يتناول عيباً أو مثلباً أو خصلةً غير مستحبة لا يُريدُ الشاعرُ أن يفتضحها ويفضَّ استارها، إذْ يربأ الشاعرُ بنفسه أن ينطقَ بها أو أن يصر‍ِّح بها، كيلا يُسجِّلَ على نفسه مَيْناً أو شيئاً لا يريدُه ويترفعُ عنه.‏
                        وقد حفظ لنا هذا الباب من القول صوراً خالدةً من تاريخ أهله وغزواتهم وحروبهم، كما حفظ لنا صوراً من خفق أفئدتهم، وذوب قلوبهم التي "أبتعثها فيهم الحبُّ ، وما يؤدِّي إليه من وصلٍ أو هجرٍ ، ومن سعادةٍ أو شقاءٍ، ومن لذةٍ او غصة". وكأن الشاعرَ سِجل لحياة قبيلتهِ، ومجمعُ لمآثرها، ولسانُ حالها الذي يُعبرُ باسمها، ويذب عنها، وينشر محامدها وفضائلها وقيمها وممادحها على الناس، ويجلو أيامها ومواقعها وانتصاراتها على الملأ.‏
                        4)وربما سلى الشاعر نفسه عن همومه بعد ذلك - إذا ارتاب بعدم تحققِ مسعاه- بجسرةٍ ذمولٍ تقطعُ الفيافي وتختصرُ البوادي ، يُطربُه وقع مناسمها على رمال الكثبانِ وهي تطوي المسافات طياً.. وربما عَنَّ على باله الصيدُ والقنصُ، فيعرضُ علينا آنئذٍ صوراً لقطعانِ الظباءِ السوانح، يُطيلُ الحديث في وصفها ويخصُّ العنودَ منها ، وكثيرا ما يعقدُ الصلة ما بينها وبين محبوبته التي خلفها بعده على نار الجوى...وربما ...وربما..وربما...‏
                        5) ثم ينهي قصيدته بأبيات من الحكمة تخصُّ موضوعهُ، يُضمنها عُصارة تجربتهِ وخلاصة القول الفصل فيها.. ولا بد في كلّ الأحوال بعد ذلك من بيتٍ أو بيتين أخيرين من الشعر يختمُ بهما قصيدته يتركُ بهما انطباعاً حسناً في نفوس سامعيه، وأثراً لا ينمحي وصولاً إلى غرضه، يُعرِّجُ بهما على حمدِ الله وشكرهِ خالقِ الأكوان ومدبر الحياة، ومن ثم الصلاةُ والسلامُ على نبيه المصطفى العدنان . وإلاّ اعتبرتِ القصيدة دونهما ناقصة مرذولة . مهما يكن دين القائل ومذهبه وعقيدته.‏
                        هذا هو ذا المخطط العام لعمود هذا الفنِّ من فنونِ القول، مع بعض التفاوت بين قصيدةٍ وأخرى في بعض الأحيان. تزيدُ أو تنقصُ تبعاً للنفسِ الشعريِّ ورغبةِ الشاعر.‏
                        لغةُ الشِّعر هذا‏
                        إذا قرأنا هذا الشعر نُحسُّ للوهلةِ الأولى بجسوته وقسوته "وقد ننكر منه بعض ألفاظه التي لا نألفها..غير أننا لا نكادُ نجاوز عدم الإلفِ هذا، ولا نكادُ نُخلي بيننا وبين حاضرنا الذي نعيش فيه، ولا نكادُ نخالطُ شعراءَه ونتعرفُ إلى ألفاظهم ومعانيهم.. لا نكادُ نفعل ذلك حتى يبدو لنا هذا الشعرُ جميلاً يجتذبُنا إليه بعد أنْ كنا ننفرُ منه، ونقتربُ إليه بعد أنْ كنا نبتعدُ عنه... ونحسُّ أنَّ النفوسَ التي صدر عنها نفوسُ رقيقة دقيقة ، تمتلك قدراً غير يسيرٍ من رهافةِ الإحساس وجمالِ الطبع ، كما تمتلِكُ مثلَ هذه القُدرةِ في حُسن البيان وجمال الأداء"(2)
                        ولغة هذا اللون من الشعر هينة لينة طيعة ليستْ قصيدةً ولا مقننة، لا تحكمها قواعدُ ولا يضبطها صرفُ في كل الأحوال. ويختارُ الشاعرُ من الألفاظ والتراكيب العامية، وما يقاربُ الفصحى حيناً وما يجافيها ويجانِفُها في كثيرٍ من الأحيان ، دونَ أن يُكلِّفَ نفسه عناءَ البحثِ والتنقيبِ ومساءلة معاجم اللغة. فهي- أي اللغةُ- لينة مطواعة بين يديه كالصلصال أو العجين يصنع منها ما يشاء، ويصوغ بها كلَّ ما يخطرُ على باله من بال، دونَ أنْ يرهقَ نفسهُ أو يعني ذاكرته بنحوٍ أوصرف.‏
                        ويأخذُ من الصيغ، ويستعمل من التراكيب ما يراه هو مناسباً ، وما يفكرُ فيه ويريده، دون حذْوٍ يحذوه أو قاعدةٍ يتقفاها... وكثيراً ما يبتدعُ من المعاني والألفاظ والتراكيب الجديدة كل الجدة حسب مُبتغاه ، بل وربما عبر عن المعنى بلفظةٍ شبيهةٍ باللفظة الأصلية بطرفٍ قريبٍ أو بعيد ، مع بقاءِ قرينةٍ تدلّ على المعنى الأصلي.‏
                        وربما كان هذا اللونُ من الشعر أقدرَ الفنون الأدبية الأخرى على التعبير عن ما يختلجُ في النفوس ويعتملُ من الأفكار ، ويواجه من مسائل حياتيةٍ ، لسبب مهمٍ جداً ،وهو أنهُ يُكتبُ باللغة التي نتكلمها ذاتها، ونتخاطبُ بها، وهذه نقطة تفوقٍ تسجَّلُ له.‏
                        فالكُتَّابُ والشعراءُ العربُ يُعانونَ من انفصامِ شخصية اللغة التي يستعملونها، فهم يكتبون بلغةٍ، ويفكرون ويخاطبون أباءهم ونساءهم وأبناءهم وحبيباتهم بلغة أخرى . هذه الأزدواجية بين اللغة الدارجة المحكية اليومية، واللغة التي يكتبون بها، تشطرهم إلى نصفين، وتشوهُ كثيراً من المعاني التي تتحرك في خواطرهم وتتماوجُ في أخيلتهم عند محاولاتهم لتدوينها على الورق.‏
                        إملاؤه وتدوينه..‏
                        هنا تكمنُ المشكلة الرئيسة في هذا الفنِّ من فنون الأدبِ بالذات ، وإليها يرجعُ سبب تخلفِه وجمودهِ وعدم تطوُّرِه ، ولحاقه بمختلف الأشكال الأدبية الأخرى. ألا وهي الحيرةُ أو الصعوبةُ في كتابة هذا اللون من الوانِ القولِ وتدوينه.‏
                        ومجملُ القضية يكمنُ في أنَّ هذا الشعر نشأ في الزمن السحيق من الجاهلية الأولى قبل عصور التدوين، حيث كانت المشافهةُ هي الوسيلة الوحيدةُ لنقلِ المعارفِ الإنسانية وتدوالها ، وهذا ماجعل تدوينه فيما بعد صعباً، لأن هذا التدوين يحتاج إلى قواعد وأصول غير متيسرة، وغير تلك المتعارف عليها في تدوين الفُصحى، التي أتيح لهاعلى يد علماء اللغة طرائق صقلها مع الزمن... ولولا القرآنُ الكريمُ لما دُوَّنت اللغة العربية نفسها بالأصل، وَلَمَا استُنبط لها من قواعد النحو والصرف الإملاء ما هو متعارفُ عليه اليوم ومتداولُ، بل ولظلت اللهجاتُ الكثيرةُ سائدةً على ما فيها من اختلافٍ بين الناس حتى يوم الناس هذا... ولكن الله قيضَ لهذه اللغة ان ينزل القرآن الكريم بها، ليحفظها من العبثِ، وليمنحها قدرةً فائقةً على الاستمرار والنماء وسخر لها من يخدمها ويرعاها حتى اليوم.‏
                        وجد‍َ هذا الشعر أوِّلَ ما وُجِدَ ليحملَ همومَ الناس ويسجلَ حياتهم بخيرها وشرها، وذلك لسهولة حفظ الكلام الموزون وتناقلهِ... وكل الباحثين مجمعون على أنَّ لغة الشعر سابقة للغةِ النثر بعصور متطاولةٍ نظراً لسهولةِ تنقلهِ مشافهةً. وهذا ما حدا بسادة قريش وأعيان العرب على أن يقفوا مبهوتين أمام لغة القرآن، فلا هو بالشعر، ولا هو بالنثر، ولا هو بسجع الكهَّانِ. فما هو إذن ؟‏
                        فكيفَ نُدوِّنُ اليوم هذا الشعر ونُمليه؟‏
                        الخليلُ بن أحمد الفراهيدي ،واجهَ المشلكةَ ذاتها، عندما حاولَ ان يُدوِّنَ الشعر العربي وبحورهُ. فقد وجدَ أنَّ هناكَ فرقاً كبيراً بين الإملاء الذي تواضعَ عليه اهلُ هذه اللغة قبله للغتهم وبين لفظها أو أصواتها التي ما زالتْ على حالها قبل التدوين وبعدهُ، وهو بحاجةً إلى رسم هذا الأصوات ، فماذا عليه أنْ يفعل؟‏
                        رأى أن عليه أن يبدأ من الصفر. وبالعفل بدأ بفهم أسرارِ الأصوات في هذه اللغة، فألف معجم العين، لأنه اكتشف أنَّ اللغة مجموعةُ أصواتٍ مختلفةٍ تمام الاختلاف ، تؤلِّفُ باجتماعها أو بترابط أصواتها مدرجاً موسيقياً يبدأ بحروف الحلقِ وينتهي بالحروفِ الهوائية، فبدأ بتصنيف هذه الأصوات أو الحروف، فكانت على الشكل التالي:‏
                        -الحروف الحلقية..العين والهاء،والحاء ، الخاء، والغين،‏
                        - الحروف اللهوية... القاف، والكاف.‏
                        - الحروف الشجريةُ.... الجيم ، والشين. والضادوالشجر مفرجُ الفم).‏
                        -الحروف الأسليةُ... الصاد، والسين ، والزايلأنَّ مبدأها من أسلةِ اللسان وهي طرفهُ المستدقُّ).‏
                        - الحروف النطعيةُ ..الطاء ،والذال، التاءلأن مبدأها نطعُ الغارِ الأعلى).‏
                        - الحروف اللثويةُ...الظاء،والدال، والثاءلأن مبدأها من اللثة).‏
                        - الحروف الذلقيةُ...الراء واللام،والنون.‏
                        - الحروف الشفوية...الفاء، والباء،والميم.‏
                        - الحروف الهوائية..الواو، والألف ،والياء.‏
                        ولأنه ابتدأ مدرج الحروفِ أو الأصواتِ بالعين وهو أبعدها داخل الحلق سمى كتابهُ معجم العين.‏

                        ورتبه علىهذا الأساس .فلم يُسبقْ إلى ذلكَ ، ولا لحقَ .فظلَّ السابقَ والمصلي.‏
                        إذنْ، فهو لم يبدأ من الصفرِ، بل مما دونهُ ، لانهُ وجدَ أمامهُ لغةً كاملةً مكملةً مدونةً، ليس هذا فحسب، بل وجدَ أمامهَ جداراً عالياً يصعبُ اجتيازه وتجاوزه من القوانين والقواعد المقدسة، عليه والحالةُ هذه أنْ يبدأ مما دون الصفر، أن يجد أبجديةً تتناسب ُ مع الموسيقى الصوتية التي تُشكِّلُ العمود الفقري للنغم، لأساسِ الوزنِ من جهة، وبحجم حناجرنا من جهةٍ أخرى.‏
                        لنْ أطيل البحث...فقدْ اخترعَ الخليلُ بنُ أحمد الغراهيدي أبجديةً داخل الأبجدية تتناسبُ كتابَتُها وإملاؤها وفقاً لما يصاحبُها من أصواتٍ على المدرج الموسيقي الذي رسمه لهذه الأبجدية. وخلاصة ذلكَ، أن لا يكتبَ إلاّ الأصواتَ التي تشكلُ المنطوق والمسموع ، بصرف النظر عن قواعد الإملاء ،وهو ما نُسميه بالكتابةِ العروضية حينما نحاول أن نقطع بيتاً من الشعر لمعرفة وزنه وبحره.‏
                        والآن..هل ندونُ هذا الشعر بلغة أو برسم على طريقة الفراهيدي الخليل؟‏
                        أم نُدوِّنُه برسم اللغة الفصحى، وهو أمر لا يستقيم معنا؟‍‍!‏
                        ومرةً أخرى أيضاً ، لن نقف عاجزين عن الإجابة عن هذين السؤالين. وسنجتهدُ ، فإنْ أصبنا فهذا توفيقُ من العزيز القدير... وإنْ أخطأنا فعذرُنا أننا حاولنا بكلِّ الوسائل المتاحةٍ، وأنَّ هذه هي مقدرتنا المعارفية، وهذا جهد المقلِّ.‏
                        سنُدوِّن هذا اللونَ من الشعرِ بطريقة، هي وسط بين الطريقتين السابقتين.‏
                        سنكتبه بحروفٍ تحافظ علىاللهجة الصوتية لأداء هذا الشعر ، مع مراعاة عدم الابتعاد عن طريقة رسم اللغة الفصحى ما أمكنَ ذلكَ ، وستمر بكَ شواهد كثيرة على ذلك. وبناءً عليه رأينا أن يُرسمَ الديوانُ على أعيننا ، فجاءَ بخط اليدِ... هذا ما استقر عليه رأينا بعد أن كلفنا البحثُ وقتاً ليس باليسير، ولا يقاس بالشهور بل بالسنين.‏
                        وهكذا أرجو لهذا اللونِ من الشعر بأنواعه المختلفة- النبطي . الشروقي،البدّاوي، المربع، الفنّ، الهجيني،الحدادي، الجوفية، العامي، شعر الربابه.... أن يجد بعد الآن طريقه إلىالتدوين.‏
                        أقولُ هذا لأنني أشعر أنِّ السوادَ الأعظم مِنا مازالوا ينامون على الجليد داخلَ المغاورِ والكهوفِ في حقول التخلفِ والاستسلام، فتجمدت عقولهم ويبستْ ألسنتهم، وبالتالي جفّ نُطقُهم، وتحجرت لغتهم، وماتوا قهراً وغماً... فقدْ آنَ الأوانُ لأنْ يخرجوا إلى أشعة الشمس يتدفأون بنارها.‏
                        أرجو أن أنبه إلى ان اهتمامنا بهذا الشكل الأدبي بلغتهِ العامية، ليس البديل بأية حالٍ من الأحوال للشعر باللغة الفصحى، وليس على حسابه أبدأ، ولا نُشجعُ على سيرورته ، ولا نريدُ أن نُسوّدَ العامية على اللغة الفُصحى. فنحنُ نعدّ أيَّ شكلٍ من الأشكالِ الأدبية لا يكتبُ باللغة الفُصحى، شكلاً خارجاً عن نطاقِ اهتماماتنا واختصاصاتنا، فلا ندرسه لا في مدارسنا ولا في جامعاتنا.. وإنما انطلقنا من موقع أن هذا الشعرَ موجودٌ على أرض الواقع منذ القدم، في بلادنا الأسيوية قاطبةً، وربما الأفريقية، وأنه ظل على حاله، وما محاولتنا هذه إلاّ لتقريبه من اللغة الفُصحى، وتوظيفهِ ليحمل همومَ زمننا ومُعاناتنا. وبعد:‏
                        أنا قاصرُ عن بلوغ كل فردٍ من الشعراءٍ والفنانين في مواقعهم، لأنني بطيء المسعى وئيدُ الخطى، لذا أتوجه إلى حاملي لواءِ الكلمة الصادقة المعبرة الحرة، والمهتمين بقضية الشعر والأدب والتراث والمحافظة عليه من الضياع، ممن لم يصلْ صوتنا إليهم، إلى أن يُبادروا إلينا ونقول لهم: هَلُمُّوا نتحاورْ، نتشاورْ ، نتعلم ْ بعضنا من بعضنا ، ننهض معاً. ونخرج من أصدافنا إلى ملاعبِ الشموس والرياح. فقدْ تكلَّست مفاصلنا، وجفَّ ماء الحياة في عروقنا، هلموا نصنع مستقبلنا بأيدينا.‏
                        أقول: بعد أن اجتمع لدي هذا الكم من القصائد المختارة،لكوكبةٍ من شعراءِ حوران ممنْ التقيتُ بهم، عكفتُ على دراستها مجدداً ، واصطفيت منها ما اصطفيتُ ، وأكثرت من تلك الحوارياتِ التي أدَرْنَاها بين الشعراءِ ،لقربِ زمانها مِنا.‏
                        وقبل البدء بتدوينها، وجدتُ أمامي طريقتين:‏
                        الأولى ... أنْ أقدمَ بشرح الكلماتِ ذاتِ المعاني الصعبة في كل قصيدة على حدة ، تسهيلاً للفهم.‏
                        الثانية:...أو أنْ أقدّم لمُعاً لكلِّ قصيدةٍ من هذه القصائد، تُلقي بعض الضوء على معانيها.‏
                        وبعد التداولِ، ومجادلةِ الرأي، اخترتُ الطريقة الثانية، فقدمتُ لهذه القصائد بإضاءات تطولُ أو تقصرُ تبعاً لجوِّ القصيدة العام، وما تثيره من لواعجَ في النفس. وهذا ما فعلت؛وربما ثنيت بشرح بعض الكلمات.‏
                        واخترت قصيدتين اثنتين ،أحداهما ردُّ على الأخرى ، لأنهما تُمثلان نموذجاً واضحاً لعمود القصيد في هذا اللون من الفن الشعري ،مستوفيتين لمعظم الشروط الفنية التي تحدثتُ عنها في المقدمه. ودرستهما دراسة فنية كلاسيكية مدرسية للاحتذاء بها، والاستئناس بطرائقها للدارسين من بعدي. ركزت في القصيدة الاولى على ظاهرةٍ أسلوبية عند الشاعر الغصين وهي اهتمامه برسم أدقِّ التفاصيل الجمالية لدى موصوفاته، في حين ركزتُ في قصيدة الزعبي محمود على ظاهرةٍ أسلوبية مُغايرة، وهي قدرتهُ على التحكم بأساليب البلاغة العربية في الصياغة ، ولا أدعي أنني أحرزت قصبَ السبقِ، إنما جهدُ بذلته، وخدمة قدمتها.‏
                        فإنْ شاقتكَ هذه الدراسة، ونالتْ رضاك، ووجدتَ فيها منفعة وجديداً،وأنها أضاءتْ جانباً من جوانب حياتنا الثقافية والفكرية المهملتين، فهذه غايتي.‏
                        وإنْ كانت الأخرى ، فهذه طاقتي ومقدرتي ،وحسبي أنني حاولتُ. ‏
                        والسلام عليكم ورحمةُ الله‏
                        (1) مادة نبط في لسان العر ب جـ7/ ص410. والصحاح للإمام الرازي مادة نبط ص641.‏
                        (2) انظر كتاب تطور الغزل للدكتور فيصل صفحة 19 مطبعة دار الحياة 1965.‏
                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: في رحاب الفكر والأدب

                          المراجع والمصادر
                          1) ديوان عطر اللوز للشاعر يوسف عويد الصياصنة الصادر عن دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق 1995.‏
                          2) أزهار الغضب ديوان شعري للشاعر منصور الزعبي الصادر عن دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق 1996.‏
                          3) بكاء النوافير ديوان شعري للشاعر منصور الزعبي الصادر عن دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق 1977.‏
                          4) رواية الحب والوحل للدكتورة إنعام مسالمة الصادرة ضمن منشورات وزارة الثقافة في دمشق عام 1959.‏
                          5) الأفعى والراعي مجموعة قصصية من أدب الأطفال للأديبة نظمية أكراد ، صادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 1982.‏
                          6) الشعر النبطي في حوران للكاتب علي المصري الصادر عن دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق 1996.‏
                          7) ألحان من اليرموك ديوان شعر للشاعر عبد الكريم الحمصي الصادر عن دار مطبعة الاتحاد دمشق1992.‏
                          8) ديوان جمة الريحان للشاعر أحمد عبد الرحمان قداح الصادر عن مطبعة الكاتب العربي بدمشق عام 1994.‏
                          9) مخطوط شعري للشاعر سليم عياش لم يطبع بعد.‏
                          10) علم عربي للسياسة للدكتور الباحث جورج جبور الصادر عن دار المعرفة للنشر والتوزيع القاهرة الطبعة الثالثة.‏
                          11) في الأدب والنقد للدكتور محمد مندور الصادر عن دار نهضة مصر للطبع والنشر بالفجالة القاهرة 1977.‏
                          12) طفولة نهد للشاعر نزار قباني، نقلاً عن كتاب الفيلسوف الإيطالي كروتشه في كتابه المجمل في فلسفة الفن ، الصادر عن مطابع دار الكتب بيروت 1961.‏
                          13) فصول في الشعر ونقده للدكتور شوقي ضيف الصادر عن دار المعارف بمصر الطبعة الثانية 1977.‏
                          14) النقد الأدبي للأستاذ أحمد أمين الطبعة الخامسة لعام 1983 الصادر عن مكتبة النهضة المصرية شارع عدلي القاهرة.‏
                          15) النقد الأدبي تاريخ موجز للنقد الكلاسيكي تأليف ويليام .ك. ويمزات وكلينث بروكس ترجمة الدكتور حسام الخطيب ومحيي الدين صبحي الصادر عن مطبعة جامعة دمشق 1973 .‏
                          16) النقد الأدبي تاريخ موجز للنقد لدى الكلاسيكية الجديدة تاليف ويليام .ك. ويمزات وكلينث بروكس ترجمة الدكتور حسام الخطيب ومحيي الدين صبحي 1974 الصادر عن مطبعة جامعة دمشق.‏
                          17) النقد الأدبي تاريخ موجز للنقد الرومانتي تاليف ويليام.ك.ويمزات وكلينت بروكس ترجمة الدكتور حسام الخطيب ومحيي الدين صبحي الصادر عن مطبعة جامعة دمشق.‏
                          18) النقد الأدبي تاريخ موجزللنقد الحديث تأليف ويليام .ك. ويمزات وكلينث بروكس ترجمة الدكتور حسام الخطيب ومحيي الدين صبحي الصادر عن دار مطبعة دمشق عام 1977.‏
                          19) مجلة الناقد العدد 32 شباط 1991 الصادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر بلندن من مقال للناقد أحمد يوسف داود بعنوان ديالكتيك الحياة والموت في آدب زكريا تامر وخليل حاوي. صفحة 14وما بعد. مأخوذ عن مقدمة كتاب يبحث في هذا العنوان.‏
                          20) أسرار البلاغة للإمام عبد القاهر الجرجاني تحقيق .أحمد مصطفى المراغي الصادر عن المكتبة التجارية الكبرى بمصر مطبعة الإستقامة بالقاهرة‏
                          21) دلائل الاعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني الصادر عن مطبعة الاستقامة بالقاهرة.‏
                          22) كتاب في النقد للباحث والناقد أوستين دارين، ورينيه ويليك ترجمة محيي الدين صبحي مراجعه الدكتور حسام الخطيب ، منشورات المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب الاجتماعية الطبعة الأولى لعام 1977.‏
                          23) الانترو بولوجيا البنيوية لكلود ليفي شتراوس في الانتروبولوجيا البنيوية ،الجزء الأول من طبعة وزارة الثقافة والإرشاد بدمشق 1977 ترجمة الدكتور مصطفى الصالح.‏
                          24) الموازنة بين أبي تمام والبحتري للإمام الناقد الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي تحقيق محمد محيي الدين عبد المجيد ،القاهرة ، مصر.‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق

                          يعمل...
                          X