إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الموت بطريقة مختلفة - قصة - حسنة محمود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الموت بطريقة مختلفة - قصة - حسنة محمود



    الموت بطريقة مختلفة
    قصة
    حسنة محمود

    أحب الحياة بكل ما فيها، حلوها ومرها، جدّها وهزلها،ليلها ونهارها ،وجدها جديرة أن تعاش، فتعلق بها، وناضل ليستمر. أبو أحمد كغيره من رجال القرية يؤمن بقضاء الله وقدره. يردد دائماً من التراب أتينا وإليه سنعود.
    عاش حياته كأي فلاح في القرية .. يعمل في أرضه ويهتم بأسرته . يحب الناس ويحبونه، .. أحلامه كبيرة، وحيوية، وألوانها زاهية،وتحقيقها يحتاج لعزم وصمود، وفي غمرة سعادته ونشاطه وجدّه، ُسرقت أحلامه،بل اغتيلت وشعر بالإحباط، وأن الحياة ومباهج الدنيا لا قيمة لها، فقدت أحلامه ألوانها،عندما استيقظ ذات صباحٍ على نبأ مؤلمٍ، أحزنه، وأبكاه،أفقده الهمة والعزم على العمل. لقد فقد مخزن أسراره، وسميره في وحدته، ومفرّج همه.. فقد ظله، لقد توفي جاره وصديقه أبو حسن، رفيق الصبا، والشباب، فكانت وفاته أعظم وأهم حدث في حياة أبي أحمد، غمره الحدث وحوّل يومه ضبابياً، شعر بظلم كبير حاق به، وتحولت أحلامه رمادية باردة ، نسي أن كل يوم يموت مئات الأشخاص، ويولد المئات، ما الجديد في ذلك ؟ الجديد هو أبو أحمد نفسه …
    شيّع جاره أبا حسن، وهو شديد الأسف لفراقه،.. واراه التراب، ووقف مذهولاً للحظات راودته عشرات الخواطر والأفكار .. كلها مأساوية…مشوشة.
    أبو حسن الذي اعتاد ان يتصدر المضافة سيكون وحيداً في حفرته المظلمة. وماذا سيحدث لهذا الرجل ؟. لا يستطيع اليوم ولا في الأيام المقبلة أن يستقبل ضيوفه فيها، أو حتى يسقيهم القهوة المرّة، ولا أن يتبادل مع جيرانه الأحاديث العذبة حول الأسرة، والمواسم، والمطر، وفرحهم بالأولاد. لأنهم صامتون، لفتهم وحشة القبر قبله، واحتوتهم رطوبته، وظلامه.هل سيصمت مثلهم وإلى الأبد؟سأل نفسه والدموع تتصارع مع مآقيها تأبى النزول ماذا سيحدث لصديقه؟ لهذا الرجل القوي الشهم ..؟ هل انتهى فعلاً بغمضة عين ..؟ انتابه صراع مرير بين التمسك بالحياة، ورفض الموت. تناهبته أفكار شتى .. يسأل نفسه :ألا يستطيع المرء أن يبقى حياً إلى الأبد ؟ وفي لحظة عادت به ذاكراته المشوشة التي كادت أن تتلاشى فيها الصور لفداحة المصاب إلى سنوات عديدة خلت ،عندما كان يحرث الأرض، إذ وجد على طرفها جلد أفعى ضخمة، وقد انسلخ عنها ليتجدد شبابها، فقال: ما أسعدها ..!؟ لو يستطيع الإنسان أن يعيش كالافعى، متجدّد الشباب، وتكون حياته ربيعاً دائماً . لم يعرف حينها أن الأفعى سرقت نبتة الحياة من جلجامش، حينما كان يستحم ببركة ماء .. لو عرف ذلك للعن الحمّام والبركة وامتنع عن الاستحمام طيلة عمره .
    أحس بالأسى والحزن، لأنه لم يستطع أن يغير مصيراً رُسم له مسبقاً . يخاف الموت ويكرهه، لأن من يموت لا يستطيع العودة، ليحكي لأصدقائه عن رحلته هذه .. لا أحد يعرف إلا هو إن كانت ممتعة، أم شقية، منذ أن جردوه من ثيابه، وغسّلوه، وهو مستلق على ظهره، على خلاف المرات التي كان يجلس فيها إلى جانب جرن الحمّام ،ويتلو الأدعية التي يظن أنها تحمي جسده، وصحته، من الحسد والمرض.
    تزاحمت الأسئلة وإجاباتها مشوشة ضبابية،بعضها فرّ منه وبقي في المقبرة تمنى لو يستطيع أن يحاكم الموت، موجهاً له عشرات بل مئات التهم، لما يسببه من قهر، وعذاب، وفراق الأحبة.ويحكم عليه بالنفي إلى جزيرة بعيدة مهجورة وموحشة، أو يجبره على كتابة تعهد، يلتزم فيه بالابتعاد عن العلاقات السعيدة والبيوت العامرة بالحب والدفء، ويكون الموت اختيارياً أم يستسلم لمشيئة القدر؟ فهو جاء من رحم أمه ويعود إلى رحم أمه الكبرى الأرض. ما أعظم هذين الرحمين . الأول بداية نور الحياة والثاني عنده يخبو هذا الضوء والى الأبـد.
    خلال هذه اللحظات المريرة حلّق في عالم آخر بعيد ومختلف عما يجري حوله فانتبه فجأة وأيقظه صوت أحد الرجال يشكر سعيه وقيامه بالواجب، يدعوه للعودة إلى القرية.
    وقبل أن يغادر أبو أحمد المقبرة ، ألقى نظرة أخيره على هذا المسكن الضيق لصديقه الذي اعتاد على حياة القرية بأرضها الرحبة المترامية وبيوتها المشرّعة للشّمس والهواء . اتخذ قراراً مصيرياً لا عودة فيه .
    انتهت فترة الحداد، فقرر أبو أحمد أن يهجر القرية التي ترعرع فيها، ويبحث عن مكان لا يموت فيه الإنسان، ولا توجد فيه مقابر إطلاقاً . أو ما يسميها أبو احمد الغرف الصغيرة المظلمة والموحشة.رفض مناقشة الموضوع مع أحد، وشدّ الرحال، وراح ينتقل من مكان إلى آخر ، وكلما وصل قرية أو مدينة يسأل سكانها : كيف يموت الناس عندهم ؟ فينظرون إليه بإشفاق راجين له الشفاء مما أصاب عقله .
    طال به التجوال،وغلّف الحزن والهم حياته، إلى أن انتهى به المطاف إلى قرية لم يلحظ فيها مقابر ، فسرّ لذلك سروراً كاد أن ينسيه ماذا تعني هذه الكلمة ؟ فقد وجد ضالته المنشودة . استوقف أحد المارة وسأله عن سر اختفاء المقابر من القرية . دُهشَ الرجل لسؤاله وقال : .. ليس عندنا قبور حتى تختفي . فكان جوابه غريباً ومطمئناً .
    شعر أبو أحمد برعشة لذيذة اجتاحت جسده، وهو ينظر إلى الرجل، وقد غمره الفرح والأمل.
    أخبره الرجل : إن الإنسان في قريتهم لا يموت ولا يدفن في الأرض . دُهشَ أبو احمد وتذكر مجموعة البلدان والقرى التي مرّ بها كانت متشابهة إلا هذه القرية ما سرها ..؟
    يغلب الشباب على أكثرية السكان .. ما أسعدهم قال في نفسه !لا يعرفون رطوبة القبر وظلامه ووحشته، جميعهم مرحون متحابون.
    تابع الرجل كلامه : بين الحين والآخر يأتي رجل من وراء ذلك الجبل .. هل تراه..؟ ألتفت أبو أحمد وأجاب : نعم إنه يشرف على القرية كلها . حسناً تابع الرجل: يأتي رجل من خلف الجبل وينادي أحد سكان القرية فيصعد إليه مسرعاً لا يلوي على شيء .
    يذهب دون عوده : قال أبو أحمد في سرّه : ما أجمل الموت عندهم فهو اختياري .. يذهب الإنسان إلى المنادي، أو ربما يمكنه أن يرفض . صمم أبو أحمد أن يتجاهل صوت المنادي قائلاً : لن أصعد إليه، ولو تقطعت حباله الصوتيّة.صمت قليلاً،فرّت دمعة من عينه،فقد تذكّر مصير صديقه أبي حسن.
    حطَّ رحاله في هذه القرية، التي ستكون موطنه الجديد، ونهاية المطاف . اشترى بيتاً، وفتح دكاناً، وعاش مع أسرته بكل أمان، واستقرار، وسعادة ، يستطيع تربية أولاده، وربما أحفاده، دون خوف أو قلق من الآتي …ومرّت الأيام والسنون،دون أن يشغله شيء،حقق خلالها أجمل ما كان يصبو إليه،أولاد،أحفاد،أرض،أصدقاء، إلى أن جاء اليوم الموعود…الذي تمنى أن ينساه،أن يتأخر وصوله،أو يموت المنادي في رحلته . نهض أبو أحمد مشرق الوجه ، فرحاً مستبشراً بيوم جديد، كل ما فيه يدعو إلى التفاؤل،(وهو يردد أصبحنا وأصبح الملك لله). فتح دكانه، وفرد قسماً من بضاعته خارجاً، جلس على كرسيه باش الوجه، سعيداً يرّد التحيّة للمارة. غرق في أحلامه المستقبليّة ومشاريعه الكبيرة من زواج الأولاد، وشراء أراضٍ جديدة، وعدد من الحيوانات لتكون جذوره أعمق في هذه القرية السعيدة . ومن قلب النشوة والأمل، داهمه الخوف والرعب حينما سمع صوتاً ينادي : يا أبا أحمد أسرع .. وخلال ثوانٍ تناهبته أفكار كثيرة وخيارات صعبة هل يستجيب..؟ أم يرفض ..!؟ لماذا لا يتركه ينادي حتى يبح صوته، شاغلاً نفسه بما حوله ..؟ أم يسرع إليه ..؟ وما دام سيسرع إليه لماذا فرّ من قريته وتغرّب طوال هذه السنوات.. استحوذ الحزن والهم عليه ودارت في رأسه صراعات كثيرة بين الرفض ، لحق ما أقساه من حق والإيجاب لصوت المنادي .. هل يخبر أم أحمد، ويودّع الأولاد، أم أن الوقت غير كافٍ .. ؟
    حسم الصراع المرير باستجابة سريعة، وهرول مسرعاً نحو الجبل .
    حاول جيرانه أن يؤخروا رحيله ويلفتوا نظره إلى رزقه. يجب أن يدخله إلى الدكان ويرتبه ثم يغلق ويذهب.
    ترك أبو أحمد كل شيء كما هو وأسرع يلبي نداء القدر الذي لا مفرّ منه .
    نادى عليه جيرانه في السوق .. يا أبا أحمد … البضاعة لا تزال في الخارج . أنتظر نساعدك في إدخالها وترتيبها.
    هل نخبر أم أحمد شيئاً … ؟ هل توصي للأولاد بشيء..؟ لكّن أبا أحمد لم يستجب لأحد وترك كل شيء كما هو وذهب مسرعاً … !؟
    = - = - =
    الموت بطريقة مختلفة - قصة - حسنة محمود

يعمل...
X