إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

    - أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح -


    ميخائيل عيد

    آراء - من منشورات اتحاد الكتاب العرب - 1998


    هل ثمة وصول؟ كيف؟
    الحوار في الأزمنة الساخنة نظرة إلى المسألة الثقافة في العقود الأخيرة
    الواقعية الاشتراكية بين الميكانيكية والتحريف
    نظرات لا نظريات في مسائل النقد الحديث
    الثروة الجمالية ومكونات الجمال في شعر أبي سلمى
    أدونيس والشطح في كتاب " الصوفية والسوريالية"
    الحكاية في الشعر الحديث
    الرأسمالية وأدب الأطفال
    مسائل الفن في بعض الحكايات
    في الواقع والواقعية
    بعد انقشاع الغبار

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

    هل ثمة وصول؟ كيف؟

    حين أتت السبع العجاف على سنابل حقل الروح أذبل القنوط جسد العبارة.‏
    قلت للأم الطبيعة:‏
    كل ما فيك يكمل نقيضه ويكتمل به. فلماذا لا نكون نحن البشر على صورتك ومثالك؟‏
    وخيل لي أن الطبيعة ابتسمت بحنان.‏
    ...‏
    يبدو لي أن الإنسان منذ أن انفصل، نسبياً، عن الطبيعة والأشياء الطبيعية، وشعر بذلك الانفصال، راح يعمل بشتى الوسائل الذهنية للعودة إلى صدر الأم والتناغم مع حركة الكون. لقد خلق كوناً صغيراً له متصلاً بالكون الأعظم بوساطة النواميس الكونية الشاملة ومتمتعاً باستقلال ذاتي نسبي نتيجة سيطرته المحدودة على الطبيعة وفهمه بعض نواميسها وإمساكه بزمام بعض شؤون الحياة. ولقد جعله هذا الانفصال النسبي دائم الحنين إلى الجنة الضائعة، الجنة التي اغترب عنها بصنعه أدوات ووسائل أبعدته عن الالتحام المباشر بها، فصار يتصل بها بالأدوات بعد أن كان يحيا فيها ويتحسسها بحواسه.‏
    لقد ألف جسده الارتعاش لوقع قطرات المطر طوال آلاف السنين، وها هو الآن يمنع قطرات المطر من أن تكف في منزله الحديث، وكانت له مع الليل ونجومه حكايات وأساطير، وكانت له فيه معارك وأهوال ومخاوف، وكانت له أفراح وأغنيات، ثم ها هو ذا ينفصل عن أسرار الليل بالنور الاصطناعي فيتلاشى الخوف القديم ويشحب لون الحكايات والأساطير وتختفي الأشباح. لقد انتقل من عالم السحر والتوجس والتوهم إلى عالم أضاءه عقله فتلاشت منه الظلال الموحيه وتكشفت له الحقائق.. وكم في العالم من أشياء وهمها أجمل من حقيقتها، وخيالها أبهى من صورتها، وظلها ألطف من كيانها!‏
    حين كانت المرأة عارية صورها الفنانون في رسوم الكهوف وفي الأساطير مكتسية ولو بورقة تين أو سواها، وحين اكتست بأفخر الملابس وصنعت لها بعض الشعوب حزاماً للعفة صار الشعراء والكتاب والفنانون يتفننون في تصويرها عارية.. وكذلك كان شأنهم مع الطبيعة. حين كانت بكراً وعارية ألبسوها صنوف "الملابس" المصطنعة، وحين ارتدت ما صنعوه لها وغيروا شكلها زاد اشتياقهم إليها بريئة عارية من كل لباس أو بهرج.‏
    ومن غريب أمر الإنسان أنه اخترع شتى ضروب الأدوات ليكسب شيئاً من الوقت الذي كان ينفقه على العمل، وحين حصل عليه راح يبتكر شتى الوسائل لإضاعة ذلك الوقت.. وقد دفعه الهيام بالتسليه إلى ابتكار تسليات مدمرة.. لكنه ابتكر إلى جانبها أشياء أخرى مفيدة ومنها شتى الفنون.‏
    ...‏
    تكون رغباتنا جنات في خيالنا لكنها تصير أرضاً حين نحققها، وإذ نقف على أرض تلك الرغبات المحققة تولد فينا رغبات جديدة تصير أرضاً حين نحققها وننطلق من فوقها لنحقق رغبات غيرها.‏
    من منا لم يقرع باب جنة الأنوثة؟ من منا لم يزدد عطشاً بعد أن شرب من كوثرها؟‏
    وهذا أنا أسأل مرتبكاً: هل الذين ابتكروا كلمة "جنة" هم من أولئك الذين حلموا بالوصول إلى أماكن على الأرض ثم لم يرتووا بعد وصولهم، وظل الشوق إلى الوصول متقداً في نفوسهم وظل القلق؟‏
    ها هو زمن الفتور يفترس أعضائي‏
    ذهبت القوة ولم يأتِ الوهن‏
    تلاشت الطمأنينة ولم يولد الخوف‏
    صار الصيف ذكرى ولم يأتِ الشتاء‏
    أفتح باب الذاكرة، يملؤها النسيان‏
    اتكىء على الحلم، يتبدد مثل سحابة‏
    وتبقين في عروقي‏
    أبهى من الذكرى وأشهى من الحلم‏
    تمتلىء نفسي بمشاعر عجيبة‏
    أخاطب كياناً غامضاً أدعوه: أنت.‏
    تصيرين لي الفرح والحنان.‏
    ...‏
    أسمع نداءات اشتياق ترسلها امرأة لم تجد رفيقاً‏
    أهمس للأثير: أسمعك أيتها المرأة! فكيف الوصول إليك؟‏
    يضبح الأثير مثل غابة في يوم عاصف.‏
    يخيل لي أنني ألتقط نداءات ملايين الكائنات التائقة.‏
    أفكر: سيكون الوصول مستحيلاً.‏
    وأسأل: هل ستصير هذه النداءات الباحثة عن صدى نجوماً في سماوات عوالم لم تتكون بعد؟ أم أن كوكب الشعر الدري سيولد منها ذات يوم؟‏
    ربما..‏
    وأشعر بالطمأنينة.. أهمس: أنت.‏
    وأعلم أن الوصول مستحيل.‏
    ...‏
    حين كان الإنسان ملتحماً بالطبيعة لم يكن محتاجاً إلى رؤيتها لأنها كانت فيه وكان فيها، وحين خرج منها خرجت منه فصار محتاجاً إلى النظر إليها ومطابقة شموليتها مع خصوصيته الجديدة المكتسبة.‏
    الطبيعة متناغمة ومتوازنة وحين انفصلنا عنها كسرنا مرآة تناغمها وتناسقها ثم رحنا نحاول إعادتها إلى ما كانت عليه من وحدة وصفاء، وصارت تزداد تكسراً وقتاماً.. وكانت أدواتنا قاصرة.‏
    وقلنا: فليكن الفن وسيلتنا المثلى للدخول إلى تناغم الكون وتوازنه ونسينا أن وسائطنا أفقدت حواسنا رهافتها الأولى، رهافة طفولتها.. وابتكرنا أوهاماً وتخيلات ثم عشقنا أوهامنا وتخيلاتنا.‏
    وتعقدت الأدوات والوسائل وتفاقم سوء الفهم وازدادت المعوقات.‏
    نقول يساعدنا اللون على التواصل.. ولكن، ما لون الحزن وما لون الكراهية أو الغبطة وكلها ذات مراتب وأطياف؟ ثم إن اللون مقيد بحدود قدرة العين على رؤية التمايزات وعين الخيال والمشاعر غير مقيدة بحدود.. وألوان الطبيعة والكون متداخلة وغير محدودة.‏
    ونقول: تساعدنا الكلمة، والكلمة مثقله بتاريخها وبما لحق بها من صدأ التداول اليومي، في حين أن المشاعر طازجة تنبثق كالبغتة وتتموج وتتدفق من غير توقف.‏
    المشاعر متحركة ومدلول الكلمات ثابت وراكد، وهذا ما يجعلنا نشعر وكأننا لم نقل ما أردنا أن نقوله، وكأن الآخرين لن يفهموا ما أردناه فهماً دقيقاً.. وكثيراً ما يزعم مرهفو المشاعر أن التواصل مستحيل:‏
    "ذلك لأن الصوت والمعنى في اللغة لا يرتبطان إلا ارتباطاً اصطلاحياً" (بول فاليري- الخلق الفني- ترجمة بديع الكسم ص23).‏
    لقد ضاق السهروردي ذرعاً بكثافة العالم فهتف :"اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف" (أبجد العلوم الجزء3 ص112).‏
    وحال الشاعر مثل حال المتصوف مع العالم: يضيقان ذرعاً بالكثافة.‏
    كان أبو حيان التوحيدي، وهو من هو قدرةً على التعبير، وصاحب الأسلوب الجميل والإطلاع الواسع يشكو فيقول: "ضاق اللفظ واتسع المعنى" (الإشارات الإلهية ص156- 157).‏
    ولقد قال النفري: "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة". وقالت الأوائل: "من سمع الغناء على حقيقته مات" وكل هؤلاء وغيرهم إنما أشاروا إلى حقيقة واحدة خلاصتها أن الوصول إلى الفن المطلق، الفن الكامل، أمر فوق طاقة البشر، والوصول يعني الفناء رهافة وعذوبة وذوباناً في المطلق. والحي لا يبقى حياً إذ يذوب ولا ندري إن كان الذائب يستطيع الإبداع.‏
    والأعمال الفنية ليست بالجواهر القائمة بذاتها.. فهي مزيج من انعكاسات شتى الحوادث والانفعالات عبر ذات فرد هو ابن بيئة محددة مكاناً وزماناً وقد عانى تجارب شتى واطلع إلى هذا الحد أو ذاك على إبداعات من سبقوه ومن عاصروه، وهي إشارات مكثفة إلى كل ذلك وهي أعمق واسمى من ذلك، إذ قد تفتح أمام المتلقي الذكي أبواب عوالم أرحب وأغنى، وأعمق، وقد تصير قاعدة لطيرانات أبعد وأعلى.‏
    والشعر بذاته، على استحالة الوصول إليه، وإذ يظل هاجس الشعراء كما تظل الحقيقة المطلقة هاجس الفلاسفة والمفكرين، هو شىء لا يمكن تعريفه أو تحديده أو نقله إلى كلمات أخرى غير كلماته التي ولد بها كائناً عضوياً تشريحه يقتله، ووصفه يشوهه ويحط من قدره.‏
    وقد يكون الفن، والشعر منه، تفجر طاقة الروح وحنين المنفصم إلى الالتحام، والشعر بذاته أو الشعر الصافي هو التفجر المطلق أو الاحتراق الذي لا بقايا بعده، هو الضوء الأنقى، الضوء المستحيل.‏
    وعلى قدر الاقتراب من المستحيل يكون الاقتراب من الشعر الجوهر، "من سمع الغناء على حقيقته مات" والغناء هو الشعر هنا.‏
    والموت شعراً أو انفعالاً بالشعر وتفاعلاً معه هو استجابة تفجرية من المتلقي موازية للتفجر الإبداعي ومساوية له في الطبيعة والجوهر، أي هي احتراق مطلق وتحول إلى ضوء نقي.. ومن يدري! قد تتحول الحياة إلى ضوء إذا ملأنا العالم شعراً.‏
    وكما تتجلى الحياة في الجسد يتجلى الشعر في اللغة، أي إن اللطيف يتجلى في الكثيف. والتواصل يتم بالجسد وعن طريق اللغة أو اللون أو الإشارة وشتى الوسائط الاصطلاحية الأخرى، وهي وسائط كثيفة تحتاج إلى شحنة عالية من الطاقة كي تصبح موصلة، وهي تمتص الكثير من الطاقة، وقد لا توصلها جيداً وكما نريد، وكل ذلك يجعل مرهفي الإحساس يشعرون بالوحدة التي قد تصل إلى حدود الغربة، وبالتالي ينكرون إمكان التواصل.‏
    ...‏
    والفن الحق، والشعر منه، كالزمان المطلق‏
    والزمان كلي لا يتجزأ، كل لحظة منه هي الأزل والأبد معاً، وهو يدور حول نفسه في المكان المطلق.‏
    والمكان كلي لا يتجزأ وهو يدور حول نفسه في الزمان.‏
    والزمان والمكان يتفاعلان فينجبان الحياة.‏
    والحياة تنجب الشعر.‏
    والشعر إذا سما صار حياة.‏
    ...‏
    يقول العاشق الشاعر:‏
    لست أول العاشقين ولا أجلّهم شأنا. أنا أسعى إلى الوصول لأنني عاشق. والعشق مرتبة يتساوى مستحقوها فلا تفاوت ولا تمايز. أما القائل: أنا عبد للمعشوق وأفخر بعبوديتي له، فهو لم يعرف العشق بل خيل له، العشق يحرر، والمعشوق يريد أنداداً ولا يريد عبيداً.‏
    أيها الشعراء! لا تشينوا شعركم بكلمات الاستجداء والتذلل. لقد خلق الشعر ليسمو بنا لا لنذلّه.‏
    الشعر أداتنا للوصول، فهل سنصل؟ وإذا وصل الشعراء إليه فهل سيوصلونه؟‏
    صموئيل بيكيت ينفي إمكانية التواصل لأن وسائل التواصل معدومة.‏
    ويرى بول فاليري أن التأليف قليل جداً في الشعر العالمي. فهو لا يرى الوصف والسرد من الشعر في شيء.‏
    ونرى أن المسألة نسبية والإطلاق مضر.‏
    ...‏
    وتبقى مسألة الطبع والصنع.. المسألة التي تتجدد مع كل جيل.‏
    يقول أندريه موروا: "إن العمل الفني الذي يُبالغ في إتقان صنعه هو عمل فني سيئ الصنع" (بول فاليري- تأملات في الفن- ص76).‏
    وللمسألة وجه آخر:‏
    الفن والفلسفة يلتقيان في المنشأ والغاية وتختلف وسائلهما التي هي الأخرى من نتاج العقل.. والاختلاف هنا نسبي.‏
    والفن والفلسفة، ومعها العلوم، نوعان متمايزان من الأسئلة غايتهما الكشف عن سر الكينونة.‏
    ويقال اصطلاحاً: أسئلة العقل أقرب إلى الفلسفة والعلم وأسئلة القلب أقرب إلى الشعر.‏
    وإليكم هذه الحكاية:‏
    رأى القدماء عيوب الإنسان فسألوا: هل يولد كائن نقي من عفونة الرحم؟‏
    وانتخى الآله زفس فأنجب ميدوزا من رأسه.. وكانت كما تعلمون.‏
    فلعن الناس رأسه وباركوا الأرحام حتى ان بعضهم قد عبدها.‏
    وفي الشعر‏
    قد تكون القصيدة التي تولد من الرأس أقل هفوات وأكثر إتقاناً. لكنها لن تكون شعراً.‏
    فالشعر قد يحبل به العقل، ولكنه يولد من القلب أو لا يكون.‏
    وسيبقى كالإنسان المولود من عفونة الرحم: جميلاً وعذباً لكنه غير كامل.‏
    وسيظل الكوكب الدري بعيداً بعيداً وسنبقى في شوق إلى الوصول.‏
    وسيولد المزيد من الجمال مع ولادة كل شاعر.‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح


      الحوار في الأزمنة الساخنةنظرة إلى المسألة الثقافة في العقود الأخيرة
      ساد الركود الحياة الثقافية زمناً طويلاً في ظل الحكم العثماني فألف الناس الركود وصارت الحركة توجع أجسادهم وأرواحهم، وتطاول الليل كثيراً فألفت عيون الناس الظلام وصار ضوء النجوم الخافت يؤلمها ويبهرها.. وحين دبت الحركة وارتفعت المشاعل وتعالت الأصوات داعية إلى النهوض للسير في موكب الشمس قال من لهم منفعة في بقاء الليل: "هذا خروج على ما تركه الأجداد" وزعم بعضهم أن فيه من الكفر ما فيه. ولكن الحركة ازدادت وأشرقت الشمس.
      حدث ارتباك وتردد وتخبط.. ثم تعالت صرخات ابتهاج وترحيب وصرخات ألم واستهجان.. حدث اندفاع إلى الأمام، وحدث انكفاء وانزواء، فتحت نوافذ فدخل الضوء والهواء وأغلقت نوافذ فحُجب الضوء وفسد الهواء، وتسارعت حركة المتحركين وزاد انطواء المنطوين فأدى ذلك إلى تطرفين متناقضين: تمسك بالقديم، بل بالبالي من القديم، قابله رفض مطلق وتدميري لكل قديم، حتى المتحرك فيه.
      ووجدت فئة عملت على أن تخرج المتزمتين إلى ضوء النهار برفق وأن تكبح اندفاع المندفعين إلى الأمام وكانت فئة قليلة..
      ومن ركود الراكدين، ومن حصافة الحصفاء، واندفاع المندفعين تكونت ملامح الثقافة العربية المعاصرة.
      كان سلاح الترجمة أحد الأسلحة الرئيسية في أيدي الداعين إلى التجديد والخروج إلى رحاب الثقافة العالمية.. ولم يكونوا الوحيدين الذين استعملوا هذا السلاح.. فلقد استعمله المحافظون غير المتزمتين وحتى بعض المتزمتين في مجالات ضيقة.. وكان أن انعكست ملامح الثقافة العالمية، على تعدد وجوهها ومدارسها، في ثقافتنا المعاصرة.. وكانت لذلك فوائد جُلّى، وكانت بعض المحاذير.
      كانت المجابهة شاملة واستعملت فيها كل الأسلحة، وكان ذلك انعكاساً طبيعياً للتوتر الاجتماعي- السياسي إذ دار الصراع الثقافي في جوهر الأمر حول الأمور الاجتماعية والسياسية أساساً. ولم يخلُ أي ميدان من المتطرفين. فإذا كان الداعون إلى التقدم الاجتماعي، مثلاً، يرون أن من عوامل التقدم خروج النساء إلى العمل على قدم المساواة مع الرجل، وإلى المشاركة في كل ميادين الحياة الاجتماعية فان المحافظين رأوا رأياً آخر يتلخص في أن مهمة المرأة الأولى هي العناية بالأسرة وبالتالي لا يجوز أن تشارك في الحياة الاجتماعية مشاركة واسعة لأن في ذلك مفسدة لها وللمجتمع.
      وانفعل بعض التجديديين وردوا على التزمت بعنف وكان شعارهم: شرف المرأة ليس في سروالها، بل في رأسها، وقيمتها الحقيقية في عملها الاجتماعي، ولن تكتمل إنسانيتها إلا بالعمل، ونسي بعضهم أن تحرر المرأة جزء من تحرر المجتمع ولا يتم بمعزل عن القضايا الأخرى.
      وانفعل المحافظون وانفعل المجددون.. وانعكس ذلك على الساحة الثقافية وكانت الأصداء داوية.
      نقل لنا رواد النهضة بعضاً من صور الحياة في الغرب، وحدثنا بعضهم عن حرية المرأة هناك.. وفي كتاب "الساق على الساق" لأحمد فارس الشدياق الكثير من تلك الصور.. ولكن الفارياق كانت ترافقه الفارياقة وكانت تحصي عليه حتى رغباته ومرامي نظراته، أو هكذا زعم.. أما فرسان الحلبات الجديدة المتطرفون فكانوا من عيار أثقل، لا من حيث الوزن الأدبي- الثقافي بل من حيث "كشف المخبأ" والمعذرة من الشدياق على استعمال عنوان كتابه في هذا السياق.
      لقد دعا الكثيرون إلى إخراج النساء من الحريم، وكان بينهم من حدد أماكن لهن في المعامل والمزارع والوظائف العامة وكل ميادين النشاط الاجتماعي، ورأى هؤلاء ضرورة تحرر النساء اجتماعياً أولاً ولم يبحثوا في قضايا الجنس علانية بل اعتبروا المسألة الجنسية من بين المسائل الأخرى.. وهكذا تمت تجزئة ميادين التحرر ووضعت بينها تمايزات وأولويات مع أن هؤلاء كانوا من المعتدلين في هذه المسألة.. أما المتطرفون، وفي إطار تجزئة المسائل التحريرية فكان شعارهم هو إخراج النساء من الحريم بأي ثمن، حتى ولو ذهبن إلى مواخير البرجوازية التي كانت بحاجة إلى سلع بشرية من هذا النوع.. وكثرت عند هؤلاء الصور الجنسية- الغريزية بل لقد أوحى لنا نزار قباني، وهو من معتدلي المتطرفين، وكأن السحاق إحدى قمم طموحات المرأة أو أحد أنواء عالمها:
      نحن امرأتان لنا قمم
      ولنا أنواء ورياح
      أشذوذ أختاه إذا
      ما لثم التفاح التفاح؟!
      وذلك بعد أن وصف السحاق بين امرأتين كان يختلس النظر إليهما.
      وظن آخرون أن تدنيس كل القيم "القديمة" أو رفع صفة القداسة عن ما هو غير مقدس في نظرهم مسألة أساسية أو هي جزء أساسي من المسألة الأساسية في المعركة ضد المحافظة التي أطلق عليها اسم الجمود حينا واسم الرجعية حيناً آخر.
      ولم يقتصر الأمر على نزار وشعره ولا على الشعر والشعراء وحدهم بل دخلت الأجناس الأدبية الأخرى هذا الجانب من المعركة، وكانت كتب ليلى بعلبكي وغادة السمان وكانت رواية الدكتور سهيل إدريس "الحي اللاتيني" وغيرها وغيرها.
      لقد أفرط الدكتور سهيل إدريس، على سبيل المثال، في تصويره الحسي لمحاولاته إشباع جوعه الجنسي فأغضب المحافظين وقالوا فيه وفي أصحابه ما قالوا، ولم يقتصر الأمر على المحافظين وحدهم، فصراحة الدكتور إدريس وكلامه المكشوف على الجوع الجنسي وحده دفع بعض التقدميين المدافعين عن الجياع إلى الطعام إلى مهاجمة روايته منكرين أن يكون للجوع الجنسي أي مكان ما دام الجوع الآخر، الجوع الحقيقي إلى الخبز موجوداً. وكان هذا تطرفاً من نوع آخر.
      يخيل لي وأنا أقرأ الخطوط العريضة لأدب تلك الفترة أن بعض المثقفين العرب، وربما غير العرب أيضاً، لم يعرفوا نبرة للحوار سوى نبرة "العياط" ولم يمارسوا سوى شد الغطاء كل إلى ناحيته حتى الغاية القصوى، وكأن الأمور الوسط والمناطق الوسطى في كل المسائل غير موجودة في نظر هؤلاء. فأصحاب المدرسة الاجتماعية، أو جلهم، لا يرون غير قضايا جوع الجسد وإلى الطعام وحده.. ولا يرون في حياة الإنسان الخاصة والعامة سوى "القاعدة الاقتصادية" وكذلك كانت حال أصحاب المدرسة النفسانية.. فهم يربطون تاريخ البشر، وحتى الملائكة بالعقد النفسية والجنسية منها في المكان الأول.
      وكانت الفئة القليلة من الذين يفكرون بهدوء ويناقشون بهدوء ويعملون بهدوء ومثابرة تتلقى الضربات من المتطرفين كلهم من محافظين وسواهم.
      وكان جل "الحوار" بين النظريات والمدارس يتم عن طريق النظر إلى حسنات "الذات" بعدسة مكبرة جداً، والنظر إلى حسنات الآخر بعدسة مصغرة جداً، أو بصيغة أخرى، كان حوار البحث عن الثغرات عند الآخر وتضخيمها وصولاً حتى نفي كل ما هو إيجابي والنظر إلى الحسنات عند الأنا وتضخيمها وصولاً إلى نفي كل ما هو سلبي.. فالآخر كله خطأ وأنا لا أعرف الخطأ ولا يمكن أن أعرفه..
      وحتى في الخندق التقدمي العلماني أو ما يفترض أن يكون العلماني وصل الخلاف حتى كسر العظم.. فكما ترجم "الماركسيون" الماركسية ولم يتمثلوها جيداً كذلك ترجم "الوجوديون" الوجودية ولم يتمثلوها جيداً، وقد يكونون ترجموها نكاية بالماركسيين.
      كانت المسألة مسألة رمي الآخر بأي سلاح يقع في متناول اليد. وجرى تصوير المسائل المتكاملة والمتفاعلة على أنها مسائل متناقضة ومتناحرة. وضاع العلم والمنطق بين أقدام المتحاورين باسم العلم والمنطق. أجل لقد استبدل قانون التفاعل بقانون التناحر، وكل ذلك تحت لافتات من العلم والمنطق والموضوعية والجدلية والوجودية وغيرها.
      أذكر أن أحد الأساتذة الأجلاء كان يهمس في أذني كلما التقينا: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" ثم يبتسم.
      وكنت أرد باسماً: "ولكنه ويا للأسف، لا يستطيع أن يستغني عن الخبز".
      وكنت أفهم مداعبته جيداً. وكان يفهم قصدي جيداً.
      وكان الكثيرون من المتحاورين يقولون: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" كي يسارعوا إلى البرهنة على أن الإنسان لا يحتاج إلى الخبز.. وخصوصاً إنسان الفن والأدب..
      وكان آخرون يرددون قول ماركس: "الإنسان يحتاج إلى الطعام أولاً، ثم يفكر ويتفلسف" أو ما في معنى هذا الكلام، كي يسارعوا إلى الإيحاء للآخرين بأن الإنسان لا يحتاج إلى أن الخبز ممثلاً للخيرات المادية وحدها.
      أجل، لقد تناول كل طرف هذه العبارة أو تلك من المنهل الفكري الذي كان ينتمي إليه، وقد استعمل بعضهم تلك العبارات في غير المعنى الذي وضعت له..
      وكادت "الطاسة" تضيع.
      وتصادمت التيارات.. انزوى المحافظون واحتضنوا الماضي بحرص ورخموا عليه كما ترخم الدجاجة على البيض حالمين بأن تفقس من هذا البيض نسور الأزمنة المجيدة الغابرة، وأوصدوا الأبواب والنوافذ جيداً كي لا تستغفلهم نسمة باردة وتلامس البيض فيفسد.
      واندفع االمحدثون أو "المحداثيون جيداً" إلى الأمام سابقين الزمن العربي الراهن بمسافات فلكية.
      أجل، لقد ذاب هؤلاء عشقاً بالماضي وركوده، وذاب أولئك عشقاً بالغرب وحضارته.
      وكما انقسم المحافظون إلى فئات كذلك انقسم المحدثون إلى فئات، بل صار كل واحد منهم مدرسة بذاتها، بل حداثة بذاتها وعصراً بذاته.
      وكان المقلدون والمقلدات "أكثر من الهم على القلب" على هذا الرصيف أو ذاك.. وكانوا يسمون تقليدهم الغرب وتقليد بعضهم بعضاً حداثة الحداثة.
      وحيث يكون التقليد تكون الرتابة.. فشتان ما بين المبدع والمقلد.
      واستخدمت الأطراف المتنازعة سلاح الترجمة لأهداف شتى، المحافظون الوسطيون يترجمون الأدب الكلاسيكي الذي يناسب "محافظتهم" ويشط الحداثيون وينفون كل "القيم القديمة" ويترجمون ما تنتجه "دكاكين الموضة" في الغرب.. ومن يستطيع أن يلاحق كل "الموديلات" التي تنتجها مقاهي المدن الأوروبية ودكاكين الموضة فيها؟!.
      المحافظون المتشددون يعتبرون الخروج على "الأساليب المتبعة" كفراً أو كالكفر، والشكلانيون المتطرفون يرون الأساليب المتبعة قيوداً لا تليق بالإبداع الذي يجب أن ينطلق حراً من كل قيد.
      وأصيب بعض النتاج بفقر دم خطر، وصار بعض آخر منه إلى ما يشبه هلوسات المصابين بالعصاب أو بالحمى..
      وتلاشت الحدود بين الأجناس الأدبية ودخلت الإشارات التي تميز الرياضيات إلى القصيدة الحديثة وبنيت قصائد كثيرة وفق الأشكال الهندسية الاقليدية.. فكتبت القصيدة المثلث والقصيدة الدائرة والقصيدة المعين وغيرها.
      ونبتسم الآن ونحن نراجع حساب المرحلة الماضية.
      لقد تحول الحوار مع الغرب إلى تقليد للغرب.. وأي غرب! إنه الغرب الاستهلاكي في أحيان كثيرة.
      وتحول الماضي المّوار بالدينامية إلى وثن أو ما يشبه الوثن ولم تكن غلة المحافظين بالوفيرة ولم يبق لهم من كبير أثر في الحياة الثقافية المعاصرة. إن ينابيع الإبداع الحقيقية هي التي تنبع من الماضي وتسير في الحاضر لتصب في المستقبل.. وقد تمسكوا بالماضي وحده فخرجوا من الحاضر ولم يتطلعوا إلى المستقبل.
      وإذا نظرنا إلى بيادر الشكلانيين فسوف نجد الكثير من القش اليابس تطمره الأيام بغبار رمادي.. لقد أفرطوا في الطيران إلى المستقبل متناسين الماضي والحاضر وغير مزودين بزاد الأزمنة.. فتعبوا كثيراً.. وأما الغلة فكانت هواء في الغالب.
      وعلى الرغم من كل ذلك كان تصادم التيارات وتداخلها مفيداً كما أشرت سابقاً، فبعد الجري الطويل في حلبات التباري يقف المتبارون لمراجعة الذات، ولقد اقتنع الكثيرون بأن الإبداع ليس قوالب صبها الأقدمون مرة واحدة وإلى الأبد.
      واقتنع الكثيرون بأن الإبداع ليس هلاماً أو هواء لا ضابط له، ويبدو أن صراخ الجميع بآرائهم لم يكن بلا طائل.
      فلقد أدرك "الأخلاقيون جداً" المتمسكون بالماضي جداً، أو بقشور الماضي، أن سلفنا الصالح جداً لم تكن لديه عقدة الجنس، وأن مسائل الجنس ليست حرماً مقدساً لا يجوز الوقوف على عتبته.
      وأدرك الاباحيون جداً أن الإنسان ليس مجموعة من العقد الجنسية وحسب بل هو كائن مجتمعي يحتاج إلى الخبز والجنس والفن والأخلاق وشتى الحاجات والفضائل الإنسانية.
      ويستمر الحوار وسوف يستمر.. ويتم التقدم عبر التناقض إلى الأمام والأعلى.. ولكنه تقدم شاق لولبي وغير سريع.
      لقد أطلق الطموحون المستعجلون جداً سهامهم التجديدية إلى الأعلى فارتفعت ثم سقطت.. لقد شقت الهواء إذ صعدت ولم يكن في وسع الهواء أن يحملها طويلاً لأنه هواء.
      والتقدم الثقافي يبنى كما يبنى الهرم.. وبلوغ الذروة السامقة فيه يحتاج إلى قاعدة عريضة كما تقول الحكمة القديمة، والقاعدة العريضة هنا هي مؤسسات ثقافية اجتماعية تلبي حاجات العصر الثقافية وتمد القوى المبدعة بكل ما تحتاج إليه. فحتى الإبداع الفردي ليس فردياً تماماً.
      إن الحوار مع العالم ضروري. والحوار الثقافي- الحضاري أخذ وعطاء.. والإفادة من خبرة الآخرين لم تعد موضوع نقاش.. وتبقى مسألة أن ندرس تربتنا الثقافية جيدا وأن نحسن الغرس ورعاية الغراس، وأن نولد غراساً فريدة متميزة نقدمها لبساتين الآخرين كي تزدهر حديقة العالم الثقافية المشتركة.
      لقد بدأ رواد النهضة الثقافية العربية حواراً جاداً فيما بينهم ومع العالم.. ونطرح اليوم مسألة متابعة ذلك الحوار وتطويره عمقاً واتساعاً.. فهل نفعل ذلك؟.
      إن الركود خطر بلا شك ولكن الحداثة الحقيقية ليست قفزاً من فراغ إلى فراغ.
      إنها مسيرة جادة وشاقة.. وحوارنا مع من سبقونا لن يكون حوار خصومة.. إنه دراسة تفيدنا ولا تفيدهم.. فنحن لن نستطيع " إصلاح" ماحدث ومضى لكننا نستطيع الإفادة من حسناته وسيئاته غاية الإفادة.
      إن ورثة المدارس القديمة موجودون على الساحة الثقافية اليوم.. فهل نعود إلى الوراء قليلاً مع كل شوط كي نندفع بقوة إلى الأمام كما يفعل العداؤون أم نبدأ الشوط الجديد من المواقع الجديدة؟.
      لكن القضايا الجديدة مرتبطة بالقديمة من حيث الجوهر.. إن نهر الثقافة يتابع جريانه.. وما فاض منه إلى هذا ا لجانب أو ذاك لم يكن هو الذي حدد سمته ومجراه.
      صحيح أنه يتقدم نحو آفاق جديدة لكنه يتقدم مدفوعاً بقوة أصالته التاريخية وعلى تربة واقعنا الحبلى بالألم والأمل.
      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

        الواقعية الاشتراكية بين الميكانيكية والتحريف
        الفكرة الأساسية لمفهوم الواقعية الاشتراكية هي في كون الواقع له الأولوية في الوجود وفي كون النشاط الفكري والفني انعكاساً، من خلال الذات الفعالة، لهذا الواقع المادي الذي ليس بحاجة لأي نشاط ذهني لكي يوجد- كما تقول الفلسفة.‏
        وميزة أخرى للواقعية الاشتراكية هي في كونها تستند إلى النظرية العلمية بأقسامها المكونة الثلاثة وفي تبنيها في هذا الإطار لمقولة صراع الطبقات القائم فعلاً والذي ترى فيه المحرك الأساسي والعامل الفعال في تغيير البنى الاجتماعية.‏
        تلك هي مرتكزاتها الأساسية وخلفياتها الفكرية وقواعد انطلاقها وحسب، أما الآفاق التي ترودها والأعماق التي تغور إليها والقمم التي تسمو نحوها فمداها الحياة بكل ما فيها.‏
        إن الظاهرة الواقعية، طبيعية كانت أو اجتماعية أو نفسية، فائقة التعقيد كثيرة التشابك ومن هنا تتولد الإمكانية لأن تتمحور حولها آلاف ا لصور الأدبية دون خشية الوقوع في أحادية الصيغة أو أحادية شكل الأداء الفني.‏
        والصيغة الفنية، على الرغم من صدقها، وعلى الرغم من كونها انعكاساً لظاهرة واقعية، تختلف عن الصيغة العلمية الصارمة. فقد يتحدث عشرات الأدباء الواقعيين حول ظاهرة واحدة ويكونون صادقين لفنهم دون أن تأتي صيغهم الفنية واحدة في حين يتوصل علماء من أمم مختلفة إلى صيغة واحدة لدى بحث ظاهرة معينة بحثاً علمياً. وفي هذا بالذات تكمن ميزة الأدب الواقعي والفن الواقعي عامة واستقلالهما الذاتي النسبي.. على الرغم من عدم وجود جدران صماء بين الأدب والفن وبقية العلوم وخاصة العلوم الإنسانية.‏
        الصيغة العلمية ليست باردة وليست حارة، إنها صيغة علمية وحسب، أما الصيغة الفنية والأدبية المبدعة فلا يمكن أن تكون كذلك.. الصيغة الفنية ابنة الانفعال المتقد والخيال المجنح الذي جذوره في أرض الواقع وذؤاباته لا تطال إلا بخيال مجنح.‏
        العلم والفلسفة يخدمان الأدب والفن ويغنيانهما ولكنهما لا يطلبان منهما التخلي عن استقلالهما النسبي.. فالفن الذي يستغني عن استقلاله النسبي لا يبقى فناً.‏
        والفن العظيم ليس علماً وليس فلسفة ولكنه لا يمكن أن يكون فناً وعظيماً إذا قام على أسس منافية لمعطيات العلم والفلسفة أو متعارضة معها.‏
        أما تنوع الصيغ غير المتناهي فكامن في جوهر الإبداع. من رأى وردتين هما وردة واحدة؟ من رأى امرأتين متشابهتين تماماً؟ ذلك هو جوهر الإبداع الحق الذي يقوم على أسس عامة واحدة ثم يعطي، كالحياة، صوراًً فريدة متميزة لا حصر لها، فيها الصفات النوعية للكائن، وفيها التفرد والملامح الذاتية الخاصة.‏
        كان لابد من ذكر هذه "المسلمات" الأولية قبل البدء بمناقشة بعض ما يكرره أولئك الذين يهاجمون الواقعية عامة والواقعية الاشتراكية خاصة متجاهلين أولياتها أو معتبرين، لسبب نجهله، المنطلق النظري كامل العملية الإبداعية التي تختلف عن النظرية في كونها جنساً آخر من النشاط الإبداعي الإنساني.‏
        فما الذي يريده السادة غير الواقعيين بالتحديد؟.‏
        إن من يتتبع ما يكتب في هذا الصدد يرى، دون كبير عناء، وخلف ركامات من الصيغ المرائية والأقنعة التي لم تعد كافية، أن الهدف الأول هو التشهير بالواقعية الاشتراكية مهما كلف الأمر.. ولماذا؟ ذلك لأن السادة النقاد غير الواقعيين يرون "ثغرات" في المنهج الواقعي! وهم لا يطيقون، وهنا يتحمسون جداً، رؤية الثغرات ومن ثم السكوت عليها.. ولهذا يحملون معاولهم العتيقة، وينهالون ضرباً على الصرح العظيم.. فهم، وهذا غاية العجب في أمرنا معهم، يسدون "ثغرات" المنهج بمحاولة هدم صرح المنهج وبعثرة حجارته..‏
        كنا نود أن نقول لهم: إنكم تجهدون أنفسكم دون جدوى أيها السادة! ولكننا نعلم يقيناً أنهم لا يفعلون ذلك دون جدوى تماماً. قد لا تكون الجدوى فنية، أو لوجه الفن الخالص كما يقولون. ولكنها جدوى على كل حال.‏
        وما هو البديل الذي يطرحونه؟.‏
        البديل هو كل شيء ما عدا الواقعية الاشتراكية!‏
        فلنتذكر أن الجواب الصحيح لكل مسألة حسابية هو واحد بينما الإجابات الخاطئة لا نهاية لها.. وليست المسألة هنا، طبعاً، على مثل صرامة المسائل الحسابية.‏
        ثم فلنسأل: وهل هناك فن منفصم تماماً عن الواقع ولا تقوم بينه وبين الواقع أية صلة؟ إن واقع تاريخ الفن والأدب يظهر لنا العكس تماماً. فالفنون جميعاً وكذلك العلوم جمعياً ذات منشأ واقعي.. بل وأكثر من ذلك.. كانت ذات منشأ نفعي مباشر.. ما القضية إذن؟‏
        من أين، وإلى أين؟ من الواقع إلى السمو به أم من الوجه الآخر البغيض للواقع ونحو مزيد من الانحدار؟ أم ثمة موقف محايد يترك موسى وربه يقاتلان وحدهما؟‏
        الفن العظيم هو فن سام أبداً، ونحن مع الفن العظيم أبداً لأنه يسمو بالإنسان أبداً. فما معنى الالتزام السياسي والحزبي في الأدب والفن إذن؟‏
        نحن نعيش مرحلة تاريخية محددة تقوم فيها صراعات ضارية وحاسمة والالتزام السياسي والحزبي هو وسيلة المناضلين بالفن وسواه لمواجهة هجوم أعداء التقدم الإنساني على حقوق الإنسان الأساسية وعلى إنسانية الإنسان وسموه، وبالتالي على الفن العظيم الذي لا مبرر لوجوده سوى السمو بالإنسان. أليس ثمة وسيلة أخرى؟ كل الوسائل الإنسانية مفيدة، ولكن الوسيلة الأكثر جدوى وفاعلية للرد على هجمات الأعداء المنظمين أحسن تنظيم هي العمل المنظم لحماية الذات ومن ثم الانطلاق صعداً.. ليس الفن مسؤولاً عن نشوب الصراعات ولكنه مسؤول عن الإسهام بقسطه في حسمها لصالح التقدم الإنساني، وتلك بدهية يكاد التقدميون في جميع أنحاء العالم يملون من تردادها.. ومع ذلك يظل السادة غير الواقعيين يتجاهلونها بمكابرة لا تقوم على أساس، وبعناد في غير محله.‏
        أين هي الميكانيكية وأين هو التحريف في هذا المجال؟‏
        الميكانيكية هي في الزعم أن العمل الفني هو انعكاس للواقع، كما في المرآة، بحيث لا يبقى أي دور للذات الفاعلة، وحيث يلغي العام الخاص تماماً. وتتجسد على الصعيد السياسي في شعار" من ليس منا فهو ضدنا" وفي الدوغماتية وضيق الأفق والفجاجة.. أما التحريف فشعاره السياسي: "من ليس ضدنا فهو منا." وعلى الصعيد الفني- الأدبي يبالغ التحريفيون في دور الذات، وكأنها ليست نتاجاً مجتمعياً، مقللين إلى أقصى حد من دور العام لصالح الخاص متناسين العلاقة الديالكتيكية القائمة بين العام والخاص.‏
        والميكانيكية والتحريف يشوهان أصالة العمل الفني، والواقعية تعني الأصالة الحقة.‏
        والأصالة هي النمو الطبيعي في البيئة المكانية في مرحلة محددة ووسط ظروف المناخ بكل ما يهب عليها.. الأصالة ليست تعصباً شوفينياً وانغلاقاً على الذات وليست كوسموبوليتية. "الكوسموبوليتي صفر أو أ سوأ من الصفر" كما يقول توريجينيف. وكذلك لا يستطيع التعصب الشوفيني أن يصنع فناً عظيماً يحمل سمات بيئته وعصره والأصالة هي ذلك النبع الذي ينطلق من منبع الحياة سائراً إلى اللانهاية عبر الزمن وفوق أرض بعينها ليصب في خضم الإنسانية بما يحمله من طعم خاص أكسبه إياه مجراه الخاص.‏
        والأصالة الحقة، الواقعية الحقة، هي المعاصرة بمفهومها العلمي. والمعاصرة هي الجسر الذي امتد إلينا من الماضي وهي الجسر الذي ينطلق عبرنا إلى المستقبل.‏
        لقد حاول أجدادنا السيطرة على العالم بوسائلهم الخاصة ونظروا إليه من خلال مستوى تطور وعيهم الخاص، لقد أورثونا الكثير من الحقائق والكثير من الأوهام. ولقد أوجدنا ونوجد كل يوم وسائل خاصة للسيطرة على العالم ونغني ميراثنا من الحقائق ونتخلى عن الكثير من الأوهام.ونزداد تقدماً على طريق تملك العالم التي لا تنتهي.. إن نظرتنا إلى العالم تزداد عمقاً واتساعاً وسمواً وهذا ما يجد انعكاسه في الأدب والفن الواقعيين أيضاً.‏
        وقد يرد سؤال: ألا نقع في أوهام جديدة؟ قد يحدث ذلك.. والمهم أن نسعى بإخلاص إلى اكتشاف المزيد من الحقائق.. المهم هو اكتشاف حقائق جديدة لا نجاح كل منا في إيهام الآخر بصواب رأيه.‏
        والمعاصرة لا تعني التخلي عما أبدع سابقاً والانطلاق من الصفر كما يزعم العدميون.فلا يمكن لشيء، أي شيء، أن يولد من عدم، فالمعاصرة هي إعادة خلق جديدة للعالم وفق المعطيات الجديدة. والمعطيات الجديدة نوعياً هي بنت المعطيات القديمة التي تجاوزتها بعد أن ولدت في رحمها. وكل إبداعات عصرنا الجديدة لن تكون أكثر من درجة، درجة محدودة في إطار الزمان والمكان، في سلم التطور الحضاري غير المتناهي، درجة تستند إلى ما تحتها وتقوم بإسناد ما يولد منها ثم يعلوها.‏
        الثورة التي ستدمر كل ما أنجز قبلها لن تقوم أبداً. والمراوحة في المكان نكوص على درب الحضارة الصاعد دوماً. فالتطرف اليميني الجامد والتطرف اليساري المدمر يكادان يتساويان في عدم معقوليتهما وعدم انسجامهما مع تطور الفن والأدب.‏
        لقد استخدم كل من الكتاب والشعراء العظماء اللغة بطريقة خاصة، ولكن أياً منهم لم ينف لغة الذين سبقوه ولا طرقهم الخاصة. وكل عمل أدبي متميز هو اغناء للغة وتطوير لها ولكنه ليس خلقاً للغة.. فاللغة موروث اجتماعي هو نتاج تطور حضاري دام قروناً ولا يمكن إيقافه.. واللغة وسيلة تفاهم اجتماعية ومستودع لاختزان الثروات التي يبدعها الشعب الذي يستخدم تلك اللغة وكل ما يترجم إليها من إبداعات الشعوب الأخرى، اللغة تطرح ما يبلى منها ببطء وتغتني بالجديد الضروري ببطء أيضاً والبطء هنا نسبي.‏
        والواقعيون يأخذون هذه الاعتبارات في الحسبان حين يسجلون تحفظاتهم على ما يجري من "مغامرات" لتهشيم اللغة ومما يسميه بعضهم أحياناً "ثورات شكلية" ومن محاولات تجاهل القواعد.. نحن لا نؤمن بوجود فن لا قواعد له. ونحن ندرك أن القواعد وحدها لا تصنع فناً.. والزعم بإمكانية القيام "بثورة في الشكل" زعم فيه الكثير من المغالاة والكثير من اختلال المنطق. فليس ثمة شكل مجرد.. كل شكل هو تجسيد لشيء.. واللاشيء لا شكل له بتاتاً.‏
        هذا لا يعني بتاتاً أن الواقعيين يتحفظون من التجديد الأصيل، فالواقع الحياتي المتجدد دائماً يفرض صيغاً جديدة أصيلة دائماً ويفرض تطويراً مستمراً للأسلوب.‏
        أن الفهم الميكانيكي المبتذل للواقعية هو ما أوجد الزعم بأن الواقعية تفرض أحادية الأسلوب أثناء معالجة ظواهر الحياة المحددة، هذا إذا افترضنا أن الذين طرحوا هذا الزعم كانوا حسني النوايا، ونحن نشك في كونهم جميعاً كذلك، فلقد زعم أعداء الاشتراكية السياسيون أن الاشتراكية تعني أحادية "الملعقة وأحادية الصحن" أي أن الناس جميعاً في ظل الاشتراكية يأكلون بملعقة واحدة ومن صحن واحد، وكما رأينا الاشتراكية تعطي الملاعق والصحون وأجود الأطعمة وكل الثروات الثقافية لجميع الذين كانوا محرومين منها فقد رأينا أن الواقعية الاشتراكية قد أطلقت الملكات الإبداعية للمؤمنين بها وسلحتهم بفهم أعمق للحياة والواقع. ولقد أبدع عباقرة الواقعية الاشتراكية أعمالاً عظيمة فريدة في الفن والأدب.‏
        كيف أمكن ذلك؟ كان الأحرى أن نسأل وكيف لا يكون الأمر كذلك؟ فظواهر الحياة الواقعية فائقة الغنى والتنوع ولكل مبدع زاوية نظر محددة وله أيضاً ذاته الفردية التي تلتقي مع ذوات الآخرين بميزاتها العامة وتتميز عنها بسمات منفردة. وزاويا النظر المحددة هذه والسمات المفردة هذه هي التي تفترض التنوع غير المحدود للصيغ الفنية في عملية انعكاس الظاهرة الواحدة في أعمال فنية.‏
        والواقعية الاشتراكية، كالنظرية العلمية التي تستند إليها، ليست نظرة جامدة إلى الحياة بل هي تنظر إلى الحياة والظواهر نظرة ديالكتيكية، أي في حالة حركتها الدائبة التي ليست الحركة الميكانيكية في المكان إلا أكثر أنواعها بساطة.. وحركة الواقع الدائبة هذه وتطوره الذي لا يتوقف، وحركة الذات المبدعة العاكسة لهذا الواقع والفاعلة فيه والمنفعلة به، وتطورها الدائب واغتنائها المستمر، هذه الحركة وهذا التطور في الواقع والذات هما السبب الكامن وراء استحالة أحادية الصيغة الفنية. ليعبر كل منا كتابياً عن فكرة معينة أو عن ظاهرة معينة ثم فليطو ما كتبه وليضعه في مكان ما وليحاول بعد فترة وجيزة أن يعبر أدبياً عن الفكرة ذاتها أو الظاهرة ذاتها ولنر أن كنا قادرين على التعبير عنها بالصيغ ذاتها التي كتبناها في المرة الأولى، لا يجوز أن تصبح هذه التجربة اختباراً للذاكرة.. فنحن نقصد من خلالها محاولة إعادة خلق اللحظة الإبداعية أو تكرار لحظة الخلق واستعادتها. إن كل صيغة تولد في حالة معينة من التوتر الذهني وتكون دائماً موضع أخذ ورد في الذهن قبل إقرارها وكثيراً ما تقود إلى تداعيات ذهنية قد تكون، أحياناً، متعارضة مع الصيغة ذاتها أو خارجة على الموضوع الذي نركز الذهن على تجسيده عملاً فنياً.. وبسبب هذه الاعتبارات أيضاً نرى شبه استحالة تكرار الصيغة الفنية بذاتها.‏
        إن ما يلفت النظر، في الواقع، هو ما نراه من تشابه وتقارب في صيغ أصحاب "الثورات" الشكلية وفي "أجوائهم" وسبب هذا التشابه هو أنهم كانوا، في أغلبهم، مترجمين ومقلدين لتجريدات ذهنية نبتت اصطناعياً في مجتمعات، بل على وجه التحديد في أوساط فئات غريبة. والتقليد الذي هو في أحسن حالاته مسخ للإبداع، يقود دائماً إلى تشابه أجواء المقلدين للتجريدات وصيغهم.. ولنتذكر في هذا المجال الوجه الآخر للمسألة.. كلنا يعرف أن ناظم حكمت وبابلو نيرودا على سبيل المثال، من مدرسة فكرية واحدة، بالرغم من ذلك نرى اختلاف الصيغ والأجواء التي أوجداها. وهذا ما يؤكد من ناحية أخرى أن العمل الإبداعي الحي لا يمكن أن يكون نسخة طبق الأصل لأية ظاهرة أو لأي عمل إبداعي آخر، فالعمل الإبداعي هو دائماً متفرد وأصيل.‏
        قد يكون بعض ما أوردته من الأوليات التي يكثر الواقعيون الاشتراكيون من تكرارها في الرد على منتقدي الواقعية الاشتراكية.. إنها، فعلاً، أوليات معروفة جيداً وفي هذا تكمن دهشتنا لما نراه فيما يكتب من انتقادات هي في جوهرها تشويهات مختلقة للواقعية الاشتراكية.‏
        وبعض الكتاب مثلاً يهاجمونها لأنها "مستوردة"حسب زعمهم. وهم يحشدون في الرد عليها كل ما قاله خصومها من أدباء ونقاد وسياسيين في جميع أنحاء العالم ومن مختلف المدارس الأدبية التي لا نعرف عنها أكثر من أسمائها أحياناً، وهم لا يرون في ذلك استيراداً. وأنا لا أعرف إن كانوا يعتبرون نظريات اقليدس ومسلماته الهندسية أو غيرها من النظريات العلمية "مستوردة" ويقفون منها هذا الموقف العدائي علماً بأن الواقعية تقوم في أساس تراثنا الأدبي. إن كل من يقرأ شعرنا، منذ الجاهلية وحتى عصرنا الراهن، يرى وجه الواقعية المشرق يطل من أجمل أعمال أسلافنا الإبداعية.‏
        ويتبنى بعضهم وجهة نظر البير كامو المعادية للواقعية الاشتراكية. يقول كامو: "إن الموضوع الحقيقي للواقعية الاشتراكية هو بالضبط ما لم يصبح واقعاً بعد، إنه تناقض فاضح، وعلى كل حال، فتعبير "الواقعية الاشتراكية" بحد ذاته تعبير متناقض. إذ كيف يمكن أن توجد واقعية اشتراكية ما دام الواقع بمجمله لا يزال غير اشتراكي".‏
        لقد طرحت الماركسية مقولة التشكيلات الاجتماعية المختلفة وصيرورة الأدنى منها إلى التشكيلية الاجتماعية الأرقى. ولقد برهنت على أن التشكيلة الجديدة الأرقى لا تولد في الفراغ بل في رحم التشكيلة القديمة الأدنى. وفي أدب كل أمة من الأمم، في إطار التشكيلات الاجتماعية القائمة على التمايز الطبقي، أدبان، أدب الذين تحت وأدب الذين فوق على سلم التفاوت الاجتماعي، وللطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي مثلها العليا الاشتراكية وطموحاتها وفكرها الثوري وتنظيمها السياسي الذي يقودها إلى القضاء على الرأسمالية وبناء الاشتراكية. إن نبتات الاشتراكية تنمو وتترعرع على أرض الرأسمالية وحتى على أرض ما قبل الرأسمالية في بلدان العالم الثالث في أيامنا. و"الأفكار حين تتبناها الجماهير تصبح قوة مادية" فما الغرابة بعد هذا في أن تترسخ جذور الواقعية الاشتراكية في تربة المجتمع الرأسمالي الذي لم يصبح اشتراكياً بعد؟ لقد ولدت نظرية الاشتراكية العلمية في قلب المجتمع الرأسمالي وكانت انعكاساً لظروف اجتماعية وطبقية محددة. إنها الانعكاس الأدبي والفني لهذه الظروف.. إن الواقعية الاشتراكية لم تولد من العدم في المجتمع الرأسمالي ومن هنا نصل إلى القول إن وجهة نظر كامو قد تميزت بالنظرة الميكانيكية.‏
        وثمة "وجهات نظر" أكثر فجاجة وأكثر ابتذالاً، منها، مثلاً، ما طرحه أحدهم في افتتاحية ملحق ثقافي لإحدى صحفنا المحلية. لقد أورد صاحبنا القضية على الشكل التالي حرفياً: "خذوا مثلاً: شاعر يكتب في الحب يسأله استظهار المثولات: "أين" في شعرك، المرأة الأم، والزوج، والعاملة، والفلاحة؟" كأنما الكتابة عن حصار الحب، الذي هو حصار الإنسان، الذي هو اختناق الحياة في عصر الهواء الفاسد.. لا يكفي. كأنما على الشاعر وفق مقولات الاستظهار، إن يصف يدي حبيبته الملطختين بالطين أو بالروث. وعن شعرها المنزرع بالقمل أو بالغبار‍؟".‏
        أنا لا أعتقد أن أحداً قد سبق له وابتذل القضية إلى هذه الدرجة.. فإذا صدقنا أن أحداً قد طلب من صاحبنا المشار إليه أعلاه أن "يصف" أو حتى أن يتغزل بيدي "حبيبته الملطختين بالطين أو بالروث، فلسوف نمضي معه إلى آخر الخط ونسأله بدورنا: إذا كانت "حبيبتك" على ما ذكرت فهل ستصف غيرها وتتغزل بثالثة فتكون لك واحدة للحب وأخرى للوصف وثالثة للغزل؟ الشاعر الحق هو من يتغزل بحبيته أو لن تكون حبيبته؟ أم أن الحب "الجديد" شيء غير الحب؟ ثم إن الواقعية لا تطلب منا التغزل بالواقع البشع والمذل لإنسانية الإنسان والمهشم للحب بل تدعونا إلى محاربة هذا الواقع وليس إلى الهرب من هوائه الفاسد إلى حيث يهرب الهاربون.. أليس مأساة حقاً أن تظل في عالمنا وبين ظهرانينا حبيبة "شعرها منزرع بالقمل" ونظل "شعراء ثوريين" نتغزل بخيط ينحل في جورب بورجوازية أو بتلك التي تغسل جلدها يومياً بكمية من الحليب تطعم عدة أطفال ممن يموتون جوعاً في مختلف أنحاء العالم.. ثم إننا لا نرى أن ذكر "المرأة الأم" والزوج، والعاملة، والفلاحة" في الشعر يتناقض مع "الحب المحاصر" بل نرى في ذلك محاولة حقة لفك الحصار عن الحب والإنسان..ليت كل منتقدي الواقعية على مثل هذه السذاجة والفجاحة إذن لهان الأمر، ثمة في الواقع نقاد للواقعية أكثر دهاء وثمة محرفون أذكياء أيضاً، خذ مثلاً: أحد المحرفين الكبار، إنه يورد أسماء عدد من كبار الكتاب ممن انتقدوا بعض عيوب الرأسمالية ثم يطرح السؤال على الشكل التالي: هل هؤلاء ضدنا؟ ثم يتوصل إلى استنتاج غريب حقاً على مثله فيقرر: ثمة إذن واقعية بلا ضفاف؟ هكذا يلغي التناقضات والصراعات الطبقية والاجتماعية وانعكاساتها في الأدب والفن ولكن الضفاف ستظل قائمة يا سادة ما دامت الدنيا قائمة على متناقضين: على بيغن ودير ياسين: على فيتنام وأميركا.. على زنوج أميركا واحتكارييها..‍ ولن يزيل هذه الضفاف سوى حل التناقض الأساسي في عصرنا.‏
        كثيرون هم الذين ينتقدون عيوب الرأسمالية عفوياً ونحن نطرح السؤال على الشكل التالي: وهل هؤلاء العفويون منا نحن أصحاب الموقف؟.. عفويون وأصحاب موقف.. هنا جوهر المسألة التي يحاول طمسها المحرفون حين لا يقدرون على طمس ما هو أكبر منها.‏
        والموقف هو الآخر إحدى القضايا التي يهاجمون الواقعيين الاشتراكيين بسببها. الموقف، يصيحون، هو حدود معينة، هو التزام، والالتزام قيد والفن عصفور حر، حر تماماً، حر أكثر من اللازم وهو، وهو.. إلى آخر ما لديهم وليس ما لديهم بالقليل.. وهم دائماً ينسون أو يتناسون الأمر الجوهري.. ينسون أن الموقف قضية ولا قيمة للفن من دون قضية..‏
        كيف يكون الموقف قيداً؟ وهل يرى صاحب القضية المخلص لها نفسه مقيداً؟ نحن نعرف الكثيرين ممن أرغموا في ظروف قاسية جداً على إشهار التنكر لقضيتهم فظلوا مقيدين نفسياً ومعنوياً بالاشهار الذي أعلنوه قسراً لينقذوا أرواحهم وأرواح أولادهم ونسائهم وليس بالقضية.. أو إذا كانت القضية قيوداً فمن أرغم الشهداء من المناضلين على الموت في سبيلها؟.. ثم إن الفن العظيم حقاً هو قضية كبرى بحد ذاتها، لأنه انعكاس لقضية الإنسان العظمى. ولا يمكن أن يكون الفنان العظيم عدوا للإنسان في إبداعه.‏
        إن الالتزام بقضية كبرى كالنضال في سبيل السلام والاشتراكية في زمن يسعى فيه أعداء الإنسان متكالبين لاعادة فرض سيطرتهم على الشعوب، ويكدسون جبالاً من الأسلحة المدمرة ويعدون لتفجير كوكبنا الصغير الجميل، وإن النضال ضد الجوع والفقر والجهل لا يمكن أن يكونا قيدا بل هما من أنبل الاختيارات الحرة في عصرنا.. وأي قيمة لعمل فني يتجاهل قضايا عصره الحقيقية العظمى.‏
        ثمة مسألة شكلية لابد من الالتفات إليها: كيف يمكن أن تكون الواقعية الاشتراكية ذات ضفاف من جهة وغير محددة للكاتب وغير محدودة الأغوار والأمداء من جهة أخرى.‏
        ما كان يجب تبسيط المسألة إلى هذا الحد لولا الخوف ممن يأخذون بالحرفية فيتجاهلون الجوهر ويتسقطون الهفوات الشكلية البسيطة ليجعلوا منها خطيئة مميتة. إن القضية الكبرى، قضية تحرير الإنسان من العبودية ومن لعنة الاستغلال، قضية تحطيم كل ما يعيق انطلاقته المجيدة على دروب الرقي الذي لا ينتهي، هي ضفاف الواقعية عامة والواقعية الاشتراكية خاصة. إن الوقوف على الطرف الآخر واجتياز الخندق، هو انتقال إلى الضفة الأخرى. فالضفة هنا هي الخندق الفاصل ما بين الإنسان وأعدائه، لا تقيم الواقعية الاشتراكية ضفافاً مصطنعة على الجبهة الإنسانية الكبرى وإنما هي موقف في الخندق المواجه لأعداء الإنسان.. ونحن لا نرى أي تناقض هنا، كراهية أعداء الإنسان ليست قيدا لحب الإنسان بل قد تكون الوجه الأكثر اشراقاً لهذا الحب حين تأتي ساعة الحسم.. والجبهة الإنسانية التي يخوض إنسان عصرنا النضال في خنادقها واضحة المعالم ومحددة- حددتها سمات عصرنا الأساسية التي يعرفها المناضلون جميعاً. نحن نرى أن جميع الإنسانيين يقفون في صفنا على نطاق الجبهة العريضة وعلى صعيد المعركة الاستراتيجية طويلة الأمد.. ولكننا نعلم أيضاً أن الخنادق الأمامية في كل معركة هي الأكثر أهمية مع عدم التقليل من أهمية خنادق المؤخرة.. ولهذا يدعو الواقعيون الاشتراكيون جميع الأدباء والفنانين إلى التقدم لأخذ مواقعهم الطبيعية في الخنادق الأولى من جبهة المعركة الفاصلة.‏
        ولأن عصرنا هو عصر التناحرات الطبقية، عصر التناقضات الكبرى المصيرية يظل السؤال الأهم والمحدد هو: مع من؟‏
        لن يستطيع أحد أن يكون في خندقين متضادين في آن.‏
        وأن يبقى المرء خارج الخندقين فذلك يعني أن يكون خارج العصر.‏
        وتلك محاولة ساذجة للفرار من مواجهة قضايا العصر.‏
        أن أطمع بالخروج من إطار زمني، ذلك هو الوهم.‏
        أما أن أطمح إلى جعل أحداث زمني أبهى فذاك هو الحلم.‏
        ومغزى حياة الإنسان يقاس بالمسافة ما بين الوهم والحلم .‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

          نظرات لا نظريات في مسائل النقد الحديث

          يكون العمل الفني كياناً عضوياً متصلاً بالكون كله، ويبقى مع ذلك كياناً مستقلاً قائماً بذاته يغتني ظاهره بجمال داخله، ويتصل داخله بظاهره، كما هي حال الجسد الحي، فما من فاصل أو فراغ بين الداخل والخارج، وما من علة في الجسد إلا وتترك أثراً على الكيان كله.‏
          والعمل الفني ككل كيان عضوي أو غير عضوي، مكون من عناصر شتى، تتحد عبر تفاعلات كثيرة قبل أن تصير "هو" ويكون "هو" نتاج اتحادها كلها، ثم تكون له فوق ذلك سماته الخاصة، التي لن نحصل عليها، كما هي، إذا اكتفينا بإحصاء السمات المكونة لتلك العناصر. فالعمل الفني، على سبيل المثال، كالماء المكون من أوكسجين وهيدروجين، وليست له صفات أي منهما على انفراد ولا مجموع صفاتهما منفردين.. إن اتحاد العناصر يعطي كياناً جديداً هو منها وهو غيرها في آن واحد، وإذا أرجعناه إليها فقد خصوصيته التي كانت له إذ كانت عناصره متحدة.. وتلك هي أعجوبة الكينونة..‏
          قد يقول قائل: هذا كلام في العلم أو من وحي العلم وقد يصح في المقولات العلمية ولا يصح في الأدب خصوصاً وفي العلوم الإنسانية عموماً.. لكن مقولات العقل الإنساني تكون دائماً على انسجام مع وحدة قوانين الطبيعة التي تشمل كل البنى وكل المقولات وتصح فيها وتسري عليها وإن تباينت أشكال ظهورها وتجسدها، فالمقولات العلمية، إنما هي بنى بحكم كونها مقولات. وكل بنية هي كيان من نوع خاص متميز بخصوصيته، متصل بالعام ومنفصل عنه، وبالتالي فهو منه وإليه، وهو غيره.‏
          وقد ألحت أكثر من فئة من فئات دارسي الأدب والفن على عزل العمل الإبداعي عما هو خارجه "لا نص خارج النص" وكانت قولة حق أريد بها باطل إذ تم النظر إلى المسألة من أحد جوانبها وأُهملت الجوانب الأخرى.. فالنص يقرأ كنص ولا يجوز أن يضفى عليه شىء مما ليس فيه أياً كانت الحال.. لكن النص لم يبدع ذاته بذاته ولذاته بل أبدعه مبدع هو ابن فلان وفلانة، وهو من قرية أو مدينة بعينها بل هو ابن هذا الحي أو ذاك.. وقد يكون نشأ في بيئة مستقرة أو مضطربة، وهبت عليه رياح من شتى الجهات، واغتسل بمياه أكثر من ينبوع، واشترك أهل الأرض قاطبة في صنع بعض الأدوات التي يستعملها. وهو إلى ذلك وريث ثقافة معينة، وربما اعتبر بحار الثقافة العالمية ميداناً لابحار سفنه. وإذا ذهبنا بعيداً قلنا مع القائلين بأن الكون غير المتناهي قد أسهم في تكوين كل كائن من كائناته، ليكون كل ما ننتجه جزءاً من عمل كوني.. ويكون الفصل أبداً بين الخاص والعام مسألة نظرية ونسبية.‏
          ويقول بعضهم: "الأدب لا يأتي إلا من الأدب" وهم يريدون من وراء ذلك القول إن الأدب ليس انعكاساً للواقع، وليس بالتالي نتاجاً اجتماعياً، ومن ثم ليس وسيلة من وسائل فهم الكون، وليس أداة للمعرفة.‏
          ويقول آخرون: بل هي اللغة أصل الأدب وأصل الفن والفكر عامة، فليس ثمة تفكير إلا باللغة.. فإذا ألقينا الأضواء على بنية النص اللغوية وحللناها اكتفينا وكفينا.‏
          وينسى هؤلاء وأولئك أن الأدب الذي نقرأه قد أصبح شريحة من الواقع الذي نعيشه، ومن ثم صار واقعاً، فإذا أعطتنا الحياة والممارسة العملية، غير المنفصلة بجدار كتيم عن ثقافات الحاضر والماضي، تجربة ما، وإذا أمدنا ما أطلعنا عليه من أدب بأسلوب الكتابة فإن ذلك لا يكون دحضاً للقول بتأثير الواقع على الأدب والفن بل يكون إثباتاً، فالثقافة تنعكس عن الواقع لتعود إليه وتصير شريحة منه وعنصراً مكوناً من عناصره.. وهي كالماء ينبثق من التراب ليعود إليه ويتفاعل معه ليولد نماء وخصب يضافان إلى ثروة الحياة فتغتني بهما الأجيال وتغنيهما.‏
          ويجري كلام على اللغة وكأنها شىء ما، مستقل عن المجتمع والتاريخ وخارجهما. وكأنها مادة سحرية خاصة يصنع منها الفن الكلامي كما تصنع بعض الدمى من بعض العجائن. فإذا تجاهلنا مع المتجاهلين أن اللغة، التي هي جزء من تفكيرنا وأداة لتعبيرنا، إنما هي بنية أفرزها المجتمع الإنساني وأتقنها، فحذف منها وعدّل فيها وأضاف إليها عبر مراحل تطوره التاريخي، وسيظل يضيف إليها ويعدّ لها، إذا تجاهلنا كل ذلك فليس في وسعنا أن نتجاهل أن الانفعال أو الرغبة هما اللذان يقفان دائماً وراء كل كتابة. فهل في وسعنا أن نفصل رغباتنا ومشاعرنا عن الواقع الذي نعيش أحداثه فنتمنى لقسوة تلك الأحداث أن نقول، أحياناً، كما قال كعب بن زهير قبلنا: "ما أجمل العيش لو أن الفتى حجر"‍!‏
          ويبقى النص الأدبي أكبر وأغنى وأجمل من مجموع سمات العناصر المكونة له. إن اتحاد العطر واللون في الزهرة أكثر من مجرد مزج كمي عددي لعطر ولون.. إنه قيام كيان عضوي نوعي اسمه الزهرة.. وهو أكبر من اسمه وغير اسمه الذي هو لغة، وهو من ثم أكبر من لونه وغير لونه الذي هو أسلوب ورونق وطلاوة، وهو من ثم أكبر من عطره وغير عطره الذي ربما استطعنا أن نستعير له تعبير "روحه أو فحواه".‏
          أما سر الروح، وسحر الروح، سر تحول الكمي إلى نوعي وسحر هذا التحول فيبقى سراً على الرغم من تجليه في كل الظواهر التي تجري فينا وخارجنا، وفي كل ما يحيط بنا.‏
          وكون السرسراً لا يعني أن لا نحاول الوصول إلى كنهه، إن كل خطوة جادة على طريق كشف السر تبقي أثراً لها، وتكون ذات فائدة لنا وللآتين.. لكن أخطر ما في أمرنا هو أن يزعم كل من قام منا بخطوة في هذا السبيل أن خطوته هي الخطوة الحاسمة، أو هي الدرب كله، فيلغي الماضي كله ويقطع الطريق على المستقبل.‏
          وفي الأدب والفن، كما في السياسة والفلسفة، تلقي النظرة إلى الظاهرة، الضوء عليها في حين تغلق النظرية دائرة البحث، إذ تدعي لنفسها الكمال والشمول، مما يدعو النقدة والباحثين ودارسي الأدب وغيرهم إلى أن يطلعوا على كل النظريات وأن يدرسوها كنظرات لا كنظريات، وأن لا يغلقوا دائرة البحث بل يتركوها مفتوحة، فلا تكون نظراتهم أحادية الجانب، ولا ضيقة الأفق.‏
          والعمل الأدبي ليس كلاماً فحسب، وليس شعوراً تجسد في كلام فحسب،إنه خلاصة دنيا بكاملها، وخلاصة حياة تشمل الماضي والحاضر وكل ما فيهما من توق إلى المستقبل وقد تجسدا في كلام فصار الكلام لهما جسداً حياً، يوجعه تجريحه ويضيره، بل يقتله تشريحه. وقد تكون اللغة هي دم العمل المكتوب، لكن الدم ليس الجسد بكامله، وقد تكون الفكرة هي روح الأدب، إن كان له روح، لكنها ليست كله.. والعمل الفني ليس كما يزعم الزاعمون فوق المكان والزمان بل هو ابنهما الذي أنجباه ليورثاه كل ثروتهما وكل سماتهما، وليؤثرا فيه ويتأثرا به.. ولعل أجمل ما في العمل الفني هو أن يحمل السمات الجوهرية لزمانه ومكانه.‏
          وكل كائن حي، والعمل الأدبي كائن حي، إنما ينشأ على تربة جنسه الذي تنامى في الأزمنة والأمكنة، وهو بالتالي يحمل الكثير من موروثات ذلك الجنس الحامل مورثات الأزمنة والأمكنة.. فإذا فصمناه عن تلك المورثات، وهذا لا يكون إلا بتدميره، أو إذا نظرنا إليه غير آخذينها بالاعتبار كنا كمن يحاول أن يقبض على الريح، أو يطحن الماء بالرحى.‏
          لقد سعت المدارس النقدية الحديثة، التي نقلت إلينا على أنها طفلة غريرة بعد أن هرمت وشاخت في الغرب، سعت إلى إقناعنا وما زال إتباعها عندنا يسعون إلى إقناعنا بأن دراسة النص بنيوياً هي الوسيلة الأحدث، بمعنى أنها الوسيلة الأفضل والأشمل لدراسته.‏
          وإذا سألناهم: الأفضل لماذا؟ سكتوا.. فإذا قلنا: أهي الأفضل لفهم النص؟ صاحوا مستنكرين: لا.. ليس الفهم أو الإفهام غايتنا.. وإذا قلنا لهم: وكيف يكون الجزئي هو الأشمل؟ تمادوا وسخروا من سذاجتنا.. ونصدق اتهامهم لنا بالسذاجة.. فنحن، فعلاً، لا نفهمهم جيداً.. وكثيراً ما نعزي عدم فهمنا لهم إلى نقص فينا لا فيهم.. ونعكف على دراستهم جيداً.. نقرأ صابرين أهم ما يصدرونه من دراسات.. ونجد أن مدرستهم صارت مدارس، وأن بنيتهم صارت بنى، وصارت بنيويتهم بنيويات كثيرة. نجد أن الكثيرين من أعلامهم شرعوا يعرّجون على مدارس النقد التي تبنت التحليل النفسي، أو تلك التي تبنت النقد التاريخي أو الأساطيري، وغيرها من مدارس النقد.. ونفرح لعودة الابن الضال إلى جادة الصواب.‏
          وكي نكون منصفين لا مفر لنا من الاعتراف بأن ضلال هذا الابن قد أفاد دارسي الأدب في العالم إذ لفت أنظار هؤلاء الدارسين إلى جانب هام من جوانب النظر إلى العمل الأدبي، ويكون مفيداً دائماً تعدد وجهات النظر في هذا الميدان، كما هو مفيد في كل ميدان آخر، على أن نأخذها كوجهات نظر إلى الأدب لا كنظريات عنه وفيه، إن النظرة إلى الأدب تغتني بالنظرات الأخرى وتغنيها وتضاف إليها ولا تكون بديلاً عنها، ومشكله الدراسات الأدبية والاجتماعية، حتى "العلمية" منها هي في أنها تطرح نفسها على أنها البديل لسواها، وكثيراً ما يزعم واضعوها وأتباعهم أنها البديل الوحيد والأمثل والأكمل لكل ما عداها، وفي هذا يكون مقتلها أو نقطة ضعفها الأساسية..‏
          أما أن نحصي عدد الأفعال والأسماء في هذا النص أو ذاك، أو أن نحصي الفواصل والنقط، وعلامات التعجب والاستفهام وصيغ الأفعال الماضية والمضارعة ثم نسمي ذلك مدرسة في النقد الأدبي وفي دراسة الأدب، كما يفعل بعض الذين يكتبون في الدوريات الثقافية عندنا، فهذا إضاعة للوقت وللحبر والورق... وقد يفيد من ذلك علم الإحصاء الأدبي إن وجد مثل هذا الإحصاء أو قد يتسلى به أولئك الذين ليس لديهم عمل جاد يعملونه.. أما أن يقال إنه مفيد للأدب وتطوره فتلك أعجوبة من أعاجيب هذا الزمان الأخير الذي كثرت فيه الأعاجيب حتى فاقت عدداً أعاجيب كل الأزمنة الغابرة.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح


            الثروة الجمالية ومكونات الجمالفي شعر أبي سلمى
            منذ زمن بعيد أتمنى أن تتاح لي فرصة أفرغ فيها إلى شعر أبي سلمى دون سواه. ولقد قررت أكثر من مرة أن أترك كل عمل آخر وأن أنصرف إلى شعر الرجل وكنت أتناول ديوانه وأقرأ بعضاً منه ثم تأتي "الظروف" التي نلقي عليها كل تبعات تقصيرنا فتشغلني عن ذلك وأبرر تقصيري بمبررات أخرى كثيرة.
            لم يكن اسم عبد الكريم الكرمي قد وصل إلى قريتي البعيدة عن العاصمة قبل أن يصل إلينا ديوانه "المشرد".. كان ذلك منذ زمن بعيد.. ولكن وهج تلك القصائد ما زال يدفء روحي.. وإني لأزعم أن قصائده تلك قد امتلكت أعماقي وسيطرت على مشاعري دفعة واحدة منذ ذلك الزمن ولم تستطع الأيام الكثيرة أن تطفف من ألق تلك الكلمات العابقة برائحة الأرض المثقلة بالحنين، المفعمة بحب الإنسان، الداعية الشمس إلى الشروق، المجنحة بالبروق، الهادرة بغضب الرعد والزلزلة. لقد رأيت فيها وطناً من خلل دموع شاعر مشرد ولكنني لم أر فيها وهناً أو تخاذلاً فطربت لجمالها وروعتها وأعجبت برجولة الرجل وأكبرت عظيم همته وعظيم وفائه لرفاقه الذين قاوموا الطغاة فاستشهدوا أو سجنوا أو شردوا.
            ما طمحت يوماً ولا أطمح الآن إلى كتابه بحث في مسائل الشعر والجمال. كل ما عندي أسئلة تعذبني وتقلقني فأشعر، أحياناً، أنها على شيء من الأهمية فأطرحها على نفسي مراراً وتكراراً وأحاول أن أجيب عنها وتتكون في ذهني إجابات يخيل لي أنها مقنعة إلى حد ما.. وحين أهم بالشروع في كتابتها أقول لنفسي: لم تحن ولادتها بعد، دعها تنضج أكثر.
            وأدعها على أمل أن يأتي وقتها.. وتمضي الشهور والأعوام.. ثم يخطر لي أنها لن تنضج إلا على نار محاورة الآخرين وتبادل الرأي معهم.. ثم أعود فاحجم عن طرحها للنقاش.. فمن سيعير اهتماماً لأسئلة متواضعة وهادئة في هذا الزمن المتغطرس الصاخب؟
            يبدو أن كل ما حاولت أن أعلل به تحاشي طرح هذه المسائل غير مقنع، فأنا غير مقتنع تماماً بصحته، وأتجاسر فأقول إن الخوف من الخوض في مثل هذه المسائل هو السبب الحقيقي للتهرب من طرحها.. وكيف لا يخاف العاقل من خوض بحر متلاطم الأمواج كثير التيارات ولا وسيلة للعوم فيه سوى ساعديه الضعيفين؟
            سأل بعض الفلاسفة القدماء: ما هو الجمال؟
            وأجاب بعضهم: الجمال هو الشيء الجميل.
            وألح بعضهم الأول: ولكننا سألنا عن الجمال الذي يجعل الشيء جميلاً.
            وألح بعضهم الثاني: الجمال في الشيء الجميل وليس خارجه، نقول زهرة جميلة وامرأة جميلة ولا نعرف جمالاً خارج الشيء.
            ومنذ ذلك الزمن الموغل في القدم وعلماء الجمال والفلاسفة والشعراء والفنانون الكبار منهم والصغار يتجادلون في هذه المسألة، وتكونت المدارس الكثيرة بشأن ما ندعوه الجمال وعلم الجمال وتضاربت الآراء ووجهات النظر.
            وتبدو لي أسئلتي جد بائسة.. وأشعر بالخوف ينتابني.. ثم أواجه نفسي صراحة: إذن، كف عن الكتابة؟
            واجفل.. فكيف أكف عن الكتابة.. هي متعتي الكبرى‍!
            وأحزم أمري.. إذن.. لا مناص من طرح الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها.. ثم أغمغم كمن أسلم أمره للقدر: فليكن.. على الرغم من أنها مسألة أكثر من صعبة.
            حين تكون الأسئلة كثيرة يأتي في مقدمتها دائماً سؤال إضافي هو:
            من أين أبدأ؟
            أنا الآن بصدد الكتابه عن الثروة الجمالية في شعر أبي سلمى.. وشعر أبي سلمى كشعر المبدعين من أبناء جيله مكتوب على الطريقة التي اعتدنا تسميتها "كلاسيكية" فهل هذا يعني محاولة الرجوع إلى "الوراء" والتخلي عن الحداثة، أو محاولة التصدي لها؟..
            لا.. قطعاً.. فأنا لا أريد ذلك ولا أستطع ذلك..
            كل ما في الأمر، وأرجو أن يفهمني الجميع جيداً، أنني أقرأ القصائد الجيدة في شعر الآباء والأجداد فانتشي وأنفعل وأهتف طرباً: هذا جميل!
            وأشعر أحياناً أن كلمة "جميل" غير دقيقة أو هي لاتعبر، فعلاً عن مفهوم يمكن أن يدل على الجمال.... فهل الشعر جميل أم مؤثر ؟ وإذا كان المؤثر جميلاً أفلا نكون قد أضفنا إلى الجميل عنصراً ليس في جوهره؟ وأجفل مرة أخرى..لا.. لا.. لن أسير على مثل هذه المنزلقات.. ولكنني سأضطر إلى استعمال كلمات: من نوع "مكونات التأثير وبواعث الانفعال، والشحنه الانفعالية" بدلاً من كلمة جمال وجميل.. ولا أظن أن ذلك مما يضير في شيء، وقد استعمل المؤثر والجميل معاً.. وهذا لا يضير أيضاً..
            لكن النقاد وعلماء الجمال قد لا يرضيهم ذلك..
            أعرف ذلك.. وأتمنى عليهم أن يحاولوا مساعدتنا في الإجابة عن الأسئلة التي تقلقنا.
            فكيف تتكون الثروة الجمالية في العمل الإبداعي أو ما هي مكونات التأثير التي تجعلنا ننفعل؟
            الشعر فن كلامي، أجل، هو أحد فنون القول، فهل للكلمة، للمفردة بذاتها دور في البناء الشعري وفي تكوين الجو الشعري، أو الوسط الجمالي، أو الشحنة الانفعالية؟
            الأساتذة في الثانويات والجامعات يدخلون دراسة المفردات في أساس دراسة النص الشعري: هل الألفاظ، سهلة، متناغمة، عويصة، ناشذة.. وكنا نفهم منهم أن للكلمات بذاتها قيمة قصوى.. ثم سمعنا من يقول.. إن الكلمات كلها كلمات لا أكثر.. وتكسب قيمتها من الجو الذي يضعها المبدع فيه.. فهي مثل الحجارة التي تصير حيناً في هيكل للصلاة أو في قنطره جسر حجري أو في أساس متحف، وقد تصير بعضاً من وجه آلهة للجمال في تمثال رائع أو شدقاً فاغراً لتنين أسطوري في تمثال آخر.. فالكلمات في القاموس ليست حارّة وليست باردة، ليست جميلة وليست قبيحة، هي حلقات وصل في أسلاك نقل الطاقة من المبدع إلى المتلقي، أو هي كالتراب والشمس والماء والهواء تخلق شتى صنوف العشب والشجر إذا تفاعلت وفق قوانين معينة وفي أجواء مناسبة. والكلمة التي قد تكون وردة هنا قد تصير شوكة هناك.. والخ، وتبقى مواتا إذا لم تتفاعل.
            ويرى رضوان الشهال أن الجو الشعري يتكون، مثله مثل كل الظواهر الطبيعية، طبقاً لقوانين الجدل العلمية، فالتراكم الكمي يؤدي إلى تغير نوعي في الشعر، إذ تتحول كلمات القاموس التي هي فحم إلى ماسات رائعات في الشعر وهذه القفزة النوعية لا تكون إلا نتيجة لتراكمات كمية. ورضوان الشهال يقدم الكثير من الأمثلة على ذلك ويفسر الكثير من الأبيات الشعرية وفقاً لقانون الحركة التي تشمل الكون بأسره. ولن نتوقف هنا أكثر مما توقفنا، إذ يطرح نفسه السؤال التالي: إذا كان الشعر فناً كلامياً ولم يكن كلاماً فحسب، فما المكونات الأخرى التي تجعل الكلام يصير شعراً وتخلق الشحنه الانفعالية والجو الشعري؟
            يرى الكثيرون من كبار علماء الجمال ونقاد الأدب وكبار المبدعين أن "الخير والشر" موضوعان قديمان رافقا الفنون والآداب طوال التاريخ وسيبقيان إلى الأبد من موضوعات الأدب والفن. فهل الأخلاقي جزء مكون من أجزاء الجمالي؟ ويزعم آخرون أن الجميل هو أخلاقي حكماً. وأن الفضائل الإنسانية تثير حسنا الجمالي فنعجب بها، وأن الرذائل كالغدر والخيانة والجبن والكذب توقظ فينا مشاعر النفور وذاك رد فعل الجميل على القبيح.
            ويتحدث النقاد عن الوحدة العضوية وعن الصدق والأصالة في العمل الفني، والشعر منه، فماذا تعني هذه المفهومات؟ وهل حاولنا أن ندرس أدبنا القديم والحديث وفقاً لها؟ وإلى أين وصلنا؟ أم أننا ما زلنا نترجم المفهومات وتطبيقاتها ثم نتجاهل نتاج مبدعينا لوعورة الدرب إلى التطبيق ولأسباب أخرى كثيرة؟
            يتكلم ايفريم كارانفيلوف على عمق ينابيع الجبال وشفافيتها.. ويتكلم أحد العباقرة على طريقه الإبداعي فيلخص تجربته فيقول:
            كنت أول الأمر أكتب كلاماً غامضاً ورديئاً
            ثم صرت أكتب كلاماً غامضاً وجيدا
            وأنا الآن أكتب كلاماً بسيطاً وجيداً.
            فهل الشفافية والصفاء والبساطة من مكونات الجمال الفني؟ وهل تعمقنا في دراسة ما أسماه أجدادنا "السهل الممتنع"؟
            وثمة مسألة أخرى شديدة الحساسية: هل الخاص المتفرد منفصم عن المشترك في الإبداع الإنساني أم ثمة صلات جدلية بينهما؟ وهل الخصوصية نقيض الشمولية أم أن الخصوصية المتفردة هي النامية على الجذور العامة الأصيلة؟
            وثمة مسألة أخرى أيضاً: يقول بليخانوف: "تدخل النتاج الفني كثير من التناقضات عندما توضع في أساسه فكرة خاطئة حتى أن ذلك يستتبع حتماً مس قيمة الإنتاج الجمالية" (الفن والحياة الاجتماعية- دار ابن الوليد ص101).
            ويرى رئيف خوري أن من يقول ما لا يؤمن به يسيء إلى إبداعه أول ما يسيء. وهو يرى أن شعر المتنبي قد خسر الكثير حين مدح به كافوراً.
            ولقد دارت معارك كلاميه حاميه حول الجديد والقديم وعلا صخب كثير حول مفهوم الحداثة ثم أسفرت تلك المعارك وذلك الصخب عن انتصار الحداثة.. ومع ذلك نجد أنفسنا أمام الكثير من الأسئلة الجادة: هل كل جديد جميل وجيد فعلاً؟ وهل مكونات الجمال شكلانية وحسب؟ ألا يمكن أن نستهدي ببوصلة الماضي في توجهنا إلى المستقبل؟ وهل نحن الجيل المكمل لتراث شعبه الجمالي أم نحن الجيل المنكر له؟ وهل أثرت الثورة العلمية التقنية فعلاً على داخلنا كما أثرت على مظاهرنا؟ وهل القيم الإنسانية سريعة التبدل كالأزياء في أيامنا؟ وهل نحن نبتكر حداثتنا أم نقلد حداثة الآخرين؟ وهل المقلد مبدع؟
            أعرف جيداً أن العالم المعاصر مترابط.. وأن الحديث انتصر.. ولأنه انتصر أرى من الواجب أن يعمق مقولاته وأن يراجع المقولات التي طرحت باسمه في أثناء احتدام المعركة، إن الانتصار في معركة إثبات الوجود بداية السير بالثقافة الوطنية إلى الأمام وليس نهاية المطاف، فهل يمكن أن تتخلى الحداثة عن كل الموضوعات "القديمة" أم أن الفضائل والرذائل ستبقى موضوع الشعر والفن والمسألة مسألة اختلاف في طريقة المعالجة؟ أم أن الحداثة تعني التخلي عن كل قيمة أخلاقية وعن كل مدلول اجتماعي، فالجميل جميل بذاته الجميلة المجردة؟
            ويقولون إن لكل عمل فني منطقه الخاص والشعر ليس منطقاً فقط، ولكل مبدع رؤياه وفلسفته، والشعر ليس رؤيا وفلسفة فقط، إن المنطق الجدلي لم يلغ أسس المنطق الصوري بل طورها وأغناها كثيرا فهل يلغي الجديد القديم في الفن أم يطوره ويتطور على أساس منه ويغتني به؟
            إن من بعض مظاهر رقي كل أمة من الأمم هو عدد متاحفها وما تحتويه تلك المتاحف فهل نأخذ برأي العدميين ونحرق كنوز الحضارات القديمة؟ أليس للتاريخ علاقة ما بالجميل الذي نبتكره؟
            يبدو أن شعر أ بي سلمى الغني بعوامل التأثير قد أثر في نفسي فانطلقت على سجيتها وأوغلت في طرح الأسئلة. وحين راجعت ما كتبت وجدت أنني لم أبتعد عن الموضوع، فالكثير مما أعده من مكونات الجمال وبواعث التأثير موجود في شعر هذا الشاعر "الكلاسيكي" بل وازعم أن ثمة مكونات أخرى سيفطن إليها كل قارىء لبيب لشعره.
            الديوان الذي أقرأ فيه هو ديوان أبي سلمى الصادر عن دار العودة في بيروت عام 1978. وسأحاول أن أبعد عن ذهني كل الآراء التي سمعتها في شعر هذا الشاعر كي تكون قراءتي له شخصيه إلى أقصى حد ممكن ولكنني لن أزعم أنها قراءة عفوية أو سريعة. لقد قرأت الديوان أكثر من مرة وسبق لي أن حفظت قصائد "المشرد" وقصائد أخرى للشاعر وكنت أرددها مترنماً حيناً أو أنشدها إنشاداً في أحيان كثيرة. لن أحلل النماذج التي سأقدمها بل أشير منذ الآن إلى أنها منتقاة لتكون إشارات تطبيقية إلى الأسئلة التي أوردتها في المقدمة وأظن أن كل نموذج منها قد يحتوي على أكثر من عامل من عوامل التأثير أو عنصر من مكونات الجو الشعري والجمالي.
            عنوان القصيدة الأولى "فلسطين" ولكنها ليست في فلسطين وحدها فهي للعرب ولأحرار العالم.. فأبو سلمى الفلسطيني يعيش في العالم وللعالم. وهو في إنسانيته وشمول موقفه الإنساني فلسطيني أصيل، تختلج فلسطينه في كل ذرة من ذرات كيانه، وهو إذ يكتب للعالم تحت عنوانها فانه يكتب لها ومن وحيها في كل ما يكتبه للعالم، إنها قضيته الخاصة والعامة وهمه الأول والأخير ولا انفصام هنا بين العام والخاص، بين هم القضية والهموم اليومية الخاصة.. وسنرى هذه القضية الواحدة، الخاصة والعامة في آن واحد، تنتظم كل قصائد الديوان وتشكل النغمة الأساس في كل أنغامه وألحانه حتى يخيل إلينا أن أبا سلمى قد ظل طوال حياته يكتب قصيدة واحدة عنوانها: "فلسطين"، ولأن فلسطين في قلب العالم وفي قلب أبي سلمى فان أوجاع العالم وأوجاع فلسطين وهموم أبي سلمى وأشواقه تنعكس كلها في شعره وكثيراً ما نسمع خفق هذه القلوب الكبيرة الثلاثة في مقطع واحد أو في قصيدة واحدة.
            وأبو سلمى وريث الحضارة الفلسطينية العريقة والعظيمة:
            "فلسطين إنا بنينا الحضارة
            فوق العصور كما تذكرين"
            أبو سلمى الذي لا يرى تعارضاً بين كونه ابنا لفلسطين وابنا للعالم لا يستكين للضيم إذ قمع الآخرون حريته وشروده ونكلوا به وبأهله بل يقاوم الشر والأشرار ويبقى الإنسان وريث الحضارة التي أنارت الطريق ويبقى المباهي بحريه الفكر:
            "وحرية الفكر نحن الذين
            رفعنا لواها، كما تعلمين"
            بل يصل إلى القول:
            "ومبدأنا عالم واحد
            وتخليد حرية العالمين"
            وقد يصرخ أحد أنصار الشكلانية المتطرفين: "إننا لا نرى" "جمالاً" بل نسمع شعاراً سياسياً وقد مضى زمن الشعارات".
            فهل حقاً مضى زمن الشعارات أم أن المسألة هي: كيف نطرح الشعارات أو كيف نحول الهم السياسي الكبير إلى موضوع فني بأسلوب فني؟ وهل صحيح أن كل الشعارات غير جميلة؟
            إذا نظرنا إلى سطوح الظواهر لا إلى أعماقها فإننا قد نرى ما يراه الشكلاني المتطرف، والأمور ليست في ظواهرها والشعارات قد تكون عنواناً لنضال ملايين البشر في مرحلة تاريخية محددة وقد تكون مطلباً بشرياً عاماً يمتد على جميع العصور والأزمنة. وشعار حرية الفكر وتخليد حرية العالمين من هذه الشعارات الإنسانية الشاملة.. ويقتضي الأمر منا مزيداً من البحث والتأمل وينبغي ألا نفصل بين الإنسان المقاتل والفنان ثم نطلب منه كفنان أن ينسى وجهه الآخر كمناضل.. وعلينا أن نعرف متى كتب ما كتب.. فلكل ذلك أهمية كبيرة لفهم الشعر وتذوقه وإن ناقض ما تقول به البنيوية.
            قال لي أحد المناضلين الفلسطينيين ممن لهم صلة مباشرة بأهلنا المنتفضين إن الصهاينة يعاقبون الفلسطينيين الذين يرمون جنودهم بالحجارة ويعاقبون أيضاً كل من يردد بيت ابن الرومي:
            "ولي وطن آليت ألا أبيعه
            وألا أرى غيري له الدهر مالكا"
            وأشهد أنني صرت أرى بيت ابن الرومي أجمل وأغنى، مع أنني كنت أردده أحياناً بشىء من عدم المبالاة. وإني لأشعر وكأنني أكتشفته حديثاً.
            واكتشف أيضاً أن مما يساعدنا على تذوق الشعر أن ندرك كل الأبعاد الإنسانية لتجربه الشاعر وأن نقرأ الشعر والفن قراءة تاريخية واجتماعية وشخصية.ويرد سؤال: هل لجلال الحدث التاريخي وقع جمالي في النفس؟ إذا لم يكن الوقع جمالياً فماذا ندعوه حين يكون من العناصر المكونة للعمل الفني؟
            فلنترك التحليلات التنظيرية.. ولنقرأ في ديوان أبي سلمى.. وأبو سلمى يخاطب الثائرين في جبل النار عام 1936 فيقول:
            "أيها الثائرون في جبل النار
            سلاماً يا زينة الأبطال..
            ثم يقول:
            "ورصاصاتكم تمرّ على الأيام حمراً مضيئة في الليالي".
            فهل تراه كان يرى أن ليل العرب سوف يطول وأن النجوم ستحجب بكل ما حجبت به من ضباب وقتام، وأن الليالي لن تضاء إلا بمصابيح الرصاص الثوري؟ فمن أين استمدت الرصاصات كل هذه الديمومه؟ وبأي وقود شحنت لكي تستمر في المرور والإضاءة؟ أهي قوانين الجدل تعمل حقاً في الفن كما في الطبيعة؟
            لقد تكلم باحث سوفييتي على نظرية أسماها "نظرية الاقتصاد الشعري" وتكلم رضوان الشهال على "التركيز والتكثيف" وكان أسلافنا العرب قد أوجزوا جوهر كل ذلك بعبارة "ما قل ودل".. فهل من مقومات الجمال الشعري- الفني مثل هذه الشحن المكثف للطاقة الروحية والحركية في القليل من الكلام أو القليل من اللون؟
            إنها لمسألة تدعو إلى مزيد من التأمل وإلى مزيد من البحث المعمق.
            وأقف أمام "لهب القصيد".. وأعيد قراءتها.. وأكتب أسطراً حولها ثم أشطبها خوفاً من أن يغلب السياسي الجمالي في كلامي.. ولكن من يستطيع أن يفصل السياسي عن الجمالي في شعر أبي سلمى؟ هل قلت في شعر أبي سلمى؟ وهل يمكن الفصل بينهما حيثما وجدا؟ وهل يوجد مكان أو عمل لا يتحدان فيه؟ المسألة موضوع جدل.. وأتجاوز أيضاً قصيدة الشهيد المجهول على مضض لأقف عند "حفنة الترب":
            "يا حفنة الترب اعزفي
            فيك بقايا السلف
            ما تلك ذراتك بل
            تلك حروف المصحف
            يطوف في عالمها
            روح العلى والشرف"
            وأنفعل وأنا أقرأ.. يلتحم الجمالي بالانفعالي هنا وفي كل فن عظيم.. فهل الطاقة الإبداعية التي نودعها في الفن هي شحنة انفعالية أساساً؟ وهل يحق لنا أن نطلق على ما يثير حماستنا أو قرفنا، على ما يضحكنا أو يبكينا صفة الجميل أم صفة المثير؟ وهل المثير أدنى قيمة من الجميل؟ أم هما اسمان لمسمى واحد في الفن والشعر؟ قد يصور العمل الفني جريمة قتل فنشعر بالغضب على المجرم وبالشفقة على الضحية فهل نقول إن اللوحة جميلة أم نقول موفقة أم نقول مؤثرة؟ أم أن هذه الصفات كلها من صفات الجميل؟
            يقول أبو سلمى:
            "يلثم العز موطىء القدم الحمراء
            تمشي على طريق الفخار".
            وأتأمل طويلاً.. لا لم يهرم موضوع البطولة.. ولن يهرم.. سيبقى أبداً موضوعاً للشعر والفن..
            وستقال فيه قصائد جميلة ومؤثرة..
            وأطوي صفحات وصفحات من الديوان خشية الإفراط في الإطالة.
            وترتعش يدي.. لقد وقع نظري على "الولد الأعمى".. وهي أغنية بسيطة كلماتٍ ومعنى.. ولكنها بمعناها البسيط وكلماتها البسيطة تلامس أكثر من وتر حساس من أوتار مشاعرنا، وأستطيع أن أوجز معناها ببعض كلمات فهي تنقل لنا ما يسمعه ولد أعمى عن جمال العالم بكل ما فيه ولكنه يفضل رؤية أمه على رؤية العالم.
            أعرف أنني أسأت إلى الأغنية بعرض فكرتها الأساسية.. فالشعر الذي لا يقوم إلا بالمعنى ليس معنى وحسب، الشعر ليس أفكاراً وحسب، وليس كلمات وحسب، الشعر هو الشعر.. هو التفاعل الحيوي بين العناصر، هو تفاعل الماء والتراب والشمس في مناخ مناسب ووفق نواظم محددة. ولن يحيط بالشعر أي تعريف.. فهو هو لا أكثر ولا أقل. ولكن أين وكيف نلمس الشعر في الولد الأعمى.. هل نشرّحها فنياً وعاطفياً وتاريخياً كما يفعل بعض النقاد فيقتلها؟ صحيح أننا نكسب الكثير من معارفهم الجمة حين يحللون الأعمال الإبداعية ولكننا نخسر روح الشعر.. وروح الشعر هي كالروح التي في الكائنات والنبات تضفي السحر على الأشياء العادية فتتحرك وتنمو وتزهر وتصبح كائنات متفردة بسماتها الفردية مع أن الكون بأسره يسهم في تكوينها،.. أجل.. إن الكلمات تفقد في الشعر معانيها القاموسيه المعروفة وتصبح لها شخصية خاصة بها في كل قصيدة متميزة، وفي كل جو شعري من الأجواء التي يخلقها الشعراء في شتى الأزمنة والأمكنة.
            تبدأ أغنية الولد الأعمى بداية متعثرة، وكثير من الولادات العجيبة تبدأ متعثرة، ثم نراها تنهض أمام أعيننا حوريه رائعة تدهشنا في نهوضها وانتصاب قامتها.. ويخيل لنا أننا نعرف وجه الأعمى الذي نسمع صوته ونحس انعكاس العالم في هذا الصوت، ثم نرى في الصوت يدين تتلمسان ما حولهما في ارتباك واضطراب، ثم تستقران عند الكائن الأروع بين جميع الكائنات، عند الأم، وسأسمح لنفسي بأن أنقل لكم المقاطع الثلاثة الأخيرة من هذه الأغنية- القصيدة:
            "يقولون بأن البحر:
            مرآة السماوات
            وأن النجم كاللؤلؤ
            يبدو في العشيات
            يقولون!
            وأن الغاب يستيقظ
            والوادي مع الفجر
            على أغرودة الطير
            على النور على العطر
            يقولون!
            دعوا الكون وما يحويه
            من زهر ومن نجم
            فما في الكون من نعم
            تساوي رؤيتي أمي.
            اشعر أنني بحاجة ماسة إلى التوقف عن الكتابة.. لقد أتعبني نقل هذه الأسطر البسيطة تعباً أصاب نفسي وجسدي.. فهل هي حساسية خاصة مني؟
            لا أدري.. ولكنني متعب جداً وسأرتاح قليلاً..
            قد لا يعنيكم ما فعلته.. لقد عملت عملاً جسدياً طوال ساعتين وتمشيت فترة من الزمن قبل أن أعود إلى الكتابة.. وقد خطر لي هذا السؤال: هل ثمة موضوعات تصلح للشعر، وللفن عموماً، أكثر مما يصلح سواها؟ وهل قدرة العمل الفني على إثارة التداعيات لدينا هي جزء من جماليته أو من محفزات الانفعال فيه أم أن التداعيات تتعلق بنا وحدنا؟ وهل أثر بي الموضوع أم الشاعرية الشفافة؟
            إن الموضوع نفسه "الولد الأعمى، يثير فينا التعاطف مع الآخر. وحين تدخل الأم في المشهد تتفاعل عوامل عاطفية شتى فننفعل.. وقد تكون درجة الانفعال مرتبطة بحساسيتنا الشخصية إلى حد ما ولكنني أكاد أجزم أنها ترتبط بقوه العوامل الخارجية المؤثرة أي بموضوع الإثارة. فكم يكون مفيداً أن يعير المختصون هذه المسألة ما تستحقه من العناية وأن تدرس مقترنة بالبراعة الفنية المطلوبة في كل عمل فني.
            وتواجهنا في قصائد أبي سلمى المسألة القديمة الجديدة، مسألة "فن القضية" أو "القضية في الفن".. فثمة من يرون أن لا فن بلا قضية مع القول بأن ليس كل صاحب قضية فناناً. ويطرحون سؤالاً محدداً هو: هل يوجد فنان كبير بلا قضية كبيرة؟ وقد نطرح سؤالاً موازياً: أليس الفن الكبير قضية كبرى؟ فهل ثمة تناقض أم تناغم هنا؟
            أشرت، بداية، إلى فلسطينية أبي سلمى التي تلوح في كل قصيدة من قصائده وزعمت أنها كلها تنويعات على هذا الوتر.. ولكن حرارة الشاعرية لا تجعلنا نشعر بأي تأفف من تكرار الفكرة الواحدة بل نشعر شعوراً إنسانياً طبيعياً، فنحن أمام إنسان طبيعي، إنسان مثلنا، في جسده جرح راعف وموجع فهو لا يفتأ يتأوه متألماً أو يضع يده على موضع الألم.. وهو يحمل جرحه الذي هو وطنه في قلبه:
            يا أخي!.. ما ضاع منا وطن
            خالد نحمله في كل قلب
            وهو يستحلف أحباءه أن يقبّلوا عنه تراب الوطن:
            يا أحباي! بالمروج النشاوى
            بالنسيم الذي يهب جنوبا
            بالسفوح الموشحات جهاداً
            بالروابي المجرحات خطوبا
            يا أحباي!.. يا رفاق الأماني
            قبّلوا عني التراب الخضيبا
            ويبكي داره فلا نراها تغفو على الربوة الحالمة فحسب بل نرى الوطن ومأساة الوطن في مأساة الدار.. يصغر الوطن ليصير داراً للشاعر وتكبر دار الشاعر لتصير وطناً جميلاً ولكنه معذب.. وترق الكلمات وتتناغم الحروف في مناخ من الشعر الحق- الشعر البسيط العميق الأصيل:
            والتينه الخضراء في ظلها
            تاريخ أشواقي وآثاري
            ...
            الأمل الحلو على رحبه
            يعقد في أطراف زنار
            ...
            أغنية الراعي وراء الربى
            منشورة في الأفق العاري
            يا عجباً للحب ملء الدنى
            يموج في أنغام مزمار
            وفي قصيدته "الأفق المعطر" لانشم عطر الأرض والزهر ونرى شتى الألوان ونسمع شتى الألحان وحسب بل تتداخل الصور وتصفو الينابيع ويختلط علينا الأمر كما اختلط على الشاعر:
            وكأن الأنفاس من نسم "الكرمل"
            ريا ومن عبير الصنوبر
            فمها العذب تلتقى عنده الأحلام
            كالنبع في بلادي مكوثر
            صوتها نغمة شرود على الشاطىء
            من بلبل هنالك أسمر
            ...
            جارتي! كم أغار من قبل الصبح
            ومن خفقه الشعاع المحير
            هل سرقتِ الفتون من قسمات
            القدس أو فجرها الحبيب الأشقر
            لست أدري؟ هل جملّتك بلادي
            أم تمثلت أنت في كل منظر
            وتتداخل في ذهني صور وأنغام وألوان، واحتار.. فهل أنا أقرأ "ابنة بلادي" في الكتاب الذي بين يدي أم أصغي إلى صوت فيروز الرائع يصدح مسكراً بالكلمات التي تلبستها روح الشعر:
            الشفه الحلوة ما بالها
            تحمل لي الخمر ولا تسكر!
            ...
            أهواك في أغنية حرة
            يخفق فيها الناي والمزهر
            في النهر الضاحك بين الربى
            تحسده على الهوى الأنهر
            في نغم البلبل يشدو على
            صنوبر السفح ولا يهجر
            اسمحوا لي بوقفة قصيرة هنا.. فلو جاء شاعر غير مشرد بقافية كقول أبي سلمى في البيت الأخير أعلاه "ولا يهجر" لقلنا هذه زيادة لم تضف شيئاً إلى تنامي ديناميه الدفع الشعري والشعوري.. أما أن يقولها أبو سلمى الشاعر المشرد فذلك يحولها إلى إضافة نوعيه وتثير في نفوسنا تداعيات بعيدة المدى..
            وها نحن نصل إلى البيت الذروة في القصيدة السابقة، البيت الموجع المشير إلى وجع الشاعر الأكبر وإلى حبه الأعظم، البيت الذي يقر فيه رأيه وتختفي حيرته:
            أهواك في شعبي وفي موطني
            فأنتِ لا أحلى ولا أنضر
            ويكرر الفكرة نفسها في أجمل قصائده وكأنه يريد أن يقول لنا: "لقد حل جمال الوطن في كل جميل في الكون".. وهذا ذروة العشق:
            وكيف أنساك وأنت التي
            أحببت فيك الشعب والموطنا.
            ويقول في "أطياف":
            أطل الفجر من عينيك
            ما أروعها طله
            أرى فيها خيال "اللد"
            و"الكرمل" و"الرملة"
            وموج الشاطىء الغربي
            في "عكا" أرى ظله
            أرى في أفقها وطني
            فأطبعه على قبله
            لقد حملت لي العينان
            ما لم أستطع حمله.
            وسحر الفلسطينية نابع من كونها من فلسطين:
            هي في كل زهرة من بلادي
            عبق في صميمنا يتغلغل
            إنها من مروج "عكاء" و"الرملة" و"اللد" نشوة تتنقل
            من كروم "الجليل" خمرية الأنداء نشوى ومن كروم "المجدل"
            عطرها منذ كان، أنفاس "بيسان" ورغم الزمان لم يتبدل
            خطرت والشموخ من جبل "الجرمق" فيها ومن شعاف "القسطل".
            ويقول في قصيدته "أحببتك أكثر":
            يا "فلسطينية الاسم الذي يوحي ويسحر
            تشهد السمرة في خديك أن الحسن أسمر
            ...
            قد أكون أكثرت من إيراد الأمثلة ولكنني أشعر برغبة في أن أقطف المزيد والمزيد من هذه العناقيد الجماليه الشهية.. وأرى أن الجمال في هذه القصائد لا يحتاج إلى تحليل أو دليل.. وقد يتخذ جحة على أن "القديم" قد يعيش أطول مما نتصور، رغم إيماننا بالحداثة، إذا قيض له شعراء موهبة وقضية من طراز عبد الكريم الكرمي.
            قلت منذ البداية إنني لن أحلل بل سأطرح أسئلة.. وقد يكون في السؤال شىء من الشك حيناً ومن الإنكار أحياناً.. ومع حماستي للشعر الحديث أشك في بعض ما يطرح باسم الجديد والتجديد وأنكر بعضاً آخر منه. فالتسرع في إصدار أحكام قاطعة استناداً إلى بعض المظاهر قد يوصل إلى شطط غير محمود العواقب.. لقد كثر فعلاً في ما يكتبه النظامون على الطريقة القديمة الضجيج الإيقاعي الخارجي الذي لا يدعمه تناغم داخلي، الأمر الذي دفع المتحمسين للجديد إلى اتهام الموسيقا الخارجية بالقصور وحملوها مسؤولية الفجاجه في ما يقدمه النظامون.. وقد طالبوا بإعدام الموسيقا الخارجية ورفعوا شعار "الموسيقا الداخلية هي "البديل" جاعلين من التكامل تناقضاً.
            لا أحد يجادل في أهمية الموسيقا الداخليه في الشعر.. ولكن طرح المسألة على هذا الشكل يلحق أفدح الضرر بالقصيدة الحديثة ويفقرها كثيراً. إن ضرورة وجود الموسيقا الداخلية لا تعني حكماً نفي الموسيقا الخارجية.. فتناغم الداخل والخارج أو الباطن والظاهر، كما يقول المتصوفة، يكون أكمل وأجمل وأوفى.. إن كل العقلاء يفضلون جمال الطبع على جمال الجسد ولكن أحداً من العقلاء لا ينكران وجودهما معاً أفضل من وجود أحدهما وحده، وفي بعض ما أوردته من أبيات من شعر أبي سلمى أمثله على هذا التناغم العذب بين الموسيقا الداخلية والموسيقا الخارجية.
            ويرد سؤال: وهل يكون شعر بلا موسيقا؟
            ...
            قلت وأكرر القول: إنها أسئلة تقلقني وحسب.. فهل آمل في أن يعمقها النقاد ويقيموا حواراً واسعاً يكون أساساً لوضع نظرية جماليه عربية متكاملة نقرأ على ضوئها شعرنا العربي، القديم منه والحديث؟
            ...
            أنا لا أقول: كفى ترجمة بل أقول: لقد حان أن نتمثل ما ترجمناه. إننا نترجم كي تزداد جذورنا عمقاً في تربة ثقافتنا الوطنية لا لنغترب عنها بما نترجمه. ولن يساعدنا شىء كالنقد المسؤول.
            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

              أدونيس والشطح في كتاب " الصوفية والسوريالية"
              من نافل الكلام القول إن العلوم كلها والفنون كلها تعود إلى مصدر واحد هو النشاط الذهني للإنسان، يمدها بالقدرة على الحركة ثم تعود حصيلتها إليه لتقويه وتغنيه.. ولا وجود لجدران كتيمة ولا حدود فاصلة بين نشاط منها وآخر .. فكلها من العقل، وكلها توسع آفاق النظرة العقلية..‏
              أما تجليات النشاط الذهني الإنساني فعلى أشكال شتى كثيرة العدد. متنوعة التلونات.‏
              وفي العمل الفكري كل نهاية هي بداية، وكل وصول هو ابتعاد جديد، ولا تختلف الحال في العلوم ولا في الفنون.. أما الترادف في الفن والوجود فغير موجود.. الفن إبداع مستمر والوجود خلق متجدد، ولاتكرار.. وحيثما كثرت المترادفات قلّ الوجود وضمر الإبداع، وشحب الفن وهزل العلم. وطريق الإبداع الحق هي الفرادة غير المتناهية. وهذا يشمل العلوم والفنون جميعاً.‏
              لكن التطور الاجتماعي لايسير صعداً باستمرار، بل تحدث فترات نهوض تقودها طبقة جديدة شابة، تحطم الأطر التي شاخت وتفتح النوافذ والأبواب لرياح التجديد ثم تستقر الأمور ويحدث الامتداد على السطح الجديد وتقل الوثبات صعداً ثم تتلاشى وتركد المياه ويبدأ التعفن إلى أن تولد طبقات جديدة، فتولد معها تيارات جديدة ترج ركود المياه القديمة وتفجر ينابيع جديدة. في فترات الركود يركد الإبداع في كل الميادين، وفي فترات الاندفاع تدب الحركة والنشاط في كل الميادين، يتطور العلم بوثبات وتزدهر الفنون وينتقل المجتمع كله إلى مرحلة نوعية جديدة.‏
              في فترات النهوض تتحطم القوالب القديمة، ويصبح العقل المبدع هو الامام الأوحد "لا امام سوى العقل" وفي فترات الركود ترسخ حدود المناطقة ويقينية أصحاب النظريات، وصرامة رجال اللاهوت. ويفرض على العقل المبدع أن "يلزم الحدود" وتصير النظريات شرائع، والشريعة هي الباب، والباب ليس الكهف الذي تخفى فيه الكنوز، والنظرية هي العتبة، والعتبة ليست أكثر من خطوة أولى على الدرب وليست الدرب ولن تكون. وقد وجدت النظرات الفكرية والفنية لنستنير بها لا لننبهر، والاستنارة لا تعني التصنيم بل التجاوز ... ومن يرى ويستنير ثم لا يعبر؟!‏
              ولعل جدلية الابتعاد والاقتراب، جدلية الضيق والاتساع من مسببات الارتباك في التنظير العلمي والجمالي، فكل تنظير يحتاج إلى منهج محدد ومحدود من أجل السير إلى الأمام، وكل نظرة محدودة لا يمكن أن توصل إلى معرفة شاملة، وقد تعيق البحث بقدر ما تعينه. ويقع المعنيون في الكثير من الارباكات ويواجهون المفارقات.. وقد تخفي عنهم "حماستهم" للمنهج الصارم الكثير من المحرجات.. وكل حماسة نوع من الحب الذي يخفي العيوب ويبرز الحسنات، وفي هذا مجانبة جلية للموضوعية التي ينبغي أن تكون مرشد كل بحث وقاعدته.‏
              ولهذا لم يكن عبثاً نشوء الفلسفة التي تعمم تخصيصات العلوم كلها وتسعى إلى سبك الخاص، والعام، الذاتي والموضوعي، في سبيكة فكرية واحدة، لا يخرج فيها الجزء عن الكل، ولا يكتمل الكل إلا بكمال أجزائه.‏
              ويكون كل أمر متحداً بالحنين: النقيض والبديل، وكثيراً ما نطلق على المكمل اسم النقيض، ولا تناقض في الطبيعة، بل ثمة تفاعل وتكامل.. وإذا خيل لنا أن الشيء يولد من نقيضه، وضربنا لذلك مثل البرق الذي يولد من غيوم، فما ذلك إلا وهم.. فالغيوم ليست نقيض البرق فهي أمه.. والأم لا تكون النقيض لما تلده، والوليد لا يكون نقيض الوالدة بل يكملها.. ومن كل كيان تفيض أنغام تندغم في نبض الكون لتولد كيانات جديدة... ويتجدد الكون كل لحظة ويستمر الإبداع.وكل لحظة هي كارثة كونية هائلة وهي ولادة كونية مذهلة في وقت واحد . ولابقاء في الكون إلاّ للتبدل.‏
              وقد يكون من أسباب الإرباك والركود ان ينفق المبدعون جل أعمارهم عاكفين على إقامة أسس مبدئية جديدة لسلوكهم العملي الإبداعي، ولشق طريقهم إلى أن يصلوا إلى ما يصلون إليه ثم نجدهم ينفقون ما بقي من أعمارهم في ممارسة ما ينفي الأسس التي دعوا إليها وهم يشقون الدرب، أو في الكفاح من أجل تثبيتها كأسس أزلية- أبدية لا يجوز الانحراف عنها أو تجديدها، ثم نراهم يستميتون في الدفاع عن "مكانتهم" ومكانهم... في حين أن مكان المبدع هو الذي أكون فيه فيحملني فابتعد واقترب، واعلو وانخفض، ويكون فيَّ، أحمله فيصير خلايا حية تتفاعل وتنفعل فتلد حباً وكراهية، إلفة ونفوراً، وشوقاً إلى أمكنة أخرى.‏
              والمثقفون " الكبار" عندنا لا يصبحون أكبر من المؤسسات الثقافية الوطنية، ومن اتحادات المثقفين والمبدعين من كتاب وغيرهم فحسب، بل يصبحون "اكبر" من كل تقويم وفوقه، وأكبر حتى من كل ثقافة وفوقها، ويصبح ما تجود به قرائحهم كله هبة لا غنى عنها لحاضر الأمة ومستقبلها، ولحاضر البشر ومستقبلهم أجمعين.. وحتى حين يهذون، وكل إنسان قد يهذي، نراهم يلبسون هذياناتهم لبوس الحقائق الجوهرية،" داحضين" بها الحقائق العلمية، العيانية، دائبين على " تتفيه" حياة البشر "العاديين" من غير أن يتخلوا عن لذة واحدة من لذاذاتها ومباهجها.‏
              أما من لايقر بحقهم في كل ذلك فهو مارق أو متخلف، وأما خطاياهم فمغفورة.. في زمن انقلبت فيه القيم رأساً على عقب..‏
              وأما ما درجنا عليه فهو ان المسؤولية على قدر المكانة...‏
              لكن.. لكل زمان عباقرته ومثله..‏
              وكم تكون دهشة "البسطاء" عظيمة حين يكتشفون أن كفاح" هؤلاء الكبار" ضد الوثنية والأوثان، لم يكن كفاحاً خالصاً لوجه الحق، بل في سبيل استبدال صنم قديم بصنم جديد..‏
              أنا لا أنوي التقليل من قيمة أحد... فشتم المبدعين يرتد على شاتميهم.. وهذا شأن كل كلمة ذميمة تقال بحق من ليس بذميم. وما أريد الوصول إليه هو أمر بسيط جداً وهام جداً في الوقت نفسه ويمكن اختصاره بفكرتين واضحتين . الأولى هي ان الجيل الذي يستطيع كله أن يخطو خطوة إلى الأمام على طريق التقدم الإبداعي هو جيل عظيم ومبارك ويستحق رواده الاحترام والتقدير... أما العبادة والتصنيم فلا... والفكرة الثانية هي ان المبدع، في ميدان الشعر مثلاً، لا يطلب منه أن يكون مبدعاً في ميدان السياسة، أو الفلسفة أو الاقتصاد أو النقد الأدبي أو التنظير.. وحتى في ميدان إبداعه الخاص يستحيل أن يكون ذهباً خالصاً كل ما تبيضه "دجاجة" موهبته. والشعر مذ وجد وإلى آخر الدهر لن يصير "شعراً صرفاً". وقد قالت القدماء "من سمع الغناء على حقيقته مات" وربما كان الشعر الصرف ضرباً من" الموت شعراً".‏
              وما لاشك فيه هو أن أدونيس أحد كبار الشعراء العرب في أيامنا .. لكن هذا لايعني أن لا عيب في شعره كله، ولا يعني هذا أنه بلغ مصاف العصمة في كل ما يقول ويعمل.. كثيراً ما يكون المبدع في ميدان ليس أكثر من عادي في ميدان آخر، ويندر أن يرقى سلوك المبدع السياسي والاجتماعي والأخلاقي إلى مستوى إبداعه..‏
              وإذا كان الجدل السياسي في جوهره حول طرد أدونيس من اتحاد الكتاب العرب قد استطال وتشعب، فإن من بعض تشعباته ما اتخذ منحى الكلام على مكانة أدونيس الأدبية وقد أغدق عليه بعضهم ما يستحق وما لا يستحق من الألقاب..‏
              ربما أصبح معلوماً إلى هذا الحد أو ذاك، أنني لم أكن من بين الذين صوتوا على طرد أدونيس من اتحاد الكتاب في مؤتمر الاتحاد الذي قرر طرده.. لكنني كنت قد أنكرت موقفه السياسي المعروف الذي أثار غضب محبي شعره وغير محبيه، وكتبت أكثر من مقال في الرد على ما كتبه في "جريدة الحياة".. ولما كان عدد من الحريصين "على حرية المبدعين" قد افرطوا في الكلام على حق الكاتب في أن يخالف السائد فأنني سأسمح لنفسي بمخالفة السائد وسأناقش أدونيس "ثقافياً " هذه المرة، وقد اكتشفُ، من يدري، في ميدانه الثقافي أيضاً بذوراً لنبتات موقفه السياسي، أو قد أجد هناك ما ينفي أي صلة للثقافي بالسياسي في "فكر" أدونيس وفي موقفه من قضايا الأمة، ومن قضايا التقدم الإنساني عموماً. وقد أجد في مكانته التنظيرية ما يزيد رسوخ مكانته الشعرية، وقد أجد خلاف ذلك..‏
              لقد كان من بين ما لفت نظري وشد اهتمامي في "تنظيرات" أدونيس هو أنه منذ اكتشف قول النفري:" كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" راح يصدر به الكثير مما يكتب ولا يمل من تكرار أعجابه به، وهو قول يستحق الأعجاب حقاً، لكن أدونيس "زادها " كثيراً جداً .. وصرت كلما رأيت له مقالاً أو كتاباً، أتوقع ان أجد فيه أشارة إلى قول النفري هذا، أو تصريحاً به أو شرحاً مسهباً لفحواه.‏
              وعلى كثرة ما ذكره أدونيس، وذكرّنا به، وعلى كثرة ما لفت انتباهنا، وأكد لنا أن لكل قول اكثر من معنى أو معنيين وأن للأمور ظاهراً وباطناً، على كثرة ذلك لم" يتنبّه" إلى المعنى الآخر الظاهر تقريباً لقول النفري هذا.. فلو تنبه، ولو قليلاً، لأدرك أن النفري كان يستطيع أن يردف :" وإذا ضاقت الرؤية اتسعت العبارة" لكنه آثر الإيجاز فأوجز، فحمل قوله هذه الشحنة التي جعلته يصل إلينا وهو على مثل هذا الجمال والغنى.‏
              لقد سبق للأب بولس نويا اليسوعي الذي كتب "استهلال" كتاب أدونيس الهام "الثابت والمتحول" أن لفت نظر أدونيس بكثير من التهذيب إلى أنه قد وقع "في شيء من العجلة أو التكرار في نقطة أو آخرى" (طبعه دار العودة عام 1974 ص14) فخيل لي أن أدونيس، وهو الذي ينصح الآخرين بالتأني وعدم التكرار، لن يعود إلى ما وقع فيه في كتابه المذكور أعلاه الذي نوّع فيه العزف على الوتر الواحد، وقد أعاد حتى فقد ذلك الكتاب الهام والجميل شيئاً من الجمال والأهمية والكثير من "الشحنة" الداخلية... وهو في الثابت والمتحول لا ينسى ان يكلمنا على " الظاهر والباطن" ويبدو أنه نسي أنه فعل ... فها هو ذا يعود إلى الكلام بإسهاب وتكرار مزعجين في كتاب جديد، على الظاهر والباطن وعلى مسألة هامة هي العقلانية.‏
              واذكر أن أحد أصدقائي كان يسأل:" لماذا نقول بثلاث كلمات ما نستطيع قوله باثنتين ؟" واطرق متأملاً واغمغم: لكن صديقي هذا قد مات... رمحه الله..‏
              الكتاب الجديد الذي قرأته لأدونيس، وزوابع الصخب الإعلامي حول طرده من اتحاد الكتاب العرب في أوج عنفوانها، هو كتابه الأنيق "الصوفية والسوريالية" الصادر عن دار الساقي " ويقع في 292 صفحة مع الملحقات والمصادر والمتحويات.‏
              وإذا كان الإسهاب والتكرار ليسا من البلاغة القديمة في شيء، فإنهما النقيض البغيض للحداثة والمحدثين.. فلماذا لم يتجنبهما العلم الحداثوي الكبير أدونيس؟ من يجسر على التشكيك بكون أدونيس الشاعر أحد أعلام الحداثة، وقد يعده أتباعه العلم الفرد في هذا الميدان وفي كل ميدان.. وإذا كان هذا الباب مقفلاً فأين نجد الجواب.. ومادمنا لا نعرف جواباً يقنع الآخرين فلنطرح ما يخيل لنا أن فيه وجهة نظر لا أكثر.. فعندما يكثر الكلام على فكرة واحدة تكون العبارة قد اتسعت وتكون الرؤية قد ضاقت إلى حد ينذر بالخطر.. ومن يستطيع أن يزعم ذلك وأدونيس من هو عليه من العلم والشهرة!؟‏
              يبقى الوجه الآخر للمسألة وهو: أدونيس يكرر ويعيد ويسهب ويكرس للفكرة الواحدة أكثر من كتاب كامل لأنه لايرى في الآخرين أكثر من تلامذة أغبياء.. فهو يكرر ويسهب من أجلهم.. وقد يكون في مثل هذا الظن كثير من الاثم.. من يدري..‏
              وأدونيس في "تنظيراته" لايكل ولايمل من توكيد دور الصوفية الحداثوي في الأدب العربي، وفي الشعر تحديداً.. فهل يريد ان يقول ان عمر الحداثة قرابة ألف عام؟‏
              وكيف يكون حداثة ما عمره ألف عام؟‏
              أدونيس يتجنب مثل هذه الأسئلة.. كما يتجنب في تنظيراته تحديد المصطلحات التي يخاطبنا بها.. فأبحاثه النظرية مجنحة كقصائده، وقد يغالي في " الشطح" نثراً أكثر مما يغالي فيه شعراً.‏
              ولعل أغرب ما في الأمر هو أن أدونيس يقدم الكثير من الأمور المفيدة جداً في المقدمات ثم ما يلبث أن يخلص إلى نتائج لا تمت بصلة إلى ما جاء من أمور معرفية في تلك المقدمات . يقول على الصفحة العاشرة" إنه من الوجود "النقطة العليا" كما يعبر بريتون، النقطة التي يتوحد فيها ما نسميه المادة وما نسميه الروح، وتزول التناقضات، فهو ليس الواحد الذي يخلق الوجود، من خارج ودون اتصال به، وإنما هو الوجود نفسه في حركيته ولانهايته" "والسفراليه لا يقتضي أن نخرج من الوجود ومن نفوسنا وإنما على العكس أن ندخل أكثر فأكثر في الوجود وفي نفوسنا . واللانهاية ليست خارج المادة، بل هي داخل المادة: اللانهاية هي الإنسان نفسه، والمادة نفسها " ثم نراه يوافق المتصوفة على أن الشرط الأولي لظهور البروق الإشراقية يتمثل في انسحاب الإنسان إلى داخل ذاته، حيث يعيش هذا الداخل، ويعيش فيه، قاطعاً صلاته مع العالم الخارجي" " ويصبح أكثر قدرة على التوغل في أعماق الوجود" - ص54)‏
              فكيف نسي أدونيس جدلية الظاهر والباطن، أو جدلية الداخل والخارج، وعلاقة الجزء بالكل؟ أليس الوجود في داخلنا وفي خارجنا على حد سواء؟ ألسنا فيه ولا نستطيع ان نخرج منه لأن ليس له "خارج:"؟ وإذا كنا في ساعات تأملنا أو شطحنا نرتب في "الداخل" ما جمعناه بسعينا الذهني المتصل - المنفصل من الخارج والداخل معاًً فهذا لا يعني "قطع الصلة" مع الخارج لسبب واحد هو أن ذلك محال. ثم ان كل نقطة في الوجود هي" النقطة العليا" وهي النقطة الوسطي والدنيا" في آن.. و "البروق الإشراقية" لا يلدها الانطواء بل الانفتاح و أعوذ بالله من شر ما يدبر لنا من انفتاح- الانفتاح الإيجابي الفاعل، فيصبح الداخل والخارج، في الذهن كما في الوجود، في وحدة جدلية .. ولا يعود دقيقاً قول جورج باتاني الذي أعجب به أدونيس فاورده على الصفحة (54) ذاتها :" اصبح أنا نفسي المجهول الغامض " فالكل هنا هو المعلوم الغامض، والكل هو المجهول الواضح.. وهنا لا مكان للعلم المألوف الذي يؤدي إلى اليقين المطلق بل هو المعلوم المطلق الذي يتحد بالغموض المطلق، هنا يلتحم المعلوم والمجهول، يصيران انا والكون أو الكون وأنا.. والكل واحد. ويكون الظاهر والباطن كياناً واحداً، فما هو باطن لشيء هو ظاهر لآخر أخفى منه، وما هو ظاهر لشيء هو باطن لآخر أوضح منه .. أو هكذا يخيل لنا..‏
              ومن هنا لا ينبغي أن نخدع بمقولة الظاهر والباطن ونجعلها قولاً صحيحاً صحة مطلقة.. فالإطلاق هو فصم .. ولاشيء منفصم.:.‏
              ومن هنا أيضاً نجد أن ليس لزاماً أن يكون الباطن هو الأفضل والأجمل في كل شيء وفي كل أمر... ومسألة الأجمل والأفضل غير ثابتة وغير مطلقة.. فهي مسألة نسبية ككل الأمور والمسائل. وكثيراً ما يصير الظاهر باطناً والباطن ظاهراً، وكلا هذا وذاك إلى حد، لا بإطلاق..‏
              ويؤكد أدونيس على الصفحة (55):" ثمة إذن تغييب أو تجاوز للعقل والمنطق " ثم يورد قول كريفيل:" فالعقل، هذا الأحمق، يدنس باحتراسه الواقعي كلّ شيء " ثم يجزم "العقل يحدد" وحين " نحدد شيئاً ننفيه- بمعنى أننا نحصره داخل هذا القوس : التحديد وننفي ما عداه" ثم يعود ليوضح ما أكده فيقول على الصفحة (57) "الإنسان، كالوجود، واقع حرية، واحتمال، وتعدد، لاواقع وثوقية نهائية، فندهش ونسأل: هل وصلنا إلى فهم ذلك لولا العقل؟ وهل هذا الذي كشفه لنا أدونيس خارج حدود العقل والمنطق؟ وهل يكون تجاوز الواقع إلا عبره ومن نوافذه وأبوابه بغية الوصول إلى وراء ما كنا رسخناه ورتبناه من معطيات؟ وهل نفعل كل ذلك بإلغاء العقل وبإقامة واقع وهمي؟ أم أن الأمر هنا كما في كل بناء هو استناد إلى الأساس وتجاوز له مع كل معطى جديد؟‏
              ويورد أدونيس قول بايارد في رامبو الذي حظي بالتواصل "المباشر فيما يتجاوز الطبيعة" ثم يورد قول ريمون ابيليو" لن يكون هذا العالم المادي إلا وسيلة لا ستدعاء الانطباعات الجمالية . لن يعاد إنتاج الأشياء" (ص61) ثم يستنتج من هذا الكلام ان العالم واحد:" وحدة في حضور حي واحد حيث تبطل معايير التفرقة بين الموت والحياة " (ص61)‏
              ونعجب بسعة إطلاع أدونيس.. لكننا ندهش.. فكيف نستخلص وحدة العالم من " تجاوز الطبيعة" وهل هذا الذي سيتجاوز الطبيعة كائن غير طبيعي أو من خارج الطبيعة؟ وما معنى أن لا يكون " هذا العالم إلا وسيلة لاستدعاء الانطباعات الجمالية؟" فهل نحن في مكان "وهذا العالم المادي" أما منا وليس فينا كما نحن فيه؟ وهل الانطباعات الجمالية خارجنا وخارج العالم فنستدعيها إلينا عن طريق الوسيلة التي هي العالم؟ أم أننا يمكن أن نقترب من جوهر العلاقات الكونية بالعقل الذي منه الخيال، ونحن في الطبيعة التي هي الكون كله، من غير أن نتجاوزه. فالكشف هو اقتراب حثيث من الجوهر الذي يكون تجاوزه كالبعد عنه؟ ويلح على ثنائية : العقل/ القلب، وينحاز إلى القلب وكأنه نسي الكلام على وحدة الكون فكيف يكون الكون واحداً ويكون الكائن الذي هو الكون الأصغر ثنائياً أو مزدوجاً؟ يقول أدونيس: لا نرى في ضوء ما تقدم أن التجربة السوريالية، ومن ضمنها تجربة رامبو، ليست غربية من حيث منهج الكشف عن العالم وأسراره، بقدر ما هي صوفية، وأن طرق المعرفة فيها مشعورة ومعيشة، بوصفها إشراقية، كما هو الشأن في التجربة الصوفية، في معزل عن المناهج العقلانية والمنطقية، وفي تناقض معها . ذلك أن العقل بالنسبة إليهما، قيد وهو لا يحكم إلاّ بالتقييد"‏
              ويعود إلى التخبط " نرى كذلك أن الحلم في التجربتين الصوفية والسوريالية ليس تماماً خارج الواقع أو غريباً عنه" فالحلم والواقع" وجهان لحقيقة واحدة. إنهما جسم واحد لمرئي- لا مرئي " (ص63)‏
              إنه يجزم هنا: فالمشعور والمعيش أشراقي وهو في معزل عن المناهج العقلانية والمنطقية وفي تناقض معها .!!‏
              ثم يجزم أن "الحلم والواقع وجهان لحقيقة واحدة" كما جزم أن العقل قيد..‏
              ويجزم أيضاً على الصفحة نفسها:" لا تنظير، لارقابة : بل انبثاق وفيض كمثل حركة الوجود"‏
              فهل نسي أنه يكتب ما يكتب في ميدان التنظير والرقابة.. وهل الرقابة العقلية غير ما نسميه المراجعة المتأنية ؟ وهل أدونيس لا يراقب ما يكتب حين يكتب وبعد أن يكتب.. ثم إلا يعد العدة لما سيكتبه قبل أن يكتب؟ وهل يفعل كل ذلك خارج حدود العقل والمنطق؟ أم أن معطيات الواقع الجديدة التي تراكمت "كمياً" عبر العصور قد أدت إلى تبدلات نوعية نستوعبها ثم نتجاوزها بالعقل والمنطق، أي نخرج من قيود المعطيات القديمة إلى فضاء جديد نسبياً ما يلبث هو أن يضيق بما يستجد من معطيات يكشفها العقل الذي هو خلاصة النشاط الذهني البشري، فتتسع الرؤية وتضيق العبارة القديمة ..‏
              ونسأل أدونيس : كيف تحدث المعرفة الإشراقية؟ اليست ضرباً من الحدس الذي صرنا نسميه حدساً فصرنا نتكلم على حدس فلسفي وآخر علمي وآخر وآخر..‏
              وإذا كانت المعرفة الاشراقية في تناقض مع العقلانية والمنطق ومناهجهما، فلماذا لا يتمتع بنعمياتها البلداء والحمقى؟ ولماذا لا تحدث إلا بعد جهود خارقة يبذلها أصحاب العقول الجبارة؟‏
              أما الشرائعيون.. فيحاربون أيضاً العلم والمنطق اللذين يتمددان أبعد من حدود شرائعهم ودوغماتهم.. ولا يحاربون" الشاطحين" من الشعراء والمتصوفة وحدهم... وفي تاريخ الفكر الإنساني أمثلة لا تحصى..‏
              ويعود أدونيس إلى فصم المتحد بعبارات جديدة، وهي مرادفات لما قاله ويقوله ولايمل من تكراره " كأن الصوفية هي رحيل الإنسان الدائم خارج نفسه، أو كأنها قوة تطرد الإنسان من نفسه كما يعبر بريتون في صدد التحليل النفسي " (ص66) وكان اقنعنا على صفحة (54) ان البروق الاشراقية تتمثل في " انسحاب الإنسان إلى داخل ذاته" ليعود ويؤكد مع بريتون ان ما " وراء الوجود موجود في الوجود ذاته" (ص67) ثم ينقل قول ابن عربي "علم الأحوال لا سبيل إليه إلاّ بالذوق، فلا يقدر عاقل على أن يحدها" وقوله " علم الأسرار هو العلم الذي فوق طور العقل" وهو " العلم المحيط الحاوي على جميع المعلومات"(ص67)‏
              ويتركنا في حيرة.. فهل بين "الذوق " الإنساني "طبعاً"، وبين العقل الإنساني جدار كتيم أم يتم الوصول إلى الأول باغناء الثاني إلى الحد الأقصى المتاح، ثم يجري عبر العقل الوصول إلى الذوق... وتبقى مسألة أخرى هي: إذا كان هذا العلم هو "المحيط الحاوي على جميع المعلومات" فهذا يعني أن المطلق متاح .. فهل المطلق أكثر من " جميع المعلومات"؟ وهل يبقى المطلق مطلقاًً إذا صار متاحاً؟‏
              لكن أدونيس يستدرك :" وبما أنه لا نهاية للتجلي، فلا نهاية للتقلب، ولا نهاية للمعرفة " وقلب العارف " يخلق كل لحظة. وكذلك الشأن في الوجود" " العالم تحوّل دائم، وشأن الجماد في ذلك شأن ما هو حيّ" (ص69) " فكل شيء ينشأ لكي يزول، ولكي ينشأ من جديد . العالم يتجدد كل لحظة" و "لاشيء يبقى لحظتين" (ص70) والمطلق "هو الصورة وغيرها في آن " (ص71) والزمان " هو زمان التجلي، زمان رؤية الإنسان لصورة التجلي" واللغة الشعرية ليست "صورة المرئي وحده، أو صورة اللامرئي وحده" (ص72) ونشعر أن هذا الكلام ليس جديداً ولا مبتكراً في زمننا، فهو قديم، وهو منسجم مع العقل والمنطق، حين يكونان عقلاً ومنطقاً، وعلى الرغم من ذلك لم يهرم ولا يزال فاعلاً حتى في المرحلة العليا من مراحل تطور الصوفية والسوريالية والحداثة. وقد يكون في ذلك إشارة إلى أن ما ينشأ من عدم، فما يزول لا يزول تماماً بل يكون الرحم والغذاء لما ينشأ، فما ينشأ ليس جديداً كله. ولا يمكن أن يكون..‏
              ويتكلم أدونيس على "الخيال" وعلى البرزخ الذي هو " مكان التحول " وتكون المعلومات هي :" الوجود المطلق الإلهي، والعدم المطلق، والوجود الخيالي، وهو البرزخ بين الوجود والعدم، وموطن الممكنات التي لا تتناهى" متبنياً أو شارحاً ما قاله ابن عربي.. (ص75) والخيال في نظر ابن عربي " أوسع الكائنات وأكمل الموجودات، مع أنه في تحرك دائم، موجود- معدوم، معلوم- مجهول، منفّي مثبت في اللحظة نفسها" (ص77) ومن لا يعرف " الخيال ومرتبته، لا تكون له من المعرفة رائحة، كما يؤكد ابن عربي" (ص78) وللخيال حق " الإيجاد على الإطلاق ما عدا نفسه " " والحس يرفع ما يدركه إلى الخيال" "والعقل موصول بالحس عن طريق الخيال ." (ص81) " وللوهم حكم في الإنسان شأن العقل . بل إن له سلطاناً على العقل غير أنه سريع الزوال لإطلاقه / بخلاف العقل الذي هو مقيد بما استفاد" (82)‏
              والخيال" وحده يقدر أن يزيح قضبان المنطق" (ص86)‏
              " لكن ما وراء الواقع ليس مطلقاً قائماً بذاته، ومنفصلاً وإنما هو مفهوم مترابط مع الواقع " " والمدهش، العجيب هو كيفية تجلي ما وراء الواقع في الواقع " (ص89) ويقر أدونيس رأي بريتون الذي يجعل "من الخيال مصدراً للمعرفة أكثر يقينية من العقل " ثم يجزم "يبدو، في ضوء ما تقدم، أن الخيال وسيط بين النفس التي هي من عالم الغيب، والحس الذي هو من عالم الشهادة وهو مستودع تستمد منه قوى النفس مادتها." ويوقعنا جزمه هذا في مزيد من الحيرة... فهو يعيدنا إلى الثنائية بعد أن أقنعنا، بما استقاه من فكر الصين، بوحدة العالم.. لكننا نغض النظر عن لا منطقية هذا المنطق .. فأدونيس من الكبار، وقهوة الكبار حلوة، وإن كانت مرة، لأنها مشروب الكبار..‏
              ويتكلم أدونيس على "الحب" فيلخص مفهوم ابن عربي له.. والحب "شرب بلا ري، ومن قال رويت منه ما عرفه" والموجود "لا يحبُ لذاته، بل لما نحب منه أن يكون " (ص96) والمحب " لا يكون عارفاً أبداً والعارف لا يكون محباً أبداً فحبه لنا يسكرنا عن حبنا له " (ص97) أما حب النساء فهو " من كمال العارف" " لأن حبنا للمرأة يقرّبنا إلى الله" (ص99) " والعاشق هنا يحب الصورة التي تخيلها عن محبوبه لا محبوبه بذاته " (ص100) والجنون "سيبدأ عندما لا يعود المحب قادراً على الكلام، أي عندما يخونه الكلام." لأن " الحب عذاب، الحب يقتل " (ص107) لينقل لنا ما تراه السوريالية :" الحب يوفر الإمكان لتجاوز أشكال الوجود الثلاثة ( الجنون، الحلم، الكتابة) ففيه يلتقي الكائن بحقيقته، ويتحرر من جميع الأعراف، ويتسامى." (ص109) والسورياليون يرون ان المرأة " مخلوقة مختارة" (ص110) وأنها " مستقبل الرجل وخلاصه، وقدره" " المرأة مالا ينال" (ص111) وهي وسيط "الرجل إلى العالم الخارق " (ص112) وكل " مكان لا يؤنث لا يعّول عليه" كما يقول ابن عربي (ص113)‏
              ونشعر أن الحب " اختصاص ذكوري" فلا المتصوفة "الرجال" ولا السورياليون "الرجال" يتكلمون على الحب من وجهة نظر المرأة التي لا تنال.. فيبقى السؤال قائماً: هل الرجل أو " روح الرجولة" في متناول المرأة ؟. أم ان الصوفية والسوريالية عالم خاص بالرجال، ولا يجوز أن تدخله النساء؟‏
              في فصل " الكتابة يتكلم أدونيس على الشطح " فالصوفية أسست "لكتابة تمليها التجربة الذاتية" وهي "كتابة لا مكان لها، كأن أصحابها لم يكونوا يعيشون في المكان ، بل في نصوصهم ." (ص115) وينقل عن السراج وصف "الشطحة " التي " ظاهرها مستشنع، وباطنها صحيح مستقيم " (ص117) ثم يتكلم على الوجد وبواعثه فينقل لنا ما قيل ولا يقول غير الأقل من القليل . ثم يتكلم على " الكتابة اللاإرادية " ووصول السوريالي" إلى حالة الشطح أو الحالة التي توازيها في إطار المصطلح السوريالي" (ص114) وهو ينقل أيضاً عن سواه ولا يقول شيئاً.. لكنه، والحق يقال يفطن إلى جانب هام جداً يكاد يلغي كل ما سبقه وما يليه من شطح" يقول " لكن لكي يمكن الوصول إلى هذه الحالة لابدّ من أن يصل الفكر إلى ذروة عليا يهبط منها إلى الجهة الأخرى، اللامرئية، لكي يرى لامرئي الأشياء . ثم لا يلبث أن يشطح، وعلى الصفحة ذاتها، في أثناء كلامه على الكتابة " الآلية" التي يمتدحها كما يمتدح الكتابة الصوفية " الشطحية" والكتاب كله قائم على الموازنة بينهما وكشف السمات المشتركة بينهما .. ويذكر من سمات هذه الكتابة الآلية" انعدام أية رقابة للوعي أو للعقل" وانعدام النظام الكتابي التقليدي.. كما يذكر "الفيضية " "فهذه الكتابة نوع من فيض الكيان، فيض اللاوعي، بحرية مطلقة" (ص135) ثم يخلص إلى القول :" فحين يدخل الشاعر عالم التحولات، لا يقدر أن يخرج منه إلاَّ بكتابة تحولية: أمواج من الصور الاشراقية، التي لا تخضع لمعايير العقل والمنطق، والتي يتحول فيها الواقع نفسه إلى حلم ." (ص137)‏
              ونراه ينسى النسيان كله، مسألة وصول الفكر " إلى ذروة عليا" فالمسألة هي عدم خضوع " لمعايير العقل والمنطق"‏
              في" البعد الجمالي " يؤكد أدونيس:" ثمة غيب يظل غيباً . قائم بذاته ولذاته..." وهو أبعد من كل معرفة . ليس للغة إذن أن تحيط به." (ص 139) " هذا الغيب هو في الوقت نفسه حضور مطلق" وهو يختلف عما نسميه المجهول " المجهول قابل للمعرفة في ذاته لكن هذا الغيب لا تسنفده المعرفة، أو لا تحيط به كلياً"‏
              وندهش لتنقل أدونيس بين المادية والميتافيزيك بمثل هذه السهولة وندهش أكثر حيث يؤكد ان الغيب هو غير المجهول، وان المعرفة وحدها، واخاله يعني المعرفة العقلية وحدها لا تستنفد هذا الغيب. وأدونيس هنا لا يأتي بجديد غير الإيهام بان الشطح أو الجنون قد يفعلان ما تعجز عنه المعرفة العقلية.. فهو يؤكد:" هكذا نرى أن في جمالية التصوف ما يدفع الإنسان إلى أن يتقدم باستمرار، فيما وراء المحدود، المعروف ومن تقدمه هذا لابد من أن يتجدد باستمرار لكي يظل حاضراً أبداً، متهيئاً أبداً للسير نحو المجهول"‏
              ونسأل: إلا يتقدم العلم على الدرب نحو المجهول أيضاً؟ لكن أدونيس لا يريد أن يرى ذلك.. فالتصوف " رفض المنهجية العقلية. وهو لم يرفض نظام هذه المنهجية وحسب، وانما رفض كذلك نظام الحياة القائمة على مقاييسه، من أجل مزيد من انخراطه في مالا ينحد، ولا ينتهي." (ص141) ويعود إلى الكلام على الفيض والإملاء والشطح" في غياب الرقابة العقلية غياباً شبه كامل " ومع ذلك فهو لا يجد " في التجربة الكتابية الصوفية أية مجانية وانما تبقى أرادة كشف مهيّم" وهي لا تقدم " أفكاراً بالمعنى الفلسفي التجريدي، وانما تقدم حالات ومناخات " (142) وهو يسعى في كل سطر يدونه إلى إقناعنا بان الصوفية " وحدها " المتفردة بذلك .. فكأن الكشف " ليس ذروة توق العقل إلى المعرفة والتجاوز.. وهل تتم معرفة من غير كشف؟‏
              ويتكلم عل المجاز: " تكمن شعرية المجاز في لامرجعيته، أي في كونه ابتكاراً، كأنه بداية دائمة، ولا ماضي له." (ص144) " والدينيون " هم الأشد عداء للمجاز" (ص145) وينسى أنهم الأشد عداء للعلم والعقل أيضاً... فيتابع كلامه على المجاز "بالنسبة إلى الصوفية وإلى السوريالية " حيث هو لديهما، أو بالنسبة لهما (كذا) " ليس مجرد أسلوب، وإنما هو كذلك رؤيا " (ص145)‏
              ويمتزج في بحثه الجمالي باللاهوتي، ويكون الكلام على الجميل كلاماً على الله " وعندما نراه في صورة لا نراه - هو، وإنما نرى إلى صورتنا فيه، "الصورة، من هذه الناحية، نور تكثف بقدرة المعنى (الله) ومشيئته، لكي يتهيأ بها التعرف إلى ذاته وإلى صفاته واسمائه إنها تعريف بالمعنى (الله) لأنه خفي، لشدة لطفه لا يدرك ولا يعرف." (ص146) " وليس إدراك الصور إلاّ نوعاً من خرق العادة في الإدراك البصري يضئ ذلك ماروي عن تسبيح الحصى في كف محمد، وقد أعطي له ولأصحابه الحاضرين أن يسمعوا هذا التسبيح " (ص150)‏
              وتزداد دهشتنا:. هل هو مع وحدة الوجود مادياً أم مثالياً ؟ هنا يبدو مثالياً إلى أقصى حد.. (بالمعنى الفلسفي ) فهل نسي ثنائية " العقل / القلب؟" لا ندري.. فهو لا يقول شيئاً بل يتكئ على الآخرين ويورد ما يقولون..‏
              لكنه إذ يخيب أملنا فكرياً وفلسفياً يعود فيستخلص خلاصات "منطقية" من تجربة الكتابة الصوفية.. فالشعر" يتجاوز اللعب الشكلي . إنه انفعال وفعل في آن. إنه الكيان الإنساني - شعوراً وفكراً، في فهم الأشياء، وفي العلاقات التي يقيمها معها. إنه نوع من الوعي، ولذلك هو، بالضرورة، نوع من الفكر" لكنه ما يلبث أن يعود إلى الثنائية فما " نسميه بالواقع الخارجي، أو المادي، الطبيعي ليس إلا جانباً من الوجود . وانه، إلى ذلك، الجانب الأكثر ضيقاً فما نسميه الحياة أو الوجود أكثر اتساعاً " فهل المسألة مسألة ما نسميه وما لانسميه أم هي وحدة الكون ظاهراً وباطناً ؟. أم أن "المادي" ليس من الحياة والوجود؟.‏
              ثم ما يلبث أن يعود إلى التفريق بين شكلي معرفة الحقيقة التي لا تكمن " في عالم الظواهر المباشرة " إلا بشكلها العلمي- الوضعي ." الحقيقة، على العكس سر يكمن داخل الأشياء، في عالمها الباطن. ويستطيع الإنسان أن يصل إليه، لكن بطرق معرفية خاصية، غير وضعية أو " علمية " " فإزاء" الموضوعي في العالم، ينهض الذاتي." (ص155)‏
              ونكون حيال لغتين : منطقية وانفعالية :" الأولى تحصي الأشياء وتمثلها، والثانية توقظها وتغنّيها." (ص156)‏
              وهو يرى في الكتابة الصوفية" تجربة في الوصول إلى المطلق، وهو ما نجده عند كبار الخلاقين في جميع العصور ." لكنه لا يسأل عن مغزى ذلك ولا يشرحه لنا... بل يستطرد "الرمز أو الأسطورة نقطة التقاء بين الظاهر والباطن، المرئي واللامرئي، وهما إذن نقطة إشعاع، مركز حركي ينتشر في الاتجاهات جميعاً . وهما في الوقت نفسه يعبران عن مستويات مختلفة من الواقع بكليته " (ص 156) ولا يقول لنا شيئاً عن المستويات التي يعبر عنها العلم بل يتكلم على الرمز في اللغة العربية .. وينقل لنا شيئاً عن مالا رميه ليجزم " وفي جميع الحالات، يبدو الشعر، كما يمارسه الخلاقون الكبار، حركة لمعرفة المجهول- تقدم ثقافة الجسد على ثقافة العقل، وتقدم البداهة والفطرة على المنطق والتحليل، هو نفسه ما تنهض عليه الكتابة السوريالية " لذلك لابد من تجاوز الظاهر وهدمه. ولابد من تجاوز لغة الظاهر وهدمها" (ص159) "يجب أن تخرج اللغة هي أيضاً من نفسها كما يخرج الصوفي من نفسه" لكن الصوفي يتوغل في نفسه أو ينسحب من العالم إلى نفسه... واللغة لا تهدم بل تشحن بطاقة الذات المتحدة بالعالم كله.. لقد أكد ذلك أدونيس في أكثر من مكان.. فلماذا لا يعيرنا نسيانه كي ننسى ما يقول..‏
              وإذا كانت لغة الشعر " لاضابط لها" من فكر أو منطق، فإن لغة "التنظير" ليست كذلك.. وأدونيس شاعر ناجح لكنه " منظر " أقل نجاحاً.. مع أن لشعره الجيد منطقه الجدلي العميق.. وقد تكون تلك من المفارقات .. لكنها واقع ظاهراً وباطناً..‏
              وينوع أدونيس على " مقولة الظاهر - الباطن"" بمقولة أخرى يجعلها عنواناً لفصل جديد هي " المختلف المؤتلف" وهي مقولة عزفت على أكثر من صفحة من صفحات كتابه "الثابت والمتحول". ويبدو أن أدونيس المجدد جداً والحداثوي جداً يطربه جداً أن يستعيد نغماته القديمة جداً بصيغ غير جديدة جداًُ. ونحن لا نجد جديداً في قوله " هكذا أوّل الصوفي النص القرآني بحيث خلق منه فضاء يتسع لفضاء تجربته، كاشفاً عبر ذلك عن حركة النص وغناه الداخلي " ثم يتكلم على ما حوّل " المجتمع العربي الإسلامي، إلى مجتمع نبذ وعزل وإقصاء، مجتمع نفي وقتل، سوّغ أهل الظاهر هذا كله بالنص القرآني نفسه" وجعل النص " ميدانا للتنافس على السلطة " (ص172) ليتكلم من ثم على " التجربة الصوفية بوصفها " بدعة كتابية" تتجاوز الأطر الدينية بالمعنى الحرفي أو المؤسسي" (ص173)..‏
              وتفلت من يده الحلقة الأساسية .. فالصوفية ليست بدعة كتابية بل ظاهرة مجتمعية أولاً... والمتصوفة، وبينهم ذوو عقول راجحة وكبيرة جداً، قد نحوا هذا المنحى لأن فئة ذات مصلحة ضربت عرض الحائط بما لا يخدم مصالحها من "ظاهر وباطن" وحولت " المجتمع العربي الإسلامي" إلى ما حولته إليه.. فثاروا وقمعت ثورتهم وأعادوا الكرة فعاد القمع أضرى.. فواربوا بدلاً من المجابهة.... ويذكر أدونيس ان رامبو، أبا السوريالية قد قاتل على أحد متاريس الكومونة.. والمسألة في جوهرها ليست في كون "الشريعة متناهية لأنها ترتبط بالعالم، والحقيقة لا متناهية لأنها ترتبط بغيب الألوهة - غيب الكون." (ص173) فالعالم جزء من الكون وليس خارجه... والذات التي ينصحنا بالغوص فيها هي جزء من الكون فكيف نغوص فيها ولا نغوص في العالم ؟!!! وكيف أن الغوص فيها يحررننا والغوص فيه يقيدنا .. ثم أليس في العالم ظاهر وباطن وغيوب وكشوف؟‏
              ويحيلنا أدونيس إلى ناحية شكلية أخرى فيقول إن الصوفي شأن الشاعر " يضع الكلمات في فضاء لم تعهده، ومن هنا يخلق بها جمالاً غير معهود " فكأن الكلمات آنية يعاد ترتيبها وليست كائنات عضوية تكتسب سمات جديدة في الفضاء الذي تسبح فيه ويتكوّن منها (ص174) "‏
              وتنطلق السوريالية، شأن الصوفية، من رفض محدودية الوضع الإنساني، لذلك تحيا في الحلم وعالم اللاوعي مشوشة الحواس، معبرة عن ذلك بما سمته الكتابة الآلية- الكتابة التي امّحت فيها رقابة العقل أو الوعي ." (ص176) والشعر" بحسب السوريالية يخلّص الإنسان من المحدودية التقنية، ويكشف عن أن للشيء الواحد معاني متعددة ومتباينة، مما يظهر هشاشة المنظور الوضعي، وفقر الرؤية المادية للعالم." (ص 177) ثم يعود إلى توكيد ما كان قد كرره مراراً :" وتتميز هذه الكتابة، أساساً، بغياب الرقابة غياباً كلياً، سواء كانت عقلية أو جمالية أو أخلاقية أو دينية أو سياسية- اجتماعية " (ص180)‏
              فالمسألة إذن، مسألة تحرر من الرقابة، وليست تعبيراً عن ضيق بقديم (عقلي وجمالي واخلاقي وديني وسياسي اجتماعي) وتوق إلى جديد وثورة (بكل الكيان، عقلاً وحساً) على أنماط وقوالب فقدت قوة الإقناع، وجانبت المنطق الجدلي.. وليست حالاً تصبح شبه عامة لدى كل هزيمة أيديولوجية كبيرة.. ولدى انكسارات الأحلام العامة‍! ويقع في تناقض أخطر إذ يقول عن هذه الكتابة إنها تكشف "عن جنون الإنسان في محاولات اتصاله بهذا العالم، عن هذياناته وهلوساته، عن ضياعه وتيهه" (ص180)" إنها كتابة - بحث عن المعرفة وطريق الخلاص. إنها مأخوذة بكل ما يجعل الإنسان يسمو فوق نفسه، أو يقذف به خارج نفسه" " تقوم بما يقدر العلم أن يقوم به".. ويذكرنا أن الصوفية نشأت " في مرحلة ازدهار للعلوم النقلية والعقلية في المجتمع العربي" ونشأت السوريالية " في عصر الثورة العلمية الكبرى في الغرب " (ص181) فيزداد ارتباكنا.. فهل هي تبحث عن جنون الإنسان أم يريد الإنسان أن يهرب بها من "جنون العالم!" وهل هي بحث عن الهلوسات والضياع أو بحث " عن المعرفة وطريق الخلاص؟" ثم هل نشأت الصوفية والسوريالية لتجابها " ازدهار العلوم " أم إن القوى التي كانت تكبح كل تقدم وتكسر كل حلم كانت مرمى سهام الطرفين؟ هل نسي أدونيس ان السوريالية ازدهرت على أنقاض ما خلفته الحرب العالمية الأولى التي أصبحت مقبرة لأحلام الكثيرين؟‏
              إن ما لم ينسه أدونيس هو أن يشير إلى التحليل النفسي "بوصفه علماً. فقد وضع التحليل النفسي أسساً يمكن بالاستناد إليها تفسير النصوص الصوفية والسوريالية، تفسيراً دقيقاً وكاشفاً. وهو، في هذا، يضفي على الصوفية والسوريالية مشروعية علمية، بوصفهما مصدرين معرفيين مهمين، بوصف النتاج الذي يصدر عنهما وثيقة معرفية أساسية" (ص 182)‏
              ونسأل : إذا كان ما قيل في امتداح الصوفية والسوريالية وفي ذم العلم والعقلانية صحيحاً فما حاجة الصوفية والسوريالية إلى شهادة حسن سلوك من العلم؟ أليس هما نقيضه؟ ثم كيف يكون نقيضاً للعلم والعقل ما يمكن فهمه وتعليله وتحليله؟!‏
              في القسم الثاني " المرئي " يتكلم أدونيس على "كتابة النفري أو شعرية الفكر "... وهنا " النص لغة لا تحمل أسرار المتخيل وحده، وإنما تحمل كذلك أسرار الذات " وهي " تجربة تتجاوز الواقع من أجل أن تحسن الغوص في داخله، وتحسن استقصاء ما يضمره" وهذا النص يتوجه إلينا "طالعاً من مجهول يستلزم قراءته بوصفه مرجع ذاته لذاته، ويستلزم قراءته بعين القلب، لا في أفق المعلوم بل في أفق المجهول " (ص185).‏
              ونبحث في المجهول عن أفق المجهول فنجد اللامعقول.. لكن نص النفري شديد المعقولية، وربما أمكن القول : هو معقول المعقول .. فكيف طلع علينا أدونيس بهذه التعريفات " التي لا تعرّف شيئاً"؟‏
              يبقى السؤال تائهاً بين الآفاق المجهولة، ويزيدها ارتباكاً ما يكرره أدونيس ويعيده من غير أن يخرجنا " من خبصة المصطلحات" الهلامية .‏
              وتدخل هنا عبارة جديدة يلح أودنيس على تكرارها " نظراً لأهميتها" وهي "إبطال فعل الحواس، إضافة إلى أبطال فعل العقل " ثم يعود إلى تكرار ما كان قد كرره:" الحقيقي تجربة قلبية، لا تجربة عقلية" (ص189) ويخيل لنا أن أدونيس لا يعني ما يقول .. فتجاوز الحساسية القديمة يكون بشحذ الحواس وأرهافها لا بابطالها.. وما يسميه "القلبي" ليس نقيض العقلي بل هو فصيله الطليعي، هو رائده الذي لا يكذب أهله..‏
              لكن أدونيس لا يترك لنا مجالاً للتخيل.. فهو يعني ما يقول حرفياً. مع أنه يتكلم على أنواع "الطرق المسدودة التي يواجهها الخلاق العربي اليوم، على صعيدي السياسة والدين خاصة . فهو يعيش ويكتب في حالة من الحصار، مأخوذاً بسر ينسج بدءاً منه أملاً بما يفتح له أفقاً يهدم الحصار."‏
              لكنه ما يلبث أن يؤكد أن تفجر الفكر في هذه الكتابة" " هو تفجر لغوي فهو، فيما يخرج الفكر من نظام القمع، يخرج اللغة أيضاً، يحررهما معاً من الوظيفية والعقلانية " (ص 190-191) ثم يمتدح لغة النفري بما تستحقه "الفكر هنا شعر خالص، والشعر فكر خالص " (ص192)‏
              ونزداد دهشة.. فالموهبة، إذن، تستطيع أن تصنع من الفكر شعراً، وان تشحن الشعر فكراً!..‏
              ثم يعود " في الرؤية والصورة " ليؤكد وجوب أن " يتحرر الكلام من الطبيعة والمادة" (ص196) وليؤكد أن الرقش العربي- الإسلامي " الارابيسك" هو "كلام لا يقول إلاّ ذاته، إذ ليس له موضوع أو مرجع خارجي " (ص197) واقلب صفحات كررت على هوامشها كتابة كلمة "مكرر" وفيها كلامه على الإبداع "الذي يصدر عن طور "يتجاوز طور العقل" فاشعر بالاطمئنان فما يتجاوز طور العقل سيمر بالعقل حتماً قبل أن يتجاوزه.. إنه يستعمله بفاعلية أكبر ولا يلغيه أو يبطله.. لكن أدونيس لا يقصد ذلك . واما الدليل فقائم في كل خلاصة يستخلصها مما يبسط من مقدمات تكون غنية ومنطقية في كثير من الأحيان..‏
              وهو إلى ذلك يقيم ثنائيات أخرى :" نستمتع بالقصيدة أو اللوحة أو المنحوتة بوصفها عملاً "جمالياً، لا بوصفها عملاً "مفيداً. ووظيفة الفن "نظرية " وليست "عملية" (ص 208) وكأنه يقول لنا: المفيد غير جميل، والتعارض قائم حتماً بين النظري والعملي.‏
              وتتوالى الثنائيات " لأن الشيء علاقة، وليس له وجود قائم في ذاته" " عين الجسم قبل الإسلام هي التي ترى . عين القلب عند المسلم هي التي ترى ." " العالم في نظر الأول، وجود - جاثم أمامنا، بثقله المادي وهو في نظر الثاني مرجأ أو معلق" " الأول يعنى بشيئية الوجود، ويعنى الثاني بما هيته " (ص209)‏
              ونسأل: هل مثل هذا التعميم دقيق؟ هل يمكن أن يدان الفن العالمي القديم كله، والفكر العالمي القديم كله - من.. بابل إلى مصر فالصين والهند، واليونان بمثل هذا الاستخفاف؟ وهل صحيح أنه، كله، كان يعنى بشيئية الوجود دون ماهيته؟‏
              لو تأمل أدونيس جمال الأشياء والكائنات لرأى في مادتها " روحانية" ولرأى في روحانيتها مادة للفكر والشعر معاً ولأعفى نفسه مما وقع فيه من تناقض في تنظيراته . لكنه يعتمد على ما يقرأه لا على التأمل، على الرغم مما يكرره من دعوة إلى " الخصخصة". ومن هنا " يضع عين القلب " خارج الجسد وفي مكان ما فوقه.. وفي الكون المطلق لا يوجد فوق وتحت ولا داخل وخارج..‏
              ولا ينقص اضطراب مدلولات عبارات أدونيس " في الإبداع والشكل" بل يزداد ... فيمتدح عراقة الثقافة " السابقة على الإسلام في سومر وبابل واليونان وفارس والهند" ويبقى " الظاهر والباطن " " المرئي واللامرئي" منفصلين، مع انهما " مفتاحان لفهم التجربة الشعرية الحديثة، ولفهم أبعادها التشكيلية ." (ص221)‏
              ويعود إلى تكرار نفي دور الحواس والعقل في رؤية اللامرئي. وفي معرفة "دخيلاء الأشياء" فيتم ذلك " على العكس من المعرفة العلمية- العقلانية " بالحدس - " الإشراق، النشوة- الانخطاف، وليس مضمون الفن أو الشعر شيئاً آخر غير هذه النشوة " الفن والشعر ينقلان " انفعالاً- نشوة ولا ينقلان فكرة أو موضوعاً." والموت " في هذه النشوة حياة"‏
              ونرى الأفكار والموضوعات في شعر أدونيس في وئام.. ولا ينقص وئامهما نشوتنا . ولو كان شعره هلوسة ولغواً لما انتشينا . ونكاد نزعم إذا صدقنا ما يذهب إليه في "تنظيراته" أن شعره ليس شعراً .. ونقع في حيرة أكبر.‏
              " إن الكلمة عنصر مرئي- ظاهر، غير أن دلالتها باطنة. وهي لا تأخذ هذه الدلالة إلا بعد أن تجرّد من " دلالتها ومساراتها أو سياقاتها السابقة: تجرد كلياً إلاّ من حروفها وموسيقاها. هذا التجريد هو ما يهيئها لكي تدخل في سياق الدلالة الباطنة" وما يلبث أن ينسى هذا بعد ثلاثة أسطر فيؤكد بالثقة الكاملة صحة ما يقول:" ليست الكلمات بحد ذاتها، هي ما يكون النص، أو يعطيه هويته، بل هي الشحنة الانفعالية - الفكرية" ويكون قبل ذلك قد عاد إلى تكرار " هكذا، لكل نص مستويان: الظاهر المرئي، والباطن اللامرئي" (ص225)‏
              واشعر بالكثير من الحرج . ولا أعرف ما إذا كان ما ينتابني هو شعور من الإشفاق أو الغضب، أم هو مزيج منهما .. فهل نقسم له بكل الكتب المقدسة على أننا فهمنا هذا الاكتشاف الباهر، وصرنا نقرف من تكراره له. ثم إلا يشعر بان الظاهر والباطن متصلان ولا حاجز بينهما، وان العلاقة بينهما علاقة عضوية وان المسألة مسألة شفافية وعمق وان فصل الظاهر عن الباطن أمر غير ممكن، وغير منطقي، وغير شعري، وان التفاعل الكوني كله يؤكد ذلك.. أما قال لنا أدونيس وكرر القول: إن الكون واحد.. وان الظاهر والباطن متمفصلان ؟ وإذا كان الكون واحداً.. فكيف نقيم مثل هذه الجدران البرلينية بين القول ودلالته؟! ان ما بينهما متصل وغير منفصل فالظاهر هو الباب إلى الداخل، والداخل لا يتجلى إلا عبر الباب.. والمسألة في جدليتها أعقد من ذلك... وقد يكون من المتعذر شرحها، فلماذا نفتتها ونزيدها غموضاً؟‏
              قد يكون علم ذلك عند الله وعند أدونيس وحدهما..‏
              ...‏
              وينتقل أدونيس إلى الكلام على " رامبو- مشرقياً، صوفياً" فيركز على مسألة "تعطيل الحواس" من أجل بلوغ الشفافية.. وأحسن الظن بأدونيس هنا فأقول إنه يريد " بتعطيل الحواس" أرهافها وشحذها وليس تعطيلها .. فكيف نسمع ما لا يسمع ونرى مالا يرى بحواس معطلة، وعقل مستبعد؟ لكن أدونيس يلح على ذلك مع انه يشير إلى ما تركه غرق الكومونة بالدم من أثر بارز " في نفس رامبو وحياته" (ص 234) وغرق الكومونة بالدم كان حدثاً واقعياً اصطدم به رامبو الذي كان يناضل في سبيل عالم آخر، عالم متحرر من القسوة والفظاظة والدوغما وليس من العلاقات الطيبة والعلم . وتكررت الحال على نطاق أوسع مع السورياليين: الجيل الذي جاء من حطام رجال وهشيم مطامح دمرتهم ودمرتها الحرب الكوكبية الأولى. لقد أذهلهم جنون العالم وليس عقله.. فالحروب ليست عملاً عقلانياً ولن تكون.. والقسوة والاستبداد ليست من المنطق في شيء ... ومن هنا كان الاندفاع في ذعر شديد بحثاً عن عقل العالم ومنطقه في إطار علاقات أخرى، أرقى وليس الأمر مجرد ضيق بالهيمنة "العقلانية - التقنية". وأما الكلام على احتلال الشرق للغرب الذي "ألغى هيمنة العقل على الإبداع الشعري، والفني - الروائي، أجمالاً، وأحل محله بعد اللانهاية" فكلام مردود (راجع ص 236)‏
              إن أمثال هذه التعميمات هو ما يلحق الكثير من الضرر بمنطق البحث أي بحث، وبمنهجيته.. فأدونيس الشرقي أصولاً مايزال يكافح، وفي كتابه هذا، ضد تمسك الشرق " بالظاهر" وضد واقعية الشرق وحتى عقلانيته أم أنه نسي ما قاله وما يقوله؟!‏
              ويبدو أن أدونيس كثير النسيان . فهو كي " يثبت" تأثر رامبو، ولو إثباتاً غير أكاديمي، "بالفكر العربي - الصوفي " يؤكد :" فلا شيء في الإبداع من لاشيء، وما في الذات مسكون بحضور الآخر قليلاً أو كثيراً، بشكل أو آخر. المهم، إذن، هو كيفية التأثر، أو هو كيفية استخدام الذات المبدعة لمادة التأثر وعناصرها " (ص237) فنحس أنه عاد إلى جدلية المنطق وابتعد عن الشطح.. فنتابع القراءة..‏
              نقرأ شيئاً عن تحديد "خصائص النص الرامبوي" ومنها أنه " نص "مغلق" أي مبهم لأنه " ينقل تجربة في الباطن الخفي" و" هي تجربة متعالية" " تتجاوز حدود الطاقة اللغوية . فهناك محدودية للكلمات، أمام لا محدودية التجربة. اللغة تجيء من العالم والتجربة تجئ مما وراءه" - ص238) ونصاب بخيبة أمل كبرى..‏
              فهل ذهب الشاعر إلى " ما وراء العالم" ليحضر تجربته من هناك..‏
              وهل ذهب بإخماد الحواس بالحشيش أم بالصلاة والتصوف، أم أن الأمر سواء.. المهم هو استبعاد العقل والحواس!.‏
              ويعود أدونيس إلى عبارة النفري " كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة" فنشعر أن عباراته هو تتسع جداً.. ونقرأ.. إن الباحث يعرف لنا الشعر، كل شعر، إنه " دخول في عتمة العالم وهذا الدخول نوع من التيه، لكن التيه الذي يضيئه الحدس والقلب " (ص 239)‏
              ونسأل ما هو الحدس، وما هو القلب، وهل هما من عالم غير عالم الجسد الإنساني الذي يقوده العقل؟ وهل يكون الحدس العظيم لدى المجانين ومرضى الحواس والأعصاب أقوى منه لدى عظماء العباقرة، وذوي العقول العلمية الضخمة ؟ أم أن الحدس قفزة عقلية إلى الأمام تأتي بعد بحث طويل وتمحيص وتدقيق؟‏
              ويعود أدونيس إلى السمة الثانية من سمات الشعر الرامبوي الهارب " أبداً من الفضاء الغربي/ الفضاء الاقليدسي- الديكارتي. الفضاء الذي يفرض إكراهات الحياة اليومية، العديدة، المتنوعة"‏
              والخاصية الثالثة " هي أن النص الرامبوي يتجاوز الثنائية الديكارتية الذات/ الموضوع " وهي " ثنائية عقلانية تغذيها نزعة الشك وتحول دون المعرفة الشعرية - المعرفة الحقيقية . ومن هنا لابد من دفعة ما اصطلح عليه بـ " القلب". لابد من التوحد مع الطاقة الحيوية في الوجود، من وحدة الوجود" (ص240)‏
              ونذكر ان العلم قد تجاوز الفضاء الاقليدسي الديكارتي، وأن ثنائية القلب/ العقل هي أيضاً ثنائية، ونبحث عن ما وراء العقلانية ومنطقها فلا نجد فناً ولا علماً.. ونحن نلمس في كل سطر يكتبه أدونيس أنه يتكئ على ثقافته الواسعة التي أبدعتها عقول الآخرين..‏
              ونقرأ الكثير من عبارات إلغاء الحواس وإبطال فعلها.. ولا نصل إلى "المعرفة الشعرية الحقيقية " ولكننا نجد خيطاً رفيعاً مضيئاً في " ظلام العالم" "تبدو الحياة آنذاك تآلفاً كاملاً، ويبدو الإنسان والطبيعة واحداً، ويزول كل ما يفصل الإنسان عن الإنسان، وكل ما يعطل البراءة الأصلية " فندرك أن المسألة غير ما يحاوله أدونيس "المنظّر" أن يقنعنا به... فكل هذه "الشقلبة" هي سعي إلى إزالة كل" ما يعطل البراءة الأصلية " وإلى رفض " كل ما يحول الدين إلى آلة استعباد" " والمتصوف، شأن الشاعر الرائي، هو، في مقياس الحقيقة، العارف الأسمى، لكنه في مقياس الظاهر الاجتماعي أو الشريعة، كافر وملعون " (راجع ص. ص 244-245) ونطمئن قليلاً.. فالخلاف إذن ليس على الحقيقة بل على نوع الحقيقة، وليس حول كل اتصال انساني- مجتمعي بل على المجتمع الذي يعطل البراءة.. وهذا موقف عقلي وأخلاقي رفيع ناجم عن إحساس رهيف بالمسؤولية... وهو صدى لنفور من علاقات تعفنت وتطلع إلى إقامة علاقات جديدة ... ويكون "تعطيل الحواس هو، في الحقيقة، تحريرها " (ص 246)‏
              ونسأل: لماذا لم يذكر أدونيس هذه الحقيقة العلمية المنطقية البسيطة منذ البداية؟ ثم نفطن إلى أمر : لو أنه ذكرها، بداية فكيف كان سيكتب أكثر من مائتي صفحة في هجوها؟‏
              يقول أدونيس:" التعاليم لا تعلم حقيقة الأشياء وانما تساعدنا على أكتشافها . وهي حقيقة متحركة لا جامدة، يجب تأويلها باستمرار، لكي تظل حية باستمرار" وهذا قول علمي ومنطقي.. فهل نرفضه لأنه كذلك؟ أم أن" انفجار الإناء وانفجار اللغة" الذي أحدثهما لم تطفئهما أمطار الحداثة بعد؟. (راجع ص 247)‏
              ويخلط أدونيس بين ما هو غير، وما هو نقيض "وهذا يعني أن الوجود يمكن أن يكون من الناحية الذاتية، شيئاً، وأن يكون من الناحية الموضوعية شيئاً آخر نقيضاً. فالوجود هو نفسه وغيره في آن . كمثل الأنا- الذي هو أنا وآخر معاً ." (ص248) فالآخر في الوجود هو المكمل لا النقيض وغيري لاتعني نقيضي.‏
              وتعجبه عبارة "انفجار الأنا وانفجار اللغة" فيكررها:" وانفجار الأنا أنما هو انفجار التعبير، أو انفجار اللغة" (ص248) والأنا لا تنفجر بل تمتد وتتسع وتتحول، وكذلك اللغة... ومع ذلك تبقى للكلمات المدوية أو الطنانة جاذبيتها، خصوصاً إذا ضاقت الرؤية.‏
              لكن انفجار اللغة عند أدونيس يتمثل "لدى الصوفية العربية في ما يسمى ب-"الشطح"، والشطح" كلام يترجمه اللسان عن وجد يفيض، أو هو عبارة مستغربة في وصف وجدٍ فاض بقوته، وهاج بشدة غليانه وغلبته." أما الجنون فقد يكون خلاصاً"خلّصني جنوني" (ص250)‏
              أما رامبو فكان "صوفياً في كلامه، كما كان كذلك صوفياً في صمته" (ص251)‏
              ويردف الكثير من الكلام المثالي والجميل حقاً. لكنه مع الأسف لا يصح كثيراً في رامبو.. الذي تنكر لماضيه الشعري... واشتغل تاجراً للسلاح وللرقيق.‏
              الملحق الثاني من الكتاب مختارات من أقوال سوريالية لبريتون، ومارسيل ريموند وبيهار وكاراسو، وموريس نادو، واراغون، وبنيامين بيريه، وروبير بينايون، وماسّون، ودالي وكريفيل وايلوار، وبلانشو، وريفيردي وغيرهم..‏
              وقد يكون ما قاله بيار ريفيردي حري بأن انقله لكم أكثر من سواه لأنه قد يعبر بإيجاز عن جانب هام من المسألة الجوهوية يقول:" لا أظن أن الحلم هو تماماً نقيض الفكر. ما أعرفه منه يجعلني أميل إلى الاعتقاد بأنه ليس إلا شكلاً من الفكر أكثر حرية، وأكثر خصوبة" (ص274) واطوي الكتاب... وأعود إلى ما دونت من ملحوظات موجزة. إن بعضها قد يصلح لأن يكون كلمات ختامية وخلاصة لانطباعات محدودة.. من تلك الملحوظات أن بعض الكبار يتوهمون أن كل ما يخطر لهم هام وصحيح فيسارعون إلى تدوينه ونشره، وهذا وهم خطر على الثقافة وعلى مستقبل سمعة هؤلاء الكبار.‏
              أدونيس يعارض الجميل بالنافع والأخلاقي .. ويزعم أن النافع يحجب الجوهر فكيف يكون نافعاً ما يحجب الجوهر... إن ما يحجب الجوهر هو وهم النافع وليس النافع... والنظرة التجزيئية إلى الأمور، النظرة المحدودة الأفق هي التي ترى ذلك... ولا تعارض من حيث الجوهر بين النافع والأخلاقي ... بل على العكس، فليس جميلاً ما ليس نافعاً وليس أخلاقياً بالمعنى السامي للنافع والأخلاقي.‏
              يؤكد أدونيس أن العقل يقيد إذ يحدد.. والتنظير يقيد إذ يحدد، وتقييد العقل - والتنظير من صنع العقل- ليس تقييداً مطلقاً، إنه تحديد موقع وتعيينه استعداداً لانطلاق جديد..‏
              وأدونيس لا يحاول أن يتأمل بعمق كلمات من أمثال الاشراق، أو الحدس.. وأن حدوثهما لا يكون إلا بعد طول تفكير وتقليب للأمور يرهق صاحبه... ولا تحل نعمتهما إلا على ذوي العقول الكبير ة من كبار المجتهدين.‏
              والكشوف والحدوث لا تلغي الواقع، إذ يستحيل إلغاء الواقع، إنما توسع الرؤية، وحين تتسع الرؤية يتقدم العلم ويغتني المنطق ويتطور الإبداع وليس العكس.. أما الحشيش وغيره من مخربات الحس فليست من مكونات الموهبة، بل إن الموهبة تعمل عملها على الرغم من تأثير هذه المخربات الضار... فليس كل حشاش شاعر عظيم مثل رامبو وليس كل مجنون عاشقاً مثل كبار المتصوفة.‏
              لم يعر أدونيس كبير اهتمام إلى كون التربة التي نشأت عليها الصوفية والسوريالية هي تربة تكاد تكون واحدة... فهي مكونة من " أشلاء الأحلام" الاجتماعية وأفول نجم الأمل... وقد صدم الطرفين بعد الشقة بين ما تقوله الشرائع وما يمارسه الساسة الحاكمون باسم تلك الشرائع، المدنية منها والدينية.، ولهذا لاذوا بأحلام اليقظة وفجروا طاقات الخيال، ونبشوا مستودعات العقل الباطن وكفروا بجنون العقل فكانوا اعقل "المجانين" وأعظمهم، لأنهم كانوا من ذوي العقول العظيمة والضمائر الحية والإحساس المرهف.. وقد صدمهم الواقع وسد أفق الخلاص الاجتماعي أمامهم أو يئسوا من أدواته المتاحة فمضوا باحثين عن دروب أخرى للخلاص. وصار بعضهم من المبدعين .. وكل إبداع حقيقي هو، بمعنى من المعاني، تحديد لأحوال أو تجسيد لها، يتم تجاوزه بابداع جديد إلى حال أو أحوال جديدة، فالإبداع يتطور وأدونيس يسمي تطوره تجاوزاً... إذ كل عمل إبداعي حقيقي هو تجاوز، هو خطوة إلى الأمام، وهو إذ يتجاوز ما قبله لا يلغيه، ولا يصادر ما بعده بل يصير جسراً بين قبل وبعد على الدرب الذي لا ينتهي..‏
              وإذ يضيق المبدعون بأطر المنطق التي اهترأت يتجاوزونها لا بمجافاة المنطق ومجانبة العقلانية، بل بشحذ الذهن وتعميق المنطق، ولكل عمل إبداعي جدير باسمه منطقه الخاص الذي يتجاوز المنطق العادي لكنه لا يلغيه ولا يلغي العقل.‏
              أما اتساع الرؤية وضيقها فمتعلق بالعقل.. العقل هو، وحده المؤهل لتوسيع رؤيتنا، وسيبقى رغم انفتاحه، محدوداً بعوامل زمانية ومكانية.. فالبناء لن يكتمل... وكل اكتشاف يفتح نوافذ جديدة...وهذا طبيعي ومنطقي.. أما غير الطبيعي وغير المنطقي فهو أن يوجد، حتى في أيامنا أتباع لشخص أو تيار ينفون العصمة عن الكل ويثبتونها في واحد أو في تيار، مع أن نفي العصمة لا يقبل استثناء..‏
              والمسألة الأخطر شعرياً وفكرياً، مادياً وروحياً، هي وجود مسافة كبيرة بين تحرير العقل والإحساس من كل قيد وبين إلغاء العقل.. والإحساس .. وهذه المسافة التي لم يرها أدونيس هي سبب كل هذا الضياع والشطح في تنظيراته.‏
              ونحن في مسيس الحاجة إلى المزيد من العلم.. أن ما يجعلنا نتخبط في مناقع الجهل والتخلف هو ضمور العلم، واستفحال الجنون. وإذا كان الغرب أساء استعمال العلم في جانب فأكثر من صنع الفولاذ على حساب القيم، وطوق الأجساد بدروع الحديد، فإننا قد نستعمله بطريقة احدى، نحن الذين لانزال شبه عراة في أسمالنا الصوفية.‏
              إننا محتاجون إلى الكثير من العقل لنوازن ما في العالم من جنون...‏
              أما الشعر، أما الإبداع الحق، فسيكون على أحسن ما يرام في احضان العقل الحر... ولن يصير الواقع وهماً إلا إذا صار الوهم واقعاً.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

                الحكاية في الشعر الحديث
                إذا كنا نقول: "لكل شيء بداية ونهاية، أفلا نستطيع أن نردف ولو من قبيل التسجيع على الأقل: "ولكل شيء حكاية"؟
                لكننا لن نطرح المسألة من قبيل التسجيع، فالأمر في منتهى الجد.
                بلى... لكل شيء حكاية، والمسألة أرحب وأعمق من أن تحصر أو تحدد، وهي لهذا تحديداً واضحة جداً وبسيطة....
                فللفلسفة حكايتها، وفي الحكاية شيء من الفلسفة
                وللتاريخ حكايته وفي الحكاية شيء من التاريخ.
                وللتصوير حكايته وفي الحكاية شيء من التصوير.
                ونوجز فنقول: للكون حكايته، وفي الحكاية صور للكون بكل علومه، وفنونه، وكائناته، وكواكبه..
                قد يقول قائل: هذه مبالغة، فثمة أشياء وعناصر، بل ثمة كواكب ومجرات بأسرها لم تكتشف بعد ولا نعرف عنها شيئاً.
                وهذا صحيح لكنه....لا ينفي أن تكون لهذه الأشياء والعناصر والكواكب والمجرات جميعاً حكاياتها التي لم نكتشفها بعد... ولقد اكتشفت البارحة هذه الحكاية:
                في ليالي الصيف الصافية تتمرأى النجوم بمياه الغدير، تمر ريح عابثة على صفحة الغدير، يتجعد خد الماء ويرتعش، ترتعش النجوم وتضطرب، ثم تعود للنجوم ابتسامتها.
                وتتكرر الحكاية.. ومن له اذنان للسمع فليسمع!
                وتنداح الحكايات على امتداد الكون، بل هو الكون بأسره حكاية مستمرة تحكي أخبار الأشياء التي تولد والأشياء التي تموت، إن كان في الكون مايولد وما يموت، وقد يتاح لنا أن نسمع بعض الحكايات، ولكن مالا يتاح لنا أن نسمعه أكثر مما يتاح لنا.
                أما كيف يحكي الكون حكاياه فتلك مسألة أخرى، فقد تكون العلوم والفنون والفلسفات المظهر الخارجي لجوهر الحكاية...
                وإذا كنا لا نعرف كيف، فهل يحق لنا أن ننفي الواقعة؟
                إن الأشجار تنمو كل يوم والثمار تنضج فمن رأى الشجرة وهي تنمو، أو الثمرة وهي تنضج؟
                بلى، بلى، لقد وجدت الحكاية مذ وجد الإنسان وستبقى مابقي الإنسان....
                وما عمر الإنسان؟ لقد رافقت الحكاية الكون منذ الأزل، وسوف ترافقه إلى الأبد..
                فكيف نبدأ حكاية الحكاية؟
                تقول إحدى الحكايات: إن أحد الملوك طلب يوماً من مؤرخي مملكته أن يكتبوا له حكاية الإنسان على الأرض فانطلق العلماء وراحوا يؤلفون المجلدات الضخمة، وبعد سنوات عديدة رجعوا إليه بجمال تحمل ماكتبوا فقال لهم الملك:
                تقدمت بي السن فكيف أقرأ هذه الكتب كلها، ألا أوجزوا مافيها وعودوا إليَّ.
                ورجع العلماء من حيث أتوا وعملوا سنواتٍ عديدة على اختصار الكتب الكثيرة في كتاب واحد.
                وكان الكتاب كبير الحجم فطلب الملك اختصاره، وراح العلماء يعملون جادين على اختصاره.. لكن الموت لم يمهل الملك...
                وبينما هو على فراشه دخل عليه أحد الحكماء وانحنى أمامه وقال:
                - هل ألخص لك يامولاي سيرة الإنسان على الأرض؟
                أشار الملك برأسه الموهن أن افعل.
                قال الحكيم: ولد، وعاش، ثم مات، تلك الحكاية يامولاي...
                ابتسم الملك الشيخ راضياً ثم أغمض عينيه إلى الأبد.
                ذكرتني هذه الحكاية قصيدة لشاعر الحداثة المعروف أدونيس:
                تقول الحكاية- القصيدة:
                لأنني أمشي
                أدركني نعشي
                وإذا كان أدونيس قد أوجز هنا ولم يُخرج إيجازُه الرائعُ الحكاية عن كونها حكايةً فقد أطال وأسهب في أماكن أخرى من شعره، وليست قصيدته "الصقر" الحكاية الطويلة الوحيدة في ذلك الشعر.
                والحكاية موجودة في الشعر قبل أدونيس ورعيله وسوف تبقى بعده وبعدهم، فهل نبدأ سفرنا مع الشعر والحكاية؟
                هل نبدأ بملحمة جلجامش، أو الإلياذة؟ نحن نعلم أن الحكاية قد وجدت قبل هذه وتلك، وليس في ذلك شك، المسألة هي: هل يخفى على أحد السلك الذي هو المحور الناظم لهاتين الملحمتين، سلك الحكاية؟
                ونصل إلى الجاهلية العربية ونقف مع الحطيئة قليلاً فيتلو علينا:
                وطاوي ثلاثٍ عاصبِ البطنِ مرملٍ
                ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما
                فنجد أنفسنا أمام حكاية "تامة الأركان" ولكنها نظمت فصارت شعراً...
                وقد يخطر لزاعم أن يزعم أن من الطبيعي أن تكون الحكاية بارزة القسمات والملامح في شعر الحطيئة وامرئ القيس وعنترة وسواهم لقرب عهدهم بزمن ازدهار الحكاية، ثم إن هذه القسمات والملامح قد اختفت أو تلاشت، أو هي تختفي و تتلاشى مع انسياب الزمن بعيداً.. وأنّى للحكاية أن تجد مكاناً في زمن الكمبيوتر؟
                ونتابع خط سير الشعر العربي، والعالمي في حدود اطلاعنا على خط تطوره التاريخي فنجد أن ملامح الحكاية قد تختفي حيناً ولكنها لا تتلاشى، ثم نراها في الفترة الزمانية ذاتها، ولدى شاعر بعينه تقفز إلى السطح وتبدو واضحة كل الوضوح... فوضوحها وغموضها، وبروزها واختباؤها يرجعان إلى عوامل ذاتية، مرتبطة بطبيعة هذه القصيدة أو تلك ولا رابطة مباشرة تربطها بالزمن، وفي شعر أبي تمام أمثلة كثيرة على ذلك وهي تكون شديدة الوضوح في قصيدته "السيف أصدق أنباءً".
                لن نقف طويلاً مع المتنبي الذي حكى لنا حكاية بدر بن عمار الذي "عفّر الليث الهزبر بسوطه" وحكايات البطولة في معارك سيف الدولة وصولاً إلى الزمن الكافوري... وقد يكون يسيراً تجاوز رؤية الخيل وهي تدوس "الوكور على الذرا" بسيف الدولة حتى:
                إذا زلقت مشيّتها ببطونها
                كما تتمشى في الصعيد الأراقم
                أما أن نتجاوز حكايته الرائعة التي حكى فيها حكاية الإنسان في زمنه وفي كل الأزمنة فأمر في منتهى العسر:
                كلما أنبت الزمانُ قناةً
                ركبَّ المرء في القناة سنانا
                ومرادُ النفوس أحقرُ من أن
                نتعادى فيه وأن نتفانى
                غير أن الفتى يلاقي المنايا
                كالحات ولا يلاقي الهوانا.
                قد يعترض معترض فيقول: المتنبي هنا يعرض فلسفة الحياة وأنت تزعم أنه يحكي حكاية.
                وإنني لأزعم أكثر من ذلك، فالفيلسوف الذي يلبس فلسفته ثوب الحكاية قد يقدم لنا مادة جافة ليست بالفلسفة الجيدة، ولا بالحكاية الجيدة... أما حين تنبثّق الفلسفة من نسيج الحكاية الحي، من لحم الحكاية ودمها، فإننا نكون أمام الفلسفة والحكاية في أحسن صورهما... فانبثاق الفلسفة من الحكاية لا يعني انفصالها عنها.
                قد يكون أساس مسألة الفن هو شعورنا الملّح بأننا محتاجون إلى أن نحكي، أن نقول شيئاً... وحين نسأل كيف؟ تولد مسألة أجناس التعبير، فتكون القصيدة، أو الرواية، أو المسرحية، أو اللوحة‍‍‌!
                أجل، حتى اللوحة... فاللوحة التي لا تقول شيئاً قد تكون الأفقر فناً.
                وأمرُّ مستعجلاً بحكايات ابن الرومي في شعره، ويتلفت قلبي مع قلب الشريف الرضي وهو يحكي أو ينشد:
                ولقد مررت على ديارهم
                وطلولها بيد البلى نهب....
                وتلفتت عيني فمذ خفيت
                عنّي الطلول تلفت القلوب
                ثم أصل إلى عهد النهضة لاقف عند مسألة طرحها نفر من دارسي الأدب، وكادوا يجمعون على صحتها، وهي أن من عناصر التجديد في شعر خليل مطران نظمه الشعر القصصي، وقد عنوا بذلك تلك القصص التي صاغها خليل مطران بأسلوب قصصي ظاهر مثل "فتاة الجبل الأسود" وغيرها.
                إن تلك القصص، على جمالها، وقد أكسبتها الجمال موهبة خليل مطران، لا كونها قصصاً، هي من أقل قصائده قيمة فنية من الناحية القصصية والتجديدية (أقصد قصائده الجيدة) ولعل أجمل حكاياته أو قصصه، إن شئتم، هي تلك التي حكاها بالطريقة غير المباشرة، والقصائد التي تشهد بذلك أكثر من أن تحصر... فمسألة التجديد والحداثة ليست في غياب الراوي أو حضوره على المسرح، وليست في موضوع القصيدة، بل في بنيتها... وكثيراً ما اعتبر النقاد غياب الراوي خيراً من حضوره.
                ونصل إلى القصيدة الحديثة، فما صلة الحكاية القديمة قدم العالم بها؟ إن بعضاً ممن يفلسفون الحداثة يزعمون أنها انفصام كامل عن كل ماسبقها، والانفصام بين شيء وآخر يعني وجود فراغ بينهما، وهذا يعني أن فراغاً قد نشأ بين مرحلتين من مراحل التطور، ولا فراغ في الطبيعة، فهل الشعر غير الطبيعة؟ أو هل الشعر لا يخضع للقوانين التي تخضع لها الطبيعة؟ وهل ثمة مكان للفراغ في التطور الشعري؟
                قد ترى جماعة في ربط الشعر عامة والشعر الحديث خصوصاً بالحكاية حطاً من مكانة الشعر، والشعر "ديوان العرب" قديماً، وهو اليوم روح جمال الكلمات التي تجوب العالم مكافحة في سبيل إنقاذه من القبح.... أنا لا أرى في ربطه بالحكاية حطاً من مكانته بل إعادته إلى النبع ونفياً للانفصام في ثقافات الأمم، وللفراغ في تطور الفنون. أنا أعرف أيَّ ثورة أحدثت الحداثة في بنية القصيدة العربية. وما قصدت إلى التشكيك بضرورتها ولا إلى التقليل من قيمتها، كل ماقصدت إليه هو أن ألفت النظر إلى مسألة، قد يكون الالتفات إليها كابحاً لشيء من الشطط الذي يظهر هنا أو هناك أحياناً.
                أشرت، بداية، إلى عناصر من الحكاية في شعر واحد من كبار شعراء الحداثة. فهل كان ماذكرته استنثاء في شعره؟ ألا مثيل له في قصائد الآخرين؟ بل الأمثلة كثيرة.
                قيل منذ القدم " في البدء كانت الكلمة"... وأزعم: "في البدء كانت الحكاية"... ولا أرى تناقضاً في الجوهر... فالكائنات كلها تحكي وإن كانت لا تتكلم، ولقد حكى الإنسان قبل أن يتعلم الكلام، وقد نحكي حتى اليوم أجمل الحكايات، أو أخطرها من غير أن نتكلم... إن للجسد حكايته.... وقد تكون أفصح من حكايات تحكى بالكلمات...
                وقد يكون أجمل مافي الشعر مالا نقوله بل نومئ إليه وتبقى الحكاية حكاية في كل حال.
                وشعراء الحداثة لا يحكون لنا الحكايات الحديثة وحسب بل نراهم في أحيان كثيرة يحيلوننا إلى الحكايات القديمة ليشرحوا لنا بها أو عن طريقها حكايات عصرنا.. ولقد صار ظاهرة بارزة اتكاء الشعر الحديث على الحكايات والأساطير العربية والعالمية وعلى الفلكلور عامة.
                قد يكون مثال السياب هو المثال الأوضح في هذا المنحى، لكن أحداً لا يستطيع أن يزعم أنه المثال النادر: فالجميع، من غير استثناء، قد فعلوا ذلك، وإلى هذا الحد أو ذاك، وسأبدأ بشعر السياب.
                بين يدي ديواناه "أنشودة المطر" الصادر عن دار مجلة شعر في بيروت عام 1960، و"المعبد الغريق" الصادر عن دار "العلم للملايين" في بيروت عام 1962.
                في"أنشودة المطر" يتكئ اتكاء مباشراً على الأسطورة وفي "المعبد الغريق" ينقل لنا الإحساس الشعري بالأسطوري، وفي الكتابين يحكي لنا حكايته مع الحياة، وقد يكون من أبرز سمات شعره أننا نرى شيئاً من سيرته الذاتية في كل ماكتب.
                سأبدأ بقصيدة السياب الأولى في "أنشودة المطر" وعنوانها "غريب على الخليج"، وسأقف وقفات قصيرة عند قصائد أخرى إلى أن أصل إلى حكاية "المومس العمياء" إذ أن الوقوف طويلاً عند كل قصيدة سيجعل الموضوع أكبر من الكتاب حجماً.
                أسلوب الحكاية هنا يكاد يكون تقليدياً، والسياب أحد الشعراء الذين أتقنوا فن الرواية، وإتقانه لهذا الفن لا يلغي الأسلوب التقليدي بل يغنيه.
                الريحُ تلهثُ بالهجيرة، كالجثام، على الأصيلِ
                وعلى الثلوج تظل تطوى أو تُنشّر للرحيلِ
                ثم يقول:
                جلس الغريب، يسرح البصر المحيَّر في الخليجِ
                ويهدُّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج:
                "أنشودة المطر " ص 11.
                ثم يحكي لنا كيف صار يرى العراق في كل شيء، وكيف صار يسمع اسم العراق في هدير البحر، وفي صراخ الريح والموج وكل ذي صوت حوله.
                وحكاية الاغتراب عن العراق تستدعي حكايات القرية التي اغترب عنها، فها هو ذا صوت أمه ووجهها، وهاهو ذا النخيل المكتظ بالأشباح، والمفلّيه العجوز تحكي حكاية "حزام" وحبه لعفراء... ونرى تنورهم الوهاج "تزحمه أكف المصطلين، وحديث عمتي الخفيضَ عن الملوك الغابرين" (ص12).
                ويحكي لنا حكاية شوقه، ويستخلص منها هذا السؤال:
                أيخون إنسان بلاده؟
                إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟
                ألشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلامْ
                - حتى الظلام- هناك أجمل، فهو يحتضن العراق.
                (أنشودة المطر ص 14).
                ويحمل تربة الوطن الحبيبة "فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه". ويواجه احتقار الآخرين له وإشفاقهم عليه ثم يصور لنا الحلم بالعودة ثم يحبط الحلم:
                " واحسرتاه ... فلن أعود إلى العراقِ!
                وهل يعودُ
                من كان تُعْوزُه النقود؟ وكيف تُدّخرُ النقودُ
                وأنت تأكل اذ تجوع؟ وأنت تنفق مايجودُ
                به الكرام، على الطعام؟
                وفي "مرحى غيلان" نسمع حكاية ظله الممتد حين يموت، وميلاد عمره الجديد... ونرى الغد يورق في دمائه!
                أما "أغنيه في شهر آب" فهي حكاية مرجانة الفقيرة وسيدتها الغنية، هي اختصار لكل الحكايات التي تحكي قصة "النهار المسدود" حيث "الذئب يدّثر إنسانه"، و"الضيفة تضحك وهي تقول: خطيب سعادْ جافاها، وانطوت الخطبة! الكلب تنكر للكلبة..."
                وتتوالى الحكايات "المخبر" "عرس في القرية" "مرثية الآلهة" "من رؤيا فوكاي" وفي كل منها حكايات صغيرة تغني موضوع الحكاية الأساسية، فكأنها الجداول تصب في مجرى النهر فتزيده عنفاً...
                في "قافلة الضياع"، نسمع حكاية المشردين وضياع الأمل.. ويتكرر السؤال القديم:
                "
                قابيل، أين أخوك؟ أين أخوك؟" .....ويجهض الليل "

                "والسفائن مثقلاث بالغزاة: بالفاتحين من اليهود
                يلقين في حيفا مراسيهنّ - كابوس تراه
                تحت التراب محاجر الموتى فتجحظ في اللحود..
                (أنشودة المطر ص 59-60)
                ويؤكد إيمانه بنا:
                "سنظل نضرب كالمجوس نجسّ ميلاد النهار!
                ونمر بالرموز المسيحية والإسلامية واليونانية وكلها تلخص الحكايات القديمة التي نفسر بها حكايات العصر الحديث، ثم يختصر لنا حكاية "الحضارة الرأسمالية" وضياع القيم الإنسانية أو اختصارها في قيمة وحيدة:
                "والذي حارت البرية فيه بالتآويل، كائن ذو نقودِ! "
                وفي قصائده في بلدته "جيكور" نسمع حكايات كثيرة... لقد تحولت إلى مدينة وخسرت براءتها.. وتصير المراثي حكايات... بل هي الحكايات تلبس لباس المراثي... ونراه يهرب منها:
                على جواد الحلُم الأشهب
                أسريت عبر التلالْ
                أهرب منها من ذراها الطوالْ.
                ويحل "ربيع الوباء" و"ينخذل الموكب" ويهتف الشاعر:
                "ياشمس أيامي أما من رجوع"
                (ص 108 وص 115).
                ويختصر في "ثعلب الموت" صور الموت المتعددة في صورة أخيرة:
                "هكذا نحن، حينما يُقبل الصيادُ عزريلُ:
                رجفةُ فاغتيالُ.
                قصيدة السياب "المسيح بعد الصلب" هي حكاية معاصرة، أسلوباً ومحتوى.. والصياغة الشعرية هي عناصر تزيينية لا أكثر... ولكنها حكاية يحكيها الشاعر السياب.. والإشارة هنا تكفي إذ نجد فيها كل سمات شعره الجمالية.
                ونصل إلى "أنشودة المطر" ونقرأ حكاية العراق التي حاولت أن تختبئ وراء هذا المطلع الجميل:
                عيناك غابتا نخيل ساعةَ السحرْ
                أو شرفتان رأح ينأى عنهما القمر.
                والعراق حكاية تختصر حكايات كثيرة أو تتوالد فيها حكايات كثيرة.. ونقرأ في كل مقطع أكثر من حكاية أو نرى أكثر من إشارة إلى حكاية أو أسطورة:
                وينثر الخليج من هباته الكثارْ،
                على الرمال : رغوه الأُجاج، والمحار
                وما تبقى من عظام بائس غريق
                من المهاجرين يشرب الردى
                من لجَّة الخليج والقرار
                وفي العراق ألفُ أفعى تشرب الرحيقْ
                من زهرة يربُّها الفراتُ بالندى
                واسمع الصدى
                يرن في الخليج
                "مطر....
                مطر....
                مطر....
                في كل قطرة من المطر
                حمراء أو صفراء من أجنّة الزَّهرْ..
                وكل دمعة من الجياع والعراه
                وكل قطرة تُراق من دم العبيدْ
                فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
                أو حُكمةٌ تورّدت على فم الوليد
                في عالم الغد الفتيّ، واهبّ الحياة،
                ويهطل المطر...
                (أنشودة المطر ص160-166-167).
                ونقرأ نهايات سعيدة لقصائد أخرى "سيولد الضياء.. من رحم ينز بالدماء"(ص 171) أو "لنعلم أن بابل سوف تغسل من خطاياها" فلا نخرج من جو الحكايات القديمة.
                ويحكي لنا حكاية نضال بور سعيد في قصيدة "بور سعيد" ونشاركه شعوره الحار وهو ينشد:
                أحسست بالذُّلّ، أن يلقاك دون دمي
                شعر، وأني بما ضحيّتِ أنتصرُ
                لكنها باقة أسعى إليك بها
                حمراء يخضّلُ فيها من دمي زهَر!
                و "المومس العمياء" قصيدة طويلة وقد تكون من أجمل القصائد الطوال، وهي حكاية، وقد تكون من أكثر الحكايات إيلاماً للنفس، فهي تضج بالمأساوية. العرض الثمين يباع في سبيل اللقمة، والعراق بلد الخيرات، ثم تبقى اللقمة عزيزة المنال.. وتظل المومس العمياء تمضغ ذلها وتزداد جوعاً. ونشعر أن مهانتها توجع ضمائرنا، وأن ذلها هو ذل للعرب جميعاً وللبشرية بأسرها، تبدأ القصيدة بكلمة الليل.. وتأتي بصيغة أخبارية.
                الليل يُطبق مرة أخرى، فتشربه المدينة...
                والعابرون إلى القرارة... مثلُ أغنية حزينة..
                وتأتي كلمة الليل في السطر الأول من المقطع الثاني بصيغة إنشائية:
                من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف...
                ونمضي في الليل مع الشاعر فنراه يسهب ثم يوجز:
                موتى تخاف من النشور
                قالوا سنهرب، ثم لاذوا بالقبور من القبور!
                ...
                من هؤلاء العابرون؟
                أحفاد "أوديبَ " الضريرِ ووارثوه المبصرون..".
                ثم يعود إلى الإسهاب فيصف حارس المبغى والمومسات:
                جيف تسَّتر بالطلاء، يكاد ينكر من رآها
                أن الطفولة فجرّتها، ذات يوم بالضياء.
                ويورد تنويعات لهذه الفكرة ثم يلخص حكاية سقوط آدم، وحواء تلخيصاً معاصراً:
                والحية الرقطاء ظل من سياط الظالمين"
                أجل.. وهانحن نرى وجه المال "المال، شيطان المدينة" ونرى في وجوه المومسات وجه "فاوست" فهو قد باع مثلهن جسده للشيطان، وأما "شيطان المدينة فقد "جارت على الأثمان وفرة مالديه من العبيد، الخبز والأسمال حظ عبيده المتذليين"(ص 202-203).
                وندخل لب المأساة:
                " والريح صرٌّ، والبغيُّ بلا زبائنَ منذ حينْ
                إن لم تضاجعها وصدَّ سواك عنها معرضينَ
                فكيف تحيا ؟ وهي، مثلك، لا تعيشُ بلا طعام؟
                ويوغل في أيلامنا:
                وأنت ويحك يا أخاها
                ماذا تريد، وعم تبحث في الوجوه؟ ويا أباها
                إطعن بخنجرك الهواء... فأنتما لن تقتلاها..
                هي لن تموتْ:
                سيظل غاصبها يطاردها وتلفظها البيوت"
                وأصلُ مأساتنا في كونها لن تموت.. وفي كون غاصبها سيظل يطاردها.
                وتستمر الصور "ويمر عملاق يبيع الطير" وتدعوه إليها:
                عمياء تطفئُ مقلتاها شهوةَ الدم في الرجال
                وتحسسته كأن باصرة تهمُّ ولا تدور
                في الراحتين وفي الأنامل وهي تعثر بالطيور،
                وتوسلته: فدى لعينك- خلّني بيدي أراها".
                ويكادُ يهتُكُ مايغلّفُ ناظريها من عماها
                قلبٌ تحرق في المحاجر وأشرأب يريد نور!
                وتمس أجنحه مرقطه فتنشرها يداها،
                وتظل تذكر -وهي تمسحهن- أجنحة سواها
                كانت تراها وهي تخفق... ملءَ عينيها تراها:
                سربٌ من البط المهاجر، يستحثُ إلى الجنوب
                أعناقه الجذلى.. تكاد تزيد من صمت الغروب
                صيحاته المتقطعاتُ، ويهمس البُرديُّ بالرجع الكئيب
                ويرج وشوشة السكونْ
                طلق .. فيصمتُ كلُّ شيءٍ.. ثم يلغطُ في جنون".
                وتتمنى أن يكون أبوها هو الذي أطلق النار.. فإذا صادَ بطة فسوف يشبعون.. ولكنها تجده: "وقد تضرج بالدماء..هو والسنابل والمساء...!" لقد رأوه يسرق بعض القمح فقتلوه:
                "وتحس بالدم وهو ينزف من مكان في عماها
                كالماء من خشب السفينة، والصديد من القبور
                وبأدمع من مقلتيها كالنمال على الصخور"
                ويطرح الشاعر أسئلة على لسان المومس منها:
                "ومن الذي جعل النساءْ
                دون الرجال، فلا سبيل إلى الرغيف سوى البغاء؟"
                لقد استغلوا فقرها فاغتصبوها وكانت تتمنى:
                "ياليت حمالاً تزوجها يعود مع المساء
                بالخبز في يده اليسار وبالمحبة في اليمين..."
                وينقل لنا حكايات نساء أخريات فتضيق بنا الدنيا كما تضيق بالمومس العمياء الجائعة.. وتفكر بالانتحار ولكنها تخشى عقاب الآخرة:
                "لو أستطيع قتلت نفسي"
                وتوسوس أخرى: "
                والجحيم؟ أتصبرين على لظاها؟" لا، هي لا تستطيع. ولقد غيرت حتى اسمها:

                "وهي -منذ أن عميت- "صباحُ" فأي سخرية مريرة!
                أين الصباح من الظلام تعيش فيه بلا نهار.
                ويكبر شعورها بالمأساة فيجسده الشاعر في سؤال:
                "لم تستباح وتستباح على الطوى؟ لِمَ تستباح؟
                كالدرب تذرعه القوافل والكلاب إلى الصباح؟"
                وتحلم بالثأر.. من الرجال:
                وتلقفوها يعبثون بها، وما رحموا صباها.
                وتمر في بالها وجوه أبناء بلدتها الطيبين:
                هم مثلها -وهم الرجال- ومثل آلاف البغايا
                بالخبز والأطمار يؤتجرون، والجسدُ المهين
                هو كل مايتملكون، هم الخطاةُ بلا خطايا
                ويتوغل الشاعر عميقاً في قرارة مشاعرها:
                "لِمَ يُعرِضُ الزانون عنها وحدها؟ لم يُعرضِون
                وهي الفقيرة فقر شحاذ؟ أما هي كالنساء؟
                أو مالها جسد كناضجة الثمار؟"
                وتتذكر بالأمس:
                "بالأمس، إذ كانت بصيرة،
                كان الزبائن بالمئات..."
                وتتمنى أن يعود نظرها لحظة لترى:
                "كيف هو الطلاء؟
                وكيف أبدو...؟ "
                وتخبو الأمنية، وتندثر ثم تتحول إلى صرخة:
                "لا تتركوني يا سُكارى
                للموت جوعاً، بعد موتي -ميتة الأحياء- عارا".
                وتؤكد لهم أنها ماتزال امرأة تعرف مايطلب منها:
                مازلت أعرف كل ذاك فجربوني يا سُكارى!
                من ضاجع العربية السمراء لا يلقى خسارا.."
                ويكاد دمي يجمد في عروقي:
                "لاتتركوني... فالضحى نسبي؟
                من فاتح، ومجاهد، ونبي!
                عربية أنا: أُمتّي دمها
                خير الدماء... كما يقول أبي
                في موضع الإرجاس في جسدي وفي الثدي المذال
                تجري دماء الفاتحين..فلوّثوها يارجال"
                ونسمع صوت الشاعر حاداً كالمبضع:
                "ويحَ العراقِ! أكان عدلاً فيه أنك تدفعينَ
                سُهادَ مقلتِكِ الضريرةْ
                ثمناً لملء يديك زيتاً من منابعه الغزيرة؟
                كي يثمر المصباحُ بالنورِ الذي لا تبصرين؟"
                ويمضي الليل... وتوصد أبواب المبغى وهي تنتظر جائعة:
                "الباب أوصد.
                ذاك ليل مرّ..
                فانتظري سواه".
                أعرف أنني أسهبتُ، وقد أكون خرجت عن الموضوع.. ولكن هذه القصيدة الحكاية تطرح أكثر من مسألة هامة من مسائل تحديث شعرنا العربي ومن مسائل الحداثة الشعرية عموماً، ومن مسائل الشكل والمحتوى وغيرها من المسائل التي لا تزال شائكة وحادة على كثرة ما اقتلع الدارسون من شوكها وكثرة ماأزالوا من حدتها.,
                قد يقول قائل: قصائد السياب في "أنشودة المطر" هي جسر إلى الحداثة وليست الحداثة نفسها.. ونسأل بدورنا: وأين هي الحداثة التي مابعدها حداثة؟ إن كل حداثة ستكون جسراً إلى حداثة تليها.. فلن يتوقف التحديث أبداً.. والتطور لن ينقطع.. ولنتذكر أن خط التطور الحداثوي واضح جداً لدى كل شاعر من شعراء الحداثة فكيف يمكن أن يكون طفرة لدى جيل أو أجيال؟
                وما يعنينا الآن هو أن الحكاية مازالت ظاهرة في الشعر.. لقد غيرت شكلها، كما غيرت شكلها الأجناس الفنية الأخرى، ولكنها لم تندثر، لقد أثبتت قدرة خارقة على البقاء وعلى التكيف مع الظروف الجديدة، وأزعم أنها ستبقى في الشعر والفنون مابقي الشعر، ومابقيت الفنون.
                في "حفار القبور" أيضاً يحكي لنا السياب حكاية صغيرة في إطار الحكاية الكبيرة.. ولن أتوقف عند هذه القصيدة فثمة قصائد أخرى وشعراء آخرون.
                في "المعبد الغريق" وهو الكتاب الثاني للسياب بعد "أنشودة المطر" نرى انتقالاً ملحوظاً من العام إلى الخاص... ونرى اقتضاباً في الوصف وفي الاتكاء على التاريخ والأسطورة، ونرى جهداً لاخفاء الحكاية وراء الغنائية، ولكنها تطل علينا من كل قصيدة، وتطل أحياناً، من كل مقطع.. ولا أرى حاجة للإكثار من الأمثلة من شعر السياب فلننتقل إلى شعر شاعر آخر.
                ينتقل خليل حاوي بخطا واسعة من شعر اللفظ نحو شعر الفكر، فيتوارى الكثير من الوصف غير الموظف في بنية القصيدة، ومع ذلك يبقى وجه الحكاية سافراً سفوراً شبه كامل في ديوانه الأول "نهر الرماد" (- منشورات مجلة شعر-1957)، ثم نراه يتقنّع بشتى الأقنعة في ديوانه "الناي والريح" (دار الطليعة -بيروت 1961) ومن ثم نراه يعود إلى الظهور الشفاف في قصائده الأخرى.
                ها أنا ذا أقلب صفحات "نهر الرماد" فأي حكاية أختار؟ ثم أقف عند هذه الحكاية من "جحيم بارد" (ص 42).
                "ليته مالمنّي من وحلةِ الشارعِ،
                ماعودني دفءَ البيوتْ
                ويداً تمسحُ عاري وشحوبي
                ليت ماسلفنّي ثوباً وقوتْ..
                ونعمنا بعضَ ليلاتٍ... تلاها:
                هذيانٌ، سأمٌ، رعبٌ، سكوتْ.."
                ثم أسمع حكاية السجين الذي يدعو السجان قائلاً:
                "رد باب السجن في وجه النهار
                كان قبل اليومِ
                يُغري العفو أو يغري الفرار
                (ص 56).
                وفي قصيدة المجوس في أوروبا نقرأ حكاية الحضارة الحديثة ونرى إله المتعبين والضائعين:
                " يا إلهاً هارباً من صرعةِ الشمسِ
                ومن رعبِ اليقينْ
                يتخفى في المغارة:
                في كهوف العالم السفلي
                من أرض الحضارة" (ص 70).
                وندرك أن العالم قد ضيع براءته إلى الأبد، ونتذكر مع الشاعر:
                "وتذكرت قتال الغول والتنين
                في أرضي وكانت وادعه.." (ص 90).
                ثم ننتقل إلى قصيدة "الجسر" فنسمع حكايتنا نحن:
                "ماله ينشق فينا البيت بيتين
                ويجري البحرُ مابين قديم وجديد!
                صرخةٌ، تمزيقُ أرحامٍ، وتقطيعُ وريدْ،
                كيف نبقى تحت سقفٍ واحدٍ
                وبحارٌ بيننا... سورٌ عنيدْ؟
                ومتى نطفرُ، نشتدّ ونبني
                بيدينا بيتنا الحر الجديد؟..(ص 97).
                أما من "الناي والريح" فأنقل لكم حكاية واحدة كي لا أطيل... من منا لا يعرف حكايات القرى حيث يخطب الشاب الفتاة ثم يهاجر، وتبقى منذورة له... اسمعوا الحكاية ذاتها من خليل حاوي:
                ولربَّما ماتت غداً
                تلك التي يبست على إسمي
                ومصّ دماءها شبحي
                وما احتفلتْ بلذاتِ الدماءْ
                ماتت مع الناي الذي تهواهُ
                يسحبُ حزنه عَبْرَ المساءْ
                ومع الورود متى التوتْ
                بيضاءَ، ينسجَ عرسَها ثلجُ الشتاءْ
                طول النهار
                مدى النهارْ
                تنحّلُ في عصبي جنازَتُها
                يحزُّ النايُ فيهِ
                وما يزيحُ عن القرار:
                ماتت وما احتفلتْ وما عرَفَتْ
                رفاهَ يدٍ تُظللُها ودارْ
                وأدع خليل حاوي لا لقلةِ حكاياه، بل لضيق الوقت...
                عند أدونيس نقف أمام شعر شاعرجله حكايات، شاعر أتقن فن الحكي ولم يوارب.. قد يغضب شعراء الحداثة والمنظرون لهذا..لابأس... قصائد أدونيس حكايات متطورة بل هي حكايات حديثة.. فهل يرضيكم هذا؟ أم أنكم لا تريدون أن تصبح الحكاية حديثة كما أصبح الشعر حديثاً؟
                وأقف محتاراً ! فهل أنقل لكم كل حكاياته ؟ مستحيل .
                وأفتح المجلد الثاني من أعمال أدونيس الكاملة الصادرة عن دار العودة وتقع عينيَّ على "شجرة النار" وها أنا أنقلها كاملة:
                عائلة من ورقِ الأشجارْ
                تجلس قربَ النبعْ
                تجرح أرضَ الدمعْ
                تقرأ للماء كتاب النار
                ...
                عائلتي لم تنتظر مجيئي
                راحتْ
                فلا نارٌ ولا آثار.
                (ص 18).
                وأقلب صفحات ثم أقف فأنا في "إقليم البراعم":
                مرَّ هنا إيكار
                خيمَّ تحت الورق الشاحب شمّ النارْ
                في غُرفِ الخُضرةِ في البراعمِ الوديعة
                وهزَّ،
                هزّ الجذعَ واستجار
                والتفَّ كالوشيعة
                ثم انتشى وطار
                ...
                لم يحترق -لما يَعُدْ إيكار ( ص 24).
                وأعيد أعمال أدونيس الشعرية الكاملة إلى مكانها من المكتبة، وأهم بأخذ أعمال شاعر آخر ثم أحجم.. فمن منكم لم يقرأ تلك الأعمال؟ وهل من الضروري أن أذكركم بقصائد أمل دنقل، أو البياتي، أو عبد الصبور، أو شوقي بغدادي، أومحمد عمران، أو فائز خضور، أو محمود درويش، وسواهم؟
                قد يقول قائل: الشعر جنس مستقل من الأجناس الأدبية، وقد يقول متحمس للشعر: إن الشعر أرقى الأجناس الأدبية فكيف تقارنه بالحكاية أو تقرنه إليها؟
                واضرب لهذا وذاك المثال التالي: أنا ابن أمي... وهي امرأة وأنا رجل، وكانت أميّة، وأنا أقرأ وأحاول أن أكتب، ومع ذلك أفخر بأن أفضل مافيَّ من صفات قد ورثته عنها.
                وإضافة إلى ذلك إليكم ما تقوله فتاة في إحدى الحكايات الهندية القديمة جداً:
                "إن مايعيش مني على هذه الأرض ظاهراً للآخرين، ليس سوى جسدي، أمّا نفسي الحقّةُ فهي تستريح في بلاد عجيبة، ولا يحق لي أن أتبع سوى الشخص الذي يعثرُ على روحي" (الحكاية الخرافية، ص 77، تأليف فردريش فون دير لاين، ترجمة الدكتورة نبيلة إبراهيم) هلا تأملتم عمق هذه الفكرة، ورحابة شاعريتها، وجمال رمزها؟ هل هي فلسفة؟ نعم وهي شعر وهي حكاية قبل كل شيء، وبعد كل شيء.
                نعم.. وهي رمز إلى عبادة قديمة، عبادة متصلة بحياة الناس اليومية وبأشواقهم، يوم لم تكن عبادتهم وطقوسها منفصلة عن حياتهم وأشواقهم.
                وأما الشعر الصافي، الشعر المطلق فلم يوجد بعد ولن يوجد، ولا توجد كلمات شعرية وأخرى غير شعرية، ولا توجد موضوعات شعرية خاصة وأخرى غير شعرية، إن الشاعر الحق يتكئ على الموضوعات التي تثيره، ويصنع منها شعراً بالكلمات.. وذاك سر الموهبة.. وقبل ذلك لا يكون شعر.
                قد لايكون في الحكاية شعر، وليس كل الشعر شعراً، فالشعر جنس رفيع من أجناس التعبير، ولكن الحكاية تصبح عنصراً مكوناً للشعر حين يستخدمها الشاعر ببراعة، ومع ذلك فهي لا تفقد سماتها كحكاية إذا صارت شعراً حقيقياً... فهل الشعر نوع راق وممتاز من أنواع الحكايات؟ أم أن إقامة سور كتيم بين الأجناس الأدبية هي مسألة نظرية الى حد ما؟
                قد تكون أمثال هذين السؤالين أسئلة ساذجة... هذا صحيح.. وتكاد الإجابة عنها تكون بدهية... وهذا ماقد يزعج النقاد الصارمين والمنظرين لشعر الحداثة عموماً.. لقد وضع الناقدون نواظم ومعادلات شبه رياضية وحبسوا النقد داخلها، أي جعلوا منها أصولاً للعبة يخسرها من لا يتقنها... واكتسب النقد مزيداً من الصرامة.
                تقول الحكاية إن جماعة من كبار الباحثين اجتمعوا ليضعوا قواعد علمية للفرح وتحديد مفهومه وبواعثه وأسبابه الفيزيولوجية والاجتماعية والنفسية... وراحوا يعملون، يحللون ويعللون بصرامة وتجهم.... وفي اليوم العاشر دخل إلى حيث يجتمعون طفل فأشار إشارات خرقاء وبسيطة، ولثغ ببضع كلمات ثم تعثر فتأرجح ووقع أرضاً، ثم نهض معتمداً على ركبة أحدهم فضحكوا بعد تجهم.. وحين أخرج الطفل عادوا إلى الجد والصرامة وقد فاتهم أن الفرح أبسط من كل المعادلات التي وضعوها، وأنه موجود في أشياء كثيرة حولنا، كثيراً ما تحجبها عنا هذه المعادلات التي نضعها من أجل البحث عنها.
                ونخلص إلى القول: حيث بسقت شجرة الحكاية راح بستانيو الثقافة يطعمون فروعها، فصرنا نقطف منها الأسطورة، والمسرحية، والملحمة، والرواية، وشتى الفنون.....
                ومما يثير فضولي أن الحكاية التي رافقت الإنسانية منذ طفولتها لا تزال حبيبة الأطفال الأثيرة... ولولاهم لضاع الكثير من الحكايات....
                وأعترف بأنني بدأت أترجم للأطفال حين نفد ماكان لديَّ من حكايات حكيتها لأولادي يوم كانوا صغاراً.. وقد شرعوا يطلبون مني المزيد.
                فهل حب الأطفال للحكاية شكل من أشكال غريزة البقاء شاءت الحياة البشرية بواسطته أن تحتفظ بذكرى طفولتها؟ أم أن الطفولة تبقى في لا شعور الفنان وتبقى معها الحكاية... فإذا أبدع عملاً أطلت منه الطفولة والحكاية بصور شتى؟
                من يدري.؟ قد يكون الأمر كذلك.
                ...
                وختاماً
                : قد يسأل سائل: وما خلاصة هذا الكلام كله؟
                الخلاصة هي أن التجديد لن يتوقف والتواصل لن ينقطع، وقد يقول قائل: فكرة قديمة وساذجة.
                وأقول:
                أجل.. ولكن ألا ننسى أحياناً، الكثير من الحقائق البسيطة والساذجة والقديمة؟
                لقد جاءت القوانين العلمية المعقدة لتغني الحقائق البسيطة وهي لا تستطيع أن تلغيها.
                والحكاية التي هي مادة الفنون الأولى، هي كالمادة في الطبيعة، تتحول وتبدل صورها، ولكنها لا تفنى.
                قد يرى الصارمون في ماقلته ضرباً من المزاح... نعم، هو نوع من المزاح، إن شاؤوا، وفي كثير من المزاح كثير من الجد أحياناً، وقد يكون الكثير منالجد مزاحاً صرفاً... فلا تأخذوا كل مايقال مأخذ الجد، ولا تأخذوا كل مايقال مأخذ المزاح.... إننا نكتب أحياناً لنتسلى، وتستمعون إلينا أحياناً لتتسلوا.. وقد تبكون حين نضحك، وقد نضحكك حين تبكون.. ويصدف أحياناً أن نبكي معاً، أو أن نضحك معاً.. وتتصل الحياة... ولكل ظرف حكايته، وكم سوف تغتني الحياة إذا ترك كل منا للحياة حكاية قصيدة..أو قصيدة - حكاية.
                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

                  الرأسمالية وأدب الأطفال
                  الموضوع كالبحر سعة وعمقاً وتلاطم أمواج وغنى تناقضات، ولما كان البحر لا ينقل على الورق فسوف أسعى جاهداً كي أقدم لكم خريطة لبحر، أجل خريطة لا أكثر، وسأعمل جاهداً كي تكون خريطة دقيقة، وموضوعية وحيادية..‏
                  أعلم أن الحياد المطلق غير موجود في الكون الذي نعيش فيه، والموضوعية المطلقة هي الأخرى أيضاً غير موجودة... فكيف يمكن أن نرى الموضوعي المطلق بوسائلنا الفردية المحدودة، وكيف يمكن أن نتخلص من تأثير مشاعرنا واحساساتنا وبها نتصل بالأشياء، ونتلقى المعطيات؟‏
                  وقد يسأل سائل: وما نفع الكلام إذا لم يتسم بالشمول والموضوعية؟‏
                  وأجيب بلا أدنى تردد: قدرنا ألاّ نصل إليهما... وإنما غاية جهدنا الاقتراب منهما ما استطعنا.‏
                  تلك هي نقطة الانطلاق الأولى إلى الكلام على الموضوع - البحر.. وثمة متكأ آخر سأتخذه ذريعة للكلام المحدد ومنطلقاً له هو التالي:‏
                  جاء في تعريف بالهيئة العالمية لأدب ألأطفال (نشرته جريدة النهار البيروتية) مايلي: "الكتابة للأطفال والأولاد فن مستحدث، ظهرت طلائعه في أواخر القرن السابع عشر، في أوروبا، مع الأديب الفرنسي شارل برو الذي ألف قصصاً للأولاد، أشهرها "ساندريلا" ثم في الفترة بين الثامن عشر والتاسع عشر زاد رواد هذا الفن، نذكر منهم على المثال (كذا) الأديبة الفرنسية الكونتسة دوسوغير واضعة حكايات تحت اسم "تعاسات صوفي" والكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن صاحب كتاب "حكايات للأولاد" والكاتب الأنكليزي لويس كارول الذي عرفت له سلسلة كتب باسم "أليس في بلاد العجائب" (النهار في 23/5/1991).‏
                  تلت هذه المقدمة فقرة تتكلم على النهضة الأوروبية التي دعت إلى إرساء العدالة والمساواة بين البشر، وكان من أفكار هذه النهضة إدراك قيمة الفرد في المجتمع، والعمل على تنشئته منذ الطفولة تنشئة تراعي صحة الجسم، وسلامة العقل وتهذيب الخلق.. الخ".‏
                  إن المعطيات غير الدقيقة هي كالمقدمات غير الدقيقة، في مقولات المنطق الصوري تؤدي الى تعميمات غير دقيقة وبالتالي غير صائبة.‏
                  وإذا كان الكلام يدور حول أدب الأطفال الذي بدأ بحكاية ساندريلا ويقصد به أدب الأطفال في أوروبا وحدها فإن الخطأ في ذلك لن يكون فادحاً فداحته فيما لو قصد به أدب الأطفال، أي الحكاية الراقية في العالم بأسره.‏
                  يقول الكاتب البلغاري إيفريم كارانفيلوف في كلامه على "الشيوخ والشبان" وعلاقة الإنسان بجذوره: "إن الأهم للتطور هو -ألاّ يعتقد الشبان أن كل شيء يبدأ معهم-وألا يعتقد الشيوخ أن كل شيء سينتهي معهم"( إيفريم كارانفيلوف- "الجذور والعجلات" ص 187).‏
                  ويبدو لي أن هذه الحكمة تنطبق أيضاً على التشكيلات الاجتماعية المتعاقبة لا على الأجيال البشرية المتعاقبة وحسب. وليس من المنطق أن تزعم تشكيلة اجتماعية متأخرة تاريخياً مثل الرأسمالية أن الحكايات بجمالها وحكمتها فن استحدثته هي ثم طورته... وأما دعوتها "إلى إرساء العدالة والمساواة بين البشر" و"إدراك قيمة الفرد في المجتمع" فزعم قد يمكن تصديقه إلى حد ما إذا عدنا إلى مراحل اندفاعها الأولى حين حاربت باسم تلك القيم التشكيلة الاجتماعية التي سبقتها.‏
                  أما الآن فكل المعطيات تؤكد أنها قد تخلت عن تلك القيم، وشرعت تحاربها بكل ماتملك من وسائل.‏
                  إن "ساندريلا" هي إحدى الحكايات الناجحة التي أحبها الأطفال كثيراً، وهي ذات أكثر من بعد، ومستوياتها متعددة، وقد عدّها بعض النقاد مثالاً للمبدع الذي يخرج من مصهر العمل الشاق الدائب مبدعاً متألقاً، في حين تخيب آمال الذين يتهافتون على التبرج والسعي إلى حيث الاضواء الباهرة.... إن الحورية تخرج من المطبخ" (راجع ايفريم كارانفيلوف، "مقالات مختارة" ص 183 ومايليها).‏
                  وقد توحي لنا الحكاية ذاتها بأفكار أخرى غير التي أوحت بها إلى كارنفيلوف إذا نظرنا إليها من زاوية نظر مختلفة عن الزاوية التي نظر منها إليها.‏
                  ولكنها تبقى، على كل حال، احدى الحكايات الجيدة.... وكونها كذلك لا يسوّغ الزعم أنها وأخواتها: "فن الأطفال المستحدث الذي ظهرت طلائعه في أواخر القرن السابع عشر".‏
                  يقول جان بول سارتر: "إن الإنسان هو دائماً سارد حكايات".(جان بول سارتر "الغثيان" ص 59)... وأزعم أن قوله هذا يصح على الإنسان في الماضي والحاضر، بل أزعم أيضاً أن الإنسان سيبقى سارد حكايات في المستقبل أيضاً. لقد ولدت الحكاية مع الإنسان وستبقى مابقي الإنسان... وإني لأزعم أن الإنسان قد حكى الحكايات حتى قبل أن يتعلم الكلام... ولا يمكن أن يكون الأمر إلاّ كذلك، فقد تكلم الجسد الإنساني قبل أن يتكلم لسان الإنسان، وعبر الجسد عن أفراح الناس وأحزانهم قبل اختراع الكلام بزمن طويل. أليس التاريخ حكاية، وهل يوجد فن خارج التاريخ، أليس في كل فن حكاية؟..‏
                  زعم الناس منذ الأزمنة القديمة أن الأرض محور الكون، ثم جعلوا الإنسان سيد الأرض بلا منازع، وهاهم الأوروبيون بعد أن نشأت الرأسمالية بين ظهرانيهم يتبنون هذا الزعم القديم ويضيفون إليه زعماً آخر هو أنهم المبادرون إلى تأسيس كل شيء إنساني جميل، حتى الحكايات، وكل ذلك كي يجعلوا كلامهم على المركزية الأوروبية مقبولاً ومستنداً على قاعدة ما، ومن ثم كي يزعموا أن أوروبا مهد الحضارة الإنسانية ومرضعتها، وبالتالي فهي سيدة أناس الأرض، ومن ثم فهي سيدة الكون.‏
                  ليس في إمكان أحد أن ينكر ماقدمته الثورة الصناعية المعاصرة من تطوير للقوى المنتجة ولا ما حققته الدول الصناعية المتطورة من إنجازات علمية، ولا ما ابتكرته من وسائل لنشر الثقافة. إن الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية قد غطت الكرة الأرضية بشبكة واسعة وغزيرة الإنتاج، ولقد قدمت للبشرية خدمات جليلة في هذا الميدان، وإذا نظرنا إلى هذا الكم الهائل الذي يضج به الأثير والذي تقذفه المطابع الحديثة من معلومات وقفنا ذاهلين... فحتى السحر القديم ماكان في وسعه أن يتخيل القليل مما يحدث أمام أنظارنا اليوم.‏
                  ولكن للمسألة وجهها الآخر.. فلقد تحول كل شيء في أيامنا إلى "بزنس" وراحت الاحتكارات تتنافس في كل المجالات محولة كل شيء إلى سلعة... القيم العلمية والثقافية صارت تخضع لقوانين السوق، وكما انتشرت الحلي المزيفة انتشرت أيضاً الثقافة المزيفة، وأوجد البزنس الثقافي سوقاً رائجة جداً للقيم الهابطة جداً.... وهاهي ذي البشرية تستفيق من ذهولها لتجد نفسها في بيئة ملوثة... وقد اجتاز التلوث الحد الخطِر الذي يهدد بالقضاء الكامل على فاعلية التراب والماء والهواء الحيوية، وبالتالي القضاء الكامل على الحياة على الأرض.‏
                  وأصاب أدب الأطفال ما أصاب الفنون والآداب وما أصاب السلع الأخرى... فقد اكتسبت كلها طابعاً استهلاكياً وجسدت كلها سمات "الأخلاق" التي حرصت الرأسمالية على تجسيدها في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والروحية.‏
                  لكن ذلك لم يتم دفعة واحدة بل على مراحل نستطيع أن نقسمها، جوازاً، إلى ثلاث...‏
                  "إذا عدنا إلى البداية التي حددوها بأواخر القرن السابع عشر، ثم انطلقنا من "ساندريلا" ثم من اندرسن معتبرين أن تلك المرحلة هي المرحلة الأولى نجد أن البرجوازية إذ عملت على بسط هيمنتها الروحية كي تفرض من ثم نمطها الاستهلاكي على مجتمعاتها وعلى العالم قد عملت جاهدة على خلق أساطير خاصة بها، وإبراز نماذج من الأبطال يحملون سماتها العامة التي تميزها كطبقة.. ولقد استفادت كثيراً من مكونات الحكايات والأساطير القديمة من حيث بناها الشكلانية كحكايات وأساطير وكذلك من عنصري الخيال الشعبي والأعاجيب التي كانت من مكونات تلك الحكايات وتلك الأساطير، ولقد أدركت بحسها الطبقي أن تلك الحكايات وتلك الأساطير يمكن استخدامها، مع شيء من التعديل، كسلاح فعّال في معركتها وخدمة لمصالحها، فتخلت عن ادعاء الصرامة العلمية، التي رفعتها شعاراً لها، في الموقف من "الخرافات" وقررت الإفادة منها...‏
                  أما البطل البرجوازي الجديد، وقد تكوّن هو الآخر على مراحل ولا يزال يتطور مع تطور البرجوازية المعاصرة، فقد بدأ يمتاز بسمات جديدة أضيفت إلى سمات البطل القديم أو افترقت عنها كي يصير في نهاية المطاف بطلاً برجوازياً حقاً. ومن بعض سماته الخاصة فردانيته المفرطة وعدم اعتماده على الآخرين، بل إن الكاتب البرجوازي الصرف يضعه في تعارض شبه مطلق مع الآخرين جميعاً، ثم يجعله يتغلب أخيراً، على كل العقبات والصعاب وينتصر انتصاراً باهراً.. وقد يُصور وكأنه من طينة أخرى غير طينة البشر.. ولنتذكر أن "فرخ البط القبيح" لاندرسن قد خذله الجميع وكرهوه وتخلت عنه حتى أمه، وقد انتصر على الرغم من كل ذلك لأنه كان تماً وضعه القدر بين فراخ البط.. أجل.. حتى اندرسن العظيم لم يستطع التحرر تماماً من تأثير أفكار الطبقة السائدة، وقد سوّغ ذلك بأن بطله كان رمزاً للمبدع لا للإنسان عموماً.‏
                  وإذا كان بطل الحكايات الشعبية القديم يذهب مغامراً في سبيل سعادة الآخرين أو لرد الأذى عنهم (جلجامش انطلق باحثاً عن الدواء الذي يرد سطوة الموت عن البشر، والكثيرون غيره انطلقوا لقتال الطغاة أو الهولات- غول أو تنين) وإذا كان البطل القديم يحمل حفنة من تراب الوطن لتكون حرزاً له، أو يتزود برغيف خبزته أمّه كي يستمد منه القوة التي لا تنضب، فإن للبطل البرجوازي الجديد هدفاً واحداً هو خلاصه الفردي، وكثيراً ما تصطنع الصعاب التي توضع في طريقه، وتصوّر على أنها صعاب، لاسمة اجتماعية أوطبقية لها، بل هي ناجمة عن سوء خلق زوجة الأب الشريرة، أو قسوة ذلك الأب الجاهل أو ما ماثل ذلك.‏
                  في "ساندريلا" مثلاً، نجد فتاة تقسو عليها زوج أبيها وتحتقرها ابنتاها ظاهراً في حين تغاران منها وتحسدانها، يدفعهما الحسد والغيرة إلى مزيد من القسوة، وتتحمل الفتاة كل المنغصات بصبر وتقوم بأقسى الأعمال المنزلية، وتغتني روحاً فيضفي ذلك مزيداً من الجمال على جمالها، وكل هذه التراكمات الكمية تؤدي في النهاية إلى التبدل الكيفي الذي يأتي على شكل أحداث متلاحقة ومتواترة ومنسجمة مع منطق الحكاية الفني وإن خالفت منطق الواقع.. ومن ثم "الحجر الذي رفضه البناؤون صار رأس الزاوية... (انجيل متى /اصحاح/ 2 الآية41).‏
                  إن فكرة الحكاية المحورية ليست مبتكرة، ولسنا بحاجة إلى إثبات ذلك.. فالأمثلة كثيرة جداً.. والمثل الذي أوردته من الانجيل يلخص فكرتها. إن مايهمني الآن هو مسألة أخرى تتعلق بالشكل وبالمواقف من الإنسان والعمل، في إحدى حكاياتنا وفي "ساندريلا" المبتكرة!‏
                  الحكاية شرقية الطابع وحتى الآن لم أعثر على مصدر موثوق لها.. إنها إحدى الحكايات الشعبية المدهشة.. كانت أمي تحكيها لي يوم كنت طفلاً وما كنت أمّلُّ سماعها.. ولقد حفظتها بكل تفاصيلها منذ تلك السنوات البعيدة مع أنني لم أدرك، الا بعد أن نضجت، كل مغازيها الفلسفية والاجتماعية. تحكي الحكاية قصة حطاب فقير وقع على جذع شجرة يابسة في الغابة فحاول أن يقطعه ويبيعه حطباً فيطعم أولاده.. وبعد أن يئس من قطعه، جلس قانطاً قربه كي يرتاح، فانشق الجذع فجاءة وخرج منه رجل "طوله شبران، وقبعته ذراعان وعصاه أطول منه"، وعرض على الحطاب أن يعطيه كيساً من الليرات الذهبيات لقاء أن يجلب ابنته الكبرى إليه لتخدمه...‏
                  ويرضخ المسكين وتقبل البنت التضحية في سبيل أسرتها.. ثم تنفد النقود فيعود الأب ويحاول قطع الجذع فيخرج إليه الرجل القزم ويعقد معه صفقة أخرى فيأخذ كيساً من النقود ويحضر ابنته الوسطى.. ثم تنفد النقود وتأتي الابنة الثالثة فندخل معها إلى منزل القزم فنرى منزلاً عجيباً ولكننا لا نجد أثراً للاختين... ثم يذهب الرجل في سفر وتفتح البنت الغرفة التي حظر عليها دخولها فتجد أختيها قد علقتا من شعرهما إلى السقف وقد هلكت الأولى وأشرفت الثانية على الهلاك..‏
                  وتنزلها أختها وتسعفها ثم تخرجان من المكان اللعين وتهربان، لكن الرجل الساحر يأتي ويكتشف هربهما فيتبع أثرهما ويراهما من بعد تعبران النهر إلى جهة لا سلطان له على من يصلون إليها، فيدعوهما إلى العودة فتأبيان فيقرأ إحدى التعزيمات السحرية فتتحول الصغرى إلى كلبة وتتحول الكبرى إلى بغلة.‏
                  وتصل المسكينتان إلى بيت في طرف المدينة يسكنه شيخ وزوجه العجوز فيأويانهما.. وتتوالى الأحداث.. وتعمل الكلبة والبغلة أعمالاً تدهش الشيخ وزوجه.. ثم تدخل الكلبة حديقة القصر الملكي لتحضر بعض النباتات الصالحة للأكل فترى البركة الرائعة فتخلع جلد الكلبة وتستحم في الماء وهي لا تعرف أن ابن الملك قد شاهدها.. وحين ينزل من القصر ويقترب منها ترتدي ثوب الكلبة سريعاً وتهرب إلى بيت الشيخ وزوجه بعد أن تقع فردة حذائها في الحديقة.‏
                  ويمرض ابن الملك حباً.. ويرسل الملك جماعة من الجند تطوف بالبيوت بيتاً فبيتاً ومعها فردة الحذاء فلا تصلح لرجل أية فتاة من فتيات المدينة.. ثم يصل الجند إلى البيت الذي فيه الكلبة فيترددون ثم يدخلون ويجلسون كي يرتاحوا بعد أن وضعوا فردة الحذاء جانباً فتندفع الكلبة وتحتذيها وسط دهشة الجميع واستغرابهم.‏
                  ويأتي الملك والوزير على استحياء، وقد ألح عليهما الفتى العاشق، ويخطبان الكلبة إلى الأمير فيتزوجها ويحتال عليها ويحرق ثوبها الكلابي فتعود فتاة رائعة الجمال وتتحرر أختها أيضاً من السحر وتعود فتاة جميلة.. ويخطبها ابن الوزير.. فيقام العرس للاختين ويعيش الجميع بسرور وهناء.‏
                  إن فقدان فردة الحذاء عنصر مشترك بين الحكايتين.. ولكن الحكاية العربية، أو لنقل الشرقية، أغنى محتوى وأكثر التصاقاً بحياة الفقراء، وهي من ثم ذات محتوى اجتماعي- اقتصادي فائق الأهمية.. فلقد توصل الحاكي هنا إلى النتيجة التي توصل إليها بعض علماء الاقتصاد والاجتماع والتي تقول إن العمل هو الذي يرقى بالإنسان ويجعله إنساناً حقاً... بل ان الحكاية الشرقية تقول أكثر من ذلك.. فهي تقول لنا دون مواربة إن العمل القذر غير الإنساني قد يقتل جسد الإنسان أو يفقده إنسانيته ويحوله إلى حيوان ثم لا يكون له خلاص إلا بالعمل الإنساني.. ولقد احتاج الحاكي إلى اللجوء إلى "السحري" الخارق كي يبرر الانتقال النوعي- من إنسان إلى حيوان، ثم احتاج إلى النار فحرق بها سواد السحر وظلاميته كي يشرق وجه الإنسان الناصع.. وفي ساندريلا "خرجت الحورية من المطبخ" كما قال كارانفيلوف..‏
                  ويخطر لي سؤال: هل سمع كاتب "ساندريلا" هذه الحكاية واستفاد من بعض عناصرها؟‏
                  سيبقى الجواب معلقاً.. وثمة الكثير من الأسئلة التي لن نجد الأجوبة الشافية عنها.. فقد تمازجت حكايات الشعوب تمازجاً عجيباً على مر الزمن. ومالاشك فيه هو أن الدعوة إلى "إرساء العدالة والمساواة بين البشر"..... وادراك قيمة الفرد في المجتمع" لم يكونا اختراعاً "نهضوياً" أوروبياً كما يزعم الزاعمون.‏
                  وثمة أمر آخر شديد الوضوح هو أن شارل برو قد استند إلى عنصر الأعجوبة، أي اعتمد على الخارق السحري، كي يكتمل سياق الحكاية الفني، والاستناد على مثل هذا العنصر ليس، هو الآخر، بالأمر المستحدث، وليس للقرن السابع عشر فضل في استحداثه، وإنني لأزعم أن في حكايات "كليلة ودمنة" وهي حكايات آسيوية صرف، وقد وضعت قبل القرن السابع عشر بقرون عديدة، من الابتعاد عن عنصر الاعجوبة المجاني، ومن الاقتراب من منطق عصر النهضة العلمي أكثر كثيراً مما في "ساندريلا" على سبيل المثال ناهيك عما في غيرها.‏
                  فهل يدرك أصحاب نظرية "المركزية الأوروبية" ذلك ثم يتجاهلونه أم أنهم يجهلونه فعلاً؟‏
                  وإذا كان كاتب "ساندريلا" لم يطلع على حكايات "كليلة ودمنة"، وهذا محتمل، فهل من المحتمل أيضاً ألاَّ يكون قد سمع أو قرأ، حكاية واحدة؛ على الأقل، من حكايات "ألف ليلة وليلة" وهي الحكايات الأكثر شعبية في العالم؟‏
                  أما كاتب الحكايات الدانماركي العظيم أندرسن فقد اطلّع على حكايات "ألف ليلة وليلة" وثمة أمور أخرى في سيرته الذاتية تستدعي الوقوف عندها، وهي أمور ذات دلالة كبيرة فيما يخص المسألة التي نحن في صددها.‏
                  يقول الكاتب البلغاري سفيتوسلاف مينكوف الذي ترجم حكايات أندرسن إلى البلغارية وقدم عليها مقدمة هامة: "في أماسي الشتاء الطويلة كان الحذّاء (والد اندرسن كان حذاء -ملحوظة من م.ع) يأخذ عن رف صغير قرب النافذة أحب الكتب ويقرأ لامرأته وابنه خرافات الفرنسي لافونتين، أو كوميديات الدانماركي هولبرغ، أو حكايات "ألف ليلة وليلة" (حكايات اندرسن- بالبلغارية، الصحفتان 5 و 6 -والمقتطف من ترجمة م.ع).‏
                  "وساحر الكلمة الجبار هانس كريستيان اندرسن" كما يدعوه مينكوف (ص14 من المرجع المذكور أعلاه) قد "رضع مذ كان طفلاً حكايات العجائز الفقيرات المثيرة في مدينة أودينسيه" (ص 12- مقدمة حكايات اندرسن).‏
                  وفي كتابيه الأول والثاني من كتب الحكايات، وفاقاً لكلمات المؤلف نفسه فإنه قد "حكيت بتصرف" بعض الحكايات الشعبية الدانماركية (الأميرة فوق حبة الحمص) و (طيور التم البرية) و (سيلدا) وغيرها.. (المرجع السابق ص123).‏
                  ويورد مينكوف ملحوظة ذات دلالة وهي أن أندرسن الذي وضع كتابه الأول تحت عنوان "حكايات للأطفال" جعل عنوان كتابه الثاني "حكايات جديدة" أي أنه قد تخلى عن كلمة "للأطفال" وذلك لأن الصغار والكبار يقرؤون الحكاية (المرجع السابق ص 13).‏
                  ويبرز مينكوف فكرة أخرى ذات دلالة هي قول اندرسن:‏
                  "ليس ثمة حكايات أجمل من تلك التي تبتكرها الحياة ذاتها" (حكايات اندرسن ص 14).‏
                  وما لاشك فيه هو أن الحياة قد وجدت قبل وجود النهضة الأوروبية، أي قبل القرن السابع عشر بقرون كثيرة، وقبل وجود "الحلم بقيام مركزية أوروبية" وقد ابتكرت الحياة حكايات جميلة منذ أن كانت الحياة.‏
                  إن أندرسن بتخليه عن كلمة "للأطفال" قد انتهج الخطة ذاتها التي انتهجها واضع كتاب "كليلة ودمنة" التي ذكرها ابن المقفع في تقديمه الكتاب... فبعد أن يقول على الصفحة 81: "وينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له وإلى أي غاية جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصح وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً.... الخ". "كليلة ودمنة" تحقيق مصطفى لطفي المنفلوطي -دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان) يمضي إلى القول بمزيد من التفصيل مستفيداً من المقدمة التي وضعها بهنود بن سحوان المعروف بعلي بن الشاه الفارسي، يقول ابن المقفع:‏
                  "وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض: أحدها ما قُصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع لقراءاته أهل الهزل من الشبان فتستمال به قلوبهم له لأنه الغرض الوارد من حيل الحيوانات، والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان ليكون أنساً لقلوب الملوك ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور، والثالث أن يكون على هذه الصفة، فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام، ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً، والغرض الرابع وهو الأقصى مخصوص بالفيلسوف خاصة" ("كليلة ودمنة " ص 98 و ص 99).‏
                  أجل إن العمل الإبداعي الحق له أكثر من مستوى، وأكثر من غرض، وقد أدرك ذلك ابن المقفع واندرسن وسواهما..‏
                  لقد ترسخت الحكايات والأساطير واكتملت حيث قامت الحضارت العريقة، والتجربة الرأسمالية المعاصرة لم تترسخ بعد في وعي الشعوب، ولم تضرب جذوراً تصل إلى أعماق التربة التي تكونت عبر عشرات القرون، وليس لدى الحضارة المعاصرة الوقت لذلك، فهي مستعجلة جداً، ولهذا لا نراها قادرة على خلق أساطيرها وحكاياتها الخاصة بها، والتي تعبر عن ميثيولوجيتها.. والرأسمالية، أصلاً، لا تطمح إلى خلق ميثيولوجيا جديدة... إنها تسعى إلى فرض هيمنتها "الروحية" بوسائل أخرى، مع استخدامها الحكايات أحياناً، ووسائلها وسائل فظيعة تصل إلى حد القضاء على كل ماهو روحي، أو يمت بصلة إلى القيم الروحية والمناقب الأخلاقية.. لقد خلقت صنماً أوحد هو المال.. والبطل المعاصر هو الذي يستطيع الحصول على أكبر قدر من الربح.. وليس مهماً إطلاقاً أن يسأله أحد: كيف؟ فليس ثمة أهمية لمثل هذا السؤال.‏
                  فالمال هو الغاية القصوى، وكل الوسائل مشروعة في سبيل الحصول عليه... فالغاية تبرر الواسطة.‏
                  أما عبقرية أندرسن فقد تجلت وتألقت في عمله على خلق حكايات وأساطير معاصرة تعكس روح عصره بعمق ورحابة. لقد قرأ الواقع الذي عاشه وتطلع إلى المستقبل من غير أن يكف عن النظر إلى الماضي.ومن غير أن يقطع جذوره الضاربة في الماضي، وإذ فهم الماضي جيداً استطاع أن يرى رؤية واضحة الجديد الذي يولد، لقد أدرك أن بذرة القمح التي تبذر اليوم هي حبة القمح التي بذرت في الماضي، والتربة هي التربة، وأما الذي تغير فهو المحراث والحصّادة والمطحنة، وبعض الأسمدة... ولقد خشي أن تقتل الالة الروح الحي في الحبة وفي القلب الحي.‏
                  ابتهج اندرسن بالمنجزات العلمية الجديدة وعبر عن إعجابه الشديد بها، وكانت حكاية "التنين البحري الكبير" "مديحة شاعرية لاقامة أول خط اتصال هاتفي عبر المحيط بين أوروبا وأمريكا" (حكايات اندرسن ص 14).‏
                  ولأنه كان عبقرياً وثاقب النظر فقد رأى وجه الرأسمالية الآخر أيضاً، إنها تعمل على اختراع آلات تدير بها كل شيء... ولهذا وجهان متناقضان، وكانت حكاية "البلبل" أغنية فائقة العذوبة تمجد المبدع الحق، الكائن الحي ذا الحنجرة العجيبة الذي لن تحل محله أية آلة مهما أتقن صنعها.، "وكان السياح يؤمون مدينة الامبراطور من كافة نواحي العالم. فيعجبون بالمدينة وبالقصر والحديقة، لكنهم إذا سمعوا البلبل قالوا كلهم: "هذا خيرها جميعاً! " أقاصيص هانس أندرسن- ترجمة محمود إبراهيم الدسوقي- القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1940- ص 76-77).‏
                  وتطوف الكتب التي تتحدث عن البلبل أقطار العالم ثم يصل أحدها إلى يد الامبراطور.. ويكون سؤاله: "أيمكن أن يكون هناك طائر كهذا في امبراطوريتي، بل في حديقتي من دون أن أسمع به؟" (المصدر السابق ص 77).‏
                  ويصدر الأمر الامبراطوري: "أريد أن يأتي ويغرد أمامي هذا المساء، أيصح أن تعلم الدنيا كلها ماعندي، وأنا لا أعلمه! (ص 77).‏
                  وندرك مغزى هذا الكلام على حقيقته، إذا عرفنا أن النقاد الدانماركيين قد آذوا أندرسن وافتروا عليه... ثم جاءه المجد والشهرة من الخارج...‏
                  ومضى نصف الحاشية مع "فتاة المطبخ" للبحث عن البلبل. ويعلو خوار بقرة ويقول غلمان البلاط: "الآن وقعنا عليه!" (ص 78) ثم يسمعون نقيق الضفادع: "فقال واعظ البلاط الأول: هذا مدهش فالآن أسمعه، إن له صوتاً كرنين أجراس الكنيسة الصغيرة"(ص 79).‏
                  وحين أشارت البنت الصغيرة إلى طائر أشهب صغير بين الأغصان قال الفارس: "أممكن هذا؟ ماكنت أظن ذلك، فما أبسط منظره!" (ص79).‏
                  ويذهب البلبل ويشدو في القصر الامبراطوري وتترقرق الدموع في عيني الامبراطور ويأمر بأن يطوق عنق البلبل بخفيه الامبراطوريين الذهبيين.. ويخبره البلبل أن دموعه أغلى عنده من الذهب.‏
                  ويحاول الحمقى تقليد المبدع الحق فيخفقون ثم يحضرون للامبراطور بلبلاً صناعياً محلى بالذهب والفضة... ويهرب البلبل الحقيقي من القصر.‏
                  يعجب الامبراطور وحاشيته بالاغنية الاصطناعية التي تتكرر على نمط واحد.. ويقول صياد السمك الذي سمع صوت البلبل الصناعي: "إن صوت هذا البلبل جميل جداً يكاد يشبه صوت البلبل الحقيقي، لكنه ينقصه شيء لا أدري ماهو.. "(المصدر السابق. ص 82 وص 83).‏
                  ويسخر من النقاد الذين يؤلفون المجلدات الكثيرة في امتداح أغنية البلبل الصناعي اليتيمة.... ثم تتعطل آلية البلبل الصناعي. ويستدعى صانع الساعات ويصلحه بعض الاصلاح.. وحين يحاصر الموت الامبراطور يطلب من البلبل الصناعي الغناء فلا يستطيع:"فلم يكن هناك أحد يدير لولبه" (ص 85).‏
                  ويأتي البلبل الحقيقي... وينشد أناشيده العذبة المبتكرة فيتعافى الامبراطور ويطلب من البلبل البقاء في القصر فيخبره البلبل أنه لا يطيق الانحباس في القصر: "إن المغني الصغير يطير بعيداً إلى كوخ السماك ومزرعة القروي، إلى جميع من هم بعيدون عنك وعن بلاطك، إن قلبك أحب إليَّ من تاجك" (المرجع السابق ص 86).‏
                  وندرك أن أندرسن قد حدثنا حديث الماضي ليحذرنا مما سيحمله المستقبل، وكانت الآلات تتطور تطوراً صاعقاً أمام ناظريه... ولقد أهاب بنا ناصحاً: وازنوا بين الآلة وبين قلوبكم.. لقدخلقت الآلة كي تخدمكم فلا تدعوها تحل محلكم.‏
                  وبعد أن ينذرنا في حكاية "قطرة الماء" (ص 318-319) مما سيجلبه التنافس الرأسمالي من ويلات وفواجع يهتف بنا في حكاية "مباراة الوثب": "أجل، إن البلادة والثقل يفوزان اليوم! البلادة والثقل يفوزان اليوم! "(المصدر نفسه ص340)‏
                  كان احترام الإنسان والدعوة إلى تحريره وإطلاق قواه المبدعة في أساس الحكايات الجميلة التي طورها هانس كريستيان أندرسن، وفي أساس تلك الحكايات التي وضعها... وحين كانت الرأسمالية تكافح الارستقراطية لتحل محلها ماكانت لتمانع في استخدام كل الوسائل في نضالها هذا.. وكثيراً ماكانت تزعم أنها تخوض المعركة باسم الإنسان وفي سبيل الحرية والعدالة للجميع.. ولم تر مانعاً من أن تنتشر بين الناس حكايات أندرسن.‏
                  في المرحلة التالية، المتوسطة من مراحل تطور أدب الأطفال في ظل سيادة الرأسمالية صارت الكثرة المطلقة من كتب الأطفال في بلدان الرأسمالية المتطورة تدور حول مصائر أبطال من الأطفال النظفاء البيض المهذبين جداً، الذين تعترضهم بعض المصاعب لا من حيث الوضع المعاشي-الاجتماعي بل هي مصاعب من نوع آخر، تخص تصرفهم الشخصي، يتغلبون عليها، في ذلك الجو الحميمي جداً والنظيف جداً... وكانت رحلات أليس في بلاد العجائب بداية الارتحال بعيداً إلى عالم آخر يبتعد كلياً عن هموم الفقراء، وعن المطامح الإنسانية الواقعية..وإذا عولجت مسألة من هذا القبيل كانت معالجتها سطحية ونمطية نرتاح لها ونحن نقرأها ونبتسم، ثم نعود لنرى المسألة على نحو آخر في واقع الحياة.. والأماكن التي تدور فيها هذه القصص هي قصور البرجوازيين الجميلة وحدائقهم ومزارعهم ومتنزهاتهم.. والفتيات فيها، خصوصاً لطيفات جداً، يشفقن على الخدم والملونين ويتفهمن هموهم الصغيرة جداً، فليس في عالم هذه القصص أية هموم كبيرة.‏
                  أما الأمثلة على ذلك فهي أكثر من أن تحصى، والتعرض لها بالتحليل سيدفع الدارس إلى تأليف كتاب ضخم جداً، ولا سبيل إلى ذلك، وليس ذلك بالأمر الضروري... فمن يشاهد المسلسلات التلفزيونية الخاصة بالأطفال التي يعرضها التلفزيون العربي السوري وغيره، وهي منتقاة، فسوف يجد عينة جيدة جداً.... ففي "الدببة الطيبون" حيث الأبطال من البشر والحيوانات تصور لنا إحدى الحلقات كيف عمل الدببة الطيبون وفريقهم على إيصال النجوم المسكينة الى أماكنها في السماء كي لا تفقد بريقها إن هي لبثت طويلاً على الأرض.. ونعيش جواً من العواطف المتبادلة بين النجوم والحيوانات الصغيرة والأطفال ثم تنطلق القافلة.. ويعترض طريقها شرشبيل المحب للشر أو على الأصح المبغض للخير... فهو يكره وكلمة الحب بغيضة إلى نفسه.‏
                  ويعلن معاونه: "سأعمل على تدمير مشاعر العالم وقيمه تدميراً شاملاً" وتفشل محاولات الشرير وأعوانه.. وتصل النجوم إلى السماء وتأتلق أنوارها، وتكون لحظة الوداع عاطفية وعلى درجة رفيعة من النبل، ولا أظن أن أحداً ينكر بعض الجوانب العامة التي تربي بعض الصفات الفردية الجميلة عموماً في مثل هذه الحكايات والمسلسلات، ولكن نمطيتها الرتيبة تبقى مسألة أخرى.‏
                  قبل الانتقال إلى الكلام على أدب الأطفال في المرحلة الثالثة من تطور الرأسمالية أرى لزاماً أن أذكر أن هذا التقسيم هو تقسيم اصطلاحي لتسهيل الدراسة، إذا لم يقم أي جدار كتيم بين هذه المرحلة أو تلك وكذلك هي الحال في التشكيلات الاجتماعية المتعارضة إذ كثيراً مارأينا التشكيلة الجديدة تولد في قلب التشكيلة القديمة ويستمر الصراع بينهما طوال العديد من السنوات إلى أن ينتصر الجديد، وماكان انتصار الجديد يعني القضاء التام والشامل على القديم قطعاً.‏
                  في المرحلة الثالثة... وبعد أن استقرت الرأسمالية كنظام مهيمن في الاقتصاد العالمي أخذت تشجع قصصاً من نوع آخر، قصصاً يغلب عليها طابع المغامرات الفردية أو طابع الحكايات الخيالية المثيرة للدهشة، والتي مسحت منها جيداً أطراف القضايا الاجتماعية الشائكة... وأبعدت عن مركز الأضواء حكايات مثل "بائعة الكبريت الصغيرة" التي وضعها أندرسن وأعيد الاعتبار من جديد "لساندريلا" وسلط عليها المزيد من الأضواء وكثرت طبعات "ذات القبعة الحمراء" وانتشرت انتشاراً واسعاً الحكايات التي تقدم للأطفال معلومات علمية مبسطة.. وكانت تبدو محايدة أول الأمر.. ثم انتقلت الرأسمالية العالمية إلى الهجوم على عقول الأطفال بالحكايات الموجهة جيداً، والتي تخدم نمط التفكير الفردي ونمط الحياة الاستهلاكية، وحل البطل الفرد "السوبرمان" الأقرب إلى الإنسان الآلي محل الإنسان الذي من لحم ودم، واستبعدت من مناهج التعليم الابتدائي حكاية "ملابس الملك الجديدة" التي كنا نقرأها صغاراً في تلك المناهج.‏
                  وصارت ثقافة الأطفال ميداناً من ميادين الحرب النفسية وأقامت الاحتكارات الدولية مؤسسات عملاقة لانتاج "ثقافة للأطفال" تخدم مصالحها.. وغمرت أسواق العالم طبعات "شعبية" من كتب الألغاز والمغامرات وقصص الجريمة وغيرها، وكانت رخيصة الأسعار فدخلت بيوت الناس على الرغم من رخص محتوها.. وانتصر هذا "البزنس" الجديد الضخم وشملت العالم شبكات من المطابع والمكتبات فأفلست دور النشر النظيفة أو كادت، وأقيمت الحواجز في وجه الكتاب الجاد.. وأخذ البلبل الصناعي مكان البلبل الحي... وخبّأ الكثير من البلابل الحقة ريشه "بمشمعات" اصطناعية وراحوا يقسرون حناجرهم المبدعة على التعود على ترداد النغمات الاصطناعية الرتيبة.‏
                  ويستطيع الدارس أن يذكر من بين السمات العامة لأدب الأطفال في المرحلة الثالثة السمات التالية:‏
                  - تمجيد القوة الغاشمة وإظهار القوي بمظهر جميل ومحبب، وتصوير عدوانه على الآخرين وكأنه انتصار جميل ومجيد على الأشرار والهمج.. (إبادة الهنود الحمر والأفارقة والعرب وغيرهم).‏
                  - الدعاية المباشرة للبرامج العسكرية الحديثة وفي مقدمتها حرب النجوم التي تكلف البشرية المليارات من الدولارات التي تحجب عن مشاريع التنمية الاجتماعية والخدمات العامة.‏
                  - تمجيد "السوبرمان" الغربي والسخرية من الآخرين، التركيز على المباريات الرياضية مثل كرة القدم والجودو والكاراتيه.- العودة إلى قصص النبلاء والملوك وتشويه التاريخ أو إعادة صياغته لخدمة أهدافهم.إن جرّافاتهم الفولاذية الضخمة تعمل في كل الحقول ليل نهار، وهي تقتلع بأصابعها الصلبة اللامعة الكثير من الجذور التي تكونت تاريخياً.‏
                  وتبدلت قيم كثيرة... استبدلوا "العجلة بالجذور" ولم تعد للأماكن مكانتها السابقة.. فحتى مسقط الرأس قد يكون الآن سفينة، أو سيارة، أو طائرة.‏
                  لقد حذرنا الكثيرون من الفلاسفة والعلماء، والكثيرون من الكتاب المبدعين أمثال أندرسن، واكزوبيري، وجاني روداري وسواهم من خطورة مايجري.. ولكنه جرى ولم نستفد من التحذيرات التي أطلقوها...‏
                  قد يقول قائل: تبدو متشائماً... ألا ترى أن موجة من الاهتمام بالفلكلور عامة، ومنه الحكايات، وقد اكتسحت أرجاء العالم؟‏
                  وأقول: بلى، إنني أرى ذلك... ولكنهم يجمعونها كي توضع في المتاحف، كما توضع هياكل الحيوانات المنقرضة، التي أصبحت بدورها موضوعاً "لبزنس" جديد هو البزنس السياحي المقولب على الطريقة الاستهلاكية.‏
                  إن الذين لا جذر حضاري لهم يزعمون أنهم مركز العالم الجديد وسادته... وهم يعملون بوسائلهم الضخمة على فرض "حكاياتهم" محاولين تدمير التراث الأصيل الذي ابتدعته الإنسانية في مسيرتها الطويلة التي لا يعرف أحد بدايتها.‏
                  إن عصر ازدهارهم ليس سوى مرحلة طارئة على تاريخ الحضارة الطويل.. فهل ستولد على أنقاضه حكاية تحكي للعالم الذي سيولد قصة الوحش الآلي الذي يقتلع الجذور ويسمم الماء والهواء؟‏
                  كان المفكرون والمبدعون في بداية هذا القرن يشفقون على الراقصات في الملاهي وعلى بائعات الهوى.. وهاهم جماعة من المثقفين في أيامنا يعلنون أحياناً، ولو على سبيل المزاح، أنهم يحسدون هؤلاء وأولئك "على رواج بضاعتهن" مع كساد "بضاعة" المفكرين والمبدعين الجادين.‏
                  أجل ثمة من يسمون القتلة والمجرمين أبطالاً.. وهم يعملون كي يفقد العالم عقله.‏
                  فهل سيذعن العالم لهم؟ هل سيدوي من جديد صوت طفل حكاية أندرسن:"إن الملك عار، إن الملك عار!".‏
                  هل سيتجدد شباب العالم وتعود إليه نضارته؟‏
                  وهل ستطير البلابل إلى حيث يعيش الناس ويعملون، ويحلمون بالدفء الإنساني ويبحثون عنه؟‏
                  سنظل نحلم بذلك، ولن نسى أن العالم بارد جداً.‏
                  المراجع طبقاً لورودها في المقال‏
                  1- جريدة "النهار" اللبنانية -تاريخ 23/5/1991.‏
                  2- كارانفيلوف - افريم ("الجذور والعجلات" ترجمة ميخائيل عيد - دار طلاس- دمشق - 1986).‏
                  3- كارانفيلوف - افريم ("مقالات مختارة"، ترجمة ميخائيل عيد، دار حطين- دمشق- عام 1989).‏
                  4- سارتر- جان بول ("الغثيان" ترجمة سهيل ادريس- دار الآداب - بيروت- عام؟‏
                  5- انجيل متى- اصحاح 21 الآية 41 ونص الآية هو (الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية).‏
                  6- مينكوف -سفيتوسلاف- "حكايات أندرسن" بالبلغارية، منشورات "شبيبة الشعب" صوفيا- 1976.‏
                  7- ابن المقفع ("كليلة ودمنة" تحقيق مصطفى لطفي المنفلوطي- دار الكتاب العربي- بيروت- لبنان- 1966).‏
                  8- اندرسن- هانس ("أقاصيص اندرسن" ترجمة محمود إبراهيم الدسوقي- مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة عام 1940).وقد أشرنا إلى أرقام الصحفات في أماكنها.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

                    مسائل الفن في بعض الحكايات

                    " حين سئل أندرسن عن سيرة حياته أجاب: "أقرأوا حكاية فرخ البط القبيح" (ايفريم كارانفيلوف- "أبطال وطباع" ص79) لقد لخص هانس كريستيان أندرسن سيرته الذاتية وسير الكثيرين من ذوي المواهب الكبيرة الذين لم يفهمهم أهل زمانهم على حقيقتهم فاحتقروهم أو اضطهدوهم معتبر ينهم فراخ بط قبيحة في حين كانوا طيوراً من نوع آخر، طيور تمٍّ رائعة وضعها القدر بين فراخ البط العادي..‏
                    وفي الحكايات الكثير من سيرالابطال والمبدعين، وإني لاذهب إلى حد الزعم أن على من يريد أن يطلع على تاريخ البشر الحقيقي أن يقرأ حكايات الشعوب وأساطيرها‏
                    في التاريخ الذي يكتبه المؤرخون نقرأ الأحداث الكبرى في خطوطها العامة وحسب.. أما في الحكايات فنقرأ، ونشم، ونلمس ونسمع ونرى تفاعل العناصر التي جعلت الحياة حيا ة والتاريخ تاريخا، نسير في المسالك التي سار فيها الناس، ونطير بأحلامهم الى الذرا، نلمس جراحهم الراعفة، نسمع التأوهات والضحكات، ونغوص إلى الأعماق حيث الدوافع، الفطرية الأولى، حيث المياه النقية التي تفجرت منها الينابيع التي روت أشجار الحضارة التي نشم أزهارها ونتغذى بثمارها الشهية، وتجرحنا أشواكها فنحاول أن نمسح برفق عن الوجه الجميل مانثر عليه الزمن من غبار ودم وسخام ,‏
                    فإذا وجدنا في الحكايات والأساطير محاولات عديدة هدفها الإجابة عن الأسئلة التي شغلت ذهن الإنسان القديم ولا يزال بعضها يشغل بال الإنسان المعاصر، وإذا وجدنا أن كثرة من القيم الأخلاقية التي صورتها الحكايات تصويراً جميلاً لاتزال قيماً تحظى بإعجاب الناس المعاصرين، لم نستغرب أن تكون الحكايات قد حاولت الإجابة عن مسائل العمل وقيمته، وعن مسائل الإبداع الفني وعلاقة المبدع بفنه وبالآخرين، ولن نستغرب أن نجد أن بعضاً من تلك الحكايات قد طرح آراء عامة لم يتجاوزها، من حيث الجوهر، كبار الفلاسفة العالميين الذين عالجوا قضايا علم الجمال على مستوى عصري رفيع.‏
                    والمدهش في أمثال هذه الحكايات هو أنها تعالج هذه المسائل الشائكة والمعقدة بمنتهى السلاسة والعفوية والبساطة فنرى الأمور واضحة غاية الوضوح لكنها في منتهى العمق أيضاً.‏
                    قيل لي إن صانعي السجاد الإيرانيين كانوا في عهد الشاه من أفقر فئات الشعب في إيران، ومعروفة في كل أرجاء العالم شهرة السجاد الايراني، ومعروف في العالم جمال ذلك السجاد. فما الذي يجعل هؤلاء الصناع المهرة وامثالهم لايبحثون عن مهنة أخرى يتخلصون بها من الفقر. ؟‏
                    لن نطرح، هنا، المسألة من الناحية السياسية أو الاجتماعية، فتصبح مسألة أخرى تطرحها الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية.‏
                    قد يكون ما جعلني أطرح هذه المسألة هو شأن شخصي إلى حد ما إذ ترجمت حكاية شعبية هندية منذ قرابة عشرين عاماً وقد أثارت في نفسي من المشاعر ما جعلني لا استطع نسيانها حتى الآن، وقد لاأنساها طوال الحياة، بل قد تكون هي التي ولدت في اعماقي الرغبة في أن اكتب في مثل هذا الموضوع لكثرة مافكرت في مغزاها.‏
                    الحكاية بسيطة كل البساطة، وقد تحدث كل يوم بشكل من الأشكال، وقد يكون آلاف الحرفيين المهرة قد مروا بمثل التجربة التي مربها (صانع السجاد) الهندي الذي تحكي الحكاية ما جرى له ,‏
                    وملخص الحكاية هو أن أحد صانعي السجاد المهرة كسر نوله ذات يوم فذهب إلى الغابة والفأس في يده كي يقطع شجرة يصنع من خشبها نولاً جديداً . ووجد ضالته قرب شاطئ البحر، وحين هم بقطعها ناداه صوت من داخلها وطلب منه أن يبحث عن غيرها وأن يطلب منه ما يشاء‏
                    كانت تلك الشجرة مسكن ساحر الغابة .. وعاد صانع السجاد كي يستشير زوجه في الأمر فالتقى جاره الحلاق الذي نصحه أن يطلب من الساحر أن يجعله ملكاً ويكون الحلاق مستشاره فيتخلصان من الفقر.. ويصر صانع السجاد على أن يستشير زوجه. ويصل إلى البيت ويحكي ماجرى لزوجه فتسفّه المرأة رأي الحلاق..فالخونة والمتملقون يحيطون بالملك، وحياته خالية من السعادة . ثم تنصح زوجها بان يطلب من الساحر أن يعطيه نولاً سحرياً يصنع له العدد الذي يطلبه من السجاجيد الجميلة التي لم ير الناس لها مثيلاً .‏
                    يفرح الرجل بنصيحة زوجه ثم يتجه إلى حيث تنتصب الشجرة التي فيها الساحر.. كان يشعر بمزيد من الأسى وهو يقترب من المكان إذ راح يفكر:‏
                    - سيعطيني ساحر الغابة نولاً عجيبا يحوك سجاداً رائع الرسوم، فماذا سأفعل أنا؟ سأذهب إلى السوق لأبيع السجاجيد واكدس النقود! هذا ليس شغلي .. "كتاب الشموس الثلاث"ص9.‏
                    ووصل إلى الشجرة فطلب من الساحر أن يصلح له نوله العتيق، ثم عاد إلى بيته فوجد نوله صالحاً للعمل "جلس الصانع إليه وانكب على عمله فنسي كل مافي العالم"(ص9)‏
                    "وكان الصانع يتأمل السجادة طويلاً بإمعان حين تكتمل ثم يبتسم ويقول:‏
                    - لا أحد يعرف مقدار سعادتي الآن ! كان بإمكاني أن أصير ملكاً وأحصل على ثروة ضخمه وعلى الكثير من العبيد والخدم والمتملقين. لكني ماكنت سأحصل على صديق حقيقي واحد. باستطاعة ساحر الغابة أن يجعلني غنياً، لكني سأعاني،حينذاك، من الملل والكسل والخشية من أن أفقد ثروتي، أية سعادة تمكن مقارنتها مع سعادتي حين أرى الرسوم تتشكل على السجادة ويتكامل ما تصنعه يداي، أو حين أسمع كلمات الإعجاب بما صنعت ؟ "(المرجع السابق ص10)‏
                    ويروي إيفريم كارانفيلوف ماجرى بين الكاتب ايفان حاجيسكي وحطاب من ترويان التقى به الكاتب يحمل حملاً من الحطب ليبيعه في المدينة بمبلغ من المال.. أوقف الكاتب الحطاب فوق جسر وعرض عليه مبلغا اكبرمن المبلغ الذي قال الحطاب إنه سيبيع الحطب لقاءه، شريطه أن يرمي الحطاب الحطب في النهر فلا يستفيد منه أحد، ورفض الحطاب العرض المغري، وفضل أن يتحمل مزيداً من الجهد والبرد. ("البعث2/6/ 1982)‏
                    أجل، ثمة في الأشياء التي نصنعها ماهو أغلى على قلوبنا من النقود التي نبيعها بها .‏
                    ولم تقف الحكايات الشعبية عند هذا الجانب وحده من جوانب علاقة المبدع بإبداعه، بل هي تتصدى لجوانب أخر تمس عملية الإبداع من الداخل وتقترب من الحرم القدسي، حرم السر المعجز الذي ندعوه سر الإبداع، أو سر العبقرية. والحكايات لاتدّعي أنها تتعرض للجانب الفلسفي من المسألة، ولانطرح السؤال النظري الذي لم يجد أحد جواباً شافياً عنه حتى الآن، سؤال : ماهو الابداع؟لكنها تتعرض لجوانب جوهرية من سمات شخصية المبدع وطبعه. ومن أبرز هذه السمات الاستعداد للتضحية في سبيل الفن، واعتباره عملاً اجتماعيا نافعاً .‏
                    وتنهض في ذاكرتي أصداء رنين جرس سحري ينبعث من حكاية قديمة قرأتها منذ سنوات عديدة.ولايزال وجه صانع الأجراس الصيني الشيخ منطبعاً في ذاكرتي ولاتزال دموعه الحارة تسيل على خديه المغضنين، وهو يمسح بيديه الخشنتين وجنتي ابنته الوحيدة الجميلة، ويتأمل عينيها الوادعتين.‏
                    كان يحبها حباً لاحدود له . وكان يعرف أن عليه أن يضحي بها كي يحصل على سبيكة الجرس العجيب الذي سيبقى رنينه يتردد عبر الازمنه كلها. ويدور الصراع عنيفاً في صدر الشيخ الواهن، صراع بين العاطفة الأبوية العارمة وبين الواجب الذي يلقيه التاريخ على كاهل. المبدع وتقع المأساة.. ويتغلب الواجب الفني على العاطفة، ويخرج الجرس إلى الوجود آيه فنية لم تحك الحكايات عن جمال فتان يماثل جمال رنينه الساحر. وتصير ابنة المبدع عنصراً من عناصر الأسطورة الحزينة الرائعة .. وتنتقل صورة وجهها الجميل من جيل إلى جيل فلا يعتريها شحوب ولاتزيدها القرون إلا شباباًً وجمالاً . ويبقى الجرس يرسل رنينه الساحر على مر العصور.‏
                    وتستدعي الحكاية الحكاية، وتستدعي الصورة الصورة، وها أنا ذا أرى بعين الخيال جسراً حجريا يمتد فوق مياه نهر صاخبة ويربط الضفتين إحداهما بالأخرى، فتعبر عربات القرويين المحملة بالمحصول من الحقول إلى القرية تجرها الثيران والخيول ويغرد في مقدمتها طائر عجيب التغريد.‏
                    أما حكاية الجسر فأعرف اسمها واسم مؤلفها.. إنها حكاية (جسر روسيتسا الحجري) للكاتب البلغاري الكبير أنجل كارا ليتشيف.‏
                    وحكاية هذا الجسر الحجري التي صارت أغنية تمجد العمل الإنساني تصور لنا عذاب الشاب الذي بنى الجسر لأنه اضطر إلى أن يضع في أساس بنيانه "ظل" التي هي أحب الناس أليه.‏
                    كان والده يحلم ببناء الجسر ليوفر على الناس العناء ويحميهم من غطرسة النهر.. لكن الشيخوخة أدركته قبل أن يحقق هذا الحلم .ورأى أن ابنه الذي ورث المهنه عنه أهل للقيام بالمهمة فأورثه إياها.‏
                    وحين فاتح الأب الابن بالأمر ارتبك الشاب وتردد، فالثمن المطلوب باهظ... إذ عليه، هو العاشق، أن يضحي بمن يحب في سبيل ذلك .. وكانت وصيه الأب واضحة:‏
                    "فلتحبس فيه ظل أحب الناس إليك" ( "مجلة النافذة" العدد 5/6 ص9 )‏
                    وقبل الفنان المهمة وبني الجسر :"أحاط الشيوخ بالجسر، دقوا عليه بعصيهم .. تلمسوا حجارته الباردة وقالوا:‏
                    - مدهش ما صنعته يدا مانويل ( المرجع السابق ص9)‏
                    وصار الجسر حكاية يطل منها وجه الفنان الذي أسقمه الشقاء ويتألق فيها وجه الحبيبة "ميلكا" الجميل ويزداد جمالاً وشبابا على الزمن.‏
                    ويكتب كاتب كلاسيكي بلغاري آخر هو إيلين بيلين حكايتين جميلتين لهما صلة بموضوع الفن والموقف منه وموضوع الحكايتين متماثل تقريباً لولا بعض اللمسات الاجتماعية في الأولى، ولولا اللمسات الأكثر حميميه وشاعرية في الثانية .‏
                    الحكاية الأولى هي حكاية (ذكر النحل الغني) من كتاب (دموع العصفورة ذات الجناحين الفضيين ص37 ومايليها ) والحكاية الثانية هي حكاية (السنجابان) ( المرجع السابق ص39 ومايليها)‏
                    والحكايتان دفاع عن الفن واعادة اعتبار للفنان كمنتج اجتماعي لا باعتباره مضياعاً للوقت كما اعتبرته حكاية "النملة والصرار" الشهيرة التي مجدت العمل بطريقة غريبة إذ كان يمكن تمجيده من غير أن تلحق الإهانة بالفن .. فالصرار، وهو "مطرب الطبيعة ومغني الحقول" صوّر في هيئة الكسول الذي لاعمل له سوى التسكع وإضاعة الوقت. ولا يجوز اعتبار الفن إضاعة للوقت . في حكاية (ذكر النمل الغني)يجعل ايلين بيلين الصرار، رمز الفنان يرد الإهانة التي لحقت به من قبل (ذكر النمل الغني) لا باعتباره عاملاً كادحاً، ولا باعتباره أنثى، فالأنثى أرق قلباً، بل باعتباره طماعاً جشعاً وبخيلاً يكنز الثروات ويعيش في سراديبه المعتمة منفرداً يمضي أوقات الشتاء الباردة في ملل وضجر .. وما هو بالعامل المجد فالعامل مخلوق شهم لا يبخل بلقمة على كائن جائع ولايرده خائباً .. أما المحتكر فيفعل ذلك، ولهذا فهو يستحق العقوبة والاحتقار. وقد جوزي بهما، وحكاية (السنجابان ) حكاية شاعرية تصور لنا الشتاء في الغابة وتصف لنا كيف يرحب السنجاب العامل بالسنجاب الذي أمضى الصيف وهو يراقب أحداث الغابة ويرود جنباتها فيدخر الكثير من الحكايات والخبرات، وكيف يمضيان الشتاء البارد معاً كمخلوقين لاغنى لأحدهما عن الآخر.. ونحس دفئاً ينسينا برد الشتاء المخيف.‏
                    وفي الحكاية الشعبية الكازاخستانية (الصانع الماهر ) نرى العازف الماهر يمر بأصابعه على أوتار آلته الموسيقية :‏
                    "تأوهت الأوتار ومر فوق خيمة الأمير صوت كعويل الريح ثم سمع ما يشبه حفيف أشجار الغابة نعومة ولطفاً .. ارتفع عويل الريح ثم تحول إلى عواء وحش ضار.. وأرسلت الأوتار صريراً حاد النغمة، ثم تحول صوتها إلى صوت إنسان يطلب النجدة، وتلاه زئير الوحش مرة أخرى,, ثم جاء نحيب الغابة الملتاعة وكأنه مرثية تفتت الأكباد" (كتاب "الشموس الثلاث" حكاية "الصانع الماهر"ص112)‏
                    ويفهم الأمير الظالم أن ولده الوحيد قد هلك، وينجو خدمه من الهلاك إذ كان قد هددهم بأنه سيقتل من سيخبره بأن ولده أصيب بمكروه.‏
                    ما كان يخطر في بال الفنان الشعبي أن يفصل الفن عن حياة الناس. فالفن عنده جزء من هذه الحياة تغذيه وتغنيه ويغذيها ويغنيها، يضرب جذوره عميقاً في تربتها فيزداد ازدهاراُ ويزيدها خصوبة .وهو يتخذ الفن حرفة جميلة ونافعة، فالفن بالتالي وظيفة اجتماعية.‏
                    هكذا كان الفن الحق قديماً، وهكذا هو كائن، وهكذا سوف يكون أو لن يكون.‏
                    وكان الفنان إنساناً شجاعاً وشهماً ومسؤولاً وسيبقى كذلك أو لايكون.‏
                    ولقد أدرك كاتب الحكايات الدانماركي العظيم هانس كريستيان اندرسن هذه الحقيقة وجسدها في حكاياته... وما يعنينا مما كتب أندرسن حكايتان جميلتان تعالجان الموضوع الذي نحن بصدده‏
                    الحكاية الأولى "فرخ البط القبيح"وفيها ملامح كثيرة من سيرة الكاتب كما ذكرنا وبطل الحكاية طائرتم، بين جناحيه قلب شاعر، جعله القدر يولد في أسرة بط عادية فعاش طفولته فيها "غريب الوجه واليد واللسان"..‏
                    ويهرب الصغير من الوسط الخانق، وقد ضاق ذرعاً بالنفاق والرياء والغرور والسطحية .. ويتعرض لمخاطر جمة. ويحميه قبحه من كلاب الصيد.. فحتى كلب الصيد الضاري تعاف نفسه الفرخ القبيخ . ويأوي إلى بيت فيه امرأة عجوز وقط ودجاجة وفيه الطعام والدفء والأمن .. لكنه لا يلبث إلا قليلاً حتى يشعر بالرتابة المملة ويكاد يختنق، إنهم يرون الرتابة نعيماً، ويسمون خرير القط علماً ما بعده علم، ويرون وضع الدجاجة البيض عملاً من أمجد الاعمال.. ويأتي الربيع، فيلبي (فرخ البط القبيح) نداء الحياة وينطلق نحو الافاق الواسعة.‏
                    ويعلم العالم أخيراُ أنه لم يكن من نسل البط بل كان تماً، هو الأجمل بين طيور التم، ويفرد التم الرائع جناحية ويغني أغنيته . (ترجم محمود ابراهيم الدسوقي الحكاية باسم "البطيطةالدميمة") وذلك في كتاب (أقاصيص هانس أندرسن ) الصادر عام 1940 عن لجنة التأليف والترجمة والنشرفي عداد سلسلة (عيون الادب الغربي) وترجمها آخرون باسم ( فرخ البط القبيح) وإذا كانت حكاية (فرخ البط القبيح) هي حكاية المبدع على الدرب إلى الابداع، وإذا كانت تصور طبعه وشجاعته قبل الوصول، فإن الحكاية الثانية، حكاية "البلبل" تحكي حكاية المبدع وقد نضجت موهبته وصار العالم يتحدث عنه "وكان الشعراء يختصون بلبل الغابة المجاورة للبحر بابدع القصائد." ( " أقاصيص هانس اندرسن" ص77 ) وأما أهل بلده، وليس لنبي كرامة في بلده، فكانوا لايعرفون عنه شيئاً، وخصوصاً حاشية الامبراطور وكانوا يتساءلون عن هذا البلبل العجيب الذي تحدثت الدنيا عنه ولم يعلم أهل البلاط من أمره شيئاً" (المصدر السابق ص78)‏
                    كانت "فتاة المطبخ" تعرفه جيداً :"وفي أثناء عودتي أمكث في الغابة قليلاً وأستريح، فاسمع البلبل يغرد تغريداً يسيل مني العبرات، فكأنه، حين يغرد، أمي تقبلني" (المصدر السابق ص78)‏
                    يدهش الفارس المكلف باحضاره إذ يراه: "فما أبسط منظره!" (ص79)‏
                    وكيف لاتكون البساطة الفاتنة أمراً مدهشاً لمن يغطون التفاهه والضحالة بالزينة والبهرج؟‏
                    ولم يكن مستغرباً أن يظن البلبل أن الفارس هو الامبراطور فهو لم يره من قبل...‏
                    ويمضي إلى القصر وهو يعلم أن صوته أجمل ما في الغابة .‏
                    ويشدو البلبل في القصر وتخضل عينا الامبراطور بالدموع ويأمر بأن يوضع خفاه الذهبيان حول عنق البلبل مكافأه له.‏
                    ولكن البلبل يرى أن دموع الامبراطور خير جزاء يناله(ص80)‏
                    ولكي تكتمل اللوحة ويظهر تألقها على خلفية من نقيضها ينقل لنا أندرسن صورة المقلدين التافهين الذين لايخلو منهم مكان. فهاهن سيدات البلاط تناولن" في أفواههن بعض الماء، وحاولن أن يحركن حناجرهن أثناء الكلام كما يفعل البلبل، ذلك لأنهن فكرن في أن يكن بلابل أيضا" (ص80)‏
                    ويأتون للامبراطور ببلبل اصطناعي (يشبه البلبل الحي، لكنه كان مرصعاً كله بالماس والياقوت الأحمر والأزرق فإذا أدير لولب هذا البلبل الآلي أمكنه أن يغني لحناً واحداً من ألحان البلبل الحي)(ص81)‏
                    ويمعن أندرسن في السخرية فيجعل الذي أحضر البلبل الآلي يحصل على لقب" محضر البلبل الامبراطوري الأول" (ص81) ثم يورد لنا رأي فنان القصر الذي يرى أن عيب البلبل الحي هو أن أحداً لايعرف ماذا سوف يغني في كل مرة... (أما البلبل الصناعي فان كل شيء مقرر له من قبل) (ص82)‏
                    ويسمع صياد السمك صوت البلبل الآلي فيقول :" إن صوت هذا البلبل جميل جداً يكاد يشبه صوت البلبل الحقيقي، لكنه ينقصه شيء لاأدري ماهو" (ص82-83) كان أندرسن يعرف ـ النقص في صوت البلبل الالي، لكنه جعل صياد السمك يعلن بعفويته أن ثمه نقصاً ما، نقصاً لايدرك جوهره لكنه يحس به بسليقته.. فهل أفقدت حياة القصر أهل البلاط سليقتهم فخفي ذلك النقص عليهم، أم أنهم لمسوه ولم يجهروا به خوفاً ونفاقاً؟‏
                    الأمران لايشرفانهم. واندرسن لايهمه رأي أهل البلاط.. إن من يسهمون في إفساد ذائقة الناس هم النقاد المسخرون وهاكم سخريته الموجعة منهم:‏
                    " وألف الفنان خمسة وعشرين مجلداً عن الطائر الصناعي، تحوي أطول العبارات وأصعبها في اللغة الصينية.. وقال الجميع طبعا إنهم قرأوا هذه المجلدات ووعوها، حتى لايتهموا بأنهم أغبياء فيعرضوا أجسادهم للجلد" (ص83)‏
                    ويتعطل البلبل الآلي ويصلحه صانع الساعات بعض الاصلاح.. ويمرض الامبراطور فينفضّ عنه من حوله وينتخبوا سواه...‏
                    ويطلب من البلبل الصناعي أن يغني فتبتعد عنه سيئاته التي زحمت ذاكرته " لكن الطائر ظل صامتاً، فلم يكن هناك أحد يدير لولبه" (ص85)‏
                    وحط البلبل الحي على غصن قرب النافذة وراح يشدو، وأمعنت الاشباح في التواري (وتدفق الدم إلى أعضاء الامبراطور الخائرة، وحتى الموت كان يصغي ويقول: "إمض في غنائك ايها البلبل الصغير، إمض في غنائك ‍!" (ص86)‏
                    وغنى البلبل أغنية أثارت أشواق الموت "فانطلق من النافذة طيفاُ بارد الهبوب" (ص86)‏
                    واعلن الامبراطور أنه سيحطم الطائر الصناعي "فأجاب البلبل: لاتفعل ذلك، فقد فعل مافي طاقته، فاعتن به، أما أنا فلا قبل لي بالبقاء في القصر، فدعني آتي كلما حلالي"(ص86) ثم يقول للملك : "إن قلبك أحب إليّ من تاجك" فهل ثمة أعظم من فنان يرى الدمع أثمن من الذهب والقلب أحب إليه من التاج؟‏
                    وهل ثمة أطيب قلباً وأكثر تسامحاً ونبلاُ من الفنان المبدع: "لاتفعل ذلك فقد فعل مافي طاقته، فاعتن به"‏
                    وهل ثمة من هو أحرص على حريته من الفنان الحق:‏
                    "أما أنا فلا قبل لي بالبقاء في القصر، فدعني آتي كلما حلالي"‏
                    كنت أنوي الاسترسال في الكلام وإبراز جوانب أخرى من الموضوع على ضوء حكايات أخرى، لكنني فطنت إلى ماكان أجدادنا يحرصون على ترداده:‏
                    "خير الكلام ماقل ودل، وما أغناك قليله عن كثيره"‏
                    ولقد أكثرت وما أغنيت .. بل هي اشارات لاأكثر..‏
                    وعلى ضوء المسائل التي تناقش الان بحماسة وانفعال اسمح لنفسي بسؤال:‏
                    هل نحن أمام مسائل تتجدد باستمرار ولاتولد أبداً ؟‏
                    قد تكون المسائل الكبرى دائماً هكذا وقد تكون الصغرى كذلك أيضا.‏
                    المراجع‏
                    1- كارانفيلوف- ايفريم (أبطال وطباع) ترجمه ميخائيل عيد -وزارة الثقافة والارشاد القومي-دمشق 1982‏
                    2- جماعة من المؤلفين (الشموس الثلاث) ترجمة ميخائيل عيد -وزارة الثقافة والارشادالقومي- دمشق 1976‏
                    3- جريدة (البعث) تاريخ 2/6/ 1982‏
                    4- كار اليتشيف ـ انجل (جسر روسيتسا الحجري) ترجمه ميخائيل عيد- مجله النافذة - دمشق العدد 5- 6 عام 1991‏
                    5- جماعة من المؤلفين (دموع العصفورة ذات الجناحين الفضيين) ترجمه ميخائيل عيد- وزارة الثقافة والارشاد القومي - دمشق 1977‏
                    6- اندرسن -هانس (أقاصيص هانس اندرسن) ترجمه محمود ابراهيم الدسوقي- لجنة التأليف والترجمة والنشر- سلسلة (عيون الادب الغربي) القاهرة-1940‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

                      في الواقع والواقعية
                      يدور جدل ميدانه الساحة الثقافية العالمية حول الواقع والواقعية، وحول علاقة الادب بالواقع، وحول طبيعة الواقعي عموماً، وولدت "مدارس واقعية"عديدة وظل الأدب الواقعي غير محدد.‏
                      وتشعبت الاسئلة وتعقدت فصارت مشكلات، وتباعدت وجهات النظر وتضاربت الآراء. و(تمترست) وراء متاريس المدارس الأدبية والثقافية جهات غير أدبية، وكانت الجهات السياسية وراء أكثر المتاريس، ولم يصل أحد من المتجادلين إلى تعريف دقيق وشامل للواقعي.. وكثر الخروج من الأدبي إلى السياسي ومن السياسي إلى الأدبي .. وقالت فئة : الواقعي هو الموضوعي وعرفت الموضوعي تعريفات تحتاج إلى تعريفات وشروح .... فالموضوعي وفق أحد التعاريف هو: ماهو خارج ذهني وليس بحاجة إلى أي ذهن كي يوجد .‏
                      ودار الصدام بين ماهو خارج ذهني وبين ماهو داخل ذهني واقيمت بينهما جدران واسوار كتيمة، واستخدمت في الاشتباكات القتالية مدفعية الميدان الفلسفية بعيدة المدى .. وضاقت الشقة أحياناً بين "علم الأدب" وبين "علم الجمال" وعادت إلى الاتساع في أحيان أخر.. وكثر العجيج والضجيج، وعلا الغبار وكثرت الاتهامات، والاتهامات المضادة، وكانت كل فئة تعبر عن ديمقراطيتها الكاملة بالدعوة إلى نسف الآخر وهدم كامل بنيانه وعدم الاستفادة من انقاضه في إقامة ابنية جديدة.. لأن أبنية جميع المتجادلين كانت كاملة :"على المفتاح" .‏
                      وشغلت ذهني طويلاً في المسألة، وكان ذهني المتعب يعيدني إلى البساطة كلما تعقدت الأمور. كنت أفكر أحياناً، على سبيل المثال، بالعملية الحسابية البسيطة جداً:"1+1=2" إذ لاوجود مجرد لكلمة واحد في الواقع، والمسألة هي مسألة تجريدية مارسها الذهن البشري وحل انطلاقاً منها وبناء عليها الكثير من مسائل الفكر عموماً، وكذلك الكثير من مشكلات الحياة، واقنعت نفسي، من ثم، بأن مسائل الرياضيات الحديثة والفيزياء الحديثة وغيرها هي مسائل ذهنية- واقعية، أو واقعية ذهنية إذا شئتم ..وصرت أرى أن حركة الفكر وعملية التفكير التي تجري داخل الذهن هي واقعية نسبياً، ومن ثم، هي موضوعية نسبياً.‏
                      وبعد أن تعبت من متابعة المجادلات الصاخبة والهادئة، الحامية والفاترة والباردة، ومع احترامي لجلال قدر الكثيرين من الذين أسهموا في الجدال، قررت أن أطرح أمامكم في هذه السطور هذه المسألة العويصة طرحاً يتسم بالبساطة قدر الامكان .. وقد صغت السؤال على الشكل التالي: ماهو الشئ غير الواقعي؟ وما هوالادب غير الواقعي؟ آملاً أن تستبعد هنا المسائل السياسية إلى حين، وهي المسائل التي تقحم مباشرة في كل مجال وفي كل حين.‏
                      قد يكون الجواب الأبسط والأشمل عن هذا السؤال هو : الواقعي هو الموجود، وكل مايوجد يصير واقعاً أو واقعياً ولافرق، العدم المطلق، المستحيل فلسفياً وعقلياً، هو وحده غير واقعي، والذين يؤكدون نفي صلة الأدب بالتجربة الحياتية، أي بالممارسة معيشياً، لا عبر الثقافة فحسب، مسمين ذلك نفياً لصلة الأدب بالواقع أو بالحياة إنما يقعون في غلطين كبيرين، لايختلف أثنان بشأنهما، وإن كنا قد نختلف في مسألة تحديد أي منهما أكبر من الآخر. أولهما أنهم ينسون أو يتناسون أن إمكان استقلال الإبداع عن التجربة لايكون إلاّ نسبياً جداً .. إذ يستحيل ألاّ تلقي البيئة والزمان وأحداث الحياة الشخصية "أي التجربة الحياتية" شيئاً من ظلالها، أو أن تضفي شيئاً من تلويناتها على الناتج الابداعي. ولو كان الأمر خلاف ذلك لأنتج مبدعان لهما ثقافة متماثلة اعمالاً ابداعية متماثلة، وهذا نادر الحدوث، ونكاد نزعم أنه مستحيل الحدوث، وأكثر من ذلك يستحيل أن يعيد الكاتب نفسه كتابة رواية أو قصة، تماماً كما سبق له أن كتبها. ومن هنا يكون من قبيل المبالغة زعم الشكلانيين أن سيرة الأديب أوالفنان ليست سوى نتاج ثانوي للفن، وليست السبب في وجوده، أو من أسباب وجوده، كمايبدو مبالغة أكبر قولهم (إن المبدع هو "نتاج الإبداع" وليس منتجاً له)‏
                      والخطأ الثاني هو فصلهم ثقافة المبدع عن سيرته، وبالتالي عن تجربته، فصلاً تعسفياً.‏
                      ويعتبر من قبيل المبالغة أيضاً زعم أصحاب مدرسة التحليل النفسي أن الابداع عملية مرتبطة باللاشعور وحده، فما هواللاشعور؟ وهل هو غير الواقع الذي عشناه ونسيناه أو عاشه أجدادنا في أثناء مراحل تطور الجنس البشري ثم توارثوه جيلاُ بعد جيل، وتطوروا عبره وبه فكراً وجسداً وحسن أداء إلى أن وصل إلينا ؟ إن اللاشعور هو واقع كان فاعلاً وعلى السطح، ثم توالت الأحداث والوقائع فاغرقته إلى حيث سكينة الأعماق، وشغلنا عنه بما يستجد من أمور يومية واحداث، وقد يرقد هناك لكنه لايفقد فاعليته..(فما من شيء يفنى في الطبيعة ).‏
                      وقد يكون مسوّغا السؤال التالي: لماذا يستيقظ اللاشعور، أو هذا الجانب منه إثر هذا الحادث أو ذاك؟ ولماذا لايستيقظ كله، بكل مخزوناته دفعة واحدة، أوحين نطلب منه إرادياً أن يستيقظ؟ وهل يحدث التداعي إلا بتأثير حادث واقعي محدث.؟ وحتى لو كان هذا لامكان له .. فهل يمكن نفي أن اللاشعور كان واقعاً شخصياً أو كونياً، كمن في أعماقنا ثم استيقظ؟ وهل كمونه يلغي أنه كان واقعاً ؟ وهل استيقاظه يلغي، تماماً، الحاضر الذي نعيش فيه، أم أن التداخل والتمازج أمر قائم وموضوعي، ومن ثم واقعي.؟‏
                      وإذا كان الواقعي أو الموضوعي غير محتاج إلى ذهني كي يوجد فان ذهن الانسان محتاج إلى وجوده، إذ لاوجود له إلاّبه . ونحن محتاجون إلى إدراكه بعمق وإلى فهم النواميس الطبيعية التي يسير طبقاً لها. وعملية الابداع لاتحتاج إلى وجود الاشياء الموضوعي خارج اذهاننا وحسب بل هي تحتاج إلى وجود تصور محدد عنها في أذهاننا تحديداً، والتصور الذي يتشكل في أذهاننا يصير المادة الاساس لابداعنا، وبصيرورته ابداعاً يصير واقعاً ملموساً خارج أذهان الآخرين، إلى أن يطلعوا عليه، ويصير بالتالي جزءاً من بنية أذهانهم لتولد من تفاعله مع مافي أذهانهم ومع مافي خارجها أعمال جديدة، فنزداد إدراكا للواقع، ويتطور فهمنا لجوانبه المتعددة. وتغتني صورته في أذهاننا وتتبدل تطورياً مع الزمن.‏
                      ويكون كل ماهو ذهني واقعياً بمعنى من المعاني، إذ يتجسد في عمل فكري أو في ممارسة مكوناً بنية من بنى الواقع الفاعلة فيه. وقد نختلف حول مدى دقة عكس الذهني للواقع، فنقول: هذا تصور غير متكامل أو ساذج، أو غير جوهري، أو حتى خرافي، ومع ذلك نكون مضطرين إلى القول إنه عكس للواقع. فالعدم المطلق، لافكرة العدم التي صارت واقعاً، العدم المطلق لايغني شيئاً ولايغتني بشيء.‏
                      وإذاكان الواقع معطى كاملاً وشاملاً فإن عملية إدراكنا له ليست كذلك.إنها تتكامل وتتسع مع كل إبداع، وبعد كل ممارسة.. وليست إقامة الجدران المصطنعة بين الواقعي والمعرفي في صالح أحد، بالمعنى الاستراتيجي للتطور البشري. أما السؤال: كيف نعكس هذا الواقع فينقلنا من تخوم الأدب إلى تخوم علم الجمال.. وأما السؤال: من يخدم عكسنا هذا الجانب من الواقع وبهذه الطريقة فيخرجنا من عالمي الجمالي والأدبي ويدخلنا أويزج بنا في عالم السياسة، ويضعنا أمام مسألة الطبقات والفئات الاجتماعية، وتآلفها، أو تنافرها، تآخيها أو تصارعها.. وهي مسألة شائكة.. ولن تحسم عبر مناقشات مسائل الادب.‏
                      إن مهمة الأدب الأساسية هي أن يبدع الجمالي، ولن يتاح له ذلك إلاّ إذا عكس فنياً المسائل الجوهرية التي يطرحها عصر المبدع. وإنها لمهمة جليلة ومجيدة. ويكفيه مجداً أن يؤديها في كل حقبة من حقب التاريخ.‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

                        بعد انقشاع الغبار
                        كل اكتشاف جديد يثير زوبعة.. ومن طبيعة الزوابع أن تثير الكثير من الغبار ... وربما كان القرن العشرون بين أكثر القرون التي عرفها التاريخ إثارة للزوابع.. فقد ورث هذا القرن الكثير من المشكلات التي طرحها القرن التاسع عشر.. وقد خيل للعلماء وقادة الفكر وللساسة، ولاصحاب النظريات الفنية والأدبية أنهم سيحسمون كل المشكلات دفعة واحدة .. وها نحن اولاء نقرع باب القرن الحادي والعشرين وفي حقائبنا من المشكلات التي سنورثها للآتين أكثر مما ورثنا من القرون الخوالي. وربما كانت مأثرة الفكر البشري الكبرى ومطمحه الاسمى منذ عهد الاساطير الاولى وحتى أيامنا، هي سعيه إلى تكوين نظريات كاملة شاملة تجيب عن كل الاسئلة التي يمكن أن تطرح في كل الامكنة وفي كل الأزمنة.. والمؤسف أن مفخرته ومأثرته كانت ومازالت احدى الثغرات فيه، وربما كانت نقطة ضعفه الاساسية.. فالنظريات الكلية لاتكون كذلك إلا إذا أغلقت دائرة النظر، ودوائر النظر المغلقة، أياً كانت رحابة آفاقها وآمادها، ستبقى دوائر مغلقة... ولن تكون أكثر من ذلك .. وإذا كانت كل دائرة من دوائر النظريات تحتوي على شيء فمن غير المنطقي أن تحتوي احداها على كل شيء..‏
                        والمفترض أن تكون النظرية خلاصة للخلاصات التي وصلت إليها العلوم في مرحلة معينة من مراحل تطورها، لكن التخصصات الضيقة منذ بدايات هذا القرن، أو قبلها، تخرق هذه القاعدة الأساسية، أو المفترض أن تكون أساسية، وبدأنا نرى الاجزاء تزعم أنها بديل الكل، فصار الانسان مجموعة من العقد الجنسية في نظر الفرويدية، واختزل المجتمع إلى وسائل الانتاج في النظريات الاقتصادية - الاجتماعية، فصار الاساس بديلاُ للبناء بكامله.. ونسي الكثيرون أن حتى الاساس لايمكن أن يكون أكثر من أساس، وأن حتى الهيكل العظمي الذي هو مرتكز الجسد الانساني ليس أكثر من هيكل عظمي..‏
                        وكما جعل فرويد اللاشعور أساس العالم الروحي والابداعي للانسان، واختصر اللاشعور إلى مايخص العقد الجنسية وحدها، فان أصحاب المدارس النقدية والأدبية قد أصيبوا بهذه العدوى وظلوا يعانون من حماها ولايزالون.. وكانت الحمى مصحوبة بالكثير من الحماسة والحميا.. وتعالى الكثير من الغبار في شتى الميادين .. وأرخى الكثيرون لمهار مخيلاتهم العنان.. وبلغت صرخات دعاواهم أجواز الفضاء.. وكثرت المزاعم.. صارت كل مدرسة تزعم أنها قالت الكلمة الاخيرة ..ونسي الجميع، في غمرة الحماسة أو بتأثير الحمى، أن الكلمة الأخيرة لن تقال أبداً..‏
                        ودخلت البنيوية المعمعة بطبول وأبواق، كي لايضيع صوتها وسط الصخب.. وكان لها فرسانها الذين صالوا وجالوا على هواهم، وبلغت صيحاتهم أسماع دارسي الأدب عندنا فشحذوا أقلامهم على مسنها وراحوا ينافحون عنها. وقد برز بينهم دارسون موهوبون ومجتهدون أدوا لثقافتنا الحديثة خدمات لاينكرها إلا مكابر مسرف في تجاهله.‏
                        وبقيت المسألة هي هي.. فنحن جميعاً ننسى أن ما نأتي به هو المكمل لماأتى أو يأتي به سوانا وليس نقيضه، إنه الاضافة إلى وليس البديل عن، وهنا أيضاً كانت نقطة ضعف البنيوية، وهنا كان أساس مشكلة البنيويين، إذ حاولوا عزل النص عزلاً تاماً عن زمانه ومكانه ودراسته لذاته وبذاته ناسين أو متناسين أنه قد ولد في زمن محدد تاريخياً، وفي بيئة بعينها. والعمل الابداعي ليس تاريخاً، لكنه لايمكن أن يولد خارج التاريخ ولايمكن أن يخرج من تاريخيته بمعنى أن لايعلق به شيء من ملامح زمانه، وهو ليس فرعاً من فروع علم الاجتماع أو علم النفس لكنه لايولد بعيداً جداً عن هذين العلمين ولابعيداً عن سواهما من العلوم الانسانية أو الطبيعية.ونسوا أيضاً أن للغة تاريخها..‏
                        وكما أن القديم لايصير قديماً كله، دفعة واحدة، كذلك هي حال الجديد، فهو لايكون جديداً كله، ففي كل جديد شيء من القديم، وتاريخ الأفكار والنظريات كلها يشهد على ذلك . والنظريات الأدبية لاتولد أدبية صرفاً بل تولد معها أوقبلها نظريات لها سمات النظر العلمي الفكري، فالحداثة كانت حداثة في الفكر الفلسفي وفي نظريات العلوم أساساً، وكانت الحداثة في الأدب كنظرية رديفاً للحداثة الأخرى الأساس. وكثيراً ماتطبق النظريات في الممارسة الابداعية، أقصد الأدبية والفنية كنوع من البرهنة على شمول النظرية الفكرية- العلمية شتى الميادين، وهذا لايعني أن ليس للمبدعين قصبات سبق في هذا الجانب أو ذاك، إذ كثيراً ماتكون عناصرالنظرية الرئيسة في هذا الميدان الابداعي أو غيره قد وردت متفرقة قبل أن يخطر للمنظرين لملمة هذه العناصر وشد بعضها إلى بعض...‏
                        وتكون العناصر المتناثرة في الابداع نضرة غضة، وحين يعالجها المنظرون تصبح جافة.. وشتان مابين عذوبة القصائد وجفاف علم العروض..‏
                        لقد أفاد علم العروض النظاّمين وحتى الشعراء، لكنه لم يصبح شعراً ولابديلاُ للشعر، بل ماكان له أن يوجد لو لم يكن ثمة أجيال وأجيال من الشعراء، والكثير الكثير من الشعر... هل تراني مضيت بعيداً فخرجت عن الموضوع ؟ لا فالشعر هنا مثال لاأكثر.. الشعر هنا هو الصورة الحية للحياة والعروض، كمثال، نظرة تنظيرية جزئية، واحادية الجانب إلى الشعر.. وكما في الشعر كذلك في الحياة لن تكون النظريه أكثر من نظرة جزئية واحادية الجانب إلى الحياة -ولهذا ستبقى نظرة قاصرة -وأما النظرة إلى الحياة والكون بكل أبعادهما ومن جوانبهما كلها فأمر فوق طاقة البشر في مثل هذه المرحلة من مراحل تطورهم، وفي مراحل تطورهم المنظورة.ولقد رأى، يونغ، تلميذ فرويد النبيه ضيق أفق أو محدودية نظرية فرويد فحاول تعميقها وتوسيعها، مع أحترامه الكبير لاستاذه، وتقديره لجهوده، فحورب من رفاقه.. وقد حورب آخرون وسيحارب أخرون، في الميادين الاخرى، لكن العلم سيتقدم والنظرات ستغتني وتتكامل، والافاق ستتسع..‏
                        ومع أنقشاع الغبار شيئاً فشيئاً بدأنا نرى الفرويديين، أو بعضهم، بدأوا يأخذون بطرف من التحليل الماركسي، وصار الماركسيون يأخذون بطرف من الفرويدية والبنيوية، ويتكلم واقعيون اشتراكيون على (رومانسية ثورية) كما أن البنيويين بدأوا يفككوون البنيوية وصار البنيويون، أو بعضهم، يتكئون أيضاً على شيء من عناصر الماركسية والفرويدية وغيرها..‏
                        هل في الامر شيء من التلفيقية؟ لا.. ليست تلفيقية وإنما هي أبتكارات الذهن البشري يكمل بعضها بعضاً، على الرغم من إنها تبدو للوهلة الأولى متعارضة.. إنها وجهات نظر في الحياة من زوايا نظر مختلفة، وقد تخدم فئات اجتماعية ذات مصالح اجتماعية متعارضة، لكن العنصر المشترك فيها هو كونها نتاج جهد الذهن البشري الذي يبحث عن الحقيقة، وإن كنا لاننكر أن كثيرين قد عملوا عامدين على طمس الحقيقة أو إخفائها وراء الغبار الذي افتُعلت إثارته.‏
                        تبقى مسألة أخيرة هي : لكن، هل سينجلي الغبار تماماً وتصفو الاجواء تماماً؛ أو هل ستهدأ الزوابع؟‏
                        هذا محال.. لا لأن الماضي مستمر في الحاضر وسيستمر هو والحاضر في المستقبل فحسب، بل لأن زوايا النظر إلى الأمور ستظل متباينة تبعاً للمصالح ولغير المصالح أيضاً، وستثور زوابع جديدة وسوف يتصاعد الغبار والدخان، وقد يرافقها الضباب الكثيف، وستبقى للشمس فرجة تطل منها على الناس المنهمكين في البحث عنها والتوجه نحوها.‏
                        المهم بعد كل زوبعة أن يستطيع الفكر المستنير إحصاء النتائج واستخلاص الزبدة بروية وموضوعية، وحينئذ ستكون الخطوة إلى الأمام أكبر ... مع ان الدرب سيمتد إلى اللانهاية.‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق

                        يعمل...
                        X