Announcement

Collapse
No announcement yet.

اللغة العربية والصراع الدائم

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • اللغة العربية والصراع الدائم

    اللغة العربية والصراع الدائم


    منقول


    سوء التفاهم الذي وقع على هامش المقابلة التلفزيونية بين ممثلة طالعة وصحفي مخضرم متمرس, في إجراء الحوارات الفنية منذ سنوات طويلة, أخذني بعيداً إلى أطياف الكلمة العربية, وقوس قزح لغة الضاد, وما مثلها في هذا بين لغات الأرض كافة, لا أدل على ذلك, من اضطرابات تلك الممثلة وهي تسمعه يقول لها, خلال الحوار: أنت غانية.

    ولقد غلط المحرر الذي نقل الخبر إذ قال: إن الكلمة تحمل مضموناً سيئاً ترفضه أي سيدة او فتاة. إلا أن الممثلة المعنية لم تعلق على الكلمة واكتفت بابتسامة عريضة وأغلب الظن أن الصحفي أوقعها في حيرة وارتباك فليس معقولاً أن يتوجه إليها بكلمة رديئة, وهي ضيفته. ‏


    من أطياف زكي نجيب محمود ‏

    بادئ ذي بدء, تذكرت المفكر الكبير د. زكي نجيب محمود, وهو من المؤمنين بأفكار ومقولات «مدرسة فيينا» المعروفة باسم: الوضيعة الجديدة, وخلاصتها ان الخلاف الأساسي بين الناس, ناتج عن الاختلاف في فهم وتفسير مدلولات الألفاظ في اللغة وبصرف النظر عن صواب هذه الفكرة من عدمه, فإنها رأي له أهميته. ‏
    وعلى هذا, فاني عدت إلى الجذر الأول للكلمة: «غني» وغني الرجل يعني تزوج. والغاني هو ذو الوفر كالغني. والغانية مؤنث الغاني وهي المرأة التي تُطلب بضم التاء, ولا تَطلب بفتحها, وكما يورد سعيد الشرتوني في «اقرب الموارد» فالغانية هي الغنية بحسنها وجمالها عن الزينة. وقيل المرأة المتزوجة التي غنيت بزوجها. والمعنى هو المنزل الذي غني به أهله. ‏


    «أدلر».. والبيجاما.. والأسماء الأجنبية ‏


    حاولت قبل فترة تذكر اسم عالم النفس النمساوي الذي انشق مع السويسري- الناطق بالألمانية- كارل غوستاف يونغ, عن معلمهما سيغموند فرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي, وصاحب نظرة (الليبيدو Libido) التي تربط الفعاليات النفسية بالجنس (1856-1939), فلم أفلح, إلى أن أهديت أخيراً بيجاما, فوجئت ان (ماركتها) كانت باسمه: آدلرا فجاءني على الفور اسمه الأول الفريد (1870-1937) ويعد مؤسس علم النفس الفردي. وتذكرت كتابه المترجم الذي أهدانيه القاص الراحل محمد حيدر, ولست أدري كيف فقد من مكتبي. حاولت عبثاً أن أجد صلة بين (آدلر) هذا و(البيجاما) التي أمست في خزانتي دون جدوى, ومرت على شريط الذاكرة عشرات الاسماء الاجنبية التي تقع عيناي عليها كل يوم, وقلما تكون للواحد منها دلالة خاصة جعلت صاحب المقهي أو الدكان أوالمتجر أوالمطعم, يطلقه على محله: أوبشن, بوليفار, باباي, شارم, لانوازيت, الغورا, دويه, أكسيجين, فن تاون... الخ ويبدو ان مجمع اللغة العربية الأردنية انتبه إلى هذا المسألة, فأطلق شعار عام اللغة العربية على تلك السنة ( في إطار سعيه لإنقاذ لغة القرآن الكريم من الهجمات الشرسة التي تتعرض لها) كما قال رئيسه الدكتور عبد الكريم خليفة.

    وسائل الإعلام والعامية ‏


    ورأى أن أحد أوجه الخطر على لغة الضاد وجود العديد من المطبوعات ووسائل الإعلام التي باتت تعتمد العامية, وبينها عشرون مطبوعة ونشرة مكتوبة تصدر في دول الخليج, إلى جانب العناية المبرمجة من جانب بعض دور النشر بطباعة الشعر النبطي والعامي, وأشار د. خليفة إلى (قانون هام للحفاظ على اللغة العربية) صدر عام 1991 ويتضمن توجيهاً لمنع ترخيص أي لافتات لا تحمل اللغة العربية.

    المدرس وعقدة الدونيّة ‏


    لست أدري بالطبع سر هذه الهجمة في سورية على الأسماء الأجنبية ولا شك عندي أن لذلك علاقة وثيقة بعقدة الدونية Inferiority Complex وهي كما سخر منها المونولوجيست الحلبي المناضل الراحل الذي اغتيل على مسرح في بيروت عام 1958 لأنه سخر من بعض عملاء الأجنبي. إنه عبد الله المدرس الذي استخدم في مونولوجه مفردات تركية ويقول فيه (كل شيء صار فرنجي, يعني برنجي واللّي مانه فرنجي يعني ايكنجي). ‏
    ـ برنجي تعني: جيد، ايكنجي تعني:رديء. ‏


    حافظ إبراهيم واللغة العربية ‏


    العجيب في الأمر أن شاعر النيل حافظ إبراهيم نظم عام 1903 قصيدة عنوانها (اللغة العربية تتحدث عن نفسها) توضح أن مسألة الأخطار التي تهدد العربية جدية وقديمة ومنها: ‏
    وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ‏
    وما ضقت عن آي به وعظات ‏
    فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ‏
    وتنسيق أسماء لمخترعات ‏
    أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن ‏
    فهل سألوا الغواص عن صدفاتي ‏
    أرى كل يوم بالجرائد مزلقاً ‏
    من القبر يدنيني بغير أناة ‏
    أيهجرني قومي عفا الله عنهم ‏
    إلى لغة لم تتصل برواة ‏
    سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى ‏
    لعاب الأفاعي في مسيل فرات ‏
    عن المعجم التاريخي واللغة المبتذلة ‏
    في الاحتفال الذي كان مجمع اللغة العربية في القاهرة قد أقامه في يوبيله الماسي أي العيد الخامس والسبعين لإنشائه, بعد مجمع اللغة العربية في دمشق الذي كان يدعى المجمع العلمي العربي والذي أنشأه العلامة محمد كرد علي سنة 1921, وهو حينذاك وزير المعارف ‏
    (التربية) وأنشأ معه مجلة المجمع التي ما زالت تصدر حتى اليوم. تحدث الشاعر الجميل فاروق شوشة أمين عام المجمع, فأشار إلى تبنّي اتحاد مجامع اللغة العربية فكرة العمل على إصدار معجم اللغة العربية التاريخي, وهو يتطلب جمع مفردات الضاد التي تقدر بالملايين, وسيوضح فيه تاريخ كل كلمة, ومتى استخدمت للمرة الأولى, وكيف تطورت عبر العصور.. الخ. ‏


    المعاجم والترهل العجيب

    وعلى الرغم من صعوبة الفكرة وحاجتها إلى سنوات من العمل الجاد, وإلى إمكانات مالية غير قليلة, فإن الانتقال إلى الشروع في تنفيذها ضروري جداً, ولكن الأكثر ضرورة هو إنقاذ المعاجم من هذا الترهل العجيب, وهو ما فعله علماء اللغات الأجنبية بمعاجمهم, وبات معروفاً في اللغات اللاتينية والانكلوساكسونية أي الإنكليزية والألمانية, أنها استبعدت كثيراً من الألفاظ والمفردات التي ظلت مستعملة حتى عصر النهضة, أما تلك التي حذفت من القواميس وهي لم تحذف حتى الآن، في بعض المعاجم العربية فإن الباحث يستطيع العثور عليها في المعجم التاريخي. هنا يمكن أن يجد كلمات انقرضت وعادت غير متداولة نهائياً مثل «متك الشيء متكاً: قطعه» «مثمث مثمثة: رشح» و«فلم أنفه: جدعه» و«نات نيتاً: تمايل من ضعف» و«نثم: تكلم بالقبيح» و«فلا الصبي عن أمه: عزله عن الرضاع وفطمه». ‏


    استشراء العامية والمبتذلة ‏


    على أن الأستاذ شوشة توقف ملياً عند مسألة سبق لمجمع اللغة العربية في عمان أن شدد عليها كما نوهت بذلك فقد «حذر من خطورة إشاعة اللغة المبتذلة واللهجات العامية التي تسيء إلى الذوق العام والهوية العربية وطالب بضرورة وجود قانون يجبر الهيئات والأشخاص على استخدام اللغة العربية بدلاً من اللغات الأجنبية التي أمست تسود واجهات المحلات التجارية والشوارع. وحذر فاروق شوشة أيضاً من استشراء العامية والسوقية واللغة المبتذلة في الفضائيات العربية. وهذا بالطبع شأن آخر لا علاقة له بتلك العامية الشعرية الراقية التي استخدمها شعراء كبار أمثال أحمد رامي وحسين السيد وصلاح جاهين ومرسي جميل عزيز وسواهم.

    العربية.. في معاركها ‏


    ربما كان أقدم إشارة إلى محنة اللغة العربية، في العصور الحديثة يرجع إلى عام 1867 عندما نشر أحمد فارس الشدياق (1804 – 1887) في صحيفته (الجوائب) التي ظل يصدرها في الأستانة (استانبول) 23 سنة، تلك المقالة التي غدت مقدمة لكتابه (سر الليال في القلب والإبدال)، لكنه نزولاً عند مبدأ (والضد يظهر حسنه الضد) اكتفى بإبراز عبقرية العربية وجمالها ونصوع بيانها فهي (مثل دوحة ذات أفنان)، في كل فنن منها أفنان لا يزال ظلها ظليلاً صافياً وموردها عذباً صافياً، بيد أن العرب والحق أقول لم يقدروها حق قدرها ولا عرفوا أنها الفاضلة وغيرها المفضول). ‏


    جرجي زيدان والعربية عام 1893 ‏


    وعام 1893 في عدد شباط /فبراير من مجلة الهلال رد جرجي زيدان مؤسس هذه المجلة ورئيس تحريرها، على وليم ولكوكس الذي زعم أن فقد قوة الاختراع عند المصريين العرب- سببه استبقاؤهم اللغة العربية الفصحى، وأشار بإغفالها واستبدال العامية بها (اقتداء بالأمم الأخرى)! ‏
    وفي مطلع القرن العشرين، وضع القاضي «ولمور» أحد القضاة الإنكليز في مصر كتاباً سماه (لغة القاهرة) واقترح فيه كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، فكان الرد المباشر عليه سنة 1903 في القصيدة التي نظمها حافظ إبراهيم بعنوان: (اللغة العربية تتحدث عن نفسها) وقد اشرت إلى ذلك آنفاً. ‏


    والواقع أن أكابر أدباء العربية، منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كان همهم الأول الدفاع عن لغة الضاد في وجه الهجمات الضارية، لخلعها من أصالتها وإلباسها ثياب الهجنة من عامية ولاتينية.. مؤكدين صلاحيتها للبيان والتعبير، مثلما هي في مختلف العهود العربية الزاهرة، بدءاً بالجاهلية والمعلقات مروراً بالقرآن الكريم حافظ العربية الأول، والشعراء الأمويين والعباسيين الكبار، وهكذا كانت مجلات (الهلال) و(المقتطف) و(الرسالة) و(البيان) الخ... مسرحاً لمقالات: إبراهيم اليازجي- خليل مطران- أمين الريحاني- سلامة موسى- جبران خليل جبران- يحيى حقي- كاظم الداغستاني وسواهم. ‏


    نحو لغة واحدة

    في المقدمة التي وضعها الأديب العراقي الراحل هادي العلوي، للجزء الأول من المعجم العربي المعاصر الذي لم يمهله هادم الملذات لاستكماله، وعنوانه (قاموس الإنسان والمجتمع) يقول موجزاً، بعض مشكلات اللغة العربية في تكثيف واضح: (في غضون القرون الخمسة الأخيرة إن لم نذهب إلى ما وراءها، تبدلت أمور كثيرة، فنقص المعجم العربي وزاد: نقص بإهمال مفردات لم تعد لازمة للحياة، وزاد بمفردات لم تكن في المعجم القديم، واستوعبتها لغة الكتابة أو لغة الكلام وتحول مطالُ اللهجات، فصارت لهجات بلدان لا لهجات قبائل، واختلطت اللغة العربية بحكم اتساع جغرافيتها مع لغات أجنبية ولهجات محلية، فأثرت فيها وتأثرت، واستوعبت من الدخيل ما استوعبته في سالفها وزادت عليه، وأخذت عاميتها من لغات ولهجات أجنبية بفعل الاحتلال أو المجاورة).

    التمكين للغة العربية

    ويخيل إلي أن الأستاذ العلوي، قد أوجز في هذه السطور، جانباً من الهم الذي سوف تحمله اللجنة التي شكلتها الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية العربية السورية وكلفت بإعداد خطة عمل وطنية تستهدف التمكين للغة العربية والارتقاء بها. وأحسب أن استبدال كلمة (قومية) بكلمة (وطنية) لوصف اللجنة المذكورة، قمين بالنهوض بها إلى المستوى المنشود، لأن مشكلة أو محنة اللغة العربية ليست مقتصرة على هذا القطر أو ذاك، ذاك أنها تشمل بلدان الوطن الكبير كافة، ولا بأس في إيراد بعض الأمثلة، فأنا أحاول منذ سنوات، أن أتابع ما يذاع في فضائيات المغرب الكبير: تونس، مراكش، الجزائر، باللهجات العامية فأعجز عن فهم واستيعاب ما أسمع، بلى قد يكون في الحوار العامي حرارة وصدق، قد تنخفض نسبتهما في حال ترجمته إلى الفصحى، هذا صحيح.. ولكن ما العمل، ونحن إزاء أمة عربية واحدة، حقاً وصدقاً؟! ‏


    من الشام لبغدان.. وتطوان ‏


    إنك تستطيع أن تتفاهم بالفصحى البسيطة، مع أي عربي، من اي قطر مهما يكن نائياً، من موريتانيا إلى الصومال والعراق. حين عرضت بالفصحى مسرحية المغربي العظيم الطيب الصديقي المقتبسة عن مقامات بديع الزمان الهمذاني، في مهرجان دمشق المسرحي، فإنها استطاعت أن تنتزع إعجاب الجمهور كله، وكانت جوهرة المهرجان. ‏


    فماذا لو كان الحوار بالعامية المراكشية؟ ‏


    لقد سبق أن شاهدت فيلما مراكشيا، في أحد مهرجانات دمشق السينمائية، كان الحوار يدور فيه باللهجة العامية، فلم أفهم منه شيئا. هذه في الواقع مشكلة حقيقية، يتباين طرفاها في الأعمال الفنية، ولابد أن يكون أحدهما على حساب الآخر.. فما العمل؟‏

Working...
X