إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

    مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

    - د.ماجدة حمود -

    دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 2000
    المقدمــــة :
    تأثير أسطورة بغماليون في الأدب العالمي والعربي
    نموذج من الأثر الإسلامي في الأدب الغربي أثر حي بن يقظان لابن طفيل في روبنسون كروزو لدانييل دبفو
    أثر الرواية الغربية الحديثة في الرواية العربية أثر "الصخب والعنف" لوليم فوكنر في "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني
    رواية "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني
    نموذج القاتل المثالي بين عطيل شكسبير
    المؤثرات الفكرية الغربية في القرن العشرين في الأدب العربي أثر الوجودية في قصص زكريا تامر
    دراسة الصورة الأدبية (الصورولوجيا) صورة الفرس في بخلاء الجاحظ
    صورة الفرس في كتاب "البخلاء" للجاحظ

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

    المقدمــــة :
    يتيح لنا الأدب معرفة الإنسان في الإنسان، كما يقول دوستويفسكي، وعبر هذه المعرفة يبرز لنا الجوهر المشترك للإنسان، عندئذ ننطلق إلى عالم الأخوة التي تجمع الأنا بالآخر.‏
    ولو تأملنا هذا الجوهر لوجدناه لا يتبلور إلا بالتفاعل مع الآخر، من هنا تبرز أهمية الدراسات الأدبية المقارنة التي تقدم علاقاتنا مع الآخر وحوارنا معه، وبذلك باتت تشكل اليوم إحدى صور العلاقات بين الأمم التي تسهم في حوار الحضارات، ولاشك أن مثل هذا الحوار يعترف بالآخر شريكنا في بناء الحضارة، لا الآخر المستعمر الذي يبغي إلغاء هويتنا وتدميرنا!‏
    إن هذا القول يعني أولا نبذ التعصب، وعقد ة التفوق، ويعني الانفتاح على إنجازات الآخرين، فالإبداع ليس حكرا على أمة بعينها، وإنما ملك الإنسانية جمعاء، لذلك من البديهي أن يكون الإبداع وليد الانفتاح على حضارات أخرى، وعدم العزلة، لأن العزلة تعني إغراقا في الذات وابتعادا عن معطيات العصر، وبالتالي تخلفا أو في أحسن الأحوال دورانا حول الأنا القومية، والمبالغة في إنجازاتها وغض الطرف عن سيئاتها وما تعانيه من أمراض الجهل والتخلف، فأي تطور لا بد له من الاطلاع على إنجازات الآخر الذي سبقنا في مجال العلم كما سبقنا في مجالات الأدب والدراسات النقدية، فالتعلم ممن سبقنا مرحلة لا بد منها في البداية، والتعلم شئ والتقليد شئ آخر، لأن التعلم خطوة أولى نخطوها نحو التطور والحياة، لكن التقليد خطوة نهائية نخطوها نحو الموت، عندئذ نبرز عجز الأمة عن تجاوز الآخر، فأي إبداع أصيل قد يحوي تأثرا بالآخر لكنه يحتوي في الوقت نفسه خصوصيته، أي بصمته الخاصة.‏
    إن التأثر بالآخر أمر لا مفر منه اليوم، شئنا أم أبينا، ففي عصر الاتصالات الحديثة والمذهلة في سرعتها، يغزونا الآخر في عقر بيوتنا، بغية مسخ شخصيتنا، كي نكون تابعين له لا مبدعين مثله، المهم أن نعي أهمية أن نكون أنفسنا وضرورة الثقة بها، ولن تتحقق هذه الثقة إلا بالتمسك بكل مقوماتنا الشخصية التي صنعت لنا حضارة خاصة، وجعلتنا نمتلك صوتا متميزا في هذا الكون، هو صوت الإبداع .‏
    إننا اليوم أحوج ما نكون إلى الإبداع في المجالات كافة، وهذا لن يكون إلا بالاستفادة من إنجازات الأجداد الذين سبقونا والمعاصرين الذين نعايشهم ليتم تجاوزها إلى أفق رحبة تفسح المجال للمشاركة في التطور الإنساني، فنكون أبناء عصرنا فاعلين في حضارته، عندئذ لن يستطيع أي غزو أو مؤثر خارجي إلغاء شخصيتنا أو طمس هويتنا.‏
    من هنا تبرز أهمية الدراسات المقارنة، إذ تتيح لنا معرفة ذواتنا والثقة بأنفسنا، إذ نستطيع أن نستجلي عبرها الدور الذي قامت به حضارتنا الإسلامية في بناء الحضارة الإنسانية، فنكتشف أننا لم نكن عالة على الآخر، بل على النقيض كان هذا الآخر عالة علينا، لذلك نستطيع اليوم أن نرى أنفسنا بموضوعية عبر مرآة الدراسات الأدبية المقارنة، فنرى مدى ما أصاب هذه الصورة من تشوه أو جمال.‏
    تبرز خطورة الأدب في كونه يؤثر في وجدان المتلقي عبر لغته الجميلة، كما يؤثر في عقله عبر أفكاره ومثل هذا التأثر لن يكون تأثرا بسيطا، ينسى بعد لحظات، إنه تأثر يحفر عميقا ليؤثر في بناء الشخصية من الداخل، وينعكس على سلوكها ومجمل القيم التي تتبناها في حياتها.‏
    ولعل اقتران مصطلح المقارنة بالأدب يسعف الباحث بأدوات عقلية نقدية، تبرز الجميل والمفيد، كما تبرز المسيء لأذواقنا والمشوّه لبناء شخصيتنا، كما أن استخدام المقارنة يفيد في تلمس مواطن الإبداع في الأدب نجدها تفيد في تلمس مواطن التقليد فيه! أي تفيد في معرفة كيفية تلقي المؤثرات الأجنبية ومدى اعتمادنا على الآخر وتقليده (حين نبحث في الصفات المشتركة بيننا وبينه) ومدى اعتمادنا على ذواتنا وتأسيس أدبنا على الابتكار! (حين نبحث عن الصفات الذاتية التي كونت أدبنا) فيكون تأثرنا بالآخر تأثرا إبداعيا، يستفيد من إنجازاته، ويستطيع تجاوزها بفضل الإبداع.‏
    سيتناول هذا البحث نماذج تطبيقية في الدراسات المقارنة، تحاول أن تتوقف عند نماذج متعددة للتأثر بالآخر (التأثر بالأسطورة كأسطورة بغماليون في الأدب العالمي (مسرحية برناردشو) وفي الأدب العربي (توفيق الحكيم، جورج سالم)، والتأثر بالرواية الحديثة كرواية فوكنر " الصخب والعنف" (غسان كنفاني) والتأثر بالفكر الوجودي (زكريا تامر) الذي تأثر برواية كامو "الغريب")‏
    ومن جانب آخر سيتناول هذا البحث نموذجا لتأثير أدبنا القديم بالآخر الغربي (ابن طفيل "حي بن يقظان" في "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو) كما ستتناول (الصورولوجيا: imagologie) أي صورة الآخر في أدبنا القديم (صورة الفرس في بخلاء الجاحظ) كذلك سنتوقف عند أحد النماذج الأدبية المدهشة التي قدّمها الأدب الغربي (نموذج القاتل الشريف في مسرحية شكسبير "عطيل" ورواية دوستفسكي "الجريمة والعقاب")‏
    سنتبع في هذا الدراسة التطبيقية كلا من المدرستين الفرنسية والأميركية، مما يتيح لنا مرونة منهجية في البحث، فندرس النصوص وفق عوامل التأثر التاريخية والشخصية فنتبع خطى المدرسة الفرنسية تارة، وتارة أخرى لا نتقيد بهذه العوامل فننطلق باحثين عن جماليات الأدب دون الإمعان في مظاهر التأثر التاريخية والعوامل الشخصية فنتبع خطى المدرسة الأميركية في الدراسات المقارنة.‏
    إن هذه الدراسة لا يمكن لها أن تدعي الكمال، فهي محاولة متواضعة في الدراسات المقارنة، تحاول أن تمهد هذا الطريق الشائك أمام دراسات أكثر عمقا.‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

      تأثير أسطورة بغماليون في الأدب العالمي والعربي
      سنحاول في البداية تقديم تعريف للأسطورة، يمهد الطريق أمام دراستنا المقارنة، ويبرز أبعاد استخدامها في الأدب، وما تضفيه من جمالية خاصة عليه.‏
      إن أكثر الحضارات تملك قصص نشأة أو أساطير خلق، فهي "تروي تاريخا مقدسا، تروي حدثا جرى في الزمن البدئي، الزمن الخيالي، هو زمن البدايات، بعبارة أخرى، تحكي لنا الأسطورة كيف جاءت حقيقة ما إلى الوجود، بفضل مآثر اجترحتها الكائنات العليا، لا فرق أن تكون هذه الحقيقة كلية كالكون مثلا، أو جزئية كأن تكون جزيرة أو نوعا من النبات أو مسلكا يسلكه الإنسان أو مؤسسة.‏
      إذن هي دائما سرد لحكاية "خلق" تحكي لنا كيف كان إنتاج شئ، كيف بدأ وجوده..."(1)‏
      هناك أنواع متعددة للأساطير منها:‏
      1_ الأسطورة العليا: أسطورة الطوفان والخلق الأول، وهي تعبر عن نظام للعالم تصوره الإنسان نتيجة لموقف اتخذه يختلف عن موقفنا اليوم.‏
      2_ الجولة البطولية مثل سيرة هرقل الأوديسة وهي أقل عمقا من الأسطورة السابقة لأنها ترتكز على إبراز شعب ما أو مكان ما أو شخص ما .‏
      3_ الخبر الأسطوري الذي يروي حوادث تشبه الحوادث التاريخية، وكانت تعد عند أصحابها الأولين تاريخا (مثل اختطاف باريس الطروادي لهيلين) هنا تبدو الحوادث مقصودة لذاتها.‏
      4_ الحكاية التشخيصية التي تفسر قصة أسطورية(كأسطورة بغماليون)، أو تضحية أو تسمية لمكان أو ظواهر الطبيعة، أو بعض المكتشفات الأولى مثل تفسير انتشار زراعة القمح على يد ديمترا...‏
      5_ الطرفة أو الأقصوصة التي تثير الحماسة أو الضحك ولا تحتوي على أي مدلول أخلاقي أو كوني.‏
      كذلك هناك شخصيات تاريخية وجدت فعلا، لكن المخيال الشعبي حولها عبر الزمن إلى أسطورة (عنترة، كليوباترة، جان دارك، شارلمان...) فهي شخصيات باتت أسطورية حين استمدها الأدباء من التاريخ القديم، فأعملوا فيها خيالهم تغييرا وتحويرا، كما أن هناك شخصيات تاريخية حديثة باتت أقرب إلى الأسطورة (نابليون، غاريبالدي، بسمارك...)‏
      ومهما يكن التفاوت بين الأصناف من حيث الدلالة فإن أكثرها قد اكتسب على مر التاريخ دلالات حية وغنية ومتطورة حسب القيم التي يريد الأدباء أو المفكرون أن يعبروا عنها بوساطة الأسطورة، ومما ساعد على حيوية الأسطورة واستمراريتها عدم إحاطتها بالقداسة، فهي تهتم بنشأة المعنى وقد التصق بالحلم ، من هنا ترتبط الأسطورة ارتباطا وثيقا بالتراث، بوصفه ذاكرة وتأويلا للماضي من جهة، وترتبط بالمستقبل بوصفها حلما (يوتوبيا) يعنى بالمستحيل والممكن معا من جهة أخرى، وكما يقول بول ريكور: إن من "دون نظرة الأسطورة التراجعية تحرم الثقافة من ذاكرتها، ومن دون نظرتها التطلعية تحرم من أحلامها، وقد تؤدي الأسطورة، في أفضل أحوالها، وظيفة تفاعل إبداعي بين دعاوى التراث واليوتوبيا..."(2)‏
      وعلى هذا الأساس لن تكون الأسطورة حنينا لزمن مضى، وعوالم منسية، بل إنها تشكل على حد تعبير ريكور "كشفا لعوالم غير مسبوقة، وانفتاحا على عوالم أخرى تسمو على حدود عالمنا الفعلي والمستقر" مما يؤدي إلى إحياء اللغة وتجديدها، فتبدو في نسق رمزي يؤسسه الخيال والحلم.‏
      لذلك لن تنتهي فعالية الفكر الأسطوري في عصر العلم الذي نعيشه، وقد يبيّن لنا علي حرب أن الأسطورة "بعد من أبعاد الوعي الإنساني "ذلك أن الإنسان ينـزع إلى تفسير الطبيعي بما وراء الطبيعة، ويخلع على الثقافي طابعا أزليا، ويخفي الطابع الأناسي لابتكاراته ولغاته...وهو يبحث دوما عن نظام خلف الفوضى، ويتصور برنامجا لكل نمو وتطور ويكتشف مقاصد وراء الأحداث، ويقرأ معنى فيما لا معنى له، فالأسطورة هي ولّادة المعاني، ومحرك الجموع وقابلة التاريخ، ولا زوال لها إلا بزوال المعنى إنها تفعل في مملكة الإنسان، والعلم يفعل في مملكة الأشياء"(3)‏
      يمكن للأسطورة أن تؤدي وظيفتين إيجابيتين يفضي الإخلال بهما إلى وظيفتين سلبيتين، فهي لكونها أيديولوجيا يمكن أن يحولها الإفراط في هذا الجانب إلى وظيفة تبريرية سلبية تدافع عن كل ما هو كائن، بدلا من ممارسة نقده، أما الإفراط في اليوتوييا فيحولها إلى وعي زائف يموه به المجتمع على نفسه، بدلا من اكتشاف ما يعوّق كينونته وتطوره!!‏
      لو تأملنا البطل الأسطوري للاحظنا أنه كائن متفوق، ينتمي لعالم غير عادي، إنه أشبه بـ(إله) وتكشف لنا الأساطير عن الفعالية المبدعة لهذه الكائنات، وتميط اللثام عن قدسية أعمالهم (أو عن مجرد كونها أعمالا خارقة) عرفانا بفضلها في أزمنة البدايات، باختصار إنها تصف (كما يقول مرسيا إلياد)" أوجه تفجر القدسي في العالم"‏
      تعد الأسطورة خارج الأصناف الأدبية الطبيعية عادة، إنها رافد مهم للأدب، لمسنا فاعليتها منذ الأدب اليوناني، فقد اعتمد عليها أدباء المآسي (أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس) والملاحم فـ(هوميروس) مثلا استطاع أن يتناولها بحرية، مما مهد الطريق أمام الآخرين الذين أتوا بعده واستطاعوا أن يقدّموها من خلال قناعاتهم وأهدافهم، لأنها لم تحط بها هالة من القداسة، وقد امتد هذا التناول الحر للأسطورة في الأدب الروماني.‏
      إننا نستطيع القول بأن الأسطورة قد شكلت فضاء الأدب الحديث بأجناسه المختلفة (شعر، قصة، مسرح) بل امتد أثرها إلى العلم (كعلم النفس) وكذلك نجد كثيرا من النقاد المحدثين يرون أن من جماليات الرواية الحديثة أن تبنى بناء أسطوريا.‏
      أسطورة بغماليون:‏
      كان بغماليون ملكا على قبرص، ونحاتا بارعا، قضى معظم حياته عزبا إلى أن صنع تمثالا عاجيا لامرأة جميلة، فأسقط حبه للمرأة على هذا التمثال، لذلك دعا الآلهة أفروديت (آلهة الجمال والخصب عند اليونان) أن تحييه، فاستجابت لدعائه، فكانت (غالاتيا) التي تزوجها وولدت له (بافوس) مؤسس مدينة قبرصية دعيت باسمه(4)‏
      تقدم هذه الأسطورة أعماق كل فنان، إنه يحس بروعة ما أبدعه، كما يحس بأن فنه هو ذاته لذا يرغب في التوحد معه، نظرا لفرادته وروعته، لذلك يستحق أن ينبض بالحياة وينال الإعجاب والخلود.‏
      إن أول من تحدث عن أسطورة بغماليون هو أوفيد الروماني في قصصه "المسخ" ثم تناولها شعراء وكتاب من مختلف الآداب، وخاصة من الإنكليز كالشاعر جون مارستون في قصيدته "نفخ الروح في صورة بيغماليون" (5)‏
      وقد كانت هذه الأسطورة موضوعا أثيرا في عصر النهضة، ثم في العصر الحديث (مسرحية برناردشو التي تحمل عنوان الأسطورة نفسها "بغماليون ومسرحية توفيق الحكيم التي حملت أيضا الاسم ذاته للأسطورة أيضا) سنتوقف في هذه الدراسة عند هذين الكاتبين، وسنبدأ بمن سبق في التأثر بهذه الأسطورة (برناردشو) الذي أثّر بتوفيق الحكيم، كما أثّرت الأسطورة تماما.(6)‏
      مسرحية بغماليون لبرناردشو:‏
      ظهرت مسرحية (بغماليون) لبرناردشو عام (1912) وقد كان بطلها (هيجنر) عالما متخصصا في دراسة الأصوات، يعجب أثناء توقفه في المحطة بلهجة بائعة الزهور(أليزا) إذ إنها بلهجتها غير المدنية تتيح له الفرصة لدراسة الأصوات، ومعرفة مدى قدرته على تحويل اللهجة الريفية إلى لهجة مدنية، فيعرض عليها فكرة تحويلها إلى سيدة من المجتمع الراقي، تعجبها الفكرة فتوافق، وحين يلقنها دروسا في قواعد اللغة والإلقاء والحديث، تستوعبها بذكاء، وبما أن تعليم الأصوات يتطلب تعليم النحو، ولابد من أجل تعلم النحو على طريقة سليمة من تهذيب الفكر والإحساس، أي يستلزم تعلم اللياقة الاجتماعية، وبمثل هذا التعلم استطاعت الفتاة الظهور في المجتمع بوصفها (دوقة) وهكذا استطاع (هيجنر) أن يصنع من الفتاة الفقيرة المعدمة أميرة أرستقراطية، كما استطاع (بغماليون) أن يصنع امرأة من تمثال.‏
      لكن عند (برناردشو) برزت معاناة الفتاة التي انتقلت بفضل العالم (هيجنر) من طبقة فقيرة إلى طبقة غنية، فعاشت صراعا بين القيم التي نشأت عليها، وبين قيم حياة جديدة، لا ترأف بالإنسان، بل تنظر إليه بصفته أداة لتحقيق المآرب، فقد وقعت في حب أستاذها (هيجنر) في حين لم ينظر إليها إلا نظرة العالم لموضوع دراسته، فهي تنتمي إلى طبقة غير طبقته، لذلك لن يستطيع الزواج منها، ينتهي الصراع النفسي في أعماق الفتاة بأن ترفض البقاء في تلك الطبقة المزيفة، وتفضل الزواج من سائق أجرة، فقد باتت تحتقر تقاليد الطبقة الارستقراطية التي تقوم على الزيف والتفاهة، وتتزوج رجلا من طبقتها.‏
      إذا تلتقي هذه المسرحية بالأسطورة في هاجس تحويل المرأة، التي يراها (هيجنر) أشبه بتمثال، من حال إلى حال، عبر قدراته الإبداعية في العلم، التي أتاحت له استخدام علم الأصوات في تحويل المرأة، كما أتاح الفن في الأسطورة تحويل المرمر إلى امرأة جميلة.‏
      ومما ساعد على تلمس هذا اللقاء، أن الكاتب وضع عنوانا لمسرحيته يشير إلى الأسطورة التي استفاد منها في فكرة التحويل فقط.‏
      أما أجواء المسرحية فقد بدت لنا أجواء واقعية، تنطق بهموم الإنسان المعاصر وأزماته في عصر العلم، بعيدا عن أجواء الأسطورة وتفاصيلها، فالفنان بغماليون أصبح عالم صوتيات (هنري هيجنر) أما التمثال (غالاتيا) فيصبح امرأة فقيرة تبيع الزهور (أليزا) فالإبداع هنا في تحويل الفتاة الريفية إلى امرأة أرستقراطية بتدريبها على لغة غير لغتها وعادات غير مألوفة لديها.‏
      لو تأملنا تعامل الفنان (بغماليون) مع التمثال الذي أبدعه للاحظنا شغفه به إلى درجة التوحد معه، والطلب من الآلهة تحويله إلى كائن بشري يتزوجه، في حين لاحظنا (هيجنر) يتعامل مع (أليزا) بجفاء وآلية، إلى درجة يلغي إنسانيتها وأحاسيسها، رغم أنها أحبته، وأظهرت ذكاء شديدا من إنجاح التجربة، لعلها تفوز بإعجابه فيقدم على الزواج بها، لكن (هيجنر) يرفض هذا الزواج، على نقيض الأسطورة، لأنها مازالت في ذهنه صنيعة له، لا يمكن أن تصل إلى مستوى طبقته، فهي ابنة الوحل، مهما أبدت من إمكانات عظيمة، وبذلك يدين الكاتب وممارسات الطبقة الارستقراطية وأفكارها سواء بتصوير تناقضاتها، حين تقول شيئا وتفعل شيئا آخر (يعلم هيجنر أليزا القواعد والأصول الاجتماعية كأن تتحدث بصوت منخفض لكنه لا يلزم نفسه بها) أم بتعريتها من المشاعر الإنسانية، إذ تبدو مغرقة في أنانيتها، فلا تهتم إلا بذاتها وما حققته من انتصارات في تجاربها العلمية، وبذلك يقف من أليزا موقف العالم الذي يتجرد من عواطفه، ويرى في العقل المجال الوحيد لحياته، كما يقف منها موقف الإنسان الطبقي الذي يرفض رؤية أبناء طبقات الفقيرة أندادا له.‏
      لعل (برناردشو) يرى أن إعجاب الفنان بفنه إلى درجة التوحد، والرغبة في التواصل الأبدي معه يعبر عن موقف رومنسي (كما حصل في الأسطورة) فهو يريد من الأديب أن ينأى بعواطفه الخاصة عن شخصياته، فيتيح لها فرصة التعبير عن ذاتها بحرية، وهذا ضروري في اعتقادنا، في الفن المسرحي والقصصي، لكن ذلك يبدو صعبا في الشعر الغنائي، إذ لا يمكن أن يفصل الشاعر بين فنه وذاته.‏
      إن الطبقة الاجتماعية لدى (برناردشو) الاشتراكي ليست لغة وعادات (أتقنتها أليزا) وإنما هي مجموعة أفكار راسخة تجعل من الصعب ردم الهوة بين الطبقة الدنيا والطبقة العليا، ومثل هذا الردم لن يكون بجهود فردية، إنه بحاجة إلى جهود جماعية ومؤسسات ثورية، لذلك رأى الكاتب الاشتراكي لقاء هاتين الطبقتين بشكل حقيقي وجوهري لقاء مستحيلا، فكان اللقاء بينهما لقاء شكليا مزيفا، ولم يتحول إلى زواج، الذي، ربما، يعني توحدا بين الطبقات ومساواة في الإنسانية.‏
      لعل من أبرز سمات الكاتب المسرحي (برناردشو) استخدامه أسلوب السخرية في التعبير عن احتقاره للطبقة الارستقراطية، فأبرز بشاعتها، حين ألغت المشاعر من حياتها، وحين استخدمت لغة غير لائقة في حين كانت تعلم اللياقة والذوق للآخرين، وقد أبرز الكاتب هذه التناقضات عن طريق الحوار الساخر، الذي ينبض بالمواقف المتناقضة واللغة المبتذلة (مثلا يقول هيجنر لمديرة منـزله مسز بيرس: خذيها ونظفيها بصابون الزفر إذا لم تنفع طريقة أخرى . هل النار موقدة في المطبخ..اخلعي عنها كل ملابسها واحرقيها...فتجيبه مديرة منـزله "صحيح يا سيدي! إذن اسمح لي أن أطلب منك ألا تنـزل لتناول إفطارك لابسا الروب أو على الأقل لا تستعمل أكمامه بدل الفوطة كالعادة"(7) بل نجد لدى هذه الطبقة تصرفات غير لائقة ينتفي فيها العقل لصالح التقليد (نجد مثلا ابنة العائلة الارستقراطية "أينزفوردهل" تقلد لغة أليزا السوقية وفي ظنها أن الفتاة تنطق لغة الطبقة الراقية التي مازالت تجهلها) وهو بهذه السخرية يحاول أن يهزّ أركان المثل الأعلى للمجتمع الراقي، رغبة منه في بناء حياة أصيلة تبدو قيمة الإنسان فيها بعمله، لا بما يملك من دماء زرقاء وأموال.‏
      تتجلى براعة (شو) في كونه يمنح أبطاله حرية التعبير عما يجول في أعماقهم من أفكار ومشاعر، فيحاول أن يكون حياديا كي يتيح الفرصة لمن يخالفه الرأي (هيجنر) كما يتيحها لمن يوافقه الرأي، وإن بدا لنا متعاطفا مع الشخصية الفقيرة (أليزا) ساخرا من الشخصية الغنية ومثل هذا الموقف لا يمكننا أن نلومه عليه، لأنه جزء من تكوينه الفكري والنفسي.‏
      مسرحية "بغماليون" لتوفيق الحكيم:‏
      يعترف توفيق الحكيم في مقدمة المسرحية بأن أول من كشف له عن روعة أسطورة بغماليون ليس عملا مسرحيا، وإنما عملا تشكيليا هو لوحة زيتية تدعى "بغماليون وغالاتيا" بريشة الفنان "جان راوكس" المعروضة في متحف اللوفر ...وبعد فترة من الزمن كاد ينسى الأسطورة، لكن رؤيته لعرض فيلم عنها من تأليف برناردشو ذكّرته بها لذلك وجدناه يقول "عندئذ تيقظت في نفسي الرغبة القديمة ، فعزمت على كتابة هذه الرواية ...وقد فعلت وأنا أعلم أن هذه الأسطورة قد استخدمت في كل فروع الفن على التقريب ...ولابد أنها أفرغت في مسرحيات عدة فيما أعتقد ...إني أعالج إذن أسطورة مطروقة في الآداب والفنون العالمية...ومع ذلك من يدري؟ ربما لحظ بعض النقاد أن "أهل الكهف" المقتبسة من القرآن الكريم، وشهرزاد المستلهمة من "ألف ليلة وليلة" و"بغماليون" المنتزعة من أساطير اليونان...ليست كلها غير ملامح مختلفة في وجه واحد؟"(8)‏
      يلاحظ أن توفيق الحكيم لم يعترف بتأثره بمسرحية برناردشو وإنما بالفيلم الذي اقتبس منها وبالأسطورة اليونانية، مع أنه من المرجح عودته للمسرحية الجنس الأدبي الذي نسج على منواله والذي يشكل مجال إبداعه، كما يلاحظ أن هذه المقدمة تفصح عن ارتباك المصطلح المسرحي لدرجة يطلق على المسرحية مصطلح "الرواية" ومثل هذا الارتباك قد يعني أن هذا الفن مازال في بداياته لم ترسخ أسسه في أذهان المؤلفين قبل المتلقين، وأن التأثر بالآخر أمر مفروغ منه سواء اعترف المؤلف أم لم يعترف، لكن الملاحظ أن الحكيم يعلن تأثره بالأسطورة اليونانية كما يعلن تأثره بالتراث الإسلامي دون أي حرج وإن كان يلمح إلى أن هذا التأثر لن يفلح في إلغاء أصالته الإبداعية ووجهه الحقيقي سنرى مدى صدق هذا القول من خلال دراسة تفصيلية للمسرحية تبرز علاقة هذه المسرحية بأسطورة بغماليون وعلاقتها بمسرحية برناردشو.‏
      يحسن بنا في البداية أن نطلع على أهم المعالم الرئيسية في مسرحية الحكيم، فقد تحول التمثال الحجري الذي أبدعه بغماليون، بناء على دعائه وابتهالاته للآلهة "فينوس" (آلهة الحب والخصب عند الرومان) إلى امرأة تدعى (غالاتيا) فقد عشق الفنان تمثاله إلى درجة يتمنى معها لو تنبض الحياة فيه، كي يتمكن من الارتباط الأبدي به عن طريق الزواج، وبذلك يعيش بغماليون سعادة تحقق الأحلام، لكن دوام الحال من المحال فقد سئمت غالاتيا حياتها الرتيبة وباتت تنطلق مع (نرسيس) عبر الحقول في لهو بريء، لكن بغماليون يظن أنها غدرت به، فيغضب هنا تتدخل الآلهة وتصلح بينهما بعد أن تؤكد براءتها، يكتشف بعد مرور فترة من الزمن أن زوجته (غالاتيا) تعيش حياة عادية وتنأى عن المثال الرائع للجمال التي كانت عليه حين نحتها (تحمل المكنسة وتمسح الغبار في البيت) تأكد أن تمثاله فارق عالم الجمال والمثل الأعلى للخلود، فقد أصبح معرضا لقوانين الحياة والزمن الذي يحكم بتحول الإنسان مع مروره من حال إلى حال: من الشباب إلى الهرم ومن الحياة إلى الموت!!عندئذ يدرك روعة الفن بالقياس إلى روعة الحياة ،إذ يخلد الفن ولا يفنى كما يفنى البشر، لذلك نجد بغماليون يبتهل للآلهة فينوس أن تعيد إليه فنه الخالد، فهاهو ذا يقول متحديا "دعيني أقل لهم ما أريد دعيني أصارح هؤلاء الآلهة بالحقيقة، لقد صنعت أنا الجمال فأهانوه هم بهذا الحمق الذي نفخوه فيه" (9) وقد وجدنا الآلهة تستجيب لتحديه وتستلّ الحياة من تمثاله ليعود إلى جموده، عندئذ يفتقد بغماليون روعة الحياة ويتمنى لو تعود زوجته إليه، لكن الآلهة ترفض الاستجابة إليه، فهي لم تنسَ تحديه لها في عجزها عن خلق فن خالد كخلق الفنان، لهذا يعاني صراعا حادا ينتهي به إلى أن يحطم رأس تمثاله ويموت حسرة عليه.‏
      تجسد لنا هذه المسرحية طموح الإنسان للمثل الأعلى في كل ما يشمل الحياة والفن، كما تجسد غرور الفنان وأنانيته، كذلك نلمس فيها عشق الفنان لإبداعه ورغبته في بث الكمال فيه بأن ينبض بالحياة، إنه يرى في إبداعه ذاته لذلك يرغب في التوحد معه.‏
      بدت لنا هذه المسرحية وفية لأجواء الأسطورة اليونانية، متأثرة بتفاصيلها الكثيرة، وقد لحظنا نقاط اللقاء بالأسطورة أكثر من نقاط الاختلاف، فنحن أمام شخصية ذات ملامح واحدة تقريبا (بغماليون) الفنان، يعشق فنه إلى درجة الرغبة في التوحد به وبث الحياة فيه، وستحقق هذه الرغبة الآلهة في كل من المسرحية والأسطورة، فكان الزواج من التمثال (غالاتيا) الذي بثت فيه الحياة، نلاحظ وفاءً للأسطورة يشمل حتى أسماء الشخصيتين الرئيستين.‏
      عشنا في هذه المسرحية جوا أسطوريا، إذ وجدنا شخصيات رئيسية خارقة (الآلهة فينوس آلهة الحب والخصب، وأبولون راعي الفن) فوجدناها تقوم بمعجزات مدهشة، يلاحظ أن توفيق الحكيم قدّم في مسرحيته شخصيات ثانوية أسطورية، مستمدة من الأسطورة اليونانية (نرسيس، إيسمين) كما استعان بتفاصيل من سمات المسرح اليوناني (الجوقة)‏
      لو تأملنا نقاط الاختلاف بين الأسطورة والمسرحية للاحظنا دور التخييل الفني في إسباغ الحياة على الأسطورة، فالكاتب يطلق خياله ليتابع سيرة بغماليون بعد زواجه، فلا يكتفي بما تقوله الأسطورة (بأن السعادة رفرفت على حياة بغماليون وغالاتيا بعد أن أنجبا طفلا يدعى بافوس) بل يتابع، عبر خياله تفاصيل للحياة اليومية التي من شأنها أن توتر العلاقة بين الرجل والمرأة، لذلك رأينا بغماليون،هنا، رجلا عاديا لا ملكا، كما رأينا غالاتيا امرأة عادية(تهرب مع نرسيس للتنـزه وتقوم بأعمال منـزلية) لذلك لا نستطيع أن نقول إنه كان وفيا بشكل كامل للأسطورة، فقد وجدناه يغير في بعض الأسماء الأسطورية، فتتحول إفروديت اليونانية التي وجدناها في الأسطورة إلى فينوس الرومانية، كذلك لم يتقيد بالشخصيات التي وجدناها في الأسطورة وإنما وجدناه يضيف شخصيات أخرى مثل (نرسيس، وإيمسين)‏
      لذلك يمكننا القول بأن توفيق الحكيم يسقط في هذه المسرحية صراعه الداخلي بين الرغبة ببقاء الفن بمعزل عن الحياة وبين ربطه بالحياة، إنه صراع يشمل الكثير من المبدعين الذين يرغبون في تقديم فن خالد وجميل، يحمل هم الإنسان ولا يكون نقيضا لما هو أبدي يهب الفن خلوده، ولعل هذا الصراع كان على أشده منذ الأربعينات (الفترة التي ظهرت فيها هذه المسرحية) لذلك نجد الحكيم يعقد مقارنة بين الفنان والآلهة فينوس، أبولون ليعلن أن الفنان يبدع الكمال، في حين تبدع الآلهة بشرا ناقصا يصيبه المرض والشيخوخة والموت، فيبدو كأنه متحمس إلى قضية "الفن للفن" لا يرغب في ربط الفن بالحياة، لكن هذه المعالجة الرومنسية المثالية لهذه القضية لا تصل بنا إلى شاطئ الأمان، إذ نلمح ترددا لدى توفيق الحكيم، لذلك وجدنا بغماليون في خاتمة المسرحية يدعو الآلهة مرة ثانية لتهب تمثاله الحياة، وحين لم تستجب يحطم هذا التمثال لبيّن استحالة الفن بمعزل عن الحياة، وقد لاحظ د. محمد يوسف نجم أن الصراع بين الفن والحياة من القضايا التي أرّقت الحكيم، إذ عالجها في العديد من مسرحياته وقصصه ومقالاته في "راقصة المعبد"و"عهد الشيطان" و "راديوم السعادة" و "الرباط المقدس" و "إيزيس"(10)‏
      تجسد "بغماليون" أعماق توفيق الحكيم أيضا وما يعتلج فيها من صراع يتجلى في علاقته بالمرأة! هل الارتباط بها يشكل خطرا على الفنان ونقيضا للفن، إذ يحس المتلقي بأن المؤلف يرى المرأة كائنا تافها، همها في الحياة محدود بما هو مادي (المال، القوة، الجمال) لذلك وضعها في إطار الشك والخيانة، وجعلها مصدر شقاء للفنان بغماليون.‏
      بغماليون بين توفيق الحكيم وبرناردشو:‏
      ثمة لقاء واضح بين مسرحية بغماليون لبرناردشو وبغماليون لتوفيق الحكيم في فكرة التحوّل من تمثال إلى امرأة، ومن امرأة فقيرة إلى امرأة ارستقراطية، وهذه الفكرة نستطيع أن نردّها إلى الأسطورة اليونانية، وبذلك يشتركان في المتح من منبع واحد، لكن من الطبيعي أن يؤثر السابق باللاحق، خاصة أن كلا الكاتبين كتبا في جنس أدبي واحد هو الفن المسرحي، ولا شك أن توفيق الحكيم قد استفاد من البناء المسرحي لدى برناردشو، لكن كما يقول الحكيم نفسه "يبدأ الفن دائما من النقل وينتهي إلى الأصالة، يبدأ من المحاكاة وينتهي إلى الابتكار" لذلك سنجده يقدم مسرحية تختلف عن مسرحية شو كل الاختلاف، فقد لاحظنا وفاءها لجو الأسطورة (آلهة، شخصيات خارقة، معجزات...)‏
      كذلك وجدنا الفنان في مسرحية الحكيم مندمجا، رغم تردده، بفنه إلى درجة العشق والرغبة بالتوحد به والزواج، وقد رأى د عز الدين المناصرة "أن بغماليون أكثر واقعية من هيجنر، رغم الواقعية الشكلية التي تطغى على مسرحية شو ورغم الرومنسية المفرطة في مسرحية الحكيم دون أن تفقدها طابعها..." (11)‏
      أعتقد أن د. المناصرة لم ينتبه إلى أن برناردشو قدّم لنا بطلا عالما في مسرحيته لا فنانا، وثمة فرق بين نظرة الفنان الذاتية التي تنعكس على علاقته بإبداعه حيث يراه عملا جميلا لا يضاهى، يمثل استمرارا لذاته، أما العالم فكثيرا ما ينظر إلى اختراعاته نظرة موضوعية، لأن ما يبدعه ينفصل عن ذاته، ينتمي إلى العالم الخارجي، لذلك لا نستطيع أن نقول إن مسرحية الحكيم أكثر واقعية من مسرحية برناردشو مادامت كل واحدة منهما تمثل عالما منفصلا عن الآخر، وإن كان ثمة لقاء في تفضيل بغماليون الفن الخالد عند الحكيم، في لحظة من اللحظات،على الإنسان الزائل، كما فضّل هيجنر العلم على الارتباط بالإنسان، وإن كنا هنا نستطيع أن نضيف ميزة خاصة ببرناردشو هي إضفاء البعد الاجتماعي على المسرحية، فرفض الزواج ليس بسبب تفضيل التفرغ للعلم وإنما بسبب انتماء أليزا الفقيرة إلى طبقة غير طبقته، لذلك نعتقد أن مسرحية برناردشو أكثر واقعية من مسرحية الحكيم التي بدت أكثر وفاء لجو الأسطورة، كما بدت شخصياته المسرحية أكثر تجريدية من شخصيات شو.‏
      هنا نلاحظ فارقا أساسيا بينهما يكمن في البعد الفكري الذي ينعكس على الإبداع، إذ نجد توفيق الحكيم يؤمن بقضية الفن للفن (رغم قلق هذا الإيمان) في حين لاحظنا برناردشو الاشتراكي يؤمن بقضية الفن للحياة، لذلك يحاول أن يقدم تجربة العلم (علم الأصوات) وقد جُعل في خدمة الإنسان،حيث تم نقل أليزا من طبقة فقيرة إلى طبقة غنية، لكنه في الوقت نفسه يبرز الخلل الذي يعتري التجارب العلمية حين نفصلها عن المشاعر الإنسانية، فتبتعد عن الغاية النبيلة لتسقط في الآلية والقسوة، وبذلك نلمس لدى برناردشو رغبة في امتزاج العلم بالفن، ليسخرا في خدمة الإنسان فيرتقيا بروحه وفكره.‏
      وبناء على ذلك نستطيع أن نقول: أفلح برناردشو في بناء مسرحيته وفق بعدين منسجمين الأول: بعد واقعي نجد فيه شخصيات حيوية تتحرك في أجواء واقعية، تبدو بعيدة عن الأسطورة، تغوص في تفاصيل الحياة اليومية، أما البعد الثاني: بعد رمزي أسطوري نلمس فيه علاقة المبدع بما يبدعه، أو بالأحرى علاقة العالم بما ينتجه، فبدت علاقة سلبية، اتسمت بالرفض وعدم الزواج بأليزا وهذا يتناقض بما رأيناه في الأسطورة وفي مسرحية الحكيم، من علاقة إيجابية بشكل كامل في الأسطورة، ومن علاقة متوترة بين الإيجابية والسلبية لدى الحكيم، لكن الملاحظ أن مسرحية الحكيم كانت ذات بعد واحد في بنائها، فقد اعتمدت البناء الأسطوري وظلت وفية له، لذلك يمكننا القول: إن مسرحية برناردشو أكثر عنى وتميزا في الاستفادة من أسطورة بغماليون، ولعل استخدام ومصطلح "البناء الأسطوري" من باب الاستخدام المجازي، إذ إن جملة العلاقات والصراعات لا تتحكم بها قوى خارقة، إنما يتحكم بها العلم الذي بات يصنع المعجزات في عصرنا.‏
      أثر أسطورة بغماليون في القصة:‏
      سنتناول في هذه الدراسة أثر أسطورة بغماليون في نموذج من القصة القصيرة السورية للكاتب جورج سالم في مجموعته "عزف منفرد على الكمان".‏
      بدا هذا الأثر واضحا في قصة "الينبوع" (12) التي تتحدث عن إنسان دخل متحفاً، فرأى تمثالا لامرأة جميلة، تحمل في يديها وعاء يفيض منه الخير والعطاء، ما إن يمر أمامه حتى يستوقفه بروعته، فيتأمل بهاءه، ويحس أن التمثال ينظر إليه ويبتسم له، يؤخذ بهذه الابتسامة فيجلس قبالة التمثال حالما بأنه يحاور المرأة، التي خصّته بابتسامتها، يمسك بيدها ويحس نبض عروقها، تدعوه للشرب من إنائها، يشرب فيغرق في أوهامه، فقد تحول التمثال إلى زوجة له، تحمل بين يديها طفلهما، لكن سرعان ما ينتبه لنفسه، مستيقظا من حلمه، فيخرج مسرعا!!‏
      يلتقي في هذه القصة الحلم بالأسطورة، ومن المعروف أن معظم أحلامنا كالأسطورة لا تراعي المنطق المنظم، كما لا تهتم بمقولة الزمان والمكان، وكما يقول إريك فروم بأن هناك تشابها ينتج عن قدرتنا الإبداعية في النوم كما في الأساطير التي هي أقدم مبتكرات الإنسانية، إذ ثمة حقيقة واقعة تؤكد بأن الكثير من أحلامنا شبيه بالأساطير، سواء من حيث الأسلوب أم من حيث المضمون كذلك يشتركان، حين ينتقلان من الشفاهية إلى الكتابة بكونهما يكتبان بلغة واحدة هي اللغة الرمزية(13)‏
      ثمة لقاء واضح مع أسطورة بغماليون، فقد تحول التمثال، عبر الحلم، إلى امرأة، يتزوجها الرجل المتفرج، وتنجب له طفلا، كما حدث في الأسطورة.‏
      وقد بدا لنا الشكل الفني مقنعا، حين جعل الكاتب حلم اليقظة إطارا فنيا لقصته، فرأينا بث الحياة في التمثال مقنعا، ساعده في ذلك لغة رمزية استطاعت أن تجسد الحلم في الواقع، وتبديه في حلة مقبولة.‏
      لو تأملنا نقاط الاختلاف بين القصة والأسطورة للاحظنا اختفاء تفاصيل الأسطورة، فقد أغنانا الحلم عن مساعدة الآلهة (إفروديت) وبالتالي فقد اختفت الأجواء الأسطورية التي لمحناها لدى الحكيم، بناء على ذلك يعود التمثال إلى جموده بانتهاء الحلم، فلا نجد تفاصيل حياتية، وإن كانت هذه القصة تقدم هما حياتيا، يؤرق الشباب، إنه هم الحب والاستقرار العائلي، وبذلك حقق هذا الحلم رغبات مكبوتة في أعماق الرجل، فوجد فيه نوعا من التعويض النفسي عن حرمانه، وبعض العزاء، فقد استطاع تفريغ المكبوت عبر حلم اليقظة.‏
      من ناحية أخرى نلاحظ في الأسطورة أن الفنان يتعلق بما أبدعه، لذلك يتمنى من الآلهة أن تبث فيه الحياة، في حين نجد البطل في هذه القصة يتعلق بما أبدعه الأجداد ويحلم في التواصل معه والتوحد به، إن البطل في القصة ليس فنانا وإنما إنسانا عاديا (لا يملك اسما) وبذلك يستطيع الكاتب أن يعمم رؤاه الفكرية في ضرورة التواصل مع إبداع الأجداد، لأنه يجسد المثل الأعلى، الذي يتوجب علينا الإعجاب به، ومن ثم تجاوزه عبر إبداع ينطق بهموم عصرنا ولا ينفصل عما خلفه الأجداد.‏
      n الحواشي:‏
      1_ مرسيا إلياد "مظاهر الأسطورة" ت نهاد خياطة، دار كنعان، دمشق، ط1، 1991، ص 17‏
      2_ مجموعة من الباحثين، "الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور"، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط 1،1999، ص 101‏
      3_ علي حرب ""لعبة المعنى، فصول في نقد الإنسان، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1991، ص 124.‏
      4_ معجم الأساطير اليونانية والرومانية"، إعداد سهيل عثمان، وعبد الرزاق الأصفر، وزارة الثقافة، دمشق، 1982.‏
      5_ د. مجمد غنيمي هلال "الأدب المقارن" دار نهضة مصر، القاهرة، دون تاريخ، ص 279‏
      6_ ترجمت مسرحية برناردشو "بيجماليون" عام 1967، وقد ترجمها جرجس الرشيدي، صدرت عن وزارة الثقافة في القاهرة.‏
      7_ المصدر السابق، ص 95.‏
      8_ توفيق الحكيم "بغماليون" مكتبة الآداب، القاهرة، دون تاريخ، المقدمة‏
      9_ المصدر السابق، ص 8.‏
      10_ د. محمد يوسف نجم "الطريق إلى الأصالة والابتكار، دراسة في التكوين الفكري لتوفيق الحكيم" دار صادر، بيروت، ط2، 1985، ص 62.‏
      11_ عز الدين المناصرة "مقدمة في نظرية المقارنة" دار الكرمل للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1988، ص 257.‏
      12_ جورج سالم "عزف منفرد على الكمان" وزارة الثقافة، دمشق ، 1976.‏
      13_ إريش فروم "الحكايات والأساطير والأحلام" دار الحوار، اللاذقية، ط1، 1990،ص 13.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

        نموذج من الأثر الإسلامي في الأدب الغربي أثر حي بن يقظان لابن طفيل في روبنسون كروزو لدانييل دبفو
        ازدهرت الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى، في زمن كانت فيه أوروبا تغرق في الظلام، وقد شكلت إسبانية التي دعاها المسلمون بـ(الأندلس) مركز إشعاع حضاري في تلك الفترة، إذ يلجأ إليها العلماء وطلاب المعرفة من سائر أوروبا، وكما تقول الدكتورة (لوثي لوبيث بارالت) من الظلم البين ألا نقبل القول بأن إسبانيا الإسلامية كانت تشكل بالفعل معجزة ثقافية حقيقية في إطار القارة الأوروبية في القرون الوسطى. وبفضل العرب المسلمين، لم تبلغ أية أمة أوروبية أخرى ما بلغته شبه الجزيرة الأيبيرية من تقدم العلوم والفنون في تلك العصور التي كانت وسيطة أو مظلمة بالنسبة لقارة أوروبا لكنها لم تكن على الإطلاق بالنسبة إلى الأندلس.(1)‏
        لذلك بإمكاننا أن نقول إن معظم المبدعين الذين أسسوا لتجاوز عصر الظلام في أوروبا كانوا على صلة ما بإسبانية، إما عن طريق السفر والعيش فيها مدة من الزمن، أو عن طريق الاطلاع على الكتب التي نشرت فيها مترجمة من العربية إلى اللاتينية، ثم انتشرت في سائر أوروبا، لكن من الملاحظ أن معظم الغربيين ينكرون هذه الحقيقة، فها هي ذي زيغريد هونكة تقول "تعودنا أن نقيس بمقياسين، سواء في العلم أو في الفن، فنحن الغربيين حين نقيّم الحضارة الغربية ننظر بعين الاعتبار إلى منهجها وليس إلى مصدرها، وحين نذكر الحضارة الغربية نقتصر على ما ينبع من الحضارتين الإغريقية والرومانية وتهمل ما عدا ذلك من المصادر الأخرى"(2)‏
        رغم الأثر الذي خلفته الحضارة العربية الإسلامية في إسبانيا والذي شمل جميع المجالات الأدبية والعلمية، فقد كانت إحدى أكبر مراكز الإشعاع في أوروبا.‏
        وخير دليل على هذا القول: أن الإنكليزي دانييل ديفو (1661_ 1731) الذي ألف روبنسون كروزو قد عاش في إسبانيا مدة عامين، فقد كان عصره عصر اضطرابات وثورات شارك في بعضها، فتعرض للمخاطر التي من بينها السجن، لذلك هرب إلى إسبانية .‏
        صحيح أن نشأته متواضعة، فقد كان ابنا لقصاب يعمل في لندن، حيث تعلم فيها ديفو، علوما متعددة شملت معارف عصره من الرياضيات والفلك والتاريخ، بل زاد عليها إتقانه خمس لغات.‏
        لم تظهر موهبته الفكرية والأدبية إلا بعد عودته منها، فقد أصدر صحيفة باسمه، كتب فيها اقتراحاته الاقتصادية المثمرة، التي أخذت بها بلاده .‏
        تعود شهرته الأدبية إلى قصيدة نظمها في الدفاع عن (وليم أورنج) ملك إنكلترا ردا على قصيدة نظمها أحد الشعراء في التهكم عليه، فأكسبته عطف الملك وحب الحكومة والشعب.‏
        ألف كثيرا من الأبحاث والمقالات والرسائل في الدين والسياسة والوطن، وقد أدرك بفطرته تعلق الجمهور بالقصص ، وشدة تأثره بها وتهافته عليها، خاصة إذا كانت صادقة الوصف والتحليل ، تهتم بتصوير الحياة بدقة، لذلك نالت قصصه نجاحا كبيرا، لأنها كانت تخلق سحرا خلابا يزينه الصدق والدقة، وقد نشر القسم الأول من قصته "روبنسون كروزو" عام 1719، فلاقت شهرة واسعة جدا، مما شجعه على تتمة القصة، وأكسبه من المال ما جعله يعيش بقية عمره مستريح البال ، إلى أن أنهكه مرض النقرس وعقوق ولده، فعجّل بموته عام (1731).‏
        أما ابن طفيل فقد ولد نحو 500 للهجرة (1106م ) في غرناطة بالأندلس، قرأ أقسام الحكمة على علماء غرناطة، كان واسع العلم في الفلك والرياضيات والطب والشعر، وقد عمل في مستهل حياته بالطب ثم تولى الوزارة في غرناطة، ثم اتصل ببلاط الموحدين في المغرب، ولم يلبث أن عين في عام(549هـ 1154 م)كاتما لسر الأمير أبي سعيد بن عبد المؤمن حاكم سبتة وطنجة، ثم عاد إلى ممارسة الطب، إذ أصبح الطبيب الخاص لأبي يعقوب يوسف سلطان الموحدين في عام (558 هـ1163 م ) ويبدو أنه ظل يحتفظ بمنصبه بالبلاط مدة عشرين عاما قضاها في التأمل والدراسة إلى جانب ممارسة الطب، وحين توفي أبو يعقوب في حرب الفرنجة بقي في خدمة ابنه أبي يوسف يعقوب، ثم اعتزل العمل ربما لكبر سنه (عام 578هـ في البلاط، فخلفه تلميذه ابن رشد الفيلسوف ، توفي ابن طفيل (عام 578 هـ1185 م) في مدينة مراكش، ودفن فيها، وقد ترك عددا من المؤلفات التي فقد معظمها، ولم يبق منها سوى رواية "حي بن يقظان" وبعض الأشعار المتفرقة.(3)‏
        حي بن يقظان:‏
        يروي لنا ابن طفيل روايتين لنشأة حي بن يقظان: الأولى: نشأة طبيعية، فقد كان هناك ملك عظيم منع أخته من الزواج، لأنه لم يجد من الرجال من هو كفؤ لها، لذلك تزوجت سرا من رجل يدعى "يقظان" فأنجبت طفلا أسمته (حي) ووضعته في تابوت، وقذفته في اليم قائلة: "اللهم إنك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئا مذكورا، ورزقته في ظلمات الأحشاء، وتكفلت به حتى تم واستوى، وأنا قد سلمته إلى لطفك، ورجوت له فضلك، خوفا من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد. فكن له، ولا تسلوه، يا أرحم الراحمين!"(4)‏
        نجد في هذه الرواية لنشأة حي ملامح واقعية، فخوف الأم على وليدها من الموت قد يدفعها إلى قذفه في البحر، فتسلمه إلى مصير مجهول خوفا عليه من موت محقق.‏
        أما الرواية الثانية فتحكي عن نشأة غير طبيعية "إذ إن الذين زعموا أنه ولد من الأرض فإنهم قالوا: إن بطنا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينة على مرّ السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحار بالبارد، والرطب باليابس، امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى، وكانت هذه الطينة كبيرة جدا، وكان بعضها يفضل بعضا في اعتدال المزاج، والتهيؤ لتكون الأمشاج، وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهة بمزاج الإنسان وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جدا، منقسمة بقسمين، بينها حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية الاعتدال اللائق به، فتعلق به عند ذلك "الروح" الذي هو من أمر الله تعالى وتتشبث به تشبثا يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل، إذ قد تبين أن هذا الروح دائم الفيضان من عند الله عز وجل، وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم"(5)‏
        ثمة قوى خارقة أدخلت الروح إلى ذلك الجسم الطيني، المهم أن (حي) في كلا الروايتين نشأ في تلك الجزيرة المنعزلة، وقد رعته ظبية فقدت ابنها، أرضعته من لبنها، وحمته من الوحوش، كما حمته من عوامل الطبيعة من برد وحر، فيكبر وهو لا يعرف أما له سوى الظبية ، لكن الله منحه العقل الذي أتاح له التفكر والمقارنة بين حاله وحال سائر الحيوان، فقد نظر إليها فوجدها مكسوة الجلد بالصوف أو بالريش، فحاول أن يغطي جسده بأوراق الشجر، لكنه سرعان ما جفّ وتساقط، لهذا نجده يلجأ إلى ريش نسر ميت يستر به جسده، وبذلك يعيش عيشة الوحوش في الغابة في طعامه ولباسه وعلاقاته.‏
        يبدأ نضجه الفكري حين تموت أمه الظبية، يصدمه هذا الحدث فيقرر فهمه، لذلك نجده يبحث عن سر الموت في جسدها أولا، لذلك يشرّحه باحثا عما حصل له بفعل الموت، هل نقص عضو من أعضائه؟‏
        يفاجأ أن جسدها مازال على حاله، لم ينقص منه عضو، لكن ينقصه شيء مهم هو الذي يحرك الجسد ويملؤه بالعواطف، لم يستطع أن يهتدي إلى السر في ذلك، فدفن أمه بعد أن لاحظ أن رائحة نتنة بدأت تنبعث من جسدها مما زاد في نفرته منه، وود أن لا يراه، ثم إنه "سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتا، ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب، فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه، وإن كان قد أساء في قتله إياه! وأنا كنت أحق إلى هذا الفعل بأمي فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب"(6)‏
        وبذلك انتهى من مشكلة الجسد ليصل إلى مشكلة الروح، فبدا لنا إنسانا أشبه بالفيلسوف، باحثا عن سر الحياة ليس في جسد أمه فقط، وإنما في هذا الكون المتنوع والشاسع، وبدأ يراقبه فلاحظ أن موجوداته (الأجسام والأشياء) إما تعلو (كالهواء والدخان) وإما تهبط (كالحجر) وبذلك تعرف على بعض خصائص العالم المادي عن طريق النظر والتجربة، لكن المعرفة المادية لم تكفه، فقد أراد أن يعرف ما يؤرقه من عالم ما وراء المادة.‏
        لاحظ أن الأشياء لا تتغير طبيعتها إلا بفعل مسبب، كتحول الماء إلى بخار لا يكون إلا بالتسخين، والتالي فإن تحول الأشياء لا بد لها من محول، لهذا فإن حدوث العالم وخروجه من العدم لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود.‏
        كذلك نظر إلى الكون وإلى نظامه الدقيق، أدهشه هذا النظام، فرأى أنه لا بد من أن يكون وراءه منظم قادر تجتمع فيه صفات الكمال وتنأى عنه النقائض، وهكذا قاده مبدأ السببية إلى الإيمان بالله تعالى، والتعمق في العالم الروحي.‏
        لهذا أراد أن يقيم صلته بهذا الموجود، المنظم لكل شيء، وصار يتأمل في عالم الحيوان عله يتعلم منه، فرأى أنه لا يهتم إلا بالأكل والشرب وكل ملذات الجسد، فانطوى على ذاته يبحث في أعماقها عن سبل الاتصال بالله، فلم يجد سوى الاتصال الروحي والاستغراق في التوحد بالذات الإلهية، لهذا سكن في كوخه الذي بناه وانقطع عن العالم الخارجي ولم يعد يخرج إليه إلا مرة في الأسبوع تلمسا للغذاء الذي بات يعتمد على أبسط الأشياء، مما يتيح له القدرة على الاتصال بالله بشكل أفضل.‏
        يأتي الجزيرة (آسال) وهو رجل دين متصوف، هاربا من شيوع الفساد في مدينته، بعد أن يئس من إصلاح أهلها، يلتقي بـ(حي) فينفر منه للوهلة الأولى خائفا من منظره (إنسان بدائي، شعر رأسه يغطي جسده إلى جانب ريش النسر الذي يكسوه، لكن تصرفات (حي) تهدئ من روعه، فيبدأ تعليمه اللغة ، وحين يتقنها، يشرع في تلقينه تعاليم الدين، فيكتشف أن ابن يقظان قد توصل إلى الإيمان بإله واحد، وتعرّف صفاته، والتواصل معه عن طريق القلب، وعبادته بل بات يتفرغ لهذه العبادة.‏
        وحين حدّثه آسال عن معاناته مع أبناء مدينته يطلب منه (حي) اصطحابه إليهم كي يحدثهم بتجربته الإيمانية، لعلهم يعودون إلى جادة الصواب، وحين يلتقي بهم، يوضح لهم تجربته العقلية في الإيمان، كما يحدثهم عن تجربته الصوفية في التواصل مع الله تعالى، لكنهم كانوا مشغولين بحب الدنيا وملذاتها، لذلك تركهم حي بعد أن نصحهم بالتزام أوامر دينهم وفق الشريعة، وعاد إلى الجزيرة بصحبة صديقه آسال، ليتفرغا للعبادة.‏
        ملاحظات فنية حول رواية "حي بن يقظان":‏
        تعد قصة "حي بن يقظان من أهم القصص التي ظهرت في العصور الوسطى، في نظر كثير من النقاد، فهي رائدة في فن القص، إلى جانب ألف ليلة وليلة، لهذا لا يحق لنا أن نحاكمها بمقاييس عصرنا، وما توصلنا إليه من إنجازات في النظرية السردية، فإذا حاولنا الحديث عن هذه القصة، بمقاييس عصرنا اليوم فليست الغاية تقويمية، كما قد يظن البعض، وإنما من أجل إبراز إنجازاتها الفنية المدهشة، وإبراز سقطاتها الفنية التي مازلنا نلاحظها لدى كتابنا اليوم، لذلك لا يضير مكانة ابن طفيل وريادته الحديث عنها.‏
        ثمة وعي لدى المؤلف أنه يقدم قصة، لذلك وجدناه يستخدم هذا المصطلح في التمهيد "فأنا واصف لك قصة "حي بن يقظان" وقد استخدم مصطلح "واصف" بدل مصطلح "سارد" أو "أقص" كذلك أبرز في التمهيد أسباب كتابة هذه القصة، إنها أسباب تعليمية فقد كتبها بناء على سؤال صديقه عن الحكمة المشرقية التي ذكرها الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا، لذلك ينصحه بلهجة تعميمية قائلا: "فاعلم: أن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه، فعليه بطلبه والجد في اقتنائه" وهذا ما فعله بطل قصته (حي) حين بذل غاية جهده ليصل إلى الحقيقة.‏
        لم يذكر، هنا، اسم صديقه، وإنما وصفه بـ"الأخ الكريم، الصفي الحميم، لذلك نرجح أن يكون متلقيا عاما، يتخيله المؤلف كي يستطيع محاورته ومن ثم يحاول هدايته إلى ضرورة استخدام العقل والحدس في قضية الإيمان بالله تعالى، لذلك وجدناه في خاتمة القصة يقول له: "أردت تقريب الكلام فيها على وجه الترغيب والتشويق في دخول الطريق. وأسأل الله التجاوز والعفو، وأن يوردنا من المعرفة به الصفو، إنه منعم كريم، والسلام عليك أيها الأخ المفترض إسعافه ورحمة الله وبركاته"‏
        وبذلك اتضح لنا أن المؤلف يخاطب متلقيا مضمرا، موجوداً بالقوة، متوجها إليه بالخطاب، عله يفتح أمامه سبلا مجهولة للإيمان، لعله يستطيع هدايته وإنقاذه من الجهل والكفر.‏
        لو أردنا تحديد جمالية هذه القصة لوجدناها تكاد تنحصر في الجزء الأول (قصة ولادته ونشأته وفي الجزء الأخير حين التقى بآسال) ويبدو لنا مشهد اللقاء مشهدا سرديا جميلا بكل المقاييس الفنية، إذ احتفظ بقدرته على التشويق، كما شاعت به حيوية، بفضل تنوع الحركات التي لمسناها لدى كل من (حي) و(آسال) من ركض واختباء وتلاحم في الأيدي ثم لمسات اليد الحانية، بالإضافة إلى تنوع البيئة، إذ تم اللقاء بين البيئة الحضرية بكل ما تعنيه من إنجازات (في الملابس والطعام والتصرفات...) والبيئة البدائية بكل ما تعنيه من حياة فطرية أشبه بحياة الحيوانات، هذا على صعيد الجسد، لكن هذا التناقض سرعان ما يختفي على صعيد الروح، إذ يتبين آسال أن (حي) لا يقل عنه إيمانا ومعرفة بالله، لهذا يوافق على اصطحابه إلى مدينته العاصية لهداية أهلها.‏
        ثمة عناية في رسم هذا المشهد، ظهرت في طريقة تقديم المؤلف للشخصيتين الرئيستين في القصة، فلجأ إلى رسمهما من الخارج وخاصة شخصية (حي) فبرز لنا في شكله البدائي (شعر رأسه يغطي جسده، ريش النسر الذي يكسوه) كما وصف لنا الأعماق، فاستطاع أن يبرز لنا حالة الرعب التي أحس بها كل واحد منهما حين التقى بالآخر، وخاصة رعب المدني من البدائي، وبذلك اجتمع في هذا المشهد عناصر سردية تجعل هذه القصة ذات سمات فنية ممتعة إلى حد ما.‏
        صحيح أن بداية القصة وخاتمتها تمتعت بقدرات جمالية في السرد، لكن صلب القصة التي تتحدث عن معاناة (حي) الروحية إثر وفاة أمه، بدت أشبه برحلة فلسفية صوفية علمية، فقد أسقط ابن طفيل أفكاره على الشخصية (حي) وجعله يتحدث بلغته الفلسفية الصوفية، فبدت لنا هذه الشخصية البدائية أشبه بفيلسوف مسلم، يتحدث لغة القرآن الكريم، دون أن يتعرف على الإسلام بعد!‏
        إذا رغم حياة العزلة التي عاشها (حي) فقد وجدناه عالما في الفلك، حين تأمل الكون ونشأة الأرض، كما وجدناه طبيبا، حين بدأ بتفحص جثة أمه الظبية، ويشرحها باحثا عن مصدر الحياة وسبب الموت، لنتأمل هذا القول، الذي يرصد لنا أعماق الشخصية وأفكارها "وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته، إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه كانت تصدر تلك الأفعال كلها، لا هذا الجسد العاطل، وأن هذا الجسد بجملته، إنما هو كالآلة وبمنزلة العصي التي اتخذها لقتال الوحوش، فانتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق له شوق إلا إليه."(ص_ 45)‏
        إن شخصية (حي) هي ابن طفيل العالم الفلكي والطبيب والفيلسوف، وبذلك توحد المؤلف مع الشخصية، في أغلب أحوالها وصفاتها وأفكارها ولغتها، فكانت الغاية، من هذه القصة، إيصال أفكاره إلى القراء عن طريق شخصية يتماهى بها تستطيع أن تقدم أفكاره التي قد لا يستطيع التعبير عنها صراحة.‏
        لعل إغراق الشخصية في التأمل الفلسفي والصوفي، أساء إلى البنية السردية للقصة، إذ إن فن القصة من أكثر الفنون التصاقا بالمجتمع، لذلك قد تؤدي العزلة الاجتماعية إلى الإساءة إليه، فتفقده حيويته وجاذبيته.‏
        إن هذه الدراسة للقصة وفق معطيات عصرنا، قد تكون مفيدة في إبراز إنجازاتها الفنية، لكن أن نتحدث عن مزالقها وسلبياتها فهذا إجحاف في حقها، لأننا نغفل عن الفارق الزمني بيننا وبينها، فنحاكمها وفق معطيات عصرنا، فلو حاكمناها وفق معطيات عصرها لوجدناها عملا فنيا رائدا، قدّم لنا قصة فيها الكثير من المقومات الفنية (الشخصية، المكان، السرد، الحوار، الصراع...)‏
        المؤثرات الإسلامية:‏
        يعترف ابن طفيل في التمهيد لروايته "حي بن يقظان" باستفادته من ابن سينا الفيلسوف الطبيب، خاصة في مجال اختيار الأسماء (حي بن يقظان، آسال....) لكن ابن سينا اتبع طريقة المتصوفة في الرمز، فـ(حي) يقصد به العقل الفعال،و(ابن يقظان) كناية عن صدوره عن القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهي رحلة ترمز إلى طلب الإنسان المعارف الخالصة بصحبة الحواس والعقل، وإن كان يحذر من رفقة الحواس.‏
        وبذلك يمكننا القول إن "حي بن يقظان" عند ابن سينا كتاب في الفلسفة والتصوف استفاد منه ابن طفيل ليضيف عليه البنية السردية، ليأتي الفكر الفلسفي بطريقة أكثر جاذبية وربما أكثر إقناعا، لذلك نلاحظ شخصياته تميزت بالحيوية، إذ لم تعد الشخصية مجرد اسم يحمل فكرة، وإنما بدأنا نجد أمامنا كائنا بشريا له أحلامه التي تتعدى عالم المحسوس بكل ماديته، باحثة عما وراء الطبيعة عن حقيقة هذا الكون الذي نعيش فيه.‏
        صحيح أن ابن طفيل إنسان بدائي، اهتدى إلى الإيمان عبر معاناة ذاتية لكن لغة الراوي كانت متقدمة على بدائية الشخصية، فبدت تحمل ملامح إسلامية واضحة، خاصة في شيوع التناص القرآني في لغتها السردية، مما يؤسس بنيتها الفكرية وجماليتها اللغوية، لنتأمل هذا المقطع "وتصفح طبقات الناس بعد ذلك، فرأى كل حزب بما لديهم فرحون قد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم وشهواتهم، وتهالكوا في جمع حطام الدنيا، ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر لا تنجح فيها المواعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة"(7)‏
        نلاحظ في هذا المقطع سطوع لغة القرآن الكريم، حتى إنها تكاد تشكل صلب هذا المقطع، فنلاحظ أن ابن طفيل ينقل ألفاظ الآية القرآنية كما هي، وإن كان قد حذف الجزء الأول منها "فتقطّعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون"(سورة المؤمنون آية 53)‏
        هنا اقتصر على إضافة فعل (رأى) للسياق السردي، وقد نجده يحور الآية تحويرا بسيطا فتتحول صيغة الغائب المفرد في الآية "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا" (سورة الفرقان آية 43) إلى صيغة جماعة الغائبين بعد أن حذف الجزء الأخير من الآية، أما الآية الأخيرة فقد تحولت من صيغة جماعة المخاطبين (سورة التكاثر آية 1_2) إلى جماعة الغائبين، وبذلك يتم التحوير وفق مقتضيات سردية تتناسب مع سيرورة القصة.‏
        كما نلاحظ تأثر ابن طفيل بالحدث القرآني، حين حدّثنا عن خوف أم (حي)، في الرواية الواقعية لنشأته، من أخيها الملك فتقذف به في اليم، بعد أن تضعه في تابوت، وهذا ما نجده في (سورة القصص) "وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين" (آية 7) لكن تفاصيل حياة الرضيع ستختلف كليا، لدى ابن طفيل عنها في القرآن الكريم.‏
        ثمة تأثر بالروح الإسلامية والمبادئ التي تحض المؤمن على الإسهام في إصلاح مجتمعه، لذلك وجدناه ، حين شكل تصرفات شخصيته (حي) صاغها وفق هذه الروح، إذ وجدناه يدعو آسال لاصطحابه إلى مدينته العاصية عله يستطيع هدايتها، وهنا نلاحظ ابن طفيل متأثرا بالحديث الشريف "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"‏
        فلسفة ابن طفيل:‏
        يعد ابن طفيل من فلاسفة المسلمين، وقد حاول أن ينقل في (حي بن يقظان) هذه الفلسفة عن طريق السرد الروائي الذي بفضله لمحنا فلسفته العقلية، التي تؤكد أن بوسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول، وأن يصل بقواه الطبيعية إلى معرفة الإله والإيمان به، ومن ثم فهم العالم من حوله، وقد قسّم هذه المعرفة قسمين: المعرفة العقلية، والمعرفة الحدسية التي ينكشف فيها الأمر للنفس بوضوح ليس عن طريق المصطلح الفلسفي، وإنما عن طريق "الحال" (8) الذي يستوطن القلب، ويستدل به عن طريق الحدس.‏
        ويرى ابن طفيل اختلاف الفيلسوف عن العامة بقدرته على إدراك الحقائق الإلهية بعقله وحدسه، أما العامة فهي بحاجة إلى من يرتقي بها إلى هذه المبادئ العالية عن طريق الحس والخيال، لهذا فشلت مهمة (حي) في مدينة آسال العاصية، في إقناع العامة بالإيمان عن طريق العقل والحدس.‏
        وبما أن قصة (حي بن يقظان) قصة رائدة في العصور الوسطى لذلك من البديهي أن تؤثر بتلك القصص اللاحقة التي ظهرت في أوروبا، كما أثرت قصص ألف ليلة وليلة.‏
        سنتناول في هذه الدراسة إحدى نماذج التأثر : قصة "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو (9) فنبحث عن نقاط اللقاء ونقاط الاختلاف.‏
        "روبنسون كروزو":‏
        يبدو لنا روبنسون كروزو شابا في العشرين من عمره، أحلامه أحلام الشباب في السفر والمغامرة، يستأذن والديه في السفر عبر البحار، ليحقق أحلامه، لكن والديه يرفضان الموافقة على هذه الفكرة حرصا على حياته، فيعصي أوامرهما، ليحقق رغبته في المغامرة والسفر، لذلك نجد والده غاضبا عليه يدعو الله أن يضع في طريق ابنه المتاعب.‏
        فعلا حين يسافر روبنسون يصادف أهوالا كثيرة، كان آخرها تحطم السفينة، وغرق جميع ركابها، ماعدا روبنسون، وبعد أن يجتاز أهوالا كثيرة يجد نفسه في جزيرة نائية، لا يوجد فيها سوى الحيوانات المتوحشة فتكبد مشقة البحث عن حياة آمنة مستقرة فيها، لذلك يصنع من أشلاء السفينة المحطمة سكنا بسيطا، أما طعامه فكان مما تيسر له من ثمار الجزيرة، لكن المصادفة تساعده في تأمين غذائه من الحنطة، حين نفض كيسا (يريد استخدامه لبعض شؤونه) كان فيه بقايا حنطة، فهطلت الأمطار ونبتت البذور، فصار يعتني بها، إلى مرحلة الحصاد.‏
        نلاحظ أن كروزو لا يبدأ من الصفر، وإنما يساعده في الاستمرار على قيد الحياة مؤن وأدوات حصل عليها من بقايا السفينة المحطمة، كما ساعدته الطبيعة بأن مدّته بالمواد الأولية (الخشب) ليستمر في العيش.‏
        بعد فترة من الزمن يلتقي روبنسون بإنسان أسير، استطاع أن يهرب من أكلة لحوم البشر، فيسميه (جمعة) ويتخذه مساعدا له في عمله.‏
        عاش روبنسون في الجزيرة مدة ثمان وعشرين سنة، إلى أن أتت مصادفة سفينة، يرحل على متنها إلى بلده، بعد أن يخوض صراعا مع رجال ثائرين على ربانها، وهكذا لاحقته المتاعب حتى آخر مراحل سفره!!‏
        اللقاء بين "حي بن يقظان" و "روبنسون كروزو"‏
        لو وقفنا عند السنة التي توفي فيها مؤلف " روبنسون كروزو" دانييل ديفو (1731م) وسنة وفاة ابن طفيل (1185م) للاحظنا أن مؤلف "حي بن يقظان" قد عاش قبل ديفو بحوالي خمس مئة سنة، وأن كلا الكاتبين قد عاش في إسبانيا فترة من حياته، لذلك كان تأثر ديفو بابن طفيل أمرا طبيعيا.‏
        لو تأملنا الفضاء المكاني لكلا الروايتين للاحظنا تشابها كبيرا، فنحن أمام فضاء واحد تقريبا (جزيرة نائية) كذلك نجد فيها إنسانا وحيدا، يحاول أن يفهم ويستكشف كل ما يحيط به، وبذلك نجد لقاء في تركيز القصتين على شخصية رئيسية واحدة، تعيش ظروفا متشابهة (العزلة، البدائية...)‏
        كذلك تبدو الشخصية الثانوية، في كلا القصتين، شخصية طارئة (آسال، جمعة) تأتي إلى الجزيرة بعد استقرار الشخصية الرئيسية، إذ تم اللقاء بها بعد مرور فترة طويلة من العزلة في الجزيرة، وقد لاحظنا أنها أضفت الحيوية على فضاء القصتين، وأسهمت في تجديد إيقاعهما.‏
        نلمح في كلا القصتين الغاية التعليمية، فابن طفيل، كما لحظناه منذ المقدمة، يريد أن يدلل على وجود الله باستخدام العقل والحدس، دون استخدام الشريعة، لذلك جعل من (حي) إنسانا بدائيا يصل إلى الإيمان عن طريق استخدام العقل أولا ثم الحدس، كأنه يطلب من الناس أن يمعنوا النظر في هذا الكون ليتوصلوا إلى الإيمان بعقولهم وقلوبهم، لا أن يكون إيمانهم إيمانا تقليديا، يحول التواصل مع الله تعالى إلى مجموعة من الطقوس لا علاقة لها بالقلب أو العقل.‏
        أما دانييل ديفو فقد كانت غايته تربوية، إنه يتوجه إلى الشباب، الذي يعشق المغامرة والسفر، بالنصيحة، طالبا إليهم النظر إلى ما آل إليه حال روبنسون حين لم يستمع إلى رغبة والديه في عدم السفر، ونفّذ ما يدور في رأسه من أفكار، فعانى متاعب جمة استمرت حتى لحظات سفره الأخيرة.‏
        انعكست في كلا القصتين ملامح من السيرة الذاتية للمؤلف، ففي قصة "حي بن يقظان" نجد أهم القضايا التي أرّقت ابن طفيل (هل تستطيع الفلسفة أن تؤدي إلى الإيمان بالله تعالى، على نقيض القول الشائع " من تمنطق فقد تزندق"؟ ثم هل يكفي استخدام العقل ليصل بنا إلى الإيمان العميق أم نحن بحاجة إلى القلب والقوى الداخلية الحدسية إلى جانبه؟ هل تستطيع العامة الإيمان بهذه الطريقة؟ أم لا بد لها من الطريقة النقلية في الإيمان؟ هل الطريقة العقلية الحدسية وقف على الخاصة دون العامة؟)‏
        إذا نلمح في هذه القصة بعض المعاناة الروحية والفكرية لابن طفيل، كما نلمح بعض ملامحه الشخصية التي أسقطها على (حي) فجعله فيلسوفا وطبيبا، وعالم فلك مثله.‏
        أما قصة "روبنسون كروزو" فقد لمحنا فيها معاناة دانييل ديفو من عقوق ابنه، لذلك جعل روبنسون ابنا عاقا لوالديه، وأسقط عليه غضبه، مما جعله يعاني متاعب جمة في سفره، وعاقبه بأن عاش معظم حياته وحيدا يجتر آلامه.‏
        الاختلاف بين "حي بن يقظان وروبنسون كروزو"‏
        يدخل روبنسون الجزيرة النائية شابا، قد تكوّن فكره وتأصلت عاداته، أي بدا لنا إنسانا مدنيا أجبر على الحياة البدائية، أما (حي) فقد بدأ حياته فيها رضيعا (حسب الرواية الأولى) أو تخلق من تربتها (حسب الرواية الثانية) لذلك كان إنسانا بدائيا لصيقا بالطبيعة، وقد قويت صلته بها مع الأيام، إذ لم يعرف عالما غيرها، فكان عالم الحيوان في الجزيرة دليله للحياة، تعلم منه طرائق العيش البدائية.‏
        إذا بدأ (حي) حياته في الجزيرة من الصفر، في حين وجدنا روبنسون يستعين بمخلفات السفينة المحطمة، فاستطاع أن يوفر لنفسه عيشة متحضرة بفضل المؤن والأدوات التي عثر عليها مع بقايا السفينة.‏
        نظرا لعلاقة (حي) الحميمة بالطبيعة نجده إنسانا تغلب عليه الروحانيات والأفكار، همه الأساسي البحث عن قضايا تؤرق الإنسان (الإيمان بالله، الموت، هداية الآخرين) لذلك لم تؤرقه قضايا الحياة المادية، خاصة في المرحلة الأخيرة من حياته، فقد رأى أن الاستغراق في التواصل مع الذات الإلهية يفسدها الانشغال بالماديات، لذلك كان طعامه بسيطا، يخصص له وقتا زهيدا ليصرف وقته في التأمل والعبادة، في حين وجدنا روبنسون مشغولا بالعالم المادي، همه الأساسي تأمين الطعام ليس لمعيشته اليومية فقط وإنما يفكر بمعيشته المستقبلية فيحاول تأمين مؤنة الشتاء والعيش في مسكن على نسق عرفه في حياته السابقة، لذلك نستطيع أن نقول إن روبنسون نقل الحياة المدنية بكل ماديتها إلى الجزيرة، وربما لهذا السبب ابتعد عن القضايا الروحية، في حين جسّد (حي) الحياة الروحية بتأثير الطبيعة التي التصق بها، وكما يقول جان جاك روسو إن الإنسان الذي يعيش قريبا من الطبيعة أشد تدينا واقترابا من الله من ذلك الإنسان الذي يعيش في المدينة، ربما لأنه يزداد رهافة وإحساسا بمعجزات الكون وجماله، لشدة معايشته للطبيعة، ورؤيته لتبدلاتها المعجزة، لا أدري إن كان يحق لنا القول: إن قصة "حي بن يقظان" تجسد لنا علاقة الشرقي بالكون، والتي رأيناها تعتمد على التركيز على الروحانيات وعدم الاهتمام بالماديات، في حين تجسد لنا قصة "روبنسون كروزو" علاقة الغربي المادية بالكون، وإن كنا لا نستطيع أن نقبل هذا الحكم بشكل مطلق!!‏
        إن شخصية (حي) هي شخصية فيلسوف يتأمل الكون ليفهم أسراره، يثير أسئلة جوهرية تتعلق بالوجود الإنساني وكيفية تواصله مع الله، لذلك اجتمعت لديه شخصية الفيلسوف إلى جانب المتصوف! وهو يفكر في إصلاح غيره، لذلك برزت لديه شخصية المصلح، في حين وجدنا (روبنسون) إنسانا عاديا أقصى طموحاته تلبية حاجاته المادية.‏
        وقد كان اللقاء بالشخصية الثانوية (جمعة) معززا للجانب المادي لروبنسون إذ يقوم بمساعدته في أمور حياته المادية، في حين كان لقاء (حي) بـ(آسال) معززا للجانب الروحي، علمه اللغة، إحدى أهم مفاتيح الأعماق والأفكار، ثم أخذه إلى مدينته العاصية ليسهم في إصلاحها.‏
        لو تأملنا علاقة (حي) بـ(آسال) لوجدناها علاقة ندية، إذ يتم تبادل المعرفة بينهما، ويحاولان التعاون في سبيل إصلاح البشر وهدايتهم.‏
        أما علاقة روبنسون بـ(جمعة) فقد كانت علاقة السيد بالمسود على نقيض علاقة (حي) بـ(آسال) وبذلك تتجسد لنا علاقة الغربي بالآخر، فهو السيد والآخر عبد له.‏
        نلاحظ أن القصة لدى ابن طفيل مازالت بدائية، رغم الإنجازات السردية التي لحظناها، إذ لا نجد، غالبا، سردا متصلا بحدث معين، أو بشخصية معينة، خاصة إذا تجاوزنا المقدمة والخاتمة، التي أشرت إلى جماليتهما سابقا، فقد امتلأت القصة بالاستطرادات الفلسفية، فأصبحت أشبه ما تكون بمقال فلسفي، في أغلب الأحيان، في حين بدا السرد القصصي، في "روبنسون كروزو" متقنا، يكاد يخلو من الترهل والاستطراد، فالحدث مشوق، يتطور عبر حبكة متماسكة، وقد ابتعدت الشخصية عن التجريد، فلم تبد' مجموعة أفكار، كشخصيات ابن طفيل، بل رأيناها قريبة من الواقع، هنا لا بد أن نذكر مرة أخرى بالفارق الزمني بين القصتين (حوالي خمس مئة سنة)‏
        يلاحظ وجود مؤثر إسلامي آخر في قصة "روبنسون كروزو" وهو ألف ليلة وليلة، إذ لا بد أن ديفو قد اطلع على ترجمة (غالان) لألف ليلة وليلة التي ظهرت في اثني عشر مجلدا بين عامي (1714_ 1717) فقد توفي ديفو (1731)‏
        يلاحظ المرء أن معاناة روبنسون تشبه معاناة السندباد البحري، خاصة في بداية الرحلة البحرية، حيث تحطمت السفينة وبقي حيا دون سائر الركاب، فعاش في جزيرة نائية وحيدا.‏
        وبذلك لم يكتف دانييل ديفو بالتأثر بقصة "حي بن يقظان" وإنما تعددت مجالات تأثره، ليتجاوز ذلك التأثر إلى الإبداع، الذي ينطلق من خصوصيته التي تنبع من معاناته الذاتية وخصائص أمته.‏
        الحواشي:‏
        1_ د. لوثي لوبيث بارالت "أثر الثقافة العربية في الأدب الإسباني" كتاب الرياض، ، عدد (54) يونيو، 1999، ص 63 بتصرف‏
        2_ زيغريد هونكه "شمس العرب تسطع على الغرب" منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط8، 1986، ص 483‏
        3_ابن طفيل "حي بن يقظان" إعداد د. سمير سرحان،و د. محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، القاهرة، 1999، ص 7_8‏
        4_ المصدر السابق ص 35‏
        5_ المصدر السابق نفسه، ص31_ 32‏
        6_ المصدر نفسه، ص 45_46‏
        7_ نفسه، ص 120‏
        8_ ورد تعريف مصطلح "الحال" لدى ابن عربي على الشكل التالي: هو " ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب ومن شرطه أن يزول ويعقبه المثل، ومن هنا نشأ الخلاف فمن أعقبه المثل قال بدوامه، ومن لم يعقبه مثل قال بعدم دوامه، وقد قيل الحال تغير الأوصاف على العبد" من كتاب نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام" د. نظلة الجبوري، مطبعة اليرموك، بغداد، ط1، 1999، ص 130‏
        9_ دانيال ديفو "روبنسون كروزو" ت. كامل كيلاني، مطبعة المعارف بمصر، ط3، د.ت‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

          أثر الرواية الغربية الحديثة في الرواية العربية أثر "الصخب والعنف" لوليم فوكنر في "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني
          ماهية الرواية الحديثة:‏
          يحسن بنا أن نتوقف في البداية عند تعريف سريع للرواية الحديثة، التي تدعى أيضا رواية "تيار الوعي"(1) وهي تمثل ثورة حقيقية على الاتجاه التقليدي الذي كان في القرن التاسع عشر، وقد بدأت هذه الثورة مع الإنجازات العلمية المذهلة في بدايات القرن العشرين تقريبا.‏
          لو تأملنا الجذور التاريخية لرواية تيار الوعي لتأكد لنا أن الإنتاج الأدبي الجيد ليس دورانا في الفراغ، أو وحيا يهبط من السماء فجأة، وإنما هو تتويج لجهود سابقة، ولتطورات مستمرة في تاريخ الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه، فهذا من شأنه أن يؤكد أن الأسلوب الحديث في الكتابة استمرار لجهود سابقة، تبرزها جهود لاحقة وذلك بالإضافة إليها، الأمر الذي يعني شرعية انتمائها إلى الجنس الروائي، ويوضح مدى هذا الانتماء.‏
          مع بداية القرن التاسع عشر ظهرت روايات تتخلى عن رسم الشخصية من الخارج، قي بعض مقاطعها، وتلتفت إلى أعماقها (دوستفسكي، جين أوستن، هنري جيمس) لكنها رغم ذلك، بقيت هذه الرواية وفية للتقاليد التي أرساها الرواد، وخاصة ما كان منها متصلا بالمحافظة على الأبعاد الروائية الثلاثة: الحدث، الشخصية، اللغة الروائية.‏
          ابتدع وليم جيمس، أحد علماء النفس مصطلح "تيار الوعي" وقد استقر اليوم بوصفه مصطلحا أدبيا، يستخدم للدلالة على طريقة تقديم الجوانب الذهنية والشعورية للشخصية، إذ تهتم الرواية بالمستويات غير الكاملة (مستوى ما قبل الكلام بما فيه من كلام وأفكار ومشاعر وذكريات) وبذلك لا تخضع للمراقبة و التنظيم والسيطرة على نحو منطقي، فتبدو الذكريات والأفكار والمشاعر أشبه بتيار مضطرب في الأعماق، عندئذ ينكشف أمامنا الكيان النفسي للشخصية.‏
          والحقيقة أننا لا نجد تقنية واحدة لرواية تيار الوعي، وإنما نجد عدة تقنيات، كذلك لا نستطيع أن نقول إن هذه الرواية تنتمي للأدب السيكولوجي فقط، بل تنتمي إلى علوم وفنون أخرى، فقد امتصت كل الأجناس الأخرى، إنها تنافس الشعر ...عندما تمتلئ بالاستعارة أو عندما تلعب بموسيقى الكلمات وتأخذ من المسرح المنولوج والحوار...وتستعير من النقد الأدبي غاياته، عندما تقدم بنفسها نظريتها في الأدب، كما تفسح مكانا للفلسفة، وتستعين بالموسيقى، فقد أعطى كل من بروست وجويس وبوتور لأعمالهم بنية موسيقية، بوساطة تركيب الفقرات والإيقاع ورنين الجملة، وقد نجد روايات مستمدة من لوحة فنية.(2)‏
          إن التجربة الإنسانية، التي تمتزج فيها العوالم الخارجية بالعوالم الداخلية لا يمكن أن تحد أو أن تكتمل، إذ تختلط فيها معطيات عقلية (المفاهيم، الأحاسيس، التخيلات، الذكريات...) ومعطيات روحية (الحدس، الرؤية، البصيرة...) ولا شك أن الفصل السابق بين هذه المعطيات فصل غير دقيق، إذ كثيرا ما تبدو ممتزجة بعضها ببعض.‏
          وهكذا فإن مجال الحياة الذي يهتم به أدب تيار الوعي هو التجربة العقلية والروحية من جانبيها المتصلين بالماهية والكيفية، وتشتمل الماهية على أنواع التجارب العقلية من الأحاسيس والذكريات والتخيلات والمفاهيم وألوان الحدس، كما تشتمل الكيفية على ألوان الرمز ، وعمليات التداعي، ويكاد يكون من المستحيل أن نميز الكيفية عن الماهية! فهل الذاكرة مثلا جزء مما يحتويه الذهن أم أنها عملية ذهنية؟ ومثل هذا التمييز الدقيق ليس بالطبع من مهمة الروائيين، وإن كانوا يكتبون رواية تيار الوعي بهدف توسيع قدرات هذا الفن وذلك بتصوير الحالات الداخلية لشخصياتهم، وبذلك يستطيع الإنسان، بفضلها أن يحتفظ بعلاقات مع الحياة في مجموعها.‏
          الشخصية:‏
          تريد الرواية الحديثة أن تتخلى الرواية عن زخرفة الشخصية التي في نظرها ليست إلا قناعا يخفي دون فائدة وجه المؤلف، كما يقول كونديرا (3)‏
          وعلى هذا الأساس كانت الميزة الرئيسية لرواية "تيار الوعي" قدرتها على تصوير الشخصية على نحو أكثر دقة وأكثر واقعية من الرواية التقليدية، لأنها لا تقدم الإنسان من الخارج، وإنما من الداخل، أي تقدم ماهية الإنسان، ومن المعروف أن كل مؤلفي هذه الرواية (فيرجينا وولف، وليم فوكنر، جيمس جويس...) كانوا على معرفة بنظريات التحليل النفسي، وبنظرية الشخصية التي ظهرت من جديد في القرن العشرين، وبالفلسفة الجديدة والتصوف الديني، والوجودية المسيحية، ...الخ‏
          إن الرواية الحديثة تهتم بالبحث عن المعنى في الشخصية الإنسانية أكثر من البحث عنه في الفعل ورد الفعل الاجتماعيين، وبذلك تسلط الأضواء على الفرد لا على المجتمع، أي على أفكاره التي تتسلط عليه في الحاضر، والتجارب الماضية التي يعايشها فيه، فيتبدى لنا الهم الاجتماعي بطريقة غير مباشرة، أي بطريقة أكثر إيحاء وفنية.‏
          لذلك يلتقي هؤلاء الروائيون بالروائيين الطبيعيين (زولا، فلوبير) في أنهم يحاولون تصوير الحياة بشكل دقيق، ولكن الحياة التي استأثرت باهتمامهم كانت الحياة الداخلية للشخصية، على نقيض الروائيين الطبيعيين.‏
          الانطباعات والصور:‏
          تعتقد فرجينا وولف أن الشيء المهم الذي ينبغي أن يعبر عنه الفنان هو رؤيته الخاصة، أو ماهية الحياة من زاوية ذاتية، وأن الشيء الهام في الحياة الإنسانية هو البحث عن المعنى والتعرف إلى الذات، ولهذا فإن طريقتها في الكتابة الروائية هي تقديم الانطباعات النفسية (عن طريق الصورة، والتركيز على العلاقة بين الأشياء) وهي تختار تلك الانطباعات بوصفها مراحل في طريق الوصول إلى رؤية ما، وبذلك يصبح تشريح النفس الإنسانية ليس مجرد تحليل شكلي، وإنما يمتلئ بحساسية الفنان الانطباعي للون والصوت والشكل والرائحة.‏
          وقد بدت الصورة الجمالية لدى (جويس) حياة مصفاة في قالب من الخيال الإنساني، ومبرزة بفضله، لذلك يتحقق السر الجمالي على نحو شبيه بحالة الإبداع المادي، فالفنان، مثل المبدع في عالم المادة، يظل مختفيا ومصفى خارج الوجود ومحايدا يتسلى، وهكذا كان في روايته يوليسيس.‏
          أما لماذا يصر (جيمس جويس) أن يتخلص العمل الأدبي من آثار مؤلفه؟ فنجده يوضح لنا أن العمل الأدبي بوصفه إبداعا ليس أكثر من عمل يقتضي مهارة، وجمالية هذا العمل في تأثير على المتلقي، أي في جعله على اتصال مباشر بالحياة التي يمثلها، كأنه يريد تقديمها كما هي في الواقع دون حكم تعسفي أو تقييم مباشر، لذا كانت المعرفة هي أخلاقية الرواية الوحيدة، كما يقول كونديرا، وهي معرفة داخلية تتعلق بدقائق النفس، ولا تعني حشوها بمعارف، تثقل كاهلها، وإنما نجد توظيفا لمعارف عدة في جسد الرواية عبر لمسات فنية، فتبدو جزءا حيويا من فضاء الرواية.‏
          ومن المزايا التي تتوافر لرواية "تيار الوعي" هي قدرتها على تقديم الرموز بوصفها بدائل للأفكار الذهنية.‏
          تقنيات الرواية الحديثة:‏
          ثمة ملاحظة يحسن التوقف عندها وهي أن التقنية الفنية لرواية "تيار الوعي" ليست واحدة وإنما تختلف من رواية إلى أخرى، اختلاف التكوين الذاتي والاجتماعي للفنان، فالإبداع في أي مجال ذاتي، وهذا يعني أن يحمل بصمة خاصة به، كما يحملها الإنسان في أصابعه، لتدل على شخصيته المتفردة، لهذا تتعدد تقنيات الرواية الحديثة بتعدد الروائيين.‏
          إننا حين نتحدث عن تقنيات هذه الرواية فمن أجل أن نبرز أهم معالمها دون أن يعني ضرورة التزامها بشكلها الحرفي، أو حصرها في قالب واحد لا يطاله التغيير، أو الإضافة، فهي أدوات باتت شائعة في الرواية، يتوجب علينا معرفتها، كي نتمكن من التفاعل مع الإنجازات الحديثة للرواية، ولعل أهم هذه التقنيات المستخدمة هي: الحوار الداخلي المباشر، الحوار الداخلي غير المباشر، الوصف عن طريق المعلومات المستفيضة، مناجاة النفس...‏
          الحوار الداخلي: هو تلك التقنية المستخدمة في الرواية بغية تقديم المحتوى النفسي للشخصية، والعمليات النفسية لديها، دون التصريح أو التلميح إلى أن الشخصية ستجري حوارا داخليا.‏
          والحوار الداخلي المباشر: هو ذلك النمط من الحوار الذي يمثله عدم الاهتمام بتدخل المؤلف، وعدم افتراض أن هناك سامعا، فيقدم المحتوى الداخلي كما لو لم يكن هناك قارئ، ويجري الحديث بضمير المتكلم، فتعبر الشخصية عن واقعها وعن أحاسيسها وآمالها ...خالطة الحاضر بالماضي بالمستقبل، مازجة الحلم بالحقيقة، واليأس بالأمل، فتجسد أعماق النفس بكل اضطرابها وآلامها.‏
          أما الحوار الداخلي غير المباشر: الذي يدعى بـ(الوعي الباطني) فيتميز عن الحوار المباشر من ناحية التركيب اللغوي، واستخدام ضمير المخاطب أو الغائب، وهذا يعني وجوب حضور الراوي أو المؤلف بشكل دائم، لأن طبيعة الضمائر لا تسمح له بالغياب، بل تطلب منه أن يكون شاهدا أو راويا أو معلقا على الأحداث، وأن يستخدم الطرق الوصفية والتفسيرية.‏
          مناجاة النفس: تقترب من الحوار الداخلي غير المباشر في اعتمادها على ضمير الغائب والمخاطب من ناحية البناء اللغوي، وتختلف في هذه الناحية أيضا، فهناك ينبغي على المؤلف الحضور، أما هنا فدوره ثانوي، لأن تقديم المحتوى الذهني والعمليات الذهنية للشخصية يجري مباشرة من الشخصية الروائية دون أن يتدخل الراوي أو المؤلف.‏
          الوصف: رأينا قبل قليل أن الرواية الحديثة تركز على الصورة وعلى العلاقات البصرية بين الأشياء، وقد كانت هذه التقنية موجودة في الرواية التقليدية، إذ كانت تفيد في تحديد الخطوط العريضة لديكور الرواية، ثم لإيضاح بعض العناصر التي تتميز بشيء من الأهمية وتعبر عن شيء ما. أما الآن فهي، في يعض نماذجها، لا تتحدث إلا عن جمادات وأشياء لا تكشف عن شيء ولا تعبر عن معنى، أو على الأقل هذا ما يحاوله بعض كتاب الرواية اليوم، فقد كان الوصف يدعي تمثيل واقع موجود مسبقا، أما الآن فلا يحاول إلا أن يؤكد وظيفته الخلاقة، وكان فيما مضى يهدف إلى أن يجعل القارئ يرى الأشياء، أما الآن فيحاول أن يحطم الأشياء، وكان إصرار هذا الوصف على التحدث بإسهاب عن الأشياء والجمادات لا يهدف إلا إلى إفساد خطوط هذه الأشياء، وجعلها غير مفهومة، بل إلى إخفائها تماما...وبعد عدة فقرات ينتهي الوصف ليكتشف القارئ أن هذا الوصف لم يترك شيئا متماسكا وراءه، فقد اكتمل الوصف في حركة مزدوجة من الخلق والتحطيم، وهذه الحركة نجدها في الرواية على كافة المستويات وخاصة في التركيب العام للرواية، ومن هنا كان الإحساس بالانخداع الملتصق بكل أعمال اليوم (4) وبذلك بات عالم الأشياء جزءا أساسيا في تشكيل فضاء كثير من الروايات الحديثة، دون أن نستطيع القول أنه يشكل سمة عامة لها.‏
          والحقيقة أن الوصف في الرواية الحديثة يتخذ مسارين: الأول نحو أعماق الشخصية، والثاني نحو الأشياء التي باتت تحل محل الإنسان، وتلغي كينونته في حياتنا التي باتت استهلاكية ترى قيمة الإنسان بما يملك من أشياء!!!‏
          إن الوصف في الرواية التقليدية كالوصف في الرواية الحديثة التي يطلق عليها أحيانا رواية"تيار الوعي" يتم عن طريق المؤلف الواسع المعرفة، وذلك دون أية محاولة من جانب هذا المؤلف لوضع قناع على الحقيقة، والشيء الوحيد غير العادي في وصف الرواية الحديثة هو موضوعه، الذي يتعلق بالعالم الداخلي للشخصية، والحياة الذهنية لها بكل تداعياتها.‏
          إن هناك ثلاثة عوامل لتنظيم التداعي: وهي أولا الذاكرة التي تعد الركيزة الأساسية للتداعيات، وثانيا الحواس التي تقودها، وثالثا الخيال الذي يحدد طواعيتها، أما ثبات عمل هذه العناصر ونظام ترتيبها، والناحية العضوية المتصلة بها فهي مشكلات مختلف عليها عند علماء النفس، ولم يهتم أحد من كتاب الرواية الحديثة بالمشكلات المعقدة لعلم النفس، لكن كل الكتاب أدركوا أهمية التداعي الحر في تحديد حركة العمليات الذهنية لشخصياتهم.‏
          وسائل تنظيم حركة تيار الوعي: وهي مجموعة يمكن أن تسمى على سبيل التشبيه "مستحدثات سينمائية" وتدعى "المونتاج" تشمل مجموعة من الوسائل التي تستخدم لتنظيم أو لتوضيح تداخل الأفكار وتداعيها، كالتوالي السريع للصور، أو وضع صورة فوق صورة، يقسم المونتاج إلى قسمين:‏
          المونتاج الزمني: إذ يبقى الشخص ثابتا في المكان، لينتقل تيار الوعي عبر عدة أزمنة، وبذلك يضع الروائي صورا أو أفكارا من زمن معين على صور أو أفكار من زمن آخر.‏
          المونتاج المكاني: يبقى الزمن ثابتا، ليتغير عنصر المكان، وليس من الضروري أن تتضمن هذه الطريقة تقديم الوعي فهي تستخدم على أنها تقنية مساعدة، تسمى "عين الكاميرا" أو "المشهد المضاعف" وهي أسماء يمكن أن توحي بإمكان اجتماع مجموعة صور في نقطة زمنية واحدة.‏
          إن الوظيفة الأساسية لهذه الوسائل السينمائية هي التعبير عن الحركة وتعدد الوجوه، وهذه وسيلة معدة لتقديم ما هو غير ساكن منظم وفق المنطق المعروف، لذا كانت هذه الوسيلة خير معين لكتاب الرواية الحديثة، إذ تستطيع تحقيق غرضهم الأساسي، وهو تقديم العنصر المزدوج في الحياة الإنسانية، أي اختلاط الحياة الداخلية بالحياة الخارجية في وقت واحد.‏
          إذا يمكننا القول بأن الزمن لم يعد يسير وفق ترتيب ظاهري، يحدده الظاهر والمنطق التاريخي لسيرورة الحدث، ولا شك أن اضطراب الزمان واختلاطه يؤدي إلى اختلاط الأمكنة، لذلك التقسيم السابق ليس مقبولا بجملته، وإنما لابد من المرونة في التعامل معه، والأخذ بعين الاعتبار أن الأدب الحديث، شأنه شأن أي إبداع حقيقي لا يمكن أن يكون مقسما تقسيما آليا، ونحن نلجأ إلى هذا التقسيم لتسهل دراسته، دون يعني ذلك فصلا حتميا بين الزمان والمكان، وإنما فصلا مجازيا يساعد على توضيح المكان المضطرب والزمان المختلط بسبب التداعي الحر، الذي لا يخضع لأي تنظيم مكاني أو زماني..‏
          لو تأملنا طبيعة المكان في الرواية الحديثة بمعزل عن طريقة تقديمه فيها، لوجدناه قد ابتعد، غالبا، عن أن يكون ديكورا للحدث، وامتدادا كنائيا للشخصية والبيئة والحدث الخ كما في الرواية المسماة تقليدية، وإنما أصبح المكان، في الرواية الحديثة، يبني رموزه" التي تعيد تشكيل أدبية الرواية، وتجسد الرؤية، فتؤسس جماليات جديدة، وعلى هذا الأساس أصبح المكان إحدى علامات الرواية الحديثة، وبات رمزا لحياة البشر يجسد الغربة والملل والضيق والمفارقة والعبور المؤقت، ويؤثر على مفهوم الزمن، فيعكس اضطرابه بين الديمومة واليومي، بين السطحي والعميق، وبين الوهم والحقيقة.(5)‏
          بالإضافة إلى استعارتهم وسائل التقنية السينمائية ، استخدموا علامات الترقيم استخداما خاصا، كي يقدموا تيار الوعي وينظموه، ولعل أهم سماته: الفيض، والخصوصية، أي أنه يقدم جوانب غير مترابطة وغير مشكلة، الأمر الذي يجعل وعي أي إنسان لغزا بالنسبة للإنسان الآخر، ونستطيع أن نعدّ هاتين السمتين نتيجة للقوانين الذهنية للتداعي الحر، وهما متصلتان اتصالا وثيقا، ولعل الإنجاز الأساسي لكتاب الرواية الحديثة: هو تقديم الاضطراب الداخلي للعمليات الذهنية، وجعلها تعني شيئا.‏
          اللغة الروائية:‏
          تبدو لنا لغة الرواية الحديثة لغة يغلب عليها المجاز، ويسودها التشخيص والتكرار، يبدو عليها الخلل في التركيب أحيانا، إذ قد نجد تركيب الجملة في حالة من الفوضى، فقد ينقص الجزء الأول منها، وقد ينقص الجزء الأخير...‏
          إن شيوع المجاز والتكثيف الشعري في اللغة أمر يتناسب مع لغة الأعماق، فبفضل الكثافة الشعرية تستطيع اللغة أن تمتلك إمكانات إيحائية متعددة، تساعد على اقترابها من اضطراب الأعماق من أجل محاولة تقديم بعض غوامضه، وهكذا فإن الاستعانة باللغة الشعرية والرمز والتصوير يعين الروائي على التعبير عما لا يمكن التعبير عنه في منطقة الوعي بطريقة مباشرة، بل يتحتم التعبير عنه بطريقة انطباعية رمزية مكثفة.‏
          لاشك أن مثل هذه اللغة المجازية، تهب الرواية الحديثة خصوصية، لكن كثيرا ما تلقي هذه اللغة على الرواية ظلا من التلغيز، فيما لو ابتعدنا عن ملامحها الشعرية وأهملنا ربطها بالواقع على نحو شفاف.‏
          إن معظم هذه الوسائل ليست شائعة في النثر العادي، لذلك شكلت بعض سمات الحداثة في الرواية، ولكن هناك ناحية يحسن الإشارة إليها: وهي أن هذه الوسائل والسمات لم تشكل نبض العمل الروائي بشكل مستمر، وهي تعكس بذلك خاصة داخلية من خواص الذهن وهي سرعة التنقل من موضوع لآخر، أي عدم الاستمرار، كذلك نلاحظ لكل مبدع خصوصيته في استخدام هذه التقنية والتي تبدو لنا أحيانا ممتزجة بالطريقة التقليدية للرواية.‏
          القالب الفني:‏
          إن تقديم مستويات اللاوعي (ما قبل الكلام) لا يمكن أن يقدم في قالب محدد، وبذلك ينطلق تيار الوعي مستقلا عن تطور الحدث، ومعنى ذلك أن تطرح الحبكة جانبا، وبالرغم من ذلك يُفرض على هذا التيار المضطرب نوع من القالب، لتنظيم مواده وبالتالي كي يتم تفاعل المتلقي معه، لذلك نجد فيه تمسكا بالوحدات الثلاث الكلاسية التي تمسكت بها الرواية التقليدية (الزمان والمكان والحدث) وتمسكا بالبناء الموسيقي والبناء الرمزي المعقد.‏
          دور المتلقي:‏
          يحاول الروائي في الرواية الحديثة أن يبتعد عن تقديم الخبر للمتلقي، ليريه أو بالأحرى ليشركه في فضاء الرواية، وبذلك لم يعد المتلقي يستقبل عالما متكاملا مغلقا على نفسه، بل على النقيض إنه يحاوره، ويطلب منه أن يسهم في عملية الخلق وأن يخترع بدوره العمل الذي يقرأ، فيكون مشاركا في معطياته لخلق انسجام وتفاعل بين الفضاء المتخيل وعالمه الذي يعايشه، وبذلك يسهم في خلق عمل أدبي ينسجم وفق تصوراته، ويتعلم في الوقت نفسه أن يخلق حياته من جديد .‏
          موقفنا من الرواية الحديثة:‏
          إن الرواية الحديثة ابنة مجتمع قد سبقنا في جميع المجالات، فهي ابنة مراحل طويلة من التطور، في حين لم يعرف العرب هذا الفن إلا مع بدايات القرن العشرين تقريبا، وبذلك تكون الرواية الغربية قد سبقتنا بأكثر من مئتي سنة، لهذا لا يمكننا تجاهل هذا الفارق الزمني، الذي يحمل معه تطورا علميا، وظروفا اجتماعية واقتصادية وسياسية تنعكس بصورة أو بأخرى على الإنتاج الأدبي، لذلك من البديهي أن نقدم إبداعا ينطلق من ظروفنا، لأن أي شكل أدبي لا بد أن يكون منسجما مع إمكانات المتلقي، دون أن يعني ذلك تدني المستوى الفني، أو إلغاء لقدرات الكاتب الإبداعية التي يتوجب عليه تقديم الجديد والممتع والمفيد دائما.‏
          إذا حين نستورد شكلا فنيا لا بد أن نكون حذرين لأن المتلقي العربي يختلف عن المتلقي الغربي، ليس في الإرث الأدبي فقط، وإنما في ظروفه، مما ينعكس على طريقة تفاعله مع العمل الأدبي، صحيح أن التأثر أمر لا بد منه، خاصة في مجال سبقنا إليه الغربيون، لكن هذا التأثر لا يعني تقليدا، وإنما تأثرا واعيا ومتزنا، يستفيد من إنجازاته دون أن تستعبده هذه الإنجازات، وبذلك يمكن تقديم أدب منسجم مع ظروف مجتمعنا وهموم حياتنا، فيضمن تفاعل المتلقي العربي.‏
          إذا إغناء التجربة الروائية لا يمكن أن يتم بالتقليد، وإنما بالاستفادة من الآخر والتعلم منه دون الاكتفاء بذلك، لأن المبدع الحقيقي يضع في اعتباره المتلقي الذي يتوجه إليه أولا، فيحاول أن يخاطبه بلغة يتفاعل معها، ويدهش لها، فتمتعه، عندئذ، يبدو شريكا معه، يضفي على العمل الأدبي الكثير من ذاته.‏
          إننا نعتقد أن المبدع الحقيقي هو الذي يشغله الإبداع، بالقدر الذي يشغله هم الإنسان والوطن، لذلك يشغله كيفية توصيل هذا الإبداع إلى متلقيه أولا ثم إلى المتلقي العالمي ثانيا، لهذا يحاول بعض الكتاب أن يكتبوا بأسلوب الآخر ظنا منهم أنهم ينالون رضاه وجوائزه، ناسين أن هذا الآخر لن يعجبه إلا ما ينطق بخصوصيته، أي يتمتع بمحلية تكسبه نكهة خاصة، وتمده بجماليات مختلفة عن جمالياته، لأنها نابعة من بيئة بعيدة عن بيئته، وعن ذات تختلف عن ذاته، ينطق بأسلوبه الخاص، الذي يمتلك ملامح عامة مشتركة بينه وبين الآخر، لكنه يكتسب سمات خاصة تجعل إبداعه متميزا، يجذب الآخرين إليه، بل يطلعهم على أساليب جديدة، كما يطلعهم على عوالم خاصة، تهبها هوية متميزة، وبالتالي تلقى إقبالا لما تملكه من هذه السمات المتفردة.‏
          سنتوقف عند نموذج من تأثر الرواية العربية، بأسلوب " الرواية الحديثة" وهو رواية "ما تبقى لكم" للشهيد غسان كنفاني الذي تأثر برواية وليم فوكنر "الصخب والعنف" بطريقته الخاصة، التي تمزج التأثر الأسلوبي بالابتكار النابع من خصوصية الهم الوطني والإنساني.‏
          رواية وليم فوكنر "الصخب والعنف"‏
          سنبدأ بالحديث عن رواية فوكنر، لنبين أهم ملامحها، وذلك بعد أن نعرّف بالروائي تعريفا سريعا.‏
          نبذة عن حياة وليم فوكنر:‏
          عاش الروائي (1897_1962) في ولاية المسيسبي (جنوب الويلايات المتحدة الأميركية) وقد نشأ وتعلم في بلدة أكسفورد، لكنه غادر الجامعة قبل أن يتم دراسته، ويبدو أنه في بداية حياته لم يفعل شيئا سوى التسكع والقراءة دون هدف، وعندما قامت الحرب العالمية الأولى، واشتركت فيها أميركا، لكن لم يتح له أن يلتحق بالجيش الأميركي، فتطوع في القوات الكندية.‏
          وفي عام (1920) انتقل إلى نيويورك وعمل فيها بائعا في مكتبة، استمر في عمله بعض الوقت، ليتركه عائدا إلى أكسفورد، ويبدو أن النتيجة الوحيدة النافعة لعمله هناك هي اطلاعه على الجو الأدبي فيها، وفي أكسفورد عمل مديرا للبريد، وقد كانت إدارته فاشلة، لذلك قدّم استقالته، وقد قيل بأنه فُصل عن عمله.‏
          بدأ حياته الأدبية شاعرا، إلا أن شعره لم يلقَ الاهتمام الكافي، فاتجه إلى الرواية بتأثير صديقه (أندرسن) وقد كان آنذاك في قمة مجده الروائي.‏
          لم تلقَ روايات فوكنر الأولى نجاحا، إذ لم يعجب بها النقاد ولا القراء، ومع ذلك استمر في الكتابة التي تمتعه، وقد اكتشف أن مسقط رأسه يستحق الكتابة، وأنه لن يستطيع طيلة حياته الانتهاء من الكتابة عنه، ثم اتجه إلى كتابة النصوص السينمائية (سيناريو) في هوليوود، وقد كان لهوليوود تأثير كبير على الكثير من الأدباء، لكن فوكنر استطاع أن يتجنب هذا التأثير عن طريق اجتنابه لحياة هوليوود الاجتماعية، فقد كان يكتب هذه النصوص بعيدا عن دافع التحدي الفني، لأنه لم يكن راغبا في جعل هذه الكتابة أساسا لحياته ومصدر رزقه الدائم، بل رآها عملا حرفيا يؤديه بأمانة، بصورة مؤقتة، كي يتمكن من العودة إلى بلده.‏
          وحين عاد إلى بلدته (أكسفورد) عاش فيما يشبه العزلة، ممضيا وقته بين عائلته في بيته العتيق ومزرعته الصغيرة، وقد كان يرفض الأحاديث الصحفية ولا يتبادل الرسائل إلا نادرا، وحتى الكتابة لم يكن مكثرا منها!‏
          رواياته:‏
          إن روايات فوكنر ليست سهلة، ولا نعتقد أنها ستكون كذلك في يوم من الأيام، والسبب أنه ابتدع أسلوبا روائيا خاصا، يعتمد تيار الوعي، فقدّم روايات مهمة، استحق عليها جائزة (نوبل) عام (1950) عندئذ ترك حياة العزلة، وبدأ حياة اجتماعية مليئة بالأسفار.‏
          لو تأملنا خلفية رواياته لوجدناها محلية، لكن موضوعاتها الرئيسية تتخذ ملامح عامة ذات طابع شمولي إنساني.‏
          إننا نجد في رواياته كل ما نريد أن نعرفه عن الجنوب، ونحن بصفتنا متلقين لا يهمنا كثيرا إذا كانت الصورة التي يضعها فوكنر للجنوب دقيقة أم لا، صحيح أن الحياة اليومية للجنوب أكثر مسالمة مما قد نلمسه في رواياته ذات الطابع العنيف، لعل أفضل ما قدّمه فوكنر ليس صورة عن الجنوب وإنما أزمة الجنوب، إذ استطاع أن ينفذ إلى أعماق العقل الجنوبي وإلى أعماق القلب الإنساني، فابتعد بذلك عن الواقعية الفوتوغرافية، ليصل إلى الواقعية الجديدة، فيتناول بالنقد الحياة الحديثة التي فُرضت على الجنوب كما ينتقد "انحلال القيم الخلقية تحت ضغط الروح التجارية، الثمن الكبير (الذي يدفعه الإنسان) ومخاوف العزلة في مجتمع فقدت شخصية الفرد فيه سماتها الرئيسية، انهيار الحساسية الفردية وطيبة الناس أمام الجشع والسوقية...."(6)‏
          رواية "الصخب والعنف":‏
          تعد رواية "الصخب والعنف" أولى روايات وليم فوكنر، نشرها عام (1929) لاقت إقبالا كبيرا من النقاد فقد عدّت رواية الروائيين، في تركيبها الفني الذي مازال في جماله وبراعته معجزة من معجزات الخيال ، دون أن يعني هذا القول أنها بعيدة عن المؤثرات الأدبية والعلمية الأخرى خاصة منجزات علم النفس الحديث (على يد كل من فرويد ويونغ) فقد استطاع فوكنر أن يسرد الأحداث على عدة مستويات من الزمن والوعي، لذلك غابت علامات الترقيم عن تياراته، في كثير من الأحيان.‏
          ولو تأملنا المؤثرات الأدبية في هذه الرواية لوجدناها متأثرة بالاتجاهات الأسلوبية التي شاعت بين العشرينيات والثلاثينات من هذا القرن، وهي فترة من أهم الفترات وأخصبها في تاريخ الرواية، لا لظهور عدد من الروائيين الكبار فيها فحسب، بل لكثرة التجارب، ونجاح الكثير منها في فن القصة وغيره، ففي هذه الفترة لمع اسم شعراء أثروا في تغيير أشكال الأدب لا في الشعر فقط بل في النثر أيضا (إزرا باوند،و ت. س. إليوت) بالإضافة إلى منجزات روائية، خاصة في الرواية الحديثة، مثل رواية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، "ويوليسيز" لجيمس جويس، حيث أعطي اللاشعور أهمية قصوى.‏
          ولو توقفنا عند عنوان الرواية "الصخب والعنف" للاحظنا أنه قد أخذ من مقطع في مسرحية شكسبير "مكبث" على عادة الروائيين الحداثيين الذين يعمدون في بناء رواياتهم على أساطير قديمة، أو مقاطع مسرحية يونانية أو غير ذلك من التراث الأدبي والفكري العالمي.(7)‏
          وفوكنر لم يكتف بأن يأخذ العنوان من مسرحية شكسبير، وإنما حاول أن يجسد في روايته إحدى أفكار شكسبير التي وردت في المسرحية عبر شخصية (بنجامين) المعتوه.‏
          "غدا، وغدا، وغدا،‏
          وكل غد يزحف بهذه الخطى يوما إثر يوم،‏
          حتى المقطع الأخير من الزمن المكتوب،‏
          وكل أماسنا قد أنارت للحمقى المساكين‏
          الطريق إلى الموت والتراب. ألا انطفئي يا شمعة وجيزة!‏
          ما الحياة إلا ظل يمشي، ممثل مسكين‏
          يتبختر ويستشيط ساعته على المسرح،‏
          ثم لا يسمعه أحد: إنها حكاية‏
          يحكيها معتوه ملؤها الصخب والعنف،‏
          ولا تعني أي شيء (8)‏
          وبذلك تبدو لنا رواية "الصخب والعنف" حكاية تضطرم بالحياة كما تضطرم بالموت، ولاشك أن أي تلخيص لها، سيؤدي إلى خلخلة ذلك الفضاء الفني الذي أقامه فوكنر، ولكن لحسن الحظ أن المؤلف نفسه قدّم لمتلقي روايته ملحقا، وضع كمقدمة في الطبعات الحديثة، شرح فيه أهم الحوادث، وعرّف بأهم الشخصيات، وإلا لن يكون تلخيص الرواية سهلا على الإطلاق.‏
          تحكي رواية "الصخب والعنف" عن رابطة الدم والوراثة وتجسد علاقات عائلية بالغة الاضطراب، إذ تقدم لنا حكاية بيت عظيم في حالة انهيار، فعائلة (كومبسون) التي أنجبت حاكما وجنرالا، أصبح لها وضع شبه أرستقراطي في عالم (جفرسون) وقد اشترى أحد أجداد الأسرة ميلا مربعا من الهنود الحمر (ميل كومبسون) الذي كوّن فيما بعد جزءا كبيرا من بلدة جفرسون، والرواية تحكي عن عائلة عريقة كان أحد أجدادها جنرالا عظيما، وهي تتناول البقية الضعيفة من آخر أجيال هذه العائلة ، وأفرادها هم: (كونتن) الذي انتحر، وكادي (كاندس) التي أعلنت ثورتها على القيمالأصيلة ومرّغت شرفها في أحضان الخطيئة، لذلك تعيش منفية عن البيت، أما (جاسن) فقد أصبح تاجرا صغيرا بلا إحساس، و بنجامين (بنجي) الأبله، والوالدان: أب كثير المواعظ، منعدم الفعالية، والأم كثيرة الشكوى، تعاني من حالات كآبة لا سبب لها،وهما يصنعان جوا بائسا للعائلة، ولا ينسى الكاتب عامل الوراثة الذي يدفع الأبناء إلى دروبهم الصعبة المرعبة.‏
          إن الأحداث في هذه الرواية لا تتبع التسلسل الزمني، وبذلك بات "تشظي الزمن" أحد العوائق الرئيسية في فهم الرواية، واستيعاب بنائها، لذلك على المتلقي أن يتعامل معها بتأن وصبر، حتى تتعود العين والعقل على خصائص بنائها الفني، فهي حين تقرأ بطريقة صحيحة قادرة على منحنا إثراء غير عادي، كما أنها تجعل القارئ يستغرق في تلك العملية الشديدة الإثارة، وهي عملية الخلق الفني على حد قول جبرا إبراهيم جبرا.‏
          نلمح في هذه الرواية إسقاطا لتاريخ أسرة المؤلف على الرواية، فقد كان فوكنر ينتمي إلى أسرة غنية في الماضي ثم عاشت على الكفاف، لهذا سينتهي الأمر بعائلة (كومبسون) إلى بيع الأرض ثم بيع المنزل، وتحويله إلى فندق صغير، والآن لنتوقف عند شخصياته في هذه الروائية:‏
          كادي: من المعروف أن فوكنر يولي اهتمامه لردود فعل الشخصيات نحو الأحداث أكثر مما يوليه للقصة بشكلها التقليدي، فهو يعطي أهمية نحو سلوك كادي غير المسؤول ونحو زواجها، ورغم أن المؤلف لا يطلعنا على أعماق كادي إلا أنها تصبح الشخصية المحورية في الرواية، تسيطر بصفتها (شخصية) في الفصلين الأولين، وكمجموعة من الصور والأفكار ثم تبدو شخصية ذات صوت خاص يناقض صوت جاسن، في الفصل الثالث، وبذلك تحولت (في الفصول الثلاثة حيث قدّم المؤلف إخوتها: بنجي، وكونتن، وجاسن) إلى فكرة متسلطة على كل منهم، وإن كان كل واحد منهم يخضع لهذه الفكرة بطريقته الخاصة، لكن جميع هذه الأساليب تتصف بالأنانية والذاتية، إذ لم يكن أحد منهم قادرا على حبها، وكل واحد منهم كان يريد أن يفرض عليها، بسبب أنانيته، نمطا من السلوك القسري الذي يرضيه هو فقط، لذلك ثارت كادي ضد هذا التسلط من خلال ممارسة حريتها ورفضها للقيم التي تعتز بها الأسرة كالشرف، لكنها ظلت دائما محاصرة ومشدودة إلى أسرتها، لكون ابنتها (كونتن) تعيش شبه رهينة لديهم، لكن ابنتها تترك الأسرة لتتبع طريق أمها، ومهما كانت تفاهة الشخص الذي هربت معه (عامل في سيرك) فإنه يصلح رمزا للخلاص من أسرتها، وأنها لن تعيش محاصرة في جو الأسرة الموبوء بالأنانية.‏
          وهكذا جسدت لنا كادي وابنتها، حتى لو أخطأتا الطريق، توق المرأة في البحث عن الحب، أما شخصية الخادمة الزنجية (دلزي) التي قدمت في الفصل الرابع من الرواية فقد كانت خير تجسيد لمعاني الحب الشامل، والتي استطاعت أن تشكل النقيض لفقدان المقدرة على الحب وانتصار الأنانية في نفوس أفراد عائلة كومبسون.‏
          بنجي: معتوه يسمع، لكنه لا ينطق، إنه لا يتواصل مع العالم الخارجي إلا بالصراخ والعويل، وحين يروي الأحداث لا يستطيع أن يرتبها ترتيبا زمنيا، لهذا ما حدث قبل عشرين سنة، وما حدث اليوم ، وكلاهما متساوي الأهمية في سرده، متساوي الوضوح، وكل شيء يذكره كأنه يراه أول مرة، بكل ما فيه من جدة وبراءة، فبات الفصل المخصص له (الفصل الأول) أشبه بحكاية يحكيها معتوه، ليست للكلمات عنده مدلول رمزي، لذلك نجد العمليات الذهنية لديه سلسلة من الانطباعات الحسية المسجلة مباشرة، حيث لا يلعب الذكاء دور المنظم والمفسر، إنه تعبير خالص عن المحسوسية المطلقة التي لا مكان فيها للتجريدات، وخاصة ذلك التجريد المسمى بالزمن، فبالنسبة إلى بنجي يبدو الحاضر والماضي شيئا واحدا، فما حدث منذ ثلاثين عاما له نفس الوضوح والحيوية لما يحدث الآن، فالمشاهد اليومية تستدعي مثيلاتها في الماضي، وقد ميّز فوكنر هذه الانتقالات بتغيير نوع الحروف (باستخدام الحرف المائل، لكن المترجم استخدم تقنية تغيير لون الحرف) يقول بنجي، في عيد ميلاده الثلاثين، متحدثا عن أخته (كادي) التي مضى على تركها للبيت ما يقرب من عشرين سنة "وجعلت أسمع الساعة، وأسمع كادي واقفة خلفي، وأسمع السقف. السماء مازالت تمطر قالت كادي... أكلت بعض الكعك، وجاءت يد "لستر" وأخذت قطعة أخرى، وجعلت أسمعه يأكل، ونظرت إلى النار..."(9)‏
          إن الفترة الزمنية بين جملة "مازالت تمطر..." و "أكلت بعض الكعك" ما يقرب من عشرين سنة، من هنا تتأتى صعوبة هذه الرواية، خاصة أننا نجد أنفسنا أمام شخصية بدائية تتعامل بالبراءة الأولى مع الشخصيات والأشياء، ولعل الإنجاز الهام في هذه الرواية محاولة الدخول إلى أعماق هذه الشخصية وتسليط الأضواء عليها بلغة تقارب المحسوس (أشكال ومسموعات وروائح) لتجسد بدائية الشخصية، فهو كما رأينا في المشهد السابق يسمع السقف.لا صوت المطر، لأنه يفتقد القدرة على تحليل الأصوات، وفهمها.‏
          كونتن: طالب جامعي، باع والده قطعة أرض كي يتم تعليمه في جامعة هارفرد، تسيطر عليه القيم المجردة على نقيض أخويه (بنجي وجاسن) فقد سيطرت عليه فكرة الشرف، أي شرف الأسرة الذي فقدته حين فقدت أخته كادي شرفها، فكان مؤرقا بفكرة استعادة الشرف أو الحفاظ عليه، وحين يجد أخته تمارس حياتها بعيدا عن هذه القيم، يقرر الموت، لذلك تسيطر عليه فكرة تجريدية أخرى: هي الزمن، إذ يحس بعبثية الزمن وبالتالي بعبثية الحياة الأمر الذي يؤدي به إلى الانتحار، لهذا بدأ الفصل المتعلق بكونتن بهاجس الزمن"كانت تلك ساعة جدي، وعندما أهدني إياها أبي قال: إني أعطيك ضريح الآمال والرغبات كلها، وإنه لمن المناسب إلى حد العذاب أن تستخدمها لتكسب النهاية المنطقية الحمقاء لاختبارات الإنسان جميعها، والتي لن تنسجم مع حاجاتك الشخصية أكثر مما انسجمت مع حاجات جدك أو أبيه، إني أعطيك إياها لا لكي تذكر الزمن بل لكي تنساه بين آونة وأخرى، فلا تنفق كل ما لك من نفس محاولا أن تقهر الزمن، لأن ما من معركة ربحها أحد..." (10)‏
          أمام هذا الإحساس الضاغط بالزمن، لابد أن يتجسد أمامه العبث، خاصة حين تنهار قيم الشرف التي يؤمن بها، هذه القيم التي تجعل للحياة معنى، يراه متجاوبا مع مغزى الوجود الإنساني، لهذا نجد الشخصية (في الفصل الثاني) في آخر يوم لها بعد أن أزمعت على الانتحار، وقد استطعنا أن نتابع كونتن، عبر تدفق تيار وعيه، فنتعرف على أفكاره، ذكرياته خاصة مع أخته، وما حدث له مع الطفلة الإيطالية الضائعة وكيف تعرض لإساءة الظن من قبل أخيها، كما تعرفنا على ملامح من علاقته مع فتاة إيطالية، وكما يقول جبرا إبراهيم جبرا "والمعجزة الكتابية هنا هي في الطريقة التي يعرض فيها المؤلف أحيانا ثلاث طبقات من الوعي معا، ويحمل القارئ زمنيا، جيئة وارتدادا بينها، ويبقيه دوما على أكثر من مستوى زمني واحد، في طفرات تجعل للحدث الآتي متوازيات من الأماسي الماضيات تتواشج به عن مغزى أو عبث."(11) وقد سيطرت على الشخصية فكرة الشرف، إلى درجة تبدو جزءا من أحلام كونتن وتهيؤاته، وأوهامه الفظيعة التي ينفر منها كل الناس، إنه يريد الحفاظ على جسد أخته بأية صورة من الصور حتى بتخيل (الزنى بالمحرمات) ولهذا بدا عاشقا للموت لأنه لم يستطع حماية شرف أخته، التي انجرفت وراء الأفكار الحديثة التي تركز على الحرية الجسدية والعلاقات المادية ولا تعير اهتماما للقيم الإنسانية، فرأى عندئذ القيم العليا للأسرة منهارة أمام زحف القيم المادية التي هي قيم الشمال المنتصر، على قيم الجنوب المنهزمة.‏
          جاسن: تاجر صغير، يعدّ خير تجسيد لزحف القيم المادية على الأسرة، لذلك نجده يرتكب كل الموبقات فيسرق أمه، كما يسرق أخته التي كانت ترسل لابنتها (التي أسمتها باسم أخيها: كونتن) مبلغا شهريا من المال، يراكم المال، يخصي أخاه بنجي ويضعه في مصحة للأمراض العقلية، يعامل الخدم الزنوج معاملة قاسية، يبيع البيت، يعاشر مومسا... حتى الزمن ابتعد عن تلك الفكرة التجريدية المأساوية التي وجدناها لدى أخيه (كونتن) ليصبح زمن التقويم (روزنامة) التي تحدد مواعيد قبض المال أو دفعه، أو لتدل على مواعيد فتح دكانه أو إغلاقه.‏
          إنه إنسان مجرد من العواطف، لذلك حين ينتحر أخوه (كونتن) لا يحزن عليه، وإنما يحزن على النفقات المالية التي أنفقت عليه، وعلى الأرض التي بيعت من أجل تعليمه، إنه يتاجر بكل شيء حتى إنه يطلب من أخته (التي يراها عاهرة) مالا ثمنا لرؤية ابنتها، وهو مع كل ذلك يهتم بكلام الناس لهذا لا يسمح لأخته أن تدخل دكانه أمام الناس !! لكنه يسمح لنفسه بمعاشرة إحدى المومسات! إنه رجل التناقضات يضمر القذارة ويحاول أن يظهر أمام الناس بمظهر الرجل الشريف.‏
          في هذا الفصل يبدو لنا العالم الداخلي أكثر انتظاما، إنه مجموعة ذكريات تقوم في معظمها على الحوار بينه وبين أخته وبينه وبين أمه ثم بينه وبين الخادمة دلزي، فيبدو مجموعة من المشاهد الحوارية، مما يجعله قريبا من السيناريو.‏
          وقد امتدت هذه الخاصية إلى الفصل الرابع الذي وجدناه مخصصا للخادمة الزنجية (دلزي) وإن بدا لنا هذا الفصل أكثر اقترابا من الرواية التقليدية لاعتماده السرد والحوار، وفي هذا الفصل نلمح تعاطف المؤلف مع معاناة الزنوج، فيسبغ على (دلزي) صفات فيها الكثير من القداسة والدقة والشاعرية كما يقول جبرا إبراهيم جبرا إذ يصفها بقوله: "كانت امرأة ضخمة فيما مضى، ولكن هيكلها الآن ينتصب، يكسوه إهاب واسع غير محشو...كأن العضل ولفائف اللحم كانت يوما شجاعة أو جلدا أتت عليه الأيام والسنون فلم يبق إلا الهيكل العظمي الذي لا يقهر منتصبا كالخرائب ...ويعلو جميع ذلك وجه متداع يوحي للرائي بأن عظامه خارج اللحم، يرتفع إزاء النهار الهتون بتعبير في القسمات قدري يماثل في الوقت نفسه خيبة طفل ودهشته..."(12)‏
          إننا أمام صفات توحي بعظمة الشخصية، وصلابتها، في حين لم تظفر سيدة البيت الارستقراطية سوى بأوصاف سريعة تثير الملل والضيق، وتوحي بهشاشتها!‏
          الرمز: تمثل لنا أسرة كومبسون مجتمع الجنوب وقد انهار أمام قيم الشمال، فجسد جاسن (بحقارته وأنانيته وساديته وماديته) قوى التصدع الناشئة عن الأسرة العريقة نفسها، كما تمثلها كادي في شكل آخر هو الانطلاق الجنسي، أما كونتن فيمثلها بعشقه للموت وانتحاره، والأب بتهربه من الواقع والأم بكآبتها.‏
          ويمكن أن نجد في كل شخصية من الشخصيات الأربع (جاسن، كادي، بنجي، كونتن) رمزا لأحد مستويات اللاوعي في الإنسان التي حدثنا عنها فرويد.‏
          بنجي: الإنسان الأول، يمثل "الهو" أي البدائية والبراءة المطلقة، لذلك تجسد في مجموعة من الأحاسيس فقط‏
          كونتن: "يمثل الأنا الأعلى" (العقل الأعلى) أي الأخلاق والقيم والضمير.‏
          جاسن: يمثل "الأنا "العقل الأدنى"(الأنانية والتوفيق بين الهو والأنا الأعلى).‏
          كادي وابنتها (كونتن) يمثلان الطاقة الجنسية (الليبيدو)‏
          أما البيت العريق، الذي يحتوي كل القيم الرفيعة المتوارثة عبر الأجداد، فقد انهار بانهيار أهله، لهذا يتعرض البيت للبيع ويتحول إلى نزل يسكنه الغرباء، فقد انتهى ذلك العهد الذي كان البيت يجسد قيم الحب والأمان والعلاقات الحميمة، إذ سطت القيم المادية الشمالية على كل شيء، وبذلك تغيرت ملامح البيت الإنسانية، ليتحول هذا البيت إلى مكان عام موحش، لا يعرف دفء العلاقات الإنسانية، كأن الكاتب يريد أن يقول إن أي بيت لا يسوده الحب وتطغى الأنانية عليه، لابد أن ينهار ويمتهن فيسكنه الغرباء.‏
          إن انهيار المنزل العريق رمز لانهيار الجنوب بأسره أمام قيم غازية، تدمر إنسانية الإنسان، وتشيع الفساد في حياته، فقد باتت القيم الاستهلاكية هي أساس الوجود الإنساني، ومثل هذه القيم لا يمكن أن نجدها في بيت أسرة عريقة.‏
          اللغة والبناء الفني: تقترب اللغة، في هذه الرواية، (في الفصلين الأولين) من لغة الشعر، خاصة أنها كانت تعبر عن عوالم داخلية، في أغلب الأحيان، لا تستطيع اللغة العادية توصيل اضطرابها وشفافيتها، وتوثبها من زمن لآخر، كما لا تستطيع تجسيد الحالة النفسية للشخصية المأزومة إلا عبر لغة مكثفة غنية بإيحاءاتها شفافة في دلالاتها.‏
          وقد بدت لنا اللغة متنوعة تنوعا مدهشا، يتناسب وتنوع الشخصيات في هذه الرواية، فشخصية المعتوه تسيطر على تيار وعيه لغة المحسوسات والمرئيات والمسموعات، (أحب ثلاثة أشياء: زهر العسل، النار، كادي) في حين سيطرت على تيار وعي (كونتن) الطالب المثقف لغة المجردات (الشرف، والزمن) نظرا لمجموعة القيم التي يؤمن بها، والتي أحس بالانهيار لتداعيها.‏
          أما لغة جاسن، فقد بدت لنا لغة العالم الاستهلاكي، إذ ابتعدت عن لغة الشعر لتسقط في لغة الأرقام، ولذلك وجدناه يحاور العالم الخارجي أكثر مما يحاور أعماقه، لأنه عبر هذا الحوار يستطيع إنجاز مكاسب مادية تجعله يبز يهود نيويورك على حد قوله!‏
          إذا امتزجت في هذه الرواية طريقتا التعبير: الحديثة والتقليدية، من أجل أن يستطيع الكاتب التعبير عن عوالم شخصياته بشكل أفضل،وبذلك يبدو لنا أكثر اقترابا من التجسيد الحقيقي للشخصية، وربما لهذا السبب فصل فوكنر بين شخصياته، ولم يمزج تداعياتها، بل جعل لكل شخصية فصلا خاصا بها، ومنحها يوما تفضي به عن ذاتها:‏
          الفصل الأول: بنجي (تاريخ 7 نيسان 1928)‏
          الفصل الثاني: كونتن (تاريخ 2 حزيران 1910)‏
          الفصل الثالث: جاسن (تاريخ 6نيسان 1928)‏
          الفصل الرابع: الراوي يتحدث عن دلزي (8نيسان 1928)‏
          بالإضافة إلى هذا الفصل بين الشخصيات حاول المؤلف أن يساعد المتلقي بوسيلتين شكليتين تبرزان مستويات الزمن والوعي، أي تنسجمان مع المضمون وتحاولان تنظيمه:‏
          الأولى: استخدام الحرف المائل (italic) باللغة الإنكليزية، كلما تحول السرد فجأة، ولو كان في وسط الجملة، من الحاضر إلى الماضي، أو من الماضي أو ما قبله، أو من القول اللاواعي، أو من الحدث الجاري إلى الحدث المتذكر، في الترجمة العربية استخدم المترجم الحرف الأسود العريض ليقوم مقام الحرف المائل في اللغة الإنكليزية.‏
          الثانية: استخدام الترقيم أو إهماله، وفق حاجة المؤلف، فكلما انتقل الحدث المباشر في سيرورة الرواية إلى الحدث المستذكر الذي أصبح انسيابا ذهنيا (بعد أن كان تسلسلا جسديا) انعدم الترقيم، لأن الترقيم يوحي بالفواصل المنطقية، وفي تيار الوعي تنساب الذكريات (بما فيها من أفعال متداخلة وأقوال) دون فاصل أو نظام منطقي.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

            رواية "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني
            نبذة عن حياة غسان كنفاني:‏
            ولد غسان كنفاني في عكا (1936) لكنه عاش مع أسرته في (المنشية) في يافا، ومع النكبة انتهت الطفولة السعيدة لتبدأ رحلة الشقاء، إذ بات مسؤولا عن عائلته الكبيرة اللاجئة إلى لبنان أولا، ثم إلى سورية، فعمل في مهن شتى (عاملا في أحد المطاعم، ثم عاملا في مطبعة، وفي كتابة الشكاوى على أبواب المحاكم...) لكنه استطاع أن يتابع دراسته، رغم كل شيء، وحين حصل على الشهادة الإعدادية عمل معلما في مدارس وكالة الغوث، دون أن يتخلى عن متابعة تعليمه مساء، فاستطاع متابعة دراسته الثانوية والتسجيل في جامعة دمشق، في قسم اللغة العربية، وفي عام (1955) انتسب إلى حزب القوميين العرب، ثم سافر إلى الكويت ليعمل فيها خمس سنوات في تدريس مادتي (الرياضة والرسم) وقد عانى فيها من الغربة والعزلة والمرض (داء السكري) ثم تركها إلى بيروت ليتفرغ للعمل الثوري ضد الصهاينة، حيث وجدناه يناضل عبر الكلمة المكتوبة (في الأدب وفي الصحافة) وقد انضم إلى هيئة تحرير مجلة "الحرية"، وحين انشقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن حزب القوميين العرب، شارك في تشكيل برنامجها السياسي وصياغة بياناتها، وأصدر مجلة الهدف (الناطقة باسمها 1969) وقد أحست الصهيونية بخطر غسان كنفاني عليها، فاغتالته، مع ابنة أخته، وذلك بنسف سيارته (1972)‏
            وهكذا كانت سيرة حياته سيرة نضال بدأ منذ خروجه من فلسطين إلى أن توجت باستشهاده.‏
            أعماله الأدبية:‏
            جمعت أعماله الأدبية والنقدية إثر استشهاده في أربعة مجلدات (المجلد الأول لأعماله الروائية، والمجلد الثاني لأعماله القصصية، والمجلد الثالث لأعماله المسرحية والمجلد الرابع لدراساته الأدبية)‏
            نشر غسان كنفاني روايته الأولى "رجال في الشمس" (1961) التي تتحدث عن معاناة الفلسطينيين الثلاثة الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة (أبو القيس، مروان، أسعد) وتبرزهم في لحظة الهرب إلى الكويت عبر الصحراء في خزان شاحنة، وقد مات الفلسطينيون الثلاثة، في الصحراء على حدود الكويت، دون أن يجرؤوا على دق جدران الخزان.‏
            في رواية "ما تبقى لكم" (التي كتبها عام 1964، ونشرها عام 1966) التي تتحدث عن معاناة أسرة فلسطينية مزّقتها نكبة فلسطين (1948) فباتت الأم في بلد (الأردن) وولداها (حامد ومريم) في بلد آخر (غزة) في حين استشهد الأب في فلسطين.‏
            يقرر البطل الفلسطيني (حامد) اللجوء إلى أمه في الأردن عبر صحراء النقب التي يحتلها العدو الصهيوني، وذلك بعد أن فقدت أخته (مريم) شرفها، وحملت سفاحا، فاضطرت للزواج من رجل نتن متزوج ولديه خمسة أطفال يدعى (زكريا)‏
            هنا لا نجد الصحراء الفلسطينية التي لجأ إليها (حامد) تخبئ له الموت،وإنما على النقيض من ذلك تساعده على اكتشاف ذاته وتطور وعيه إلى درجة تسمح له بالاصطدام بعدوه الحقيقي (الجندي الإسرائيلي)‏
            قدم لنا غسان كنفاني الشخصيتين الرئيستين (حامد ومريم) عبر تيار الوعي الذي يختلط فيه الماضي بالحاضر والحلم بالمستقبل، وتختلط فيه أيضا أصوات هاتين الشخصيتين إلى درجة نجد من الصعوبة التمييز بينهما أو الحديث عن إحداهما دون أن نتطرق للحديث عن الأخرى، لذلك سنحاول تقديم هذا الوعي بشكل منظم، لكننا لن نستطيع فصل هاتين الشخصيتين إلا فصلا شكليا وهميا، إذ سنلاحظ تلاحما بينهما في المعاناة وفي الأفكار والهواجس ، بل سنجد لحظة الفعل الدرامي في الرواية، تكاد تكون واحدة.‏
            حامد: تعد الشخصية الرئيسية في الرواية، يعمل مدرسا في مدارس وكالة الغوث، لجأ إلى غزة مع أخته (مريم) التي تكبره بعشر سنوات، بعد أن ضاعت أمه في زحمة اللجوء (1948) واضطرت إلى النـزوح بعيدا عن أولادها، مما يؤدي إلى انهيار الأخت وضعفها أمام أول رجل يحاول استغلالها، وقد وجدنا حامد بعد زواج أخته من زكريا النتن، الذي وشى بالفدائي (سالم) يغمره إحساس بالعار، إذ فقد الوطن والأم وشرف أخته في وقت واحد، حتى زواج مريم من زكريا لم يرضه، فقد أحس أن مثل هذا الزواج لا يشرفها، فقد أصبحت زوجة ثانية لرجل نتن في أخلاقه ووطنيته، و بالإضافة إلى كل ذلك لديه خمسة أطفال.‏
            حين يرحل (حامد) إلى الصحراء يجلله العار (عاره الشخصي وعاره الوطني) فقد ترك أخته كارها لزواجها ولعارها، متألما لحالها الذي آلت إليه بسبب النكبة واستشهاد خطيبها (فتحي) كما ترك الوطن ينتهكه الأعداء الصهاينة مدة ستة عشر عاما (كتبت هذه الرواية 1964) لذلك يضيق بعاره "وأخذ يغوص في الليل، مثل كرة من خيوط من الصوف مربوط أولها إلى بيته في غزة، طوال ستة عشر عاما لفوا فوقه خيطان الصوف حتى تحول إلى كرة، وهو الآن يفككها تاركا نفسه يتدحرج في الليل"(13)‏
            نلمح هنا إحساس الفلسطيني بالتشيؤ (فقد كان شبيها بالكرة) كما أن هناك إحساسا بالحصار (لفوا فوقه خيوط البؤس) لكنه حين تحرك ووصل إلى أرض فلسطين (صحراء النقب)، أثناء طريقه إلى أمه في الأردن بدأ يحس بتحرره من هذه الخيوط، غير أن الأمور تبدو غير واضحة في ذهنه، لهذا استخدم الراوي فعل (يتدحرج) الذي يوحي بالسير على غير هدى.‏
            إذا بتحرك (حامد) عبر الصحراء التي لم يستطع أحد أن يسير فيها طوال ستة عشر عاما، (كتبت الرواية عام 1964) يتحرر الفلسطيني من تردده وانتظاره وعدم مبالاته، ويكتشف في الصحراء ذاته، فيحس أنه قوي وضعيف في آن واحد، ويعرف حقيقة شخصيته التي بناها الوهم، وأن إحساس العجز والفشل دفعه للاتكاء على الوهم: الأم، طوال تلك السنين كانت الأم عنده تمثل "فارسا وهميا على استعداد ليشرع سيفه في وجه أي عقبة تقف أمامك، وعشت طوال عمرك متكئا عليها، فما الذي تريده الآن من هذا الفارس الوهمي الذي أعطيته من فشلك وعجزك حصانه الخشبي التافه."‏
            وحين يكتشف (حامد) في الصحراء حقيقة أوهامه التي هي أشبه بحصان خشبي لا فائدة منه، يبدأ يتساءل: "من أنت" يوحي لنا ببداية تفتح وعي الذات، الذي بدأ يتأسس في الصحراء التي هي الأرض الفلسطينية، عندئذ لم يعد الزمن نعشا، ولم يعد الفلسطيني كرة تتقاذفها الأيدي تارة وتلف حولها خيوط البؤس تارة أخرى، بدأ يحس بهويته، أي بإنسانيته، فتخلص من أوهامه، وبدأ يرفض حالة الذل والعار التي اعتاد عليها في حياته السابقة، وصار يستعيد ذكرى صديقه (سالم) الذي قاتل الصهاينة وحرّضه على النضال دون أن يستجيب له،.إنه يتذكر وشاية زكريا به، ثم استشهاده.‏
            إذا في الصحراء يتنكر لماضيه الذليل في المخيم، أما ماضيه المجيد الذي صنعه استشهاد (سالم) وذكريات صداقته له فقد تمسك بها، لتكون دليله في مواجهة عدوه على أرضه، لذلك سيكون أمرا طبيعيا تكرار تداعياته حول استشهاد صديقه، وكيف كان يحرضه، وكيف غدر به زكريا، وتابع سلوكه الغادر، حين غدر بـ(حامد) أيضا وطعنه في شرفه.‏
            في الصحراء يواجه عدوه الحقيقي (المجند الإسرائيلي) عندئذ تبدأ مرحلة جديدة في حياته، تتسم بالفعل الحقيقي الذي يحقق عبره إنسانيته ووجوده، وفي لحظة الالتحام بالعدو، يتأكد (حامد) أنه أقوى من عدوه، إذ يستولي على مسدسه وسكينه، وتشهد الصحراء تفوقه على خصمه، إذ تقول: "لقد تحول انتظاره إلى مستنقع بلا قرار، وأضحى الزمن خصما فيما بدا (حامد) جامدا عاقدا العزم على البقاء هاهنا حتى النهاية، وكان يتفوق على خصمه بأنه لم يكن ينتظر شيئا، مثلي، بالنسبة لي كان يعني بقاء وليس عبورا، كان ضائعا هو الآخر، لكن ذلك لم يكن يعني بالنسبة له شيئا، ليس لأنه لا يعرف، ولكن لأنه لم يكن يريد، بعد، الذهاب إلى أي مكان، وقد حوصر بضراوة منذ أول الليل في هذه الرقعة التي أصبحت مملكته"(14)‏
            لم تعد الصحراء (التي وجدناها في المنفى، مقبرة الفلسطيني، كما رأيناها في رواية "رجال في الشمس"، فقد تحولت صحراء الوطن إلى (مملكة) تارة وإلى إنسان يحس بالفلسطيني فيجده متفوقا على عدوه حين وقف على أرضه، وقرر المواجهة، لذلك تعلن صحراء الوطن توحدها بالفلسطيني، حين ترك ذله وعاره، وقرر دخول أرضه ومعرفة ذاته بعيدا عن الأوهام التي تفقد الإنسان ثقته بنفسه.‏
            وعلى أرضه (الصحراء) يلتقي (حامد) بعدوه فيكتشف أن الحوار معه مستحيل، فهما لا يملكان لغة مشتركة، إذ شتان بين لغة المعتدي والمعتدى عليه، لذلك يبدو الحوار معه مضيعة للوقت، فيتأكد أن الحوار الوحيد الذي يمكن أن يجري بينهما هو حوار السلاح، وهو واثق من الانتصار على عدوه مادام يستمد من حب الأرض قوة تمنحه القدرة على التوحد بها وبالتالي مواجهة عدوه بصورة أفضل، إذ لم يعد أمامه شيء يخسره، فقد خسر كل شيء في الماضي: الوطن، والأم والأخت، والأصدقاء "ما تبقى لكم، ما تبقى لي، حساب البقايا، حساب الخسارة، حساب الموت، ما تبقى لي في العالم كله، ممر من الرمال السوداء، عبّارة بين خسارتين، نفق مسدود من طرفيه"‏
            يبدو لنا (حامد) محاصرا بالخسارة قبل أن يقف على أرضه ويواجه عدوه، عندئذ تستيقظ في أعماقه ذكرى البطولة والشهادة، تتولد في ذاته رغبة المقاومة والتحدي، فقد استعاد ثقته بنفسه، وقرر أن يتجاوز ضعفه ويطرد بؤسه وعاره، خاصة بعد أن أدرك أنه لم يعد يملك ما يخسره، يقول لعدوه (المجند الإسرائيلي الذي صادفه في الصحراء أثناء محاولته اللجوء إلى أمه): تعالَ أقل لك شيئا مهما ليس لدي ما أخسره الآن ، ولذلك فقد فاتت عليك فرصة أن تجعلني ربحا" لأن موت الإنسان، حين يكون مواجها لعدوه، لن يكون خسارة، على النقيض سيتحول الموت إلى حياة، وتتحول المواجهة مع العدو إلى ولادة جديدة في مستقبل قريب.‏
            إذا يجسد (حامد) نبوءة الفدائي الذي سيغامر بدخول الأرض المحتلة ليصل إلى أمه الحقيقية (الوطن) لينفض عن نفسه غبار الوهم الذي عشش في داخله طويلا، وقد تجسدت هذه النبوءة بعد سنة من كتابة الرواية (1965) يطلق الفدائي رصاصة الثورة، وهكذا نجد المبدع الأصيل يستشرف المستقبل ليسلط الضوء على القوى الإيجابية فيه ببين ركام السلبيات.‏
            زكريا: نلاحظ في الرواية وجود شخصية سلبية يمكن أن نعدها الشخصية المقابلة لـ(حامد بطل الحاضر) وللشهيد (سالم بطل الماضي) أو بالأحرى الشخصية النقيضة لهما (زكريا) إنها شخصية ثابتة مسطحة، لا تملك أعماقا أو صوتا خاصا بها، تتجسد فيها الصفات السلبية التي تنعكس على الشخصيات، فتؤذيها في حياتها وفي كرامتها وشرفها، وقد تسهم في عرقلة وعيها الوطني وتنغيص وجودها الإنساني، إنه صورة للذل وللنتانة، يرسم لنا المؤلف شكله الخارجي ليخبرنا عن أعماقه " ضئيل بشع كالقرد، وهو مجرد لطخة مصادفة في مكان غير مناسب".‏
            إننا لا نتعرف على زكريا إلا عن طريق تداعيات (حامد ومريم) إنه دنيء النفس لا يفكر إلا بملذاته الجسدية، يتزوج امرأة أخرى من أجل ذلك، رغم أن لديه خمسة أطفال من زوجته الأولى، والمرأة لديه وسيلة للمتعة فقط، لهذا يطالب مريم أن تجهض جنينها قائلا لها: "إنك لن تكوني طوال عام كامل امرأة ستكونين مجرد زجاجة حليب فقط"‏
            صحيح أنه يمارس مهنة التدريس في مدرسة واحدة مع حامد، إلا أننا نحسه غير مخلص لعمله، إذ يتهرب من الدوام بأعذار ملفقة، لذلك اجتمعت في هذه الشخصية صفات النذالة كلها، فهو لم يكتف بأن يكون سلبيا في حياته، بل تعدى ذلك إلى الخيانة، حين يشي بصديقه سالم ليحافظ على حياته.‏
            قد يكون (حامد) نقيضا للفدائي (سالم) الذي وعى طريقه في المقاومة منذ بداية الاحتلال، لكن (حامد) تجاوز تردده بفضل بؤس التجارب التي عايشها، وبدأ يدرك أن حقيقة الحياة تكمن في المعاني النبيلة التي يجسدها الفداء بأجلى صورة، لهذا رأينا في شخصية (زكريا) نموذجا نقيضا مدمرا لكل المعاني النبيلة، إنه العدو الداخلي الذي يماثل في بشاعته العدو الخارجي(المجند الإسرائيلي) لذلك ستقضي عليه (مريم) في اللحظة التي يقضي (حامد) على عدوه الإسرائيلي، لتستطيع الشخصية الفلسطينية متابعة طريقها نحو التحرر والتطور في بيئة نظيفة من الأعداء الداخليين.‏
            مريم: تعد هذه الشخصية موازية لشخصية (حامد) وهي فتاة في الخامسة والثلاثين من عمرها، أدت نكبة فلسطين إلى شقائها، فحين ضاعت يافا ضاع معها كل شيء: الأب قد استشهد مدافعا عن الأرض، وتضيع الأم عن أولادها فتلجأ إلى الأردن، وأما الخطيب فقد استشهد، لذلك لن نستغرب ذلك الإحساس المرعب بالزمن حتى صار مقبرة لأحلامها "علقت هذا النعش أمامي (الساعة) ليدق هذه الحقيقة الفاجعة على سمعي ليل نهار"‏
            إن الزمن الذي لا يجلب إلا المآسي للمرأة سيكون "نعشا" تدفن فيه أحلامها، لذلك باتت الساعة تذكرها بحقيقة أنها فقدت الأمل في هذه الحياة، ولن تستطيع العثور على زوج، لهذا تحس التمزق والحرمان، فالزمن يمسك بخناقها، معلنا موتها ، عبر دقات الساعة، وفقدان جمالها، لذلك لن نستغرب ارتماءها في أحضان (زكريا) المتزوج ذي الأطفال الخمسة، وحين تحمل سفاحا، تحدث أخاها (حامد) بعارها، فلا نجدها تتعرض للذبح أو الضرب، وإن تخيل ذاته، عبر تداعياته، أنه قد ذبحها وتخلص من عارها فهو لم يستطع أن يتخلص من إرثه الشرقي، وإن استطاع أن يعبر عنه عن طريق الحلم ليجد متنفسا له.‏
            وقد وجدناه يحاول إقناعها عبر المنطق بضرورة التخلص من الجنين مادام سيربيه رجل مثل (زكريا) لكنها ترفض، فيضطر عندئذ لتزويجها منه، ليتركها ويرحل إلى أمه في الأردن، بعد أن فقد كل شيء، يمكن للإنسان أن يعيش من أجله.‏
            يبدو لنا المؤلف غسان كنفاني متعاطفا مع الشخصية النسوية مبررا فعلتها على لسان أمها (التي جعل مريم تتخيلها، عبر تداعياتها) تقول لها:"أيتها المسكينة الصغيرة يا مريم! أي بؤس أمضيت فيه حياتك جعلك تقبلين بهذه النهاية! أنت يا وردة المنشية بأكملها، الطموحة المتعلمة، ذات الأصل والفصل! أي حياة تعسة جعلتك تقبلين زكريا بأعوامه كلها وزوجته وأولاده زوجا"‏
            إن مثل هذا الزواج غير المتكافئ لن يسعدها، إذ لا يمكن أن يمنحها السكينة، ويقضي على تمزقها وضياعها، لذلك لو كانت الأم (التي تصلح هنا رمزا للأرض) موجودة لما سقطت مريم، واضطر حامد للرحيل عبر الصحراء بحثا عنها، تقول مريم عبر تداعياتها "لو كانت أمي هنا لكان لجأ إليها، للجأت إليها أنا، لقلنا كلمة واحدة عنه"‏
            لهذا فشل زواجها، فقد أحست، منذ اليوم الأول، بالغربة، وبانفصالها الروحي عنه، فهو على نقيض أخيها (حامد) الذي تحس بتوحدها الروحي معه، لذلك كان غيابه مؤلما لها، حتى الروابط التي تربطها به نجدها تنمو حين يغادر البيت إلى الصحراء بدل أن تذوب، يساعدها الزمن في هذا التوحد (الساعة التي أتى بها حامد، والتي تشبه النعش) فتتابع خطواته في الصحراء، حتى باتت دقات الساعة صوت خطواته فيها، وبذلك تتغير دلالات الساعة حين يتحرك الفلسطيني باتجاه الفعل والالتحام بعدوه، فتتحول من نعش يضم جسد الفلسطيني إلى كائن نابض يتوحد بالإنسان.‏
            يبدو لنا توحد مريم بحامد، رغم المسافة التي تفصل بينهما، توحدا مدهشا، فحين يتعرض حامد للخطر بالتحامه مع العدو، تحس به مريم وتجتاحها رعشة مفاجئة، فتنتفض قائلة "لقد حدث شيء ما له في هذه اللحظة بالذات" وقد ساعدت تقنية تيار الوعي على تقديم هذا التوحد بين الشخصيتين، فاستطعنا أن نعايش هذه العلاقة الثنائية في زمن واحد، دون أن يؤطرها مكان واحد (غزة، الصحراء) كما هو معروف في الرواية التقليدية.‏
            عانت مريم من التمزق بين قيم أخيها النبيلة (التي تجسد الماضي بكل مآسيه كما تجسد آمال الحاضر بمستقبل أفضل) وقيم زوجها الدنيئة التي تجعلها تحس أنه سيمسخها إلى مجرد ممر تافه بين بيته ومدرسته، يقضي حاجته الجسدية فيه ويذهب، لذلك يريدها أن تجهض الجنين، الذي بات يشكل لديها الأمل الوحيد في مستقبل أفضل، وحياة إنسانية ذات معنى، لذلك تقرر العيش من أجله، كي تربيه وفق أحلامها نظيفا بريئا، فتجعله امتدادا لذاتها (أي أخيها) لهذا ترفض إجهاضه بناء على طلب الأخ (تخلصا من عاره) وبناء على طلب الزوج (للتخلص من مسؤولية إطعام فم جديد يضاف إلى الأفواه الخمسة التي لديه) وحين يصر زكريا على إجهاض الجنين، ويهددها بالطلاق إذا لم تتخلص منه، لا تجد وسيلة للحفاظ على الجنين سوى قتل هذا الزوج النتن للتخلص من القذارة التي لوثت حياتها، وكي تحافظ على كرامتها وإنسانيتها من زوج يريدها أداة لمتعته فقط، وهي تؤكد، بقتله، لنفسها ولأخيها أن الطفل سينشأ في جو نظيف بعيد عن قذارة الأب.‏
            وهكذا يمكن أن نجد في شخصية مريم نموذجا ليس للمرأة الفلسطينية فقط، وإنما للإنسان الفلسطيني الذي يحاول الوقوف ثانية، والتخلص من أخطائه ومن ضعفه، بعد أن أوجد أملا جديدا من حطام الموت واليأس والعار.‏
            وعلى هذا الأساس يمتزج في هذه الشخصية الهم العام بالهم الخاص، فسقوط مريم نتيجة سقوط فلسطين، كذلك نجدها في محاولتها التمسك بالأمل (الجنين) تجسد محاولة الشعب الفلسطيني في تلك الفترة (1964) في النهوض والثورة، لهذا تبدو شخصية (حامد، ومريم) رمزا للشعب الفلسطيني، في لحظات ضعفه وانهياره، ولحظات تردده وبحثه عن طريق للفعل، ثم لحظات وعيه وبداية ثورته، إنهما يجسدان الروح الفلسطينية في لحظة احتضارها ولحظة ولادتها من جديد.‏
            جوانب اللقاء بين‏
            رواية "ما تبقى لكم" ورواية "الصخب والعنف":‏
            تعد رواية غسان كنفاني "ما تبقى لكم" إنجازا كبيرا من الناحية الشكلية في الرواية العربية خاصة أن استخدام أسلوب تيار الوعي في تلك الفترة لم يكن شائعا، وهنا نلفت النظر إلى أن هذا الإنجاز الشكلي (الذي يهتم بالعالم الداخلي المضطرب للشخصية) لم يكن على حساب القضية الفلسطينية التي عاش الكاتب لها واستشهد من أجلها.‏
            ترصد كلا الروايتين يكاد يكون حدثاً واحداً هو انهيار أسرة بأكملها بسبب الحرب وانتصار المعتدين، ففي رواية وليم فوكنر تنهار الأسرة نتيجة زحف الشمال على الجنوب وانتصاره عليه، بعد حرب أهلية جرت بينهما، كذلك في رواية غسان كنفاني تنهار الأسرة نتيجة نكبة (1948) واحتلال الصهاينة لفلسطين، لذلك تنهار القيم والمثل العليا بانتصار الأعداء وتمزق الأسرة، فتفقد الأخت (كادي ومريم) في كلا الروايتين شرفها، ثم تتزوج من رجل نتن.‏
            لعل التأثر الأهم في هذه الرواية هو تأثر بأسلوب الرواية الحديثة (أسلوب تيار الوعي) الذي عرف عنه شدة اختلاطه وصعوبته، لذلك نلمس لدى الكاتبين رغبة في مساعدة القارئ، ليستطيع متابعة العالم المختلط، فقد أصدر فوكنر ملحقا، يجعله أشبه بمقدمة، يتحدث فيه عن أحداث الرواية وشخصياتها (يتبع فيها ماضي الشخصيات وحاضرها ومستقبلها) ويوضح بعض الأفكار التي قد تصل إلى المتلقي بشكل مغلوط (مثل حديثه عن كونتن، فيبين أنه ما عشق جسد أخته قط، ولكنه عشق فكرة الشرف)‏
            أما كنفاني فنجده يكتب مقدمة يشرح فيها طريقته في تقديم شخصياته "الأبطال الخمسة في هذه الرواية، حامد ومريم وزكريا، والساعة والصحراء لا يتحركون في خطوط متوازية أو متعاكسة، كما سيبدو للوهلة الأولى، ولكن في خطوط متقاطعة، تلتحم أحيانا إلى حد تبدو وكأنها تكوّن في مجموعها خطين فحسب، وهذا الالتحام يشمل أيضا الزمان والمكان بحيث لا يبدو هناك أي فارق محدد بين الأمكنة المتباعدة أو بين الأزمنة المتباينة...إن الصعوبة الكامنة في ملاحقة عالم مختلط بهذا الشكل هي صعوبة معترف بها" لهذا يلجأ، كما فعل فوكنر، إلى تغيير شكل الحروف (من العادي إلى المائل) عند تغيير لحظات التقاطع والتمازج والانتقال.‏
            قدمت الشخصية في كلتا الروايتين عبر تدفق تيار الوعي، ونجد في كلتيهما محاولة لربط التداعي بعضه ببعض، والتخفيف من امتزاجه، عن طريق استخدام روابط لفظية، في لحظة الانتقال من شخصية إلى أخرى أو الانتقال من زمن لآخر، أو مكان لآخر، وبذلك يمكن أن تسهل هذه الروابط عملية التداعي وربما تعطي مبررا لها إذ تفسح المجال لتنقلات العقل الباطن، من زمان إلى زمن آخر ومن مكان إلى آخر...إلخ، من هذه الروابط:‏
            _ الجملة الاسمية أو الفعلية: فمثلا ينتهي الحوار الداخلي عند غسان كنفاني بقول حامد مخاطبا الصحراء: "ليس ثمة من تبقى لي غيركِ" سنجد أن الحوار الداخلي لأخته مريم يبدأ بجملة مشابهة كأنها استمرار للحوار السابق، لكنها تخاطب فيها الجنين قائلة "ليس ثمة من تبقى لي غيركَ" وهذا ما سبقه إليه فوكنر في "الصخب والعنف" إذ نجده يربط بين حوارين داخليين (في زمنيين مختلفين، لكنهما لشخصية واحدة: بنجي مثلا نجد جملة واحدة تتكرر في حالتين مختلفتين، وفي لحظتين مختلفتين ومتباعدتين هي جملة "تزحف خلال هذه الفتحة"‏
            _ وقد يكون الرابط اسما: نجد مريم في رواية "ما تبقى لكم" تتحدث في حوارها الداخلي عن خالتها، كذلك يبدأ حامد حواره الداخلي متحدثا عن الخالة، أيضا سبق فوكنر كنفاني في استخدام هذا الرابط، ففي تيار وعي (بنجي) مثلا نجد اسم (البوابة) يربط بين زمنيين مختلفين (الطفولة، والشباب) فنجده يقول "ومشيت بمحاذاة السياج إلى البوابة..." ثم يتذكر قول الخادم، حين كان طفلا "ما الفائدة من تطلعك من خلال البوابة، لقد رحلت كادي، وابتعدت"‏
            تشترك كلتا الروايتين في استخدام اللغة الشعرية الشفافة التي تتناسب مع لغة الأعماق المضطربة، التي تبدو اللغة المجازية، التصويرية خير مجسد لها، وقد لمسنا ذلك سابقا لدى فوكنر (حين تحدثنا عن كونتن ودلزي) كذلك نلاحظ لدى كنفاني، فمثلا حين يقرر (حامد) مغادرة غزة للعودة إلى أمه، نجد أنفسنا أمام هذه الجملة الموحية "وابتسمت فبدا فمها الملطخ بالحمرة جرحا داميا انفتح فجأة تحت أنفها" فاستطاعت الصورة الشعرية هنا أن تؤدي معاني الألم بأقسى صوره، إذ قد لا نجد أفظع من تحول الابتسامة (دليل الفرح) إلى جرح ينـزف دما (وهذا أقسى درجات الألم المنظور) تلخص هذه الصورة حالة الفلسطيني في تلك الفترة (قبل الثورة) لا فرح لديه أفراحه تحولت إلى أحزان نازفة!!‏
            نلمح لدى كل من (كونتن) و(حامد) ملامح شخصية تكاد تكون واحدة، فقد وجدنا لديهما ثقافة رفيعة، وحساسية مرهفة، بل يبدو لنا إحساسهما بالزمن، في فترة من الفترات (قبل أن يواجه الفلسطيني عدوه) واحدا، فكلاهما يرى الزمن رؤية سوداوية (فهو ضريح لدى كونتن، ونعش لدى حامد) لذا نجدهما يتخلصان من الساعة (كونتن قبل انتحاره، وحامد قبل الالتحام بعدوه) رغبة منهما في التمرد على إيقاعها العبثي.‏
            لم يستخدم كلا الكاتبين أسلوب الرواية الحديثة في نصه الروائي بأكمله، أي في تقديم جميع الشخصيات والأحداث فقدم فوكنر (دلزي، وجاسن أحيانا) عن طريق السرد والحوار في حين قدّم كنفاني (زكريا) عن طريق تداعيات الشخصيات الأخرى، فلم نسمع صوته الخاص به، أي صوت أعماقه.‏
            نلمح لدى الكاتبين (فوكنر وكنفاني) ملامح من السيرة الذاتية، والأزمات التاريخية التي عايشها كل منهما، وانعكاس هذه الأزمات على حياته الشخصية، التي هي بالنتيجة انعكاس لحياة أبناء وطنه، ستختلف درجة الانعكاس لدى الكاتبين، كما سنرى فيما بعد.‏
            يبدو لنا من المستحيل أن يتخلى الكاتب عن آلام عايشها في طفولته، لذلك تجد طريقا لها، في أغلب الأحيان، عبر أدبه، فغسان كنفاني يجعل من مراتع طفولته (في المنشية في يافا) مسرحا لطفولة (حامد ومريم) بل نجد لدى كنفاني رغبة لاشعورية في معرفة ما الذي حصل لمنطقة المنشية حيث نشأ، لهذا يجعل الجندي الإسرائيلي الذي يلتقي به حامد في الصحراء من سكانها، فنجده يسأله عنها!‏
            فوكنر آلمه دمار بيته الكبير، بسبب الحرب الأهلية الأميركية بين الشمال والجنوب، فجسد لنا هذه المعاناة، ودمار بيت آل كومبسون.‏
            نلمح في رواية كل منهما أثرا للمهنة التي مارسها في مرحلة من حياته، غسان يجعل بطله (حامد) يمارس المهنة التي مارسها في مطلع شبابه (مهنة التدريس)، أما فوكنر فسنجد أثر مهنة كتابة النصوص السينمائية (السيناريو) قد ظهرت في التقنية التي استخدمها في الفصل الثالث والرابع.‏
            جوانب الاختلاف‏
            بين رواية غسان كنفاني ورواية وليم فوكنر "الصخب والعنف"‏
            لا نستطيع أن نقول إن كنفاني قلّد فوكنر تقليدا حرفيا دون ابتكار، وإنما لاحظنا استفادة واعية لديه من إنجازات الرواية الحديثة، ولعل مرد ذلك إلى موهبة الكاتب من جهة وتقديمه الهم الخاص وقد تحول إلى هم عام هو هم الوطن.‏
            لاحظنا الاختلاف منذ العنوان، فالعنوان لدى فوكنر مستمد من مقطع مسرحي (مسرحية مكبث لشكسبير) يؤكد على تفاهة الحياة الإنسانية، التي هي بالنتيجة "صخب وعنف" ثم موت، لهذا ينتحر كونتن وتسقط (كادي) فتعيش حياة ذليلة أشبه بالموت، كما يخصى بنجي ويوضع في مصحة، في حين نجد عنوان رواية كنفاني "ما تبقى لكم" قد استمد من الهم الفلسطيني الذي عايشه الكاتب يوما إثر يوم، لذلك يدق جرس إنذار عبر قوله "ما تبقى لكم" أيها الفلسطينيون بعد ضياع الوطن والشرف، لم يبق لكم سوى الواقع البائس القائم على مجموعة من الخسارات ا، إنه يحرض مواطنيه على المواجهة (كما فعل حامد) كي يتجاوزوا حالة الضعف والعار التي يعيشونها، إذ لم يبق لهم سوى مواجهة العدو الصهيوني.‏
            يلاحظ أن خصائص تقديم تيار وعي الشخصية لدى كنفاني تختلف أحيانا عن خصائص فوكنر، والسبب في ذلك أنه قدّم تيار وعي شخصياته في أربعة فصول، حيث جعل لكل شخصية (بنجي، كونتن، جاسن، دلزي) فصلا مستقلا خاصا بها، في حين وجدنا كنفاني قد مزج تيار وعي شخصياته وجعلها في فصل واحد.‏
            وقد ساعدت هذه الطريقة على تقديم تيار وعي الشخصية بطريقة مبدعة، تختلف عن فوكنر:‏
            _ نسمع، لدى كنفاني ،في وقت واحد حوارا داخليا في موضوع واحد عند شخصيتي (حامد ومريم) ، فمثلا تتحدث مريم عن حماية أخيها لها ومدى حرصه عليها أثناء اللجوء من يافا إلى غزة، وفي الوقت نفسه نسمع صوت (حامد) يقول: "لقد حرصت عليك حرصي على حياتي"‏
            _ قد تكمل الشخصية في حوارها الداخلي ما بدأته الشخصية الأخرى في حوارها الداخلي، فيبدو لنا الحوار الداخلي كأنه حوار واحد يجري في أعماق شخصية واحدة (تتساءل وتجيب، فيما يشبه المناجاة) أو أقرب إلى الحوار الخارجي بين شخصيتين متحاورتين، فمثلا يتحدث (حامد في الصحراء) عبر حواره الداخلي عن ذكرياته مع صديقه سالم، نجد (مريم في غزة) عبر حوارها الداخلي تكمل الحديث عن سالم وتتساءل: "لماذا لم يقتلوك؟ أنت؟"فيعلق حامد قائلا عبر حواره الداخلي: "أغلب الظن أنها تريد أن تطمئنني ولم تعرف أنها حملتني ذلا جديدا"‏
            وهكذا تندمج الشخصيتان (حامد ومريم) في شخصية تكاد تكون واحدة، حتى إن أي طارئ يحدث لحامد في الصحراء تحس به مريم ونجدها تقول: لقد حدث شيء ما له.‏
            _ وقد يبلغ التوحد بينهما إلى أقصى مدى حين نجد حوارا داخليا يصلح لكلا الشخصيتين (حامد ومريم) في زمن واحد ومكان مختلف (الصحراء وغزة) إذ نجد فيه وصفا للسكين قبل أن تستخدم أداة للقتل، "ولمعت أمامي بنصلها الطويل المتوقد" ومن الملاحظ أن كلا الشخصيتين واجهت عدوها بنفس الأداة (السكين) فقد رفض حامد استخدام المسدس، لعل هذا أيضا يؤكد التلاحم بينهما، خاصة أن وعي حامد قد ترافق مع وعي مريم، لذلك كانت لحظة الفعل الثوري واحدة، وإن اختلف المكان، وبناء على ذلك ساعدت تقنية تيار الوعي، حين استخدمها كنفاني بطريقته الخاصة، على تقديم شخصيتين‏
            مندمجتين اندماجا كاملا!!‏
            _ لعل الإبداع المدهش الذي تبدى لنا لدى كنفاني هو تجسيد (المكان والزمان) وخاصة الأرض فقد تبدت لنا في هيئة إنسان، نسمع صوته، ونحس بتعاطفه مع الفلسطيني (حامد) بل تلتحم معه، كأنها حبيبته، تقول الصحراء: "لقد اندقت ساقاه فجأة في سفح تلة صغيرة، وأخذ يرتجف، هذه المرة بدت وقفته جازمة ونهائية، وخيل إلي أن قدميه قد غرستا في صدري كجذعي شجرة لا تقتلع، لقد كنت على يقين بأنه لن يعود..."(15)‏
            أما الساعة التي أتى بها حامد إلى أخته، والتي كانت قبل مواجهة العدو تشبه نعشا، فقد تحولت بعد المواجهة إلى إنسان "فبدت وقورة تعتزم إعلان خبر رهيب على مسمع من حشود تقف صامتة أمام جلالها" فهي ستعلن لحظة الصدام مع العدو (الإسرائيلي والعدو الداخلي زكريا) لهذا من الطبيعي أن يحس (حامد) أن الزمن قد كفّ عن عداوته، يقول حامد مخاطبا عدوه "الوقت لا يمكن أن يكون ضدنا نحن الاثنين معا، بصورة متساوية، فقد يكونون أقرب إليك مما أتصور، ولكنك أقرب إلي مما يتصورون" فالزمن في صالح الفلسطيني مادام فاعلا فيه، لهذا كان حامد يمتلك القدرة على قتل عدوه قبل أن يتمكن الصهاينة من قتله.‏
            _ لو تأملنا الحبكة في كلتا الروايتين للاحظنا أنها مفككة في كلتيهما في القسم الأول، إلا أنها بدت لنا أكثر تماسكا في الجزء الأخير من رواية "ما تبقى لكم" إذ تأزمت الحوادث في لحظة واحدة(يهدد زكريا، في غزة، مريم بالطلاق فتقرر قتله، ويسمع حامد هدير سيارة الأعداء، فيقرر قتل المجند الإسرائيلي، في الصحراء)‏
            _ كان الهم العام لدى كنفاني أكثر وضوحاً من فوكنر، إلى درجة يشعر فيها المتلقي أن هذا الهم قد تحول إلى هم خاص لديه، في حين تحس المتلقي بأن الهم الذاتي كان طاغيا على تداعيات شخصيات فوكنر، لهذا لن نستغرب حرص الكاتب كنفاني على أن يسود الرواية روح التفاؤل، لذلك ترك (حامد ومريم في الخاتمة) وهما يتأهبان للفعل، إننا نجد في هذه الرواية تفاؤل المناضل بالانتصار على عدوه الخارجي والداخلي، هذا النصر قد لا يتحقق اليوم لكن الأجيال القادمة حين ترعاها أيد نظيفة ستستطيع صنع النصر، لهذا حافظت مريم على الجنين، وقتلت من يريد موته أو تلويثه بالقذارة والعار.‏
            بينما سادت في رواية فوكنر روح التشاؤم والانهزام، فنسمع صوت الخادمة دلزي يعلن لنا نهاية الأسرة، حين تقول بأنها شهدت البداية والنهاية لهذه الأسرة التي يسوء حالها إلى درجة يباع فيها البيت، ويتحول إلى نزل، وهذا قمة الانهيار.‏
            _ تجلت خصوصية كنفاني أيضا في رسم الشخصية، وإبراز تفاعلها مع الزمن والحدث ومجموعة القيم، صحيح أن كلا من حامد وكونتن يتعلقان بفكرة الشرف الذي تفقده الأخت في كلتا الروايتين، إلا أن كونتن بدا عاشقا للموت، يائسا، مأزوما تسيطر عليه فكرة عبثية الزمن، لذلك يجد خلاصه بالانتحار، بعد أن فقد صلته بأي إنسان أو أي قيمة عليا يمكن للإنسان أن يعيش لأجلها، في حين كان حامد عاشقا للأرض، أي الوطن، لم يستطع الهرب منه، لذلك لم يواصل مسيرته إلى الأردن، بل بقي في أرضه يقاتل عدوه، وهكذا لم يؤد الهرب لدى حامد إلى الموت وإنما إلى الحياة الكريمة التي لن تكون إلا بمواجهة العدو، أما كونتن فقد أدى به الهرب المجاني إلى موت مجاني يوحي بالعجز عن مواجهة أعباء الحياة.‏
            _ الشخصية النسوية لدى فوكنر (كادي) لم نسمع صوتها الخاص بها، في حين وجدنا صوت (مريم) جنبا إلى جنب مع صوت الرجل، بل استطاع الكاتب أن يقدم لنا معاناتها الخاصة التي تجعل المتلقي متعاطفا مع ضعفها، لأنها استطاعت رغم خطئها، أن تكون فاعلة في حياتها، متجاوزة لهذا الخطأ، بل مصححة له، وذلك حين قررت قتل زكريا الرجل الذي لوثها بالخطيئة ثم أراد، بعد أن أصبح زوجها أن يقضي على الأمل (الجنين) الذي قررت أن تهبه حياتها.‏
            إذا أخطأت مريم مع زكريا من أجل الحصول على زوج، لنلاحظ هنا الدلالة الطهرية لاسم مريم (التي تتصل بسمات السيدة العذراء) لذلك حين تكتشف أن هذا الزوج مناقض لحياتها النظيفة، ومهدم لأملها تقرر التخلص منه، أما (كادي) فتاة ترغب في التحرر الجنسي، لذلك تنطلق فيه لتصبح عاهرة.‏
            لهذا كله لا نستطيع أن نقبل تحديد د. عز الدين المناصرة لنقاط التأثر السلبية لدى كنفاني بالنقاط التالية: التقنية الشكلية، الزمن، فكرة الحرام(1)‏
            من هنا يمكننا القول مع جبرا إبراهيم جبرا "إن غسان كنفاني استطاع أن يحول الصخب والعنف إلى رواية فلسطينية مليئة بشخصيته"‏
            الحواشي:‏
            1_ روبرت همفري "تيار الوعي في الرواية الحديثة" ت. د. محمود الربيعي، دار المعارف بمصر، ط2، 1974‏
            2_ جان إيف تادييه "الرواية في القرن العشرين" ت. د. محمد خير البقاعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999، ص 159 بتصرف‏
            3_ ميلان كونديرا "فن الرواية" ت. بدر الدين عرودكي، دار الأهالي، دمشق، ط1، 1999، ص 71‏
            4_ آلان روب غرييه "نحو رواية جديدة" ت. إبراهيم مصطفى إبراهيم، دار المعارف بمصر، دون تاريخ، ص 130 بتصرف‏
            5_ د. أمينة الرشيد "تشظي الزمن" الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 1998، ص 147 بتصرف‏
            6_ د. نبيل الشريف، د. ضياء الجبوري، د. أحمد المجذوبة، د. عصام الصفدي، روائع الأدب الأميركي" مركز الكتب الأردني، 1995، ص 721‏
            7_ وليم فوكنر " الصخب والعنف" ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، دار الآداب، بيروت، ط2، 1979، المقدمة، ص 7_8‏
            8_ وليم شكسبير "مكبث" ت. جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1980، ص 184‏
            9_ "الصخب والعنف" ص 106‏
            10_ المصدر السابق، 126‏
            11_ المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 16‏
            12_ نفسه، ص325‏
            13_ غسان كنفاني، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1972، ص 16‏
            14_ المصدر السابق، ص 210‏
            15_ المصدر السابق نفسه، 195‏
            16_د. عز الدين المناصرة "مقدمة في نظرية المقارنة، دار الكرمل للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1988، ص 299‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

              نموذج القاتل المثالي بين عطيل شكسبير
              وراسكولينكوف دوستويفسكي‏
              يقدم لنا الأدب العظيم عوالم إنسانية مدهشة، إلى درجة يجعلنا نتقبل غير المألوف والشاذ، إنه يزلزل قناعاتنا، فيجعلنا نتعاطف مع شخصياته المتخيلة، التي قد نرى ممارساتها مستهجنة، فيما لو كانت على صعيد الواقع وأخضعناها لقوانين منطقية جامدة، فالقاتل إنسان مجرم يمتلك صفات كريهة منفرة تبرز بشاعته، وتلغي إنسانيته، لكن الأدب يستطيع أن يقدم لنا مجرما استثنائيا، يجعلنا نتعاطف مع لحظات ضعفه، بما يمتلك من رهافة حس وشاعرية، أو بما يمتلك من رؤية إنسانية إصلاحية تبيح له ارتكاب جريمة القتل لإصلاح المجتمع.‏
              إن نموذج القاتل المثالي يمتلك شخصية جذابة، كما يمتلك حسا إنسانيا، لهذا يخترق هذا النموذج ما ألفناه من صور كريهة للمجرمين في تصرفاتهم وأخلاقهم، كما تميز بندرته في الأدب، وتسليط الأضواء عليه لا يعني تسليط الضوء على الجريمة أو تشجيعها، على النقيض يؤدي ذلك إلى النفور من الجريمة والظروف التي أدت إليها، لهذا لا نستطيع أن نقول إن نموذج القاتل الشريف بعيد عن الحياة، إنه نموذج يجسد موقفا من الحياة، أي يجسد علاقة الكائن ببيئته وبالآخرين في وقت ومكان محددين، وهو كشف للإنسان وعما يحيط به من عوامل "(1) لا يستسلم لها،بل يحاول تغييرها من أجل أن يعيش المثل الأعلى في حياته، ويحاول الدفاع عنه لذلك يرتكب جريمة القتل، إنه يختزل بصفاته المتعددة الإنسان في أي زمان وأي مكان، فيقدم لنا نمطا سلوكيا، يتميز بالتفرد من جهة وبالعمومية من جهة أخرى، إذ يستطيع أن يشمل معاناة الإنسان ومخاوفه الخالدة‏
              من هنا استحق هذا النموذج الدراسة، وإذا سبق شكسبير دوستويفسكي في تناول شخصية القاتل الشريف في مسرحية (عطيل)، إلا أننا لا نستطيع أن نقول إن الروائي حين رسم راسكولينكوف قد تأثر بشخصية عطيل تأثرا مباشرا، وإنما سنجد التشابه بين الشخصيتين نابع من التوجه الفكري والإنساني لكلا الكاتبين، وسنلمس خصوصية الأديب، كما سنلمس خصوصية عصره أيضا.‏
              ثمة تساؤل لابد أن يتردد في أذهان البعض: كيف نسمح لأنفسنا بمقارنة شخصية مسرحية بشخصية روائية؟‏
              أعتقد أن ثمة لقاء بين الشخصية المسرحية والشخصية الروائية ليس في اعتمادهما على الحوار الذي نستطيع عبره أن نسبر أغوار الشخصية، ونتعرف على صراعاتها فقط ، وإنما لاعتمادهما على سمات جسدية ونفسية وفكرية تهب الشخصية فرادتها وتمنحها بالتالي هويتها الخاصة، كما تمنحها القدرة على تمثيل هموم الإنسان بشكل عام.‏
              سنحاول في هذه الدراسة التعرف على المؤلفين وعلى بطليهما، ثم سنرصد جوانب اللقاء بينهما.‏
              شكسبير:‏
              ولد في قرية مغمورة ستراتفورد أن أفون وعمد فيها سنة (1564) وكان أبوه ذا شأن في بلده ويفترض أنه وفّر له تعليما متوسطا، تزوج شكسبير من امرأة تكبره بثماني سنوات، ، وقد رحل إلى لندن وفي عام 1592، في عام (1594) أسس (فرقة اللورد تشامبرلين) وقام فيها بدور الممثل والكاتب الشريك، وقد استطاعت أن تبني فرقة خاصة بها، شملتها الرعاية الملكية، وأصابت حظا وافرا من الربح والشهرة، وقد اكتسب شهرة كبيرة ليس فقط بفضل مسرحياته وإنما بفضل قصائده التي كتبها sonnets)) ونشرت سنة (1609)‏
              تعد السنوات الست الأولى من مطلع القرن السابع عشر فترة المآسي الكبرى في إنتاج شكسبير (هملت، عطيل، مكبث، الملك لير، أنطونيو وكليوباترا، كوريولانس) ولم تقتصر كتابة المأساة على فترة محددة من حياته، فقد مارسها في مراحل إنتاجه، إلا في سنيه الأخيرة حيث انصرف إلى الكوميديا وخصها بمعظم اهتمامه.‏
              لم يعبأ شكسبير بالقواعد الكلاسية، فقد أصر على الجمع بين الهزل والجد في المسرحية الواحدة، ولم يتقيد بوحدتي الزمان والمكان، وركز اهتمامه على وحدة العمل المسرحي فقط، وقد أبدع في مجال تصوير الشخصية التي كان يمنحها مقومات الحياة والحركة، ويسلط عليها الأضواء من جوانب مختلفة، ويبرز ما يمكن أن تنطوي عليه من تناقض وتردد، فتتجسد شخصية حية واقعية لا رمزا باهتا.‏
              أبدع شكسبير في ملاءمة اللغة الشعرية للمسرح، وفي مسرحياته الأولى أظهر ميلا للانسياق وراء الجمال اللغوي وولعا بالتلاعب بالكلمات والعناية بالقوافي، لكنه تمكن بالتدريج من السيطرة على لغته وتطويعها لمتطلبات المسرح، وكان مغرما بالصور المادية الحسية، وكان نطاق خياله واسعا وشاملا بشكل فريد (2).‏
              إن ميزة شكسبير أنه كتب من وحي التاريخ لكنه أضاف إليه رؤيته الخاصة التي تنبع من انتمائه إلى عصر النهضة، وهو في الوقت نفسه معاصر لنا، نستطيع أن نقرأ ذواتنا في إبداعه، بما يقدمه من رؤى إنسانية وأحلام ومشاعر وأفكار تؤرقنا "إنه عنيف، قاس، ووحشي، أرضي وجهنمي، يستثير الرعب كما يستثير الأحلام والشعر، صادق جدا، درامي وجامح، عقلاني ومجنون، نهائي وواقعي" (3)‏
              مسرحية عطيل:‏
              قبل أن نتحدث بالتفصيل عن شخصية عطيل لابد أن نتعرف على الأحداث الرئيسية والملامح الأساسية للشخصيات التي شاركت عطيل مأساته أو كانت سببا لها.‏
              تجري حوادث هذه المسرحية في إيطالية، ثم تنتقل إلى قبرص بانتقال الجيش وقادته (أبطال المسرحية) لمقاتلة الجيش التركي العثماني، كما أن حوادث المسرحية لا تستغرق زمنا طويلا.‏
              إن عطيل قائد شجاع نبيل، ينتمي إلى إفريقيا، لذلك كان زنجيا، أعجبت به الفتاة الإيطالية (دزديمونة) ابنة أحد أعيان مدينة البندقية المشهورين، فيتزوجها عطيل رغم الفارق بالسن وبالعرق وبالمكانة الاجتماعية، وما إن يتم الزواج حتى يعين قائدا عاما للجيش الذي سيتوجه لمحاربة الأتراك في قبرص، فيعيّن (كاسيو) ملازمه الخاص (أي نائبه) كل هذا يثير حفيظة (ياغو) حامل العلم، فيقرر الانتقام لنفسه، لأنه لم يحصل على ما يستحق من مرتبة عليا في الجيش التي احتلها عطيل ومن ثم كاسيو، كما أنه يشتعل غيظا لفوز عطيل بامرأة (كدزديمونة) جميلة ونبيلة في خلقها وفي حسبها، كما يشتعل غيظا من كاسيو الذي احتل مرتبة الملازم، بالإضافة إلى أنه جميل في مظهره وفي سلوكه، مما يحببه لقلوب الناس عامة وقلوب النساء خاصة.‏
              سيطر على ياغو إحساس بالغبن، وأن الحياة لم تعطه ما يستحق، مما يدفعه إلى الحقد على الآخرين الذين ينالون ما لا يستحقون، يحوله هذا الإحساس إلى شر مضطرم لا يهدأ إلا بتدمير الآخرين، وبالحصول على ما يملكون، فالشخصية الأنانية لا ترى الخير إلا لنفسها ولا تريد أن يفوز الآخرون إلا بالألم، إنه الحقد الذي يملأ القلب سوادا فينغص حياة صاحبه، ويدفعه إلى تدمير حياة الآخرين.‏
              يفلح (ياغو) في استثارة غيرة (عطيل) ويدبر مكيدة لـ(كاسيو) (حين يستغل نقطة ضعفه أمام الشراب، الذي يفقده عقله، فيتصرف تصرفات غير مسؤولة، إذ يتشاجر مع أحد الجنود ويجرحه، يأتي ياغو خفية ويقتله) الأمر الذي يؤدي بكاسيو إلى فقدان وظيفته، فيشجع ياغو (دزديمونة) كي تتوسط له عند زوجها عطيل، ويطلب منها أن تلح في وساطتها، مما يلفت نظر عطيل، ونجد (ياغو) في الوقت نفسه يزيد أوار ريبة عطيل حين يحدثه عن أخلاق المرأة الإيطالية المتحضرة و(التي لا يعرفها عطيل الغريب عن هذه البيئة) فيبين له أن الخيانة جزء من طبيعتها، فهي لا تعرف الوفاء لزوجها، لكن عطيل رغم ذلك لا يصدق كلامه فيقول "بحياتي أراهن على إخلاصها" وياغو لا يكتفي بالكلام وإنما يؤكد أقواله بأدلة دامغة (حين نجد زوجته إميليا التي تعمل وصيفة لدزديمونة، تسرق المنديل الذي أهداه عطيل لزوجته ليلة الزفاف، فيضعه ياغو في غرفة كاسيو) وبذلك يقدم للزوج خير دليل على لامبالاة زوجته بعواطفه، واستهتارها بكرامته.‏
              أمام هذا الدليل الذي يراه عطيل مقنعا ودامغا يقرر الانتقام لشرفه وللمثل العليا التي انتهكتها زوجته، فيقتلها ليقتل الشر والخيانة في العالم، لكن إميليا التي أفزعها قتل المرأة البريئة النبيلة، تعترف بأنها سرقت المنديل وأعطته لياغو بناء على طلبه، وأنه هو سبب هذا البلاء كله، فيحاول عطيل قتله، ثم يقتل نفسه عقابا على جريمته.‏
              لو تأملنا معالم شخصية عطيل لوجدناه أبعد ما يكون عن شخصية المجرم العادي، فهو إنسان حساس، شاعر، نقي السريرة، يصدق كل ما يراه وما يسمعه، يرى الوفاء في كل أصدقائه، لذلك نسمعه يصف ياغو بالصديق الأمين دائما، لا يعتريه الشك في الآخرين، ولا يحذر أقوالهم وأفعالهم، إنه شديد الاندفاع والحماسة للفضيلة، شديد الحساسية لكرامته، سريع الانفعال، لذلك يثأر لكرامته دون أي حذر أو شك فيما قاله ياغو، فهو لا يستطيع أن يرى الإنسان ذا وجهين ولسانين، يسرع بتصديق الظاهر دون أن يتأمل في بواطن الأمور، كما كان هملت، فهو على نقيضه لا يعرف التردد، يتعامل مع العالم بحساسيته المرهفة، دون أن يعني هذا القول أن عطيل شخصية متهورة بصورة مطلقة، فقد حبك ياغو مكيدته بحيث تبدو الزوجة خائنة، فأتى بأدلة تقنع العقل، خاصة أن دزديمونة لم تصرح بأنها فقدت المنديل.‏
              إن أزمة عطيل في سماحة طبعه، وصراحته، وطيبته لذلك يظن الناس شرفاء اعتماداً على ما يبدون من أقوال وتصرفات، إذ تنقصه الخبرة بالنفس البشرية، وهذا أمر طبيعي لمن عاش حياته مقاتلا في الحروب بعيدا عن العلاقات الاجتماعية، باختصار يفتقد عطيل دلالة اسمه الذي يعني (othello) باللاتينية الحذر.‏
              وقد وصفه(آ. سي. برادلي) وصفا مدهشا "وهكذا فإنه يجيئنا، أسمر رائعا، متسربلا بضياء من شمس البلاد التي ولد فيها، ولكنه ما عاد شابا، إنه، شكلا وكلاما، بسيط وشامخ معا. رجل عظيم من طبعه التواضع مع ثقة كبيرة بقدر نفسه، فخور بخدماته للدولة...يتوج حياته بمجد أخير هو مجد الحب، وهذا الحب نفسه غريب مغامر شاعري كأي حدث في تاريخه الحافل، يملأ قلبه رقة وخياله نشوة، إننا لا نجد حبا لدى شكسبير (حتى ولا حب روميو في ميعة صباه) أشد إغراقا في الأخيلة والرؤى من حب عطيل"(4)‏
              إذا نحن أمام شخصية مثالية، تحب بعمق الشاعر ونبل الفارس، لهذا لن تقبل أي اعتداء على شرفها، لأن ذلك يعني اعتداء على كل المثل، إنه يبدو عاقلا حكيما، لكن ما إن يشتعل قلبه بالغيرة حتى يسيطر عليه الانفعال والألم والرغبة بالثأر لكل القيم النبيلة التي انتهكت.‏
              نسمع لودفيكو يخاطب عطيل في لحظاته الأخيرة قبل أن يطعن نفسه بخنجره "آه ياعطيل يا من كنت مثالا للطيبة، لقد وقعت في مكيدة هذا العبد اللعين، فماذا تقول؟‏
              عطيل: أي شيء، قولوا قاتل شريف، فأنا ما فعلت شيئا بدافع البغضاء، بل الشرف...تحدثوا عن رجل لم يعقل في حبه، ولكنه أسرف فيه، رجل حاضر الريبة، ولكنه إذا أثير وقع في التخبط...رجل رمى عنه بيده (كهندي غبي جاهل) لؤلؤة أثمن من عشيرته كلها. رجل إذا انفعل درّت عيناه وإن لم يكن الذرف من دأبها...."(5)‏
              إن صفة الشريف التي لحقت بالقاتل لا تبدو، هنا، صفة عادية، إنها أشبه باسم يمتزج بالشخصية، لذلك فهذه الصفة تكاد تغلب على الفعل (فعل القتل) الذي قام به عطيل، فمن أجل قيم الشرف التي امتهنت من قبل الزوجة، ومن أجل الحفاظ عليها، من أن تهان مرة أخرى على يدها قتلها، وهو أيضا شريف لأنه لم ينتظر حكم المجتمع الذي يراعي الظروف المخففة عادة، فيصدر حكمه الذي يتسم بالرأفة، لذلك نجده يطعن نفسه معاقبا إياها أشد أنواع العقاب!!‏
              لا يمكننا أن نقول إن شكسبير عنصري، حين جعل عطيل الزنجي يقتل المرأة البيضاء، إن لون البشرة يحمل دلالات نفسية، باعتقادنا، أكثر من الدلالات العنصرية، فهو حار، شديد الانفعال والتأثر، كما أن الصورة التي بدا فيها عطيل (النبيل، الشاعر، القائد المحبوب، والزوج المخلص والذي تحبه زوجته حتى آخر لحظة من حياتها، أي حتى بعد أن طعنها) ومثل هذه الصفات تنسج لنا صورة شخصية عظيمة، تمتلك سمات غير منفرة، حتى أفعاله لم تكن سيئة، فهو حين مارس فعل القتل، وجدنا شكسبير يعطيه مبررات لهذا الفعل، لذلك بدا هذا الفعل منسجما مع القيم النبيلة التي يعيش لأجلها ويدافع عنها.‏
              إن شخصية عطيل هي شخصية السيد الذي يعيش أبيض السريرة، ناصع الأخلاق، رغم بشرته السوداء، في حين وجدنا ياغو يُخاطَب بـ"العبد" كما لاحظنا في المقطع السابق من قبل لودفيكو ومن قبل (ص199) وفي مقطع آخر (ص 201) نجده يقول "أما هذا العبد فإن تكن ثمة قسوة بارعة تعذبه كثيرا وتبقيه طويلا فإنه سيذوقها"‏
              إن الأسود لا يعني عند شكسبير "وصفا أساسيا على قاعدة التمييز العرقي (رغم أن عطيل قد وعيت صورته كأفريقي، غليظ الشفتين، داكن اللون) ولكن الذي كان يعنيه شكسبير هو السواد والبياض حتى داخل العرق ذاته سواء كان أبيض أم أسود، كان يقصد السواد والبياض في الذات الإنسانية وأغوارها العميقة"(6).‏
              وهكذا فالعبودية لدى شكسبير لا تقترن بلون البشرة وإنما تقترن بالفعال السوداء والشريرة، لهذا كان ياغو الأبيض عبدا بسبب فعاله، وكان عطيل الزنجي قائدا نبيلا بسبب أخلاقه ومروءته وحساسيته.‏
              دوستويفسكي (1821_ 1881)‏
              ولد فيدور دوستويفسكي في موسكو، حيث كان أبوه يعمل طبيبا مقيما في مستشفى كبير، وقد تلقى تعليمه على يد أبيه وأمه ومدرسيه الخصوصيين، ثم أرسل في الثالثة عشرة من عمره إلى مدرسة داخلية خاصة، وبعد ذلك بثلاث سنوات توفيت أمه، والتحق بمدرسة المهندسين الحربيين في العاصمة بطرسبورغ.‏
              اطلع في هذه الفترة على التوراة وشيللر وشكسبير وسكوت وديكنـز وجورج صاند وهيغو وبوشكين وكثيرين غيرهم.‏
              وقد ترعرع في المدينة خلافا لمعظم الكتاب الروس، لذلك سنجد المدينة مسرحا لجميع رواياته، وكان لموت أمه ثم موت بوشكين أعظم الأثر في حياته، حين كان يدرس في كلية الهندسة في سنة 1844‏
              وقد كان والده ينتسب إلى صغار النبلاء، وكان قاسيا بخيلا، اغتيل على يد الفلاحين لقسوته في معاملتهم، فعانى دوستويفسكي من نوبة صرع ستلازمه مدى حياته، فترك الجيش إذ لم يبق ضابطا إلا سنة واحدة، وقرر أن يتفرغ للكتابة، فأصدر روايته الأولى "الناس الفقراء" التي تأثر فيها برواية "المعطف" لـ(غوغول) نالت استحسان النقاد، وقد اجتذبته الآراء التحررية (الاشتراكية التي سيتركها فيما بعد) فانضم إلى جماعة (بتراشفكي) المسالمة، لكنه اعتقل معه سنة (1849) وحكم عليه بالموت، ووقف أمام ركيزة الإعدام ينتظر تنفيذ الحكم وفي هذه الأثناء يصل العفو الإمبراطوري، الذي كان عفوا جزئيا، إذ يقرر استبدال السجن بالإعدام في سيبيريا، حيث سجن أربع سنوات، ستترك هذه الحادثة أثرا كبيرا على أدبه، فقد وجدناه يعلي من قيمة الإنسان، ويرفع من شأن الحياة الإنسانية، حتى إنه يقول لو توقف إنقاذ العالم على موت طفل واحد علينا أن نرفض هذا الموت!!‏
              ولما خرج من المعتقل، كانت صحته منهارة، رغم ذلك خدم في الجيش جنديا بسيطا، وكان قد تزوج من أرملة مريضة في سيبيريا، وقد عومل معاملة المجرمين فلم يسمح له بالرجوع إلى روسيا إلا سنة 1859، فأصدر "ذكريات من بيت الموتى" و"مذلون ومهانون" مما أذاع صيته، فأنشأ مع أخيه مجلة "الزمان" التي منعت بعد ذلك بقليل، وكبدته أعباء مادية، وفي عام (1862) قام برحلة أولى إلى الغرب، وحين عاد واجه ألوانا من الصعوبات إذ تموت زوجته وأخوه تاركا له عبء الديون وعبء إعالة أسرته، وابن زوجته، عندئذ بدأ يعيش حياة شاقة فعلا، فكان يتقاضى ثمن الكتاب الذي لم يكد يشرع فيه، وكانت المهلة المحددة تنصرم بسرعة، فتؤرقه، لذلك كان يعمل كالمحموم، واستعجالا للعمل استاجر شابة تكتب على آلة اختزال، أصبحت زوجته عام (1867) وقضيا معا عدة سنين في أوروبا، كانت مليئة بالأحزان، ومما كان يزيد هذه الأحزان تعلق دوستويفسكي بهوى القمار، وفي عام (1871) استقرت هذه الأسرة التي أنجبت عدة أولاد لم يعش منهم إلا اثنان، في يطرسبرج، وقد تحسن الوضع المادي للأسرة حين بدأت زوجته تنشر بنفسها مؤلفاته، مات عام (1881) إثر نزيف رئوي شديد.‏
              إضافة إلى رواياته الكبرى ("الجريمة والعقاب"، "المقامر" و "الأبله" و "الزوج الأبدي" و "الشياطين" و "المراهق" و "الأخوة كارمازوف") نشر "يوميات كاتب" على شكل دوري، ليستطيع أن يعبر عن آرائه السياسية والدينية، وهي لديه شيء واحد، بشكل أكثر حرية من الرواية (7)‏
              كتب دوستفسكي "لكي يكون المرء قادرا على أن يكتب جيدا، عليه أن يعاني!" ونحن نضيف أنه كي يتغلب على هذه المعاناة لا بد له من الكتابة الإبداعية، كي يستطيع أداء رسالته في الحياة، وهي أن يبث الخير والجمال في حياتنا.‏
              وبذلك نستطيع القول: إن دوستويفسكي كان في رواياته فنانا ومبشرا وفيلسوفا، وعالما اجتماعيا، وإن أية محاولة لفصل الجانب الفني لديه عن الجانب الفلسفي الاجتماعي محاولة غير مجدية، وغير دقيقة، يقول دوستويفسكي "إن إيجاد الإنسان في الإنسان مع الواقعية الكاملة ميزة روسية على الأغلب...يدعونني عالما نفسانيا، هذا غير صحيح، أنا واقعي بالمعنى السامي للكلمة، أي أنني أصور كل أعماق النفس الإنسانية"‏
              اعتقد دوستويفسكي أن العالم المحيط بالإنسان كلما كان "خياليا" لا إنسانيا، زاد شوق الإنسان إلى المثل الأعلى، وبات من واجب الفنان إيجاد الإنسان في الإنسان، أي ألا يصور الفوضى والدمامة المسيطرتين على العالم، بل ينقل إلى القارئ ذلك الشوق الكامن في الروح الإنسانية إلى المثل الأعلى بواقعية كاملة، وبذلك يصور الطموح إلى بعث الإنسان الذي قهرته الظروف وكمود العصور والرواسب الاجتماعية، ولذا فإن صوت الفنان المفكر الذي عقد محكمة قاسية للمدنية في عصره، لا يمكن وضعه جنبا إلى جنب مع أصوات أبطاله...(8)‏
              بناء على هذا القول نجد في شخصية (راسكولينكوف) تجسيدا لبعض الأفكار التي يرفضها المؤلف، ويثبت زيف دعواها عبر الرواية، فالبطل يدعي بأنه يستطيع استيعاب الجريمة بالعقل، وتبريرها بالعقل والقيام بها بالعقل، وهذا تأكيد على عقلانية الإنسان التي رآها الماديون، الذين يؤمنون بالإنسان الإله.‏
              بناء على هذه الأفكار نجد طالب الحقوق (راسكولينكوف) بطل رواية "الجريمة والعقاب" يقوم بقتل مرابية عجوز تدعى (أليونا) بعد تخطيط دقيق، لكنه يضطر لقتل أختها (إلزابيتا) فقد نسي إغلاق الباب وراءه، وبعد القتل يسرق بعض المال ويهرب.‏
              لو تعمقنا في شخصية القاتل، في هذه الرواية، لوجدناها شخصية غير عادية، إنها مثقفة، تسعى لتجاوز وضعها البائس، فقد عاش هذا الطالب عيشة فقيرة في غرفة كأنها (الكفن)، ورأى تعقد العلاقات الاجتماعية وقسوتها، مما يدفع الإنسان الشريف إلى العذاب والموت، (جارته سونيا تضطر لبيع جسدها من أجل إطعام إخوتها، في حين نجد أخته دونيا تفكر بالزواج من رجل كهل لا تحبه من أجل مساعدته ومساعدة أمها) لذلك رأى في قتل المرابية العجوز تصفية للشر الاجتماعي، فهي تجسد أحد مظاهره، وبقتلها يحاول أن يرفع الظلم الاجتماعي بالاستحواذ على ثروتها وتوزيعها على الفقراء وطلاب العلم، إنه يأمل في تقديم الخير للإنسانية المعذبة، فهو يؤمن أن استخدامه للنقود في فعل الخير يلغي فعل الشر.‏
              إذا الدافع الاجتماعي أمر لا يمكن الشك فيه، لكنه يطرح أمامنا مشكلة اجتماعية عميقة: هل تسوغ الغاية النبيلة الوسيلة القذرة التي نستخدمها من أجل تحقيقها؟ هل يحق لنا أن نضحي بوعي كامل ولو بحياة إنسان واحد من أجل سعادة الآخرين؟‏
              إلى جانب الدافع الاجتماعي ثمة دافع فكري، إذ لم يكن الهدف المال والثراء الشخصي (إذ لم يستفد من المال المسروق سوى تقديم مساعدة لعائلة فقيرة تقيم بجواره هي عائلة مارميلادوف) فقد آمن راسكولينكوف بفكرة سعى إلى تطبيقها هي: إن بالإمكان اختزال البشر إلى فئتين، فئة المتفوقين العباقرة أمثال نابليون، يملكون الحق في عمل كل شيء، يرى نفسه منهم، وفئة اخرى هي فئة الناس العاديين يدعوهم "القمل" لهذا نجده يقول "الإنسان غير العادي يملك الحق في أن يجيز لضميره تخطي بعض الحواجز، إذا ما كان ذلك مساعدا على تحقيق فكرته التي قد تعود بالنفع على الجنس البشري بأكمله....إن كافة المشرعين وموجهي الإنسانية كانوا مجرمين في حق القانون، فهم أتوا بشرائع جديدة، انتهكوا بعملهم هذا القوانين القديمة التي يرعاها المجتمع بعنايته ويحفظها عن الجدود". وكما يرى أندريه جيد بأن راسكولينكوف أول من ترتسم لديه فكرة الإنسان المتفوق التي سنجدها عند نيتشه (9)‏
              وبما أنه إنسان متفوق يحق له القتل الذي برره بالعقل (امرأة عجوز في أواخر أيامها، حياتها ضرر على الفقراء الذين يرهنون عندها حاجياتهم فتعطيهم ربع ما يقابلها من مال، لذلك سيأخذ ما تملك من مال ويوزعه على أمثاله من العباقرة، كما سيساعد به الفقراء) وبعد أن يبررها بالعقل يخطط لها بالعقل (قرابة ستة أشهر)، لهذا نجده يدير ظهره للعواطف و للمشاعر الإنسانية، فلا مكان لها في حياة الإنسان المتفوق، لكنه حين ينفذ جريمة القتل بالعقل ، يكتشف أنه بشر عادي يخاف من الآخرين بل يرتكب جريمة قتل لم يخطط لها بعقله (إذ يضطر لقتل الأخت الطيبة للمرابية التي تساعد الفقراء، بل قد ساعدته هو نفسه) إنه يخاف فيقتل إنسانا بريئا، وبدافع الخوف أيضا كان قد ترك الباب مواربا دون إغلاق، لذلك تدخل إليزابيتا، لتشهد جريمته، فيقتلها خوفا من افتضاح أمره ، ثم يكتشف أن إنسانا بريئا سيحكم بالإعدام بسببه، إذ اتهم بارتكاب جريمة قتل العجوز وأختها، فينتابه تأنيب ضمير حاد، لم يحسب حسابه.‏
              كذلك نلاحظ لدى راسكولينكوف رغبة في امتحان نفسه، قبل ارتكاب جريمة القتل، هل هو إنسان متفوق أم هل هو إنسان تافه؟ هل يحق له تجاوز القانون والعرف؟ وبذلك يتحول قتل المرابية العجوز إلى امتحان لذاته وتأكيد تفوقه، الأمر الذي يعزز وجوده في عالم الأخلاق والمثل! فقد كان يظن أنه سيقتل الشر حين يقتلها! ويعلن انتماءه إلى أولئك الذين يمارسون ما يريدون من تصرفات لأنهم بشر كاملون أشبه بآلهة.‏
              إن تصرفات راسكولينكوف نابعة من تكوين ثقافي، كان قد انتشر في عصر دوستويفسكي، فقد ظهرت أفكار العدميين والملحدين الذين يعلون من شأن الإنسان، ويرون فيه مخلوقا خاليا من التعقيد مادام يملك العقل، إذ يجدون في هذا العقل أداة لا تضاهى لإحقاق الحق في هذه الحياة، فالإنسان قادر على حل مشكلاته بالعقل، بمعزل عن الإيمان، فهم يتبنون مقولة إيفان كارامازوف الذي أباح قتل الأب مرددا"إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح" لذلك حمل راسكولينكوف أفكارهم، ليكتشف، عبر جحيم المعاناة الداخلية، زيف مقولتهم، فبعد ارتكاب الجريمة يعاني البطل أزمة داخلية حادة، ويكتشف حقيقة أن الإنسان لا يمكن أن يكون عقلا فقط، وان الازدواجية بين العقل والشعور والانفعالات جزء من طبيعة الإنسان، وبذلك كشف لنا دوستويفسكي عبر أزمة بطله عن الدور الحاسم الذي تلعبه العواطف في حياة الإنسان وسلوكه.‏
              إن مأساة راسكولينكوف في عدم فهمه للانشطار الذي تقوم عليه النفس البشرية، مع أنه عانى من ذلك الانشطار، حتى اسمه (راسكول: raskolot يعني بالروسية الانشقاق والانقسام)(10) فإذا ظهر القسم الأول من شخصيته (الجانب العقلي) مع بداية الرواية وارتكاب جريمة القتل، فإن الشق الثاني من شخصيته (الجانب الروحي والانفعالي) قد ظهر حين أقدم على فعل القتل، إذ بدأت تعتريه الانفعالات وأزمة الضمير الحادة التي تكاد تؤدي إلى دماره لولا وقوف (سونيا) إلى جواره بأن تدله على طريق الإيمان بالله، والتطهر بالحب الذي يشمل كل البشر، لذلك يعترف بجريمته، لأنه بدأ يحس أن أي عقوبة اجتماعية هي أخف وطأة من عقوبة الضمير!!‏
              كثيرا ما وصفت رواية "الجريمة والعقاب" بأنها رواية "إثارة سيكولوجية" لكن الإثارة فيها ليس لأنها تروي جريمة قتل المرابية، وكيفية انكشاف الجريمة، بل لأنها تروي مقاومة البطل لأزمة الضمير، ولذلك الصراع الداخلي العنيف بين ما كان يؤمن به وما تكشف له عن طريق الفعل من خطأ أدى به إلى الإجرام بحق الإنسانية، في حين كانت رغبته صادقة في مساعدتها، لذلك نجده يصرخ بأنه لم يقتل العجوز وإنما قتل نفسه، إذ قتل الجانب الخير فيها (بقتله إليزابتا الخيرة) كما قتل الجانب الشرير فيها (بقتله المرابية أليونا)‏
              يحدثنا دوستويفسكي عن بطله إثر ارتكاب الجريمة، إذ إن مشاعر غير متوقعة وغير منتظرة تعذب قلبه، لقد اصطادته في النهاية الحقيقة الإلهية: الضمير والقانون الذي صنعه البشر، وهو مضطر للتبليغ عن نفسه، مضطر حتى لو أدى ذلك إلى أن يهلك في السجن، لينضم من جديد إلى الناس، إن الشعور بالعزلة عن الجنس البشري الذي استولى عليه أرهقه، وبدأ قانون الحقيقة الإلهية والطبيعة الإنسانية يحدثان تأثيرهما، ولذلك يقرر المجرم على مسؤوليته أن يقبل العذاب لكي يكفر عن جريمته..." وبذلك يتحول القانون الذي أوجده البشر إلى وسيلة تخفف معاناة المجرم من معاناة داخلية لا ترحم، ولذلك فإن العقاب يحتاجه المجرم، في رأي دوستويفسكي، ليس فقط من الناحية الأخلاقية وإنما من الناحية النفسية أيضا.‏
              نجد في الرواية محاكمات ثلاث، (نفسية، أخلاقية، قانونية) يتعرض لها البطل في أعماقه قبل أن يتعرض لمحاكمة المجتمع التي ستكون مخففة، لذلك تتحول هذه المحاكمات إلى بحث عن الحقيقة الإنسانية، فقد أحس بعد قتل المرابية، أنه لم يستطع أن يجسد أفكاره عبر فعل ملموس، لذلك ما يعذبه هو فقدان إيمانه بعدالة قضيته! فقد اكتشف أنه بشر غير متفوق، لذلك نسمعه يقول "لو كنت قتلت لأنني كنت جائعا لكنت الآن سعيدا" فقد كان القتل لديه رغبة في تجسيد فكرة على أرض الواقع، فها هو ذا يصرخ "أردت أن أصبح نابليونا لذلك قتلت"‏
              إن البطل يكتشف عدم جدوى إقامة السلوك الإنساني على العقل وحده، فهذا يعني احتقار الجنس البشري والنظر إليه باعتباره جرما ماديا يستطيع الإنسان المتفوق الاستهانة به، بفضل ما يملك من عقل، مأساة البطل أن الجانب العاطفي المهمل في حياته بدأ يستيقظ ليعذبه أشد أنواع العذاب "إن ما يجعل راسكولينكوف يعاني ليس ضميره بقدر ما هو التفكير في أنه لم يستطع أن يقتله، لقد حاول أن يسحقه لكنه أخفق، معاناته بعد الجريمة لا تتولد من الضمير بل من محاولة قتله"(11)‏
              لذلك بدا لنا تركيز دوستويفسكي على الوجدان الذي يرى فيه الخلاص الوحيد للإنسان، والإمكانية الوحيدة للعقاب، عندئذ يدرك الخاطئ أنه ارتكب ذنبا في حق الحياة البشرية، فخسر قضيته الفكرية ودمر حياة أبرياء (يقال أن إليزابيتا الطيبة كانت حاملا، مما يضاعف الجريمة، وأن رجلا بريئا سيحاكم بجريمته) مما يؤجج معاناة داخلية لن يخففها أي عقاب دنيوي.‏
              تكمن روعة هذه الرواية في تسليط الضوء على تلك الحرب التي دارت في أعماق البطل من أجل مقاومة انكشاف الجرم أمام ذاته، هنا يتوحد المتلقي مع البطل ليعايش هذه المعاناة، فيحترق في أتون الضمير، لإنقاذ المثل التي تجعل الحياة الإنسانية ذات معنى، مؤكدا مقولة رددها في رواية "الأبله" وهي "الجمال سينقذ العالم" ولن يكون هذا الجمال سوى الحب (للبشرية بأجمعها) وتقديس الحياة وبعث للضمير ... أما القبح (القتل وإلغاء العواطف من حياتنا...) فإنه سيدمر الحياة.‏
              وفي رأي دوستويفسكي لن يتفتح الضمير الإنساني، إلا بتفتح القلب والإيمان بالله، عندئذ يستطيع مواجهة المعاناة التي يقتضيها هذا التفتح، وهكذا فإن خير الإنسانية يكمن في الضمير الذي هو الله لدى دوستويفسكي، والضمير يعني إحساسا بالمسؤولية تجاه البشرية جمعاء، ومحاولة إسعادها، وذلك بالحفاظ على إنسانية الإنسان، أي بالحفاظ على القوانين التي تنظم الحياة البشرية وتحميها.‏
              لذلك اضطرب فكر راسكولينكوف بين "الصليب أو الفأس" أي بين الإيمان أو الجريمة، فالإيمان يبدو لنا مثقلا بالمعاناة ومجسدا بالتضحية من أجل الآخرين وهذا دليل محبتهم عندئذ تزدهر إنسانية الإنسان، أما الجريمة فهي تلغي هذه الإنسانية، وغالبا يرتكبها أناس لا أعماق لهم تسيطر عليهم أفكار الماديين الملحدين، التي تعزز الأنانية في النفس وحب المادة، وتركز عليها دون الأعماق، ميزة راسكو لينكوف أنه لم يتمتع بهذه الصفات العادية للمجرمين، كان مفكرا ومصلحا اجتماعيا، لم تسيطر عليه الأفكار الأنانية، كذلك لم يستطع إلغاء وجدانه وضميره، من هنا كان قاتلا استثنائيا، لهذا لا نستطيع أن نقبل رأي د. ممدوح أبو الوي الذي يرى أفكار راسكولينكوف ....أفكارا مادية شيطانية(12).‏
              تتجلى روعة دوستويفسكي، في رسم هذه الشخصية، التي سيطرت عليها أفكار المادة في مطلع حياتها، لكن رؤيته العميقة للحرية الإنسانية، التي لن تكون حرية عقلية فقط، وإنما هناك حرية العاطفة التي كثيرا ما ننساها في زحمة البحث عن المصلحة المادية التي تقترن غالبا بالعقل، فهاهو ذا يقول على لسان بطله بعد أن عرف أن أخته (دونيا) ستتزوج برجل لا تحبه من أجل ما يملكه من مال تساعد به أمها وأخاها، "إننا نحاول في بعض المناسبات قتل عواطفنا، فنحمل حريتنا إلى السوق نعرضها."‏
              من هنا لا نستطيع أن نقول إن الفكرة هي بطلة العمل الروائي عند دوستويفسكي، بل إنسان الفكرة ، على حد قول باختين (13)‏
              نقاط اللقاء بين عطيل شكسبير وراسكولينكوف دوستويفسكي:‏
              _ بناء على ما ذكرناه سابقا، لا نستطيع القول بأن دوستويفسكي قد تأثر تأثرا مباشرا بشكسبير في رسم ملامح شخصية بطله، فشتان بين شخصية ظهرت في القرن السابع عشر (عطيل) وبين شخصية ظهرت في القرن التاسع عشر (راسكولينكوف) جسدت لنا تعقد الحياة الفلسفية والاجتماعية، وازدياد القلق الإنساني ومعاناة الإنسان الداخلية من أجل إقامة العدل ودفع الظلم الذي اتسعت رقعته.‏
              إننا نستطيع أن ندعي إمكانية وجود قواسم إنسانية مشتركة ، تؤكد أن الإنسان هو الإنسان في أي زمان ومكان، لذلك لجأ كلاهما إلى التغلغل إلى أعماق النفس البشرية لتصوير لحظات ضعفها، قبل تصوير لحظات قوتها، لذلك وجدنا أمامنا قاتلا شريفا، يمتلك النبل الإنساني والحب للبشرية جمعاء.‏
              _ من هنا نستطيع أن نرى لقاء في الأهداف لدى الكاتبين، فقد جسدا لنا المثل العليا وقد انتهكت، كما جسدا لنا الروح الإنسانية في لحظة تطهر (إما بالموت، أو بقبول العذاب والسجن) كل ذلك من أجل إعلاء قيمة المثل الأعلى في الحياة، أي كل ما هو خالد ونبيل في الحياة، وقد أدرك دوستويفسكي (الذي كان الدفاع عن المثل الأعلى دينه الذي آمن به في الفن) صعوبة وصول الإنسان الواحد، حتى لو كان شكسبير نفسه، إلى المثل الأعلى الخالد والشامل بصورة كاملة، لأننا بحاجة إلى جهود عدد كبير من البشر، ومن هنا نجد كل فنان عظيم يسعى في هذا الطريق، فليس الأمر محصورا بشكسبير ودوستويفسكي إنها رسالة الفن يؤديها المبدع كما تؤدي الرسل رسالة السماء.‏
              _ كلا الأديبين رأى أهمية الإنسان في القلب والعواطف، وبذلك لم يريا الإنسان فكرة عظيمة يستطيع الفن أن يجسدها فقط، لذلك اهتما بإنسانية الإنسان التي تكمن في روحه وعواطفه إلى جانب عقله.‏
              _ نجد لدى الكاتبين رهافة حس عظيمة تجاه الجوانب المأساوية في الحياة، وتعاطفا مع الألم الإنساني، لذلك ليس غريبا أن يطلق على دوستويفسكي لقب "شكسبير عصره" إذ كان همه البحث عن طمأنينة النفس الإنسانية، فرأى أنه بالإمكان تحقيقها عن طريق حب الله وحب الناس وقبول الألم ولو على غير استحقاق إذ إن في الألم قداسة في رأيه، لذلك وجدناه ينعش النفس ويحييها بعد سقوطها، فهو يقدس الحياة الإنسانية، ولا ننسى هنا تجربة الموت التي تعرض لها في شبابه المبكر، هي التي جعلته يقدس الحياة الإنسانية.‏
              _ كلا البطلين مصاب بنوع من الضعف النفسي أحدهما بسبب اندفاعه الانفعالي وطيبته (جنون الغيرة: عطيل) والآخر بسبب سيطرة فكرة واحدة على عقله والتهور الذي يصاحب الشباب (جنون العظمة: راسكولينكوف)‏
              _ استطاع كلا الأديبين أن يتجاوز السائد في عصره، فشكسبير تجاوز قوانين الكلاسية التي تؤكد على العقل وحده، ولا تعير التفاتا للعاطفة، فجمع إلى جانب العقل العاطفة،كذلك تجاوز قانون الوحدات الثلاث، وصار يعرض على المسرح المشاهد الدامية، حتى اتهمه نقاد عصره بأنه بربري لكثرة ما يعرض من مشاهد القتل على المسرح‏
              كذلك تجاوز دوستويفسكي القوانين السائدة في عصره، أي أدب الطبقة العليا، وبدأ يلتفت إلى معاناة الأسر الفقيرة، أو المتوسطة، متأثرا بغوغول، فانتبه إلى "الواقع" المعقد والمتناقض وغير المتزن فنيا.‏
              استطاع المؤلف دوستويفسكي أن ينفصل عن بطله، الذي جسد فكرة مناقضة لفكره الإنساني الذي يقوم على المحبة والتضحية، لذلك استطاع البطل أن يجسد لنا الصراع بين ما يؤمن به من أفكار وما يؤمن به المؤلف، من هنا أبدع دوستويفسكي تنوعا في الأصوات، ولم نعد نسمع صوتا واحدا هو صوت المؤلف، إذ برز البطل عبر صوته الخاص، لذا سادت لدى دوستويفسكي "الكلمة المزدوجة الصوت والمتعددة الاتجاهات، فضلا عن كونها كلمة أشبعت داخليا بقيمة حوارية، وكلمة غيرية: الجدل الخفي، والاعتراف المزين بالجدل، والحوار الخفي، وليس لدى دوستويفسكي تقريبا كلمة بلا تلفت متوتر إلى الكلمة الغيرية، وفي الوقت نفسه ليس لديه تقريبا كلمات موضوعية..."(14)‏
              _ صحيح أن دوستويفسكي أبدع في مجال الرواية، أي في مجال مختلف عن المجال الذي أبدع فيه شكسبير، إلا أننا لمحنا في روايته اهتماما بتقنية الحوار، سواء أكان حوارا داخليا، يسلط الضوء على صراعات النفس الداخلية، أم كان خارجيا يسلط الضوء على صراعات فكرية ذات صلة بالعالم الخارجي (الاجتماعي) والعالم الداخلي‏
              إن الاهتمام بتقنية الحوار لدى الروائي (دوستويفسكي) يجعله يقترب من اهتمام المسرحي (شكسبير) بهذه التقنية التي تعدّ أساس الفن المسرحي.‏
              _ لعل الإنجاز المدهش لكلا الأديبين أنهما نقلا نموذج شخصية المجرم من نمطيتها المألوفة (أي شخصية قذرة في أخلاقها وفي سلوكها، وفي أحاسيسها، تنتمي لعالم سفلي بشع، مدمر للحياة البشرية وللمثل العليا) إلى نموذج مدهش غير متوقع وغير مألوف، إذ نجد الشخصية حساسة مرهفة، قد تسيطر عليها العاطفة (عطيل) وقد تسيطر عليها الفكرة (راسكولينكوف) فتؤدي بها إلى القتل، من أجل الحفاظ على المثل الأعلى في الحياة لا من أجل تدميره، كما يفعل المجرم العادي‏
              الحواشي:‏
              1_ د. محمد غنيمي هلال "الأدب المقارن" دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة، القاهرة، دون تاريخ، ص 280‏
              2_ د. حسام الخطيب "محاضرات في تطور الأدب الأوروبي" مطبعة طربين، دمشق، 1975، ص 113_118‏
              3_ يان كوت "شكسبير معاصرنا" ت. جبرا لإبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1980، ص 39‏
              4_ شكسبير "عطيل" ت. جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1980، المقدمة ص 18‏
              5_ المصدر السابق، ص 199_201‏
              6_ ليزلي فيدلر، ادوارد وازيوليك "عطيل وراسكولينكوف" ت. محمد أبو خضور، وزارة الثقافة، دمشق، 1983، ص 42‏
              7_ د. سامي الدروبي "الرواية في الأدب الروسي" دار الكرمل، دمشق، ط1، 1982، ص 75_77 بتصرف‏
              8_ مجموعة من المؤلفين "دوستويفسكي دراسات في أدبه وفكره" ت. نزار عيون السود، وزارة الثقافة، دمشق، 1979، ص 90_92 بتصرف‏
              9_ أندريه جيد "دوستويفسكي مقالات ومحاضرات" ت الياس حنا الياس، منشورات عويدات، بيروت، باريس، ط1، 1988، ص 204‏
              10_ ريتشارد بيس "دوستويفسكي دراسات لرواياته العظمى" ت عبد الحميد الحسن، وزارة الثقافة، دمشق، 11976، ص 62‏
              11_ ي كارياكين "دوستويفسكي إعادة قراءة" ت خليل كلفت، كومبيو نشر، بيروت، ط1، 1991، ص 9_ د. ممدوح أبو الوي "تولستوي ودوستويفسكي في الأدب العربي" منشورات اتحاد‏
              12_ممدوح أبو الوي "تولستوي ودوستويفسكي في الأدب العربي" اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط1، 1999، ص 204‏
              13_ مخائيل باختين "شعرية دوستويفسكي" ت. د. جميل نصيف التكريتي، مراجعة د. حياة شرارة، دار توبقال، الدار البيضاء، بالاشتراك مع دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1986، ص 128‏
              14_ المرجع السابق، ص 296‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

                المؤثرات الفكرية الغربية في القرن العشرين في الأدب العربي أثر الوجودية في قصص زكريا تامر
                قبل أن نتعرف على المعالم الأساسية للوجودية التي كانت موضع إقبال في كثير من البلاد، لكونها تتناول مشكلات الإنسان الوجودية، مثل مشكلة الحياة ومشكلة الموت ومشكلة الألم، يحسن بنا أن نلفت الانتباه إلى أنه من الخطأ أن نعدّ دوستويفسكي، مثلا مفكرا وجوديا رغم أننا لحظناه في الدراسة السابقة، يتناول هذه المشكلات الإنسانية تناولا شديد التأثير، لكن عبر رؤية مختلفة.‏
                كما انه من الخطأ أن نعدّ الفلاسفة الذين يدرسون الوجود بمعناه الدقيق أو يدرسون الموجود الكائن فلاسفة الوجودية، إذا ما هي الوجودية؟‏
                تعد الوجودية أحدث المذاهب الفلسفية وأهم حركة فكرية تركت أثرها على الأدب المعاصر في أوروبة، وفي أرجاء العالم، وهي أصدق تعبير عن حالة القلق العام الذي تملك العالم الشعور الحاد به بعد الحربين العالميتين (الأولى والثانية) اللتين قتلتا وشردتا حوالي سبعين مليون (ما بين رجل وامرأة وطفل) فباتت الإنسانية بسببهما مهددة بالدمار والموت، لهذا سيطر القلق على الإنسان الأوروبي.‏
                ومما زاد إقبال الجمهور عليها أن فلاسفتها (وخاصة جان بول سارتر، وغابرييل مارسيل) قدموا رؤيتهم الفلسفية عبر الأدب.‏
                لم تتشكل الوجودية باعتبارها تيارا فلسفيا إلا في النصف الأول من القرن العشرين في الحضارة الغربية على يد الفيلسوف الدانمركي كيركغارد (1813_ 1855) الذي أثّر بفلاسفة وجوديين عاشوا في القرن العشرين (غابرييل مارسيل، كارل ياسبرز، مارتن هيدغر، جان بول سارتر)‏
                لو تأملنا الخصائص المشتركة بين الفلاسفة الوجوديين للاحظنا نزوعا نحو التجربة المعيشة، ومحاولة للتغلب على النزعة المثالية، إلا أننا نلاحظ فشل بعضهم في هذه المحاولة (مثل ياسبرز)‏
                إذا نستطيع أن نقول: إن السمة المشتركة بين هؤلاء جميعا هي أن فلسفتهم تقدم تجربة وجودية حية، لكن هذه التجربة تختلف من فيلسوف إلى آخر(هشاشة الوجود لدى ياسبرز، "السير باتجاه الموت" لدى هيدغر، العيش في حالة من الغثيان لدى سارتر) ومن هنا نجد هذه الفلسفة تحمل طابعا شخصيا.‏
                اهتمت بالحياة الفردية وبالعالم الباطني للإنسان لذلك كان "الآخرون هم الجحيم" كما يرى سارتر، كذلك لم تهتم بالعلم، فالحقيقة تكمن في الوجود الإنساني، كما أن الوجود سابق للماهية (أنا موجود ...إذا أنا أفكر)‏
                ويتصور الوجوديون الوجود على نحو فاعل ونشط، فهو ليس وجودا جاهزا وإنما هو يخلق نفسه بنفسه في الحرية، لذلك كانت مقولة الاختيار والحرية من أهم مقولاتهم، فالإنسان لا وجود له دون حرية وامتلاك إرادة الاختيار، وقد أكدوا مسؤوليته عن هذه الإرادة.‏
                إنهم ينظرون إلى الإنسان باعتباره ذاتية خالصة، وليس مظهرا أو تجسيدا لتيار حيوي أشمل منه، وهم يفهمون الذاتية بالمعنى الخلاق، فالإنسان يخلق نفسه بنفسه، وبذلك يمارس حريته، وهم يرفضون التمييز بين الذات والموضوع، ويقللون من قيمة المعرفة العقلية في ميدان الفلسفة، بل ينبغي بالأحرى التعامل مع الواقع، وهذا التعامل أو الخبرة يتم بالقلق، أو في تجربة القلق، حيث يدرك الإنسان أنه موجود محدود قاصر، مصيره الموت (الذي هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة) فيعايش، قلقا، غصة الموت وزوال الزمن، لهذا ليس غريبا أن يسيطر عليهم إحساس العبث، ويصبح هذا العبث من أهم مقولاتهم، فالإنسان يعيش حياته يصارع الموت، إذ يولد من غير سبب، ويعيش بدافع الضعف ويموت بالمصادفة.‏
                ترفض الوجودية القواعد والقيم الأخلاقية الخارجية، أي تلك التي أوجدها المجتمع، وتصر على أن الإنسان هو وحده يختار قيمه وأخلاقه داخل إطار حريته .‏
                هذه الحرية التي يراها سارتر أساس الوجود، ففي كتابه "الوجودية مذهب إنساني" يقول "إذا لم يكن الإنسان معرّفا في التصور الوجودي، فلأنه لا شيء في البداية، ولا يتجوهر إلا لاحقا، وسيكون كما يريد هو نفسه...الإنسان ليس شيئا آخر غير ما يريد." (1)‏
                إن هذه الخصائص المشتركة بين الفلاسفة الوجوديين لا تعني وجود تيار فلسفي واحد، إذ نجد خلافات عميقة بين ممثلي الوجودية، يكفي أن نشير إلى وجود تيارين في هذه الفلسفة:‏
                _ وجودية ملحدة(هيدغر، سارتر، كامو...)‏
                _ وجودية مؤمنة: مثل كيركغارد(2)‏
                وعلى هذا الأساس نجد أن الاغتراب واليأس والتفكير بالموت وعبث الوجود من أهم الموضوعات التي شاعت لدى الوجوديين (3)‏
                لعل أفضل متحدث عن الأدب الوجودي هو (كولن ولسن) فقد حدثنا عن معالم الشخصية الأوروبية في الأدب الحديث في كتابيه ("اللامنتمي" و "المعقول واللامعقول في الأدب الحديث") ودعا هذه الشخصية بمصطلح اللامنتمي، الذي يعرفه بأنه الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واه، والذي يشعر بأن الاضطراب والفوضى هما أعمق تجذرا من النظام الذي يؤمن به قومه.‏
                لهذا بات الإنسان مريض الروح، يرى هذا العالم الجديد باعثا على الرعب، لأنه بالنسبة إليه آلية عالم الحضارة، لذلك فإن اللامنتمي لا يشتهي الحياة، مادامت كل الفعاليات تؤدي إلى تلك التفاهة نفسها (الموت) وبناء على ذلك باتت الحضارة تعتمد على السطحيات وحسب، لذا نجده يميل أشد الميل إلى الحرية والبطالة، رافضا كل السطحيات، وراغبا في حياة أكثر حيوية، التي ينصح بها كل إنسان، وهذا لن يكون إلا بابتعاده عن الانفعالات السلبية (الخوف، الغضب، الاشمئزاز، المشاعر ...) فالإنسان يضيع كمية لا يستهان بها من حيويته في هذه الانفعالات السلبية، كأنه يتمثل قول نيتشه "إن أقوى وأسمى إرادة في الحياة لا تتمثل في الكفاح التافه من أجل الحياة، وإنما في إرادة الحرب، إرادة السيطرة، وهو يدعو البشر لنبذ الأصنام أي المثل العليا، فالحياة للأقوى.‏
                ولذلك ليس غريبا أن يكون إصلاح البشرية في رأي اللامنتمي بنبذ الأصنام، أي المثل العليا، فهم حين عبدوا المثل العليا الخادعة جرّدوا الواقع من قيمته ومعناه وحقيقته، ولم تكن كذبة المثل الأعلى حتى الآن إلا لعنة الواقعية، وبوساطتها تشوهت الفطرة الإنسانية فصار مصدرها خادعا ومزيفا، وأصبحت الأفكار المعبودة مضادة تماما لتلك التي تؤكد على خير الإنسان ومستقبله.‏
                إذا لم تعد القيم العليا مصدر تأمله، إن التأمل الوحيد الذي يمارسه الإنسان الوجودي هو أن يقضي أمسياته محملقا في ثقب جدار!!‏
                ثمة رغبة لدى اللامنتمي في معرفة ذاته عندئذ يستطيع أن يعرف نفسه وإمكاناته المجهولة، فهو يريد أن يحقق المعادلة التالية: أن يحصل على إدراك حسي حر ويفهم الروح الإنسانية وأعمالها، ويريد في الوقت نفسه أن ينجو من التفاهة إلى الأبد وأن تتملكه إرادة القوة من أجل الاستمتاع بحياة أكثر حيوية، لا علاقة لها بالمألوف من القيم والمثل، وهذا لن يستطيع تحقيقه إلا بالتطرف في الاهتمام بالذات.‏
                وهكذا نلاحظ أن اللامنتمي يميل "إلى التعبير عن نفسه بمصطلحات وجودية، ولا يهمه التمييز بين الروح والجسد، أو الإنسان والطبيعة، ذلك أن مثل هذه الأفكار تنتج تفكيرا دينيا وفلسفة في حين أنه يرفضهما معا، إن التمييز الوحيد الذي يهمه هو الوجود والعدم"(4) فالموت يعد أهم الأفكار لديه.‏
                الوجودية وأدب الضياع في القصة السورية:‏
                أدت التطورات السياسية والاجتماعية إلى فتح أبواب سورية لمختلف المؤثرات، خاصة أن الفترة السياسية، إثر الاستقلال، تميزت بالانفتاح والديمقراطية (1954_1958)، وقد كانت اللغة الفرنسية أوسع اللغات انتشارا، رغم ما واجهته من نفور بعد الاستقلال، لذلك بدت الترجمات التي صدرت في هذه الخمسينات، كانت في معظمها عن الفرنسية، يضاف إلى ذلك أن الترجمات التي كانت تصدر في لبنان كانت تقرأ في سورية بشكل واسع إذ تقدم للأدباء الشباب نمطا ثقافيا جديداٍ،(لا يمكن أن ننسى دور مجلة "الآداب" في نشر الفكر والأدب الوجودي)‏
                وقد كانت معظم هذه الترجمات عن اللغتين الفرنسية والإنكليزية، وعن طريق هاتين اللغتين تُرجمت آثار قصصية كثيرة للغات أخرى كالروسية والإسبانية والألمانية وغيرها‏
                وقد ظهرت المؤثرات الوجودية، في القصة السورية، مع أوائل الخمسينيات، لكننا لا نستطيع أن نقول بأنها وصلت إلى مستوى المؤثرات الأخرى (الأدب الروسي، والأدب الرومنتي، الفرويدية...) (5) رغم أنها احتلت مرتبة الصدارة في مرحلة محددة، في قائمة المؤثرات الأجنبية فترة الخمسينيات، لكن هذه المرتبة كانت مرحلة موقوتة وأقرب إلى السطحية، بل يمكن نعدّه تأثرا عابرا على حد قول د. حسام الخطيب.‏
                ولعل الصراع العقائدي، الذي كان على أشده في فترة الخمسينيات، قد ساعد على انتشار الفكر الوجودي، فقد ظهرت في تلك الفترة ثلاثة اتجاهات رئيسية تركت أثرها بوضوح في الإنتاج الأدبي السوري:‏
                1_ الاتجاه الديني التقليدي: الذي كان ينظر شزرا إلى الفنون الحديثة.‏
                2_ الاتجاه اليساري الذي عدّ الأدب الروسي والسوفيتي النضالي مثله الأعلى.‏
                3_ الاتجاه القومي الذي التف كتابه حول حزب البعث والحزب القومي السوري، وقد كان يعاني في البداية من الافتقاد إلى أيديولوجيا مميزة، لذلك حاول بعضهم أن يتلمسها في الفلسفة الوجودية.‏
                لكن ليس من السهل إجراء توفيق بين الأفكار الوجودية والأفكار القومية، لأن الفكر القومي ملتزم وهادف ويضطرم بفعالية كبيرة في مطلع الخمسينيات، في حين لاحظنا أن الفكر الوجودي من أهم مقولاته العبث وعرضية الوجود الإنساني والموت، لذلك سيطر عليه القلق والاغتراب والعزلة والإحساس بالعدم.‏
                غير أننا يمكن أن نلاحظ أن القوميين أباحوا لأنفسهم حرية التصرف في الأفكار الوجودية، وقد أقبل عليها الكتاب البرجوازيون لكونها تؤكد فردية الإنسان وأن الالتزام داخلي يختاره المرء بحريته، كذلك لاقت معظم الأفكار الوجودية صدى لدى كتاب اليسار (6) في سورية، خاصة بعد أن تحول سارتر إلى الماركسية.‏
                الموقف من الأفكار الوجودية:‏
                نلاحظ أن كثيرا من الأفكار الوجودية لا تناسب مجتمعنا، فهي وليدة مجتمع عانى من ويلات الحرب،فأدرك الفرد أن حضارته الغربية لم تجلب السعادة له،وإنما على النقيض جلبت الدمار، باختراعها أدوات الحرب،لذلك كان رفضه لهذه الحضارة وللعلم الحديث مبررا.‏
                هل من المعقول أن يرفض الكاتب العربي العلم والصناعة، كما لاحظنا لدى بعض الكتاب، ليمجد البطالة والعبث، وأمته مازالت متخلفة؟!‏
                ترى هل يكمن خلاصنا بالتركيز على الفرد ونسيان علاقته بالمجتمع؟!‏
                من المعروف أن الأدب صانع الروح الإنسانية، لذلك حين تسيطر على أدبنا مقولة العبث‍ واللامعقول فهذا سيؤدي إلى مسخ شخصيتنا وامحاء كياننا‍، ألسنا مهددين اليوم عبر الغزو الثقافي الغربي الصهيوني بتجريدنا من هويتنا؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ كي نكون فريسة سهلة أمام الآخر المعتدي ‍‏
                هل نساعده عبر الأدب في مهمته؟ أم نساعد أنفسنا إذ نجعله إحدى الأركان التي تبني نفوسنا وفق قيم، تنهض بوجودنا, وتقوي إرادة الحياة والفعل لدينا.‏
                هنا يحسن أن نشير أن أدباء الوجودية لم يلزموا أنفسهم بأفكارها على صعيد مجتمعهم، خاصة حين أحسوا أنه في خطر، فقد انضم كل من سارتر وكامو إلى المقاومة السرية ضد الاحتلال الألماني لبلدهم، كذلك وجدنا سارتر ينحرف عن معظم أفكارها، لينضم إلى الماركسية‍.‏
                سنتناول في هذه الدراسة نموذجا من نماذج التأثر بالفكر الوجودي عن طريق أدبه (رواية "الغريب" لألبير كامو التي أثرت في قصص زكريا تامر في مجموعته "صهيل الجواد الأبيض" أي في المرحلة الأولى من إبداعه).‏
                نبذة عن حياة ألبير كامو:‏
                يعد كامو استمرارا لظاهرة كثرت هي ظاهرة الأدباء المفكرين (باسكال، فولتير، ديدرو، روسو، مالرو، سارتر...)‏
                ولد كامو عام (1913) في الجزائر في قرية (مندوري) قرب وهران، عاش طفولة سعيدة رغم الفقر الشديد الذي عانته الأسرة بسبب وفاة الأب (الذي توفي وعمر ألبير سنة) فرعته أمه الصماء المعوقة النطق، وقد عملت خادمة من أجل إعالة أسرتها.‏
                تركت إقامته في الجزائر بصمتها على جميع إنتاجه الأدبي، ممثلا في الصور والرموز الأساسية التي تمنح الأدب فرديته.‏
                شغف بكرة القدم في مراهقته، فكانت أخلاقية فريق الكرة هي الأخلاقية الوحيدة التي عرفها، لكن إصابته بالتدرن الرئوي (1930) وضعته أمام مشكلة الموت وحيدا.‏
                درس الفلسفة في جامعة الجزائر، وكانت نشاطاته متعددة المجالات (المسرح، كتابة الرواية، العمل في الصحافة...)‏
                وبسبب مرضه انهارت آماله في العمل في مهنة التدريس في الجامعة فقد نُصح بعدم التقدم للفحص الطبي لتقديم دكتوراه الدولة، بعد هذه التجربة رأى في المستقبل موضوعا إشكاليا، وأقبل على التمتع بالحاضر.‏
                تتلمذ على يد أستاذه (جان غرينييه) الذي كان مسيحيا، لذلك كان الخط الفكري لدى كامو على نقيض سارتر، إذ يمكن تقصيه من خلال القديس أوغسطين، وباسكال، وكيركغارد، وبتأثير أستاذه فرغ من أطروحة موضوعها أثر أفلوطين في القديس أوغسطين.‏
                وفي عام (1934) التحق كامو بالحزب الشيوعي، لكنه سرعان ما انسحب منه، بعد سنتين من انتسابه، بعد أن لمس تناقضاته.‏
                عمل في مهن شتى، فقد عمل كاتبا في شركة استيراد وتصدير (وهي وظيفة مارسها مورسو بطل رواية "الغريب") كما عمل بائعا لأدوات السيارات، ومعلما خصوصيا، وموظفا في الأرصاد الجوية، ولم يصمم على العمل الصحفي إلا في عام (1938)‏
                إن الحدث الهام الذي زلزل كيانه هو نشوب الحرب العالمية الثانية، لذلك نجده بعد إدراكه بـ"أن الغباء يعم العصر" لهذا على الإنسان أن يحسن اختيار المواقف التي تلائم مبادئ نبله الداخلي، نجده يقول: "عبث دائما أن يفصل نفسه حتى عن حماقة الآخرين وقسوتهم. ليس بوسعه أن يقول: لا أعرف شيئا عن هذا.‏
                فهو إما أن يتعاون أو أن يقاتل، ليس ثمة ما هو أقل عذرا من الحرب وإثارتها للنعرات القومية. ولكن إذا ما قامت الحرب، فمن العبث والجبن أن يقف الإنسان جانبا بحجة أنه ليس مسؤولا، لقد سقطت الأبراج العاجية، والغفران محظور على الذات وعلى الآخرين"‏
                وقد حاول أن يتطوع في جيش المقاومة، لكنه رفض بسبب مرضه، لذلك نسمعه يقول "إن كانوا لا يريدونني مقاتلا ، فهذا دليل على أنه كتب علي أن أبقى منعزلا، وأنا لم أستمد قوتي ونفعي للآخرين دائما إلا من خلال كفاحي لأجل البقاء إنسانا سويا كلما شذّت الظروف".‏
                وحين أدرك أنه شخص غير مرغوب فيه انتقل من الجزائر للعمل في الصحافة في باريس، وأثناء العزلة الباريسية استطاع أن ينجز رواية "الغريب" عام (1940) قبيل الغزو الألماني، وحين هزمت فرنسة، نلمس لديه الهدوء والتوازن، إذ يقول "أول ما علينا أن نذكره هو ألا نيأس، علينا ألا نصيخ السمع لهؤلاء الذين يتصايحون بان هذه نهاية العالم، فالحضارات لا تموت بهذه السهولة، وحتى لو انهار العالم لجاءت في عقبه عوالم أخرى."‏
                انضم إلى المقاومة السرية (1943)التي أصبحت بعد عام جزءا من حركة التحرير الوطني وقد أصدرت نشرة إعلامية تدحض بها الأخبار الكاذبة للعدو، وتنشر المعلومات الدقيقة عن أعمالهم الإجرامية، كي تستثير نخوة الفرنسيين وكبريائهم، زارعة فيهم الأمل في غد حر مظفّر. بعد تحرير فرنسة (1945)، ذاعت شهرة كامو لمقاومته الاحتلال ولأدبه، وقد قال سارتر عنه عام (1945) مخاطبا كامو "كدت تكون المثال الذي يجب أن يحتذى، لأنك حمّلت نفسك صراعات عصرنا كلها وتخطيتها لشدة حرارتك في عيشها، كنت شخصا حقيقيا...".‏
                وكان الدور الذي طلب منه أن يقوم به إثر استقلال بلده شديد الوقر على كاهله، مناقضا عزمه في عدم المساهمة في أي نشاط عام، أو يرتبط بأي حزب سياسي، وإن تكن الأهداف العامة التي يتبناها الحزب الاشتراكي قريبة جدا من آرائه في العدالة الاجتماعية، فقد كان صحفيا وأديبا، رأى خدمة بلاده من خلال.الأدب والصحافة.‏
                وقد كانت مقالاته تنتقل رويدا من الأمل والثقة إلى ضرب من التعب النفسي والكمد، وهذا لا يعني أن أفكاره غير عملية فقد كان شديد الإصرار على مقاومة العنف والكبت وأي فعل يؤدي إلى الحكم على الناس بالموت، لهذا كان خصما للستالينية والاستعمار والاستبداد، كما كان يحبذ، في زمن هيروشيما، السيطرة الدولية على الطاقة الذرية.‏
                أيد صديقه سارتر في محاولته المخفقة في خلق يسار غير شيوعي، مستقل عن روسيا وبطبيعة الحال مستقل عن الولايات المتحدة الأميركية، وحين أخفق هذا المشروع، اقتنع سارتر أن العمل الاجتماعي الناجح لا يمكن القيام به إلا عن طريق الحزب الشيوعي، في حين رأى كامو أن الخطر المميت في أي شكل من أشكال التواطؤ مع الشيوعية، وقد فرق هذا الخلاف في وجهة النظر بين الصديقين.‏
                إن الإرهاق الذي خلفته المقاومة السرية، وتعرضه لفقدان الذاكرة مؤقتا على نحو مؤلم، وتعطشه للسعادة الشخصية وخلو البال، كل ذلك أوجد في نفسه حاجة للخلوة والعزلة، ومما زاد في هذه العزلة معاناته من نوبة طويلة من التدرن الرئوي دامت سنتين (حتى عام 1951) أثرت على حياته الشخصية، فزادت وحشته.‏
                رغم إبداعه في كافة المجالات (الرواية ، والصحافة، والمسرح كتابة وإخراجا...) كان لديه شعور بأن عمله الحقيقي لم يبدأ بعد!‏
                منح جائزة نوبل (عام 1957) فأحس ثقل مسؤوليته، وجعل يتساءل عن إمكاناته في المستقبل، لكنه أدرك أن عليه أن يقبل بمصيره بكامله، وبفضل هذه الجائزة وجد نفسه حرا من كل عبء مالي فعاد إلى الجزائر(7).‏
                كانت الحياة تشبه لديه أسطورة سيزيف، فالإنسان يشقى لكن جهده ضائع دون جدوى، إن مصدر العذاب هو هذا الشعور أو الوعي الذي ينتاب الإنسان في بعض اللحظات النادرة من حياته، أي تلك اللحظات التي يخلو فيها إلى نفسه ويفكر في قيمة ما يعمل، هناك تزلزله الحقيقة الأليمة الرهيبة "كل ما في الوجود عبث" وعلى الإنسان أن يقر أن الحياة خالية من المعنى ثم يكيف موقفه تبعا لذلك.‏
                وهكذا رفض جميع الثورات في عصره، فنّدها لكنه لم يأت بجديد سوى اللامعقول، وقد مات ميتة غير معقولة، إذ اصطدمت سيارته بشجرة أثناء انحرافه لتفادي عربة نقل، فقتل في الحال، والأمر المروع أنه وُجد في جيبه تذكرة قطار، مما دل على أنه غيّر رأيه في آخر لحظة فسافر بالسيارة، وبذلك كان مصرعه العبثي خير مصداق لمذهبه في الوجود.‏
                رواية الغريب:‏
                كتب كامو رواية الغريب أثناء الحرب العالمية الثانية وقبل احتلال بلاده، وقد كان يعاني من إحساس بالعزلة بعد أن رُفض انضمامه للجيش الرسمي، بسبب حالته الصحية.‏
                جسد لنا (مورسو) بطل هذه الرواية أفكار اللامنتمي الوجودي، وقد بدا لنا إنسانا غريبا، تدهشنا تفاصيل حياته، التي تبدو لنا بعيدة عن المألوف، إذ كان إنسانا مجردا من العواطف، لا يبالي بالمشاعر والعادات المتعارف عليها، لذلك يصدم العرف الاجتماعي بتصرفاته التي تبدو نابعة من غربته عن الحياة الاجتماعية (حين ماتت أمه التي وضعها في ملجأ ، ولم يرها منذ سنة، يبدو غير مبال، لم يبك، ولم يطلب رؤيتها من أجل وداعها، وحين جلس أمام التابوت لم يلفت نظره سوى الغطاء والمسامير ولون الخشب، بل نجده على غير المعتاد يدخن ويشرب القهوة، وحين تبكي صديقة أمه يزجرها منـزعجا)‏
                بعد دفن أمه أول ما يفكر به هو نزهة، وفعلا يذهب في اليوم التالي إلى البحر بصحبة صديقته (ماري) التي لا يحس نحوها بأية عاطفة خاصة رغم أنه يقضي معها معظم أوقات فراغه، وحين تسأله إن كان راغبا بالزواج بها؟ يجيبها: إذا كنت تريدين!! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍وتسأله إن كان يحبها؟ يجيبها بأنه لا يحبها‍‍!! فتسأله لمَ يريد الزواج بها إن كان لا يحبها؟ فيجيبها هذا الأمر لا يشكل لدبه أية أهمية!! إلا أنها هي التي ترغب فيه، عندئذ تسأله إن كان سيقبل هذا العرض من امرأة أخرى فيجيبها هذا أمر طبيعي!!!‏
                وفي مجال العمل لا نجد لديه أي طموح لتحسين وضعه، لذلك يبدو غير مهتم بأن ينقل إلى مكان أفضل في العاصمة (باريس)!‏
                تقوده لا مبالاته إلى ارتكاب جريمة قتل! دون مبرر! إذ يرتكب جريمة قتل (عربي) في إحدى نزهاته، وحين يسأل عن دافع جريمته يجيب ببساطة: إن الشمس كانت حادة أثناء سقوطها على جبينه والمدهش أنه لا يبحث مع محاميه عن أسباب مخففة!! فيرفض أن يدعي أن الحادث قد وقع إثر وفاة أمه، كذلك لا نجده يعاني أزمة ضمير بعد ارتكاب الجريمة (مثل راسكولينكوف) فهو لا يستطيع أن يأسف لأي شيء، إنه بعيد عن عالم الروح أو الأحاسيس الإنسانية أو المبادئ الأخلاقية، فقد نبذ الأصنام أي المثل العليا، لهذا بدا غريبا! يتصرف وكأن العلاقات الإنسانية لا تعنيه، فيرفض كل المسؤوليات المترتبة عن هذه العلاقات، كما يرفض أن يكذب، وأن يلعب اللعبة الاجتماعية التي تقوم على النفاق، إنه يعيش ما يحس، يرفض كل ما ينغص حياته الحاضرة التي لا يؤمن بحياة سواها!.‏
                إنه إنسان ملحد! يرفض المفاهيم الدينية (الخطيئة، الندم، التوبة...) لذلك يعني الموت لديه موتاً جسدياً وروحياً! فهو يرفض لقاء كاهن السجن الذي جاء للحديث عن الغفران ومع ذلك يحاول محاورته ويبين له أنه يحمل نفسه ما لا طاقة للإنسان باحتماله، عندئذ يحس (مورسو) أن الكاهن قد بدأ يزعجه، فيرفض حتى معانقته!!.‏
                لا نستطيع أن نقول إن هذا البطل كان مجردا من العواطف تماما، فقد أخرجته الطلقة عن بعض سلبيته، بضع لحظات، لذلك يقول "أدركت أنني هدمت توازن النهار، ذلك الصمت الغريب في ساحل كنت سعيدا فيه"‏
                إن إحساسه بالعبث يبدو طاغيا على أي لحظات ضعف بشرية، إذ كل شيء مآله الفناء، فلمَ البكاء على أمه الميتة؟ لمَ الرثاء لموته هو نفسه؟ إنه لا يختلف عن غيره من البشر، كلهم محكوم عليهم بالموت مثله، غير انه يعلم روعة الحياة ويدرك طبيعة الموت التي لا تبرير لها، باتت جريمته وكشفها سيان لديه! لقد هدم حياة إنسان وهاهو ذا يُهدم، وهذا الهدم لا تفسير له ولا عذر، ولا تعويض، والساعات المبرحة التي قضاها في تعذيب نفسه قد انتهت، لسوف يذهب إلى موته سعيدا متحديا جليّ الذهن، فهاهو ذا يقول ليلة تنفيذ حكم الإعدام "كأن انفجار غضبي (على الكاهن) طهّرني من كل شر،أفرغت من كل أمل، وقد وقفت وجها لوجه إزاء ليل مثقل بالعلامات والنجوم، وسلّمت نفسي إلى عدم الاكتراث الكوني البديع، لقد كان شعوري بذلك كشعوري بنفسي، مما جعلني أدرك أنني كنت سعيدا، وأنني مازلت سعيدا...الأمل الوحيد الذي بقي لي، كي أقلل من شعوري بالوحدة أن يزدحم المكان ساعة إعدامي بأكبر عدد من المتفرجين، وأن يستقبلونني بالسباب واللعنات"‏
                إن جوهر العبث في قضية مورسو كما يقال يكمن في "أنه نتيجة لعدم اكتراثه، انضم إلى العنف والموت، لا إلى الحب والحياة، إنه لم ينطق بأي سؤال فأخطأ خطأ فاحشا...وهكذا فإن كامو يوحي في"الغريب" بأن الإنسان في وجه العبث يجب ألا يبقى ضمن وجود سلبي، فالإخفاق في التساؤل حول فرجة الحياة إنما هو الحكم على أنفسنا كأفراد وعلى الدنيا بالصيرورة إلى لا شيء"(8)‏
                وهكذا نلاحظ سيطرة مقولات الوجودية على شخصية (مورسو) الذي بدا غير منتم إلى قيم مجتمعه، رافضا لما هو مألوف، فقد انطلق من ذاته، لهذا نبذ أي انفعال يمكن أن ينغص حياته، ويهدر حيويته، وبهذا يدور حول ذاته ليحقق أكبر سعادة ممكنة بغض النظر عن الآخرين، فلا يهمه حياتهم ومشاعرهم، مادام الموت مصير الإنسان لذا لابد أن يسيطر عليه إحساس بالعبث الوجودي، الذي يعززه الإلحاد من جهة والتطرف في الأنانية من جهة أخرى.‏
                نبذة عن زكريا تامر:‏
                ولد زكريا تامر في دمشق (1931) ترك المدرسة، وعمره ثلاثة عشر عاما، ليشتغل في مهن يدوية عديدة، لكن المهنة الأساسية التي كان يحبها، ويعود إليها باستمرار: هي الحدادة.‏
                بدأ بكتابة القصة القصيرة عام (1957) وهو ما يزال يعمل في المطرقة والسندان، وقد اضطر إلى ترك عمله عام (1960) بسبب ظروف اقتصادية مرت بها البلاد، حيث عمت البطالة وأغلقت أكثر المعامل، وقد ظهرت له أول مجموعة قصصية في ذلك العام "صهيل الجواد الأبيض" تلنها مجموعة "ربيع الرماد" (1963) و "الرعد" (1972) و "دمشق الحرائق" (1973) و "النمور في اليوم العاشر" (1978) و "نداء نوح" (1994)‏
                بدأ يكتب القصة الموجهة للأطفال منذ عام (1968) "لماذا سكت النهر؟" تضم أكثر من خمسين أقصوصة، ثم أصدر "قالت الوردة للسنونو" و "بلاد الأرانب" و "يوم بلا مدرسة"‏
                توظف في عام (1960) في وزارة الثقافة والإرشاد القومي، وفي عام (1963) أصبح مسؤولا في مجلة "الموقف العربي" الأسبوعية، وفي عام (1965) عمل في مديرية النصوص في تلفزيون جدة بالمملكة العربية السعودية، كما عمل في عام (1966) في مراقبة الكتب في وزارة الإعلام السورية، ثم مديرا للنصوص في التلفزيون العربي السوري، بعد ذلك تفرغ للعمل في اتحاد الكتاب العرب، الذي كان أحد مؤسسيه، ورأس تحرير دوريته الشهرية "الموقف الأدبي"‏
                وقد عمل أيضا رئيسا لتحرير مجلتي "أسامة" للأطفال، و "المعرفة" الصادرتين عن وزارة الثقافة السورية، وهو الآن يعمل في الصحافة الثقافية في لندن.(9)‏
                ترجمت أعماله القصصية إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والبلغارية والروسية والألمانية.‏
                منذ تفتح وعيه الأدبي آلمه ما يكتب الأدباء العرب عن بلادهم من أدب سطحي لا يمت إلى أبناء شعبه بصلة، لذلك كانت كتاباته نوعا من التصحيح لما كان يكتب، إذ لمس كذب هؤلاء الأدباء في كل ما كتبوه عن الأحياء الشعبية، وعن معاناة الشعب العامل، فأصدر أول قصصه وهو ما يزال عاملا في المعمل (1956)‏
                وهكذا استطاع أن يقدم لنا عبر قصصه عالما يتسم بالجدة والأصالة، وإن كنا قد لاحظنا تأثره في مجموعته الأولى "صهيل الجواد الأبيض" بالفكر الوجودي، فإن هذه الملاحظة لا تشمل أعماله القصصية اللاحقة، التي بدأت تقدم لنا صوتا خاصا بات رائدا للقصاصين العرب.‏
                لعل من أهم مميزات قصصه أنها تفيض بطاقة شعرية مدهشة في كثافتها، الأمر الذي لم تعرفه الأقصوصة العربية من قبل، وكما يقول صبري حافظ "كانت أعمال زكريا تامر هي البداية الحقيقية للصوت الجديد وللرؤى الجديدة التي أطلت على أفق الأقصوصة العربية معه، ثم اتسعت رقعتها على أيدي جيل الستينيات في مصر والعراق من بعده، لأنه استطاع_ بعد منتصف الستينيات بقليل_ أن يتلمس إطلالات الحساسية الممزقة، وهي تتخلق تحت قشرة الحساسية القديمة السائدة، وأن يستوعب ملامح هذه الحساسية الوليدة في وعاء فني يتواءم معها وينطوي في الوقت نفسه على تمزقاتها التي تعبر عن مرحلة تاريخية وحضارية من حياة أمتنا العربية" (10)‏
                مجموعة "صهيل الجواد الأبيض والأفكار الوجودية:‏
                في البداية يحسن أن نتساءل معترضين: كيف يحق لنا أن نقارن فنا روائيا (رواية ألبير كامو "الغريب") بفن قصصي هو "مجموعة "صهيل الجواد الأبيض" لزكريا تامر) ؟!‏
                يمكننا القول: ثمة نقاط مشتركة بين الرواية والقصة القصيرة (الشخصية، المكان، الزمان، الحدث...) صحيح أن طبيعة هذه العناصر تختلف بين الرواية التي تنطلق عبر مساحات زمنية ومكانية شاسعة غير محددة، بالإضافة إلى ذلك تغنيها شخصيات عدة، في حين نجد القصة القصيرة أشبه بموقف متأزم في لحظة محددة ومكان محدد، وتتجنب تعدد الشخصيات غالبا.‏
                إن هذا الاختلاف لن يؤدي إلى هوة كبيرة بين فنين يعتمدان السرد، فقد لاحظنا في الأدب المعاصر تداخل الأجناس الأدبية، إذ استخدمت الرواية اللغة المكثفة، في بعض المواقف، وهي أبرز صفة تلازم القصة القصيرة، كما اتسعت القصة في استخدام بعض العناصر الفنية اتساع الرواية.‏
                ولكن قد يقول قائل: هذا الكلام لا ينطبق على بداية الستينيات، حين ظهرت مجموعة زكريا تامر "صهيل الجواد الأبيض" إذ لم تعرف بعد تقنية تداخل الأجناس الأدبية، بل مازالت الفنون السردية بحاجة إلى تأصيل في أدبنا العربي، فقد كان المتلقي العربي يكاد لا يعترف إلا بفن وحيد: هو فن الشعر!‏
                إن هذا الكلام يصح لو أننا نقارن بين أسلوب الرواية وأسلوب القصة القصيرة، لكن المقارنة بين رواية "الغريب" ومجموعة "صهيل الجواد الأبيض" تتركز على أسس فكرية، إذ تتلمس جوانب التأثر بالفكر الوجودي، ومن المعروف أن الفكر يشكل أحد المكونات الأساسية للأدب بصورة عامة، وللفن السردي بصورة خاصة باعتقادنا.‏
                ثمة ناحية أخرى في قصص زكريا تامر "صهيل الجواد الأبيض" تجعلها متميزة عن غيرها من القصص، وهي أننا لاحظنا أن أبطال المجموعة القصصية، لا يشكلون شخصيات مختلفة في الرؤى والاتجاهات الفكرية، بل يكاد يشكل هؤلاء الأبطال شخصية واحدة، رغم تعدد أسمائهم، نلمس لديهم ملامح فكرية توحدهم، إلى درجة يمكن لنا أن نعدهم شخصية واحدة تقريبا.‏
                إذا بإمكاننا أن نعدّ أبطال القصص القصيرة الموزعين في مجموعة "صهيل الجواد الأبيض"أشبه ببطل روائي واحد، ذي ملامح روائية ، يؤسس تكوينه المعرفي على أسس الفكر الوجودي بكل تفاصيله التي وجدناها لدى الوجوديين عامة، وفي رواية "الغريب" لدى كامو خاصة. وقد لاحظنا لدى زكريا أمرا يعزز النظرة الواحدة التي تجعل أبطال قصصه أشبه ببطل واحد، وهو عدم الاهتمام بتحديد اسم الشخصية، غالبا، مما يوحي بعموميتها، فهي تكاد تشمل جيلا بأكمله!!‏
                ولو تأملنا فترة الخمسينيات والستينيات (الفترة التي ظهرت فيها مجموعة "صهيل الجواد الأبيض") للاحظنا شيوع التأثير الوجودي بشكل واضح.لدى معظم الكتاب السوريين (مطاع الصفدي، غادة السمان، جورج سالم...) لكن هذه التأثيرات سرعان ما تلاشت بعد نكسة حزيران لدى أغلب الأدباء باعتقادنا.‏
                إن المقولات الأساسية التي لحظناها لدى أبطال قصص زكريا تامر تكاد تلتقي مع المقولات الوجودية لدى بطل كامو (مورسو) وهي:‏
                فكرة العبث: يطغى على معظم شخصيات قصص زكريا تامر في مجموعة "صهيل الجواد الأبيض"، إحساس بالعبث وعدم المبالاة، ففي قصة "الأغنية الزرقاء الخشنة" نجد البطل يقول: "أنا رجل فقير بلا عمل. لا أضحك. لا أبكي. أحب الخمر، والغناء، والأزقة الضيقة...عيناي نعشان وذئبان مريضان، قلبي قد يكون بلبلا مذبوح العنق، قد أكون شحاذا تبكيه عتمة الليل..."(11)‏
                في قصة "القبو" نجد الملامح نفسها لشاب عاطل عن العمل، يقضي معظم وقته في المقاهي، لديه إحساس بأنه "تمثال من صخر صلد أملس مغروس وسط ضوضاء مخبولة. عقربا الساعة يحفران قبرا للنهار، نهار هزيل بهجته ميتة..."(12)‏
                إنه إنسان فقد الروح وكل مقومات الحياة، بات الزمن لا يعني شيئا سوى الموت وفقدان الفرح، لهذا لن نستغرب أن يصبح لديه إحساس بالتبلد إلى درجة شبه نفسه فيها بـ"جثة طافية على وجه مياه نهر بطيء..." وهو حين يتأمل أعماقه لن يجد فيها سوى الوحشة والفراغ "لا شيء في داخلي سوى بعض العناكب والقبور المهجورة..." (قصة صهيل الجواد الأبيض)‏
                حتى مرور الزمن لن يستطيع أن يغير حياته، ويبعد إحساسه بالعبث والكآبة، هاهو ذا البطل نفسه (ولكن في قصة أخرى بعنوان "ابتسم يا وجهها المتعب") يخبرنا قائلا "وتعاقبت علي الأعوام الكثيرة وأنا راقد على ظهري دون فرح أو كآبة، أحملق ببلاهة إلى غيمة وحشية..."‏
                أما في قصة "الرجل الزنجي" فهي قصة شاب يعاني من وحدة قاتلة تجعله يحاور ذاته، بما فيها من غرائز مكبوتة وأحلام مجهضة، تتجسد كلها عبر صوت آخر، هو صوت أعماقه، فيجسد حقيقته، ويدفعه إلى عدم المبالاة والإحساس بالكآبة "ويحلق غناء الكآبة المتوحشة فوق غابات من زنابق ذابلة سوداء. وأنفث سيجارتي بوجوم، ثم أمضي إلى الأمام، ظهري منحن، وحذائي يضرب وجه الرصيف ضربا سريعا متلاحقا على الرغم من أني كنت أدرك بوضوح أن ليس لدي ما أفعله."‏
                بات الشاب، بسبب إحساس العبث المسيطر عليه، أشبه بعجوز ذي ظهر منحن، ولعل الذي زاد إحساسه بالعبث أنه يعيش فراغا قاتلا، يحيل حياته إلى ظلمات قاسية، تقتل الجمال في الحياة، وتصبغ بياض الزنابق بالسواد!‏
                وقد وجدنا الكاتب في قصة "رجل من دمشق" يطلق على بطله لقب "الغريب" (يقول له صديقه: إذا أنت لست واحدا من الناس، ما أصدقك أيها الغريب)‏
                نلاحظ أن بطل زكريا يلتقي مع بطل كامو، الذي اختزل عبر هذا اللقب صفاته بأكملها، كما اختزل المقولة الأساسية للرواية ، لذا استحق لقب الغريب أن يكون عنوانا لها.‏
                وقد وجدنا في قصة زكريا تامر هذا اللقب ومعظم الصفات التي اشتمل عليها في رواية كامو "سيقول لي المشرفون على المدينة: أيها الغريب لا بد أن تنجح في الإجابة عن أسئلتنا حتى يتم قبولك في مدينتنا....‏
                _ ما اسمك؟‏
                _ أنا بلا اسم‏
                _ متى ولدت؟‏
                _ لم أولد بعد‏
                _ هل تحب العمل؟‏
                _ لا أنا أحب كل الأشياء إلا العمل‏
                _ ما هو الشيء الذي يرفع المخلوق البشري إلى مرتبة إنسان؟‏
                _ الكسل‏
                _ ما هي أحسن الفضائل؟‏
                _ الكسل‏
                _ ما هوايتك؟‏
                _ التثاؤب‏
                وهنا سيصافحونني بحرارة قائلين: ادخل مدينتنا، فأنت مواطن مثالي. اعمل ليومك فقط، وعش كما تشتهي، استسلم لنـزواتك، وافعل كل الحماقات بحماسة"(13)‏
                يقدم لنا هذا المقطع مفردات العبث الأساسية (الكسل، التثاؤب، رفض للمواضعات الاجتماعية...)‏
                تنقل لنا هذه المفردات غير المألوفة أفكارا مستهجنة في تراثنا، بل نلاحظ أنه يقلب مفاهيم تراثية، ويحول دلالاتها إلى النقيض، فمثلا القول المأثور "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" ومثل هذا القول ينهض بحاضر الإنسان ومستقبله، ويجعل العمل في الدنيا كالعمل من أجل الآخرة، نلاحظ أن هذا القول قد أصبح لدى "غريب" زكريا تامر الذي لا ينتمي لقيم مجتمعه، وإنما لقيم غريبة عنه "اعمل ليومك فقط، وعش كما تشتهي،‏
                استسلم لنـزواتك..."‏
                وبذلك استخدم زكريا تامر التناص الترائي (اعمل لدنياك...) بطريقة خاصة تناسب الإنسان الوجودي، إذ قدّمه عبر مفردات توحي بدلالات عكسية (اعمل لدنياك/ اعمل ليومك)‏
                مقولة الحرية:‏
                بما أن الإنسان لدى الوجوديين قوامه العدم، لذلك من الواجب التركيز على فرديته، وهي لن تتحقق إلا بتحقيق حريته ، وقد باتت مقولة الحرية، التي هي أساس الوجود الإنساني، مقولة أساسية في الأدب الغربي، لكن خطورتها تبدو حين تهتم بحرية الكائن بمعزل عن مجتمعه، أي حين تبتعد بالإنسان عن إحساس المسؤولية تجاه الآخر الذي يشاركه الحياة.‏
                في قصة "الصيف" نجد البطل يراود (عطاف) عن نفسها، تستسلم له، بصفته زوج المستقبل، لكنه سرعان ما يتهرب من الزواج، فهو يرفض أن يفي بوعده لها بالزواج، ولا يريد أن يدفع ثمنا باهظا لعلاقته بها، لهذا كان رجاء الفتاة وتوسلها بأن يتزوجها يثير اشمئزازه، ويجعله ينفر من سؤالها: متى نتزوج؟ فهي تريد الزواج مقابل علاقتها به، في حين يرى استسلامها دليل حبها له، أما أن يتزوجها مقابل تلك العلاقة فأمر يثير اشمئزازه، لذلك يعلن إصراره على عدم الزواج بها وليأت الغد حاملا إليه الفضيحة والمصائب.‏
                إن فكرة الحرية، إذا لم يصاحبها إحساس بالمسؤولية، تكون دمارا للإنسان وللمجتمع معا، فالحرية لن تحقق للإنسان حياة أفضل إذا كانت ترتكز على الأنانية وتلغي الآخر، فـ "الآخر هو أنت" كما يقول باختين.‏
                مقولة الإلحاد:‏
                إن غريب زكريا تامر يلتقي تقريبا بغريب كامو في كل ما يؤمن به (الاستمتاع بالحياة الحاضرة، رفض الماضي والمستقبل، رفض العمل، عدم المبالاة بالموت الجمود العاطفي...) بل يشاركه بكل ما لا يؤمن به، فهو ملحد مثل (مورسو) يقول بطل قصة "القبو" "وهاأنذا مرة أخرى لا أقدر على الفرار من قبضته الحجرية. أطبقت عيني باستسلام وفي تلك اللحظة كانت الدماء المنسابة من شراييني نهر رماد بارد، وكانت كآبتي أقسى من عذاب أرض بلا مطر، ولم أكن أكثر من كومة لحم لا يستطيع مساعدتها أي إله"(14)‏
                يبدو، باعتقادنا، الإلحاد أحد أسباب إحساس البطل بالغربة ونتيجة لسيطرة فكرة العبث على فكره، مما يزيد من إحساسه بالوحشة والوحدة، لذلك نسمع بطل (قصة "صهيل الجواد الأبيض") يقول: "هاأنت الآن سكير شارع مقفر، طين متراكم، سحابة بلا مطر، وحيد ككلب الأسواق الأجرب، وتعيش أيضا ككلب الأسواق الأجرب"‏
                ولاشك أن فكرة الإلحاد إحدى الأفكار التي استوردها الكتاب العرب، وتأثروا فيها بالأفكار الغربية وخاصة الوجودية الملحدة، التي انتشرت أكثر من الوجودية المؤمنة، في الوطن العربي، لأن فلاسفتها كانوا أدباء، قدموا أفكارهم عن طريق الرواية والمسرح (سارتر، كامو...)‏
                مقولة الموت:‏
                لا يثير الموت أزمة داخلية لدى بطل زكريا تامر، إنه غير مبال بالموت مثل (مورسو) الذي لم يهتم لموت أقرب إنسان لديه في هذه الحياة (أمه)، كذلك بطل زكريا في قصة "النهر الميت" نجده لا يبالي بموت أخته، بل نجده في المقبرة يبتسم إلى درجة يضطر والده أن يهمس في أذنه "طارق...كف عن الابتسام... أنت في مقبرة"‏
                إن البطل غريب في أفكاره، يصدم بها مجتمعه، ولا يهتم أن يراعي التقاليد الاجتماعية، فهو لا يشعر بحرمة الموت أو جلاله ورهبته، لأن الموت لا يعني لديه شيئا على الإطلاق، كما نجد هذا البطل غريبا عن الطبيعة البشرية التي يثير لديها الموت عدة تساؤلات (عن حقيقة الحياة ومغزاها، التي ترى في موت الآخرين صورة لموتها) لكن البطل الوجودي لا تعنيه تلك التساؤلات، لأن الزمن، الذي هو مادة الحياة، لا يعني لديه شيئا، لذا نجد هذا البطل يستغرب أن يفكر الآخرون بالزمن، فحين يسأل أحدهم بطل زكريا "في قصة "القبو" عن الساعة، لا يهتم بالإجابة، ويحدث نفسه مستغربا "لماذا يسأل مادام سيموت في يوم من الأيام؟"‏
                ولن نستغرب أن تكون أمنيته التي يأمل في تحقيقها هي أن ينام مئة سنة، إذ لا قيمة لحياته ولا معنى لها، كذلك لا قيمة لحياة الآخرين، لذلك حين يُسأل بطل قصة "ابتسم يا وجهها المتعب":‏
                _ أتحب القتل؟ (نجده يجيب)‏
                _ أنا أحب كل التجارب الجديدة‏
                هنا نلاحظ المفهوم المدمر للحرية، فالبطل من أجل أن يمتّع نفسه، يستحلّ قتل إنسان، دون أن يهتم بقيمة الحياة، وبحق الآخرين فيها، إنه لا يفكر عادة إلا بما يحقق له أكبر المتع، دون أن يقيم وزنا لقيمة أخلاقية، أو يحاول أن يعطي الآخرين من الحقوق ما يعطي نفسه، فهو يريد أن يعيش على حساب سعادة الآخرين، وربما على حساب حياتهم.‏
                هنا يحسن أن نشير، كي لا نظلم الكاتب، أن هذه الرؤية المنسلخة عن الإنسان وعن المجتمع، سيتجاوزها الكاتب في معظم قصصه التالية، فتصبح مهمومة بهم الإنسان الفقير والمعذب في وطنه، وقد رأينا ملامح هذه الرؤية في قصة "صهيل الجواد الأبيض" فقد كان أحد أسباب كآبته إحساسه بمعاناة العمال الذين يشاركونه العمل، لذا نسمعه يقول "سيدفنك المعمل في أحشائه الشرسة. تعب تعب تعب. أتنسى رائحة لحم العامل المحترق الذي تساقط عليه الحديد الناري المصهور المندلق من البوتقة التي أفلتت من الأيدي التي تحملها؟ تلك الرائحة هي العالم. لماذا تعيش يا سكران؟ لماذا لا أموت؟..."‏
                إن الإحساس بعبث الوجود يتضاءل كلما زاد إحساس الإنسان بالآخر، باعتقادنا، لذا نستطيع أن نعدّ هذا المقطع (الذي يصور حالة التأثر لآلام الآخرين فنجد فيه ملامح لتجاوز الأنا) نواة لقصصه في المجموعات القادمة، دون أن يعني هذا القول اختفاء لهجة السخرية التي توحي بالعبث، لكنها تقدم رؤية عميقة لبؤس حياة الإنسان العربي، سئل زكريا تامر في إحدى المقابلات الصحفية "ما هو إحساسك بعد الموت؟ فأجاب: أحس بفرح عظيم ونوع من الشماتة، فالقطيع العربي المحكوم قد نقص واحدا"(15)‏
                مقولة رفض العمل:‏
                تحول المعمل إلى قبر، يدفن فيه العامل، لذلك بطل زكريا تامر لا يفكر بمواجهة المستغلين الذين يمتصون دماء العامل، وإنما بالهرب (يقول بطل قصة "صهيل الجواد الأبيض") سأموت خطوة واحدة إلى الأمام وأهرب من تعب المعمل والصياح والوجوه القاسية التي تسرق حتى الغبطة الوديعة في عيني"‏
                إنه إنسان غير منتم للحياة، يهرب من أعباء المواجهة، مفضلا الموت على تحمل مسؤولية العمل في هذه الحياة، لذلك نجد بطل قصة "الأغنية الزرقاء الخشنة" يحلم بأنه حين يصير ملكا، فإن أول قرار سيتخذه هو انه سيهدم المعامل، وسيجمع الآلات في مكان واحد، ثم يقول بصوت كله مهابة وجلال: "أنت أيتها الآلات مخلوقات مجرمة جئت من بلاد غربية، حاملة إلينا الشقاء. إني آمر بتحطيمك باسم الإنسان الذي يريد أن يحيا وديعا نقيا طيبا."‏
                وفي قصة "الرجل الزنجي" نجد العامل لا يشتغل، لذلك حين يدعوه المشرف إلى العمل، نجد صوتا من أعماقه ينطلق قائلا "لا تطعه لأن الخضوع له عار حقيقي، ابصق في وجهه" ونتيجة هذا يطرد من عمله، فنسمع صوت أعماقه (أي صوت الرغبة الداخلية الحقيقية) يقول: "ستطرد من العمل، هذا العقاب الوحيد الذي يملكونه، وبه ستستعيد إنسانيتك المفقودة، وستهدم سدود الشوارع"‏
                إذا في حالة البطالة سيحس بالحرية، وسيستمتع بحياته بشكل أفضل، في حين لو بقي في المعمل لدفن في أحشائه الشرسة!!‏
                صدرت مجموعة زكريا تامر "صهيل الجواد الأبيض" كما بينا سابقا، في بداية الستينيات، ومدينة الكاتب (دمشق) أشبه بقرية صغيرة، لا تحوي إلا العدد القليل من المعامل!‏
                إنه يفكر بعقل غيره، أي ينطلق من ظروف المجتمع الغربي وقيمه، الذي سيطرت فيه الآلة على الحياة الإنسانية، وبذلك قضت على إنسانية الإنسان، إذ حوّلته إلى ما يشبه البرغي في آلاتها، فأحس بالنفور منها، خاصة أنها لم تأته إلا بالموت والحرب، لذا بات من الطبيعي أن ينفر منها، بعد أن أحس أنه هذه المصانع كانت في خدمة آلة الموت، ولم تكن في خدمة إنسانية الإنسان!‏
                أليس من المدهش أن يطالب إنسان مازال يعيش عيشة بدائية متخلفة بتدمير الآلة، التي ستكون إحدى أدوات نهوضه؟! هنا لا نكاد نجد تفسيرا سوى وقوع الكاتب في شرك تقليد الكاتب الغربي، دون أن يعير اهتمامه لظروف مجتمعه المتخلف، الذي مازال في بداية نهوضه، فبدلا من أن يسهم الكاتب في ترسيخ قيم النهضة من عمل وبناء، نجده يرفض كل القيم التي يمكن لها أن تصنع لنا حياة أفضل، وهو بذلك يلهث وراء الكاتب الغربي، الذي ملّ الآلة التي تكاد تلغي وجوده وإنسانيته، والتي كانت أداة لحربين عالميتين، وبذلك ينسى الكاتب العربي أن لا أمل لأمته بالتطور إلا عن طريق التصنيع، وإنتاج ما يستهلك.‏
                خصوصية زكريا تامر:‏
                إننا في هذه الدراسة، التي تناولنا فيها المجموعة القصصية الأولى لزكريا تامر، لا نقيم تجربة الكاتب الإبداعية بأكملها، التي استمرت، وما تزال، قرابة خمسين سنة، وهي تعدّ من أهم التجارب القصصية، ليس في بلده سورية، وإنما في الوطن العربي، فقد صار من أبرز روّادها، الذين استطاعوا أن يقفوا بالقصة القصيرة جنبا إلى جنب الشعر.‏
                ولعل من أسباب تميزه أنه قدّم لنا لغة قصصية مدهشة، لم نعتدها في جماليات القصة العربية من قبل، إنها لغة أشبه بلغة الشعر، ، ذات غنى في دلالاتها، نظرا لما تمتلكه من كثافة موحية، تعتمد المجاز والتصوير وعمق المعنى.‏
                وربما كان من أهم إنجازاته، التي لم نستطع أن نلاحظها في مجموعته الأولى، لكنها برزت في مجموعاته اللاحقة، أنه استطاع أن يجسد هموم الإنسان العربي عبر لغة شعرية تنـزف قهرا لما آل إليه الواقع من بؤس.‏
                _ إذا يحق لنا نقول: إن زكريا تامر كان في مجموعته الأولى كاتبا يتلمس طريقه، فكان من الطبيعي أن يقع في التأثر الذي لاحظنا مبالغة الكاتب فيه، دون أن يعني هذا القول أننا نفتقد ملامح خاصة بالكاتب حتى في هذه المجموعة "صهيل الجواد الأبيض" فقد لاحظنا شيئا من الخصوصية في مجال التأثر بالفكر الوجودي لدى الكاتب، فبدا لنا بعض التعاطف مع معاناة أحد العمال، كما لاحظنا اهتمام زكريا تامر بتصوير هذا المعاناة، وإن كان تصوير بؤس الواقع نادرا في هذه المجموعة، وبذلك لم يستطع أن ينسلخ عن هموم مجتمعه انسلاخا تاما.‏
                _ ولعل من خصوصية الكاتب أنه انتقد بعض الأفكار الوجودية التي يؤمن بها البطل ففي قصة "رجل من دمشق"ظفرنا بنقد ذاتي سمعناه على لسانه حين يسأله صديقه "إذا لست واحدا من الناس، فيجيب أنا شيء فظ جاف حس غير إنساني"‏
                وبذلك تتجرد الشخصية غير المبالية والعبثية من إنسانيتها لتصبح شيئا لا يحس ولا يبالي، نلمح هنا نقدا أسقطه الكاتب على لسان شخصيته!‏
                _ يذكر لنا غريب زكريا تامر أحيانا أسباب ملله أو أسباب إحساسه بالقلق: إنه الفقر (يعيش في قبو) ضُجيج المدينة وافتقاد المرأة، ومثل هذا الوعي يجعل الشخصية على صلة بهموم الواقع رغم تظاهرها بعدم المبالاة.‏
                _ صحيح أننا نجد لدى غريب زكريا تامر الحيادية والجمود العاطفي التي لمسناها لدى غريب ألبير كامو، لكننا لاحظنا بعض الرفض الداخلي لدى غريب تامر لسيطرة الأفكار الوجودية (وخاصة فكرة العبث وعدم المبالاة) على حياته بشكل مطلق، مما يؤكد لنا صعوبة تجاهل بؤس الواقع العربي وخصوصيته.‏
                _ لغة زكريا تامر شديدة الشاعرية، كما بينا سابقا، مما يتلاءم وطبيعة القصة القصيرة، التي تعد اللغة المكثفة من أهم خصائصها، وقد بدا لنا متأثرا بمفاهيم الحداثة الشعرية، فاتضحت لدينا الحساسية اللغوية والغنى التصويري لديه في مجموعته"صهيل الجواد الأبيض" "أتمنى في تلك اللحظة لو تهطل أمطار عجيبة، تفقدني صلابتي، فأتحول إلى سائل تتجرعه الأرض بشوق"‏
                إنه يمتلك القدرة الفنية على تحويل ما هو مألوف مبتذل في الواقع إلى ما هو مدهش بفضل اللغة الشعرية التي ترفع الواقعي المبتذل إلى علياء الفن "يشتد حنين رئتي إلى غيمات الدخان"‏
                جسد لنا الفكر الوجودي عبر لغة شعرية موحية، فمقولة الملل والعبث نلمسها في هذه الجملة على سبيل المثال "عقربا الساعة يتمطيان بضجر" وبذلك تجسد لنا إحساس الملل حتى على الجماد، فما بالكم بالإنسان.‏
                ولعل مما أسهم في جاذبية هذه المجموعة القصصية، على الرغم مما تحتويه من سمات فكرية تصدم المتلقي العربي، تلك الغرائيبية في التخييل التي تصل إلى حد الإدهاش "وقد تأتي لحظة جوع....ميت فجرها فتجبره على أن يأكل عينيه بشراهة بدلا من الخبز المفقود."‏
                هنا يحسن بنا أن نلفت النظر إلى أننا لا ننفي جمالية اللغة عن رواية "الغريب" لألبير كامو، لكن جمالية اللغة الروائية تختلف في طبيعتها عن جمالية اللغة القصصية، لذلك باتت المقارنة الأسلوبية بين مجموعة تامر ورواية كامو غير مجدية، لأن إبداع كل منهما يتناسب مع طبيعة الفن الذي قدّمه، وإن كنا لا نستطيع أن ننفي الابتكار الأسلوبي عن رواية كامو.‏
                الحواشي:‏
                1_ د. غسان السيد "الحرية الوجودية بين الفكر والواقع" مطبعة زيد بن ثابت، دون تاريخ، ص 86‏
                2_ إ. م بوشنسكي "الفلسفة المعاصرة في أوروبا" ت. د. عزت قربي، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، ع (165)سنة 1992، ص 261_ 169 بتصرف‏
                3_ جون ماكوري ت د. إمام عبد الفتاح إمام، مراجعة د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، ع (75) سنة 1982، ص 377‏
                4_ كولن ولسن "اللامنتمي" ت أنيس زكي حسن، دار الآداب، بيروت، ط3، 1982، ص 27‏
                5_ د. حسام الخطيب "سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية" دمشق، 1980، ص52_ 54، بتصرف‏
                6_ د. حسام الخطيب "الأدب المقارن" الجزء الثاني (القسم التطبيقي) مكتبة جامعة دمشق، 1987، ص 94 ، بتصرف‏
                7_ جرمين بري "ألبير كامو" ت جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1981، من ص 32_ 75 بتصرف‏
                8_ المرجع السابق، ص 133_ 134‏
                9_ مجلة الناقد ع (82) نيسان، 1995، ص 15_ 17 بتصرف‏
                10_ زكريا تامر "نداء نوح" دار رياض نجيب الريس، ط1، 1994، عن كلمة الغلاف‏
                11_ زكريا تامر "صهيل الجواد الأبيض" منشورات مكتبة النوري، دمشق، ط2، 1978، ص 10‏
                12_ المصدر السابق، ص 27‏
                13_ المصدر السابق نفسه ص 65_ 66‏
                14_ المصدر نفسه، ص 32‏
                15_ مجلة الناقد ع (82) ص 15‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

                  دراسة الصورة الأدبية (الصورولوجيا) صورة الفرس في بخلاء الجاحظ
                  المقدمة:‏
                  بدا الاهتمام في العقود الأخيرة بأحد فروع الأدب المقارن، وهو علم دراسة الصورة الأدبية (أو الصورلوجيا:imagologie) وقد شهد هذا العلم ازدهارا ملحوظا بسبب مناخ التعايش السلمي الذي بدأ يظهر لدى أغلب الدول، فقد لوحظ أن الصور التي تقدمها الآداب القومية للشعوب الأخرى تشكل مصدرا أساسيا من مصادر سوء التفاهم بين الأمم والدول والثقافات، سواء كان هذا إيجابيا أم سلبيا، ونعني بسوء الفهم السلبي ذلك النوع الناجم عن الصورة العدائية التي يقدمها أدب قومي ما عن شعب آخر أو شعوب أخرى...‏
                  يعني سوء الفهم هذا رؤية غير موضوعية للذات وللآخر في الوقت نفسه، مع أن الذات تدرك نفسها بفضل العلاقة مع الآخر، فالذات تتشكل ويعاد تشكيلها في المواجهة مع الآخر ، لذلك فإن أي تشويه في النظرة للآخر لابد أن يعني تشويها كامنا في الذات، وكما يرى آلان تورين في كتابه "نقد الحداثة" ليس هناك من خبرة أكثر أهمية من العلاقة مع الآخر إذ يتشكل الطرفان كذوات، وحين يتم الاعتراف بالآخر (بكونه ذاتا) تندفع الذات إلى المشاركة في جهود الآخر في التحرر من العراقيل التي تمنعه من الحياة الإنسانية الكريمة، وهذه الغاية لا يمكن أن تكون فردية فقط ، لأن الذات إذا كانت شخصية فإن العراقيل التي تمنع الإنسان من الحياة باعتباره ذاتا هي غالبا ما تكون اجتماعية إدارية سياسية اقتصادية ...تمارس قهرا على الذات، وبالتالي تمتنع هذه الذات عن التفاعل مع الآخر الذي تراه مدمرا لكينونتها.‏
                  إذا كل صورة لابد أن تنشأ عن وعي ، مهما كان صغيرا، بالأنا مقابل الآخر، وهي تعبير أدبي يشير إلى تباعد ذي دلالة بين نظامين ثقافيين ينتميان إلى مكانين مختلفين، وبذلك تكون الصورة (التي هي جزء من التاريخ بالمعنى الوقائعي والسياسي) جزءا من الخيال الاجتماعي، والفضاء الثقافي أو الأيديولوجي الذي تقع ضمنه، فيتضح لنا أن الهوية القومية تقف مقابل الآخر الذي قد يكون مناقضا للأنا أو ندا مكملا لها، تبعا للعلاقة التاريخية التي نشأت بينهما.‏
                  ويمكن المرء أن يلاحظ أنه في العقود الأخيرة ترسخت دراسة الصورة الأدبية باعتبارها فرعا من فروع الأدب المقارن.‏
                  متى بدأت دراسة صورة الآخر في الأدب المقارن؟‏
                  ترجع بدايات هذا الفرع من فروع الأدب المقارن إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، عندما قامت الأديبة الفرنسية المعروفة"مدام دو ستال" بزيارة طويلة لألمانيا، وذلك في وقت تصاعد فيه العداء وسوء الفهم بين الشعبين الفرنسي والألماني، وأثناء الإقامة فوجئت الأديبة بمدى سوء الفهم والجهل الذي يعاني منه الفرنسيون لألمانيا، رغم الجوار الجغرافي، فقد تحقق لها أن الفرنسيين يجهلون أبسط الأمور المتعلقة بالمجتمع والثقافة والأدب والطبيعة في ألمانيا، فرسموا في أذهانهم صورة لشعب فظ غير متحضر، يتكلم لغة غير جميلة، ليس له إنجازات أدبية أو ثقافية تستحق الذكر، إنها باختصار صورة يرسمها شعب لشعب آخر يعدّه عدوا له!‏
                  لكن مدام دو ستال اكتشفت عبر رحلتها أن الشعب الألماني يتمتع بمناقب جمة (الطيبة والاستقامة والصدق) كما فوجئت بجمال الطبيعة لاسيما نهر الراين والغابة السوداء، وبغنى الأدب الألماني والمستوى الرفيع الذي بلغته الفلسفة الألمانية.‏
                  وهكذا كانت محصلة الرحلة التي قامت بها مدام دو ستال إلى ألمانيا كتابا وضعت له عنوانا بسيطا هو "ألمانيا" سعت فيه إلى تصحيح ما في أذهان الفرنسيين من صور مشوهة عن الألمان وبلادهم وثقافتهم، لهذا بإمكاننا أن نعدّ هذا الكتاب بداية لما أصبح يعرف بالدراسة الأدبية للآخر (الصورلوجيا)‏
                  أسباب تباين صورة الأنا عن الآخر:‏
                  إن التباين كبير بين صورة شعب من الشعوب في أدبه القومي (صورة الأنا) وبين ذلك الشعب في الآداب الأجنبية (صورة الآخر) ويمكن رد هذا التباين إلى أسباب أبرزها:‏
                  1-إن صورة الأنا تستند إلى تجارب وخبرات غنية وكافية قام بها الأديب في المجتمع الذي يصوره، إذ ولد ونشأ في ذلك المجتمع، وهو يعرف العديد من أبنائه عن كثب، وتربطه ببعضهم علاقات قرابة وصداقة وغيرها من العلاقات الاجتماعية والنفسية، وهكذا فإن المعرفة العميقة والشاملة بالمجتمع الذي يصوره الأديب تجعل الصورة التي يرسمها في أدبه غنية ودقيقة وتفصيلية، وذلك خلافا لصورة يقدمها أديب لشعب أجنبي لا يعرفه حق المعرفة "أليس أهل مكة أدرى بشعابها."‏
                  2-أما السبب الثاني فيتمثل في أن الأديب الذي يصور مجتمعه هو ابن ذلك المجتمع، وهو مرتبط به ماديا واجتماعيا ونفسيا وأخلاقيا.‏
                  إن من المعروف أن الأديب الحق يحمل هموم مجتمعه، ويحرص عليه حرصه على نفسه، فهو ملاذ أفراحه وأحلامه، تجتمع فيه ذاكرة الماضي إلى جانب رؤى المستقبل، لذلك حين يقدم صورة لمجتمعه تكون مطبوعة بطابع العلاقة الاجتماعية والنفسية والأخلاقية الوثيقة التي تشد الأديب إلى مجتمعه وما يشكل هويته.‏
                  وقد يرسم الأديب أحيانا صورة سلبية لمجتمعه، وهذا ما نلاحظه في كثير من الأعمال الأدبية، لكننا نجد وراء تلك الصورة رغبة عارمة في الإصلاح والتغيير نحو الأفضل، وليس الإساءة إلى المجتمع وهدمه، وهذا لا ينطبق على صلة أديب بمجتمع أدبي لا تربطه به علاقة توحد قومي.‏
                  إن الصورة الأدبية التي يرسمها أديب ما لشعب أجنبي لا تستند في أغلب الحالات إلى أساس صلب من التجربة والمعرفة والإحاطة بأوضاع ذلك المجتمع، وكثيرا ما تكون مصدر تلك الصورة أسفار أو رحلات قام بها الأديب إلى بلد أجنبي، أو إقامة الأديب في ذلك البلد فترة طويلة بغرض الدراسة أو العمل أو العلاج، وفي حالات أخرى يقيم الأديب في البلد الأجنبي لأنه ضاق ذرعا بالعيش في بلاده، ويقدم لنا تاريخ الأدب العربي الحديث أمثلة لا تحصى على ذلك، وعلى سبيل المثال: إقامة الشاعر خليل حاوي في بريطانيا من أجل الدراسة، وإقامة عبد الوهاب البياتي في إسبانيا بسبب الظروف السياسية في بلده.‏
                  وقد لا تكون المعرفة المباشرة للبلد الأجنبي مصدرا من مصادر الصورة عنه، إذ كثيرا ما ترجع تلك الصورة إلى مطالعات الأديب أو إلى أحاديث سمعها حول البلد الأجنبي، فقسم كبير من الأدباء الغربيين قدموا في أعمالهم صورة للشرق العربي الإسلامي دون أن تطأ أقدامهم ذلك الشرق الذي صوروه! فالأديب الألماني غوته عرف الشرق العربي عبر كتاب "ألف ليلة وليلة" والشعر العربي القديم (المعلقات) والقرآن الكريم وكتب التاريخ!‏
                  أما كاتب قصص المغامرات الألماني الشهير (كارل ماي) فنجده قدّم في رواياته لليافعين صورة مليئة بالغرائيبية لشعوب الشرق، وهكذا نلاحظ أن الصورة التي قدّمها تستند إلى المطالعة وامتلاك الأديب مخيلة واسعة في المقام الأول، وليس إلى معرفة دقيقة بالمناطق التي يصفها بكل تفصيل، أي جبال كردستان ومناطق الصحراء العربية!‏
                  إن أهم ما ينبغي التأكيد عليه، هنا، هو أن الصورة التي يرسمها أديب ما لمجتمع أجنبي لا تعبر عن مشكلات ذلك المجتمع وهمومه وقضاياه، ولا تنبع من التزام الأديب حيال المجتمع الأجنبي ومن رغبته في إصلاحه أو تغييره نحو الأفضل، وهي ليست وليدة توحد الأديب مع ذلك المجتمع الذي لا يرتبط به قوميا، فالصورة التي يرسمها الأديب لمجتمع أجنبي تنبع أولا وقبل كل شيء آخر من مشكلات الأديب نفسه ومشكلات قومه في مواجهة الآخر، لذلك تلبي الصورة الأدبية في الدرجة الأولى حاجات نفسية أو فنية أو اجتماعية للشعب الأجنبي، دون أن تلبي حاجات المجتمع المدروس في أغلب الأحيان.‏
                  صورة الشرق لدى أدباء الغرب:‏
                  إن المتأمل لصورة الشرق في آثار الأدباء الغربيين يلاحظ أنها تتسم بسمتين رئيسيتين هما:‏
                  1-رؤية الشرق بعين أوروبية وليس بعين شرقية أو بالأحرى ليست رؤية واقعية، فالمرء مهما حاول لا يستطيع أن يرى إلا عبر منظاره وأفقه، وهذا أمر معرفي طبيعي لا علاقة له بحسن النية أو بسوئها غالبا، فالشرقي بدوره لا يستطيع أن يرى الغرب إلا بأعين شرقية.‏
                  2-إن صورة الشرق تلبي من الناحية الإنتاجية والاستقبالية حاجات ثقافية أوروبية وعلى رأسها حاجتان: الحاجة إلى الغرائبية والحاجة إلى تأكيد الهوية الخاصة.‏
                  إن للغرائبية قيمة ترفيهية كبيرة، وذلك لما تنطوي عليه من إثارة، خاصة حين تترافق هذه الغرائبية مع مغامرات في بلاد بعيدة، وكذلك فإن الأوروبي الذي يواجه بصور الشعوب الأخرى يصبح أكثر تمسكا بهويته الثقافية، حيث يكتشف حسنات نمطه في الحياة وتفوق ثقافته (بالمعنى الواسع لكلمة ثقافة) على الثقافات الأخرى.‏
                  غير أن الصورة الأدبية للآخر في آثار أديب ما قد تعكس حاجة ذلك الأديب (ومعه عدد كبير من المتلقين) إلى الهروب من مجتمعهم بكل ما يعتلج به من مشكلات، لذلك فإن صورة الهند والصين وإيران والمشرق العربي في آثار كثير من الأدباء الأوروبيين، تنبع من رغبة هؤلاء الأدباء في الهروب خياليا من مجتمعاتهم الصناعية التي تسود فيها قوانين العقلانية والتقنية الآلية والإدارة الشاملة الفعالة إلى مجتمعات غير صناعية متأخرة تقنيا، يتخيل الأديب الأوروبي أنه وجد فيها قدرا أكبر من التحرر من قيود المدينة، في هذه الحالة تكون الصورة التي رسمها الأديب للبلد الأجنبي إيجابية قد نبلغ حد التمجيد، وهذا ينطبق على أعمال "غوته"‏
                  وكذلك نجد صورة الغرب في أعمال كثير من الأدباء العرب في العصر الحديث، والفرق بينهم وبين زملائهم الأوروبيين الهاربين إلى الشرق هو أن الأديب العربي الذي يهرب بخياله إلى الغرب يود الهروب من مجتمع متأخر تقنيا وإداريا واجتماعيا، إنه مجتمع مستبد يقهر الروح والعقل، وبذلك يكون الهروب إلى المجتمع نفسه الذي يهرب منه زملاؤه الأوروبيون.‏
                  ولا ننسى الصورة الأدبية للآخر التي تنبع من التناقض الحضاري والسياسي بين الأمة التي ينتمي إليها الأديب أو الدارس وبين أمة أو أمم أجنبية، كما هي الحال صورة العرب والمسلمين في آثار الكتاب الأوروبيين، فقد بدا كرههم للحضارة العربية الإسلامية واضحا ومناصبتهم العداء والرغبة في تحطيم تلك الحضارة بالوسائل العسكرية، وهذا ما عبرت عنه الغزوات الصليبية.‏
                  ماذا تفيد دراسة الصورة الأدبية للآخر؟‏
                  إنها تفيد في توسيع أفق الكتابة والتفكير والحلم بصورة مختلفة، إنها إغناء للشخصية الفردية من جهة والتعرف الذاتي من جهة أخرى، هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الجماعي فتفيد في تصريف الانفعالات المكبوتة تجاه الآخر أو في التعويض وتسويغ أوهام المجتمع الكامنة في أعماقه، كذلك تبين الصورة المغلوطة المكونة عن الشعوب، فتسهم في إزالة سوء التفاهم وتؤسس لعلاقات معافاة من الأوهام والتشويه السلبي والإيجابي، تعطي الآخر حقه كما تعطي الذات.‏
                  كيف يتم تلقي صورة الآخر؟‏
                  كثيرا ما يتم تلقي صورة الآخر عبر ترجمة النص الأجنبي وتوضيحه بمقدمات، وعبر مقالات نقدية ودراسات أدبية كتبت للدوريات والصحافة تتناول الآداب الأجنبية، وكذلك يتم تلقيها عبر الإخراج السينمائي والمعارض الفنية، و عبر أدب الرحلات وعبر الإبداع الأدبي الذي يجسد الآخر بوساطة الخيال (وخاصة فن القصة والمسرح ونادرا ما تظهر في الفن الشعري) مع الأخذ بعين الاعتبار الشروط الاجتماعية الثقافية التي يجري ضمنها التلقي.‏
                  أعداء دراسة الصورة في الأدب المقارن.‏
                  ثمة من يعارض دراسة الصورة الأدبية ضمن اهتمامات الأدب المقارن، ويراها ممثلة للمدرسة الفرنسية في الدراسات المقارنة التي تركز على العوامل التاريخية والمؤثرات الملموسة، وهي لذلك تعتمد الوضعية الجديدة كما قال رينيه ويلك منذ عام (1953) في مقاله السنوي للأدب المقارن.‏
                  بعد ذلك بعشر سنوات ندد إيتامبل في كتابه (comparaison n,est pas raison) بالدراسات التي تهم المؤرخ وعالم الاجتماع ورجل الدولة، وعلى رأسها دراسة صورة الآخر.‏
                  عناصر تكوين الصورة الأدبية للآخر:‏
                  لو تأملنا عناصر تكوين الصورة بطريقة نظرية لوجدنا أن ثمة عنصرا أوليا للصورة التي نحاول تشكيلها هو ذلك المخزون الواسع من الكلمات التي تنقل صورة الآخر لنا، وهي حقول معجمية تشكل مفاهيم ومشاعر مشتركة من حيث المبدأ بين الكاتب وجمهوره، لذلك علينا أن نميز بين الكلمات النابعة من بلد الناظر (أي الدارس) التي تفيد في تعريف البلد المنظور (أي المدروس) والكلمات التي أخذت من لغة البلد المنظور ونقلت دون ترجمة إلى لغة البلد الناظر وإلى فضائه الثقافي وإلى نصوصه وخياله أيضا.‏
                  إذا الصورة "فعل ثقافي لأنها صورة عن الآخر، وماعدا ذلك فنحن حين نتكلم عن الصورة الثقافية، يجب أن تدرس كمادة، وممارسة أنتربولوجية لها مكانتها، ووظيفتها ضمن العالم الرمزي المسمى هنا (خياليا) والذي لا ينفصل عن أية مؤسسة اجتماعية أو ثقافية، لأن المجتمع يرى نفسه، ويكتب عنها، ويفكر فيها، ويحلم بها من خلال هذا العالم الرمزي.‏
                  ومن المعروف أن الصورة لغة (تختلط فيها المشاعر بالأفكار) وهي ترجع إلى واقع ترسمه وتدل عليه، لكن الخيال هو الذي يرفع لغة الصورة إلى مرتبة الجمال الفني، وهو في الوقت نفسه تعبير عن المجتمع والثقافة، إذ يجسد المسرح والمكان الذي تعبر فيه اللغة عن نفسها بطريقة مجازية، أي بمساعدة الصور والأشكال التي يرى فيها المجتمع ذاته فيتحدد وبالتالي يستطيع أن يحلم.‏
                  إذا تتأثر صورة الآخر بحلم اليقظة الذي يراودنا حوله، وبذلك بات الخيال الاجتماعي مشكلا أفق البحث عن صورة الآخر، ومن هنا نجد الخيال يشكل جزءا لا يتجزأ من التاريخ بالمعنى الوقائعي والسياسي والاجتماعي.‏
                  وهناك مظاهر أخرى تتدخل في تشكيل الصورة مثل ظاهرة "العدو الموروث" والاستعمار ونتائجه الأيديولوجية والثقافية (العنصرية والتغريب الفني والأدبي) كما نجدها تتدخل في مضمون الخيال الاجتماعي في لحظة تاريخية معينة، لذلك من الواضح ارتباط الخيال بماضي المجتمع وصيرورته.‏
                  وبما أن الصورة تعد نتاجا مشوها للواقع، إلى حد ما، فإن الخيال الذي ندرسه لا يمكن أن يكون بديلا عن التاريخ السياسي والاقتصادي والدبلوماسي.‏
                  إن المتأمل للصورة يلاحظ خضوعها لعناصر مشوّهة لها، وخاصة شيوع النمط الذي يعد شكلا أوليا للصورة أو كاريكاتوريا، تتجلى هذه الصورة من خلال كذب النمط أو تأثيراته المؤذية على المستوى الثقافي، فتبتعد عن التجدد، وتبدو أقرب إلى الآلية والجمود، مما يسيء إليها ويبعدها عن الرمزية والتعدد الدلالي، وبذلك عندما يشيع النمط في الصورة تختزل إلى رسالة واحدة وجوهرية، هي بالنتيجة صورة أولى وأخيرة للآخر، أي صورة جامدة، تصلح لكل زمان دون أن يطرأ عليها أي تغيير، وبذلك يبتعد النمط عن الصورة الحقيقية، ليفسح المجال للصورة المشوهة، التي تعتمد النظرة الثابتة، وتجسد زمنا ماضيا متوقفا، تبدو تعبيرا عن معرفة تسمى جماعية، تسعى كي تكون صالحة في كل لحظة تاريخية، فإذا كانت ليست متعددة الدلالات لكنها متعددة السياقات، إذ يمكن استخدامها في أية لحظة، وبذلك يطرح النمط بصورة خفية طبقة ثابتة وتفرعا ثنائيا للعالم والثقافات (إن قول الفرنسيين أثناء التعريف الذاتي بأن الفرنسي شارب نبيذ هو نمط يتعارض مع الإنكليزي شارب الشاي أو الألماني شارب البيرة) وذلك بهدف الإيحاء بأن الفرنسيين يحتلون مرتبة أعلى من غيرهم .‏
                  يعدّ النمط المعبر عنه بالسرد والصورة والسيناريو بداية ممكنة للأسطورة (التي هي معرفة وسلطة وتاريخ للجماعة، وهي قصة أخلاقية تقوي تماسك الجماعة التي أنتجتها) لذلك نجد الصورة موازية للأسطورة، إذ لو قارنا بين اللغة الرمزية واللغة الأسطورية نستطيع أن نتبين أن الصورة مثل الأسطورة تمتلك القدرة على الرواية، كما تمتلك القدرة على إحياء قصة ما وجعلها نموذجية، تتحرك في عصرنا عبر رؤية الماضي !!‏
                  تخصص دراسة الصورة الإطار المكاني الزمني من أجل فهم أسس الصورة، وهذا الإطار لا يعني أنه مولد لرسم وصفي خارجي، إنه جزء من عناصر أخرى متشابكة في السرد (الشخصيات، الراوي...) يستطيع أن يقدم لنا بعض التفسيرات المضيئة .‏
                  إذا علينا دراسة إجراءات تنظيم صورة الأجنبي، أو نحاول إعادة تنظيمها: مثل طريقة التحديد الفضائي والتفرعات الثنائية الناتجة عن حلم اليقظة عن الفضاء الأجنبي (الأعلى مقابل الأدنى، الحركات المتصاعدة مقابل حركات السقوط والانهيار)‏
                  يجب الانتباه إلى كل ما يجعل الفضاء الخارجي مماثلا للفضاء الداخلي (الشخصية، أنا الراوي) خاصة حين يستطيع الفضاء الأجنبي أن يعيد إنتاج مشهد عقلي أو يعطيه دلالة تساعد على نسج علاقات بين الفضاء الجغرافي والفضاء النفسي على المستوى المجازي على الأقل (مثل دراسة الأماكن المفضلة والمناطق المعطاة أهمية أي قيما إيجابية أو سلبية، وكل ما يسمح بترميز الفضاء، وكل ما يطلق عليه الآخرون تقديس الفضاء)‏
                  كما علينا أن ننتبه إلى الفضاء الزمني إذ من المفيد ملاحظة الإشارات المتسلسلة تاريخيا، لأن التواريخ التي يقدمها النص تساعد على إعطاء صورة دقيقة للأجنبي، شرط أن نكون حذرين إزاء كل ما يمكن أن يبدو أسطرة للزمن التاريخي والسردي عند اللزوم، كما يجب الانتباه إلى أن الأنماط يمكن أن تمنح النص بعدا تاريخيا ذا قيمة قصوى، ولاشك أن تقديم الأجنبي يجعله يشارك في الزمن الأسطوري خارج كل حدود دقيقة، الأمر الذي يعني ابتعادا عن الزمن المتتابع (الخطي) للتاريخ السياسي (الذي يسير في اتجاه واحد لا يتغير ولا يتوقف) وهكذا يبدو لنا أن هناك تعارضا بين الزمن الخطي والزمن الدائري للصورة.‏
                  ومن العناصر المكونة للصورة أيضا تلك العناصر التي تتكثّف فيها تعبيرات الآخر والسمات والحركة والحديث والعلاقات الاجتماعية والعناصر التي تتعدى التعريف البسيط حاملة دلالة خاصة ضمن آلية النص، وبذلك نجد كثيرا من العلاقات داخل النص الأدبي مفيدة من أجل دراسة الآخر، مثل دراسة العلاقات الذكرية والأنثوية ضمن الانتساب إلى ثقافات متنوعة (الرجل العربي يقيم علاقة مع المرأة الغربية أكثر من المرأة العربية مع الرجل الغربي، كذلك الرجل الفرنسي يغامر مع امرأة إسبانية ولا يحدث النقيض).‏
                  وهناك الوصف المخالف الذي يساعد على تقديم صورة الآخر من خلال ثنائيات متناقضة تدمج الطبيعة والثقافة مثل متوحش مقابل متحضر، وبربري مقابل مثقف وإنسان مقابل حيوان ورجل مقابل امرأة وكائن متفوق مقابل كائن ضعيف.‏
                  ومن مكونات الصورة أيضا وصف جسد الآخر ومنظومة قيمه ومظاهر ثقافته بالمعنى الإناسي (مثل الدين والمطبخ واللباس والموسيقا...) وهنا يساعدنا علم تطور الإنسان (الإناسي) من الناحية الثقافية، فنواجه النص الصوري بوصفه شاهدا ووثيقة عن الأجنبي ، وبذلك تحاول دراسة الصورة فهم كيف كتب النص الذي يعد تطورا وصفيا وإدراكيا في الوقت نفسه، فنستطيع أن نتعرف ما قيل عن ثقافة الآخر أو ما سكت عنه.‏
                  ويبدو لنا عنصر السيناريو هاما في توضيح صورة الآخر خاصة إذا استفدنا من علم الدلالة (الذي هو حقل معرفي يدرس حياة الرموز ضمن الحياة الاجتماعية، كما يدرس تطور التواصل بين الأمم) ولذلك لم تعد الصورة سلسلة من العلاقات التراتبية والشكلية في نص معين، بل صارت توضيحا كاملا لحوار بين ثقافتين من خلالها يقدم الأجنبي عبر تشكيل جمالي وثقافي أي يقدم عبر (الصورة السيناريو).‏
                  كذلك فإن المعطيات التاريخية التي تعني الأخبار ذات الطبيعة المزدوجة (سياسية، اقتصادية) كما تعني خطوط القوى التي تتحكم بالثقافة في لحظة معينة، تستطيع أن تساعد على الكشف عن الدلالة الاجتماعية والثقافية للنص، كما تستطيع الدراسة المعجمية للصورة الكشف عن الدلالة النصية ، وبذلك يتوجب علينا رؤية مدى انسجام النص الأدبي مع الوضع الثقافي والاجتماعي (ومن هنا يأتي الربط الإجباري بين الأدب والتاريخ أو بصورة أدق بين الإنتاج النصي والتطور التاريخي) فتتم متابعة كيفية تداخل التقديم الأدبي للأجنبي مع الثقافة المحلية، إذ ليس الأمر مقابلة النص مع سياقه الأدبي من أجل فهم وتتبع كيفية اختيار كل عنصر من عناصر الصورة الثقافية (الذي بات عنصرا ضمن النص ليكون مرجعا ثقافيا للمتلقي) بل إن الأمر يجب أن يكون أيضا خارج النص أي محاولة مقابلته بالتفسيرات التي يقدمها المؤرخون، فيتم فهم النص ووظيفة الصورة التي يقدمها عبر دورة من خلال التاريخ خاصة تاريخ العقليات، لذلك يعرّف التاريخ بوصفه: دراسة التأملات والعلاقات الجدلية بين الشروط الموضوعية لحياة الناس التي يعيشونها، والطريقة التي يروي بها هذه الحياة.‏
                  إشكالية دراسة الصورة:‏
                  إن دراسة الصورة لم تقتصر على الأدب، فقد وجدناها في حقول معرفية مختلفة إلى جانب الأدب، لهذا عانت الصورة من انحرافين خاصة في فرنسا:‏
                  _ تركز الدراسات الاهتمام على النصوص الأدبية دون الانتباه للتحليل الثقافي التاريخي.‏
                  _ تركز الدراسات اهتمامها على الجوانب التاريخية والثقافية وتهمل الجانب الجمالي للأدب،‏
                  وبذلك تتحول الدراسة إلى إحصاءات اختزالية لصورة الأجنبي.‏
                  إن علم دراسة الصورة بحاجة إلى دراسات علمية (علم السلالات والتطور الإنساني أي الأنتربولوجية، وعلم الاجتماع ، علم التاريخ.) كما انه بحاجة إلى دراسات موازية أو بالأحرى شهادات من فعاليات أخرى معاصرة‏
                  (مثل الصحافة، الأفلام، الصور الكاريكاتورية..الخ) لكن دون نسيان‏
                  دراسة الجانب الأدبي‏
                  ثمة إشكالية لم تستطع دراسات صورة الآخر هجرها هي أنها تبدو لنا جزءا من سوء التفاهم الاجتماعي والثقافي، إذ إن تقديم صورة الآخر يخضع لنوع معقد من الخيار الفكري المختلط بالمشاعر، فلا يتم الانتباه إلى ما يسمح بالاختلاف (الآخر مقابل الأنا) أو التماثل (الآخر يشبه الأنا) فكثيرا ما يكون التعبير عن الآخر نفيا له، إذ تدرس الصورة وفقا لأفكار مسبّقة، وتصبح تعبيرا عن الذات وعن العالم الذي يحيط بنا كما نراه وليس كما هو حقيقة بمعزل عن الأوهام التي تورث رؤية متعصبة، ولذلك تبدو صورة الآخر صورة للعلاقات التي نقيمها بين العالم (الفضاء الأجنبي) وبيننا، فتبدو لغة الآخر لغة ثانية موازية للغة التي أتكلمها، قد تتعايش معها وتغنيها، من أجل إضافة شيء جديد، وقوله بشكل مختلف، وقد تنفيها لتعيش في عزلة ثقافية تؤسسها أفكار موهومة.‏
                  ومن أجل حل بعض إشكاليات دراسة الصورة يتوجب عليها ألا تهتم "بواقعية" الصورة وبعلاقتها بالواقع، وأن تهتم أكثر بمطابقتها الواضحة لنموذج أو خطة ثقافية موجودة قبلها في الثقافة المحلية (الدارسة) وليس في ثقافة الآخر (المدروس) لذا من المهم معرفة أسسها وعناصرها ووظيفتها الاجتماعية وآليتها.‏
                  في الحقيقة إن الأنا حين تنظر إلى الآخر لا تنقل صورته فقط، لكنها تنقل صورتها الذاتية أيضا، إذ نجد في صورة الآخر مجموعة من القيم والأفكار التي نؤمن بها، كما نلمح فيها مجموعة العلاقات التي تقيمها مع العالم، لذلك يكاد يكون من المستحيل تجنب ألا تظهر الصورة (المقدمة عن الآخر) في هيئة نفي له، سواء أكانت الصورة مقدمة على المستوى الفردي من قبل الكاتب أم على المستوى الجماعي من قبل الأمة، إذ يتم التعبير عن الآخر بنفيه ليتم التعبير عن الذات!!‏
                  وعلى هذا الأساس يجب أن تتحول دراسة صورة الآخر، إلى دراسة حول الوعي التعبيري للأنا، بمعنى آخر يجب أن تتحول إلى دراسة منفتحة على الآخر كانفتاحها على ذاتها، لاعتمادها التسامح أي النظرة الندية التي تعترف بالآخر، ولا تعد الأنا فوقه .‏
                  كذلك فإن شيوع النمط أساء إلى الصورة فقسّم العالم إلى ثنائيات جامدة في الثقافة (تفوق أو تخلف) والطبيعية (أي من الناحية الفيزيولوجية بشرة بيضاء أو سوداء مثلا) تؤكد هذه الثنائيات دونية بعض الشعوب أو تفوقها، مما يؤسس لدراسات عنصرية تزيد الهوة بين الشعوب، وهذا نقيض ما تسعى إليه الدراسات الصورية الحديثة التي تهدف إلى خلق التواصل بين الشعوب مزيلة سوء الفهم والتعصب.‏
                  وحين ندرس الأدب المحلي أو الأدب الاستعماري، يجب الانتباه إلى أن الثقافة المهيمنة تزيد من إشكالية صورة الآخر، إذ نجدها تحتل مكانا ضمن المشاكل السياسية لتنعكس على جمالية الصورة، فتقديم صورة مشوهة لأمة ما، عبر الأدب، مما يعني ترديا في العلاقات السياسية في الوقت الراهن، وتوترا في علاقات الأمس، وإن أي محاولة للتواصل تقوم بين أمتين لابد أن تبدأ بدراسة الصورة التي تكونت عنهما في أدب كل منهما، لإزالة الصورة المغلوطة وبناء الصورة الصحيحة.‏
                  إذاً المشكلة كيف نظهر منطقية الصورة وليس كذبها، لذلك يعدّ علم دراسة الصورة جزءا من تاريخ الأفكار والثقافات التي تنشأ في بلد واحد، أو عدة بلدان، وعن طريق تناول الآخر بالدراسة نظفر بتفكير مختلف يغني ثقافتنا.‏
                  وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعد الصورة تجسيدا لفعل ثقافي يبرز لنا كيف يتم التفاعل مع الآخر، فنلمس مجمل الأفكار والقيم التي تشكل وجدان الأمة.‏
                  حالات فهم الآخر وقراءته:‏
                  لمحنا من خلال ما تقدم معالم عديدة لقراءة الآخر وفهمه، يجدر بنا تأملها وتوضيح أهم الحالات التي يمكننا تلمسها مما سبق:‏
                  1- الحالة الأولى (التشويه السلبي) في حالة العداء للآخر حيث تؤدي العلاقات العدائية بين الشعوب إلى تكوين صورة سلبية عن الآخر (المعادي) نظرا للمشاعر العدائية وسوء الفهم، لذلك لن يسمح بسماع صوت (الآخر المعادي) فيبرز الواقع الثقافي الأجنبي في مرتبة أدنى من الثقافة المحلية، وبذلك نواجه علاقات وصور سلبية، يمكن أن ندعوها بالتشويه السلبي، وعلى سبيل المثال بدت لنا صورة الأوروبي (المستعمر) في الأدب العربي مشوهة في كثير من الأحيان (إنه إنسان مادي، غير أخلاقي...)‏
                  في مثل هذه الحالة تكون وظيفة صورة الآخر إثارة مشاعر العداء تجاه الآخر ومشاعر الولاء والتضامن والتوحد تجاه الذات أو الأنا أو النحن، وبذلك تتحول الصورة إلى وسيلة من وسائل التعبئة النفسية، وعلى هذا الصعيد قدّم الأدب الصهيوني الحديث مثالا صارخا على ذلك.‏
                  2-الحالة الثانية (التشويه الإيجابي) يرى فيها الكاتب (أو الجماعة) الواقع الثقافي الأجنبي متفوقا بصورة مطلقة على الثقافة الوطنية الأصلية، لذلك نجدها على نقيض الحالة الأولى تعد نفسها في مرتبة أدنى، فيترافق التفضيل الإيجابي للأجنبي مع عقد نقص تعاني منها الذات تجاه ثقافة الآخر، وأسلوب حياته، فنجد أنفسنا أمام كاتب أو جماعة من الكتاب يعانون من حالة من الهوس والانبهار بالآخر، وبذلك يقدم الوهم في صورة الأجنبي على حساب الصورة الحقيقية له، مما يمكننا أن ندعو هذا التشويه بالتشويه الإيجابي، فمثلا نجد بعض الكتاب منبهرين بالنموذج الغربي للحياة (حرية، ديمقراطية...) وهذا يعني تمجيدا للحضارة الغربية وتجاهلا لمشكلاتها، وعدم تبني أي موقف نقدي تجاهها، رغم النكبات التي مازال العرب يعانون منها إلى اليوم بسبب النزعة العدوانية الغربية.‏
                  3-الحالة الثالثة (التسامح) حيث تنطلق دراسة الصورة من رؤية متوازنة للذات والآخر، لذا نجد التسامح هو الحالة الوحيدة للتبادل الحقيقي، إذ يطور تقويم الأجنبي وإعادة تفسيره عبر رؤية موضوعية، تنظر للآخر باعتباره ندا، فينتفي الهوس والانبهار (الاستعارة من الآخر) والرهاب (الذي ينفي الآخر ويفترض الموت الرمزي له، وبذلك يعبر التسامح طريقا صعبا يمر عبر الاعتراف بالآخر حيث تتعايش الأنا مع الآخر، وتراه ندا غير مختلف (أي غير دخيل أو هامشي...) ولاشك أن التسامح يحتاج إلى نضج فكري يقوم على التأمل والتمثل لا على استيراد الأفكار والمعطيات الأجنبية، وبالتالي يحتاج إلى حوار دائم بين الذات والآخر بعيدا عن العقد النفسية (الهوس، الرهاب).(1)‏
                  مهمات دراسة صورة الآخر في الأدب العربي:‏
                  تتكون مهمة الأدب المقارن في الوطن العربي على صعيد دراسة صورة الآخر من شقين:‏
                  1. دراسة صورة العرب في الآداب الأجنبية.‏
                  2. دراسة صورة الشعوب الأجنبية في الأدب العربي قديمه وحديثه.‏
                  إن النوع الأول من دراسة صورة الآخر يساعدنا على التعرّف على أشكال التشويه التي تنطوي عليها صورة العرب في الآداب الأجنبية، مما يقدم تمهيدا لتصحيحه ومعالجته، إذ إن للعرب مصلحة في أن تكون صورتهم في الخارج صورة واقعية وقريبة من الحقيقة، ومن خلال صورتنا في الآداب الأجنبية نستطيع أيضا أن نفهم أنفسنا بشكل أفضل، وفي هذه الحالة تشكل الآداب الأجنبية مرآة، قد تكون مقعرة أو محدبة تشوه صورتنا، لكننا يمكن أن نرى فيها أنفسنا ونتعرف بفضلها على نقاط ضعفنا التي لا تروق لنا، لكن من الضروري أن نتعرف عليها.‏
                  إن دراسة صورة العرب في الآداب الأجنبية يمكن أن تؤدي دورا متمما لدراسة تلك الصورة في وسائل الإعلام الأجنبية، وذلك في إطار المساعي العربية للتصدي لتشويه صورة العرب الذي تمارسه الجهات المعادية وعلى رأسها الأوساط الصهيونية والاستعمارية والشعوبية، ولحسن الحظ فقد انتبه العرب في الأعوام الأخيرة إلى أهمية دراسة صورة الآخر في الأدب.‏
                  أما النوع الآخر (الذي هو دراسة صورة الشعوب الأجنبية في الأدب العربي) فنجده يفيد فوائد جمة، إذ إن الصورة المشوهة، كصورة العرب في الآداب الأجنبية، تعكس أشكال التشويه التي تنطوي عليها إشكالية فكرية واجتماعية ونفسية عربية تستحق أن تدرس وتحلل، فصورة الأوروبيين في الأدب العربي تنطوي على تشوه إيجابي تارة وتشوه سلبي تارة أخرى، لذلك نجد في مقابل الصورة السلبية للغرب (المادي) نجد صورة إيجابية للشرق الذي يسود فيه الدفء الإنساني والإخاء والروحانية،إنها الصورة النمطية للشرق الذي يقف في مواجهة الغرب المادي.‏
                  لكن أصحاب الصورة النمطية يعجزون عن تفسير تفوق الغرب على المستوى العالمي في القرنين الأخيرين، وانتشار أسلوب الحياة الغربية في الشرق، وهو ما يعرف بظاهرة "التغريب" وقد ظهرت صورة الأوربيين في ذروة تشوهها حين صورت المرأة الأوروبية بصورة المرأة المستهترة التي تجري وراء شهواتها نابذة كل القيم الأصيلة!!(2)‏
                  إذاً إن القول بوجود فضاء ثقافي واحد في العالم أمر غير دقيق، لأننا لم نتخل عن أوهامنا المسبقة حول أنفسنا وحول الآخر‏
                  وقد يلاحظ المرء إهمال الجانب الجمالي في الدراسات التي تهتم بصورة الآخر في الأدب يؤدي بها إلى أن تتحول إلى نوع من الدراسات الاجتماعية أو الفكرية أو النفسية، لذلك نحن بحاجة إلى دراسات مقارنة تستطيع أن تقيم توازنا بين الانفتاح الفكري على الآخر والانفتاح الفني على النص الأدبي.‏
                  في الحقيقة ثمة طموح لدى دارسي الأدب المقارن أن تصبح دراساتهم أقرب إلى العلم الإنساني، ومن أجل هذا الطموح في دراسة الصورة نجدهم يستخدمون مناهج متعددة، كالبنيوية والتاريخية والتحليل النفسي (الذي يمكن أن نفسر على ضوئه أسباب ورود الفضاء الأجنبي: إسبانيا لدى فيكتور هوغو، إذ يرجع ذلك إلى انبعاث مشاعر تعود إلى حقبة محددة من طفولته حيث عاش في إسبانيا)‏
                  إن من المفيد أن نجد الدارس المقارن (قبل أن يبدأ بحثه في صورة الآخر) يعيد فحص موقفه الفكري ومنظومة قيمه، أي يمتلك القدرة على النقد الذاتي تجاه ممارساته الثقافية وتأملاته الفكرية، كي يستطيع دراسة صورة الآخر التي تكونت في الماضي من أجل فهم الحاضر والتأسيس لمستقبل أفضل.(3)‏


                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: مقاربات تطبيقية فـي الأدب المقارن

                    صورة الفرس في كتاب "البخلاء" للجاحظ
                    إن تحقيق الانفتاح على الآخر (الفرس) أي التوازن في الرؤية بين الناحية الفكرية والجمالية هو ما تطمح إليه هذه الدراسة، كما تطمح بتناولها نموذجا من الماضي إلى تقديم فهم للحاضر يستند على أسس قويمة للعلاقات العربية الإيرانية.‏
                    نبذة عن حياة الجاحظ وعصره:‏
                    هو أبو عثمان عمرو بن بحر، قيل أنه من كنانة، وقبل هو كناني ولاء، وأن جده فزارة كان عبدا أسود يعمل جمّالا لعمرو بن قلع الكناني، ومن المعروف أنه لقب بالجاحظ لجحوظ عينيه.‏
                    بدأ تعليمه في كتاتيب البصرة حيث كان يحفظ القرآن الكريم وشيئا من الأشعار والنحو والفقه، ثم مضى إلى المساجد يستمع إلى حلقات العلماء الذين كانوا يحاضرون في كل فن وعلم، فأخذ يلتهم كل ما يسمعه هناك، كذلك كان يذهب إلى سوق المربد (التي كانت سوقا تجارية وأدبية كبيرة آنذاك).‏
                    ورغم أنه كان فقيرا يبيع الخبز والسمك بسيحان (أحد نهيرات البصرة) إلا أنه كان نهما في قراءة الكتب حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر والقراءة، ولم يقع بيده كتاب قط إلا قرأه مهما كان موضوعه، ويقال أنه لم يكتف بقراءة كتاب في اليوم الواحد! وعلى هذا الأساس لن نستغرب ثقافته المتنوعة، ومن المعروف أن البصرة، في عصره، كانت دار ترجمة، قبل نشوء بغداد وفيها ترجم ابن المقفع كليلة ودمنة وكتب الآداب الفارسية ومنطق أرسطو.‏
                    شغف بالاعتزال، فتتلمذ على يد أساتذة المعتزلة أمثال أبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام، الذي كان يمزج بقوة بين الاعتزال والفلسفة، مما دفع الجاحظ للتزود من منابعها الأصلية، وقد شكل أساتذته مثلا أعلى له في الثقافة الموسوعية التي هي سمة من سمات العصر العباسي، فكان مستوعبا لجميع ثقافات عصره من فارسية وهندية وعربية وإسلامية.‏
                    إن تأمله في أفكار المعتزلة وخاصة آراء أستاذه النظام، أدت به أن يعتنق مجموعة من الآراء استطاع أن يكون بفضلها فرقة معتزلية دعيت باسمه (الجاحظية)‏
                    كان يكتب، في بداياته، باسم النابهين من الكتاب القدماء أمثال ابن المقفع أو الخليل أو العتابي أو سلم صاحب بيت الحكمة، لكن سرعان ما لفت نظر الخليفة المأمون، عن طريق أستاذه ثمامة بن أشرس، فتحول من البصرة إلى بغداد، وأصبح كاتبا رسميا للدولة، ويقال بأن المأمون قلّده ديوان الرسائل، لكنه لم يبق فيه سوى ثلاثة أيام، عاد بعدها إلى صناعته في التأليف والكتابة الأدبية، مكتفيا، فيما يبدو، براتبه، فقد أصبح الكاتب الرسمي للدولة.‏
                    تعرّف في بغداد على البيئة الأدبية والعلمية في المساجد وحلقات الدرس والمناظرة، وحين تحولت الخلافة إلى (سامراء) في عهد المعتصم انتقل إليها الجاحظ.‏
                    بدت كتبه ثمرة للنضج العقلي الذي شاع في العصر العباسي، خاصة الجهود العقلية للمعتزلة، سواء من حيث وضوح المنطق أو من حيث قوة الاستدلال أو من حيث توليد المعاني.‏
                    وقد كان يهدي القواد والوزراء وكبار الكتاب بعض كتبه، فيهدونه بعض أموالهم، فقد أهدى الوزير ابن الزيات كتاب "الحيوان" وأهدى قاضي القضاة ابن أبي داؤود كتابه "البيان والتبيين" أما الكاتب إبراهيم بن العباس الصولي فقد أهداه كتاب "الزرع والنخيل" كذلك لاحظنا في مقدمة كتاب البخلاء أنه كتبه بناء على طلب أحد الأعيان ولم يذكر اسمه، لكنه ذكر إعجابه بالكتاب الذي كتبه الجاحظ "في تصنيف حيل لصوص النهار، وفي تفضيل حيل سرّاق الليل"فطلب منه أن يؤلف كتابا في نوادر البخلاء.‏
                    ويظهر أن مرض الفالج (الشلل) ألم به مبكرا، لكنه لم يستطع أن يقعده عن الحركة أو الكتابة، فقد كتب أثناء المرض أهم كتبه: "الحيوان" والبخلاء و"البيان والتبيين" و"الزرع والنخيل"(4)‏
                    كتاب البخلاء:‏
                    وجدنا في إحدى قصص "البخلاء" التي كان أحد أبطالها أنه كتبه بعد إصابته بالفالج، فقد دعاه أحد البخلاء (محفوظ النقاش) للمبيت عنده، بعد هطول المطر، بسبب قرب منـزله من الجامع، فجاءه بطبق لبن وتمر، فلما مدّ يده الجاحظ قال له: "يا أبا عثمان إنه لبأ وغِلْظُه! وهو الليل وركوده! ثم ليلة مطر ورطوبة، وأنت رجل قد طعنت في السن، ولم تزل تشكو من الفالج طرفا، ومازال الغليل يسرع إليك، وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء"(5)‏
                    يعدّ كتاب البخلاء أحد الكتب التراثية الهامة التي استطاعت أن تجسد لنا العصر العباسي بكل حيويته، فتنقل لنا الحياة الاجتماعية بكل تفاصيلها وتفاعلاتها، كما استطاعت أن تنقل لنا الحياة الثقافية بكل إشعاعاتها ورحابتها المدهشة إذ ظهرت فيها امتزاج الثقافات بأجلى صورة.‏
                    يحس المرء مع سرد البخلاء أنه أمام "ممكنات جديدة كانت خفية في فهم التاريخ...لأن النصوص لا توجد في فراغ مكتفية بعزلتها الرائعة عن السياقات الاجتماعية والتاريخية، وليس التراث نفسه بالنصب الفخم القائم فيما وراء الزمان والمكان، بل هو كما أكد بول ريكور، بناء سردي يتطلب عملية إعادة تأويل مفتوحة النهاية، وبالتالي فإن معاينة التراث نعني أيضا معاينة الوعي، بمعنى التمييز النقدي بين التأويلات المتصارعة"(6)‏
                    إننا نرى في هذا الكتاب صورة مجتمع بدأ يعيش قيم حياة جديدة، ويرفض قيم البداوة التي ترى في صفة الكرم إحدى أهم مظاهر استمرارية الحياة في الصحراء، في حين بات الاقتصاد جزءا حيويا من حياة مدنية أكثر تعقيدا، إذ بات الإنسان يحسب للزمن ومصائبه حسابا، فهو يجسد لنا اضطراب القيم في ذلك العصر (بين الصحراء والحضر) أي بين بداوة مرتحلة في تفاصيلها المعيشية، لكنها راسخة في قيمها في مدن حديثة، يعيش فيها الكثير من الهامشيين والطفيليين الذين يستغلون القيم البدوية، ليعيشوا عالة على موائد الناس، كما يجسد لنا اضطراب هذه القيم في أعماق النفس الإنسانية وصراعها بين الكرم والبخل.‏
                    أما أن تكون الأسباب التي دفعت الجاحظ لتأليف الكتاب أسباب شخصية تتعلق بسمات يمتلكها الجاحظ تجعله بخيلا، كما يرى محققا الكتاب (أحمد العوامري وعلي الجارم) فالجاحظ "يسخر من البخلاء، ويرسل الضحك عاليا من كثير من أعمالهم، وينسب إليهم كل ما يحط المروءة ، لكنه في غضون ذلك يلقنهم الحجج على حسن الاتصاف بادخار المال، وأنه الحزم بعينه، والتدبير الذي هو عماد الحياة المتزنة الفاضلة، ثم هو ينسب الحديث هنا وهناك إلى هذا وذاك، فلا تستطيع أن تأخذ عليه كلمة، أو تتعرف ذات نفسه من عبارة يبوح بها قلمه، ولكننا نرى أنه كان بخيلا لأن الولوع بالشيء يحبب إلى النفس التحدث عن والإفاضة فيه، لأن من عُرف الجاحظ، ومن أبرع صفاته أن يستر ما يحب أحيانا بإعلان ما لا يحب أحيانا، رجح أن يكون بخيلا"(7) لأنه وصف ما يعايشه، هنا لابد أن نتساءل: هل كان الجاحظ لصا لذلك ألف كتابا في حيل اللصوص؟‏
                    إن مثل هذا القول ينفي المقدرة الإبداعية لدى الأديب، ويحول كتاب البخلاء إلى نوع من السيرة الذاتية للجاحظ وهذا ما لا يمكن أن نوافق عليه، نظرا لما امتاز به الجاحظ من سعة الخيال، الأمر الذي يؤكد قدرته على الابتكار، ولا ننسى سعة الثقافة التي كانت إحدى سمات عصره والتي مكنته من التعرف على وجهات نظر متعددة للموضوع الواحد وقد ساعده في كل ذلك امتلاكه أدوات الحوار المنطقي الذي هو جزء من شخصية المثقف المعتزلي، بالإضافة إلى أن الجاحظ كتب هذا الكتاب في أواخر عمره، بعد أن اكتملت تجربته الحياتية ونضجت ثقافته ، وبعد أن استوعب تجارب الآخرين التي عايشها أو سمع عنها، حتى باتت جزءا حيويا من شخصيته الأدبية التي تتبع النادرة أينما كانت، لتقدم عبرها المغزى والمتعة للمتلقي، لهذا قيل عن كتب الجاحظ أنها تمتع القلب والعقل معا.‏
                    قبل أن نتحدث عن صورة الفرس في بخلاء الجاحظ، يحسن بنا أن نتعرف على مفهوم البخل لدى الجاحظ ، ومن ثم نتعرف على سمات منهجه في تقديم صورة البخلاء بصورة عامة.‏
                    مفهوم البخل لدى الجاحظ ومنهجه في تصوير البخلاء:‏
                    لاشك أن مفهوم البخل لدى لجاحظ جزء من مفهوم عصره، فأي أديب هو ابن لبيئته ومفاهيمها، لكنه يمتاز عن غيره بقدرته الفنية على تقديم صورة أمينة لدقائق عصره.‏
                    نجد الجاحظ منذ فاتحة الكتاب (حين خاطب شخصا واقعيا أو متخيلا كان قد طلب منه تأليف كتاب في البخلاء ونوادرهم) يبين أنه سيختصر قصص البخلاء ونوادرهم "كي يصير الكتاب أقصر والعار فيه أقل"‏
                    إذا البخل صفة منبوذة تجلب العار للإنسان، كما يجلب العار للكتاب الذي يتناول قصص البخلاء أيضا، لكننا لاحظنا الجاحظ المعتزلي الذي يمتلك عقل باحث عالم يتناول مفهوم البخل برؤية علمية، فيرفض التعميم أي إطلاق صفة البخل على أي إنسان دون النظر إلى ظروفه المعيشية، فـ"أهل المازح (قرية قرب الرقة) لا يعرفون بالبخل، ولكنهم أسوأ الناس حالا فتقديرهم على قدر عيشهم، وإنما نحكي عن البخلاء الذين جمعوا بين البخل واليسر، وبين خصيب البلاد وعيش أهل الجدب، أما من يضيق على نفسه لأنه لا يعرف إلا الضيق، فليس سبيله سبيل القوم"(8)‏
                    إذا مفهوم البخل لدى الجاحظ مفهوم موضوعي، فهو يخص الأغنياء بالبخل دون الفقراء، ويخص سكان الأراضي الخصبة لا سكان الأراضي المجدبة، لأن الإنسان محكوم بعطاء البيئة التي يعيش فيها أو بخلها، لهذا لا عذر لبخيل يعيش في أرض معطاءة، في حين يجد العذر لإنسان يعيش في بيئة فقيرة.‏
                    وكذلك بدا لنا مفهوم البخل، في قصصه، أقرب إلى الواقعية، لا يحاول أن يأتي بقصص لا يمكن للعقل أن يقبلها، فإذا ذكر إحداها أشار إلى عدم منطقيتها (مثلا حين تحدث عن بخيل يمسح خبزه بقطعة الجبن، فجاء ابنه ليضع قطعة الجبن بعيدا ويشير إليها باللقمة من بعيد، نجد الجاحظ يرفض هذه المبالغة ويعلق قائلا: "لا يعجبني هذا...لأن الإفراط لا غاية له، وإنما نحكي ما كان في الناس، وما يجوز أن يكون فيهم مثله حجة أو طريقة، فأما مثل هذا الحرف (أي الإشارة إلى اللقمة) فليس مما نذكره."(9)‏
                    إن الجاحظ ، في كتاب البخلاء، يمتلك حس الكاتب الواقعي الذي لا يسعى إلى المبالغة والابتعاد عن المعقول من القصص، وإنما يقدم للمتلقي ما حدث فعلا وما يمكن أن يحدث، فهو يلجأ إلى أساليب أخرى أكثر فنية لجذبه.‏
                    يلاحظ المتتبع لقصص بخلاء الجاحظ التنوع في أسلوب تقديمها بين القصة القصيرة (بالمفهوم المعاصر) والنادرة والفائدة اللغوية والشعرية، كما يلاحظ وجود قصص لا يمكن أن نعدها قصصا عن البخل حسب مفاهيم عصرنا الحديث، مما انعكس على السمات الشخصية لبخلاء الجاحظ وسلوكهم، فتميّزوا أحيانا بسمات محببة، لذا لا نستطيع أن نلحق بهم دلالات مكروهة لهذه الصفة وفق مفاهيمنا اليوم، نظرا لتصرفاتهم التي لا تدل على البخل والأنانية دائما (فالبخيل لدى الجاحظ يقيم الولائم في بيته، وإن كان يشترط شروطا وكذلك يقدم هدايا، وهو صاحب أنفة وكبرياء يرفض أن يستعيد ماله إذا حاول أحدهم إهانته ووصفه بالبخل كقصة أبي سعيد المدائني التي سنتعرض لها بعد قليل)‏
                    طبعا ستكون لدى الجاحظ مبررات من أجل وضعهم في خانة البخلاء (كأن يشترط على ضيوفه بعض الشروط التي يراها من آداب الطعام وهي بالتالي في صالح الضيوف، أو لا يهتم بنظافته كي لا تبلى ثيابه، أو يكثر الحديث عن هدية قدّمها، حتى نجده يؤرخ الأحداث بيوم تقديمها) وهنا لا ننكر دور خيال الجاحظ في إسباغ حس الفكاهة والمرح على الحدث.‏
                    قدّم الجاحظ لنا نوادر لا نستطيع أن نعدها قصص بخلاء، وإنما قصصا تدل على الفطنة والذكاء، كقصة وال كان بفارس، مدحه أحد الشعراء، فأجزل له العطاء (أربعين ألف درهم) فأقبل عليه كاتبه قائلا: يا سبحان الله كان يرضى منك بأربعين درهما!... قال ويلك! أ تريد أن تعطيه شيئا؟ قال: أمن إنفاذ أمرك بد؟ قال: يا أحمق، إنما هذا الرجل سرّنا بكلام وسررناه بكلام! أهو حين زعم أني أحسن من القمر، وأشد من الأسد، وأن لساني أقطع من السيف وأن أمري أنفذ من السنان، جعل في يدي من هذا شيئا أرجع به إلى بيتي ؟ألسنا نعلم أنه قد كذّب؟ ولكنه قد سرنا حين كذب لنا، فنحن أيضا نسرّه بالقول ونأمر له بالجوائز، وإن كان كذبا، فكذب بكذب، وقول بقول، فأما أن يكون كذب بصدق، وقول بفعل، فهذا هو الخسران الذي ما سمعت به!!(10)‏
                    إننا أمام محاكمة عقلية تلخص لنا أن الجزاء يجب أن يكون من جنس القول أو الفعل، وليس من المنطق أن يجازى على كلام بمال وإنما بكلام مثله، فهل نستطيع أن نعد هذه النادرة قصة في البخل أم قصة في حسن التصرف؟‏
                    وقد نجد قصصا (عن أحد بخلاء الجاحظ المعروفين) ومع ذلك هي اقرب إلى النادرة التي لا نراها ذات علاقة بالبخل، وإنما تحكي عن أحد الأكولين (يدعى السديري) الذي يلتقيه في الطريق (محمد بن أبي المؤمل) فيدعوه ليأكل معه سمكة اشتراها بثمن باهظ، فلم يترك له الأكول شيئا يأكله.‏
                    إن البخيل هنا يبدو كريما ومظلوما نتعاطف معه، فقد قضى طفيلي على حلمه بأكل جزء من السمكة اشتراها ودعا ضيفه ليشاركه فيها فلم يترك له شيئا، ومثل هذه القصة لا يمكن أن نعدها قصة بخيل، وإنما نادرة تدل على وقاحة الطفيليين في ذلك العصر، لذلك بات البخل مع أمثال هؤلاء أمرا مستحبا.‏
                    لهذا لاحظنا أن بعض البخلاء لا يخجل من صفة البخل، بل صار يرغب في إعلانها، حتى إن للبخلاء مجالسهم الخاصة، فنجدهم يؤلفون ما يشبه الجمعية اليوم، ليدافعوا عن وجهة نظرهم وينشروها على الملأ دون أي حرج، وبدؤوا بذلك يعلنون تمردهم على قيم تفتخر بها العرب.‏
                    صورة الفرس في كتاب البخلاء:‏
                    عرف الجاحظ (في كتابه البيان والتبيين) بدفاعه عن العرب في وجه الشعوبية، التي هي حركة تعتز بالتراث الساساني، وتدعو إلى إحياء جوانب منه وترفع شعار أفضلية الأمم الأخرى على العرب، مما يجعلها تميل للزندقة، كل ذلك من أجل أن ترد على النـزعة العربية التي ترى "أن العرب خير الأمم" وهكذا أورث التعصب العربي أيام الأمويين تعصب الأمم التي دخلت في الإسلام حديثا، لذلك انتقل الجدل لدى الشعوبية "من دعوة سليمة إلى المساواة بين الشعوب إلى الهجوم على السلطة القائمة وعلى الثقافة العربية الإسلامية"(11).‏
                    يتصور المرء حين يرى الجاحظ مدافعا عن العرب ومهاجما الحركة الشعوبية، أن صورة الفرس في أدبه ستكون صورة مشوّهة، يخصها بدلالات سلبية، في حين يخص العرب بدلالات إيجابية، لكن الجاحظ شأنه شأن كل أديب عظيم، أبعد ما يكون عن التعصب والعنصرية، وكما يقول د. الطاهر مكي "كان الجاحظ يقاتل الشعوبية اتجاها سياسيا، لكنه لم يكن معاديا للثقافات الأجنبية، ولا يستطيع أحد أن يتهمه بالتعصب أو بقصر النظر أو بضيق الأفق"(12)‏
                    وكي لا نغرق في كلام نظري لابد أن نبرز شواهد تطبيقية على انفتاحه الفكري، فهو حين تحدث عن الأمم التي تمتلك الأخلاق والآداب والحكم والعلم لم يخص العرب وإنما ذكر إلى جانبهم الفرس والهند والروم.‏
                    من جهة أخرى لاحظنا في سيرته الذاتية التي أوجزناها قبل قليل، أنه أهدى أحد كتبه لكاتب غير عربي (هو إبراهيم بن العباس الصولي)‏
                    وكي لا يقول قائل إن هذا كلام عام بحاجة إلى توضيح وتخصيص! نورد ما جاء في كتاب الجاحظ (البخلاء) الموضع الوحيد الذي ذكرت فيه الشعوبية (الجزء الثاني ص 202_203) لنحلل الصفات الملحقة بهم هل كانت سلبية بالمطلق أم صدرت عن كاتب موضوعي ينقل لنا الحقيقة بأمانة، يقول "والشعوبية والآزادمردية (فرقة شعوبية تدعى الرجال الأحرار) المبغضون لآل النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، ممن فتح الفتوح، وقتل المجوس، وجاء بالإسلام ... وهم أحسن الأمم حالا مع الغيث، وأسوئهم حالا إذا خفّت السحاب، حتى إذا طبّق الغيث الأرض بالكلأ والماء، فعند ذلك يقول المصرم (السيء الحال الكثير العيال) والمقتر: مرعى ولا أكولة وعشب ولا بعير..."‏
                    ألا نلاحظ وصفا يتسم بالموضوعية إذ أبعد عنهم تهمة البخل، ورأى حالهم كحال غيرهم من الناس، يعيشون في أيام الخصب حياة مرفهة كريمة، ثم في ضيق من العيش أيام الجفاف، لذلك لا نستطيع أن نسمهم بالبخل فحالهم كحال القرية العربية (المازح) التي تحدثنا عنها سابقا.‏
                    إن تعاطفه الإنساني مع هؤلاء الذين جادلهم طويلا في كتابه (البيان والتبيين) واضح حين نقل ما يجول في أعماقهم من أسى بعد هطول المطر، إثر جفاف قضى على ماشيتهم، لهذا يتحسرون قائلين (مرعى ولا أكولة، وعشب ولا بعير)‏
                    دلالة الاسم والصفة:‏
                    رغم أن الجاحظ لم يعد البخل سبة تشين صاحبها، فقد لاحظنا أنه مازال محكوما بالموروث من القيم، ففي مقدمة الكتاب يصف البخل بالعار الذي يلحق بصاحبه وبالكتاب أيضا، ثم يلمح إلى أن من عيوب كتابه، أنه أهمل كثيرا من القصص، حتى لا يحرج بذكر أسماء أصحابها وبينهم الصديق والولي والمستور والمتجمل، إذ يبدو لنا قصص البخل متداولة في عصره مع أسماء أصحابها، فإذا أثبتها الجاحظ في كتابه دون ذكر الاسم فسرعان ما يتراءى للقارئ الاسم لأنه رديف القصة، فيبدو المؤلف متجنيا عليهم، قد ارتكب إثما في حق الصديق، لذا أغفل الاسم خوفا على سمعة أصدقائه تارة وخوفا على نفسه حين يكون البخيل من أصحاب السلطة.‏
                    لكن هناك أحاديث في رأي الجاحظ لابد من ذكر أسماء فيها فـ"ليس يتوفر حسنها إلا بأن نعرف أهلها" وهو يعترف بإعمال خياله وكتابة أحاديث مختلقة لكنها "مضافة إلى أربابها، وأحاديث غير مضافة إلى أربابها" دون أن يؤدي به ذلك إلى إيذاء أصدقائه أو نفسه.‏
                    لكنه أحيانا يسمي اسم صديقه "إذا كان مما يمازح بهذا، ورأيناه يتظرف ويجعل ذلك الظرف سلما إلى منع شينه، قال الجاحظ لرجل يدعى عبد الله قد رضيت بأن يقال: عبد الله البخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم! قلت: وكيف؟ قال: لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال، فسلّم لي مالي وادعني بما شئت! قلت ولا يقال: فلان سخي إلا وهو ذو مال، فقد جمع الحمد والمال، واسم البخل يجمع المال والذم، فقد أخذت أخسهما وأوضعهما.‏
                    قال: وبينهما فرق. قلت: فهاته .قال في قولهم بخيل: تثبيت لإقامة المال في ملكه، وفي قولهم سخي: إخبار عن خروج المال من ملكه، واسم البخيل اسم فيه حفظ وذم، واسم السخي فيه تضييع وحمد"(13)‏
                    تحولت صفة (البخيل) إلى لقب لعبد الله يفتخر به، ويدافع عنه بحماسة، لنلاحظ الدلالة الموحية لاسم (عبد) فالبخيل لا يأنف أن يكون عبدا للبخل، كما هو عبد لله تعالى! يخترع نظرية في البخل ويدافع عنها بإبعاد الدلالات السلبية وذكر الدلالات الإيجابية، ليجد العزاء فيها والمفخرة، وهو في المقابل يهدم صرح الكرم بتركيزه على الدلالات السلبية وإهماله الإيجابية، وبذلك يصبح البخيل صاحب مذهب في الحياة وفي الفكر أيضا.‏
                    ومع ذلك كان الجاحظ يجد حرجا في ذكر أسماء أصدقائه، فحين ذكر اسم صديقه أحمد بن خلف اليزيدي يخاف أن يسيء المتلقي الظن بأخلاقه "ولا تقولوا الآن: قد أساء أبو عثمان إلى صديقه...وغير مأمون على جليسه...اعلموا أني لم ألتمس بهذه الأحاديث إلا موافقته وطلب رضاه ومحبته، ولقد خفت أن أكون عند كثير من الناس دسيسا من قبله وكمينا من كمائنه، وذلك أن أحب الأصحاب إليه أبلغهم قولا في إياس الناس من قبله، وأجودهم حسما لأسباب الطمع في ماله"(14)‏
                    إذا بات البخيل، في العصر العباسي، بحاجة إلى وسيلة إعلامية (بلغة عصرنا) تعلن عن بخله، ولذلك فإن الجاحظ يؤدي لصديقه خدمة بإعلانه عبر أدبه عن صفة البخل التي تلازمه، فيبعد عنه الطامعين بماله، وبذلك يصبح الحديث عن بخل صاحبه من باب الوفاء بالأصدقاء لا الغدر بهم.‏
                    وفي قصة أخرى أشبه بمشهد مسرحي يحدثنا الجاحظ قائلا" كنا مرة في موضع حشمة، وفي جماعة كثيرة، والقوم سكوت، والمجلس كبير، وهو بعيد عني (صديقه البخيل: الحزامي) أقبل علي المكي وقال، والقوم يسمعون، فقال: يا أبا عثمان من أبخل أصحابنا؟ قلت: أبو هذيل، قال ثم من؟ قلت: صاحب لنا لا أسميه. قال الحزامي من بعيد: إنما يعنيني!"‏
                    ثم قال: حسدتم للمقتصدين تدبيرهم، ونماء أموالهم، ودوام نعمتهم، فالتمستم تهجينهم بهذا اللقب، وأدخلتم المكر بهذا النبر، تظلمون المتلف لماله باسم الجود، إدارة له عن شينه، وتظلمون المصلح لماله باسم البخل حسدا منكم لنعمته، فلا المفسد ينجو، ولا المصلح يسلم"(15)‏
                    إننا أمام مشهد مسرحي، شحنه الجاحظ بتفاصيل تشمل المكان وصفته (مجلس حشمة) ووصف لهيئة الناس المشاهدين للحدث ( جماعة كبيرة من الحضور في حالة سكوت) ثم الحوار الذي يعتمد المفاجأة الدرامية، حين أعلن البخيل عن نفسه وفاجأ الراوي والحضور بافتخاره بما هو مذل في رأي الناس عامة!!‏
                    يمتلك بخيل الجاحظ سمات تجعله شخصية جذابة، رغم امتلاكه لسمة البخل التي يراها أكثر الناس سمة ذميمة، لكن الجاحظ بأسلوبه الفني وانفتاحه الفكري جعل منها شخصيات جذابة، تمتلك رؤية فكرية ومذهبا في الحياة، تدافع عنه، كما تمتلك سمات نفسية لا يمكن أن نتخيل اجتماعها في شخصية بخيل، إذ تلتقي فيها المتناقضات، فصديقه (الحزامي) يصفه بأنه "أبخل من برأ الله وأطيب من برأ الله" فالنفس الطيبة لا يمكن أن نتخيلها بخيلة، لأن سمة المنع تتصل بسمة اللؤم لا بالطيبة والسماحة.‏
                    في الحقيقة لم نجد صفة البخل التي لحقت بالشخصية تسيء إلى ملامحها، بل كثيرا ما أكسبتها جاذبية، فقد منحها الجاحظ بعدا فلسفيا وجماليا يمتع المتلقي، فلا تبدو لنا هذه الشخصية مبعث استهجانه أو نفوره، كما لاحظنا في صورة بخيل موليير الذي تمتع بخيله بصورة منفرة، إذ اجتمع الجهل لديه إلى جانب كل الرذائل.‏
                    والآن لابد أن نتساءل أي الأسماء أكثر ورودا في قصص البخل لدى الجاحظ؟‏
                    لاحظت بعد إجراء إحصائية لأبطال قصصه البخلاء انهم بلغوا حوالي أربعين بخيلا من العرب والفرس، منهم عشرة بخلاء من الفرس وثلاثين من العرب.‏
                    أما الأستاذ أحمد بن محمد أمبيريك فقد أجرى إحصاء، من نوع آخر، فقد أحصى جميع أسماء الأعلام الواردة في البخلاء، بغض النظر عن قصص البخل، فلاحظ أن الأصمعي قد احتل "المرتبة الثالثة في نسبة الورود في الكتاب،وذلك بعد النبي (ص) وعمر بن الخطاب، كما احتل سهل بن هارون الدرجة الرابعة..."(16) كما لاحظ ورود لفظ الجلالة لديه أكثر من أي اسم علم.‏
                    وهذا دليل على استغلال الخطاب الديني الإسلامي من قبل البخلاء، وبذلك يعلن الجاحظ انتماء بخلائه إلى المجتمع الإسلامي فلا يصمهم بالكفر، حين خرجوا عن عادات المجتمع السائدة وقيمه العليا، مما يدل على مدى تفتح فكر المؤلف،كذلك نلاحظ موضوعيته فالعربي (الأصمعي) قد يذكر لديه في باب البخل أكثر من الفارسي (سهل به هارون) إذا يمكننا القول بأن ذكر الجاحظ لأسماء البخلاء ليس من باب التشهير أو تشويه صورة أمة دون أخرى، وإنما رصد لظاهرة اجتماعية باتت منتشرة في عصره، وتقديمها بأسلوب يجمع المتعة والفائدة.‏
                    وقد لاحظنا أن الجاحظ قلما يكون راويا للقصة وبطلا مشاركا في أحداثها، فهو في اكثر الأحيان يتخذ صفة الراوي المحايد الذي ينقل عن الآخرين أحداث قصته، فنجده يقول "قال أصحابنا" "حدثني عمرو بن نهيوي" "حدثتني امرأة تعرف الأمور"...الخ‏
                    وبذلك يوحي للمتلقي بحياديته التام، فهو يجمع القصص والنوادر من ألسنة الرواة الآخرين الذين سمعوها أو شهدوها بأنفسهم، أو كانوا أحد أبطالها، فيضفي المصداقية الواقعية على قصصه.‏
                    صور من بخلاء الفرس لدى الجاحظ:‏
                    1_ سهل بن هارون:‏
                    عرّف به الجاحظ في كتبه ("البخلاء" و "البيان والتبيين" و "الحيوان") إذ يعدّ من أهم الكتاب الذين ظهروا في العصر العباسي.‏
                    وصف الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" أهم بخلاء الفرس لديه وصفا رائعا "كان سهل سهلا في نفسه عتيق (جميل) الوجه، حسن الإشارة، بعيدا عن الفدامة (العي) تقضي له بالحكمة قبل الخبرة وبرقة الذهن قبل المخاطبة وبدقة المذهب قبل الامتحان وبالنبل قبل التكشف" يجدر بنا هنا أن نلفت النظر إلى أن هذه الصفات التي تشكل ملامح شخصية جذابة من الناحية الأخلاقية والثقافية والتي تمتع بها سهل بن هارون، نجدها في الكتاب الذي خصصه للبلاغة العربية وأبرز ممثليها، كما خصصه للدفاع عن العرب ضد الشعوبية، لذلك لا نستطيع أن نقول إن الجاحظ حين تحدث عن بخل ابن هارون كان متحاملا عليه فقد ذكره إلى جانب العرب الذين اتصفوا بالبخل في كتاب واحد، كما ذكره إلى جانب العرب الذين اتصفوا بالبلاغة، فقد امتزج العرب بالأمم الأخرى تحت راية الثقافة العربية الإسلامية، واستطاع الجاحظ أن يقدم لنا صورة أمينة لهذا التمازج الذي لم يكن تمازجا ظاهريا، وإنما اتصل بأعماق النفس الإنسانية فتجلى بأدب جديد ينتمي لروح الإسلام.‏
                    لو تأملنا رسالة سهل بن هارون إلى بني عمه من آل رهبون (حين ذموا مذهبه في البخل، وردّوا عليه بعد أن تتبعوا كلامه في الكتب) للاحظنا وحدة الثقافة العربية الفارسية في العصر العباسي، فبالإضافة إلى كونها قد كتبت ببلاغة عربية، نجد سهل بن هارون يستشهد فيها بأحاديث الرسول (ص) وبأقوال الخلفاء والتابعين الذين عرفوا بالتقشف والزهد (عمر بن الخطاب، والإمام علي بن أبي طالب، الحسن البصري...) كما وجدناه يستعين بأقوال حكماء العرب ليؤكد أفكاره في ضرورة الحكمة في صرف المال (أمثال: الأحنف بن قيس...)‏
                    في المقابل نجد العرب (في كتاب البخلاء الجزء الثاني، ص 91) يرددون أقوال الفرس وخاصة سهل بن هارون، فقد أورد الجاحظ رسالة أبي العاص بن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، إلى قريبه (الثقفي) قائلا: إنك تحفظ قول سهل بن هارون: في الاستعداد في حال المهلة، وفي الأخذ بالثقة، وأن أقبح التفريط ما جاء مع طول المدة، وأن الحزم كل الحزم، والصواب كل الصواب، أن يستظهر على الحدثان، وأن يجعل ما فضل عن قوام الأبدان، ردءا دون صروف الزمان، وأنـّا لا ننسب إلى الحكمة حتى نحوط أصل النعمة، بأن نجعل دون فضلها جنة" فيرى في هذا الحفظ شاهدا على إعجابه بمذهب ابن هارون ، وبرهان على ميله إلى سبيله.‏
                    يقدم لنا هذا النص صورة صادقة لتأثر العربي (من قبيلة بني ثقيف) بالآخر (الفارسي) الذي لم يعد يشكل ثقافة غريبة عنه، بل صار جزءا حيويا من الثقافة العربية الإسلامية، يؤثر فيها بعد أن اجتاز مرحلة التأثر وبدأ مرحلة الابتكار، وبذلك تجلت في هذه الثقافة العلاقات الحضارية بين الشعوب المختلفة، خاصة حين تتخذ تعاليم الإسلام هاديا لها فتنفتح على الآخرين، أما حين تترك تعاليمه السمحة فإنها تغرق في التعصب الذي يرفض الآخر (كما حصل لدى الشعوبية والدولة الأموية)‏
                    وقد قدم لنا الجاحظ خير مثال على انفتاح المثقف على الآخر، فحاول دائما أن يضع الرؤية الموضوعية نصب عينيه، تجلت هذه الرؤية، حين تحدث عن ثقافة الفرس الذين دخلوا الإسلام، كما تجلت حين تحدث عن أساليب عيشهم فلم يسبغ صفة البخل عليهم جميعا، وعلى هذا الأساس لا نستطيع أن نعدّ سهل بن هارون رمزا للفرس في بخلهم، فقد لاحظنا قبل قليل كيف ذكر الجاحظ أن أبناء عم ابن هارون (آل رهبون) عابوا عليه مذهبه في البخل، وكتبوا رسالة يردون على مذهبه في الحياة.‏
                    2_أهل خراسان وغيرهم من الفرس:‏
                    لاحظنا قبل قليل أن الجاحظ في (البخلاء) يلتزم طريقة الراوي المحايد في أغلب قصصه، لذلك حين يبدأ الكتاب بأهل خراسان نجده يبين لنا سبب تناوله لهم "لإكثار الناس في (الحديث عن) أهل خراسان، ونخص بذلك أهل مرو بقدر ما خصوا به" أي بقدر ما خصهم الناس بتناقل أخبارهم.‏
                    إذا الجاحظ (الراوي المحايد) يروي قصص البخلاء التي تشيع بين الناس، فلا يتعمد أن يذكر فئة أو أمة دون أخرى، وهو حين خصص أهل خراسان بالحديث لم نجده يلتزم بهذا التخصيص، على عادته في الاستطراد، فتحدث عن الكندي، وحين انتبه لخروجه عن المنهج الذي اختطه نجده يقول: "وليس هذا الحديث لأهل مرو، ولكنه من شكل الحديث الأول" أي يشترك الكندي ذو النسب العريق والمكانة الاجتماعية المرموقة (وهو فيلسوف عربي معاصر للجاحظ) مع أهل مرو في صفة البخل نفسها.‏
                    هذه الرؤية المتوازنة لم يكشفها لنا أسلوب الجاحظ في الاستطراد فقط، وإنما طريقته الممتعة في تصوير شخصية البخيل، التي بدت في كثير من الأحيان تماثله ثقافة وعلما، فيبدو لنا صوت البطل كأنه صوت المؤلف، فمثلا يقول الجاحظ: "وقال أبو نواس: كان معنا في السفينة رجل من أهل خراسان، وكان من عقلائهم وفهمائهم، وكان يأكل وحده، فقلت له: لِمَ تأكل وحدك؟ قال: ليس علي في هذا الموضع مسألة، وإنما المسألة على من أكل مع الجماعة، لأن ذلك هو التكلف، وأكلي وحدي هو الأصل"(17)‏
                    يجسد لنا بخيل الجاحظ صورة عن ثقافة مبدعه أي صورة لثقافة العصر العباسي التي تعتمد الجدال العقلي (ثقافة المعتزلة) فيحول قضية يومية بسيطة (الأكل وحده) إلى مسألة إشكالية يدافع عنها حسب أصول المنطق.‏
                    كذلك تتجلى في حياة البخيل الثقافة الإسلامية فتترك أثرها على علاقاته، فالبخيل كما هو مألوف، يتجنب دعوة الناس إلى مائدته، لكن البخيل ذا الثقافة الدينية، يتجاوز ما تعارف الناس عليه التماسا لثواب الله تعالى "وقال المكي لبعض من كان يتعشى ويفطر عند الباسياني: ويحكم! كيف تسيغون طعامه، وأنتم تسمعونه يقول: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) (سورة الدهر آية: 9) ثم ترونه لا يقولها إلا وأنتم على العشاء، ولا يقرأ غير هذه الآية..."‏
                    بالإضافة إلى الثقافة الدينية تتجلى في هذا المقطع روح الجاحظ المرحة، إذ لم يكتف بذكر الآية الكريمة، بل يحدد زمان قولها (أثناء العشاء، وكيفية قولها: لا يقرأ آية سواها)‏
                    وقد وجدنا الجاحظ يلخص لنا، سمات الشخصية البخيلة وعلاقتها بالدين، أثناء حديثه عن ابن امرأة فارسية (أم فيلويه) يصفها بالصلاح، ويصف ابنها أنه يظهر النسك ويَدين البخل، لذلك يبدو تدينهم أشبه بالطقس الاجتماعي، لا علاقة له بالإيمان الحقيقي، الذي يعني بر الوالدين، فقد سئلت أم فيلويه من قبل عجائز مثلها: كيف يبرها ابنها؟فتجيب: "كان يجري علي في كل أضحى درهما!! فقالت وقد قطعه أيضا!فسألتها المرأة مستغربة: ما كان يجري عليك إلا درهما؟ ما كان يجري علي إلا ذاك، وربما أدخل أضحى في أضحى! فقالت: يا أم فيلويه، وكيف يُدخل أضحى في أضحى؟ قد يقول الناس: إن فلانا أدخل شهرا في شهر، ويوما في يوم، فأما أضحى في أضحى، فهذا شيء لا يشركه فيه أحد!"(18)‏
                    يفضح الجاحظ في هذه القصة فئة من الناس تتاجر بالدين، وتتظاهر بالتقشف بخلا، فهي تدين بدين البخل، ولا تعرف غيره، لذلك يبرّ (فيلويه) أمه بدرهم سنة وينساها سنة (فيدخل أضحى في أضحى) فهو على نقيض الناس في إدخالهم المتتابع من الأيام لا المتباعد!!‏
                    إن هذه القصة، أبرزت دلالات السلبية حملها البخيل، مما جعل القيم الدينية قيما ظاهرية لم تؤثر على أخلاق البخيل أي على بنيته الداخلية، فبقي ابنا عاقا لأمه، مفضلا الدرهم على رضى ربه وأمه!‏
                    لكن الجاحظ في قصة أخرى أبرز أثر القيم الدينية على البنية الداخلية للشخصية، فانعكست عبر صفات إيجابية بدت في سلوك الشخصية وتعاملها مع الناس "حدّثني إبراهيم بن السندي قال: كان على ريع الشاذروان شيخ من أهل خراسان (موظف من قبل الوالي) وكان مصححا (قويم الخلق) بعيدا عن الفساد، وعن الرّشا، ومن الحكم بالهوى، وكان حفيا جدا (مبالغا متعمقا) وكذلك كان في إمساكه، وفي بخله وتدنيقه في نفقاته، وكان لا يأكل إلا ما لابد منه، ولا يشرب إلا ما لابد منه"‏
                    استطاعت هذه الشخصية أن تجمع بين الأخلاق الرفيعة التي يدعو إليها الدين، وقد برزت هذه الأخلاق في تعامله مع الناس، أما أخلاق البخلاء فقد انعكست على حياته اليومية، فلم يصل ضررها إلى أحد سوى ذاته، لذلك تفرض هذه الشخصية احترامها علينا رغم صفة البخل، الذي قد لا تكون الشخصية مسؤولة عنه، فالطبيعة الإنسانية قد تكون مجبولة على البخل، ولا ننسى أثر البيئة والتربية على الإنسان، فابن منطقة ذات إرث في البخل لابد أن يكون بخيلا، لهذا وجدنا الجاحظ يلتمس للخراسانيين العذر في بخلهم، الذي بات جزءا من تكوينهم النفسي وتربيتهم، مما ترك أثرا ليس فقط على حياتهم اليومية، وإنما على حياة حيواناتهم، وقد وضح لنا الجاحظ هذا "وقال ثمامة: لم أر الديك في بلد قط إلا وهو لاقط يأخذ الحب بمنقاره ثم يلفظها قدام الدجاجة إلا ديكة مرو، فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب! فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد، وفي جواهر الماء فمن ثم عمّ جميع حيواتهم"(19)‏
                    أورد الجاحظ هذه القصة لغايتين، باعتقادنا، الأولى إشاعة جو المرح في كتابه، في تصوير البخل الذي انتشر في مرو حتى وصل إلى أن بات جزءا من عادات الحيوان.‏
                    والغاية الثانية: هي البحث عن أسباب بخل أهالي مرو، ليبرز أثر البيئة عليهم وعلى حيواناتهم (طبع البلاد، جواهر الماء) فيوحي للمتلقي أن هؤلاء الأهالي غير مسؤولين عن بخلهم الذي عمّ جميع نواحي حياتهم، حتى أطفالهم يولدون على فطرة البخل!‏
                    خصوصية العلاقة العربية الفارسية في كتاب "البخلاء"‏
                    كان التمازج بين العرب والفرس مدهشا في العصر العباسي، وقد استطاع كتاب "البخلاء" رصد هذا التمازج، على كافة المستويات (الاجتماعية والثقافية ...) مما يجعلنا نؤكد مع الأستاذ أحمد لواساني ما عرف "تاريخ الإنسانية أمتين مختلفتين اختلاف العرب والإيرانيين في العرق والفكر والبيئة واللسان، ومع ذلك ...فقد كان تلاقيهما السياسي والاجتماعي ثم الفكري الحضاري أكثر غنى من أية أمتين أخريين..."(20)‏
                    وقد رأينا مصداقا لهذا القول حين تحدثنا عن سهل بن هارون إذ لاحظنا أن الفرس باتوا يشكلون لبنة أساسية من لبنات الحضارة العربية الإسلام وجزءا حيويا من المجتمع العباسي، فالملاحظ في هذا العصر أن الفرس أكثر الأمم اختلاطا بالعرب، وقد ظهر ذلك في تأثرهم بالعرب وتأثيرهم فيهم.‏
                    فإذا لاحظنا شعورا عدائيا لدى البعض (من الشعوبيين والمتعصبين والمتزندقين) فإن هذا الشعور لم نلمسه في أدب الجاحظ، الذي يجسد لنا الروح الإسلامية في لحظة صفائها وأوجها الحضاري.‏
                    ومن المعروف أن الأدب الحقيقي يستطيع أن يقدم صورة حقيقة للأمة في واقعها التاريخي الذي عاشته فعلا، كما يقدم صورة للاوعي الأمة، وكل المسكوت عنه مما يخدش حياء الأمة، أي يقدم صورة أمينة وصادقة لحياة الأمة في فترة من الفترات، فيجسد سلبياتها كما يجسد إيجابيتها.‏
                    وقد جسد لنا كتاب البخلاء سلبيات الأمة، في العصر العباسي، شيوع ظاهرة البخل في المجتمع الذي بات ينتمي إلى حضارة تختلف عن الحياة البدوية في قيمها وعاداتها، وقد جعل هذه الظاهرة عامة تشمل كل العرب والفرس‏
                    كما استطاع أن يجسد لنا إيجابيات العصر روحه الإسلامية السمحة في التعامل مع الفرس، باعتبارهم جزءا أساسيا من المجتمع العباسي، لا نلمس غربتهم أو مشاعر عدائية موجهة من العرب المسلمين المتفقهين بأمور دينهم، وكشاهد على هذا القول نورد ما جاء في بخلاء الجاحظ من قول الكندي (الفيلسوف العربي) لمكتري داره "أنتم شر علينا من الهند والروم ومن الترك والديلم، إذ كنتم أحضر أذى وأدوم شرا"‏
                    لم نجد الكندي يذكر الفرس ضمن الأمم التي تضمر الشر للعرب، ويبادلهم العرب الشعور نفسه، فقد أصبحوا مسلمين وباتوا جزءا من المجتمع.‏
                    وفي قصة أخرى للجاحظ تتضح لنا هذه الخصوصية، فقد استدان عربي من ثقيف مالا من رجل من الفرس، يدعى باسم لا يوحي لنا بهويته، هو (أبو سعيد المدائني) الذي كان يزور الرجل المستدين في وقت طعامه، ليذكره بالدين، فقال له أحد أصدقاء المستدين (وهو من ثقيف أيضا) بأنه لو أراد التقاضي محضا لكان ذلك في المسجد، ولم يكن في الموضع الذي يحضر فيه الغداء!‏
                    فغضب الفارسي (الذي وصفه الجاحظ "كان أبو سعيد مع بخله أشد الناس نفسا، وأحماهم أنفا" (أي أبعدهم عن احتمال الذل) وثار لكرامته فمزق الصك والكتاب الذي يثبت حقه في الدين، وقال لكل من شهد المجلس: "هذه ألف دينار كانت لي على أبي فلان، اشهدوا جميعا أني قبضت منه وانه بريء" فاضطر الثقفي أن يبيع ثماره قبل أن تنضج، ليسرع في وفاء الدين، وحين جاء بالمال إلى أبي سعيد أبى أن يأخذه، فلما كثر إلحاح الثقفي عليه، قال مشترطا عليه "أظن الذي دعا صاحبك إلى ما قاله أنه عربي وأنا مولى، فإن جعلت شفعاءك من الموالي أخذت هذا المال، وإن لم تفعل فإني لا آخذه، فجمع الثقفي كل شعوبي بالبصرة، حتى طلبوا إليه أخذ المال (21)‏
                    إننا أمام مشهد اجتماعي حي لعصر الجاحظ، يبرز لنا مدى تمازج العرب بالفرس، كما يبرز خصوصية العلاقة بينهما، إذ تظهر مدى المشاركة الفعالة للفرس في الحياة الاجتماعية (استدانة العربي من الفارسي، ومشاركته في الطعام)‏
                    ورغم أن الفارسي كان بخيلا إلا أنه لم يبدُ لنا في صورة منفرة، فقد امتلك من الصفات النبيلة ما يجعل صورة البخيل باهتة أو مشكوكا فيها، إذ ليس سهلا على البخيل النموذجي الذي نعرفه اليوم رفض ألف دينار من أجل كرامته باعتقادنا!‏
                    بدا لنا الفارسي في هذه القصة ندا للعربي، يشترط عليه شرطا صعبا، لا يستطيع أي إنسان قبوله، لكن العربي الحريص على إيفاء دينه وعلى إقامة علاقة طيبة بالفارسي ينفذ هذا الشرط، فيترك أصدقاءه العرب، ويعاشر الفرس، ويأتي بهم ليلحوا على أبي سعيد من أجل أن يسترد دينه (ألف دينار)‏
                    نلمح أيضا شيئا من الحساسية بين العرب والفرس ما زالت موجودة نقلها لنا الجاحظ على لسان (العربي) الثقفي، حين عرّض ببخل أبي سعيد، وعلى لسان (الفارسي)أبي سعيد حين حوّل هذا التعريض إلى تعريض عرقي (إنه عربي وأنا مولى) لذلك اشترط على المستدين شرطا من جنس التعريض، وقد قبله، ليستطيع رد المال إلى أبي سعيد، وليعطينا مثلا على أن التعصب العنصري ضد الآخر لم يشمل كل الناس.‏
                    وهكذا نقل لنا الجاحظ في هذه القصة الانفتاح نحو الآخر، كما نقل الحساسية التي تشوّه هذا الانفتاح والتي لا يمكن أن تنتهي بين ليلة وضحاها، وإن كانت هذه القصة تعزز، كما لاحظنا، الانفتاح نحو الآخر (المعاشرة اليومية بين الفرس والعرب، والسمات النبيلة التي أضفاها على أبي سعيد، وحين قبل العربي شرط الفارسي، وترك أصدقاءه العرب) أكثر مما تعزز الحساسية والتعصب باعتقادنا.‏
                    وقد أورد الجاحظ، في إحدى قصصه، ما يبين لنا أن من أهم الأخلاق التي يربى عليها الفتيان في عصره، عدم إيذاء مشاعر الناس الغرباء، بعدم إحراجهم بطرح أسئلة عليهم، خاصة تلك الأسئلة التي تتعلق بالنسب،فقد اختبأ عبد النور (كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذي ثار على المنصور العباسي) عند قبيلة (عبد القيس) وكان أبناء القبيلة يتذاكرون الشعر أمامه، فقال له أحد الفتية: "يا شيخ إنا نخوض في ضروب، فربما تكلمنا بالمثلبة، وأنشدنا الهجاء، فلو أعلمتنا ممن أنت تجنبنا كل ما يسوءك، ولو اجتنبنا أشعار الهجاء كلها، وأخبار المثالب بأسرها، لم نأمن أن يكون ثناؤنا ومديحنا لبعض العرب مما يسوءك فلو عرفنا نسبك، كفيناك سماع ما يسوءك من هجاء قومك ومن مديح عدوك.‏
                    فلطمه شيخ منهم، وقال: لا أم لك! محنة كمحنة الخوارج، وتنقير كتنقير العيّابين؟ ولِمَ لا تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك؟ فتسكت إلا عما توقن بأنه يسرّه(22)‏
                    إننا أمام درس أخلاقي، فالشيخ يعلم الفتى آداب الحديث مع الغرباء، مع أن الفتى لم يسئ التصرف، برأينا، إذ يبدو حريصا على راحة الغريب فلا يروي أشعارا تؤذي قومه، لكن الشيخ الحكيم يريد أن يعلم الفتى أصول التعامل مع الغرباء قاطبة، فلا يحرجهم بأسئلة تتعلق بنسبهم، ويكتفي بالتحدث بما يدخل السعادة على قلوبهم، وهكذا يكون الانفتاح على الآخر أول ما يكون بالابتعاد عما يثير حساسيته وشكه والتالي يثير قلقه، فيكون بحثا عما يخلق الأمان والود بين البشر.‏
                    كما أننا لاحظنا شيوع العادات الفارسية في الطعام وقد أورد الجاحظ إعجاب العرب ببعض عادات العجم في آداب المائدة فنجد الحارثي لا يدعو أبا فاتك لتصرفاته المشينة على المائدة "والله إني لأفضل الدهاقين حين عابوا الحسو (شرب المرق من الإناء) وتقززوا من التعرق (نهش ما على العظم من لحم( وبهرجوا صاحب التمشيش (عابوا استخراج المخ من العظام) وحين أكلوا بالبارجين (شيء كالشوكة) وقطعوا بالسكين، ولزموا عند الطعام السكتة وتركوا الخوض..."(23)‏
                    كما يبدو راشد الأعور (في الجزء الثاني من البخلاء) معجبا بعادات الفرس المهذبة في تناول التمر" لم أنتفع بأكل التمر إلا مع الزنج وأهل أصبهان، فأما الزنجي فإنه لا يتخير، وأنا أتخير، أما الأصبهاني فإنه يقبض القبضة، ولا يأكل غيرها، ولا ينظر إلى ما بين يديه، حتى يفرغ من القبضة..."‏
                    يبدو لنا الفارسي والزنجي يمتلكان عادات تنم على الحس الجماعي، فمن حق الآخرين أن يأكلوا التمر الجيد (لذا لا يتخيرون الجيد ويهملون الرديء) في حين يبدو العرب يتخيرون التمر الجيد فلا يفكرون إلا بأنفسهم‏
                    لكن ثمة عادات فارسية حاول بعض العرب من أبطال الجاحظ رفضها، كعادة التنوع في أصناف الطعام، فقد حكى الجاحظ عن عمرو بن قعقاع الذي أزعجه أن ينوّع خادمه الطعام لضيوفه، وقال لخادمه "فهلا جعلته طعام يد، ولم تجعله طعام يدين!"‏
                    يعلق الجاحظ "والقعقاع عربي كره لمولاه أن يرغب عن طعام العرب إلى طعام العجم، وأراد دوام قومه على مثل ما كانوا عليه وأن الثروة تفنخهم (تذلهم) وتفسدهم، وأن الذي فتح عليهم من باب الترف أشد مما غلق عليهم من باب فضول اللذة (أي الفقر)(24)‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق

                    يعمل...
                    X