إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

المهرولون لنزار قباني / عنفُ القصيدة ووجعُ التّلقي .. (2)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المهرولون لنزار قباني / عنفُ القصيدة ووجعُ التّلقي .. (2)

    حين نعاين تجربة نزار الشعرية - على امتداد ما يقارب خمسين سنة من العطاء الشعري- نجد تباينا كبيرا بين قصائده المضمخة بالعطر الأنثوي وتلك القصائد المشحونة بالغضب السياسي حيال الأوضاع السياسية والثقافية العربية المتردية، وهو تحوّل شهدته القصيدة النزارية بصفة خاصة بعد هزيمة حزيران،التي كان لها أثرها العميق في ظهور قصيدة الاحتجاج والرفض بشكل يعكس مدى درجة الاحتقان والشعور بالخيبة، وقد تجسّد ذلك شعريا عند عدد كبير من الشعراء العرب المعاصرين، وإن كان لكل منهم طريقته وأسلوبه في التعبير عن الرفض و الاحتجاج.
    من هذا المنطلق، تبدو قصيدة " المهرولون" عنيفة الدلالة، تبعث في نفسية المتلقي – العربي تحديدا- شعورا بالامتعاض والاستياء، منذ الشروع في قراءتها، غير أنه لا يقوى سوى على احتواء ذلك الأذى الشعري اللذيذ، لِما تبهره به القصيدة من مفاتن شعرية قرائية مغرية، تشدّه بواسطتها إلى فضائها المفتوح لتأويل ألم الخيبة والهرولة.
    ومن ذلك، أن الضمير المعتمد في إرسال الخطاب – وهو ضمير المتكلمين بدل ضمير المتكلم الذي عهدناه عند نزار- يُلزم المتلقي بالمشاركة بصوته،كذات فاعلة في فضاء القصيدة،وهي في الحقيقة مشاركة معنوية مُفخّخة ، لا تعدو أن تكون خدعة فنية ، تتوسّل بها القصيدة لاستدراج المتلقي إلى فضائها الشائك ، لينوب بصوته عن الجماعة المتكلمة، هذه الأخيرة التي ليست سوى ذوات لغوية وهمية ،لا يمكن لوجودها أن يتحقّق ولا لحضورها أن يُثبت إلا بوجود المتلقي ذاته.
    ومن ثمّ، فإن حضورالمتلقي يصبح أكثر فاعلية،وصوته أقوى صدى من أصوات الذوات الأخرى المشكّله لصوت الضمير " نحن " لأن المتلقي هو في النهاية من يؤطر الخطاب داخل النص، فإذا توقف عن القراءة انطفأت كل الأصوات الأخرى، وهو – أي المتلقي- من يتلقى أيضا النص من خارج النص، فهو –إذن- من خلال ازدواجية حضوره الداخلي والخارجي كمن يحاور نفسه، في حلقة حوار ذاتي مغلق عنيف، يتحوّل فيه ضمير المتكلمين إلى ما يشبه " أنا " المتلقي وقد تناسلت وتضخمت لتصير " نحن" وقد تمّ استحضارها في فضاء التلقي للإدلاء بشهادة مخزية في زمن النكسة والخيبة :
    سقطت ..للمرة الخمسين عذريتنا..
    دون أن نهتز أو نصرخ ..
    أو يرعبنا مرأى الدماء ..
    ودخلنا في زمان الهرولة..
    ووقفنا بالطوابير، كأغنام أمام المقصلة
    وركضنا ..ولهثنا
    وتسابقنا لتقبيل حذاء القتلة..
    ومن ثمّ تجد الذات القارئة نفسها داخل النص متورطة في الفضيحة الجماعية،تحذو حذو المهرولين المتعجلين، تحاكي ذهنيا أفعالهم و حركاتهم، تهزّ البطن والرِّجل، تهرول..تركض صوب السراب والخيبة ، كضحية متعبة تستسلم في النهاية لقناصها، فينتهي بها الحال إلى العجز و الموت.
    وفي هذا، يبلغ الصراع أوجه في نفسية المتلقي بين الأنا التي هي ذات داخل النص والأنا خارج النص، فالذات الأولى داخل النص مهزومة/مسلوبة الإرادة، بينما الثانية خارج النص قد لا تكون كذلك، وهو التخمين الأقرب إلى اليقين، فالقارئ الفعلي سيتحفًّظ في تبني الادلاء بتلك الشهادة المخزية، التي ورّطه فيها فعل القراءة، وهو ما يدفعه إلى التأفف والتأوّه - على أوضاع الـ " نحن " الجمعية - في كل مقطع يقرأه، أما إذا كان قارئا ذا حساسية شديدة ، فستصبح دلالات القصيدة عنده مرضا مزمنا، يلازم ذهنه القرائي.. يعاوده ألمه ،يعصر وجدانه كلما شعر بالخيبة الجمعية، فلا يدري متى وكيف يستيقظ لهيب وجعه، وهو في كل مرة يسترجع فيها مقطعا من مقاطع القصيدة، تجده مُلزَما بتكرارالإدلاء بالشهادة التاريخية المخزية المفزعة :
    سقطت غرناطة
    للمرة الخمسين – من أيدي العرب
    سقط التاريخ من أيدي العرب
    سقطت أعمدة الروح وأفخاذ القبيلة
    سقطت كل مواويل البطولة
    سقطت إشبيلية
    سقطت أنطاكية
    سقطت حطين من غير قتال
    سقطت عمّورية
    سقطت مريم في أيدي المليشيات
    فما من رجل يُنقذ الرمز السماوي
    ولا ثمّة رجولة
    وسيزيد إيقاع التكرار اللفظي - لبعض الكلمات والجمل والحروف - من شدّة انفعال المتلقي،فهذا الاستخدام " لا يقوم فقط على مجرّد تكرار اللفظة في السياق الشعري، وإنما ما تتركه هذه اللفظة من أثر انفعالي في نفس المتلقي، فهو يعكس جانبا من الموقف النفسي والانفعالي " و هكذا، سيتجسّد في ذهن المتلقي سقوط المدن والقلاع على إيقاع تكرار الفعل " سقطــت " ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد ّ، بل سيتحول الشكل الخطي/ البصري العمودي لذلك التكرار إلى مشهد بصري ذهني فظيع، من شأنه أن يثير في الذهن حركة سقوط فعلية، للأشياء التي أسندت أسماؤها لفعل السقوط ، تتوالى من خلالها المشاهد المؤلمة دون توقّف.
    كما لو أن المتلقي يشهد حدوث زلزال عنيف يتخذ من أعماق ذاته مركزا لهزّاته المتتالية، وهو بالطبع زلزال مجازي،يتراءى من خلاله مشهد خراب تاريخ أمة بأكملها،تتداعى رموزها وحصونها التاريخية والحضارية،الواحدة بعد الأخرى، بكل قسوة وحسرة.
    أما إذا كان المتلقي مجازفا متخصّصا في فن التنقيب الدلالي، فإنه لن يتوانى في البحث عن جميع ألغام الحقول الدلالية المُمكن العثورُ عليها، والنبش في المحظور والممنوع من الأسئلة، وفي بحثه ذاك سيعاين آخر إشارة ملغمة في القصيدة، يتأملها يتحسّس دلالتها، فتنفجر في وجهه كل الألغام الدلالية والتأويلية الممكنة وغيرالممكنة.

    د/ عبد الغني بن الشيخ

  • #2
    رد: المهرولون لنزار قباني / عنفُ القصيدة ووجعُ التّلقي .. (2)



    أستاذي / د. عبدالغني الشيخ

    أصنف نفسي هاوياً ومحبّاً للأدب العربي عامة ، أقترب منه مطالعاً وقارئاً وبعض الحين متعمقاً فيه ، فأرى فيه نفسي كهوية تطلب النسب في غربة العلم والذات العربيين .

    تشدني الكتابات النقدية وتجذبني لأني أراها قراءات ناضجة تقدم لك النص بشكله المتألق أو ترفضه بشكله الضبابي الذي يجعلك تفرّ منه وتبتعد ، والحقيقة وانا أقرأ تفنيدك ل " المهرولون " لم أستطع الهرولة وأدوّن رأئي المتواضع على تفنيدك الذي قرأته مرات عديدة حتى تجرأت للردّ على مافيه من إسهاب لكل معاني التمرد والردة عن واقع أليم عانى منه القباني وجسّده قصيدة وأفلح حيث أتى ، إنّه واقع الأمة المهرولة .

    أجمل ما قرأت في تفنيدك القيّم خطاب القباني لنا في " المهرولون " من جهتين :

    الأولى : جعلنا متلقون متهمون نحن المهرولون .
    الثاني : جعلنا نراجع الذات من سقوط أمة تتوالى عليها أقنعة السقوط المختلفة ، أخطرها تهاوي التاريخ من صفحاتها.

    المهرولون قصة وتاريخ وشحذ همم وسرد الواقع من زواياه المؤلمة.

    تقبل تحياتي ومروري

    تعليق


    • #3
      رد: المهرولون لنزار قباني / عنفُ القصيدة ووجعُ التّلقي .. (2)

      أستاذي الدكتور عبد الغني بن الشيخ تحليلك للقصيدة بهذا الشكل و بهذا العنوان الفرعي عنف القصيدة و وجع التلقي يجعلني أقول إن نزار كشاعر غاضب لا يختلف عنه في أساليبه الأخرى، برأيي لقد تعود العنف في قصائده كلها و السعي إلي اكتساح المتلقي من خلأل لغة شعرية خطيرة علي بساطتها، لكن هل هذه القصيدة هي التي تخفف أو تنفي تهمة النرجسية عن نزار؟دكتور أسلوبك قوي يثير الاعجاب ،أمل حقا الاستفادة منك و متابعة كل مشاركاتك و جديدك شكرا جزيلا لك

      تعليق

      يعمل...
      X