إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

    مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

    - د.عادل فريجات -

    دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 2000
    المقدِّمة
    تمهيد
    القسم الأوَّل:" روائيون وروايات سورية ":عبد الكريم ناصيف في " المخطوفون "
    حنا مينه في " الولاعة "
    حيدر حيدر في " شموس الغجر "
    سليمان كامل في روايته: " شفق على الزمن العربي "
    وهيب سراي الدين في روايته: " مساحة ما من العقل "
    القسم الثاني: " روائيون وروايات عربية ": عبد الرحمن منيف في روايتيه: " شرق المتوسط و الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى"
    أحلام مستغانمي في روايتَيْها: " فوضى الحواس" و" ذاكرة الجسد"
    الروائي المغربي: محمد شكري في روايتيه: " الخبز الحافي " و " الشطار "
    القسم الثالث:" روائيون وروايات عالمية ":ماركيز في روايته:" قصة موت معلن "
    جون شتاينبك في روايته:" اللؤلؤة "
    وليام غولدنغ في روايته:" رجال من ورق "

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

    المقدِّمة
    كتابي هذا "مرايا الرواية" هو دراسات نقدية تطبيقية في فن السرد. وقد وقفت فيه عند أحد عشر روائياً، هم: خمسة سوريون، وثلاثة عرب، وثلاثة عالميون حاز كل منهم جائزة نوبل للآداب. أما عدد الروايات المدروسة، فبلغ أكثر من إحدى عشرة رواية، لأن لكل أديب عربي روايتين مدروستين، كنت وجدت بَيْنهما تلازماً قوياً، وتكاملاً واضحاً، فدمجتهما في بحث واحد، فصار عدد الروايات المدروسة أربع عشرة رواية، منها ما هو قصير لا يتجاوز المئة صفحة إلا بقليل، كرواية (غبريبل غارسيا ماركيز): "قصّة موت معلن"، ومنها ما هو طويل يربو على خمسمئة صفحة، مثل رواية (عبد الرحمن منيف) "الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى". وقد أثّر هذا الحجم في عدد صفحات دراسة كل رواية، وفي طريقة التأتِّي إليها.‏
    وقد تعددت أشكال التأني للدرس الروائي، فمن النقاد من اهتم بالرواية، بوصفها جنساً أدبياً له أركانه وعناصره وبنيته، مثل‏
    (عبد الملك مرتاض) في كتابه "في نظرية الرواية- بحث في تقنيات السرد" ومثل (سمر روحي الفيصل) في كتابه "بناء الرواية العربية". ومن النقاد من تناول قضية محدّدة في الرواية العربية، كما هي الحال في كتاب " قـضية البطل الثوري في الرواية العربية الحديثة في مصر" لأحمد محمد عطية، وكتاب "الصحراء في الرواية العربية" لصلاح صالح، و "إشكالية الموت في الرواية العربية والغربية" لأحمد الزعبي. ومن النقاد من وقف عند روائي بعينه، فدرس مجمل إنتاجه كما فعل‏
    (صبحي الطعان) في دراسته "عالم عبد الرحمن منيف الروائي" أو (غالي شكري) في كتابه "المنتمي -دراسة في أدب نجيب محفوظ" أو (رجاء عيد) في مصنّفه "قراءة في أدب نجيب محفوظ". ومن النقاد من اختار جزئية محدّدة عند روائي محدد، وأقام بحثاً كاملاً حولها، وهو ما فعلته (فاطمة الزهراء محمد سعيد) في كتابها "الرمزية في أدب نجيب محفوظ" وما قام به (سليمان الشطي) في بحثه "الاتجاه الرمزي في أدب نجيب محفوظ". وهناك من درس الرواية العربية من حيث نشأتها وتاريخها كما فعل (عبد المحسن طه بدر) في "تطّور الرواية العربية الحديثة في مصر" وكما فعل (محسن جاسم الموسوي) في كتابه "الرواية العربية: النشأة والتحوّل".‏
    أما خياري شخصياً، وهو خيار سبقت إليه من نقاد آخر، فصار نهجاً سارياً، فقد تمثَّل بالوقوف عند رواية أو اثنتين لكاتب بعينه (دون أن يعني ذلك أنني لم أقرأ له سواهما) ثم القيام بدرس هذه الرواية، أو الاثنتين، بوصفها عمارة فنية قائمة بذاتها، آخذاً بالحسبان أنني لا أدرس الروائي بمجمل إنتاجه، بل في عمله الذي اخترته، غير غافل عن إمكانات المقارنة والموازنة مع أعماله الأخرى، أو أعمال الآخرين، حيث اقتضى الشأن ذلك.‏
    ومما تقدّم يتبيَّن أن ثمة طرقاً مختلفة وسبلاً متعدّدة للنقد الروائي، وهي لاتتدابر، بل تتفاعل وتتكامل... ومن هنا فإسهامي المتواضع هنا قد يكون نافعاً على نحو ما، لأن الدراسات النقدية في الجنس الروائي، وفي غيره، تتقارب وتتباعد، ثم تتفاعل وتتواشج، فتشكل تياراً نقدياً قد يرصده مؤرخو النقد يوماً ما، بكل تجلياته وأشكاله وإجراءاته.‏
    ولم يغب عني في إجرائي النقدي هنا، أنَّ الرواية المدروسة لا بد أن تلبس لبوساً، وترسل رسالة، فهي كون لغوي تخييلي سردي يكتنز مضموناً وشكلاً، أو رؤية وفنّاً. وقد حاولتُ قدر المستطاع أن أتلمس الرؤية والفن في كل عمل من الأعمال التي وقفت عندها، واضعاً نصب عيني أن أجعل القارئ، بعد فراغه من مطالعة ما كتبت، ينتقل من الغياب عن الأثر إلى اللقاء به وفهمه، فهدف عملي إذن هو الرحلة التي تكفل الانتقال من الغموض إلى الوضوح، ومن اللبس إلى الانكشاف... ولذلك لم أتخلّ عن وظيفة اللغة النقدية الشارحة، لصالح لغة النقد المعميّة التي قد تستحيل إلى رموز وأشكال هندسية، يتحول العمل النقدي بها إلى طلاسم تحتاج بدورها إلى شرح وبيان! فقد كان القارئ دوماً أمامي أنقل له ما أرى، وكيف أرى، فأفك بعض رموز الآثار الفنية المدروسة، إن كان فيها رموز، دونما حذلقة مفرطة، أو تعالم بعيد عن النص، مركزاً على مهمتي التحليل والتأويل، وهما مهمتان تقعان في صميم النقد، فالنقد لا يشرح فحسب، بل يعيد إنتاج النص الذي يتناوله وفق منظور جديد ورؤية مختلفة.‏
    ولقد عاينت آثار بعض دراساتي هذه، التي نشرتها في دوريات عربية مختلفة، في نفوس بعض القراء، فوجدتها جيّدة. وقد جمعتني ببعض المثقفين مجالس حوار حول مغزى هذا الكاتب أو ذاك من عمله الفني، وعندما كنت أبسط فهمي للعمل- موضوع الحوار كانت تتكشف أشياء لم تبدُ بوضوح للقارئ العادي. وقد وقع نظير هذا في حوار لي حول روايتي أحلام مستغانمي "ذاكرة الجسد" و "فوضى الحواس" وخاصة حول الأخيرة منهما، فقد ظن بعضهم، أن الكاتبة الجزائرية (مستغانمي) نفذت فعلاً ماروته في المغامرة العشقية التي قامت بها (الأنا) الساردة في "فوضى الحواس"! ولهذا فهي غير جديرة بالانتماء إلى تقاليد مجتمعنا العربي الاجتماعية والخلقية... والحقيقة هي غير ذلك تماماً. وتحليلي وتأويلي للمغامرة العشقية المذكورة يوضّحان ذلك. فبهما حذرت من الخلط ما بين العمل الفني التخييلي، من جهة، والواقع الفعلي الموضوعي من جهة أخرى... ومن هنا فإن تبصير الناس بالاتجاه الصحيح لبوصلة الأثر الفني الذي يعاينونه جهد وجيه ومرغوب فيه.‏
    وقد استقرّ في المفاهيم النقدية أن التذوق والفهم هما لونان من ألوان الإيمان، إذ يستدعيان تسليماً وصبراً أولاً، ثم إصغاء وتركيزاً ثانياً، ثم بعد ذلك بصيرة، وخبرة، ولغة نقدية سائغة، وهذه هي المعاني والمراحل التي استلهمتها في دراساتي هذه. فالفهم العليم المتعاطف هو المصباح الذي اهتديت به في معالجاتي النقدية التطبيقية ها هنا.‏
    أما لماذا الروايات السورية والعربية والعالمية في كتاب، فلأن القارئ العربي، وقبله الروائي، وبعده الناقد، لا يستطيع أيُّ منهم أن ينجو من تأثير هذه الدوائر الثقافية الثلاث: القطرية، والعربية، والعالمية، فثقافته وصيرورته هما محصلة التفاعل النشط مع هذه الأطر، بمقدارٍ يقلّ أو يزيد بين امرئ وآخر.‏
    و أما العنوان: "مرايا الرؤية" فلأن كل دراسة تشبه مرآةً انعكست في صفحتها ملامح الرواية المدروسة وقسمات وجهها: كاملةً أو ناقصة، وناجحة أو عاثرة، ووسيمة أو ذميمة... فهذا الكتاب إذاً يُرجِّع صور الروايات المدروسة في نفسي وتفكيري ومعالجتي. وهي صور لا أزعم أنها ستكون مطابقة لما هي عليه في مرايا نفوس الآخرين... ومن هنا تنبع نعمة الاختلاف وفسحة الحوار، فإذا أثارت دراساتي هذه بعض الحوار عند من يرون غير ما رأيت، فهذا مما لاأنفر منه، ولا أتحرَّج فيه.‏
    و أخيراً، فلعلَّ في عملي المتواضع هذا، ما يشكل إضافة ما للنقد الروائي التطبيقي، الذي يتوخى منه أن يكون أكثر احتفاء بالإبداع الروائي، الذي مازال يقدم جديداً في كل يوم، ويجترح أشكالاً روائية تثبت، بحق، أن الرواية جنس أدبي شديد المرونة، فسيح الأرجاء، متعدد البنى والصور والأشكال، وأنها تكاد تتربع على عرش الأجناس الأدبية الأخرى مع نهاية القرن العشرين، فهي - كما يصفها ( جورج اوكاتش)- ملحمة العصر الحديث .‏
    دمشق في 23/6/1999.‏
    د. عادل الفريجات‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

      تمهيد
      في بنية الرواية عامة وبُنَى رواياتنا خاصة‏
      هذا تمهيد أنشأته بعد فراغي من كتابة الدراسات التي يضمَّها هذا الكتاب، فهو إذن متأخر زماناً، متقدِّم مكاناً. وقد كتبته ليكون مدخلاً لقراءة هذه الأعمال، لا بديلاً عن قراءتها. وليس من مقتضيات المدخل أن يُلخِّص كل الأفكار، أو يستجمع كل سمات الروايات الأربع عشرة المدروسة ها هنا. ولهذا فلن أتعب قارئي في متابعة جميع التفصيلات المتصلة بالنقد الروائي، كما لن أستبقه فألخّص له ما سوف يلقاه مفصَّلاً في الدراسات اللاحقة.‏
      ويكفيني هنا أن أعالج فكرتين كبيرتين بإيجاز، أولاهما تتصل بالفن الروائي، والثانية تتصل ببعض القواسم المشتركة، أو الصفات الفارقة، ما بين الروايات المدروسة.‏
      فمن المعروف أن هذا الفن الأدبي (الرواية) فنٌّ حديث نِسْبياً، لم يَمْضِ على استوائه على سوقه، ناضجاً، أكثر من ثلاثة قرون في العالم الغربي، ولا أكثر من قرن ونصف قرن في عالمنا العربي. بَيْدَ أن هذا الجنس الأدبي تخلَّق حين تخلق جنساً مرناً منداح الأبعاد، قادراً على الهضم والتمثل والإفادة من فنون أخرى. وقد وصفه (نجيب محفوظ) بالفن الذي يُوَفِّق ما بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال... وما بين غنى الحقيقة وجموح الخيال اجتهدت الرواية في أن تحتقب صفات الأجناس الأدبية الأخرى، وأن تفيد من فنون مختلفة غير الأدب، فالرواية الأمريكية مثلاً تتبادل مع السينما طرقاً مختلفة، والرواية الجديدة في أوربا تقتبس من الموسيقى طرقاً في التأليف. وبعض الروايات المعاصرة يفيد من تقنيات المسرح، ومن مزايا القصة القصيرة وشؤونها، ومن وهج الشعر ولغته المشحونة وصوره المثيرة ومجازاته الرائعة. وتستطيع الرواية أن تهضم وتستثمر عناصر متنافرة كالوثائق، والمذكرات، والأساطير، والوقائع التاريخية، والتأملات الفلسفية، والتعاليم الأخلاقية، والخيال العلمي، والإرث الأدبي والديني بكل أنواعه، حتى لتكاد تبدو جنساً بلا حدود، إنها كما يرى (د. جابر عصفور) الجنس القادر على التقاط الأنغام المتباعدة والمتنافرة والمتغايرة الخواص لإيقاع عصرنا (زمن الرواية، لعصفور، ص 53)، لذا صارت حسب عبارة (علي الراعي) "ديوان العرب المحدثين"، وليست فقط ملحمة العصر الحديث كما وصفها (لوكاتش) من قبل. بيْدَ أن المسلم به أن لكل نوع أدبي سماته الواسمة، ولعلَّ أهم سمة واسمة للرواية هي "السرد". فالراوي يقوم، غالباً، بسِرْد حكاية فيها أحداث وشخصيات، ولها زمان ومكان، وبداية ونهاية، وتربط عناصرها المختلفة خيوط متشابكة، تنتظر نَسْج حبكة سائغة. والحبكة هي الفاعل الحي الذي يُحرِّك الأحداث ويطوّرها وينميها، إنها الشرف الذي ينتظر الانتقام له إن انتهك، أو الطموح الذي يجب أن يُحقَّق إن عُرْقل سيره، والعدل الذي ينبغي قيامه إن وقع تقويضه، والحب المأزوم الذي يسعى أطرافه لحل أزمتهم فيه، أو الوطن البائس الذي يعاني الداء ويعوزه الدواء، أو المجتمع الذي يتخبط في غياهب الجهل ودياجير الظلم، ويبحث عن بصيص نور يهتدي به في سيره، أو الحرية التي تبغي التحقُّق إنْ هدرت حدودها، واخترقت أسوارها... الخ.‏
      ولاشكَّ أن أيّ راوٍ يقوم في "سرده" بعمليتين اثنتين بارزتين تلازمان أي عمل روائي، هما القطع والاختيار، أو الحذف والإثبات، فليس من المعقول أن يثبت الكاتب كل ما يحدث في الحياة، بل يختار من الأحداث ويقتطع منها ما ينسجم مع تفصيلات القصّة، والمرامي المُتَوخَّاة من سيرورتها وصيرورتها.‏
      وفي الحبكة لا بد من تسلسل وقائع تشكل بنية سردية، وفق منطق سببي معقول... وإذا ساغ لنا تشبيه القصة بكائن عضوي، فإن الحبكة هي الهيكل العظمي لهذا الكائن الذي ترتبط به كل الأطراف، بكل ما يكوّنها من عضلات وأعصاب، وما يجري في عروقها من دم، وما يحمي باطنها من لحم وجلد، وما يمنحها من قسمات، وما يجملها من تناسق... وعليه فالكاتب غير الراوي، حتى وإن لجأ إلى طريقة الرواية بضمير المتكلم. وهذا تمييز هام، وإساءة فهمه قد تسلم إلى أحكام مغلوطة، كما أشِرْنا في دراستنا لرواية (أحلام مستغانمي) "فوضى الحواس". إن الكاتب يستخدم راوياً آخر ليروي لنا القصة، فهو يرويها بلسان كائن آخر يتخفَّى خلفه. وقد شبَّه (فلوبير) كاتب الرواية بالله في الكون، فهو لا يُرى، ولكنه قدير على كل شيء. ونحن نشعر بوجوده في كل مكان، ولكننا لا نعاينه... وهذا هو العقد الخفي ما بين الكاتب وقرائه.‏
      إنَّ الأحداث التي تشكل الحبكة في الرواية أحداث تشاكل الواقع الموضوعي، ولكنها لا تطابقه، فهي تنقاد بخيوط خفية، لتنتهي نهاية غير اعتباطية، ولتقدّم وجهة نظر، أو رؤية، أو معنىً. وقلّما يدخل في القصة حدث ناشز، أو يُحْشَر فيها حشراً عشوائياً موقف لا وظيفة له... إن الكاتب الجيد -كما يقول (ادغار آلان بو)- "هو من يضع نصب عينيه السطر الأخير عندما يكتب السطر الأول" وهذا ما فعله بوضوح (عبد الكريم ناصيف) في "المخطوفون" وما خطط له (حيدر حيدر) في "شموس الغجر" بدليل الإرهاصات التي كانت توحي بوقوع أحداثٍ معينة لاحقاً فتقع تلك الأحداث لاحقاً. و بإيجاز شديد فإن السرد الجيد الناجح الذي يعرف فيه الكاتب موضع قدمه عند كل خطوة يخطوها، هو معيار نجاح الرواية، أو إخفاقها.‏
      ولقد أُوْليتِ السرديات في زماننا عناية فائقة، ذلك لأن السرد هو سبيلنا الذي نعقل به الأشياء كما يقول (جوناثان كوللر) في كتابه "نظرية الأدب".إنه صيغة ضرورية لفهم نماذج السلوك، وأحداث الحياة. ومن المسلم به أن لكل منا على الصعيد الفردي سردياته الخاصة التي تمكنه من بناء ما هو عليه وما يتّجه إليه.وعلى طريقة سرد الناس للأحداث تفهم القضايا والأفكار والتوجهات...‏
      وقد ألِّف في مجال السرد كتب كثيرة نذكر منها كتاب "نظريات السرد الحديثة" لوالاس مارثن الذي ترجمته حياة جاسم محمد، وطبع في القاهرة، وكتاب "المتخيَّل السردي" لعبد الله إبراهيم، و"بنية النص السردي" لحميد الحمداني. كما نشر الدكتور صلاح فضل في العام 1992 كتاب "أساليب السرد في الرواية العربية" انتهى فيه إلى أن ثلاثة أساليب للسرد تستقطب جلَّ طرائق التأليف الروائي العربي وهي: 1- الأسلوب الدرامي: وفيه يسيطر الإيقاع بمستوياته المتعددة، ويعقبه المنظور في الأهمية، ومثاله في رواياتنا المدورسة "الولاعة" لحنا مينه. 2- الأسلوب الغنائي: وفيه تكون الغلبة للمادة الخالية من توتّر الصراع، ويعقبها المنظور، فالإيقاع. ومثاله في رواياتنا موضوع البحث "الآن... هنا" لعبد الرحمن منيف 3- الأسلوب السينمائي: وفيه يفرض المنظور سيادته على ما سواه من ثنائيات، ويأتي بعده الإيقاع. ومثاله عند (صلاح فضل) رواية "ذات"، لصنع الله إبراهيم. وهي مما قرأناه ولم ندرسه هنا.‏
      ولما كانت الأحداث مرهونة بوجود شخصيات تفعلها، أو تنفعل بها، أولى النقد الروائي اهتماماً كبيراً بالشخصية الروائية، والشخصيات الروائية لا تبدو كائنات خيالية لا حياة فيها، بل هي كما يقول عنها (حنا مينه) "حيَّة تماماً بالنسبة للقُرَّاء، وهي أكثر حياة بالنسبة للمبدعين" - (هواجس في التجربة الروائية ص 111).‏
      وقد لعبت الروائية (أحلام مستغانمي)، في روايتها "فوضى الحواس" لعبة فنية تستند إلى المقولة السابقة، إذْ أنهضت من بين السطور بطل روايتها الأولى "ذاكرة الجسد" وراحت تمارس معه مغامرة عشقية خيالية رامزة... وهوالأمر الذي سبقها إليه (بجماليون) مع تمثاله الرخامي الأنثوي المدعو (جالاتيا) إذ راح يصلّي للآلهة أن تهب الحياة لتمثاله ذاك، فاستجابت الآلهة، وتزوّج (بجماليون) من (جالاتيا).‏
      والحق أن الروائيين هم خالقون "وليست الحاجة إلى مضاعفة الحياة بوساطة ما هو خيالي أو بإعادة صنعها، وحدها هي التي تؤسس الباعث الجوهري للروائي، بل الحاجة إلى خلْق الحياة أيضاً، أو الإغراء الذي يمارسه الخلق كما يقول (مورياك) إن الموهبة المخيفة في خلق كائنات أخرى تجعل من الروائي فرداً يقلُّد الله"- (عالم الرواية ص 188). وإذا كان الخيال الخالق هو الرحم الذي تنبثق منه الشخصيات الروائية، فإن الواقع الموضوعي، والحياة الاجتماعية، هما اللذان تنتهي إليهما تلك الشخصيات، فكما أن الخيال عقيم دون صلة له بالواقع، فإن الفكر الفني كله دون خيال عقيم أيضاً... وعليه فالمتخيّل السردي يوازي، غالباً واقعاً اجتماعياً موضوعياً، ويحيل إليه، كما يشير المحمول إلى الحامل، ويحيل إليه.‏
      وإذ يبعث الروائيون حياة في أبطالهم يفاجأون، أحياناً، بأن هؤلاء قد يفلتون من أيديهم، ويحيون ظروفاً أخرى، ويشقِّون دروباً لم تمهَّد لهم، وقد ينطقون بما لا يهواه خالقوهم... ورغم ذلك، فإنَّ إشكالهم قائم ودائم، إذ لا مناص من أن ينظر النقاد إليهم على أنهم نماذج تجسّد فكرة، وتُعبِّر عن موقف.. وقد تكون هذه النماذج إيجابية تجترح بطولات ومآثر، وقد تكون سلبية تجسّد هزائم أو ضحايا. ومن أمثلة الأبطال الإيجابيين في دراساتنا هذه بطل رواية (المخطوفون) "رستم الغطاس" وبطلة رواية (شموس الغجر) "راوية" وبطل رواية (الآن... هنا) "عادل الخالدي". ومن أمثلة الشخصيات السلبية والمهزومة في الروايات موضوع البحث: "حازم" في (المخطوفون) و "بدر النبهان" في (شموس الغجر) و"عنيدان" في (مساحة ما من العقل) و "سنتياغو نصّار" في (قصة موت معلن).‏
      وكما تحيا الشخصيات في الروايات تموت. وفي موت الأبطال في الرواية دلالات كثيرة، حتى إن الموت ذاته قد يتخذ أشكالاً ويصبح إشْكالاً. وقد ألَّف (د. أحمد الزعبي) الدارس الأردني كتاباً سمَّاه "إشكالية الموت في الرواية العربية والغربية". فثمة موت اجتماعي وعاطفي، وموت سياسي ووطني، وموت فكري وفلسفي. وقبل هذا وذاك ثمة موت حقيقي، أو قَتْل للكائن الخيالي في العمل الفني يُؤْتى به ليُسْتَغَلّ استغلالاً حسناً في القصة، كما هي الحال عند (ماركيز) في "قصة موت معلن". وقد لا يُستغل الموت هذا الاستغلال كما هي الحال عند (وهيب سراي الدين) في "مساحة ما من العقل". ومما يذكر هنا أن (بدر النبهان) في (شموس الغجر) مات موتاً فكرياً وسياسيّاً تجسَّد في نكوصه وارتداده عن أفكاره وخطه السياسي. وكذلك مات (رجب إسماعيل) في شرق المتوسط، ولكنه ترك أثراً قوياً في محيطه تمثَّل في سلوك صهره (حامد) وابن أخته (عادل). أمّا موت (سنتياغو نصَّار) عند (ماركيز) فقد كان ثمناً لخيانته للحب، ونتيجة لعدم الاكتراث، واللامبالاة. وعليه فهذا الموت الأخير كان موتاً رامزاً بكل ما في الكلمة من معنى.‏
      والرمز شيء هام في الرواية، وهو الذي يجمع ما بين الحدث والشخصية، وقد تباينت الروايات المدروسة ها هنا في هذا الباب. فكان منها روايات ذات بنية رمزية دالَّة على فكرة واحدة، أو أفكار عدّة، كروايات "شموس الغجر" و "فوضى الحواس" و "اللؤلؤه". وروايات ذاهبة إلى مرماها كطلقة مسدس، وليس كنهر يتلوَّى وسط الحقول ليصل إلى المصب. ومن أمثلة هذا النوع روايات (المخطوفون) و (شفق على الزمن العربي) و (الخبز الحافي) و (الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى).‏
      وقد تعددت تقنيات السرد عند الروائيين المدروسين، فكان منها تقنية القصة داخل القصة، والمونولوج الداخلي، والحلم، و الغرائبية والعجائبية، والخيال العلمي، والتناص، والمثاقفة، والشعرية... الخ. وقد حصل هذا أو بعضه في "المخطوفون" و "شموس الغجر" و "فوضى الحواس" و "ذاكرة الجسد".‏
      ومن الروائيين من اعتمد المذكرات والوثائق، كما في "قصة موت معلن" ورواية "الآن... هنا" على الأرجح. ومنهم من لعب بلعبة الزمن، فلم يجعل الأحداث تتوالى على نحو خطي تصاعدي، بل قدَّمها متداخلة غير مُتَعاقبة. ومن هؤلاء (حيدر حيدر) و (وهيب سراي الدين) و (عبد الرحمن منيف). ومنهم من أكثر من الأصوات العالية في روايته، وأقام عمله على ثنائيات تكشف وجهي الصورة: البهي والكالح، والجميل والقبيح، والفردي والجمعي. وهذا ما فعله (عبد الكريم ناصيف) و (حنا مينه) و (حيدر حيدر)، و (عبد الرحمن منيف) و (أحلام مستغانمي) و (جون شتاينبك).‏
      ولم يقف الروائيون ها هنا عند عنايتهم بالزمان فحسب، بل أولوا المكان أيضاً اهتمامهم، لإدراكهم أن الزمان والمكان هما المفعول الذي يتعدّى إليه فعل الرواية، ليرصد تحولاته، أو هما الفاعل الذي يمارس فعله في الرواية في الوقت ذاته (انظر زمن الرواية ص 47). ومن المعروف أن أمكنة (كالسفينة) و(حي التنك) و (البرية)، و(السجن) و(المدينة)، كانت المسرح الذي تجري فيه أحداث بعض الروايات، فتؤثر فيها وتتأثر بها. ففي (السفينة) جرت أحداث رواية (المخطوفون) و في (حي التنك) وقعت أحداث رواية (الولاَّعة) وفي (البرية) تمت ولادة (راوية) بطلة (شموس الغجر) ومنها استمدت صفاءها وصلابتها في سلوكها وعقيدتها.‏
      وفي (السجن) وقعت حفلات التعذيب لبطلي روايتي عبد الرحمن منيف المدروستين. وكانت (مدنٌ) مثل (عمّورية) و (براغ)و (قسنطينة) و (باريس) و (طنجة) الفضاء المكاني الأرحب لوقائع روايات (منيف) و (مستغانمي) و (محمد شكري)... الخ.‏
      ومما هو جدير بالذكر أن كتّاب الروايات -موضوع الدرس- من سوريين وعرب وعالميين كانوا ذوي أقدام راسخة في هذا الفن، فليس لأي منهم أقل من روايتين، وقد بلغت روايات بعضهم نحو ثلاثين رواية (كحنا مينة) الذي رشحَّه (نجيب محفوظ) ليكون الروائي العربي النوبلي الثاني.‏
      والمعروف مثلاً أن (عبد الرحمن منيف) قد نال جائزة الإبداع العربي في الرواية في المؤتمر المخصص للرواية في القاهرة في العام 1998. وأن الكاتبة (أحلام مستغانمي) قد نالت جائزة نجيب محفوظ على روايتها "ذاكرة الجسد". ولا يمكن لنا أن نسْتهين في منزلة أي روائي آخر، ممّن كانوا موضوع اهتمام في كتابنا هذا.‏
      والنظر السريع في القضايا المحورية التي دارت حولها روايات أولئك الكتاب، يفضي إلى القول إن (ناصيف) اختار الكتابة عن القضية الفلسطينية التي في جوهرها تمثل أرضاً اختطفت من أصحابها، جاعلاً من الطغيان والعدوان فِعْلين لا يقبل بهما الناس مهما امتدا وأن (مينه) كرَّس روايته للحديث عن قيمة التجربة في الحياة في نسيج يجمع ما بين الفردي والجمعي، وينطوي على مسألة وطنية تتضمن الكفاح ضد فرنسا الغاصبة والمنتدبة على سورية خلال الربع الثاني من القرن العشرين. وها هو ذا (مينه) يكتب على لسان (فرح المخزومي) قائلاً: "من أراد أن لا يركع أمام الحياة عليه أن يكون قد ناضل جيداً.. عليه أن يكون قد ناضل في الميناء لا قَعَدَ في البيت" (الولاعة ص 118). أما (حيدر حيدر) فقد شغلته مسألة الردّة عن العقائد اليسارية، وهزيمة زمن الأيديولوجيا، فكرَّس روايته لتمجيد الثبات على المبدأ، والوفاء للعقيدة، رابطاً هذا كله بالهم الفلسطيني الذي يعانق دوماً الهم العربي ويتفاعل معه. والدليل أن (ماجد زهوان) حبيب (راوية) قضى شهيداً مفجراً نفسه في السفارة الاسرائيلية في (قبرص). أما (سليمان كامل) فاختار الكتابة حول حرب تشرين التحريرية، ليخلّد بفنه، وبحسن نواياه، استعداد العرب للفداء والثأر، وليقول إنه من قوم إن جُرِحت كرامتهم، وهدرت حقوقهم، واستبيحت أرضهم، لا ينامون على ظلم، بل يرخصون الدماء، ويدمرون الأعداء، ليشرق في سمائهم شفق ناصع جميل. أما (وهيب سراي الدين) فقد أنجز رواية تدور حول البؤس الاجتماعي في بقعة من جنوبي ريفنا السوري. وكشف عن تحالف الاقطاع المتنفّذ في الريف، مع الأغنياء في المدينة، على الفقراء والفلاحين الذين كان يمثلهم (عنيدان) و (أمه). وعلى الرغم من أن الموقف السياسي بدا خجولاً وحيياً في الرواية، فإن الكاتب لم يتوانَ عن أن يعلن ما نصُّه: "الفلاحون، هم أصحاب الأرض الحقيقيون، وهم الملاَّك الأصليون، ولا يجوز أن تنهب أراضيهم، لينقلبوا أجراء فيها، فهذا ظلم اجتماعي"- (مساحة ما من العقل ص 376).‏
      أما الروائيون العرب، فقد كرَّس (عبد الرحمن منيف)، وهو واحد منهم، همَّهُ لمسألة (السجن السياسي) منتصراً لمبدأ حرية الرأي والتفكير، ولكرامة الإنسان وحقوقه التي أقرَّتْها الأمم المتحدة، معرياً أساليب حكام "شرق المتوسط" المتوحشة في التعذيب والقهر والتنكيل في خصومهم السياسيين، مطلقاً هذه العبارة على لسان أحد الأطباء الغربيين وقد وجهها إلى (رجب اسماعيل): "هذا واحد من شعب سجين"- (شرق المتوسط ص 153).مضيفاً إلى ملامح بطل روايته الأولى ملامح جديدة لوجه بطل روايته الثانية (عادل الخالدي) لعلَّ أهمها: إيمانه بالحرية والديمقراطية وحق الاختلاف، وتلبّسه بالإحساس بعدم اليقين بعد أن انهارت نظم، وبهتت عقائد، وشعوره بالفرح الحزين الذي يخامر الأبطال المقهورين والظافرين في الوقت نفسه.‏
      وكان هاجس (أحلام مستغانمي) في روايتيْها المدروستين هنا الحديث عن تاريخ الجزائر المعاصر، مُقارنة الحاضر بالماضي، مُلاحظة صيرورة هذا التاريخ زمناً للفساد والبؤس والقتل والذبح الأحمق المجنون، جاعلة من (حياة) بطلة "فوضى الحواس" صورة للجزائر التي تروم الاتحاد بماضيها، والاخلاص لتاريخها الثوري البهي، لذا أحبت (حياة) بطلاً من أبطال الثورة بوصفه رمزاً للإخلاص، وخانت، وهي العاقر، زوجها العميد (سي مصطفى) بوصفه رمزاً للغدر بالثورة.‏
      أما (محمد شكري) ففي الوقت الذي كان يكتب سيرته الذاتية روائياً، كان يتحدث عن القاع الأعمق في المجتمع المغربي في النصف الأول من القرن العشرين، من خلال إمعانه في سرد تفاصيل الصعلكة والبؤس والفقر المدقع، وتركيزه على النزعة الشبقية لدى (الأنا الساردة) دونما احتفالٍ بالروادع والزواجر، مخلياً فسحة الحديث عن الروح، لصالح الحديث عن الجسد، في نهج حداثي تفكيكي يدخل روايتيه الاثنتين (الخبز الحافي) و (الشطار) في نطاق الرواية الحداثية، بكل سماتها وخصائصها.‏
      أما روائيو القسم الثالث في كتابنا هذا، وهم ثلاثة: (ماركيز) و(شتاينبك) و (غولدنغ)، وكل منهم ينتمي إلى قارة: (أمريكا الجنوبية) و (أمريكا الشمالية) و (أوربا)، فقد شغلتهم مشاغل أخرى خاصّة بمجتمعاتهم وفلسفاتهم، فماركيز مثلاً تحدث في روايته القصيرة عن القدر والحب واللامبالاة. وبطله (سنتياغو نصار) قتل بسبب إحجام الناس من حوله عن أي عمل يمنع ذاك الفعل..! وقَتْله كان جزاء خيانته لحبيبته (فلوار ميغيل). وعليه فهو بطل سلبي جيء به ليكشف عن علاقات اجتماعية مفككة، وليرمز إلى قضية أخلاقية واضحة، هي الوفاء والاخلاص، اللذين كان القتل والموت ثمناً لازدرائهما. أما رواية (اللؤلؤة) لـ (شتاينبك) فقد كانت رواية تهمس لقرائها بمجموعة من الثنائيات، أهمها الإرادة والقدر، والطموح والقناعة، والنجاح والإخفاق، والأمن والخوف. وقد كان بطلها (كينو) منذ عثر على اللؤلؤة، صدفة، يحلم بامتلاك بندقية تمكّنه من السير إلى الأمام، دون خوف‏
      (الرواية 103). لذا لم يرضَ بيعها بأبْخص الأسعار، ولم يرضَ إلا بالنجاح كاملاً... إن "اللؤلؤة" عند شتاينيك كانت رمزاً لأهدافنا في الحياة، أو لمشروعنا الأكبر الذي ينبغي أن ننافح عنه بكل بسالة، رغم العقبات والأعداء.. وعليه فـ(كينو) بطل إيجابي يجسّد فكرة صدامية تعلي شأن الإرادة، وتقدس معنى الطموح، وتجعل منهما الشرطين اللذين يعلو بهما الإنسان على الكائنات الأخرى...‏
      وإذا تساءَنا عن الفكرة المحورية في رواية (رجال من ورق) لـِ (غولدنغ) وجدناها تعرية الهيمنة على الإنسان الغربي، التي تمارسها السلطة المستبدة هناك، ففي هذه الرواية تخترق حرمة الذات الإنسانية، وتدمَّر حريتها.لذا يقف الروائي، من خلال عمله الفني هذا إلى جانب الحرية، مستنكراً موقف الدولة الحديثة التي إن، شاءت، أحصت على الناس أنفاسهم. وها هو ذا يكتب مثلاً على لسان بطل روايته: "لكن أدركت بعدئذٍ أن علتي ليست في الشرب وسوء حالتي ليس مردّه الشراب، بل هو شيء آخر، أنني موضع مطاردة، أعني موضع تجسّس، وأن عدم وضعي نهاية لتلك المسألة يخل بتوازني وأحكامي بعض الشيء"- (الرواية 130).‏
      وبعد، فنحن إذْ وقفنا في هذا التمهيد عند بعض سمات الفن الروائي الواسمة، وإذ أوْجَزْنا بشدة الحديث عن قسمات الروايات المدروسة، وهواجس كتّابها، وأبطالها، لم نشأ إلا أن نقدّم مفتتحاً مختصراً يُقيم بعض الصوى على دروب القراءة، ويضيء بعض الشموع للسير في النفق.وذلك بعد أن بَسطْنا في المقدمة شيئاً من منطلقات إجرائنا النقدي ومرتكزاته.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

        القسم الأوَّل:" روائيون وروايات سورية ":عبد الكريم ناصيف في " المخطوفون "
        "ما أَعْجَبَ الطُّغيان... يستطيعُ أنْ يفعلَ كلَّ شيءٍ ما عدا قبول الناس به"‏
        (المخطوفون ص 168)‏
        كثيرة هي الروايات التي تناولت قضايا كبرى في التاريخ لتخلِّدها في محراب الفن، فقد كتب الروسي (ليف تولستوي)، بعد أن درس آلاف الوثائق والملفَّات عن هزيمة (نابليون)، رواية "الحرب والسلم". وكتب الياباني (ماسيوجي أبيوس) رواية "المطر الأسود" مؤرِّخاً بها، فنّياً، لإلقاء القنبلة الذرية على (هيروشيما). وفي أدبنا العربي أنشأ (نجيب محفوظ) رواية "كفاح طيبة" ليؤرّخ، بالأدب، للنضال المصري ضد المحتل الإنكليزي والحاكم التركي في (مصر). وكذلك ألَّف (حنا مينه) رواية "المرصد" التي رصد فيها ملامح من حرب تشرين التحريرية، وفعل الشيء ذاته الدكتور (عبد السلام العجيلي) في روايته "أزاهير تشرين المدمَّاة"، وأقام الروائي (يحيى يخلف) روايته "نشيد الحياة" حول حرب لبنان عام 1982 بين القوات الاسرائيلية وقوات الثورة الفلسطينية، راصداً مسائل السلْب والإيجاب فيها... الخ‏
        وتلك الروايات تنقل لنا الواقع السياسي والتاريخي من العالم اليومي إلى عالم الخيال، في موازاة فنيّة يُتَوَخَّى منها أنْ تقنع القارئ وتمتعه... وفيها تتنَّزل الأحداث الخيالية من منبع الإلهام مشابهةً للأحداث الواقعية، أقول مشابهة ولا أقول مطابقة، فمثل تلك الأعمال، في الوقت الذي تنزرع على الوقائع والأخبار والمصائر، تَنْحرف عنها إنحرافاً يعَدُّ من أخص خصائص الفن، ومن أعمق معانيه، ومن أدعى متطلباته... ولكن هذا الانحراف، لا يسوغ، بحال من الأحوال، أن يهبط ممجوجاً من ذاكرة الجماعة التي تعيش، أو عاشت الحدث، أو يتخلَّق مجافياً للاحتمال والممكن، ومتمرداً على قواعد اللعبة الفنية التي لا يمكن أن تكون قواعد جامدة يوماً ما...‏
        والكاتب (عبد الكريم ناصيف) من أدرى الناس بقواعد اللعبة الفنية في اعتقادي، وقد سبقت له إسهامات طيِّبة في ميدان الترجمة الفكرية والترجمة الأدبية، فقد ترجم من الكتب الثقافية الاقتصاد البشري، والإبداع- نصوص مختارة، وأطفالنا -كيف نفهمهم، وترجم من الروايات العالمية، "موسم الفوضى" لـ (وول سوينكا)، و "رجال من ورق" لـ (وليم غولدنغ)، وروايتي "أطفال منتصف الليل"، و "العار" لـ (سلمان رشدي)... وألَّف أيضاً من الروايات "الحلقة المفرغة" و "المد والجزر" و "العشق والثورة" و "البحث عن نجم القطب" وروايته هذه "المخطوفون" الصادرة في دمشق في العام 1991.‏
        ومع "المخطوفون نحن أمام رواية تاريخية توثيقية تتحدث، بالرمز القريب الشفَّاف، عن القضية الفلسطينية، وأمام رواية تحمل رؤية تتمثل برسالة، أو أكثر، بثّها الكاتبُ إلى القارئ العربي، وأمام رواية عربية أصيلة حالفها نجاح كبير، وبدا المؤلف فيها وقد استخدم "تقنيات" جديدة سنوليها الحديث في حينه...‏
        و"المخطوفون" تتحدث عن سفينة كبيرة بل قل "عمارة" بل "بلاد" بأسرها، أبحرت من شاطئها باتجاه شاطئ آخر، نفهم من مجريات الأحداث وأقوال الناس في السفينة أنه شاطئ القانون والنظام (الرواية ص 18). أو شاطئ الحق والحرية، هذا الذي شرب نخبه الركاب ذات مرة (الرواية ص 55)، إنها سفينة تتجه إلى أرض الحق والمساواة والعدل (ص19).‏
        ومنذ الفصل الأول من الرواية يُرهصُ المؤلف بأنَّ أمراً خطيراً ينتظر هذه السفينة التي دعاها بـ "قاهرة البحار" فهناك مسحةُ حزنٍ اعترت قبطانها (غالي بابا)، ثم إن البحر غدّار...! وهو يحمل مفاجآت، وقبطانها كان يخشى المجهول، (الرواية ص 9). وبالتالي فإن أحداثاً خطيرة، أو مصيراً كئيباً يترصَّدها... ويبدو الإرهاص بالآتي الخطير أكثر وضوحاً حين يصعد السندباد البحري إليها مع نهاية الفصل الأول، فهذا السندباد، وهو رمزُ الشؤم دوماً، يعني أنَّ مأساةً ستحل بالسفينة، التي قد تتحطم...!‏
        ويمضي الكاتب ببراعة ممتازة، وبأداء طيِّب، مقدماً شخصيات الرواية كلها تقريباً منذ الفصل الأول، فـ(غالي بابا) هو القبطان الجميل والشجاع والذكي والآمر والناهي، وهو بطل السفينة والرواية معاً.‏
        ومن خلال جولة لهذا الربَّان الأبوي على ركَّاب سفينته نتعرَّف مساعد القبطان (رستم الغطاس)، هذا الرجل الذي يملك إرادة فولاذية، وقدرة على التحمل والعمل بلا كلل أو ملل.. ويشعرنا الكاتب بموقف صعب مُتوقَّع ينتظر المساعد البطل حين يقول فيه:‏
        "إنه لايعرف الخضوع أو المصالحة". وقد كان فعلاً كذلك، إذ رفض المصالحة أو الخضوع لإرادة الخاطفين، رغم صلبهم له على سطح السفينة، عندما طلبوا منه الاعتراف بأنهم هم قادة السفينة وأصحابها الحقيقيون...!‏
        ويمضي القبطان، فيمرُّ على مضيفته (دارية) التي يلتقي عندها الشاعر (هايل أبو سنام) والمحامية (رشيقة الباز) هذه التي ستصبح، فيما بعد، محظيةً لزعيم المختطفين (بن جدعون).‏
        ويقَّدم الروائي لنا فتاةً تدعى (سماح الصوص) لها أخ يدعى (ليون) أصغر منها عمراً. وتتعرف (سماح) على شاب اسمه (حازم عجَّان الحديد)، وتحبُّه وتتزوجه لليلة واحدة فقط. و (حازم) هذا هو الذي سيعاني ما عاناه القبطان (غالي بابا) في زنزانات المجرمين القراصنة في قعر الباخرة، ولكنه جُلب للرواية ليمثل الوجه المناقض لوجه القبطان، والصورة المعاكسة، إذ شكلا ثنائية (التخاذل/ الصمود).‏
        ونلتقي بالفصل الأول أيضاً مهندساً معمارياً يُدعى (زيد شيخ الشباب) وقد كان مسافراً في السفينة، بالإضافة إلى راع للغنم اسمه (عوض الشاوي)، وصديق له وجار يعمل فلاحاً، وقريته قرب قريته، ويدعى (مصباح المرزبان).‏
        وفي إحدى المقصورات كان ثمة عروس وعريس جاءا يقضيان شهر العسل على ظهر (قاهرة البحار)، وهما العروس (كلثوم) والعريس (ضرغام)...‏
        وينتهي الفصل الأول بصعود السندباد، ومعه حفيدته (زين) إلى السفينة، وقد كان من ركّابها الأصليين، ولكنه تأخَّر قليلاً فلحق بهم، بقارب خاص. وقد استغل الكاتب وجود السندباد لأمرين اثنين، أولهما ليقول لنا: إن صعوده إلى السفينة كان نذير شؤم كما هي العادة، وهذا ما حدثت به بعض النسوة... وثانيهما ليرمز به إلى الماضي الذي يمكن أن يقدِّم لنا العبر والدروس... وقد سخِّر السندباد حقاً لهذين الأمرين، وذلك من خلال وجوده أولاً، ومن خلال القصص القصيرة التي كان يرويها للصبية ثانياً، والتي كانت تنذر بشيءٍ يشاكلها، سيأتي بعدها... فكانت الرواية تبدو كأنها "تتمرأى في مرآة كل قصة يرويها السندباد، فترى ذاتها، أو بعض أحداثها ومصائرها، وقد صُغِّرت أو رُمِّزَتْ، أو أرصدتْ...‏
        وإذا كان السندباد هو الماضي الممتد فينا- كما يقول الكاتب، من ركاب الباخرة الأصلاء، فإن رُكَّاباً دخلاء اعتلوا ظهر (قاهرة البحار)، طالعين من وسط عاصفة، طالبين النجدة من القبطان (غالي بابا)... وكان هؤلاء الدخلاء الغرباء أربعين رجلاً تحملهم زوارق أربعة.‏
        وقد مهَّد الكاتب، كما أشرنا، لكل حدث عظيم سيقع في هذه الرحلة البحرية، بأقصوصة يحكيها السندباد البحري توحي بأن شيئاً مشابهاً سيحدث، فالسندباد مثلاً يتحدث في الصفحة (74) عن اختطاف القرود لسفينة كان يركبها، وعن إيقاع القرود الأهوال بالسفينة وبركابها، وذلك تمهيداً لخطف الغرباء سفينة (قاهرة البحار)، الذي حلَّ فعلاً...! فقد كان أولئك الغرباء يثيرون استغراب كل ركّاب السفينة، وذلك لتصرفاتهم المستهجنة، التي تنمّ على سلوكهم العدواني؛ فقد بدأوا بالتحرُّش أولاً بالناس، وضربوا صبيَّاً تلصص عليهم...ثم أغاضوا (سماح) و (حازم) اللذين صارا على وشك أن يصبحا زوجين، دون ذنب اقترفاه، ثم منعوا (عوض الشاوي) من العزف على نايه.. ولما التقى زعيمهم (بن جدعون) بالشاعر (هايل أبو سنام) دار بينهما حوار عرفنا منه أننا أمام رمزين لقومين مختلفين: (هايل) رمز للعرب- أهل الكلام والغناء والشعر وفقه اللغة وما شاكَلَ ذلك... و (بن جدعون) رمز لقوم يقولون عن أنفسهم: "نحن النخبة في هذا العالم، نحن الصفوة عند الله". وبعبارة أخرى: "إنهم شعب الله المختار".‏
        ومن هنا بدأت الخيوط الروائية تشتبك بالخيوط السياسية، وبدأ الحلم يعانق الواقع، وطفقت أحداث وأقوال وأفعال وحوارات ترتسم على ظهر السفينة، لتؤرخ، فنياً، للقضية الفلسطينية، أو للقضية العربية بأسرها،... فقد استباحت العصابة، التي تزعم عن ذاتها "أنها الصفوة عند الله"، السفينة، إثر حادثة مفتعلة ومبيَّته في مشرب السفينة ضربت فيها المضيفة (دارية) أحد العناصر المتعجرفة من العصابة، بعد استفزاز صارخ...! واختطفوا قبطانها (غالي بابا) وراحوا يتخرَّصون قائلين:‏
        إنَّ السفينة سفينتّهم..!" وحين قال لهم القبطان الأصيل (غالي بابا): هذه سفينتنا - (أو أرضنا لافرق) أباً عن جد، وأمس جئتم أنتم، أنا نفسي أنقذتكم من العاصفة، لولاي لهلكتم في اليم، فهل يكون هذا جزاء الإحسان؟. يجيبه القبطان المزيَّف وزعيم القراصنة الخاطفين-(بن جدعون): "دعك من هذا الهراء.. السفينةُ "وُعِدْنا بها، واليوم يتحقَّق الوعد" -(الرواية ص 88) وعندما يقول (غالي بابا): هذه جريمة، قرصنة، خطف مفضوح، يأمر (بن جدعون) جنوده بإبْعاده قائلاً: "ليكن ذلك أيها القبطان... قرصنة، خطف، سمِّها ما شئت، المهم أن تصبح السفينة لنا، المهم أن تعترفوا بذلك، وإلى أن يتمّ هذا، أنتم مخطوفون"-(ص88).‏
        والحقيقة أن هذا العقوق واللؤم قد تأصَّلا في نفوس من يزعمون عن أنفسهم أنهم "النخبة أو الصفوة المختارة" منذ أزمان سحيقة...! وقد أشار إلى ذلك الكاتب (أبو حيَّان التوحيدي) (400هـ) في قصة له لطيفة تتحدث عن مجوسي ويهودي، أحسن الأول إلى الثاني، وهما في الصحراء، فأركبه على بغلته، بعد أن أطعمه زاده، وسقاه ماءه، فلما ملك اليهودي بغلة المجوسي، نخزها وذهب بها بعيداً، تاركاً المجوسي وحيداً في الصحراء يمشي على ظلعٍ، وقد بهر وانحسر...! وحين سأل المجوسي اليهودي بعدئذ ما الذي دعاه أن يفعل ما فعل، قال له: "اعتقاد نشأتُ عليه ومذهب تربَّيْتُ به وصار مألوفاً معتاداً كالجبلَّة.. اقتداء بالآباء والأجداد والمعلمين من أهل ديني ومن أهل مذهبي..." (الإقناع والمؤانسة 2/157).‏
        وتمضي الأحداث على ظهر السفينة، وتمر الوقائع، فيعاني ركابها الأهوال من تلك الجريمة، وهي أهوال تشبه ما يعانيه اليوم أهل الضفة والقطاع من تنكيلٍ وقهرٍ وتعذيب وعسف وتكسير للعظام، على أيدي أحفاد (بن غوريون)، الذين يقابلهم في الرواية أعوان (بن جدعون). والمشاكلة الصوتية هنا موحية دون ريب.‏
        فبعد أن اعتقل أولئك (غالي بابا) ووضعوه في زنزانة، وبعد ممارسات لهم لا تُطاق، ثارت ثائرة السفينة، وسار فيها الناس هاتفين، الموت للقراصنة، الموت للغزاة، وذلك بتوجيه من مساعد القبطان (رستم الغطاس) وثلَّة معه... فما كان من الخاطفين إلاّ أن نكلَّوا بالركاب، وعذبوهم أيَّ تعذيب. وعندما لم يذعنوا للأوامر ولم يمتثلوا لها، أوقع المجرمون فيهم مذبحة بشعة تذكرنا بمذابح (دير ياسين) و (قبية) قتلوا فيها / 924/ قتيلاً، ثم مضوا يواجهونهم بسياسية التجويع والإذلال، فمارسوا وحشية فظيعة يندى لها جبين الإنسانية خجلاً. فقد اعتدوا على العروس (كلثوم) أمام عريسها (ضرغام)، بعد أن أشبعوه لكماً ورفساً وضرباً، فطاش صوابه، وزاغ عقله، وأصيب بانفصام في شخصيته..! ثم صلبوا مساعد القبطان (رستم الغطاس) العقل الموجِّه للمنتفضين..! ولما جاء (حازم) حبيب (سماح) لينقذه، ابتلعته هوّة سحيقة أودت به إلى زنزانة، مجاورة لزنزانة (غالي بابا)، ذاق فيها الأمرَّين، تماماً كما ذاق (غالي بابا) المصير ذاته...! وتتابعت فظائع الخاطفين، وتعاظم طغيانهم، فخصوا الفتى (ليون) أخا (سماح)، الذي كان قد قتل واحداً منهم.. وصاروا، فيما بعد، يأخذون أخته إلى عند (موسى بن دهمان) مساعد الزعيم (بن جدعون) ليجلدها، ثم يقضي وطره منها بعدئذٍ في ساديَّة جنسيَّة مجنونة...!‏
        أما (عوض الشاوي) فقد كووا له شفتيه...! و (مصباح المزربان) صلموا له أذنيه... لا لشيء إلاَّ لأنَّ الأوَّل كان يعزف على نايه معزوفة حزينة، ولأن الثاني كان يغني بقربه أغنية وطنية تنسجم مع أنغام جاره (عوض)...!‏
        ولم تنجُ المحامية (رشيقة الباز) من مصير بائس أيضاً، فتلك المدافعة عن حقوق الركاب وحياتهم، والتي صنعت من ذاتها وكيلة للمرافعة والمحاجة عند (بن جدعون)، حوَّلها هذا المجرم وأتباعه إلى محظية لدى القبطان المعتدي، لا همَّ لها سوى تسبيحه وتمجيده، وإرضاء نزواته، وذلك بعد أن مارسوا عليها أصنافاً من عمليات غسل الدماغ والمعالجات النفسية والجسدية العجيبة....!‏
        ***‏
        إن قراءة رواية "المخطوفون" للروائي (عبد الكريم ناصيف) لتذكرنا برواية "السفينة " لـ (جبرا إبراهيم جبرا) فكلتا الروايتين تتحدثان عن رحلة بحرية تقوم بها سفينة في عرض البحر...‏
        وقد شكَّل هذا الخيار لكلا الروائيين (ناصيف) و (جبرا) مأزقاً، نسبياً، وذلك لضيق المكان الروائي، وقصر الزمن الذي يمكن أن تمضيه سفينة على سطح اليم، مما لا يتيح كثيراً من أشكال التطوير للشخصيات، أو تنويعاً للأحداث والوقائع، ولهذا كان لامناص من التغلُّب على هذا المأزق بمحاولات السيطرة على التكنيك الروائي بذكاء وبراعة.. وقد حدث هذا فعلاً في ذينك الأثرين على حد سواء...‏
        ولكن الفرق بين الروايتين هو أن رواية (جبرا): "السفينة" لم تفصح عن موضوعها بيسر وسهولة( انظر المغامرة الروائية لجورج سالم 185-192 والرواية في الأدب الفلسطيني لأحمد مطر 219-228)، في حين جاءت رواية الكاتب (ناصيف) غير محتاجة إلى عناء كبير لفهم مرامي الكاتب فيها، فرسالته، أو رسائله إلى القرَّاء واضحة، ورموزه شافَّة..‏
        وقد بدا أنَّ الكاتب لم يقنع بذلك، فأضاف مقدمات قصيرة لكل فصل، بدءاً من الفصل الثالث، تشرح ما يحيل إليه الفصل تقريباً، لتأكيد أن روايته هذه، هي تاريخ للقضية الفلسطينية، ومن أشكال ذلك قوله في تمهيد للفصل الثالث: "وقد أثارت حملة العنف الجديدة التي أعلنها اسحق رابين والقائمة على أساس تحطيم وتكسير عظام الفلسطينيين مناخاً من الاستياء العام، وأسفرت هذه الحملة عن جرح عدد كبير من المواطنين الفلسطينيين. وبلغ عدد الذين عُولجوا في أحد مشافي غزة من الكسور الناجمة عن استخدام سياسة العصي والهراوات من قبل سلطات الاحتلال حوالي 200 شخص، وذلك خلال 48 ساعة فقط.. الخ"(ص65).‏
        ومن أشكال الرموز الشافَّة أيضاً، أن السفينة المبحرة هي "عمارة" أو "بلاد" وهي بلاد مسلوبة، أو مخطوفة في النهاية، إنها الأرض العربية السليبة... والقبطان ليس قبطاناً حقيقياً، أو عادياً ، بل هو زعيم شعب وقائد أمَّةٍ، إنه - حسب عبارة الروائي- "لايشعر بالزهوَّ لأنَّه قائد هذه السفينة- العمارة- البلاد- بل لمسؤولية ذات صفات تاريخية، تجعله، إن أفلح، يدخل التاريخ من أوسع أبوابه"- (ص11). فهل يعقل أن يدخل التاريخ قائد سفينة عادية ترحل من ميناء إلى ميناء؟ لا شك أننا أمام سفينة خاصة، سفينة روائية رامزة، وقد خطفت أيضاً من أعداء محددين معروفين..‏
        وأهداف الخاطفين وقائدهم (بن جدعون) واضحة وضوح الشمس، فعندما سألت المحامية (رشيقة الباز) مساعد زعيم الخاطفين: "ما الذي تريدونه منا؟" أجابها: "أجسادكم... ونفوسكم... وأحلامكم، بل لا بد من قتل نفوسكم وأجسادكم معاً فلا يبقى لكم أثر!". وعندما قالت المحامية باستغراب: "نفوسنا وأجسادنا.. إبادة إذن" أجابها (موسى بن دهمان): "بالضبط أيتها المرأة، فكل ما نريده ركاب بلا سفينة، لسفينة بلا ركاب...!" ومن هنا، فهذا الحوار قد أدّى غرضاً روائياً واضحاً، هو توثيق مقولات الأعداء، وتجسيدها في عمل فني، وتوثيق أفعالهم أيضاً التي مرَّت بنا نماذج منها قبل قليل.. وربما لا يشكِّل هذا المسعى اليوم جديداً عند الأجيال المعاصرة، ولكنه، دون ريب، سيشكِّل في قابل الأيام نقشاً لا يمحى، نقشاً روائياً لأعمال معتدين غاشمين تقرؤه الأجيال اللاحقة، ولا تنساه، فأعداؤنا يريدون أرضاً بلا سكان، لسكان بلا أرض، كما يزعمون.‏
        أما الرؤية الثانية، أو الرسالة الثانية، التي يودُّ الروائي أن يرسلها إلى قارئه المعاصر والآتي، فتتجسَّد في موقف القبطان (غالي بابا)، هذا الذي كان بطلاً نموذجياً في الثبات على المبدأ، ولم يتغيَّر شعرةً واحدة، رغم السجن والعذاب والمرض والمعاناة التي لا توصف فقد وصفه (حازم عجان الحديد) لـ(زيد شيخ الشباب) قائلاً: "شعرة واحدة لم يتغيَّر... صحيح أن جسمه مريض يعتريه العلل والأمراض من كل جانب إلاَّ أنَّ الصحيح أن رؤياه ما تزال واضحة يا زيد، عقله يعمل بكامل قواه ونشاطه، وموقفه ما يزال ثابتاً لا يتزحزح". ويردُّ (زيد شيخ الشباب) على (حازم) بقوله: "لابأس ... لا بأس.. يا حازم المهم دائماً هو الجوهر، وغالي بابا هو الجوهر... نحن كلنا عرضٌ يزول... يتحوَّل.. يتغيَّر.. يتبدَّل.. لكن المهم أن يبقى الجوهر جوهراً لا يمسُّه التغيير أفهمت يا حازم"- (الرواية ص282).‏
        ورسالة الكاتب الثالثة، في اعتقادي، هي أن البغي لا يدوم، والطغيان يقود إلى الانتقام... وقد انتهت الرحلة البحرية بارتطام السفينة بصخور صلبة، فتصدَّعت وبدأت تغرق، وعندها عاد الركاب إلى صوابهم، وأفاقوا بسبب الصدمة، في حين سقط (بن جدعون) وصحبه أرضاً، فراح الركاب، وقد تحولَّوا إلى كتلة انتقام، بكل ما فيها من هول يدوسون القراصنة بأرجلهم، ويمزقونهم بأظافرهم، فقد كانوا عصابة "حولَّت أحلامهم إلى فتات، حياتهم إلى جحيم، سفينتهم إلى حطام". (309).‏
        وبعد أن وقع الانتقام والظفر، نجا الركاب بأنفسهم بواسطة قوارب النجاة المعلقة على جانبي السفينة.‏
        والرسالة الرابعة للكاتب تحكي لنا أهمية التفاؤل، وتستنكر اليأس والتخاذل، فمن بين السطور نقرأ أن النصر حليف الصابرين، والوصول إلى الشاطئ الآخر غير مستحيل، والنجاة موثوقة.. وقد ظهر ذلك واضحاً في عبارة السندباد-رمز الماضي الذي به نعتبر- التي قالها لحفيدته (زين) وهي: "وهل يساورك الشك يا زين في أننا سنصل إلى برِّ الأمان؟"- (الرواية ص310). وربما كانت هذه العبارة الأخيرة في الرواية هي التي حدت بالدكتور (محمد توفيق البجيرمي) ليقول: "هذه رواية ملحمية بأسلوب واقعي ليست فيها خوارق الملاحم ومبالغاتها، وفيها نبوءة تتحقق، رغم أن كل شيء كان ضدَّها، ويشير إلى توقعّات معاكسة لها على طول الخط"(مقدمة الرواية ص5) ومن الجدير بالذكر أن الكاتب فرغ من كتابة روايته في خريف عام 1987، وهو العام الذي انطلقت فيه الانتفاضة..‏
        ***‏
        تلك هي رسائل الكاتب إلى قرَّائه، وإذا صغناها، على نحو آخر، قلنا: هي التوثيق للواقع التاريخي الراهن، والدعوة إلى الصمود في وجه الطغاة والبغاة، والتفاؤل بالنصر القادم، واليقين بالوصول إلى بر الأمان، شرط الصمود والصبر وصفاء الرؤية.‏
        والحق أن هذه الرؤى، الجديرة بالكتابة، لم تكن، في هذا الأثر الفني المصوغ بعناية، عاريةً من أثوابها الجميلة، أو عاطلة من أغلفتها الفنية التي تجعلها مقبولة مستساغة.‏
        ومن أسباب الاستساغة أن الكاتب كان ممسكاً بعنان جواده الإبداعي، ملمّاً بتفاصيل كل الأحداث التي ستأتي، مُتصرِّفاً تصرُّف الروائي العالم بكل شيء، دون أن ينعكس علمه هذا ملامح مستكرهة، أو وقائع مفاجئة.. وقد حقَّق (ناصيف) في أثره الفني هذا شرط المؤلف الجيد الذي قال (إدغار آلان بو) فيه: "إنه من يضع نصب عينيه السطر الأخير عندما يكتب السطر الأول"(قضايا الرواية الحديثة ص261). والإمساك بخيوط الرواية بتدبُّر جعل الأحداث تتالى بعد ممهدات وإرصادات تأخذ بيد القارئ شيئاً فشيئاً، وهو يسير في دهاليز العمل الروائي، فقد كان الكاتب يرهص بأحداث قصته حدثاً حدثاً، ويجعلنا نتوقع أن أمراً ما سيحصل، على هذا النحو أو ذاك، فيحصل فعلاً..! فمنذ مطلع الرواية توقَّعْنا أن سوءاً سيلحق بـ(غالي بابا)، لأنه كان يخشى المجهول، ولأن مسحة حزن مرت بنفسه، ووقع هذا. وتوقَّعنا أيضاً أن (رستم الغطَّاس)- مساعد القبطان قد يقتل، وذلك لأنَّ القبطان، في جولته على الركاب، قال له، ممازحاً: "قتلتُ رستم وربِّ الكعبة"! والذي وقع هو أن (رستم) صلُبَ حيّاً، أولاً، ولم يهادن أعداءه، ولم يستسلم لطلباتهم، فقُذف به في قاع البحر ليتلقاه سمكُ قرشٍ فاغرٍ فاه...!‏
        وليكون من غطسه في اليم تناغماً مع اسمه (الغطَّاس)، هذا الذي لم يختره الكاتب اختياراً عابثاً، كما لم يختر أسماء الشخصيات الأخرى أيضاً عبثاً- كما سنرى.‏
        وكذلك لم تكن عبارة (سماح) التي وجَّهتها إلى (زيد شيخ الشباب) مجانيةً، فقد قالت له في أول تعارف بينهما: "كان ينبغي أن يسميِّكَ أهلك زيدان" فأجابها: "لماذا يا آنستي؟" قالت: "كنتَ ستعيد تلك الشخصية المتميزة في تغريبة بني هلال. زيدان شيخ الشباب ذاك الذي كان يدين له شباب بني هلال كلهم بالطاعة والخضوع"- (الرواية ص 28). وفعلاً صار (زيد شيخ الشباب) زعيم شباب السفينة وركابها، قاد نضالهم ضد الخاطفين، ودانوا له جميعاً بالطاعة والخضوع... والشيء ذاته يصدق على قولة (سماح) لـ(حازم) في مطلع الرواية: "مصير بائس"-(ص21). فهي عبارة تناغمت تناغماً عجيباً مع ما آل إليه (حازم) من مصير بائس على أيدي عصابة (بن جدعون).‏
        وسبق لنا أن ذكرنا ما كان ينتفع به الكاتب من حكايات يجريها على لسان (السندباد) ممهداً بها لأحداث ستأتي. وقد حكى (السندباد) حوالي عشر حكايات كانت كل واحدة منهنّ تُمثل موقفاً مصغّراً لموقف مكبَّر ستمرُّ به السفينة وركابها.. والحقيقة أنَّ مبدأ القصّة داخل القصة مبدأ معمول به منذ زمن بعيد في التأليف المسرحي والروائي معاً، ونجد أمثلة له في (أسطورة أوديب)، وفي مسرحية (هاملت) لـ (شكسبير)، وفيه يقع تلخيص للقصة أو لجزء منها عن طريق قصة أخرى، على نحو يمكن أن نسميه "الإرصاد"، يقول (جان ريكاردو) في هذا الصدد: "فبما أن القصة معروفة في خطوطها الأساسية قبل أنْ يمسَّ القلم الورق، أفليس مغرياً أن نحقنها في نقطة من مجراها بمقطع يكون خلاصة لها. إذَّاك يجري التنازع بين القصة وخلاصتها ذاتها. ومثل هذا الإثراء السردي يرجع إلى زمنٍ بعيد وقد استخدمه إدغاربو"(قضايا الرواية الحديثة ص263).‏
        أن إساغة الأثر الذي بين أيدينا لم تكن مقصورة على تلك الإرهاصات أو الإرصادات، التي ذكرنا نماذج منها، لا كلّها، بل امتدت إلى اختيار الأسماء والشخصيات في الرواية، سواءٌ كانت شخصيات مخطوفة أو خاطفة.. فبشيءٍ من حسن التأتِّي، ولطف النظر، يجد الدارس أن كل اسم حمل سهماً من سيماء مسمَّاه، فالمخطوفون هم: (غالي بابا) القبطان الذي، بتحريف بسيط، يصبح‏
        (علي بابا) (انظر مجلة المعرفة- دمشق العدد 340). وهو اسم يذكّرنا بـ (علي بابا والأربعين حرامي) على نحو من الأنحاء، وخاصة أن عدد الخاطفين في الرواية هو أربعون (حرامياً). و (رستم الغطاس) مساعد القبطان، الذي لا يعرف المهادنة والمصالحة، صلب ثم قذف به حيَّاً في ماء البحر ليغطس فيه. واسم (رستم) يذكّرنا بقائد الفرس (رستم) المقتول في (القادسية). وبما أن اسمهما واحد، فمصيرهما كان واحداً...!‏
        أما (حازم عجَّان الحديد)، فقد كان حازماً حقاً، وماضيه يؤكد ذلك، فجدّه كان يعجن الحديد بيديه! وهو في (السفينة) أراد أن يعيد أمجاد جدّه، فهبَّ لإنقاذ مساعد القبطان قبل الموت، فلاقى المصير الذي أشرنا إليه من قبل.. ولكن (حازم)- هذا الشخص الوحيد الذي طرأ عليه تغيُّر وتبُّدل- تخاذل ولم يصمد في سجنه لألوان العذاب التي سامه إياها الأعداء، فشكَّل بذلك الصورة المناقضة لصورة القبطان (غالي بابا).. ومع تغيُّر (حازم)، وخروجه من السجن، تغيَّر في عينيه كل شيء، وذلك نحو الأسوأ، تغيَّر طعم الويسكي، وتغيَّر الناس، وكادوا لا يعرفونه، وحتى (سماح) و (ليون) أيضاً لم يتعرفّاه إلاَّ بعد لأيٍ... و(سماح) هذه، حبيبة (حازم) وزوجته لليلة واحدة، نسبها الكاتب إلى آل (الصوص) لأن مصيرها كان يستمد من الصوص ضعفه وخوفه وخنوعه...‏
        وبما أن حرف الحاء، من زاوية أخرى، يجمع بين (حازم) و(سماح) أُتيح للحب أن يحويهما في حماه..!‏
        وقريب من هذه العلائق، يقع المرء على علائق واضحة بين (عوض الشاوي)- الراعي ذي الظل الخفيف، وبين اسمه، فهو راعٍ، وساذج سذاجة (الشاوي)، ومبهور بكل ما يراه أو يشعر به في هذه السفينة، التي تعدُّ ثمرة من ثمرات التكنولوجيا المعاصرة. وقد كانت تندُّ عن ذاك الراعي عبارات رائقة ماتعة آسرة ترسم على شفاه القُرَّاء ابتسامات جميلة تخفف من وطء الجدية والعنف في مجرى الأحداث، في الوقت الذي تصوغ إحساساً بالتعاطف مع براءة (عوض) وطيبته... ومن هذا القبيل مثلاً قوله لجاره (مصباح المرزبان) إثر العاصفة التي ألَّمت بالسفينة: "ملعون الوالدين يا مصباح.!! ورَّطت نفسك وورطتني معك! والله قلت ما تطلع علينا الشمس". وحين يقول له (مصباح): "أنت خوَّاف يا عوض.. وهذا أنت بخير"، يرد عوض: "حق يا خوي.. أويلي ما أكثر ما خفت البارحة!! كل مرة تطلع بها السفينة فوق الموج أقول ولَّيت ياعوض!! ولّيت يا ملعون الوالدين!!"- (الرواية ص70).‏
        وكذلك فإن اسم (قاهرة البحار) هو اسم يحمل إيحاء بأن المسمَّى، أو من يرمز إليه، سيقهر الأعداء على أرض الواقع، وسينتصر عليهم مهما طال الليل وامتد البغي. وقد أشار إلى ذلك قبلنا الدكتور البجيرمي في مقدمته للرواية. ويقابل هذا الإسم "ذات الأبواق" وهو الاسم الذي أطلقه (بن جدعون) على السفينة فيما بعد، ليحكي اعتماد (إسرائيل) على أبواق الدعاية للتضليل والخداع، وهو أمر واقع فعلاً.‏
        أما أسماء الخاطفين، فلم نعرف منها سوى اثنين فقط هما: (بن جدعون) المحرَّف ببساطة عن (بن غوريون) رئيس وزراء (إسرائيل) الأسبق، فنغما الكلمتين متشابهان جدّاً، تماماً كتشابه نغمي كلمتي (موسى بن دهمان) و (موشي دايان). فالأول مساعد القبطان المعتدي، والثاني وزير دفاع إسرائيل منذ العام 1967، ولسنوات بعدها... ولكي لا يبقى أي شك لدى القارئ في إحالة الاسم الروائي إلى الاسم الواقعي، قدَّم الكاتب (موسى بن دهمان)على أنه أعور العين، تماماً مثل وزير الدفاع الإسرائيلي (موشى دايان) الميت منذ سنوات، فهو يقول عن (بن دهمان): "موسى.. أنت يا موسى.. صاح بن جدعون بأعلى صوته، فدخل الرجل الذي كان القبطان يراه برفقة بن جدعون دائماً: متوسط القامة، دقيق العظام، حنطي البشرة، على عينه اليسرى عصابة سوداء تغطيها كيلا يرى الناس المحجر الخاوي.. إنه موسى الدهمان"- (الرواية ص 113-114).‏
        أما الأدوار التي رسمت لكلٍّ من ركاب السفينة، فقد برز منها دوران هامان، هما دور القبطان (غالي بابا) الذي بقي صامداً، ولم يعترف بجريمة الخطف، ورفض أن يوقع على تنازله عن قيادة السفينة، وعلى تحويله إلى شكل بلا مضمون، أو إلى صورة لاحقيقة، رغم كل أصناف العذاب والقهر والتنكيل والآلام التي تعرَّض لها، وبقي يتمتع بسلامة الحدس، ونقاء الرؤية..! أما (حازم) فإنه ضعف وهوى، ومات، فعلاً، رغم بقائه، حيّاً، شكلاً..! وعندما خرج من زنزانته، وجد كل شيء تغيَّر وتبدَّل، كما أسلفنا، حتى عروسه (سماح) تحولَّت إلى جسد لاروح فيه.. بل إلى أداة لمتعة (بن دهمان)...! فهل يمكن أن نفهم من هذا أنه كان عقوبة غير مباشرة لتخاذل (حازم) أمام جبروت الخصم وطغيانه؟!‏
        ووُزِّعت أدوار الرجال الأخر بتدبُّر وحذق لتقول أشياء أخرى، بما وقع لها، وما أوقع بها.. فقد مثَّل (ليون) الفتى اليافع جيل المستقبل الذي يخشاه العدو، ولا يريد له أن يتناسل، لذا قتل الرجولة فيه، وخصاه، لينام ذاك العدو قريرالعين..! وهذا أمر يذكرنا بالهاجس الديموغرافي الذي كان يقض مضاجع رئيسة وزراء (إسرائيل) الراحلة (غولدا مائيير)، التي لم تكن تنام في الليل بسببه!‏
        وشكَّل تشويه الراعي (عوض الشاوي) الطيب البريء، الذي كان يعزف لحناً شرقياً حزيناً، ربما يعود إلى عهد أكاد وآشور، شكَّل تشويهاً لكل الطيبة والبراءة، وقضاءً على كل طربٍ أو عزفٍ أو نغم، وذلك في الوقت الذي قرر فيه القراصنة الخاطفون أن تختلط الأمور على (مصباح المرزبان)، فصلموا له أذنيه! فاختلط عليه الحابل بالنابل، ولم يعد يميِّزها، ولا يعرف مصادرها، وصار يرى إلى ذاته، وقد طغى عليها القبح واستباحها... ولاغرو، فكما كان الأعداء أعداءً للغناء والطرب، كانوا أعداءً للخير والجمال، وأعداء للحق والقانون اللذين مثلَّتهما المحامية (رشيقة الباز)، التي نصّبت نفسها محامية للدفاع عن تلك القيم، فحولَّها أعوان (بن جدعون) إلى محظيةٍ لديه، لتقول لنا، من بعيد بعيد، أنَّ القانون والنظام والعدل قد صارت تداهن زعيم العصابة، في الرواية، تماماً كما يداهن ممثلو الحق والعدل والنظام الدولي اليوم زعماءَ (إسرائيل)، في الواقع، فهم يسكتون على تصرفاتهم البشعة ضد الشعب الفلسطيني الأعزل إلاَّ من حقِّه وإراداته الصلبة، وإبائه المنقطع النظير.. والحقيقة أن الكاتب لم يصرّح لنا بكل تلك المعاني، ولكننا نحن الذين أردنا أن نؤول رموز روايته على هذا النحو. وهو تأويلٌ نزعم أنه يملك قدراً من الإقناع، لأن سياق الأحداث يوحي به، دون أن يكشف عنه بالشكل الممجوج الممل.. وهذا سرٌّ من أسرار الإجادة في بث الرؤى في أيِّ أثرٍ فني. فالشخصيات بسلوكها ومصائرها تقول العبر، وليس بتصريحاتها أو تفوهاتها الخطابية...‏
        إن التخطيط الدقيق لمآل كل شخصية روائية، وصيرورتها إلى ما صارت إليه، ليسا هما فقط الملمحين الجميلين من ملامح هذه الرواية، بل إننا نشعر أنَّ وراء كل فصل من فصولها يداً صناعاً تحبكه بحنكة، ومما كان مدبّراً بحنكة، ومصوغاً بدقَّة الحبكة الروائية التي اعتمد فيها الكاتب على أكثر من طريقة في البناء الروائي. فقد لجأ إلى السرد، وإلى الوصف، وإلى الحوار، وإلى بعض عادات النفس الداخلة في التكنيك الروائي، كالتذكر، والشرود، والحلم، والتخاطر، وإلى توليف قصص قصيرة في قلب القصة الكبيرة -حسبما أشرنا سابقاً.‏
        كما استخدم الكاتب بعض معطيات التراث الممثلة في قصص ألف ليلة وليلة، وفي الشعر القديم، وتاريخ الأدب، والحديث الشريف، والقول المأثور، مما طبع الرواية بطابع الرواية العربية الأصيلة، التي تأنف من تقليد الغرب، وتعوِّل على بعض عناصر التراث الصالحة لتستغلّها استغلالاً موفقاً كما طبع الكاتب (ناصيف) روايته بطابع الروائي المثقَّف والحائز عيناً روائية تلتقط أدقَّ تفاصيل المشهد الروائي وأعمقها دلالة. وفي وسع الدارس أن يسوق أكثر من دليل على ما تقدَّم، فمن الأدلَّة على العين الروائية التي لا تغفل عن تسجيل أية حركة أو نأمة يقتضيها الوصف والتصوير، هذا المشهد الروائي الذي حدث خلال حملة التفتيش عن مساعد القبطان (رستم الغطاس)، فقد راح أحد عيون (بن جدعون) ينقل تهديد رئيسه للركَّاب قائلاً: ".. يخفونه عني.. قسماً لأفتشنَّ السفينة شبراً شبراً، ولأشنقنَّ كل من ساهم في إخفائه، فتلمَّس أكثر من مستمع عنقه، وهو ينظر حواليه اختلاساً خشية أن تكون عينا الرجل الذي ينقل تهديد القبطان قد لاحظتا حركة ابتلاع الريق"- (الرواية ص 123). فهذا التصوير يدل على ملاحقة واستقصاء لكل ما يمكن أن يطوف به خيال الكاتب من أجزاء الصورة، كما ينطوي على تلميح مكثف معناه: أن كل ركَّاب السفينة كانوا يعرفون أين هو مساعد القبطان، ويخفونه عن أعين العصابة، فمثل تلك الحركة لاتصدر اختلاساً إلاَّ عن أناس هذه حالهم، ولا يسجّلها إلاّ واعٍ بدقائق الأمور.‏
        ومن الأمثلة على ثقافة الروائي الواسعة ووعيه بدقائق الأمور، حديثه عن بعض منجزات العلم، وعن قضايا التكيُّف الذي يعدُّ أحد مستلزمات الذكاء الأساسية(ص108)، وبصره العميق بحالات الإنسان والحيوان في طباعه في الصيف والشتاء، وفي المرض والصحة، والتشنج والاسترخاء، والجمال والقبح.. الخ. وهاهو ذا الكاتب يتكلم عن أهمية الأذنين للإنسان: فيقول عن (مصباح المرزبان) المصلوم الإذنين: "لم يخطر بباله يوماً أن عقوبته كانت أشد قسوة من الجَلد بالسياط، أو قطع الخصيتين، أو حتى الكي بالنار... "فتلك القطعة الغضروفية المحزَّزة كمتاهة ثورندايك، التي يدعونها صيوان الأذن، والتي كان مصباح المرزبان يحسبها تافهة حقيرة بلا أهمية، بدت بعد أن فصلوها عن رأسه، غير تافهة البتّة وغير حقيرة على الإطلاق.. بل بات يخيل إليه أنها أعظم من الهرم وأشد خطورة من نهر الفرات.. يحرِّك رأسه ذات اليمين وذات الشمال فيحسب أن رأسه عارٍ أعزل لكأن الأذنين هما كساؤه وسلاحه.. كما بات يخيل إليه أنه خفيف لا وزن له لكأن الأذنين هما بيضة القبَّان، لكن الطامة الكبرى أنه بات لا يميّز الأصوات، يناديه أحدهم من الشرق فيتجه بناظريه نحو الغرب، تتكلم امرأته من اليمين فيخيل إليه أنها في الشمال.. وتأتي الأصوات مشوشة مختلطة، لكأن صيوان الأذن كان الموجِّه والمرشد والمصفاة التي تنتظم في قنواتها الأصوات ، فلا تصل الغشاء الطبلي إِلاَّ وهي على أكمل وجه.. ذلك الاختلاط جعله كالضائع... "هذا هو السبب".. حدَّث نفسه ذات مرَّة، فالحمار الذي تقطع أذناه غالباً ما يذهب دهساً تحت عجلات قطار أو سيارة إذ لا يعود باستطاعته معرفة مصدر الخطر.. وأفزعه ذلك أيما فزع.. وهو يتصوَّر نفسه ملقى أرضاً صريع عجلة من العجلات، لأنه أخفق في تمييز مصدر الصوت.. الأمر الذي زاد في رغبته باعتزال الناس والحياة... فهو إن سار يسير مفتوح الفم، زائغ العينين، متأرجح الخطا كسكران يخشى في كل لحظة أن يفقد توازنه.. إذن لماذا أسير؟ وإلى أين أذهب؟ كان يتساءل ثم ينظر في المرآة فيصدمه الرأس الأجرد من صيوانه... يا إلهي! أيُّ منظر قبيحٍ هذا؟ كم تضفي الأذنان من جمال على الرأس، ألهذا السبب يتيه الحمار بأذنيه ويفتخر الحصان؟ يتساءل مصباح، ثم يسرع في الحال إلى الكوفية يستر بها عورة لم يكن يخيل إليه أنها عورة، ثم يتكوَّم من جديد في الزاوية ربما كي يدعو الله آناء الليل وأطراف النهار أن يريحه بموتٍ عاجلٍ يُذهب عنه بكل ما يثقل كاهله من حزن وغم"- (ص267).‏
        ومما يشهد على معرفة الكاتب بأسرار النفس البشرية، وحقائق الوجود، وطبيعة الإنسان الاجتماعية، حديثه عن الفراغ الذي واجهه القبطان (غالي بابا) لأول مرة في الزنزانة، فهو يقول: "الفراغ أشد ما يخشاه الإنسان في أعماقه... وكثير منهم يرهبون حين يرون الخواء"- (ص106). يقول عن الطغيان أيضاً: "ما أعجب الطغيان... يستطيع أن يصنع كل شيء، ما عدا قبول الناس به"- (168).‏
        ولا يملك الدارس، وقد قرأ رواية "المخطوفون" إلاَّ أن يذكر أنها رواية تمتّعت ببيان ناصع، وتنزلت بلغة صافية مرنة مطواعة. وكثير من التعابير فيها، وصفاً، وحواراً، وسرداً، حوت من روح الشعر بمقدار ما حوت من روح النثر، فالكاتب يقول مثلاً عن وداع سفينته لشاطئها: "السفن كالناس تعرف الفراق وآلامه، وتكره الوداع وأساه، فيرتسم ذلك على صوتها ارتجافاً وارتعاشاً يميَّزه العارفون ببواطن الأمور" -(ص9). ويتحدث عن لحظات الصفاء فيقول: "آه يا لحظات الصفاء! ما أعظم ما تفعلين في النفس!! تمرِّين بها فتغسلين الكدر وتمحين الهموم؛ بمسحة منك يزول كل غم، يستحيل العالم مرجة خضراء وماءً سلسبيلا، جوهرة تشع ضياءً وسنىً، فلماذا لا تدومين يا لحظات الصفاء" -(ص55). وتقرأ له وهو يحدّثك عن أنغام (عوض الشاوي) فإذا هي عنده: "أنغام تشفي كل ما في النفوس من قهر وغل". وإذا غنى (عوض) لحناً، قال فيه ناصيف: "بدا عوض يعزف ساكباً روحه من شفتيه، فسالت على القصب الأجوف نغماً يفتت الأكباد"-(ص 230)‏
        على أن الجديد في هذه الرواية، هو بعض الأساليب والطرائق التي كان يعوِّل عليها الكاتب ليتخلَّص من مأزق المكان الضيق الذي جعله سفينة تمخر عباب البحر، فهو لم يدعها سفينة، بل قال عنها: إنها عمارة، بل بلاد... ومن هنا سمح لنفسه أن يأتي بمشاهد لا يمكن أن تقع على متن باخرة، كمشهد بائع المازوت الذي راح ينادي ببوقه: "مازوت... مازوت" فتراه زوجة (مصباح المرزبان) وترجوه أن يعصر لها خزانه فيعطيها بعد تمنُّع ولأي، وتلفّت ذات اليمين وذات الشمال، كي لا يراه الناس، بضع قطرات من المازوت تذهب بعدها فرحة، وخيالها ملؤه صورة واحدة، المدفأة المشتعلة التي تؤج نارها أجّاً...(ص270- 271). فهذا مشهد لا يحيل إلى المكان الروائي الرئيسي الذي أوهمنا الكاتب أن الأحداث، جملةً، تجري عليه، بل يحيل إلى مكان ما من الأرض العربية.. وإذا كان هذا المشهد يكسر حد الإيهام الذي تقف على تخومه الرواية، فإن ما ذكره الكاتب من أن السفينة "بلاد" يسوغه ويجعله مقبولاً.. والشيء ذاته يصدق على بعض الأقوال التي أجراها الكاتب على ألسنة الشخصيات الروائية التي لايمكن أن تكون مرجعيتها، مكانياً، سفينة تشق متن اليم، فقد ذكر على لسان (أم حمود) مايلي: "البعض يقول: إنَّ وضعنا حسن.. بل إننا بألف خير، فهناك أحياء لا تأتيها الكهرباء إلا بعد منتصف الليل، وأحياء أخرى لاتشرب إلاَّ من ماء المطر"_(ص274). فالكاتب هنا ينقلنا مباشرة إلى مدينة أو أرض أو وطن، حال أهله، كحال رُكَّاب السفينة، الذي يعانون مما وصف سابقاً... ومثل ذلك ينطبق على أقوال (بن جدعون) لمساعده (موسى بن دهمان) عندما طلب منه أن يستخدم عناصره خراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع، وأن يطلق الكلاب، وأن يدوس (الركاب/ المواطنين) بحوافر الخيل وبعجلات الآليات (ص115).‏
        إن تلك المشاهد التي يمكن فهمها على أنها توسع رموز الرواية، ربما تكون قابلة للنقاش عند بعض القرَّاء، لا من زاوية النقلات المفاجئة التي تكاد تضحي بمبدأ الإيهام الذي يتوخّى أن يلازم الأثر الروائي، بل من زاوية وحدة انطباع تقود إليها الأحداث الوقائع والأفعال والأقوال التي تتحدث عن أرض مسلوبة، استباحها غرباء، عرفنا انتماءهم، ووعينا مقولاتهم، وأطلعنا على خلفياتهم الفكرية والدينية والسياسية...‏
        إن القارئ يستطيع أن يفهم العجائبية والغرائبية المتمثلة في تحويل (بن جدعون) وأعوانه، الشاعرَ (هايل أبو سنام) إلى خروف، والمهندس (زيد شيخ الشباب) إلى كلب، في كون الشخصية الروائية ليست من لحم وعظم ودم، كما استقر في النقد الروائي، وفي رغبة الكاتب أن يقول أشياء إضافية، منها أن الشعراء الذين عرفوا بتمردهم، وبتبشيرهم بالثورة غالباً، قد تحولَّوا إلى خراف وادعة لاتجرؤ على أن تقول كلمة "لا" للبغي والطغيان...! وأن المهندس والمبدع الخلاَّق قد أصبح يحيا، كالكلاب، على الفتات والفضلات، ولا يغضب لذلك... ولكن القارئ نفسه يمكن أن يتساءل لماذا لم يُبْقِ الكاتب، وهو المسيطر على كل شيء في روايته، على بعض المسافرين متمرداً على الخضوع والهوان، خارجاً عن ظاهرة الأرقام التي تحولَّ إليها كل ركَّاب السفينة؟‏
        قد يُقال أن القبطان بقي كذلك، ولم يركع، ولكن هل يكفي صمود فرد بعينه لتغيير الموقف القاتم واللوحة السوداء؟ إنَّ الذي نشاهده اليوم في الضفة والقطاع هو صمود شعب بأسره، لا فرد بعينه، وانتفاضة أمة بكالمها: أطفالاً وشباناً ورجالاً ونساءً... ألم يقل الروائي نفسه على لسان (رستم الغطاس): "صدِّقوني لا أهمية للفرد... الأهمية وحدها للشعب...تلك الكينونة الأبدية التي لا تحول ولا تزول... تلك القوة الخالدة المتجدّدة على مر الأيام والسنين" (ص155)؟؟! فكيف عاد هذا الشعب ليصبح عرضاً يزول، وبقي القبطان هو الجوهر- كما مرَّ بنا؟!.‏
        ورغم تلك التساؤلات والملاحظات، التي لاتثلم عظمة هذا الأثر الفني، فإننا نملك القول: إن الأشياء غير الرائعة تتوالد مع الأشياء الرائعة، والعظيم يتخلق مع غير العظيم، وهذا هو الناقد (ن. غ. تشرنيشفسكي) يقول: "الرائع في الواقع ينطوي على كثير من الأجزاء والتفاصيل غير الرائعة، ولكن ألا نرى الشيء ذاته في الفن، إنما بدرجة أكبر بكثير؟ هاتوا لي عملاً فنياً لا نستطيع أن نعثر فيه على عيوب، روايات والتر سكوت ممطوطة أكثر مما ينبغي. وهذه حقيقة يعترف بها الجميع. وروايات ديكنز تكاد تكون دائماً مفعمة بعاطفة زائدة بالإضافة إلى كونها ممطوطة في أحيان كثيرة جداً. وهذه أيضاً حقيقة يعترف بها الجميع.. وروايات تيكيري تبعث فينا الملل أحياناً، والأصح القول كثير جداً ما تبعث فينا الملل بادعائها الدائم الطيبة الساخرة الشريرة"(علاقات الفن الجمالية بالواقع ص 94- 95). فكم كان جميلاً إذن أن يكون الكاتب (ناصيف) قادراً على الحذف، كما هو قادر على الإثبات...! ولكن يبدو أنَّ في الأمر سرّاً أشار إليه (أبو تمام) منذ ألف ومئتي عام تقريباً، عندما شبَّه أشعاره بأولاده لا يشتهي أن يفقد أيّاً منها..!‏
        ويبقى لدينا تساؤل لا بد من إثباته، وهو أننا، ونحن نقرأ رواية موضوعها قضية العرب الكبرى -قضية فلسطين، أو رواية تؤرخ لحدث سياسي ممتد زمانياً ومكانياً جداً، ولحدث معقد تعقيداً عظيماً، أما كان من أسباب استكمال الصورة، فنياً، أن يشير مبدع "المخطوفون" إلى عنصر هام جداً، في قضية الصراع العربي الصهيوني، هو عنصر الدعم الخارجي الممثل بالغرب الاستعماري؟ فتلك الجماعة المعتدية، التي لها رموزها في الرواية، ما كان لها أن تتمكن مما تمكنت منه، لولا هذه المساندة التي نرى آثارها في كل فعل وكل حدث وكل قول سياسي، يصدر عن ظرف نعانيه في الواقع، ولكن الإشارة إليه في الرواية قد غُيِّبتْ تماماً...!‏
        وإذا كان الحال -كما يقول الروائي الدكتور (عبد الرحمن منيف) - هي أنَّ الأجيال القادمة لابد "أن تقرأ التاريخ الذي نعيشه الآن وغداً، ليس من كتب التاريخ المصقولة، وإنما من روايات هذا الجيل والأجيال القادمة"(الكاتب والمنفى ص 43) إذا كانت هذه هي الحال ، فإن تضمين المعادل الفني لمواقف الغرب الاستعماري في رواية توثيقية تاريخية يصبح ضرورة لا بد منها... فهل سيتحفنا الكاتب (ناصيف) في قابل الأيام بعمل فني آخر يحدّثنا فيه، على نحو كاملٍ متكامل، عن علاقة الشرق العربي، بالغرب الاستعماري، لتتكامل صورة الواقع، وصورة الفن في مبدعٍ ممتعٍ جديدٍ جذَّاب؟؟‏
        المصادر والمراجع‏
        1- المخطوفون، لعبد الكريم ناصيف، دمشق، دار حطين 1991.‏
        2- الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيَّان التوحيدي، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، القاهرة.‏
        3- المغامرة الروائية، لجورج سالم، منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، 1973.‏
        4- الرواية في الأدب الفلسطيني، لأحمد مطر، بيروت- المؤسسة العربية للدراسات والنشر.‏
        5- قضايا الرواية الحديثة، لجان ريكاردو، ترجمة صياح جهيم، منشورات وزارة الثقافة بدمشق 1977.‏
        6- علاقات الفن الجمالية بالواقع، لـ ن. غ. تشرنيشفسكي، ترجمة يوسف حلاَّق، منشورات وزارة الثقافة بدمشق 1983.‏
        7- الكاتب والمنفى- هموم وآفاق الرواية العربية، لعبد الرحمن منيف، بيروت -دار الفكر الجديد 1992.‏
        8- مجلة المعرفة السورية- العدد 340 لعام 1992.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

          حنا مينه في " الولاعة "
          رواية "الولاّعة" (بيروت 1990) هذه، التي فرَغْتُ من قراءتها بالأمس، هي إحدى روايات الكاتب السوريّ حنّا مينه، البالغ عددها ثمانية وعشرين رواية حتّى اليوم. وهذا إنتاج خصب ينمّ عن نبعةٍ للإلهام غزيرة، وعن مثابرة على العطاء محمودة... كما ينمّ هذا الإبداع ذاته، من الوجهة الفنِّيِّة، عن خبرة روائيّة ممتازة، وعن اقتدار رائع على خَلْق الشخصيّات القصصيّة النابضة بالحياة، وعن ميلٍ إلى الكتابة عن قضيّة ما فكريّة، أو اجتماعيّة، أو سياسيّة، أو وطنيّة، أو ما شابَهَ، من خلال بناء قصصيّ ينطوي على التلميح، بمقدار ماينطوي على التصريح، أو قل يمزج الرَمْزَ بالحقيقة، والإيماء اللطيف، بالحدث والحوار والعبارة المختارة، بحذقٍ وتَدَبُّرٍ واضحَيْن.‏
          والقارئ، مع هذه الرواية، إزاء رؤية سياسيّة واجتماعيّة تتسلّل حيِّيةً خَفِرةً في ثنايا هذا الأثر الفنِّيّ، من خلال السرد والوصف والوقائع والحوار والشخصيّات، وإزاء بناء فنّيّ مُتماسِك يُوفِّر له متعةً فنِّيّة، تُعدّ شرطاً جوهريَّاً لكلّ رواية ناجحة- كما يقول الناقد (هنري جيمس) في مقالٍ له عن فنّ الرواية(النقد، لمارك شورر1/118).‏
          والفكرة المحوريّة في هذه القصّة هي أنّ التجربة في الحياة هي كُنْهُ الحياة وسرّها الأكبر. فبطل رواية "الولاّعة" (فرح المخزوميّ)، هذا الفتى الخجول الساذج، والبالغ من العمر سبعة عشر عامّاً، يُسِرُّ لنا، في الصفحة قبل الأخيرة من الرواية، بما نصّه:‏
          "غيرَ أنّ عليَّ أن أعترفَ لقلبكم الكريم أن ماتعلّمته كان بسيطاً، بسيطاً جدِّاً، لسبب واحد، هو أنّني كنتُ مُغفّلاً، كنت جاهلاً أنّ علوم الدنيا كلّها، كما قال لي الأستاذ صبحي، لاتسوى شيئاً، إذا لم تقترن بالتجربة، فالتجربة هي المحكُّ، وهي المعلّم الأوّل والأخير. وفي تلك الليلة دخلْتُ أوّل تجربة حقيقيّة، وتعلّمتُ أوّل دَرْس حقيقيّ من فروسيا ومن أبي"(الولاعة 276).‏
          ومن خلال هذا المقبوس، عرف القارئ من شخصيّات رواية "الولاّعة" بطلها (فرح المخزوميّ)، الذي جاء السرد الروائيّ على لسانه، بوصفه صاحب ضمير الـ (أنا) الذي يروي ماحدث له، وماحدث حوله، ثمّ والده، بل زوج أمّه، (رزق اللّه المخزوميّ). والأستاذ (صبحي)، والفتاة (فروسيا). وهذه ثلاث شخصيّات رئيسيّة في القصّة. وثمّة شخصيّات أخرى كانت أقلّ شأناً رُسِمَتْ لها أدوار ثانويّة بوعيٍ ودراية، لتُبْرِز لنا قيمة التجربة في الحياة، ولتساعد في إلقاء الضوء، بمقدار محسوب، على مايريد الكاتب قوله، أو الدعوة إليه.... وقد كانت أدوار الشخصيّات الرئيسيّة وأدوار الشخصيّات الثانويّة تتكامل وتتضافر، لتُشكِّل في النصّ مجموعة من الخيوط المُتشابكة، كما تتشابك أغصان أشجار الغابة وأوراقها في الطبيعة، على نحوٍ يُشْعِرُ بالعفويّة، ويوحي بحدوث الممكن، وإمكان الحدوث، على الرغم ممّا يخفي تحته من صنعةٍ وكدٍ وعناءٍ وعرق يتطلّبه العمل الإبداعيّ.‏
          وخلاصة حكاية الرواية التي امتدّت على /277/ صفحة، هي أنّ هناك أسرة مؤلّفة من فتىً يُدْعى (فرح الأرمنيّ) تُوفّي والده وهو صغير، فتزوّجت أمّه من رجل يُدْعى (رزق الله المخزوميّ). وقد كان هذا الرجل "مدرمشاً" أي مصاباً بالجدريّ الذي حفر أخاديدَ في وجهه، تذكّره أبداً بالمرض الثائر قديماً، والمنطفئ حديثاً.. وكانت أمّ فرح تُدْعى (نظيرة) أو (نظّور). وهي امرأة تقيّة صالحة طيّبة القلب رَبّتْ ولدها تربيةً خاصّة، ولم تترك فرصة للحياةِ أن تعلّمه هي أيضاً شيئاً... وكان هذا الفتى وأمّه، وزوج أُمّه، بل قل: (أباه)، يحيون في حيّ (التنك)، في مدينة إسكندرون البحريّة.‏
          وقد عرفنا من الرواية أنّ الفتى (فرح) لم يصل في تعليمه، في المدرسة الأرثوذكسيّة، إلاّ إلى الصف الثالث الابتدائيّ.. ولهذا فقد أصبح صانع حلويات، وصار له دكّان، في حين كان أبوه (رزق اللّه المخزوميّ) عاملاً في الميناء. وعرفنا أيضاً أنّ تلك الأمّ الساذجة المسكينة كانت تنظر إلى رجلٍ في الحي يُدْعَى (لاونديوس)، يعمل خيّاطاً، نظرة تَبْجيلٍ وتقديس، وتسمّيه الصالح (لاونديوس)، في حين يكره الأب (المخزوميّ) هذا المدّعي القداسة والصلاح، ويُجِلُّ ويُبجّلُ المعلّم (صبحي)، الذي كان أستاذ ابنه في المدرسة الابتدائية سابقاً... والأستاذ صبحي، الذي "في رأسه موّال"، كان في حالة صدام وتناقض مع (لاونديوس)، الذي اتّهمه بأنّه يروم إبقاء عيون الناس مغمّضة، في الوقت الذي يسعى المعلّم (صبحي) إلى جعلها مفتّحة. فهو يُعلّم الأولاد القراءة والكتابة في المدرسة، ويعلّم الناس أن يفتّحوا عيونهم في الحياة... وهو يرمي من وراء هذه المهمّة الأخيرة إلى شيء آخر؛ فنحن، مع الرواية، في زمن الانتداب الفرنسيّ على سورية... وقد اتّضح لنا أنّ الأستاذ (صبحي) يسعى مع والد (فرح) من أجل توعية العمّال، لتشكيل نقابة لهم ترعى شؤونهم، وتطالب بحقوقهم، وتنظّم قضيّة النضال ضدّ الأجنبيّ...‏
          وتبدأ الأحداث تتشابك، والخطّ الدراميّ يتنامى ويتشعّب، فنرى أنفسنا، فيما بعد، تجاه مواقف متناقضة وآراء متعارضة في الحيّ الواحد. ويقوم ذاك التناقض وهذا التعارض مابين الزوج والزوجة أوّلاً، ثمّ مابين المعلّم (صبحي) والصالح (لاونديوس) ثانياً. وبعد أربعين صفحة من القَصّ، تدخل عالم الرواية فتاة تُدْعَى (فروسيا)، هي ابنة أخي الأمّ (نظيرة)، يطلعنا الكاتب من خلال حوار لها مع عمّتها أنّ أمّها قد ماتت، وهي الآن تعمل خادمة عند رجل يونانيّ يُدْعى (يورغو) كان مسافراً في رحلةٍ له مع ابنته (بربارة)، لذا تفكّر (فروسيا) أن تمضي فترةً في بيت عمّتها، ريثما يعود سيّدها، وتنفّذ هذه الفكرة.‏
          وبدخول (فروسيا) إلى بيت (أمّ فرح) البائس، الذي يضمّ رجلاً وامرأة، وفتىً مُراهقاً، تهبّ على البيت ريح شديدة، ويحدث انقلاب كبير، وتطرأ تبدّلات كثيرة، ويبدأ تصاعد الأحداث وتأزّمها وتوتّرها؛ فها هي ذي فتاة جميلة مغرية جريئة تحطُّ في بيت شاب خجول حَيي مراهق. وها هوذا أب يوزّع، سرّاً، نشرات سياسيّة خطيرة على عمّال الميناء، بهدف جمع كلمتهم، ليُشكّلوا قوّة سياسيّة فاعلة تعارض (فرنسا) وتقاومها.. والأب يسعى لإخفاء نشاطه السياسيّ هذا، حتّى على زوجته (نظيرة)... ورغم ذلك تحوّل (رزق اللّه المخزوميّ) إلى رجل "مَشْبُوهٍ" في نظر المحتلّ الأجنبيّ، كما يريد لنا الروائيّ أن نفهم، دون أن يصرّح بذلك. لذا أرسل له المحتلُّ الفتاة (فروسيا) لتراقبه وترصد نشاطه الخطير، فكانت بعملها هذا تشبه (لاونديوس) الذي حشا رأس الأمّ بمواعظه الفارغة عن إبليس والتجربة والخطيئة وماشابه... ولما كان هذا لاينسجم مع نهج الوالد، ويعارض رؤيته للحياة، صار (لاونديوس) موضع شُبهة في نظر (أبي فرح) وموضع اتّهام بأنّه عين لفرنسا على المعارضين لها، وربّما كان وراء اعتقال والد فرح من الأمن العامّ الفرنسيّ -كما سنرى...‏
          وكان لابدّ، وقد اقتربت النار من الحطب، من أن تنشأ رغبة جامحة لدى الفتى (فرح) في أن يحظى بتلك الفتاة، التي أتقنت فنّ الإغراء- كما صوّرها لنا القاصّ... وكان لامناص له من أن يمرّ بالتجربة التي يمرّ بها كلّ من شابهه في هذا السنّ، وهو سنّ يقظة الحواسّ والغرائز... ولاسيّما أنّه شابٌ خلو من الخبرة، ولم تحصّنه الأيّام والظروف من الإغراء والسقوط.‏
          وعلى هذين المحورين الأساسيّين يبني الكاتب جسور روايته، أعني مِحْوَرَي الصراع بين الشابّ وغرائزه أوّلاً، وثانياً محور الصراع بين (فروسيا) ورغبتها في أن تكشف أسرار هذا العامل، المسمّى (رزق الله)، هذا الذي نعته المعلّم (صبحي) ذات مرّة بأنّه من "طينة الرجال".‏
          ومن هنا، فإنّ الخطاب السياسيّ في هذه القصّة كان، مثله مثل غيره من الخطابات السياسيّة في روايات (حنّا مينه)، يظهر خفراً حييّاً، ويطلّ من بعيد، ومن خلال مجموعة من التلميحات والإشارات الخفيفة التي تندرج في مَتْن النصّ بكلّ عفويّة واستساغة وإقناع.‏
          والحقُّ أنّه لو كانت الحال على عكس ماهي عليه في الرواية، لأضحى الأمر ممجوجاً وكريهاً، وربّما تحوّل الأثر الفنيّ عندئذٍ إلى بيان سياسيّ، أو ما يشبه البيان السياسيّ.. ولكن إخلاص الكاتب لفنّه كان كإخلاصه لقضيتّه التي يكتب عنها، لهذا وزّع جهده الإبداعيّ على كلّ منهما بمقدار. وهذا أمر أتقنه (حنّا مينه) في جميع أعماله الروائيّة السابقة: أوَليس هو القائل: "إنّ كلّ إقْحام للسياسة في الأدب دون أن ينبثق عن ذات الأديب، وبكلّ شرطه الفنّيّ، يفسد العمل الإبداعيّ".‏
          وكما شهدنا صراعاً خارجيّاً مكشوفاً بين (الوالد) و (فروسيا)، وبين (صبحي) و (لاونديوس)، شهدنا صراعاً داخلياً ونفسياً في أعماق نفس الفتى (فرح) الذي راح يتحوّل، تدريجيّاً، من فتى غِرٍّ غضّ جاهل، إلى رجل واع صلب متبصّر.. وقد انتصر فيه تيّار التربية الجادّ والقاسي، الذي وفّره له أبوه، على تيّار التربية الرخو والساذج، الذي مدّتْهُ به أمّه، بكلّ مافيها من حنوّ وحدب وحنان.... وفي برهة ما، ولكي يؤزِّم الكاتب المواقف، يُفاجئنا بنبأ اعتقال الوالد من قبل الأمن العامّ الفرنسيّ، الأمر الذي هزّ كيان الأمّ هزِّاً، وأغضبها غضباً شديداً، وحوّل (فرح) إلى شابٍّ جريءٍ واعٍ حاز رضى أبيه، لأنّه صار يُجلُّ المعلّم، ويزدري الصالح (لاونديوس)، ثمّ مال أخيراً وبوضوح إلى صفّ صديق أبيهِ، على حساب صفّ صديق أمّه... وبما أنّ المعلّم (صبحي) و (لاونديوس) يمثّلان رمزين للوعي والغَفَلة، أو قُل للتوعية والتجهيل، فإنّ الكاتب أراد، كعادته، أن ينتصر للقطب الأوّل، أو قل: للنور على الظلام، وللضوء على الظلمة، وبعبارة أخرى، للواقع على الخيال، ممّا يُسِلم إلى القول: إنّ رؤية الكاتب في هذه القصّة تتركّز في أنّ الحياة فيها من الخير، بمقدار مافيها من الشرّ، وأنّه ليس من الشرّ، في نظره، اكتشاف أسرار الحياة واختبارها. فلكي لانركع أمام الحياة، علينا أن نعرف كُنْهَها، وأن نَحياها بحلّوها ومُرِّها، وأن نتمرّس بمشكلاتها وقضاياها، لا أن نبقى على هامشها، لاهمّ لنا سوى التأمُّل والتخيُّل.. وهاهي ذي عبارات (حنّا مينه) التي جاءت على لسان (فرح) تقول: "مَن أراد أن لايركع أمام الحياة عليه أن يكون قد ناضل جيّداً مثل عمّي زوج أمّي، وخبرها، وتمرّس بمقاومتها، عليه أن يكون قد ناضل في الميناء، لا قعد في البيت، وأكتفى بكتابة تلك النشرات، مثل الأستاذ صبحي. حياة عمّي هي الحياة، لا حياتي الغبيّة البليدة..."(الولاعة 118). وهي عبارة تذكر بما سبق أن تفَّوه به "الطروسي" بطل الشراع والعاصفة من "أن الحياة كفاح في البحر وفي البر".‏
          وهذا المفهوم الذي وجّه العمل الروائيّ، وشكّل مَرْمى المُبْدَع القصصيّ، يحمل الناقد على تصنيف رواية (الولاّعة) ضمن روايات الأدب الواقعيّ، هذا الذي حدّد (برتولد بريخت) مهمّته بقوله: إنّه "يكشف السبب الغامض للعلاقات الاجتماعية، ويفضح الأفكار السائدة معتبراً إيّاها أفكاراً خاصّة بالطبقة الحاكمة". فالكتابة الواقعيّة إذاً تنبثق دائماً عن صلة وتعنى بحيثيّات الواقع الاجتماعيّ الموصوف، وتعتمد على مجموعة من الإحالات التاريخيّة والاجتماعيّة التي تحتضن مناخ العمل الروائيّ مكاناً وزماناً وثقافةً ومفهوماً... وقد التزم (حنّا مينه) بالأدب الواقعيّ منذ صدور روايته الأولى (المصابيح الزرق) عام 1954 في القاهرة. ومن شأن هذا الأدب أن يتوفّر مُبْدِعوه على خَلق شخصيّات اجتماعيّة حيّة، أو كالحيّة، نراها بين ظهرانينا، تعيش كما نعيش، وتتنفّس الهواء الذي نتنفّس، وتكون في النهاية صورة عنّا، حتّى إذا عايشنا مَنْ يُماثلها في الكتب قُلْنا: "هؤلاء هم نحن". وفي هذا المعنى يقول (حنّا مينه):‏
          "لقد فكّرتُ منذ قرأتُ عمر الفاخوريّ، في الأربعينات، كيف يكون الأديب من لحم ودم، وليس من حبر وورق، وأدركتُ ألاَّ شيء يجعل الأديب حيّاً، مثل أن يُباشر الأحياء، ويخرج من وحدته البودليريّة التي لا تتيح سوى السقم والأشباح، وأنّ التجربة وحدها بأوسع وأعمق معانيها، بكلّ أخلاقيّتها، ولا أخلاقيّتها، هي التي تكسو هيكل الأديب باللحم وهي التي تجعل الدم يجري في شرايينه، وبذلك تُؤهِّله لأن يكون خالقاً حيَّاً، يخلق شخوصاً أحياء، يعيشون بيننا، ويتنفّسون هواءنا، ويكونون صورة عنّا، حتّى إذا عايشناهم في الكتب قُلْنا: هؤلاء هم نحن"(هواجس في التجربة الروائية ص 69).‏
          ويبدو أنّ شخصيّة الفتى (فرح) هي شخصيّة كلّ فتى مراهق في شرقنا العربيّ، بكلّ ماتحفل به تلك الشخصيّة من تخيّلات وشكوك.. وكلّ ماينبغي لها أن تراعيه من عرف وعادة وتقليد.. وقد أجاد الكاتب في تحليله لنفسيّة هذا الشابّ المراهق، وصيّره بطلاً حيّاً نراه في الواقع في نفوسنا وبين أصدقائنا وذوينا ومعارفنا... وهو يُجسّد دعوة الكاتب الآنفة الذكر إلى ضرورة الالتصاق، والالتحام بالحياة بنجاح واضح وصدْق صادق.. ولكن تجربة (فرح) مع (فروسيا) لم تكن إلاّ لغرض فنّيّ روائيّ. ومن الواضح أنّ ما يصحّ في عالم الفنّ قد لايصحّ في عالم الواقع، لأنّ الفنّ يُزيِّن الواقع، أو يكمّل نقصه، أو يثوّره، أو يكشف عيبه، وأخيراً فإنّه يحقّق فيه، ما لا يتحقّق في الحياة الاجتماعية.‏
          أمّا شخصيّة الفتاة (فروسيا) فلم تكن غريبة عن مواصفات شخصيّات النساء المحوريّات في روايات (مينه). وهي، من زاوية من الزوايا، تشبه (ماريّا) في (الشراع والعاصفة) و (زنّوبة) في (بقايا صور) و (شكيبة) في (الياطر). إنّها فاعلة وإيجابيّة ومؤثّرة ومُغَيِّرة وصانعة لشيء ما، بل ربّما كانت ثائرة وقالبة للأشياء، ومعطية لها معاني جديدة.. ولنقرأ ماكتبه الروائيّ عن (فروسيا) على لسان (فرح): "هذه البنت نصف امرأة، إذا أخذنا العمر، مع ذلك دوّختنا جميعاً، خربطت حياتنا، قلبتها كما قلبت سلّة مشمش على أرضٍ مُتْرِبة"(الولاعة 128).‏
          إنّ (فروسيا)، في ظنّي، كانت أداة للتغيير ووسيلة للكشف في هذه الرواية. وهذه "البنت نصف الامرأة" لم تكن بنتاً من لحم ودم فحسب، بل كانت، وهذا أمر هامّ في روايات (حنّا مينه)، رمزاً. ومن المعروف أنّ روايات هذا الكاتب لاتُقْرأ دون الانتباه إلى مافيها من رموز، فَـ (فروسيا)، في نظر الكاتب، لم تفسد الفتى (فرح) إفساداً عندما عزفت على أوتار غرائزه، بل فتحت عينه على أشياء جديدة، وقَلَبت حياته قَلْباً، وكانت كالريح التي هزّتْ بيت (رزق الله). وها هوذا (فرح) يقول في (فروسيا): "فروسيا حلّت العقدة، عقدة لساني، وعقدة عقلي، ودون شرح لفزّاعة العصافير (يريد لاونديوس) أصبحتُ أعرف معنى الكوع والبوع والمعركة، وبطحة الدعم، وغيرة الرجل من الرجل ومسألة فتْح العيون وحاجة الرجل إلى المرأة.."(الولاعة 124). وفي الصورة المقابلة، فكما حلّت (فروسيا) عقدة (الابن)، كشفت عن صلابة (الأب) وتأبيّه، وأكّدت قولة المعلّم صبحي فيه إنّه "من طينة الرجال".‏
          ولو شئنا أن نتابع الحديث عن الرموز في الرواية، لوجدنا الكثير منها، ولعلّ أبرزها رمز التغيير الذي حصل في كنية (فرح)، فقد كانت: (الأرمنيّ). ثمّ تحوّلت، بسبب زواج أمّه الثاني من (رزق الله المخزوميّ)، إلى (المخزوميّ). وكذلك صار زوج أمّه أباً له، على سبيل التجوّز والتسامح، لأنّه ربّاهُ فأحْسَنَ تربيته... فتغيير الكنية هو "معادل موضوعيّ" لما سيطرأ على شخصيّة (فرح) في نهاية الرواية من تغيُّر وتحوُّل، وربّما إرصاداً لهذا التغيُّر والتحوُّل. وهو إرصاد جاء في مطلع الرواية، ويقيني أنّه لم يكن من قبيل الصدفة، أو العبث، فليس في العمل الفنّيّ المدبَّر جزء لايخدم الجزء الآخر، أو ملمح سالف لايهيّئ لملمحٍ خالِف، أو جزئيّة لاترتبط بجزئيّة أخرى... و(حنّا مينه) روائيّ يعي مايفعل، ويُدبّر عناصر بنائهِ تدبيراً عظيماً، لذا يُعدُّ مُؤلفاً جيّداً وفْق معيار‏
          (آدغار آلان بو) الذي يقول: "المؤلّف الجيّد هو الذي يضع نُصْبَ عينيه السطر الأخير عندما يكتب السطر الأوّل" (قضايا الرواية الحديثة ص 261).‏
          ومن الرموز المتّصلة بالمكان الروائيّ، تلك التسمية التي أطلقها الكاتب على الحيّ الذي تدور فيه الأحداث في مدينة إسكندرون، فقد سمّاه "حيّ التنك". وفي "التنك" مافيه من إيحاء بالهشاشة والضعف، وفيه مافيه من تناسب مع الفقر والفاقة، اللذين تتّصف بهما عيشة أهل ذلك الحيّ، بوصفه رمزاً للشريحة الاجتماعيّة المسحوقة آنئذٍ، وهي الشريحة التي اختار (حنّا مينه) أن يعالج همومها وقضاياها في كثيرٍ من رواياته.‏
          وربّما كانت هذه التسمية الرمزيّة أقلّ شأناً من الرمز الكامن في عنوان الرواية، فالكاتب سمّى قصّته (الولاّعة). والولاّعة مصدر للنور، ومنبع للضوء، وهي سبب للنار التي تُشْعل لفافات التبغ، وغيرها أيضاً..‏
          والضوء دوماً يعرّي الأمور المستورة، والنور يكشف المسائل المخبوءة، ويكشط قشور الأشياء، فتنكشف. وولاّعة الأب (رزق اللهّ المخزوميّ) هي التي كشفت، على نحو واقعيّ، مافعلته (فروسيا) التي أسقطت (فرح) في حبائلها أخيراً، وهي التي عرّت، على نحو رمزيّ، رغبة هذه الفتاة في الانتقام من الوالد، الذي كان عصياً على الإغراء والسقوط... وهذا مايلخّصه بدقّة المقطع التالي الكاشف الذي كتبه الروائيّ في آخر صفحة من روايته، على لسان بطلها (فرح)، ونصُّه: "في هذه اللحظة، ونحن عاريان في الفراش سمعنا قَدْحةً خرج بعدها شَرَرٌ كالوَمْض، ثمّ اشتعلت ولاّعة كانت مرفوعة في يد أبي أضاءت الغرفة كلّها. حاولْتُ أن أستتر، أن أغطّي جسمي العاري بأيّ شيءٍ تطاله يدي، بينما ظلّت (فروسيا) ممدّة عارية، وأبي ينظر إليها، وهي تنظر إليه، والولاّعة مشتعلة، والصمت الثقيل القاتل المميت يُخيِّم علينا نحن الثلاثة، وعلى البيت كُلّه"( الولاعة ص 277).‏
          وهكذا عرّت (الولاّعة) (فروسيا)، وكشفت سِرّها، وأجبرتها خاصّةً، وقد التُقطت بالجرم المشهود، على أن تقول أخيراً: إنّها فَعَلتْ هذا انتقاماً من الوالد (رزق الله)، فيُجيبها (رزق الله): "أنتِ غلطانة! ليس هكذا يكون الانتقام".‏
          وتبقى في الرواية ظاهرتان اثنتان تستوقفان القارئ، وسَمَتا لغة الرواية بوضوح، وهما استخدام الكاتب للألفاظ العاميّة بكثرة في روايته هذه، ثم توظيفه لثقافته المسيحيّة الواسعة التي حصّلها في يفاعته وشبابه.‏
          ومن الأمثلة على الظاهرة الأولى أنّ القاصّ أجرى على ألسنة أبطاله في (الولاّعة) أمثال هذه العبارات والألفاظ العاميّة: "طُظْ في شواربك" (ص7و105)، "والخناقة" (93)، و"زعق"(ص100)، و"طرمخة الرأس"(ص107) و"شوربوكة" (113) و"نَقْرَش" بمعنى أكل البزر والقضامة والفستق (ص114) و"دَوْزَنة المخّ" (ص163)... إلخ، وربمّا يرى المرء في استخدام هذه المفردات والتعابير الشعبيّة المفهومة في بيئتنا انسجاماً مع انتماء هذا الأثر الفنّيّ إلى الأدب الواقعيّ، وتقريباً لجوّ الرواية من أجواء البيئة التي تتحدث عنها، ولاسيّما أنّها تتحدّث عن شريحة واسعة من الناس، لم تُحصِّل معارف أو علوماً تؤهّلها للتحُّدث بلغةٍ أعلى أو أفْصح أو أكثر تأنُّقاً وشاعريّة.. ولكن هذا الأمر يبدو أمراً شكلياً في مفهوم الأدب الذي يرمي (حنّا مينه) إلى تعميق أسسه وترسيخ طقوسه.. فالمسألة مسألة رؤية ومعالجة وسياق، وليست مسألة مفردةٍ من اللغة هنا أو مفردة هناك... على أنّ هذا لايمنع من القول: إنّنا مع (الولاّعة) في موقف من التعامل مع اللغة الروائيّة، يختلف عنه في بعض مواقف الروائيّ الأخرى، في آثاره المتعدّدة، وخاصّة في روايته (الربيع والخريف) التي لم تزلْ الذاكرة تحتفظ بطعمٍ خاصّ للمقاطع النثريّة المُحلّقة التي جاء بها الكاتب هناك، تلك المقاطع التي سما بها (مينه) إلى منزلة اللغة الشعريّة التي تهبط من عالم الخيال مَحدوّةً بالمجاز والصورة والإيقاع والإثارة والإقناع، فتهزُّ القارئ هزّاً.‏
          والظاهرة الثانية التي تتكرّر أيضاً في كثير من آثار هذا الكاتب، كما تكرّرت هنا، هي استغلال الكاتب لثقافته المسيحيّة. والحقّ أنّ (مينه) نفسه يقرُّ بأنّه درس الكتب المقدّسة بعمق، ولكنّه فهمها بحسب مزاجه الخاصّ، وفسّرها وفق رؤيته الشخصيّة للحياة، ثمّ راح يستثمر مايرد فيها من أقوال مأثورة وحكم وآيات، مستشهداً بها بين الفينة والأخرى. ونحن واجدون في (الولاّعة) الكثير من أقوال الإنجيل، من أمثال قول الأستاذ (صبحي) لـ (فرح): "أنت يافرّوح بسيط القلب، لذلك ستدخل الجنّة، ألمْ يقل السيّد المسيح: طوبى لبُسطاء القلوب" (ص29). وكذلك نقرأ في الرواية قول (بولس الرسول): "إنّي أنقض الناموس" -(ص8). ويستفيد الكاتب من عبارة المزامير ليصف (أمّ فرح) بقوله: "أمّ فرح أطهر من الزوفا وأبيض من الثلج" (ص150). ثمّ يُوَلِّف ماجاء في سفر الجامعة من حكم فيكتب "باطل الأباطيل، الكلّ باطل، الكلّ قبض الريح" (ص156). ويمكن للدارس، من زاوية أخرى، أن يعثر على صلة بين طفولة بطل الرواية (فرح)، وطفولة الكاتب (حنّا مينه)، فكلاهما كان تلميذاً مسيحيّاً من تلاميذ المدرسة الأرثوذكسيّة... ولاجرم أن نجد ما وجدناه من ملامح مسيحيّة في كتابات (مينه) جميعها، لأنّ أمّه كانت تُعدّهُ، وهو صغير، ليصبح كاهناً. ولكن الأمّ شاءت شيئاً، وشاءت الأقدار شيئاً آخر....‏
          ويبقى عندي انطباع، لا أجدني مخلصاً إن لم أفصح عنه، وقد قرأت ستّ روايات من روايات (حنّا مينة)، هي: (بقايا صُوَر) و "الياطر) و(الثلج يأتي من النافذة) و (الربيع والخريف) و (المرصد) وهذه (الولاّعة). وفحوى ذاك الانطباع هو أنّ إحساسي بالمتعة في هذه الرواية الأخيرة كان مختلفاً عن إحساسي بالمُتَع التي وقعت لي في قراءتي للروايات السابقة، وكذلك فإنّ نوع النكهة ومستواها وعمقها لم يكن على ماكان عليه في مطالعتي لروايتَي الكاتب: (بقايا صور) و(الياطر) مثلاً، ولست أدري أيعود هذا إليّ، بوصفي قارئاً متطوّراً، أم يعود إلى الكاتب نفسه، وإلى مدى توفُّره على خلق الإمتاع بين رواية وأخرى، ومقدار توفيقه الذي قد يختلف بين تجربةٍ إبداعيّة مُعيّنة، وتجربةٍ إبداعيّة أخرى؟؟!‏
          وعلى الرغم من إشارة الناقد ( صلاح فضل) إلى أن عشاق النقد التقييمي يعدون( حنا مينه) أبرز اسم بعد نجيب محفوظ على خارطة الرواية العربية المعاصرة، فإننا نراه يكاد يقسو قليلاً في حكمه على روايته هذه الولاعة ، فيقول فيها : " الرواية من الوجهة الفنية شديدة البساطة وسطحية الهندسة، إذ لاتقوى ، مع اعتمادها على منظور شخصية واحدة تتركزالوقائع في بؤرة إدراكها ، على توظيف تقنية تيار الوعي ، لأن الخواطر التي تنهمر منها في نفس هذا الفتى الساذج تدور حول الغرائز الأولى للشهوة الجنسية والمعرفية معاً، ولا تتداخل فيها الأصوات ولا المستويات المركبة لأن نموذجها نمطي مرسوم - كما اعتاد المؤلف أن يخرج نماذجه المؤدلجة ، لاوجود فيها لشخصيات حقيقته بكامل حضورها الفعلي ، وتناقضاتها الوجودية" .(أساليب الرد في الرواية العربية‏
          ص 50).‏
          وعلى الرغم مما سبق، فإننا نرى أن كلّ رواية من روايات ( حنا مينه) تشبه نوعاً من أنواع الفاكهة التي لاتفتقر إلى المذاق والنفع، ولاتشكو من ضعف الجنى ، أو غياب الرؤية، جزئية كانت أم كلية ، فكاتبنا كان ومازال كاتباً غير مجاني وغير مملول، بحال من الأحوال.‏
          المراجع:‏
          1-الولاّعة، بيروت، دار الآداب 1990.‏
          2-النقد، تصنيف مارك شورر، ترجمة هيفاء هاشم، دمشق 1961، ج1.‏
          3-هواجس في التجربة الروائية، لحنا مينة، بيروت 1982.‏
          4-مجلة الفكر العربي، بيروت، س4 ع25 (مقال لجمال شحيد).‏
          5-قضايا الرواية الحديثة، لجان ريكاردو، ترجمة صياح جهيّم، دمشق 1977.‏
          6- أساليب السرد في الرواية العربية، لصلاح فضل ، الكويت 1992.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

            حيدر حيدر في " شموس الغجر "
            حيدر حيدر قصّاص وروائي سوري معروف. له مايربو على اثني عشر عملاً "إبداعياً" مابين مجموعة قصصية، وأثر روائي. ومن رواياته المعروفة جداً: وليمة لأعشاب البحر، والزمن الموحش. أما "شموس الغجر" هذه، فهي روايته الأخيرة. وقد صدرت بدمشق في العام 1997. وهي تمثل آخر أعماله. ولعلّها تعبر عن المرحلة الأخيرة من فنّه الروائي.‏
            وسنتناول هذه الرواية من خلال مجموعة من المحاور التي اشتبكت حولها علائقها، وقام عليها سردها، وجسّدها أبطالها، وتغلغلت فيها رؤى كاتبها. وهذه المحاور الكبرى هي: العنوان، والحيّز الروائي، والشخصيات، والإيقاع الروائي.‏
            (آ)- العنوان:‏
            ونبدأ بالعنوان، لأن العنوان قد يقدّم للناقد مفتاحاً لرؤية الكاتب للحياة والناس والأفكار، ونافذة للإطْلال على مقولة الرواية، وهواجس صاحبها. كما قد يقدم ضوءاً خافتاً لايدع الشخصية المحورية في منطقة العماء والعتمة، فمن المعروف في الفن السردي أن المؤلّف يحمل مصباحاً في سردابه الروائي المعتم يجعله يشعّ بين فينة وأخرى، ليضيء مناطق يريد لها الإضاءة والانكشاف.‏
            والشخصية المحورية في هذه الرواية فتاة تدعى (راوية) وُلِدَتْ لأبٍ يدعى (بدر النبهان). وكانت ولادتها في البرية وتحت وهج الشمس. وقد ساعدتها على رؤية النور قابلة غجرية تدعى (بيلارك). وتنبأت لها هذه الغجرية بحياة مضطربة مشوبة بالصراع والمغامرة، ولكنها آيلة إلى النور والهداية، فقالت لها:((تجتازين دروباً شائكة في قادم الزمن، لكن النجوم ستهديك أخيراً يابنتي)).‏
            وقد اختار الكاتب ولادة (راوية) في العراء وتحت الشمس، ليقول إنَّ هذه الفتاة التي لفحتها شموس الغجر ستكون نظيرة لهم، تعشق الحرية، وتتمرّد على التقليد البالي والعرف السائد...وستمتاز بما هو أهم من هذا، وهو العصيان على الاهتزاز، والثبات على المبدأ.‏
            ومن هنا، فـ (راوية) التي كانت ضمير المتكلم في الرواية كانت حاملة لفكرة، ومحوراً لأحداث، ورمزاً لحلم الزمان القادم. وآية ذلك أن حبيبها الفلسطيني (ماجد زهوان) وهو معادل لها، فكرةً وسلوكاً، وقد التقته في قبرص، قال لها: ((أطفال الشمس الذين سينهضون ويشعّون من الوحل، أنت وأنا وآخرون، وأولادنا وأحفادنا، أليسوا هم جوهر الزمان القادم؟))‏
            (شموس الغجر123).‏
            إذن فآثار ((شموس الغجر)) هي التي ستتكفّل بمكافحة فكر الردّة، والصمود في وجه الأعاصير. ومن الواضح أن (راوية) التي تعلمت من أبيها معنى التقدم، والثقة بالنفس، والتفكير الحر، والصدام مع الرجعية، في البيت والمحيط، لم تنقلب على هذه المفاهيم، في حين انقلب أبوها عليها، إثْر اعتقاله وتعذيبه في أقبية سلطة قمعية عاتية... وفي ضوء هذا التحول، وذاك الثبات، نفهم قول (بدر النبهان) لابنته (راوية). ((أصلاً الغجر هم أسلافك، بهذا اللسان السليط والوجه النحاسي تؤكدين بأن شمسهم لفَحْتكِ، وأن دمكِ ملوّثٌ بلغتهم)) -(الرواية 62). وأكاد أجزم أن هذه العبارات هي التي أوحت للكاتب حيدر بأن يختار ما اختاره عنواناً لروايته.‏
            (ب)- الحيّز الروائي:‏
            وإذا كان العنوان قد قدّم عوناً لنا في فهم الرواية، فإنَّ الحيّز الروائي، أو بعضاً منه، وهو (البريّة) هنا، قد أدّى وظيفة أخرى من وظائف السرد، وساعد على رسم اللوحة المتناسقة في هذا العمل. ففي البريّة كان أبو راوية (بدر النبهان) يعلم ابنته معاني الثورة والعدالة، فتنغرس في نفسها حتى الأعماق... حتى إنّه عندما ارتدّ الأب إلى التديّن أبَتِ الابنةُ الارتداد. وعندما صار بيتها جحيماً لايُطاق، رحلت عنه معلنة: ((أنا الآن ماينبغي أن أكون، في دمي صرخات الغجر السعداء بالحرية والفضاءات التي لاتُحَدّ)) - (الرواية 76).‏
            وفي (البرية) ذاتها باحت (راوية) لأختها (بيسان) بمضمون رسالة الحب التي بعث بها إليها حبيبها الفلسطيني (ماجد زهوان). وقد كانت أختها طفلة فوق تراب البرية العابق برائحة الأرض وشذا حليب الطفولة تشعر بالنشوة الروحية للزمان البدائي الأول... و(البرية) ذاتها هي الحَيّز الروائي الذي اختاره الكاتب ليكون مسرحاً تمارس فيه (راوية) برهة الحب البهيجة مع الشاب الفلسطيني الثائر... فالبرية إذاً مكان الولادة والحب معاً..‏
            وهي وطن الغجر الذين كرّمهم (ماجد زهوان) ذات مرة، ففي مقطع روائي، يبدو هذا الشاب، وهو يقذف نحو الجمر بدفقات من الوسكي، فتتوهج مموّجة بلهب أرجواني... وعندما تَسْأله (راوية) لماذا هذا؟ يجيبها: ((كرمى للغجر الرحّل والأحرار، وشموسهم المضيئة)) - (الرواية 165). ومن المعروف أن (الغجر) قوم بداة لم تفسدهم الحضارة المزيَّفَة، فهم يسيرون إلى مآربهم تحت الشمس بجرأة وبسالة، غير مشوبين بالتردد أو التراجع أو الهوان... وهم، فيما يُرْوَى عنهم، مخلصون فيما يعتقدون، وصادقون فيما يقولون، ألسنتهم مفاتيح قلوبهم. و (راوية) -بِنْت الغجر- أشد الناس شبهاً بهم، ولهذا قال له أبوها: ((الغجر هم أسلافكِ)).‏
            ولست أظن أن الروائيين يختارون فضاءاتهم، اختياراً مجانياً، لا دلالة فيه. وهم في هذا الباب أفرقاء، ففريق يميل إلى الفضاءات المغلقة بحيث لا تبرحها الشخصيات الروائية إمعاناً في تعميق حياتها الداخلية. وفريق آخر، على العكس، يدفع بأبطاله إلى المغامرة في الخارج والجري فوق السهوب والغابات- (انظر بحوث في الرواية الجديدة، لميشال بوتور ص61) وهذا مافعله حيدر حيدر مع (راوية) تماماً، وخاصة عندما أنهى روايته بقول الفراشة الزرقاء لِـ (راوية) ((تعرّي من شرانق الحرير، وادخلي في فضاءات البحر)) - (الرواية 176).‏
            (جـ)- الشخصيات:‏
            ولو عدْنا إلى نبوءة الغجرية حول مستقبل (راوية)، بوصفها توحي بمسارها ومصيرها، ونظرنا في تحققها في الرواية، للاحظنا أن هذه النبوءة تتحقق أو تكاد. فـ (راوية) كانت، مثل أبيها في عهده الأول، ثائرة متمردة، تسعى للحرية، وتؤمن بالتقدم، وترفض الذل والكبت والتخلّف... فكما تمرّد الأب على عقائد أبيه، بعد أن قرأ الكتب في (بيروت)، تمرّدت هي على انقلاب أبيها، وعلى قهر أخيها، وهربت من البيت ! فثمة هروبان في الرواية متناظران، الأول: قام به (بدر النبهان) مع أمه المطلقة إلى بيروت، والثاني: قامت به (راوية) إلى (قبرص)، حيث (ماجد زهوان). وقد بدأ صراع الأجيال بوضوح في الهروب الثاني، وهو صراع قام على موقفين متناقضين هما: الردّة والثبات، ففي الوقت الذي خلع فيه الوالد عباءة التمرد والتحرر، وعاد أدراجه إلى محافل الدين وشيوخ المذهب، استمرت (راوية) في ارتداء عباءة التمرّد والتقدم والتحرر... وها هي ذي الآن طالبة في جامعة (قبرص) تدرس علم النفس، وتربط مصيرها بـ (ماجد زهوان) وتحبّه حباً فذّاً، فيه شيء من طباع الغجر وتقاليدهم، وتؤسس معه علاقة، تقف على الطرف النقيض مع علاقة (علية ورضوان). ففي هذه العلاقة ترى (راوية) أن الجوهر هنا ليس في الشرع، بل في العقل والثقة والحرية واحترام الآخر، فهذه القيم -كما تقول راوية -((تعلو على الشرائع والأديان، فالمفاهيم متجذرة في أعماق الناس قبل الأديان التي جاء بها الأنبياء من البشر)) -(الرواية 151).‏
            إن (راوية) تتناقض مع أبيها في ردّته، وتخالف أخاها الضابط الذي راح ينكل بها، ويضطهدها، ويمنعها من السباحة في البحر، ويسعى لقهرها وإهانتها، حتى أنه أطلق الرصاص عليها في البيت، ولم يصبها. وهي تجسّد التمرد الحقيقي، والجرأة في القول والفعل، والثبات على المبدأ والمعتقد... وهي من هذه الزاوية تشبه، إلى حد بعيد، شخصية (مهيار الباهلي) في رواية الكاتب (حيدر حيدر) ((وليمة لأعشاب البحر))، فمهيار الباهلي رغم كل تعقيدات الغربة والهزائم والإحباطات ظل يبني آمالاً زاهرة على المستقبل. وهو يشبه (راوية) لأنه نابت من جذور دينية، فهو سليل الباهليين القدامى والحسين بن علي (وليمة لأعشاب البحر ص21). وكذلك كانت (راوية) سليلة أسرة النبهان المتدينة والوجيهة في منطقتها.‏
            وكما حافظ (مهيار الباهلي) على نقائه رغم أفكار التشاؤم، حافظت (راوية) على اتجاه بوصلتها رغم ارتداد أبيها وقمع أخيها. ولم يكن من قريب لنفس (راوية) في أسرتها، سوى جدّتها التي كانت تسّمى في بيت (سعيد النبهان) ((ميزان العدالة)). وهي التي كانت تقف إلى جانب الفلاحين وتشبههم بخلايا النحل التي تصنع العسل والشهد.‏
            وإذا كانت (راوية) تمثل الشخصية المحورية الأولى في (شموس الغجر)، فإنَّ الشخصية الثانية فيها هي شخصية (ماجد زهوان). وهو زميل (راوية) في جامعة (قبرص) أولاً، وحبيبها فيما بعد. وقد بدت وشائج قوية بين فكرَيْ هاتين الشخصيتين وتكوّنهما. فكما كانت (راوية) مسكونة بأفكار التحرر والثورة والعدالة، كان (ماجد زهوان) مسكوناً بالهم الفلسطيني الذي لاخلاص منه، إلا باعتناق أفكار التحرر والثورة والعدالة. وقد قُدّم (زهوان) في الرواية طفلاً يتيماً هارباً من بيت أبيه، شارداً بلا دليل، ثم صُوّر محارباً للظلم الواقع عليه أولاً، وعلى شعبه ثانياً. وهاهو ذا يتساءل مخاطباً (راوية):‏
            ((جيلنا هذا السائر على حد السكين هو الضحية أم الأمل القادم؟)) ثم يضيف: ((أنت وأنا ياراوية نيزكَيْن اصطدما في فضاء معتم)). وعندما تسأله: أما مِنْ أملٍ يتراءى لك؟ يجيبها: ((بلى، الدماء وحدها هي التي تضيء)) -(الرواية 147). وهذه العبارة الأخيرة تذكر بما سبق أن قرأنا على لسان بطل ((وليمة لأعشاب البحر)) (مهيار الباهلي) في تأكيد لأطروحاته الثورية ونصّه: ((الدماء وحدها التي تضيء الآن، وماتبقى هو الهراء)) -(وليمة لأعشاب البحر ص117). ولما كان (ماجد زهوان) يعتقد أن ((الدم وحده يكسر ناب الوحش))، فقد اختار أن يختم حياته بطريقة يكسر فيها ناب الوحش الصهيوني، إذا فجّر نفسه في السفارة الإسرائيلية في (قبرص)، معلناً في وصيته التي تركها وراءه: ((نموت لتحيا الأجيال القادمة التي لاتنسى، خلاف ذلك ليس سوى الأباطيل ووصمة العار، وحده الدم يكسر ناب الوحش))- (شموس الغجر 176).‏
            إن إمعان النظر في علاقة الحب مابين (راوية) و (ماجد زهوان) يفضي إلى اكتشاف معانٍ تشعّ من بين السطور، وتشكل رؤية الكاتب التي تركها تتسلل خلال الكلمات، فأفكار الحرية والعدالة والتقدم، والتمرد على الظلم والعرف البالي، التي تعتنقها (راوية)، لابد لها من أن تتعانق، كصاحبتها، مع الفعل الثوري الدموي الذي اجترحه (ماجد زهوان)، فوحوش التعصب والقهر والاحتلال لايمكن لها أن تفهم غير لغة الدم، أو غير لغة الاستشهاد. ونحن إذا قرنّا العقيدة بالفعل، والقول بالعمل، حققنا مانصبو إليه... لقد أنجز (زهوان) ماسبق أن وعد به (راوية) حين كتب لها يقول: ((الآن سأخرج من هذا الهذيان الأخرق واللامجدي بعيداً عن الحالة الفلسطينية الميلودرامية الباعثة على الشفقة... هكذا حدث الأمر بعد أن مُسِخت الثورة إلى سلطة بائسة وخراء انتهازي وقوافل ضياع مُجَيَّفة، تُراكِم الأرصدة زاحفة نحو سلام المهزومين لا سلام الشجعان، لأن الشجعان اغتيلوا، أو استشهدوا كأسلافهم، في رماد العصور والأزمنة المنسية)) .‏
            وكما صوّر (حيدر حيدر) الحالة الفلسطينية، على لسان (زهوان)، صوّر الحال العربية المناظرة لها، على لسان (بدر النبهان)، قبل أن يرتدّ وتُهْزَم أفكاره، فكتب قائلاً: ((الآن من أحقر سمسار إلى أكبر مسؤول في بلاد العرب يسرقون الناس ويُراكِمون الأرصدة في البنوك الأجنبية، بينما الشعب يصرخ من الفاقة والجوع والجري الكلبي وراء الرغيف)) -(الرواية 117).‏
            وهكذا تبدو المناوحة قائمة بوضوح بين الواقع الفلسطيني من جهة، والواقع العربي من جهة أخرى. وهذا يشير إلى تماثل هذين الحَيّزين الروائيين تماثلاً أفرز انسجاماً مابين (راوية) الطالعة من الواقع العربي، و (ماجد زهوان) الطالع من الواقع الفلسطيني.‏
            (د)- الإيقاع الروائي:‏
            وهذا التناظر والتشابه مابين الواقع البائس هنا، وهناك، شكّلا نوعاً من أنواع الإيقاع الروائي. وهو إيقاع اتّسقت معه إشارات ثقافية، وتناغمت أجمل التناغم مع رؤية الكاتب، وأحداث الرواية. ومن تلك: الإشارة إلى ((مسرحية عرس الدم)) للوركا (ص83) وإلى قصيدة (أمل دنقل): ((لاتصالح ولو ملكوك الذهب)) ورواية ((ذئب البراري)) لهرمان هسّه (ص118).‏
            وتتوضح صورة الإيقاع في الرواية إذا أمعنا النظر أكثر في أحداث الرواية تماثلاً وتخالفاً، أو تقابلاً وتنابذاً، أو تكاملاً وتدابراً. فهذه التناظرات المنسجمة، أو المتنافرة، إضافة إلى كونها تخلق جمالية من نوع ما، تُشْبه جماليات الألوان المتباينة والمتشاكلة في اللوحة التشكيلية، تكشف عن تفاصيل أكثر، وتهب لوناً من ألوان الحياة في هذا الأثر الفني، بوصفه عملاً من أعمال الحلم، ينقل الواقع إلى عالم الخيال والجمال معاً.‏
            فقد عرفنا أن (سعيد النبهان)، هذا الجد الجبار العاتي، قد ظلم زوجته (أم بدر)، وطلّقها دون أيّ تسويغ عقلي مقبول. وقد صارت هذه الزوجة جدّة للراوية (راوية)، وكانت أقرب الناس إلى قلبها، لأنها ((ميزان العدالة)). وقد انتقل الظلم من الجد إلى الأب فيما بعد، فكما ظلم الجد زوجته وتخلّى عنها، ظلم الأب ابنته (راوية) وتخلّى عنها، وذلك عندما ضربها أخوها الضابط الذي كان يُلقّب في البيت بِـ (الدبّ). ولم يثأر للابنة من أخيها، لأن تمرده استحال خنوعاً وسلبية قاتلَيْن... ولهذا راحت الجدّة ترى في الحفيدة صورة لها، تخالف صورة أبيها وجدّها، فخاطبَتْها بقولها: "أنتِ لستِ وريثة أبيك بالدم" لأن الانهدام راح يتسع بينها وبين أبيها، أو بين أفكارها وأفكار أبيها الجديدة، وذلك كله لصالح الاقتراب أكثر فأكثر من أفكار (ماجد زهوان)، الذي كان، قبلها، يتوق إلى إزاحة طمي الأيام الموحلة، ويشيد واحة صغيرة للفرح المفقود، وإلى أن يغرس شجرة في صحراء هذا الزمن تنمو جذورها بنَبْض الدم -(الرواية 66).‏
            ولكن المفارقة اللافتة تتمثّل في أن قَمْع السلطة لِـ (بدر النبهان) وقهرها له، قد أثمر خنوعاً وارتداداً، في حين أثمر قمع أخي (راوية) لها وقهرها، وإطلاق الرصاص عليها، تمرداً وصموداً وانتفاضاً...!‏
            وثمة إيقاع آخر، تستدعيه الذاكرة، يقوم بين عملَيْ (حيدر حيدر): ((شموس الغجر)) و ((وليمة لأعشاب البحر)). وقد مرّت بنا أقوال وأفعال تظهر المشاكلة مابين (راوية) من جهة و(مهيار الباهلي) من جهة أخرى. وكذلك بين‏
            (ماجد زهوان) في ((شموس الغجر)) و (الباهلي) في- ((وليمة لأعشاب البحر)). ومن أشكال التشابه الأخرى، التشابهُ بين هزيمة (مهدي جواد) في ((الوليمة)) وهزيمة (بدر النبهان) في ((الشموس)). والتشابه بين (فلّة بو عناب) في ((الوليمة)) و (بدر النبهان) في ( الشموس) أيضاً. فكل من هاتين الشخصيتين كفّ عن فعاليته الثورية، وارتضى الانزواء والتهمّش: (فلّة) في بيت الزوجية القاسية و(بدر) في طقوس التدين والتمذْهب... وهناك أخيراً التشابه في النهايات، وقد صرّح (حيدر حيدر) ذات مرة بأنه يصنع إشكالات في النهايات (انظر حواراً معه أجراه إبراهيم صموئيل في مجلة دراسات اشتراكية -العددان 171-172 لعام 1998). ومن إشكالات النهايات أن بعض النقاد كمحمود أمين العالم رأى أن (مهدي جواد) في ((الوليمة)) قد انتحر! ومنهم رآه لم ينتحر، كالناقد (مراد كاسوحة)، لأن من يريد الانتحار، كما يرى (كاسوحة)، وهو على صواب، لايخلع ملابسه ولا يتنفس بعمق الهواء الرطب. (المنفى السياسي في الرواية العربية ص50). أما الإشكال الآخر الموازي في ((الشموس) فقد تمثل بقول الفراشة الزرقاء لِـ (راوية) في ختام الرواية: ((تعرّي من شرانق الحنين الحريرية، وادخلي في فضاءات البحر)) (ص176). فبهذه العبارات يخاطب الكاتب المتلقين والقراء من وراء (راوية)، طالباً منهم أن يتحرروا من قيود الوفاء للماضي، ومن شرانق الأفكار البالية، لينتموا إلى عالم البحار الذي يوحي بالفطرة والنقاء والعمق والحياة.. إن حركة المد والجزر في البحر، والتيارات التي تمور في أعماقه، وطبعه في نَبْذِ الأجسام الغريبة عن جسمه، وقَذْفه للأموات من أحشائه إلى بر اليابسة، هي الفضاءات والحيوز التي يريد الكاتب لقارئه أن يستحم فيها، وأن يعيش معانيها، ولاسيما أن بطلة الرواية قد لفحتها شموس الغجر ((فبثَّتْ في دمها صرخات الغجر السعداء بالحريات والفضاءات التي لاتحد)).‏
            r المراجع:‏
            1- شموس الغجر، لحيدر حيدر، دمشق 1997.‏
            2 - وليمة لأعشاب البحر، لحيدر حيدر، دون مكان للطبع، ودون تاريخ.‏
            3-بحوث في الرواية الجديدة، لميشيل بوتور، ترجمة فريد انطونيوس، بيروت 1971.‏
            4- المنفى السياسي في الرواية العربية، (حيدر حيدر وحنا مينه)، لمراد كاسوحة، دمشق 1990.‏
            5-مجلة دراسات اشتراكية- العددان 171-172 دمشق 1998.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

              سليمان كامل في روايته: " شفق على الزمن العربي "
              سليمان كامل كاتب سوري بدأ رواياته منذ العام 1969، فكان منها "رماد لاتذروه الرياح" (1969) و"قفاز رمادية" (1992) و"النداء الأزلي"(1993) أما روايته هذه "شفق على الزمن العربي" المنشورة في اتحاد الكتاب العرب عام 1980 فهي التي سنتوقف عندها الآن. وتنتمي هذه الرواية إلى أدب الحرب، وموضوعها الثأر الفدائي والعمل العسكري ردّاً على هزيمة الخامس من حزيران عام 1967. فزمن الرواية يمتد ست سنوات هي التي فصلت زمن الهزيمة عن زمن الثأر في تشرين التحرير عام 1973. وقد قام بهذا الثأر شبان سوريون وفلسطينيون، كان أبرزهم وأكثرهم حضوراً في الرواية شاب من مدينة ساحلية اسمه (سامر)، وصديق له آخر يُدْعَى (باسلاً)، وشاب ثالث اسمه (حميد) كان أبوه الذي يقطن في ((قرية الدجاج)) قد قاتل النازيين في أفريقيا، وحارب في إيطاليا، وشارك في معارك القاوقجي في فلسطين. وقد بلغ عدد الأبطال في هذه الرواية الذين استُشْهدوا على التوالي في العمل الفدائي، وفي حرب تشرين ثمانية شبّان. وقلّة هذا العدد لاتعيب الرواية، فهم نماذج ورموز لشعب أبيّ، وليسوا الشعب كلّه.‏
              وقد التقى الأبطال السوريون، الثلاثة: (سامر) و (باسل) و (حميد) على سفوح جبال (عجلون) في الأردن رجالَ مقاومة وأبطالَ فداء، ظهر بينهم (عدنان) و(إياد) و (خولة). وكلهم من فلسطين المحتلّة. وقام هؤلاء الرجال الستّة بعملية فدائية خلف خطوط العدو، أسفرت عن استشهاد (باسل) و(عدنان) و(إياد) و(خولة) و(حميد). ولم ينجُ سوى (سامر) الذي جُرح جرحاً أفقده رمز رجولته.‏
              وينتسب (سامر) إلى الجيش بعد أن ينال الثانوية، ويصبح ملازماً في الجيش العربي السوري، ويخوض حرب تشرين التحريرية برفقة النقيب (حسين) و الرقيب (علي) وآخرين...‏
              وتُسْفر هذه الحرب عن استشهاد هؤلاء الرجال الثلاثة الذين أبلَوا أحسن البلاء، ودمّروا الكثير من دبابات العدو... ولم يشأ الراوي أن يُبقي من أبطال الفداء والحرب أحداً حياً، ليحتجّ، أو ليعاين ماذا حدث بعد، أو ليحمل راية الحياة على الطريقة الشكسبيرية في المسرح... وكأني به اكتفى بما انتهى إليه من نتيجة مآلها: أنّ يوم السادس من تشرين هو شفق سيبقى معناه بازغاً في الزمن العربي إلى الأبد -(الرواية ص117). وقد حمل غلاف الرواية صورة لجواد عربي أصيل تخللت جسده شمس مضيئة، لتكون لوحة الغلاف متناغمة مع دلالة العنوان.‏
              وما سبق يشير إلى أن هذه الرواية تنتمي إلى أدب حرب تشرين الخالدة، وتقف من حيث الموضوع إلى جانب روايات عربية أخرى مثلها مثل رواية ((المرصد)) لحنا مينه، ورواية ((أزاهير تشرين المدمّاة)) لعبد السلام العجيلي (وصخرة الجولان) لعلي عقلة عرسان، و ((العودة إلى القنيطرة)) لكوليت خوري، و ((حب وحرب)) لقمر كيلاني، و ((الخندق)) لوليد الحافظ، و((نجمة الصُّبْح)) لمحمد إبراهيم العلي. وكلها روايات سورية. أما في مصر فقد ظهرت ((أيام من اكتوبر)) لإسماعيل ولي الدين، وكتب جمال الغيطاني ((الرفاعي))، وأنشأ (يوسف القعيد) رواية: ((في الأسبوع سبعة أيام)) و((الحرب في برِّ مصر)). كما أبدع الروائي المغربي (مبارك ربيع) رواية ((رفقة السلاح والقمر)). وهذه الروايات هي بعض من كل. وهي إنْ دلّتْ على شيء، فإنما تدل على جلالة الحدث وعظمة الانطلاقة في السادس من تشرين عام 1973، الأمر الذي ألهب مواهب الكتّاب، وأشعل قرائح المبدعين لتخليد هذه الحرب المقدسة.‏
              وقد تعدّدت زوايا النظر عند الروائيين، وتلوَّنَتْ طرق التناول، وتوزعت حظوظ النجاح بين تلك الآثار الفنية في هذا الجنس الأدبي، الذي لم يكن الجنس الوحيد الذي اتخذ من حرب تشرين موضوعاً له، فقد حضرت هذه الحرب في الشعر والقصة والمسرح بقوّة، حتّى إنها صارت موضوع دراسات كثيرة في هذا الباب، فقد ألّف مثلاً (أحمد محمد عطية) كتاباً بعنوان: ((حرب اكتوبر في الأدب العربي الحديث- القاهرة 1982).‏
              وثمّة دراسات كثيرة حول أدب هذه الحرب في دوريات عربية عديدة، وكذلك صدرت مؤلفات عسكرية وسياسية واقتصادية واستراتيجية حولها، لسنا هنا بصدد التفصيل فيها، وإن كنا نؤمن أن قراءتها تفيد الكاتب الروائي، كما تفيدُ غيره من المشتغلين في الشؤون الأخرى.‏
              ولو عُدْنا إلى رواية ((شفق على الزمن العربي)) لطالعتنا أحاسيس ومواقف ومشاهد وأوصاف وحوارات، لعل أهمَّها إحساس أبطالها بالهزيمة، وذوقهم طعوم القمع والفقر والسجن والهوان، ومعاناتهم من جرائم الأعداء في الضفة والجولان، لذا لاغَرْو أن تستحيل هذه المشاعر إيماناً بالكفاح المسلح، والنضال الصدامي لانتزاع الحقوق، فراح أولئك الأبطال يجعلون من ذواتهم جسوراً لعبور الأجيال اللاحقة إلى فسْحة الحريّة والنور. وهاهو ذا الشهيد (باسل) يقول ذات مرّة: ((نحن موتى بلاقبور فلنصبح قشعريرات نقيّة في ضمير أجيالنا العربية)) - ((الرواية ص74)). وهاهو ذا الشهيد البطل (إياد)، وهو من (قلقيلية) المنكوبة يقول: ((يميناً لنْ يُميتوا مروءة الصحراء فينا. ويلٌ لمن يبتغي أن يوقف مدّ الكثبان. ياصحراء المروءة انتفضي، وامسحي لعنة التاريخ))- (الرواية ص65).‏
              ويكشف المقبوسان السابقان بعضاً من ملامح هذه الرواية القصيرة. وأول تلك الملامح اللغة الجميلة الشاعرية. فاللغة هنا تكاد تكون بطلاً من أبطال هذه القصة، فنحن مع الأستاذ (سليمان كامل) إزاء تجسيد فعلي لشعرية الرواية، بكل مافي هذا المصطلح من معنى، فقد كان الكاتب بحقّ فارساً من فرسان النثر الشعري الرفيع. وقد بدأ مُسْتجيباً لدعوة اقتراب النثر الروائي من الشعر. والرواية اليوم حاولت، وربما نجحت، في بعض نماذجها، في أن تكون قصيدة القصائد، كما سعت أيضاً لاحتقاب أجناس أدبية أخرى كالقصة القصيرة والمسرح... ولقد ذكرى (ميشال بوتور) أنه انقطع عن كتابة الشعر منذ اليوم الذي بدأ فيه كتابة روايته ليحتفظ لها بكل طاقته الشعرية... وأفاد أيضاً بأن قراءته كبار الروائيين أشعرته بأن في أعمالهم طاقة شعرية مدهشة -(انظر بحوث في الرواية الجديدة، لميشال بوتور، ترجمة فريد انطونيوس، بيروت 1982 ص16).‏
              والحق أن المرء أمام رواية ((شَفَق على الزمن العربي)) يرى نفسه أمام لغة في مهرجان، لغة كأنها عروس ترتدي أحلى حُلَلها، إنها العنصر الأبرز الذي سما إلى مستوى الموضوع الذي كان مادته، ومستوى الحَدَث العظيم الذي ارتأى أنْ يُخلِّده، من خلال أحداث وشخوص وذكريات وحوارات وأوصاف ونجاوى وتقنيات أخرى.‏
              بيد أنّ الرواية، أيّاً كانت، ليست كلها أداء شعرياً، أو سمّواً في التعبير، فهذا الجمال اللغوي السامي لايشفع دوماً لتواضع العناصر الأخرى في العمل الروائي واضطرابها واهتزازها. ومن المعروف أن نُبْل المقصد لايكفي للظفر برِفْعة الشأو وعلوّ الشأن في الأثر الفني، فثمّة معايير أخرى لابد للناقد من الاحتكام إليها لِرَوْزِ الآثار الفنية التي بين يديه.‏
              وإذا كان الكاتب، هنا، قد لامس بعض الذرا في جبل الإبداع المتعدّد القمم، فإنّ قمماً أخرى، بقيت، لسوء الحظ، بعيدة أو قَصِّية، فنجاح رواية ((شفق على الزمن العربي)) قلّما يمتدّ إلى أكثر من اللغة الروائية، ووصف الطبيعة الجامدة خاصة، وقلما يُجاوز ذلك إلى التباس الأسئلة، وكسر النمطية، وتفتيت الزمن، ورسم الشخصيات، أو النظرة الشاملة إلى الواقع العربي، من خلال التخييل الذي يثري وينمّط ويعالج اليومي الهامشي، للكشف عن مسار حركته النهائية وخصائصه الأعمق.‏
              لقد بَدَتْ قامة الروائي هنا قامة طويلة، تقف شامخة تعلّق على الأحداث، وتقف أمام الشخصيات، وقد استبدّت فيها روح الخطابة، فتخيّلَت أمامها حشداً جماهيرياً، فلم تتوانَ عن إبراز فصاحتها وقدراتها اللغوية الممتازة... ولكن هذا الانهماك في خلق المجاز وإبداع الصور البلاغية الشائقة، قاد إلى ازورار عن خلق شخصيات حيّة من لحم ودم تتمرّد على خالقها، كما يتمرّد البشر في الحياة على خالقهم... كما آل إلى التضحية بجعل الأشياء تظهر من تلقاء نفسها بعفوية سائغة.. فقد مثَّل الكاتب دور الراوي العالم بكل شيء: الداخل والخارج، والغائب والحاضر، وتَغَلْغل في ثنايا روايته، ليعظ ويرشد، ويصدر الأحكام، ويفلسف المواقف، وهاهو ذا يجعل الملازم (سامراً) يسأل النقيب (حسيناً)، وهما في الجولان، وفي يوم السادس من تشرين، هذا السؤال:‏
              -أتعتقد أننا مسيّرون أم مخيّرون في رسم أقدارنا؟‏
              فيجيب النقيب (حسين)‏
              -غريبة خواطرك اليوم،‏
              فيقول الملازم (سامر)‏
              -ماالغرابة في ذلك؟‏
              وعندئذ يتدفق النقيب، بل قل مُنْشئ الرواية، في هذا الحديث الفلسفي الذي تصعب مواءمته مع سخونة الموقف ورهبة الحرب وجلال اللحظة، يقول:‏
              ((منذ آلاف السنين المغرقة في القدم حاول الإنسان أن يهرب من مسؤوليته، وحار ذهنه في تفسير مغاليق الوجود، في الكواكب التي تسير لمستقّر لها، تطلع وتغيب، في الشمس التي تسطع، وتأفل في دائرة أزلية لاتخرج من مسارها، في الجبال الشاهقة المبتهلة التي تسمع حفيف ابتهالها، إذا خلوت بين حناياها، في الينابيع المثرثرة في صمت دُجي أخرس. فألْفَى الإنسان ذاته ذَرّة في مهب رياح الحياة،.تعصره يقظة شرسة بأنه وحيد مرمي في خواء الحيرة. وُلد على الرغم منه، وتقذفه الصيرورة الزمنية مشروعاً يموت قبل أن ينضج مساره، فألقى بأقداره إلى كينونة خارجية عنه، يسمّيها (الله) تارة و (المشيئة) تارة أخرى. والإنسان الحديث تناول خيط قدره ليمسك به، ويسقط المطلق ليحل مكانه. وكانت محنة الاختيار والمسؤولية، وكآبة القلق الضائع بين التقصير الذاتي عن تحقيق طموحاته، وبين استسلام لجبريّة عمياء)). -‏
              (الرواية ص94-95).‏
              والحقيقة أننا قد ننسى، مع هذا المقطع الفلسفي المعقد أننا نقرأ قصّة، بل قد نتخيّل ذواتنا أمام فيلسوف يلقي درساً في الجبر والاختيار على تلامذة يجلسون باسترخاء على مقاعدهم، وينعمون بجوّ قاعة درس آمنة باردة ظليلة، وبأعصاب باردة لايشوبها قلق أو توتّر أو ترقّب للحظة الموت الرهيبة، أو لحظة النصر البهيجة. فالروائي، أو الضابط الذي تقمّص أفكار الكاتب، جندي مدجّج بالسلاح، وأستاذ للفلسفة بأدق أفكارها وأعقد معانيها، في الوقت ذاته، الأمر الذي يُوْحي باستبداد الكاتب بشخوصه، وضَبْطه لهم ضَبْطاً شديداً مُحْكماً.‏
              ولم يبدُ الروائي في هذا المقبوسِ الطويل نسبياً، عالماً بالفلسفة فحسب، بل بدا عالماً بكل شيء كما ذكرنا. والواقع أنّ ((الفن الروائي لايبدأ إلاّ عندما يفكر الروائي في قصته بوصفها مادةً يجب إراءتها، أو إظهارها بطريقة تجعلها تروي نفسها بنفسها، حسبما يقول (بيرسي ليبوك) في كتابه ((حرفة الرواية)). (انظر عالم الرواية، لرولان بورنوف، وريال اوئيليه، ترجمة نهاد التكرلي، بغداد 1991، ص77).‏
              إن الرواية التي تحوز طاقة المزج بين الشعر والسرد، يتوخّى منها أن تملك قدرة الجمع بين القصّ والمَسْرَحة، فمن واجب الروائي أنْ يُمسْرح الأشياء والأحداث. وقد كتب (فلوبير) ذات مرة قائلاً: ((أحد المبادئ التي أومن بها أن من واجب الكاتب ألاّ يكتب لنفسه، يجب على الفنان أن يكون في أثره كالله في الكون غير مرئي، وقديراً على كل شيء، بحيث أننا نشعر بوجوده في كل مكان، لكننا لانراه) -(عالم الرواية ص77).‏
              ويبدو أن مبدع روايتنا اختار أن يطلَّ على قارئه بين فينة وأخرى، ليوقظُه كلما أَحَسَّ أنه دخل في دنيا الوهم والمتعة قائلاً له: ((نحن هنا، فلا تغفلنّ أو تتوهمنّ أنك بعيد عن كثافة الواقع وثقل الحقيقة وسطوع الفكر))!‏
              إنَّ من شأن الفن الروائي الأنجع والأنجح أن ينبثَّ فيه توازن محكم، ويقع فيه ربط قوي، بخيوط خفيّة ناعمة، بين أجزاء العمل، ليستوي النسج وتتوثق الحبكة وتلتحم اللحمة بالسدى وتتعانق خيوطهما، فتبدو الأحداث طبيعية لا افتعال فيها، وبالتالي تُنْتَبذ أيّة جزئية لاتخدم غرضاً بعينه، أو تقدّم نفعاً، بحيث تتكافئ قدرة الكاتب على الحشد، مع قدرته على الإقصاء.‏
              ومن سوء الطالع هنا أن يلحظ الدارس أن الفصل السادس من هذه الرواية مثلاً لم تحكم لحمته مع ماقبله من فصول ،ولم يتولد تولداً طبيعياً، كما الأغصان من جذوع أشجارها، فنحن نُفاجأ بسامر وباسل ينتقلان من الساحل السوري إلى الأغوار في الأردن، ليصبحا فدائيين يتدربان على القتال تمهيداً للعبور خلف النهر... وعلى الرغم من الإرهاصات التي كان الكاتب يقدّمها، والتمهيدات الموجزة القليلة لهذا الموقف القومي النبيل، فإنَّ ما تقدّم لم يكن مقنعاً بالقدر الكافي لتسويغ هذه النقلة الهامة جدّاً في الرواية.‏
              ومثل ذلك بدت لنا جزئيات معينة حُشرت في ثنايا الرواية حشراً، دون أن تخدم أيّ معنى من معانيها، أو تسوّغ أي مشهد من مشاهدها. بل كانت عبئاً على الرواية يصح نفيه، ولا يُضير حذفه. ومن أمثلة ذلك هروب الفتاة (عريب) ابنة مختار الدجاج مع (حاتم) ابن الصحراء- راعي القرية، ثم عودتها إلى بيت أبيها، بسبب ضجرها من رتابة حياة البادية، ومعاملة (حاتم) البدائية لها.‏
              ومما لايقنع القارئ أن يوقظ (أبو حميد) ابنَهُ (حميداً) صاحب الخمسة عشر ربيعاً، الذي كان يغطّ في نومه ليلاً، دون سابق إنذار، ليقول له: ((كيف تنام، ونعال الصهاينة الأوغاد توصمنا بالعار والهزيمة؟)). وعندما يسأل (سامر)‏
              (أبا حميد) عن مسؤولية هذا الفتى اليافع عن الهزيمة، يجيبه (أبو حميد): ((كل الأمة العربية من المحيط إلى الخليج مسؤولة))- (الرواية ص43). وشتّان بين هذه الفكرة المجردة التي يطلقها الكاتب على لسان شخصياته، وبين مايستخلصه المرء من إحساس بمسؤولية فردية جزئية عن الهزيمة، بعد أن يقرأ، أو يشاهد، مسرحية (سعد الله ونّوس) ((حفلة سمر من أجل 5حزيران)). فهناك فنّ يحرّض ويثوّر ويضع النقاط على الحروف، وهنا فنٌ يَعِظ ويعلّم ويطلق الأحكام، من خلال عبارة تقحم إقْحاماً على لسان إحدى شخصيات الرواية.‏
              وإنه لمَّا يثير التساؤل انصراف هذا الأثر الفني عن عقد الصلات وحَبْك العلائق مابين الجبهة الخارجية والجبهة الداخلية. ويبدو أن انشغال الكاتب في تصوير البطولات ورسم المواقف الاستشهادية، والتركيز على مسألة ثأر الجنود من جرائم العدو في (قلقيلية) و (عين فيت)- وكلها أمور هامة حقاً- جعله يغفل عن رصد مظاهر التفاني وأشكال ذوبان الذوات، وتجاوز الأنانيات، عند عامة الشعب، في الجبهة الداخلية، فقد افتقدنا إشارات إلى مثل الانضباط المفاجئ الذي صار المرء يلحظه عند عامة الناس في وقوفهم على الأفران، وأمام مخازن البيع لشراء الحاجيات، عند اندلاع الحرب وانفجار القتال، وافتقدنا إشارات إلى الحماسة المنقطعة النظير في الإقبال على التبرع بالدم، والإقبال على أعمال التمريض، في المشافي والمستوصفات.‏
              ولم نقع على نموذج واحد يجسّد تجاوز الأحقاد أو الارتفاع إلى مستوى غفران الذنوب ونسيان الضغائن اتساقاً مع النداءات الخفيّة للدم المسفوح على بطاح الجولان ورمال سيناء، فسخاء شعبنا العربي كان ممتداً مابين ميادين القتال، وشوارع المدن، وأزقة القرى والمزارع، في كل مكان من سورية الباسلة... ولم تخلد الرواية، للأسف، شيئاً من ملامح الانتشاء والإحساس برعشة الظفر الرائعة لدى أبناء شعبنا كافة، من أطفال ونسوة ورجال وشيوخ، وخاصة أنّهم كانوا يعاينون سقوط حطام طائرات العدو على وهاد سورية وروابيها.‏
              ومما غاب عن هذه الرواية الإشارة المنصفة، ولو جزئياً، إلى المشاركات العربية في حرب تشرين التّحريرية، حتى وإنْ كان بعضها مشاركة رمزية. وهو أمر تكفّلت به روايات أخرى كرواية (مبارك ربيع) المغربي ((رفقة السلاح والقمر)). وقد كان موضوعها الحديث عن مشاركة التجريدة المغربية على الجبهة السورية، بكل ما مازجها من مسائل وقضايا.‏
              إن قارئاً "مُفْتَرَضاً" لهذه الرواية التي سَعَتْ لتخليد حدث عظيم عظيم، بعد خمسين سنة، أو أكثر، لايمكن له أن يخلص إلى صورة كاملة عن حرب تشرين التحريرية التي خاضتها كافة صنوف الأسلحة في البر والبحر والجو. فتلك الحرب لم تقع فقط على بطاح الجولان فقط، بل في أجواء سورية وعلى سواحلها أيضاً، الأمر الذي تفطّن إليه منشئ رواية ((المرصد)) إذ نقل لنا صوراً عن معارك الجو والبحر والبر عامةً، ومرصد جبل الشيخ خاصة، من خلال تقنيات عديدة كالرسائل والمذكرات وشهادات شهود العيان، وما شاكل ذلك... فبدت الصورة الواقعية الكاملة لحرب تشرين، بوصفها نِزالاً شاملاً شاركت فيه صنوف الأسلحة كافة، ولم تُبد معركة بريّة تمّت في يوم واحد فقط، دُمِّر فيه ثلاثون دبابة أو أكثر، واستشهد فيه مجموعة من الشباب المخلص لتاريخ أمته، بماضيه وحاضره ومستقبله.‏
              وإنصافاً للكاتب، فرب قائل يقول: ليس من مهمة الكاتب أن يكتب عن كل شيء، وهذا قول صائب وصحيح، فالروائي حرّ مختار، بَيْدَ أنني أصبو إلى أن يكون الفن الروائي أكثر عمقاً وشمولاً من التاريخ الرسمي، وأكثر غنى وثراء، ولاسيما إذا التقط أدق الجزئيات اليومية العابرة والمعبّرة، إلى جانب أعظم الكليات الواسمة والمؤثّرة. وكم يعجبني ماقاله (توينبي) وفحواه: ((ما أجمل أن يكون لنا عين الطائر التي ترى الكلّ من علٍ، وعين الدودة التي ترى أدقّ الأشياء وأصغر الجزئيات)). ولعلّ طموحنا لأن نجد التاريخ حيّاً في الأعمال الفنية، كما يصنعه الناس في نشاطهم السياسي والحربي والاجتماعي اليومي، له مايسوّغه.‏
              نعم، طالَعَتْنا في رواية ((شفق على الزمن العربي)) إشارات هنا أو هناك، إلى بعض المواقف السياسية التي سبقت الهزيمة الحزيرانية، وطالعتنا ملامح شخصيات، لها رموزها غير القصيّة، وبعض الأحداث التي أسهمت في استذكار الماضي وصلته بالحاضر. ولكن تلك الإشارات وهذه الشخصيات وتلك الأحداث لم تُؤَدِّ الأمر المرجوّ منها... فقد أشار الكاتب على لسان (إياد) إلى أن سرّ انهزامنا في تخلّفنا -(ص59). وأشار كما ذكرت إلى قول أبي حميد ((الأمة العربية كلها مسؤولة عن الهزيمة)) وألمّ، على عجل، بصورة لصديق (لباسل) اسمه (نادر) تخلّى عن الالتزام، واغتنى بغير وجه حق، وهجر ساحة النضال، وغادر دنيا القِيَم، ليعبّ من ملذات الحياة، فصار ((إنسانَ عيشٍ لا إنسان قضية))، وكذلك رمز الروائي إلى موت الحلم البكر، وأراد به ((الوحدة العربية)) من خلال موت من آمن بها، وهو (جميل سعيد)) -(ص22).‏
              بيْدَ أنّ مكثاً أطول وأعمق عند هذه الرموز، وتلك الإشارات، في ضوء تقنيات روائية محكمة، كان يغْني الرواية ويجعلها أكثر ثراء وإقناعاً لقارئها، ولكن الكاتب لم يكد يمسّ تلك الأشياء مسّاً رفيقاً، حتّى غادرها دون ريث، تاركاً للأفكار أن تبقى أفكاراً سابحة في عالم مجرد، تلوب على كائنات حيّة، لتتجسّد فيها، فتخلد كما خلدت شخصيات روائية في روايات عربية وأجنبية مختلفة....‏
              ورغم ماتقدم، فنحن إزاء رواية اجتهدت أن تنقل، رغم تضحيتها ببعض المسائل الفنية، إلى الأجيال اللاحقة، استعداد الفداء عند أمتنا، وصرخة الكرامة في أبنائها، وأن تربط أجواء الفداء بعد حزيران، بأجواء الحرب في تشرين. في ضفيرة جدلت خيوطها لغةً رفيعة دالّة على براعة وتميّز في خلق المجاز ورسم الصور، نادرَيْن، ودالة على إيمان عميق صادق بأمّة لها تاريخها المجيد- أمة تؤمن ((بالمنيّة ولا الدنية)) وتقدر على تغيير مسار الهزيمة لتصنع فجراً عربياً جديداً ننعم بشمسه جميعاً رواةً ونقاداً وقرّاءَ أدب.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

                وهيب سراي الدين في روايته: " مساحة ما من العقل "
                وهيب سراي الدين روائي وقصّاص ولد في السويداء في العام 1934. وبدأ بنشر رواياته منذ العام 1965. فكان منها " قرية رمان"(1965) و" حفنة على تراب جغجغ"(1978) و" الرجل والزنزانة" (1988) و" سلاماً يا ظهر الجبل"( 1990) ثم هذه الرواية الأخيرة "مساحة ما من العقل" الصادرة عن وزارة الثقافة بدمشق في العام 1996. وهي التي سنتلبّث عندها هنا ونحن نرى بادئ ذي بدء أن لا بدّ من الاعتراف بأن الأستاذ الأديب (وهيب سراي الدين)، يحوز طاقة جيّدة في فن السرد، ويمتلك قدرة على الإمساك بخيوط عمله الفني، فهو يشّدها أينما يناسب، ويرخيها حيثما يلائم، في الأغلب الأعم، كما إنه يعرف متى وكيف يفتتح دائرة، ومتى وكيف يغلقها... وقد افتتح الكاتب روايته هذه بوصفه لبيت ريفي في قرية (المريجة) تعيش فيه امرأة منكودة الحظ تدعى (هدية)، وولد بائس أسحم البشرة هو ابنها (عنيدان). وهو الذي ولدته سفاحاً من (مُرابع) من مرابعي شيخ القرية يُدْعَى (سحيمان).‏
                وقد صارت (هدية) و (عنيدان) شخصيتين رئيستين في الرواية، كثر الحديث عنهما. كما ظهرت إلى جوارهما عائلة الشيخ (هداد) -شيخ المريجة المتسلّط المتجبّر. وعائلة ثالثة هي عائلة (أبو مروان) التاجر المقيم في المدينة، وحليف شيخ المريجة وصديقه. وبين هذه العائلات الثلاث نشأت أحداث الرواية. ودارت حواراتها ونهض الوصف فيها، واستقام السرد، وبُثَّتِ الرؤى والرسائل التي جعلها الكاتب تتسلل حيّية بين ثنايا سطوره.‏
                أ- ملخص الحكاية:‏
                وملخص الحكاية في الرواية أن (هدية) التي صارت على كرهٍ منها زوجة للمرابع (سحيمان)، كانت تعمل خادمة في بيت الشيخ (هداد). وهي لم تكن زوجة مرابع، فقط، بل كانت ابنة للمرابع (هزاع الدوش) الذي تركها طفلة لم تلمس شفتاها نَهْد أمها، لأن الأم ماتت لحظة الولادة... وقد أودعها والدها عند هذا الشيخ، لعله يلتقيها ذات يوم. وقد التقاها فعلاً في قرية مجاورة للمريجة تدعى (أم النسور).‏
                وبين فراق الأب لابنته ولقائه بها، دارت أحداث الرواية زمنياً، وهي أحداث تكشفتْ عن معاناة قاسية لـ (هدية) في منزل شيخ القرية، وعن قهْر وإذلال لها، ولولدها (عنيدان) الذي ورث سواد البشرة عن أبيه. أما (عنيدان) هذا، فقد تعرَّف إلى أستاذ القرية، واسمه (سلمان)، ولازمه كظلّه، وتعلم منه أشياء هامة، كان أبرزها أن له حقاً عند الشيخ (هدَّاد). وتمثّل هذا الحق بالفرس (الصهباء) التي رمتْ (سحيمان) عن متنها، فدقت عنقه، ومات... وقد كانت هذه الفرس غالية على نفس الشيخ، فرفض طلب (عنيدان) بقوة، علماً بأنه هو الذي دبَّر قَتْل أبيه، لأن هذا المرابع، كاد يهزم ذات مرة ولي نعمته في سباق للخيل، قام في القرية، فحقد عليه شيخها، ودبَّر له مؤامرة أودت بحياته.‏
                وإذْ يصر (عنيدان) على حقّه، انسجاماً مع العرف، ومع مغزى (قصّة الثور غندور) التي رواها له معلمه سلمان، تثور ثائرة الشيخ، ويدبر له ولأمه (هدية) عملية تهجير من القرية، إذ يتفق مع (أبو مروان) على أن يعمل الاثنان في منزله خَدَماً، مقابل لقمة العيش، فحسب.‏
                وفي المدينة -حيث (أبو مروان)- تتطور الأحداث، وتتعقد الأمور، فتنشأ علاقة حب مابين (عنيدان) وابنة (أبو مروان): (هيفاء)، وتحمل (هيفاء) من (عنيدان) سفاحاً، مثلها مثل (هدية). ثم تجهض حملها، وتُزوَّج إلى مهندس زراعي يدعى (مازن الخضراوي).‏
                ولكن (عنيدان) كما أُبْعد مع أمه من (المريجة) أولاً، أبعد ثانياً من منزل (أبو مروان) إلى بناية شاهقة في المدينة، في قبوها ملهى ومرقص. وهناك نراه يعمل نادلاً في الملهى، ثم يضيق ذرعاً بعمله المهين هنا، وتنتهي حياته بالسقوط من سطح البناية، فيموت كما مات أبوه سقوطاً من على ظهر الفرس (الصهباء)..!‏
                أما الأم فتعود إلى بيت (أبو مروان)، ثم تنتقل إلى العمل خادمة، في بيت (هيفاء) زوجة (مازن) التي كان يمكن أن تكون كنَّة لها لولا موت (عنيدان)، ولكن الفروق الاجتماعية لاتسمح لهيفاء البيضاء بالاقتران بعنيدان الأسود.‏
                وعندما تقرر (هيفاء) السكن في قرية (أم النسور) مع زوجها (مازن) تلتقي (هدية) بأبيها (هزّاع الدوش) لتقول له في آخر الرواية: "أنا امرأة صالحة، أنا بريئة، اطلبْ من السماء ثانية أن تعاقبهم يا والدي"- (الرواية 378).‏
                ب- رسالة الرواية وفكرتها:‏
                كانت تلك خلاصة مركزة لابدّ منها للرواية، لتحديد ما اكتنزته من معانٍ ورؤى وبَسْط ما بدا على صفحة بنائها من جمالات أو هنات، سنعرض لها في السطور القادمة.‏
                فقد اكتنزت هذه الرواية رسالتين اثنتين ظهرتا حييتين بين سطورها، وهما: الانتصار للحق والعدل أولاً، ثم الانحياز للفلاحين ثانياً. وبيان ذلك في أن المعلم (سلمان) يفتح عيني (عنيدان) على حق له عند شيخ المريجة (هدّاد)، وهو ثمن دم أبيه. وقد تجرأ هذا الفتى -ابن الخادمة والزانية معاً- على المطالبة بحّقه! وناصره في ذلك معلمه (سلمان). ولكن الاثنين دفعا ثمن هذه الجرأة على المطالبة بالحقوق، الإبعادَ عن (المريجة)؛ فعنيدان أبعِد إلى المدينة، و(سلمان) نُقل، قَسْراً، إلى قرية (أم النسور)- قرية الثلج الدائم.‏
                أما الانحياز إلى الفلاحين، فقد تجسَّد في قول المعلم (سلمان) للمهندس (مازن الخضراوي)- زوج هيفاء، وقد التقاه في (أم النسور): "الفلاحون هم أصحاب الأرض الحقيقيون، وهم الملاّك الأصليون، ولايجوز أن تنهب أرضهم لينقلبوا إلى أجراء فيها، فهذا ظلم اجتماعي"- (الرواية 376). وقد جأر المعلم بهذه العبارات بعد أن لاحظ أن الدولة راحت تقسم أراضي (أم النسور)، بعد أن أعدَّتها لزراعة التفاح المطوّر، إلى مقاسم، لتبيعها للأغنياء وذوي النفوذ والجاه، من غير الفلاحين القاطنين فيها.‏
                والحقيقة أننا لولا هاتان الرسالتان في الرواية، لألفينا أنفسنا أمام رواية لافكرة فيها، ولا دلالة في أحداثها. ولايعقل أن تكتب رواية لمجرد إزْجاء الوقت في قراءة صفحات لايضيئها معنى، أو مغزى، إلا اللهم إذا كانت رواية بوليسية أو تشبه الرواية البوليسية.. ولست أرى في لقاء (هدية) بأبيها (هزّاع) في قرية (أم النسور) وإعلانها عن براءتها أمام أبيها، مغزىً ما.. فالأحداث لم ترتّب على هذا الأساس أولاً. وثانياً إنّ براءة (هدية) من ذنْب لا إرادة لها فيه لاتحتاج إلى برهان، أو إلى لقاء بأبيها، الذي تركها طفلة، ولم يعرف ماجرى لها من بعد... لذا فإن نهاية الرواية، على مافيها من مفاجئة، لم تُعْطِ للرواية قيمة، أومعنى ، أو مغزى.. ولو أن عبارات البراءة قد صدرت عن الأب، لاعن الابنة، لكانت أجدى وأذهب في الدلالة، شرط أن نفهم الأب رمزاً للمجتمع الظالم القاسي، بلعناته المختلفة، التي تعدّ لعنة الجنس أقواها هنا. ولكن الأب لم يكن كذلك في الرواية.‏
                جـ- لعنة الجنس:‏
                ومما تقدم يرى المرء أن لعنة الجنس، الذي أعقبه الموت في الرواية، قد لحقت بامرأتين هما: (هدية) و(هيفاء). ولِمَ لا؟ فكما اشترك اسمهما بحرف واحد، اشتركت شخصيتاهما بمصير واحد مع وجود الفارق. فقد اعتدى (سحيمان) على (هدية)، وتزوّجها، رغماً عنها، لجماً لألسنة الناس، ثم مات بمكيدة من الشيخ (هداد). وكذلك كرَّر (عنيدان) فعلة أبيه مع (هيفاء)، ثم مات، ولكن دون مكيدة..! وقد نجم عن هذه اللعنة ظلمان شديدان: الأول لُحِق بهدية، والثاني بهيفاء، ولكن مع الفارق أيضاً، فهديّة المسكينة اليتيمة بقيت تعمل خادمة طوال عمرها، رغم تغيّر الأزمنة والمنازل، فهي خادمة عند الشيخ (هدَّاد) في القرية، ثم عند (أبو مروان) في المدينة، ثم عند (هيفاء) في (أُمّ النسور). وكذلك لحق الظلم بابنها (عنيدان)، فقد كان فتىً منبوذاً في (المريجة) لأنه ابن زانية، وصار فتىً مطروداً إلى المدينة، لأنه طالب حق، ومطروداً من منزل‏
                (أبو مروان)، لأنه أحبّ (هيفاء) بصدق، ولم يعبأ بالفوارق الطبقية مابينه وبينها، ولا بحاجز اللون، فهو أسود كالعبد، وهي بيضاء كالثلج.. وقد امتدّت لعنة الجنس إلى (هيفاء)، فقد أجبرت بعد أن صارت ثيّباً على أن تتزوج من لاتحبّ، ولكنها لم تلقَ المعاناة التي لقيتها (هدية)، فهل كان انتماؤها الطبقي وراء ذلك؟ أم لأن تقاليد أهل المدينة تختلف عنها عند أهل الريف؟ أم لأنَّ لها أمّاً استطاعت التغطية عليها، ولم يكن لهدية أمٌّ تفعل مثل ذلك؟؟‏
                إننا إذن مع (هدية) أمام نفي متكرر وعذاب متتابع، دون أن يكون لهذا النفي وذاك العذاب تسويغ معقول، سوى حادثة الاعتداء على بكارة (هدية)... وهو عدوان ليس لها إرادة فيه، بل كان قدراً عليها دفعت ثمنه قهراً مستديماً وعناء مستمراً..!‏
                د- الشخصيات:‏
                وبالتأمل فيما سبق بدت لنا شخصية (هدية) شخصية مسطّحة سكونية ارتضت العمل خادمة طوال عمرها..! وما كان منها سوى أن تكيل السباب والشتائم للمرابع (سحيمان) الذي صار زوجها فيما بعد، بطريقة تثير الاستغراب، فهي تسبّه وتشتمه، ليلاً ونهاراً، بعد موته (أو مقتله). وتكاد لاتعترف بأمومتها لابنها (عنيدان) لأن (سحيمان) أبوه..! وقد صوّرها الكاتب، في الأغلب الأعم، امرأة مجردة من عاطفة الأمومة، مهنتها الأثيرة ، الشتْم والسباب لابنها، دون أن تخالج نفسها أيّة نفحة من معاني الغفران لسحيمان، أو الحب الحقيقي لابنها (عنيدان). وفي هذا شيء من الغرابة حقاً...!‏
                كما بدت (هدية) خادمة مطيعة في كل البيوت التي عملت فيها، وظهرت امرأة خوَّافة جبانة لاتريد لولدها أن يطالب بحق دم أبيه من الشيخ (هدّاد)، فكانت الصورة المناقضة لصور بعض النسوة في روايات أخرى، مثل روايتي عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط" و "الآن... هنا أوشرق المتوسط مرة أخرى" فأم (رجب اسماعيل) في الرواية الأولى، تقول له، رغم سجنه وتعذيبه: "احذْر يا رجب، الحبس ينتهي، أما الذل فلا ينتهي، لاتقل شيئاً عن أصدقائك... احذر.. أتَسْمعني"- (شرق المتوسط 144). فنحن هنا أمام أمٍّ تطالب ابنها بأن لايذل رغم التعذيب والجلد والتنكيل، ونحن هناك أمام أمٍّ تطالب ابنها بالكف عن المطالبة بحقوقه خوفاً من العواقب الوخيمة. ولا تلقي بالاً للذل الذي تعانيه مع ابنها عند الشيخ (هدّاد)...! وكذلك كانت أم (طالع العريفي) في رواية (الآن... هنا) لعبد الرحمن منيف. ثم إن شخصية (هدية) تقف أيضاً على الطرف الآخر من مصطلح (المومس الفاضلة) علماً بأنها ليست (مومساً). ولكنها ممهورة بلعنة الجنس التي تلبّستها. وإذا قارنا بينها وبين (شكيبة) في رواية (الياطر) لحنا مينه، وجدنا فرقاً كبيراً جداً، هو الفرق بين النموذج الحيّ الثائر الساعي لتغيير الأشياء وتحويلها، وبين النموذج الخامل المتقاعس الذي يخشى التغيير ويخاف التحوّل.‏
                أما الابن (عنيدان) فقد كان فتىً كسولاً خاملاً، ضعيف البنية، قليل الحيلة. ورغم محدودية قابليته للتعلم، استطاع أن ييستنتج قياساً على (قصة الثور غندور) أن له حقاً عند الشيخ (هدّاد). وقد طالب به، ولكن دون جدوى... وقد آل به الانتقال إلى المدينة أن يشعر بالحب، ويرتبط بعلاقة عاطفية مع (هيفاء). وليس من الانصاف -في ضوء ما قدَّمه الكاتب- المقارنة بين فِعْلة (سحيمان) بـ (هدية)، وماجرى بين (عنيدان) و (هيفاء). فشَرْطا الفعلين مختلفان، فهناك في الريف اغتصاب وكره. وهنا في المدينة رضا وحبُّ، وشتّان بين الأمرين. ومن البدهي أن نشير إلى أن إعصار الحب الذي يهدم كل الأسوار كما يقول (نزار قباني)، ونبض القلب، وسيول العاطفة لاتعبأ بالفرق بين بشرة (عنيدان) السوداء، وبشرة (هيفاء) البيضاء.... وقد هزئت المغامرة العشقية بين هذين الحبيبين بذلك الفرق وازدرته وهدمته، ولكن لم يكن ذلك جذرياً وعميقاً ودالاً، في ضوء ما آلت إليه الأحداث من بعد...‏
                بَيْدَ أن لغزاً بقي دون حل في شخصية (عنيدان)، وهو في قرية (المريجة)، فقد اكتنف الغموض عادته المجسّدة بالنظر المستديم من سطح كوخه في (المريجة) إلى الثلج الأبيض في قرية (أم النسور). وقد كنت أتساءل: لماذا أغرم (عنيدان) بهذا النظر الدائم إلى الثلج الذي يغطي سطوح تلك القرية؟ وأبحث عنه في صلة له بالشوق الدفين إلى اللون الأبيض الذي سلبته الطبيعةُ والوراثة (عنيدان)... ولكن الأمر لم يكن على هذا النحو، فقد تكشف السر في النهاية، ولم يعلن عنه الروائي، بل اجتهدت فيه اجتهاداً هنا، فربما كان هناك خيط خفي أقرب إلى أسرار الروح، ويتمثَّل بانتحاء الحفيد إلى موطن الجد الجديد، حيث كان المرابع (هزّاع) يقيم. فهل كانت مداومة التطلع إلى الثلج وتأمل بياضه تخفي ميلاً فطرياً إلى انتماء (عنيدان) إلى براءة أمه من خلال انتحائه سَمْتَ أبيها في (أم النسور)، أكثر من انتمائه إلى أبيه (سحيمان) المنهوم بالغريزة والذي دفن في (المريجة)؟ أم أن (عنيدان) الأسود كان يتطلع إلى كل ماهو نقي صافٍ كالثلج في الحياة، استنكاراً منه غير معلن لسواد أخلاق الناس في المجتمع الذي ظلم أمه ظلماً عنيفاً؟؟ إنها تساؤلات لم نجد لها أجوبة في الرواية، وإنْ كنَّا نجد لها إثارة أسهمت في شدَّ القارئ وإيقاظ اهتمامه بما وراء السطور.‏
                أما شخصيتا الشيخ (هدّاد) و (أبو مروان)، وأُوْلاهما ريفية، والثانية مدينية، فهما متشابهتان من حيث الجشع ونكران الحقوق، واستغلال جهد الفقراء والمعوزين من الناس، وعليه يمكن الاستخلاص أن إقطاعيي الريف كتجّار المدينة، لايهمّ أيّاً منهم سوى مصالحه ومنافعه وسمعته الاجتماعية، وماعدا ذلك فليذهبْ إلى الجحيم..! وقد نجح الكاتب (سراي الدين) في تصوير التحالف بين الفريقين، حين رسم المؤامرة مابين (هدّاد) و(أبو مروان) على المعلم (سلمان) أولاً، إذ نقل إلى (أم النسور) عنوة،ً. وعلى (هدية) وابنها، إذ اتفقا على نقلهما إلى المدينة، ليعملا خادمين في منزل (أبو مروان) مقابل لقمة العيش، فقط. فالرجلان لايعنيهما البتّة تعليم (عنيدان) مثلاً، ولا تطوير شأن هذه الأسرة المنكودة، لتتحرر وتحيا حياة إنسانية كريمة.. ومن هنا فإن الجانب الخير في النفس البشرية لم يكن بادياً بوضوح في شخصيات الرواية، إلاّ، اللهم، عند زوجة الشيخ هدّاد التي كانت تعامل (هدية) بشيء من العطف، على عكس كنتَّها (أزهار) التي كانت زوجة قطيفان بن هدّاد، وكانت تغار من (هدية) الجميلة جداً.‏
                وخلاصة القول هنا أن أيّاً من شخصيات الرواية قد أخفق في أن يكون رمزاً لمعنى، أو لقيمة، أو لفكرة، كما هي الحال في روايات أخرى، كرواية "المخطوفون" لعبد الكريم ناصيف، حيث مثّل (غالي بابا) قائد السفينة، نموذج الصمود والإباء والعنفوان. أو رواية "فوضى الحواس" حيث بدت (حياة) رمزاً للجزائر في ماضيها النضالي... ولكن هذا لايعنى أن الكاتب لم يكن على اطلاّع على الأدب الروائي العالمي أو العربي، بل يعني أنَّ ما كتبه هو خياره، وهو حرّ فيما يختار، ونحن أحرار في أن تحلل ونناقش كما حللنا وناقشنا.‏
                والحقيقة أن في الرواية إشارات عديدة تنم على ثقافة روائية جيدة للكاتب، ففيها إشارة إلى رواية "الدون الهادئ" لشولوخوف (ص253) وإلى رواية "الحرب والسلام" لتولستوي (ص272) وإلى رواية "لمن تقرع الأجراس" لأرنست همنغواي (ص272)، وموازنة بين (هيفاء) وبطلة رواية "الساعة الخامسة والعشرون" (ص275) وهي الرواية التي كتبها كونستانتان جيورجيو، وإشارة إلى رواية "الشيخ والبحر" لهمنغواي (ص289). وثمة استثمار لآية قرآنية (ص292)، وإشارة إلى أغنية شعبية من البيئة (ص316) وإلى أغنية لفيروز (ص328). ولكن هذه الإشارات كلها لم تبلغ حداً يجعلها قابلة لأن تدرس تحت عنوان التناص في الرواية، كما هي الحال في بعض الروايات الأخرى.‏
                هـ العنوان:‏
                وثمة تساؤل آخر يطرأ على الذهن لدى التأمل العميق في عنوان هذه الرواية، فهو "مساحة ما من العقل". وهذا عنوان ضعيف الارتباط بمجريات الأحداث ومغزى الرواية. ولست أجد صلة له بالرواية سوى أن تكون صلة بنمو عقل (عنيدان)، ولكن هذا النمو لم يكن قوياً وذاهباً في كل الاتجاهات، فلم يقف هذا النمو وراء تحرَّر العبد من عبوديته، ولم يحل دون عمله خادماً في منزل (أبو مروان) في المدينة، ولا دون قبوله العمل (نادلاً) في الملهى الليلي في قبو البناية الشاهقة... صحيح أن (عنيدان) اكتشف العلاقة ما بين حال أولاد (سالم الكباس) وحاله، من حيث الحق في امتلاك الحيوان الذي قتل والد كل منهما، وأنه اكتشف أن الشغب في الملهى يؤدي إلى طرده منه، فشاغب، وطُرِد... ولكن مساحة عقل (عنيدان) لم تمتدّ إلى أبعد من ذلك، كأن يطلب التحرر كاملاً من ذل الخدمة في المنازل مقابل قوتِ يومه، أو كأن يجترح أعمالاً أكبر من المطالبة بثمن دم أبيه، كالبحث عن سبيل للرزق يؤمن له حريته وكرامته واحترامه.. إن هذا كله لم يحصل، بل الذي حصل فعلاً هو أن (عنيدان)، ذا المساحة الضيقة من العقل، لم يدر كيف زلّت به قدمه، وسقط من على سطح البناية العالية ومات.. وبهذه الصورة كان موته مجانياً ورخيصاً.. وفات الكاتب أن يجعله ثمناً لقضية كبرى ناضل دونها، كأن تكون اغتصابه عنوةً للفرس (الصهباء)، وذهابه لبيعها ليقهر الفقر، ثم مقتل الشيخ هدَّاد له، وهو يمتطيها... فلو حدث ذلك أو ما هو قريب منه، لدلَّ على أن موت (عنيدان) كان ثمناً لمحاول التحوّل إلى الفروسية والشهامة والسؤدد، من حياة ملأها الذل والاحتقار والخمول والبلادة...‏
                وثمّة حيوز في الرواية تمَّ استحضارها، ولكنها، في نظري، لم تُسْتَثمَر الاستثمار الأمثل، مثل حيّز السيارة والطريق، فالسيارة التي نقلت (هدية)و (عنيدان) من الريف إلى المدينة، والطريق الذي قطعته بكل ما يراه فيه المسافرون من أشياء، لم يستغلا الاستغلال الكافي. ومن المعروف في الأعمال الروائية أن الطريق والسفر مهمازان كبيران لإغناء السرد، وإثراء الحوادث، وتنمية الكلام على أطوار الزمن الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل.‏
                و- زمان الرواية ومكانها:‏
                للرواية ثلاثة أزمان هي 1- زمن أحداثها 2- زمن الخطاب فيها 3- زمن تلقّيها. ومن الصعوبة بمكان عزل الزمان عن المكان في العمل الفني، إذ لازمان بلا مكان، والعكس صحيح. ونحن مع أحداث رواية "مساحة ما من العقل" إزاء أربعين عاماً من الأحداث، هي الأعوام التي قضاها (هزَّاع الدوش) في قرية‏
                (أم النسور) بعد أن أودع ابنته (هدية) عند الشيخ (هداد). وهذه السنوات الأربعون لم يقع تحديدها بدقة. فقد عزف الروائي عن ربط الأحداث، على نحو مباشر، بالتاريخ السياسي العام، لتتضح العلاقة ما بين المتخيَّل السردي والواقع الموضوعي، وترك الأحداث تبدو كأنها تسبح في فضاء مفتوح، ولا تحيل إلى واقع ملموس... ولكن لدى التدقيق والإمعان والتأمل في بعض العبارات، يخلص المرء إلى أن الأحداث قد وقعت في الغالب الأعم، ما بين عهد الانتداب الفرنسي، والحكم الوطني الأول في سوريّة بعد الجلاء، والدليل أمران: الأول أن مهر أخت المهندس (مازن) الذي دفعه (أبو مروان) كان بالليرات الذهبية العثمانية الموسومة بطغراء السلطان محمد رشاد (ص229). وهذا النوع من التداول النقدي كان يتم، على الأرجح، قبل عهد الاستقلال، وبعد رحيل تركيا بسنوات معدودات. والثاني يشير إلى زمن الحكم الوطني بعد رحيل فرنسا، ففلاحو قرية (أم النسور) يقولون: إنهم رأوا الطائرة لأول مرة في العام الخامس والعشرين، أي في العام 1925، وهو عام اندلاع الثورة السورية الكبرى ضد فرنسا، انطلاقاً من جبل العرب، وقد كانت تلك الطائرة طائرة فرنسية معادية تسقط حمولتها على الناس فتميتهم، أو تجرحهم... أما طيَّارة الـ (داكوتا) فهي طائرة زراعية تستعمل لرش المبيدات الحشرية وعليها العلم الوطني، وهي غير حربية ولا خوف منها. وهذا ما أخبر به المعلم (سلمان) سكان قرية (أم النسور)- (الرواية ص359). فهاتان إشارتان إلى زمن الأحداث الذي تقاسمه عهدان سياسيان هما: عهد الانتداب وعهد الاستقلال الحديث عن فرنسا.‏
                و لا شك في أن الكاتب قد أعمل قلمه في حذف ما يريد، وفي إثبات ما يريد، كما أعمل خياله في سد الثغرات، وإقامة الجسور بين الأحداث، وربما ابتدع صلات من نوع ما بين المراحل التي مرت بها (هدية) في حياتها البائسة تلك، وذلك من خلال استغلاله للزمن السردي الذي يختلف عن الزمن التاريخي للأحداث، إذ أن من شأن السرد أن يخرج الزمن من رتابته فترشق حركته، ويتخذ شكل شريط سردي. وهذا كله يتطلب احترافية في السرد وقدرة على التحكم في النسيج اللغوي. وهو ما أشرنا إليه في مقدمة هذه الدراسة.‏
                ولكن الكاتب إذ سجّل إنجازاً في سردياته، فإن هنات بسيطة شابت نسيجه اللغوي كما سنرى.‏
                أما مكان الأحداث، فهو على الأرجح في محافظة السويداء، وفي السويداء شهد الكاتب النور. والدليل على ما تقدَّم أمران: أولاً: إشارة الكاتب إلى أن‏
                (أم النسور)، التي ستجرَّب فيها زراعة التفاح لإنتاج أفضل أنواعه، تبعد عن العاصمة أكثر من مئة كيلو متر. وهذا بعد يماثل بعد السويداء عن دمشق. وثانياً: الإشارة إلى ارتفاع القرية التي هي موطن التجارب الزراعية، نحو 1500م عن سطح البحر. وهو ارتفاع يقارب ارتفاع بعض قرى جبل العرب الأشم عن سطح البحر.‏
                أما زمن الخطاب، أو كيفية سرد الأحداث، وطريقة التعامل مع تتابعها، فالملاحظ أن الروائي قد بدأ من وسط الحكاية، منذ أن صارت (هدية) و (عنيدان) يسكنان في كوخهما وحيدين بعد وفاة (سحيمان). وأثناء عمل (هدية) خادمة في بيت الشيخ (هداد). ثم بدأ شريط الزمن بالرجوع خلفاً على طريقة (الفلاش باك) السينمائية تقريباً. فقد عرفنا بعد صفحات، ومن خلال الذكريات، أن (هزَّاع ) كان مرابعاً عند شيخ القرية، وأن والدة (هدية) ماتت بعد ولادة (هدية) إثر نزيف دموي عنيف. فأودع الوالد ابنته عند منْ كان ولي نعمته، وسافر إلى جهة مجهولة (ص48-50). وينتقل الروائي من الماضي إلى الحاضر، ثم إلى المستقبل حيث يأخذ الخط الزمني للوقائع بالصعود نحو المستقبل، وتبدأ عمليات انتقال الأسرة المنكودة من مكان إلى آخر على نحو ما ذكرنا من قبل.‏
                فالخط الزمني كان سهمه يرتسم على النحو التالي، حاضر، فماضٍ، فحاضر، فمستقبل، وإذا قرنّاه إلى شخصيات الرواية، كان، بامتياز، زمن (هدية) و (عنيدان)، فهو يبدأ من ولادة (هدية) وينتهي وهي في سن الأربعين، ويتخلل ذلك حياة (عنيدان) وموته. وقد عاش هذا على الأرجح نحو عشرين عاماً.‏
                وقد كان تعامل الكاتب (سراي الدين) مع الزمن دالاً على خبرة، ومنتجاً متعة وسحراً، وفي هذه المعاني يقول الناقد عبد الملك مرتاض: "الزمن نسج، ينشأ عنه سحر، ينشأ عنه عالم، ينشأ عنه وجود، ينشأ عنه جمالية سحرية، أو سحرية جمالية... فهو لحمة الحدث، وملح السرد، وصنو الحيّز، وقوام الشخصية"- (في نظرية الرواية 207).‏
                ز- اللغة في الرواية:‏
                لا شك أن نسج الزمن الروائي، الذي ينتح هذه العوالم الجمالية السحرية، يتوسل إلى هدفه باللغة التي يتوخّى أن يملك الكاتب منها رصيداً جيداً من المفردات والعبارات وطرائق التعبير وتركيب الجمل. ولكن، والحق يقال، لم يكن وجه اللغة في هذه الرواية بالجمال الذي يتمناه المرء، ولم يقف على قدم المساواة مع فن السرد عند الكاتب، فانتابته بثرات شوَّهت بعض قسماته، وحالت دون كمال بهائه. وسأسوق فيما يلي بعض الهنات اللغوية التي وقفت عليها في الرواية، والتي حالت دون رشاقة الأسلوب وسلامة التعبير وسمو الأداء.‏
                ومن تلك الأشياء الشائهة:‏
                ص17: قال الكاتب: "تصيغ الأفكار" والصواب: تصوغ والمصدر (صوغ).‏
                ص21: قال الكاتب: "أحسَّ كأن التحم نظام عقله" والأفضل: أحسَّ كأن نظام عقله التحم.‏
                ص35: قال الكاتب: "اختمرت نفسه بحكايات" والصواب: "اختمرت حكايات بنفسه"‏
                ص45: قال الكاتب: "فطنت بهما" والصواب فطنت لهما. وتكررت تعدية هذا الفعل المغلوطة في ص170 وص362.‏
                ص46: قال الكاتب: "احتار المسكين" والأفضل: تحيّر.‏
                ص48: قال الكاتب: "كانت تهمل دموعها" والأصوب: كانت دموعها تهمل.‏
                ص49: قال الكاتب: "في العام الذي حملت فيه مرجانة الصالح.. كان عام جفاف" وهذا تعبير مرتبك مضطرب، وفيه تكرار. ولو حذف الكاتب كلمة (في) في أول عبارته لاستقام أداؤه.‏
                ص52: قال الكاتب: "أخذت غيرة الطفولة نفسه" والأفضل: استبدت بنفسه مشاعر الغيرة الطفولية.‏
                ص53: قال الكاتب: "حطت حملها الثاني". والسائغ هنا: وضعت حملها الثاني.‏
                ص70: قال الكاتب: "انطلى بطيب النية" والأفضل: اتصف، أو اتّسم، أو عرف.‏
                ص129: قال الكاتب: "وأدار ظهره بطريقة استبدادية" ولعل الأصوب.. استفزازية. فمدار الكلام على الاستفزاز لا على الاستبداد. والفرق بين المعنيين كبير.‏
                ص137: قال الكاتب: "كأنه واخذ نفسه" والصواب: آخذ نفسه.‏
                ص141: قال الكاتب: " انتشرت رائحة كالجعة". والصواب: كرائحة الجعة.‏
                ص146: قال الكاتب: "كاد يغلق عليه" والكلمة الأمثل هنا: كاد يرتج عليه.‏
                ص 159: قال الكاتب: "كانت تتمارى" والصواب: تتمرأى (من المرآة).‏
                ص 159: قال الكاتب: "وقد تبدّى عليه الإذلال إلى درجة الإهانة" ولو عكس الكاتب طرفي العبارة لكان أفضل، فالإهانة أقل رتبة من الإذلال، وهي تتطور لتصل إليه، وليس العكس...‏
                ص206: قال الكاتب: "تكلما غرفتكما" والصواب "تلك غرفتكما" .‏
                ص211: قال الكاتب: " ولكن فلم يتوافق" والصواب حذف الفاء من (فلم) فالاستئنافان، أو الاستئناف بعد الاستدراك، لا يسوغان متتاليين.‏
                ص 230: قال الكاتب: "في فضاوات بيضاء". والصواب فضاءات.‏
                ص 235: قال الكاتب: "لا تألوا جهداً" والصواب تألو. ولعل الألف الزائدة هنا خطأ مطبعي.‏
                ص235: قال الكاتب: "لا تتأبى من النظر إليه" والسائغ هنا لا تتردّد، فالسياق يرشح معنى التردد، لا معنى التأبي، والفرق كبير بين المعنيين.‏
                ص 238: قال الكاتب: "كقوة جذب النديدين: أبيض.. أسود" والأفضل جذب النقيضين، لأن ثمة فرقاً بين معنى الند ومعنى النقيض.‏
                ص 245: قال الكاتب: "لعل تتهيأ هدنة" والصواب: لعل هدنة تتهيأ.‏
                ص 256: قال الكاتب: "لكن عندما لا ينتوي السفر فكان يمكث" والصواب حذف الفاء من (فكان).‏
                ص 265: قال الكاتب: "إنما سيكون برأي الجميع زواجاً مدموغاً بطابع الالتزام بالأمر الواقع" والصواب، بطابع الرضوخ للأمر الواقع. وثمة فرق بين معنى الالتزام ومعنى الرضوخ.‏
                ص 279: قال الكاتب: "هيفاء لا تشك أن المطالعة قد فادت منها كثيراً" وهذه عبارة مُلبسة، فمن أفاد مِنْ مَنْ؟ فالكاتب يريد القول: إن هيفاء هي التي أفادت من المطالعة وليس العكس، كما توحي عبارته. ولو قال: وقد أفادت هيفاء من المطالعة كثيراً، لأَمِنَ اللبس والتعليق.‏
                ص300: قال الكاتب: "ستلوكنا الألسنة المبرية مثل جيفة" وهذا تشبيه غريب وغير سليم ولا يؤدي المعنى المتوخى، فلا وجه لتشبيه الألسنة بالجيفة، ولا لتشبيه من تلوكه الألسن بالجيفة. وهذان وجهان ترشحهما العبارة السابقة الملتبسة.‏
                وفضلاً عما تقدم فإن الأخطاء المطبعية، لسوء الطالع، أثقلت كاهل هذه الرواية، فكثرت كثرة مفرطة. وقد أحصيت منها العشرات، حتى إنني حدست أن التجارب الطباعية لم تصحح، أو على الأقل، لم تصحح سوى مرة واحدة. وهذا، بالطبع لا يكفي. انظر مثلاً أخطاء في الصفحات التالية: (13-24-27-35-38-40-67-77-78-82-122-124-146-147-150-155-162-169-175-186-202-212-213-214....الخ".‏
                كذلك لم يحفل الكاتب بوضع علامات الترقيم في مكانها المناسب، بل وجدته يرشقها كيفما اتفق: بين الفعل وفاعله أحياناً، وبين الجار والمجرور أحياناً، وبين أشياء كثيرة لا حاجة للفصل بينها بفواصل ونقاط، وفي العنوان مثلاً لا أجد حاجة للفصل بثلاث نقاط ، ما بين كلمة (من) و (العقل)!‏
                وعلى الرغم من كل ما سبق، فإن (وهيب سراي الدين) القادم إلى عالم الأدب من دراسته الجامعية للتاريخ، إلى عالم الأدب، لم يكن غريباً عن الفن الروائي، فمغامراته في هذا الجنس الأدبي، قد خلّفت وراءه رصيداً جيداً، فهو صاحب سبع روايات، كان أولها رواية: "قرية رمان" وقد طبعها بدمشق عام 1965. وما قبل آخرها رواية: "اشتقاقات الفصل الأخير" وهي من منشوارات اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 1995. وبين تلك وهذه ثلاثون عاماً. ثم كانت هذه الرواية "مساحة ما من العقل" وهي من منشورات وزارة الثقافة بدمشق في العام 1996. ويضاف إلى ما سبق أربع مجموعات قصصية الأولى عنوانها "الرقيق" (دمشق 1986) والأخيرة عنوانها "عالم في سهرة (دمشق 1994). وهذا كله إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على أن وقفتنا هذه كانت بين يدي كاتب معروف، له باع في فن السرد حسن، ولكن "الحُسْن أوالحسناء لا تعدم ذاما" كما يقول شاعرنا القديم. وهذا يعني أن النقد لا يفقد الحسناء جمالها، بل يتمنى لها أن تكون أكثر بهاء وأكمل رونقاً، وإذا كان الإبداع هو جناح الأدب الأول، فإن النقد هو جناحه الثاني، ولا يمكن لطائر الأدب أن يحلق إلا بجناحيه الاثنين.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

                  القسم الثاني: " روائيون وروايات عربية ": عبد الرحمن منيف في روايتيه: " شرق المتوسط و الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى"
                  شيء جميل حقاً أن يسخّر الكاتب فنّه لأجمل القيم التي يقدّسها جل الناس، والتي يرومون رؤيتها مطهَّرة من الزيف والتشويه والتلوث... وهذا مايراه المرء، ببصيرته، وهو يقرأ أدب (عبد الرحمن منيف) فهو يكتب عن الحرية والكرامة والتحضّر، ويعلي شأن الصمود، والإباء، والثبات على المبدأ، والوفاء، ويقدّس حقوق الإنسان، وينافح عنها، ويقدر قيمة الكلمة، ومعنى الكتابة...‏
                  وذلك كله من خلال اختياره موضوع ((السجن السياسي)) والقمع الفكري، محورين من محاور روايتين له. إن سجناء الرأي وما يلقونه في معتقلات الاستبداد في (شرق المتوسط) هم موضوع الروايتين اللتين سنقف عندهما من روايات (عبد الرحمن منيف) العشر. وهما: ((شرق المتوسط)) و ((الآن هنا... أو شرق المتوسط مرة أخرى)).‏
                  و (عبدالرحمن منيف) روائي عربي معاصر جمع في شخصه أكثر من نَسَب، وعاش في أكثر من قطر، فهو مولود عام 1933 لأب سعودي ، كان يرحل في طلب الرزق من نجد إلى بلاد الشام، ويقيم فترات، تطول أو تقصر، في دمشق وعمّان والبصرة وبغداد. وهو ابن لأم عراقية، ومسقط رأسه مدينة عمّان بالأردن. وقد توفي أبوه، وهو في الخامسة من عمره، فعاش في كنف رجل آخر قاس متجبّر.. وقد درس في الكتّاب بعمَّان مثل مجايليه. ثم انتقل إلى بغداد والقاهرة لإتمام دراساته الجامعية ما بين سنتي 1952-1958. وبعد حصوله على الإجازة في الحقوق، نال الدكتوراه من جامعة (بلغراد) في (يوغوسلافيا) عام 1961. وكان اختصاصه الدقيق فيها الاقتصاد النفطي، لذا نجده بعد حين يعمل معاوناً لمدير النفط في سورية، ثم مديراً لتسويقه، ثم مستشاراً اقتصادياً في العراق، ورئيساً لتحرير مجلة النفط في بغداد، ومحرراً في مجلة الهدف في بيروت. وقد زار (منيف) معظم البلدان العربية، وكثيراً من البلدان الأوربية، وأمريكا، واليابان، وكندا، وأقام في باريس منذ السنة 1981، ثم عاد ليستقر في دمشق منذ العام 1986. وهو متزوج وله ثلاثة أبناء وابنة. (انظر أعلام الأدب العربي المعاصر، ج2 ص1273-1275، ومجلة الجديد في عالم الكتب والمكتبات، العدد 12ص38).‏
                  وقد انصرف كاتبنا إلى الرواية في أواخر الستينيات، بعد أن كان تعرّف في بغداد أدباء ومفكرين وتيارات سياسية عربية وأجنبية كثيرة، وانخرط في تنظيم سياسي لفترة، ثم انسحب منه في العام 1962. وقد أنجز روايته الأولى ((الأشجار واغتيال مرزوق)) في ربيع سنة 1971. أما روايتاه اللتان سنهتمّ بهما هنا، فقد طبعت الأولى منهما: ((شرق المتوسط)) سنة 1975 في بيروت، وهي في العام 1993 في طبعتها التاسعة، ونشرت الثانية ((الآن هنا)) سنة 1991 في بيروت، وهي في العام 1997 في طبعتها الخامسة.‏
                  ومن المعروف أن لمنيف رواية كثيرة الأصداء، خماسية الأجزاء، سمّاها: ((مدن الملح)). وقد نشرها ما بين سنتي 1984و1989. وقد حاز منيف جائزة القاهرة للإبداع الروائي العربي، في أعقاب المؤتمر الأول للرواية العربية، المعقود بالقاهرة عام 1998.‏
                  هذا، وحظي أدب هذا الكاتب برسالتين علميتين، أولاهما حضرت بدمشق، وهي رسالة ماجستير، أُنجزت، ولم تناقش، لموت صاحبها المفاجئ، وهي بعنوان: عالم عبد الرحمن منيف الروائي، لصبحي الطعان. وقد طبعت، مع تقديم من الأستاذ الدكتور نعيم اليافي المشرف عليها، بدار كنعان عام 1995. وثانية تينك الرسالتين لعبد الحميد المحادين، وعنوانها: التقنيات السردية في روايات عبد الرحمن منيف. وقد نُوقشت في جامعة البحرين عام 1997 (انظر مجلة البحرين الثقافية - المنامة- العدد 18 لعام 1998).‏
                  وقد وقفت على كثير من الدراسات التي تناولت أدب هذا الكاتب ونُشرت في كتب أو دوريات ونهض بها مثلاً محمد كامل الخطيب، وصلاح فضل، وجورج طرابيشي، ويوسف ضمرة، وناجي العموري، وأسعد فخري، وثامر غزي، وغيرهم.‏
                  وحظي (منيف) بمقابلات وحوارات كثيرة قام بها كتاب وصحفيون كثر، أمثال جميل حتمل، وفيصل دراج، وممدوح عدوان، وكمال عيد، وجهاد فاضل، وغيرهم. ونشرت في دوريات وصحف مختلفة.‏

                  وأنشأت مجلة ((الجديد في عالم الكتب والمكتبات)) محوراً خاصة حول أدبه في العدد الثاني عشر منها، لعام 1996. والببلوغرافيا الملحقة بهذه الدراسة ترصد ما سبق كله.‏
                  وبعد، فنحن إذ نجمع بين ((شرق المتوسط)) و ((الآن هنا)) في عملنا هذا، فلأنَّ بنيتيهما متماثلتان، وموضوعيهما متشابهان، إلى حد كبير. ومن هنا تأتي وجاهة دمجهما في دراسة واحدة.‏
                  والسؤال الأول الذي يفرض نفسه: لِمَ كرّر (عبد الرحمن منيف) الكتابة عن السجن السياسي في روايته الثانية((الآن...هنا)). والجواب في ظني أن شحنة التشنيع على هذا المكان((السجن))، في ((شرق المتوسط))، وشهوة فضح أساليب تعذيب المعتقلين الجنونية والإجرامية، لم تفرَّغا كاملاً، ولم تشبعا. فالكاتب يروم أن يظهر للنور ما يجري في سراديب الجلاّدين وأقبية القمع والقهر من إذلال وتعذيب ووحشية، وأن يفضح الجرائم الواقعة على كرامة الإنسان وحقوقه، وأن يمجّد الفكر والكلمة المسؤولة، وأن يحيّي رجال الفكر وأصحاب المبادئ، في زمن اهتزّ فيه كل شيء، وها هو ذا يقول في إحدى مقابلاته: ((هاجسي الأساسي في هذه الحياة، أن أخرمش أن أجعل الناس قلقين، أن أقول لهم كم في هذه الحياة التي نعيشها تحديداً من المرارات والخيبات، وكم فيها من المسرات المسروقة، وبالتالي يجب أن نكون أكثر شجاعة، وأكثر وعياً، من أجل صياغة حياة جديدة لا تسيطر عليها المحرمات)) (مجلة مواقف، العدد 69، لعام 1992، ص 56).‏
                  وهو يريد أن يقول كما جاء في (( شرق المتوسط ص 146-147)) مستنكراً: "إن الإنسان في شرق المتوسط هو أرخص الأشياء، أعقاب السجائر أغلى منه، فلو نظرنا لحظة واحدة في قعر سرداب من آلاف السراديب المنشورة على شاطئ المتوسط الشرقي وحتى الصحراء البعيدة، لرأينا بقايا بشر ولهاثاً وانتظاراً يائساً، وماذا أيضاً: وجوه الجلادين الممتلئة عافية وثقة بالنفس".‏
                  إن القمع كما يقول هو في مكان آخر: هو سيد المواقف في الساحة العربية، ومن الصعب على الديمقراطية أن تجد لها مكاناً في ظل الإرهاب الذي تمارسه السلطة والمجتمع معاً (الجديد في عالم الكتب العدد12 ص7و8).‏
                  وثمة جواب آخر على سؤالنا السابق، فالكاتب يريد، فيما نزعم، أن يعدل صورة بطل الرواية الأولى: (رجب إسماعيل) لتصبح أكثر كمالاً مع صورة بطلي الرواية الثانية: (طالع العريفي)و (عادل الخالدي). ولنقترب أكثر لتتضح لنا الصورة شيئاً فشيئاً.‏
                  فها هو ذا (منيف) يروي في (176) صفحة، هي مجموع صفحات روايته ((شرق المتوسط))، قصة سجين يُدعى (رجب إسماعيل)، ألقوا القبض عليه، وانتزعوه من بيته الآمن، لأنه كان يقرأ، ولأن له رفاقاً يناضلون في سبيل الحق والحرية والعدالة... ولا تقتصر هوية السجناء السياسيين على رجب ورفاقه، الذين قد يتهمون بـِ"اليسارية"، والدعوة إلى الثورة الحمراء، بل تمتدّ لتصل إلى شيوخ مؤمنين، فالحاج (رسمي أبو جعفر) أحرقت ذقنه وضرب على وجهه، لأنه تناهى إلى السلطات أنه استشهد مرة في خطبته بقول (أبي ذرّ): ((عجبتُ لمنْ يكون جائعاً ولا يشرع سيفه))- (شرق المتوسط 147). فالكاتب إذن منحاز إلى جانب الفكر والكلمة والحرية، وإلى جانب الجياع والمسحوقين في الوطن.‏
                  أما السجين (طالع العريفي) فقد ألقوا القبض عليه، وهو يمشي في ((سوق الحلال)) في مدينة (موران). ولنتأمل في عبارة (سوق الحلال)، فهو نقيض سوق الحرام. ومع ذلك سُجن وعُذِّب ونُكّل به، ليخرج، من بعد، مريضاً، بالسل، ثم ليموت، انفجاراً، وهو يتطّبب من أعطابه في مشفى بمدينة (براغ) في أوروبا. وفي هذه المدينة التقاه صديقه (عادل الخالدي)، ولنتأمل في اختيار هذا الاسم، فهو مع "خلود العدل" على وشيجة لغوية قوية، ومشاكلة صوتية واضحة، وكذلك (طالع)، فهو رغم محاولات إسقاطه وتهديمه، بقي (طالعاً) وموته لا يعني انهزامه. و (عادل) هذا ألقي القبض عليه في مدينة (عمورية) وجرَّ من بيته في ساعة متأخرة من الليل، وبعد عدة شهور في الزنزانة المنفردة، لُفِّقت له تهمة، وصدر بحقه حكم بالسجن لسبع سنوات، وذلك لأنه صمد، ولم يعترف على زملاء له في التنظيم كانوا لايزالون طُلقاء... وقد نقل (عادل) من سجن إلى سجن في (عمورية)، فقد زار السجن المركزي وسجن العفير وسجن القليعة. وكان في كل سجن يلقى صنوفاً من الضرب والتعذيب والجلد تشابه، بقليل أو كثير، ما مورس على (طالع) من قبل في سجن (موران). وما إنْ يكاد الواحد منهما يشرف على الموت، حتى يفرجوا عنه للاستشفاء، ويُرَحَّل إلى (براغ)، مع تعهّد بالعودة عند الشفاء...‏
                  ومن خلال السجون التي كانت المكان المختار للرواية، والحيّز الأضيق والأكره والأفظع، صوَّر (عبد الرحمن منيف) كل ما ينتاب حياة السجناء من أشكال وألوان وتصرفات وأقوال ونوم وطعام وأحلام وآلام... ولم تكن مهمته سهلة ها هنا، ففي الوقت الذي يضيق الحيّز المكاني على الروائي، ينبغي عليه أن يهتم بأعماق النفس ودخائل الذوات. وقد نجح منيف في تصوير الخارج والداخل من خلال معادلة كانت أطرافها متعددة ومتشابكة.‏
                  فهو أولاً يصّور حال الجلاّدين والمجرمين وصنوف تعذيبهم لضحاياهم، وإذلالهم لسجنائهم، كي يعترفوا بما يظنونه حقيقة واقعة خارج السجن، أو يريدون أن يروه حقيقة واقعة... ويستعير الكاتب لغة الجلادين الملأى بالشتائم والسباب والألفاظ السوقية البذيئة، وذلك بدءاً من مدير السجن ومروراً بالمساعد والعريف والمجند. كما يصور حال المساجين في الزنازين والمهاجع، ويتحدث عن طعامهم، واحساسهم بالزمن، وعن صمودهم وانهيارهم، وعن آلامهم وأحلامهم، وعن روحهم المعنوية العالية أو الهابطة، فثمن من يرفض الاعتراف، ببسالة لا نظير لها، رغم التعذيب والألم الفظيع، ومن ينهار ويعترف.... وقد انهار (رجب إسماعيل) في ((شرق المتوسط)) وصمد (طالع العريفي) و (عادل الخالدي) في ((الآن... هنا)) وهناك من قَبِلَ أن يجنّده النظام لصالحه، مثل (رضوان فرج) في ((الآن....هنا))، وهناك من قتله الجلاّدون بشكل مباشر أو غير مباشر، ومَّمن قتلهم الجلادون مباشرة (هلال المعتوق) في ((الآن.... هنا)) إذ أطلق المساعد على صدغه رصاصتين وراح يعدو كمجنون.. ومثل (الحاج مصطفى) و (حامد زيدان) و (صادق الداوودي). في ((الآن...هنا)). وكذلك قتل مدير السجن (مدحت عثمان). أما (رجب اسماعيل) فقد قتل على نحو غير مباشر، إذ بعد أن أفرج عنه ليعالج مع تعهُّد بالعودة إلى الوطن، وبعد أن احتجز صهره نيابةً عنه، عاد ليسجن من جديد، ويعذب من جديد، حتى إذا أطلق سراحه للمرة الثانية، وقد تلاشت قواه، وتحطمت حواسه، وانهار جسده، عاش أربعة أيام، ثم مات في يوم الأربعاء المشؤوم...‏
                  وقد صوّر لنا منيف معارك جدّية بين السجين وجلاّده، وصوّر محاولات الفرار من السجن، ونجاح بعضها وإخفاق بعضها الآخر، وأدار حوارات ماتعة وساخرة وحارة بين الضحايا والجلادين، وبين المحقق والمعتقل، وبين السجناء أنفسهم، كما لاحق السجين الطليق إلى مشفاه. وكان يختار المشفى خارج الوطن، ويجعله متراساً للسرد، وكأني به يرى أن من ينظر إلى الأمور عن بعد، تكون رؤيته أكثر صفاء وأعمق بصراً وأوسع إحاطة... أو كأني به يريد الإيحاء بأن حرية القول، كحرية الحركة، محظورة في بلدان المعتقلات السياسية.‏

                  والمعروف أن هاتين الروايتين كانتا خلاصة أوراق معتقلين كتبوها بعد الخروج من المعتقل من خلال عمليات تذكّر، تمّ فيها مقدار من الحذف كثير، ومقدار من الإثبات قليل. فرجب إسماعيل يكتب بعض روايته وهو على ظهر الباخرة (اشيلوس) اليونانية المسافرة إلى أوربا.‏
                  و (عادل الخالدي) ينشر وهو في باريس أوراق (طالع العريفي) التي كتبها في (براغ) بناء على إلحاح من (عادل). أما (عادل) نفسه وهو الشخصية المحورية الثانية في ((الآن...هنا))، فهو أيضاً يتذكر "هوامش أيامه الحزينة" في السجن، وهو مقيم في باريس.... وقد اتصفت كتابات هؤلاء الثلاثة بأنها فضح وكشف لمخازي سلطات شرق المتوسط التي تمارس قمعاً وقهراً واحتقاراً لكرامة الإنسان، وإهداراً صارخاً لحقوقه، التي أقرتها الأمم المتحضِّرة واحترمتها...‏
                  إن (منيف) عندما يكتب عن السجن السياسي من خلال ثلاث شخصيات روائية، يكتب عن شعب سجين بأسره، وهذه العبارة هي التي تفوّه بها الطبيب الذي كان يعالج (رجب) في فرنسا. فبعد أن عاين تشوّهات جسده قال: ((هذا واحد من شعب سجين))- (شرق المتوسط 153). فمأساة (رجب)، هي مأساة جماعة بأسرها.‏
                  ومعاناة (رجب) كانت مثل معانيات معتقلي الرأي في العالم بأسره، إنّها مهر الحرية، فقد كتب (رجب) على لسان الطبيب العجوز المعالج: ((لماذا لا يقرأ الجلادون والحكام التاريخ؟ لو قرأوا لوفَّروا على أنفسهم وعلى الآخرين الشيء الكثير، ولكن يبدو أن كل شعب يجب أن يدفع ثمن حريّته، والحرية أغلب الأحيان غالية الثمن))- (شرق المتوسط153).‏
                  إن (منيف) في هذه الرواية لم يدعنا في حالة من الغموض والضياع، ونحن نسير معه في سرداب فنه، بل جعل مصباحه يشعّ أحياناً، ليطلعنا على جزء من أسرار عمله الفني، ومرماه الأدبي، فكتب على لسان (رجب) إلى أخته (أنيسة): ((إن الرواية يجب أن يكتبها أكثر من واحد، وفيها أكثر من مستوى، وأن تتحدث عن أمور هامة، والأفضل مزعجة، وأخيراً أن لايكون لها زمن))- (شرق المتوسط 134).‏
                  وهذا ما فعله (منيف) تماماً، فقد كتب روايته الأولى هنا أكثر من واحد، فقد كان (رجب) يكتب فصلاً، وتكتب (أنيسة) فصلاً، بالتناوب. وقد أنشأ (رجب) الفصول (1)و (3)و (5) وكتبت (أنيسة) الفصول (2)، (4)، (6)، فجاءت هذه الفصول الستة في أكثر من مستوى، فالسجين (رجب) يتحدث غالباً عن السجن وعذاباته وأجوائه، وعن أوربا التي سافر للاستطباب فيها، ويتحدث في رسائله عن الإرادة، وعن الوفاء، وعن (أمه)، وعن حبيبته (هدى)، التي تخلت عنه وتزوجت رجلاً آخر... و (أنيسة) تكتب عن أسرتها، وزوجها (حامد)، وأولادها، وأمها، وعن الأحداث من حولها، فهي تخبره مثلاً عن موت أمها، وعن اعتقال زوجها (حامد) رهينة لتُجْبر (رجب) على العودة، فيعود (رجب) ليسجن مرة ثانية، ثم ليموت بعد أن ألقت به الشرطة في بيته، جثة فيها بقية رمق لم يمكث في إهابه سوى أربعة أيام، ثم غادره إلى غير رجعة...‏
                  وقد قطِّع الزمن من خلال هذين الصوتين العاليين في الرواية: صوت رجب وصوت أنيسة، ولم يكن له خطٌّ مستقيم صاعد، كما لم يكن للأحداث توقيت محدّد، ولا مكان معروف، فهي تتم في شرق المتوسط في مكان غامض فيه، فالتمويه هنا، يُراد به التعميم وعدم التخصيص... وهي حيلة فنية ثابر عليها (منيف) في روايته الثانية، مع تأكيد بسيط بأن الأحداث تتم في هذه الآونة وفي هذه الأمكنة ((الآن...هنا)). وإذا شئنا التوضيح، قلنا بقرائن تقدمها الرواية؛ إنها بعد عهود الاستعمار، ومع الحكومات الوطنية، وفي النصف الثاني من القرن العشرين، وفي أكثر من قطر يحدّه المتوسط من الغرب، ولو أردنا القول يحدّه من الشمال، لصدقنا أيضاً...‏
                  الموت والاعتقال:‏
                  لقد أسدل ستار الرواية الأولى على موت (رجب)، ولكن هذا الموت لم يكن الحدث الأخير في الرواية، ولم يكن بلا تأثير، فقد تحوّل بعده (حامد) من رجل شبه حيادي إلى رجل يؤمن بالمقاومة، وينحاز إلى الطريق التي سار فيها (رجب)، ويهزأ بالقهر والاستبداد والسجن، ولا يساوم ولا يضعف, وكذلك ظهر (عادل) ابن أنيسة شاباً يسعى لحمل الراية بدلاً من خاله، ويسعى لهدم السجن ليخرج أباه منه، تقول عنه أمه (أنيسة): ((قبل أيام رأيت عادل يجمع الزجاجات الفارغة في البيت، تركته يفعل لأرى ماذا يريد أن يصنع بها، ولشدّة ما عجبت عندما رأيْتُه يملؤها بالزيت والبنزين، انتزعتها بقوة وكدت أضربه، لولا أنه بكى وقال لي: أريد أن أهدم السجن وأخرج أبي))-(شرق المتوسط175). أما (حامد) فقد ((بدأ يلعب لعبة رجب ذاتها ولكن بشكل غامض ومحير... لم يتركوه طويلاً... أخذوه)). وعليه فالموت كان كما قال (منيف) عنه في روايته الثانية ((يعيد صياغة البشر ويجعلهم أكثر إحساساً بالحياة))- (الآن هنا ص 485).‏
                  أما الشيء الهام والمزعج الذي يطالعنا في هذه الرواية، فيتجسّد بإِهْدار حرية الاختلاف، والتعبير عن الرأي، فالسكوت كما يقول (رجب) أو (منيف)، لا فرق، هو جريمة كبرى. ولهذا يقرر (رجب) نقل صورة أمينة عن حال السجناء السياسيين في بلده، إلى (جنيف) حيث المنظمة العالمية للصليب الأحمر وحيث تحترم حقوق الإنسان.. وهنا لا بد من التذكر أن الكاتب قد صدّر روايته بصفحة حوت نصوص سبع مواد من مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي المادة (1)و (2) و (3) و (5)و (10)و (12) و (14). ونص المادة الخامسة مثلاً يقول: "لا يعرض أي إنسان للتعذيب أو للعقوبات أو المعاملات القاسية الوحشية الحاطَّة من كرامته".‏
                  وواضح الآن أن هذه الرواية تقوم، في صلبها، على استنكار إهدار هذه المادة في ممارسات حكام ((شرق المتوسط)).‏
                  إن الاعتقال السياسي الذي كان الحدث الأبرز في الرواية، قد شكَّل عدواناً على الحب، لأنه كان سبباً لانفصال العاشقين (رجب) و (هدى)، فقد تخلَّت (هدى) عن حبيبها بعد طول انتظار، وتزوّجت رجلاً آخر! ويمثل عدواناً على علاقة الأمومة، فقد هزّ (أمَّ رجب) من أعماقها، وراحت تسأل عنه في كل مكان، وتتحمل وحشية الشرطة والمحققين، حتى إنها دفعت حياتها ثمناً لملاحقة شؤون ابنها السجين، حين دفعها أحد الجلاّدين الأجلاف بعيداً عن بابه، فتسبب في موتها...! وكان الاعتقال أيضاً عدواناً على علاقات الأخوة الماتعة التي كانت تظلل أجواء الإخاء الجميل ما بين (رجب) و (أنيسة)! وهو أخيراً عدوان على حقوق الإنسان التي تقول المادة الأولى منه:‏
                  ((يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء....)).‏
                  وقد كانت رواية منيف الأولى ((شرق المتوسط)) مكرّسة لإعلاء هذه الحقيقة ولفضح من يهدرها، أو يحتقرها، أويدمرها.‏
                  ولقد كان موت (رجب) في معنى من معانيه لوناً من ألوان التكفير عن السقوط، لأنه، كما ذكرنا، اعترف وسقط، وها هو ذا يقول في رسالة له إلى أخته (أنيسة):‏

                  ((سأعود إلى الوطن، انتظر أن يقبضوا عليّ أن يعذبوني أن يقتلوني بالرصاص... لم يعد الأمر يهمني وأعتقد أنه سيكون شرف لي لو فعلوا شيئاً مما أتصوّره)) ويتابع حديثه في هذا المعنى مخاطباً أمه فيقول: ((وأنتِ يا أمي، أودّعك الآن، واغفري لي، وبصوت يمزقه الأسى أسألك: هل يمكن ليديك أن تستقبلا رجلاً سقط، ويحاول من جديد حتى بعد سقوطه، أن يتطهرّ؟)) -(شرق المتوسط 170).‏
                  واعتماداً على هذا النص لا نرى ما يراه الدكتور (محسن جاسم الموسوي) من أن موت رجب "كان نتيجة طبيعية لتجربته أي التعذيب في السجن)) -( انظر كتاب الرواية العربية النشأة والتحوُّل ص217)، بل نراه محاولة تكفير وتطهّر، وهذا ما كتبه (رجب) بنفسه قبل موته.‏
                  إعادة التجربة (الآن... هنا) أو الصمود والإباء:‏
                  ولعل هذا الملمح في شخصية (رجب) الروائية، كان وراء إعادة التجربة من قبل الكاتب (منيف). وها هو ذا يرسم في روايته الثانية ((الآن.. هنا)) شخصيتين شحنتا بالإباء، وأفعمتا بالصمود، وبالسخرية من الجلاّد، وقاومتا كل محاولات التحطيم والسقوط، فقدمتا البطل المثال والنموذج. ففي الوقت الذي أجبر (رجب) على الاعتراف والتوقيع، لم يعترف (طالع العريفي)، وبقيت إصبعه التي كانت حركة منها توقف سيل الضربات على رجليه، وأنحاء جسده كافة، وتبطل جحيم العذاب، بقيت هذه الإصبع كتلة من الحديد الصلب، تسخر من الجلاد، وكأن شرف العالم وإباءه وكبرياءه قد تجمَّع فيها... إن إيمان (طالع) بقضيته قد تحول إلى طاقة احتمال عجيبة، وإلى قدرة على الصبر على فظاعة التعذيب نادرة... وها هو ذا (طالع العريفي) يقول مناجياً نفسه:‏
                  (( من العار بعد هذا الإذلال والعذاب أن أقدم لهم لحمي عشاء شهياً يتمتعون به، ثم إني أدافع عن قضية عادلة وبسيطة: هي حق الآخرين في الحياة والحرية، وهم يدافعون عن امتيازاتهم، وعن السلاطين والشيوخ الفاسدين، وكذلك يجب أن أكون أقوى منهم، لأن قضيتي هي المشروعة)) -‏
                  (الآن... هنا 213).‏
                  وليقوي هذا الموقف لدى الضحية يستحضر الكاتب في وسط جحيم القهر والعذاب، صورة الأم، ولكن لا ليضعف الضحية، بل ليقويها أولاً. وليزيد من تعاطفنا مع ابنها المصلوب، وليعاظم من حقدنا على الظالم، وغضبنا على الطاغية، فقد كان صوت (طالع) يقول وهو يتعذب: ((آخ يمّه، تعالي يمّه، وشوفي هذول الظلاّم، تعالي يمّه))- (الآن... هنا 250). ولكن هذا النداء الآسر الذي يقطّع نياط القلوب لا يؤول إلى استسلام، ولا يوصلنا إلى أمومة رخوة شفيقة يستبدّ بها الحنان والضعف، فينتقل صداه إلى الابن، بل بالعكس فأم طالع كانت أمّاً بطلة، تشبه خولة والخنساء وذات النطاقين، فهي تدفع ابنها إلى التمسك برجولته، حتى ولو أوصلته إلى موتٍ يشبه موت الرجال الذي تغنّي له الصبايا، يقول طالع في أوراقه التي نشرها له (عادل): ((أحسست يداً حانية رطبة تمسكني عند الساعد، لم أشكّ أبداً أنها يد أمي، وسمعتُ صوتها، كان بعيداً وله أصداء، أنا أنتظرك يا طالع لا تصدق ما يقولون، إنهم لا يعرفون الصدق أبداً، فابْقَ رجلاً واعلمْ أن موت الرجال تغني له الصبايا وتبكيه العجائز، ويهز الرجال رؤوسهم لوعة، ويتذكره الصغار لآخر أيام العمر، فما أجمل أن ألقاك وسط الزغاريد وغناء الصبايا، وما أقوى أن تبقى ذكرى في قلوب كل الذين سيظلون أحياء بعدك... فلا تَنْسَ ما أقوله لك، ياابني، ياطالع)) -‏
                  (الآن...هنا 254).‏
                  وصورة الأم هنا، مثلها هناك، فأم (رجب) كانت تقول له أيضاً مثلما تقول أم طالع: ((احذر يا رجب، الحبس ينتهي، أما الذل فلا ينتهي، لا تقل شيئاً عن أصدقائك... احذر... أتسمعني)) -(شرق المتوسط144).‏
                  بالنتيجة مات (طالع)، ولكنه لم يسقط مثل (رجب)، لم يمت في الوطن، بل مات في المنفى في مدينة (براغ)، وذلك بعد قدوم وزير نفط (موران) إلى (براغ)، وإبلاغه بأنه محتجز في غرفته لثلاثة أيام، هي مدّة زيادة ذلك الضيف الثقيل- ثلاثة أيام انفجر (طالع) قبل انتهائها، ومات على سريره... ولكن بعد أن كتب أوراقه وسلمّها إلى (عادل) لتكون أحد أهم فصول روايتنا هذه.‏
                  والمعروف أن أوراق (طالع) تنتهي عند الصفحة (298) من الرواية، لتبدأ بعدها أوراق (عادل الخالدي) من الصفحة (299) وحتى الصفحة (536)، وهي آخر صفحة في الرواية، وإذا كان عنوان أوراق (طالع) ((حرائق الحضور والغياب)) فإن عنوان ذكريات (عادل) هو ((هوامش أيامنا الحزينة))، وهي القسم الثالث من الرواية. أما القسم الأول فيها، فقد أعطاه الكاتب عنوان ((الدهليز)). وقد احتل الصفحات (7-144). ورغم وجود صوتين عاليين في الرواية، هما صوت (طالع) و (عادل)، فقد كان ضمير المتكلم في الأقسام الثلاثة منها، هو المتكفّل بالحديث، وهو (أنا) عادل الساردة.‏
                  ومع (عادل) يستمر الصمود في المعتقل ويشمخ السجين تحدياً قوياً للجلاد، وسخرية بالسجّان، وأعوانه، فعادل لم يعترف على أصحابه البتّة، وبقي مثل (طالع) يابس الرأس لا شيء عنده يقوله للمحققين. وحتى الساعات الأخيرة من سجنه لم يتبدّل، لا هو ولا أصحابه. والحوار الآتي يقدم فكرة عن ذلك، فبعد أن عاد (عادل) إلى السجن المركزي في (عمورية)، دار بينه وبين المحقِّق هذا الحوار:‏
                  ((- ليش جروك لهنا‏
                  - ... (لا جواب)‏
                  - ليش ما تجاوب يا ابن الكلب؟‏
                  - ....‏
                  - شايف حالك سياسي، ها؟‏
                  -....‏
                  - احك، ليش جابوك؟‏
                  - اسأل معلمك.‏
                  - يعني ما تريد تحكي، ها؟‏
                  التفت حواليه وجد قطعة خشب التقطها وبدأ من جديد:‏
                  - أحسن لك أن تحكي، ولا تعكّر صباحنا.‏
                  - قال آخر: هذول السياسيين لا يفهمون إلا بالضرب، خالقهم الله، بهذا الشكل مثل الحمير.‏
                  - وخزني الأول بالعصا، وقال:‏
                  - راح تنزع صباحنا وتخلّينا نوسّخ أيدينا بضربك كم عصا، هذا اللي تريده؟ صرخت بنوع من اليأس:‏
                  - والله يا جماعة الخير لا علم لي ولا خبر. بعد نُصّ الليل قالوا لي: شرّف، جيت، ومثل ما تشوف عيونكم.‏
                  - شوف... شوف ابن الكلب بريء، وكأنه أطْهَرُ من ماء السماء، لا يعرف، لا من شاف ولا من سمع.‏
                  قال آخر:‏
                  - هذول يا جماعة الخير، خنازير. الواحد منهم سرّ ببير، فسنّدوه بكم ضربة وخلونا نمشي لأن راح يجي دوره..‏
                  ضربوني بالخشبة بضع ضربات وبصق عليّ أحدهم وغادروا...)) -(الآن... هنا 526-527)‏
                  إذن لم يعترف (عادل) ولا (طالع) من قبل، ولم يسقطا. واعترف (رجب) من قبل وسقط، ثم عاد ليموت في السجن، ولعل تعديل صورة السجين السياسي، كما ذكرت، كان وراء تكرار الكتابة عنه في رواية منيف ((الآن... هنا)). وسنرى ملمحاً آخر بعد قليل.‏
                  سمات الأبطال في الروايتين:‏
                  ولكن ما يجمع بين أبطال كاتبنا في الروايتين هو أنهم كانوا رجالاً مثقفين ويملكون أفكاراً.، ويعتنقون مبادئ، وها هو ذا أحدهم يقول لمدير السجن: ((نحن يا سيادة النقيب، لا نملك إلاّ كم فكرة، وكم كلمة، وليس لدينا أسلحة، ولا نهدّد حتى العصفور، وأعتقد أنه يجب ألاّ نخاف من الكلمة، لأن لا أحد يستطيع أن يسجنها، أو يمنعها، وأنتم الآن لا تسجنون الكلمة تسجنون من يسمعها، من يقولها، وهذا ما يولّد الثورة، ويغيّر كل شيء)) -(الآن... هنا 423).‏
                  وقد كانت المسألة التي تؤرق (طالع العريفي) إلى أقصى حد هي كيف يمكن أن تدمّر السجون (طبعاً السجون السياسية) وكيف يستطاع خلق نظام وإنسان يؤمنان فعلاً بالحرية. هذه هي المسألة التي تستحق العناء -‏
                  (الآن... هنا 95).‏
                  ومن مزايا أبطال هاتين الروايتين إيمانهم بالكلمة، وبضرورة أن تكتب، لتؤثّر، ففي ((شرق المتوسط)) يقول(رجب): ((سيطرت عليَّ بجموح فكرة أن أكتب، يجب أن أقول للناس ما يجري في السراديب، في الظلمة وراء جدران ذلك البناء الأصفر، الذي يربض فوق قلوب البشر مثل حيوان خرافي. الكلمة آخر الأسلحة... لن تكون أقواها، لكنها سلاح الذين تلوّثت دماؤهم، ماتت أمهاتهم، سلاح الأطفال الذين يريدون أن يفعلوا شيئاً)) -(شرق المتوسط 142).‏
                  ومن سمات الأبطال عند (منيف) التمرّد والقدرة على قول الكلمة (لا) أمام جبروت الحكام والجلادين، فطالع العريفي يقول: ((هذه (اللا) هي سر الكون كله، هذه الكلمة الصغيرة هي التي غيّرت الكون والبشر والحياة، وهي التي غيَّرَتْني. ومثلما جلعت الإنسان إنساناً حين يعرف كيف يستعملها، ومتى، وفي مواجهة من، جعلتني أجرؤ على استعمالها)) - (الآن.. هنا 206).‏
                  وحتى (عادل الخالدي) يقول لسامي أيوب، وهما في باريس: ((ألم تقل: إنّ أعظم كلمة غيّرت وجه العالم، كلمة (لا)، أليس من حقي أن أستعملها)) ولكن (سامي) يجيب (عادل) بقوله: (( طبيعي، لا... ألسنا من هناك. ولم نتعلم بعد هذه الكلمة)) -(الآن...هنا 536). وكلمة هناك تعني (شرق المتوسط) فقد كان الاثنان في باريس، وردُّ (سامي) على (عادل) يعني التمييز بين (باريس) بوصفها رمزاً للحرية في الغرب، و(عمورية) أو (موران) بوصفهما رمزاً للاستبداد في الشرق.‏
                  والحق أن الكاتب كان يرى بوضوح أن الاستبداد سمة الحكام الشرقيين، والحرية واحترام الإنسان سمة الغربيين، ولهذا فهو يشكو أهل الشرق إلى الغرب، إذ يجعل (رجب) يذهب إلى (جنيف) ليبلغ المنظمات الدولية عما يجري في سجون الشرق، من احتقار للإنسان ومن عدوان على حقوقه وحرياته... ولكن الكاتب في روايته الثانية عدّل من نظرته إلى الغرب، ولم يعد يرى فيه مخلصاً، وذلك من خلال بطله (عادل الخالدي)، فـ (عادل) لا يجد في (باريس) مكاناً صالحاً للشكوى، كما وجد (رجب) في (جنيف). بدليل أنه يقول فيها: ((...باريس هذه المدينة الآكلة.. إنها تُبْقي بينها وبين الناس الغرباء مسافةً، ولا تتردد بعض الأحيان أن تكون جافة وشديدة الخيلاء، خاصة حين يتأبط الغرباء أحزانهم وهمومهم، وهم يدورون في الشوارع، وكأنهم يعرضون أنْفَس ما يملكون)). ويمضي فيقارن بين، (عمورية) من جهة، و (باريس) من جهة أخرى، فيقول: ((... وهكذا فرض الحل المنطقي نفسه: عالمان وأمّتان، فعمورية هناك، وباريس هنا، وعلى أهل عمورية أن ينتزعوا أشواكهم بأيديهم، لأن ليس من ينتزعها لهم)) - (الآن... هنا 303). وها هنا ملمح جديد لم يكن لنراه في الرواية الأولى ((شرق المتوسط)).‏
                  يبد أن ( عالد الخالدي) الذي لم يسقط في السجن‎، تغير وتبّدل، فقد مرّت، بعد سبع سنوات من سجنه مياه كثيرة تحت الجسر، وتغيّر الزمن، وانهارت أنظمة، واهتزّت مبادئ، وبهتت عقائد، بعد أن كانت ملتهبة كالجمرة المتّقدة، وتبدلت مواقف، وتحوّرت آراء، فبرد الإيمان، وتصدّع اليقين، وبرزت الخيبات، وها هو ذا (عادل) يكتب عن ذلك، وهو في باريس مخاطباً قراءه الذين سيروي لهم هوامش أيامه الحزينة:‏
                  (( لكي أصل معكم إلى نقطة اتفاق، أو على الأقل لكي تفهموني دون أخطاء... لا بدّ أن أقول دون خوف، ودون تبجح أنني أشعر بخيبة تصل حد المرارة. وهذا الشعور لم يولده السجن وسنوات العذاب الطويلة.. وإنما بالدرجة الأساسية لأنني أكاد أفقد اليقين، أو بالأحرى لأن اليقين الذي امتلأت به طوال سنوات العمر، الحياة كلها، يوشك أن يغادرني، أن يفلت مني، أحسّ في لحظات كثيرة، وكأني وحيد وسط العراء في مواجهة كل الرياح، دون قدرة على المقاومة، أو الرغبة في البدء من جديد، وأن هؤلاء الساسة الذي أسلمت لهم قيادي خدعوني تخلّوا عني، أو كما قال شاعر في الغربة:‏

                  وأنت في الغربة لا تحيا ولا تموت))‏


                  ((الساسة المحترفون ينجرون خشب التابوت‏

                  ويضيف: ((أريد أن أبقي عنيداً، وإذا متُّ، فأجمل موت أن يموت الإنسان واقفاً، والأفضل أن يفعل ذلك، وهو يبتسم بسخرية أيضاً))- (الآن... هنا 309). ومما يؤكد عناد (عادل)، وإيمانه برسالته، رغم مرارة الخيبة، أن حلم الثورة والفرح الحزين، والوصول إلى نهاية الشوط لم تفارقه حتى الصفحة الأخيرة من الرواية، فهو يكتب في السطور الأخيرة من (الآن... هنا):‏
                  (( في وقت ما انزلقت إلى فراشي. ما كدت أضع رأسي على الوسادة حتى بدأت أسمع النواح والأنين الآتي من هناك، وفي لحظة لاحقة سمعت ما يشبه الدوي. أما وأنا أنزلق إلى النوم فقد أحسست أن الأرض تتشقق ويعلو الصهيل. وأتذكر أنني حلمت أحلاماً كثيرة تلك الليلة. وكان بعضها لا يخلو من فرح حزين)) والسؤال الآن ما طبيعة هذا الفرح؟ والجواب : إنه الفرح الذي يشعر به المرء بعد رحلة العذاب الطويلة، التي يقطعها من أجل الوصول إلى الهدف، فيصل إليه، وقد تضرجت أثوابه بالدماء، وامتلأت عيونه بالدموع...‏
                  وعليه فلست أرى ما رآه المرحوم (صبحي الطعان) من أن جميع أبطال عبد الرحمن منيف في رواياته الثلاث ((الأشجار واغتيال مرزوق)) و ((شرق المتوسط)) و ((الآن... هنا)) كانوا مهزومين (عالم عبد الرحمن منيف الروائي ص95). نعم مات (رجب) ومات (طالع)، ولكنهما لم يهزما، بدليل ما تركه (رجب) من أثر في صهره (حامد) وأخته (أنيسة) وابن أخته (عادل)... وبدليل أن (عادل) رغم مرارة الخيبة، لا زال يحلم بالفرح الحزين، وأنه ما زال يسمع ما يشبه الدويَّ هناك. إن أحلامه لم تتلاشَ، وهو بوصفه بطلاً من ورق، فإن الحلم في إهابه الخيالي لدليل على حياة لا موت فيها.. إن حلم (عادل) هذا يذكرني بحلم اليقظة في قصة (الرعد) لزكريا تامر، فبطل هذه القصة يقول : ((فاخترعت قنبلة ذرية، فانفجرت، وأشرقت الشمس على أنقاض)) كما يذكرني بماء جاء في أحد مقاطع قصة (الأعداء) لزكريا تامر أيضاً في مجموعته ((النمور في اليوم العاشر)) إذ كتب (زكريا) متفائلاً بصهيل الجياد بعد البكاء والأنين قائلاً:((أغمد رجل نصل مديته حتى المقبض في التراب بحركة متشفِّية ثم ألصق أذنيه بالأرض وهتف بدهشة: الأرض تبكي ثم ألصق أذنيه بالأرض ثانية" وصاح بصوت مثقل بالفرح: لقد ماتت، وحين ألصق أذنه مرة ثالثة، لم يسمع سوى أحذية الجنود تصك الأرض برتابة)). فأحذية الجنود هنا، بعد توهّم الأعداء بموت الأرض، تماثل صهيل الجياد هناك، بعد شعور الجلادين بموت الضحايا في المعتقلات. فالأحلام سواء كانت أحلاماً حقيقية، أو أحلام يقظة، هي تعبير حيّ عن الحياة، وعن الرؤى، وعن الآمال، وعليه فلا وجه للقول: إن (عادلاً) قد انتهى سياسياً. فأحلامه حيّة، رغم مرارة خيباته، إذ لا أخطر على الحياة من أن تتبدّد الأحلام منها، والأدب الحق هو الذي ينعش الحلم، فهو ميدانه ومضماره، وأفقه الأوسع... ولعلّ كاتبنا كان على وعي بفنه حين قال في مقابلة له مع الأستاذ (ماجد السامّرائي): ((في أحيان كثيرة قد يكفي الشخصية أن تكون طموحاً، أو حتى حلماً، لتسهم بمقدار ما في ثقب الجدار، وبالتالي في تسرّب النور، والأمل بأن شيئاً يمكن أن يتغير)) -( مجلة الآداب، بيروت، السنة 45ع 9و 10ص 21و 22). ومن الجدير ذكره هنا أن بطلي (منيف)، في روايته الثانية، يشبهان بطل (عبد الكريم ناصيف) في روايته (المخطوفون) أعني القبطان(غالي بابا). فجميعهم يقدمون نموذج الصمود والعناد والثبات والوفاء للمبدأ والعقيدة والقضية (انظر دراستنا لرواية المخطوفون في القسم الأول من هذا الكتاب).‏
                  المادة الحكائية وآفاقها:‏
                  إن أفكار ذينك البطلين (طالع) و (عادل) ومواقفهم، لم يقذف بها الكاتب في وجه قارئه، دون نسيج يلفّها، ولحمة تجعلها على صلة بالفن وثيقة. بل جاءت في ثنايا مادة حكائية غزيرة تؤكد أن (عبد الرحمن منيف) كان أستاذاً في فنّ السرد، وله باع طويل فيه. ولا عجب في ذلك فالمقارنة بين الروايتين ((شرق المتوسط)) و ((الآن.... هنا)) تؤكد ذلك، حجماً ونوعاً.‏

                  ومن المعروف أن الرواية الأخيرة تزيد على الأولى بمئتين وستين صفحة، ضمنّها الكاتب تفاصيل أيام العذاب، وأسئلة المحققين والجلادين للضحايا، ومناجيات السجناء وحواراتهم، ومقارناتهم بين الداخل والخارج، وأحوال السجون المختلفة..... الخ.‏
                  وقد جعل الروائي من وصف ألوان التعذيب والاذلال والقهر متناً روائياً ماتعاً ومزعجاً وممتداً عشرات الصفحات، فثمة وصف دقيق لعنف الجلادين ووحشيتهم بدءاً من الدخول إلى السرداب، وضرب المعتقل حتّى يصبح خرقة بالية، أو كالخرقة، إلى تعليقه بأرجله بحيث يكون رأسه إلى الأسفل، ومروراً بتقييده (بالجامعة) أو القيد، وعصب عينيه، وحفلات الجلد الفظيعة على الطاولة الخشبية، التي تأكل لحم الضحية وتهصر عظامه، بعد أن يربط عليها، وبعد أن تقيّد يداه على قوائمها، وبعد أن يكون قد شرب السجين من الماء مقداراً يجعل بطنه كبطن امرأة حامل، حيث يؤمر بالصعود على تلك الطاولة، ثم يبدأ الضغط عليه، ليشعر أن الماء قد يتفجَّر من عينيه، ومن كافة أنحاء جسده، ثم ليبدأ القتال والعراك، ولكنه من جانب واحد.. ويتذكر (طالع العريفي) جانباً من هذا العذاب فقد أمر (الشهيري) وأعوانه بأن يركبوه على تلك الطاولة ويقيدوه، كانت جروحه لا تزال طرية من جراء الحفلة الأولى، وها هو ذا يكتب: ماكادت الكابلات تنهال على قدمي ثم الساقين، حتى تفلَّعت، طش الدم وتبعه القيء وتتابعت الشتائم. كنت أريد أن أنتقم من الشهيري بشكل خاص قبل أن أغادر، لذلك لم أترك شتيمة أو وصفاً إلاّ تحرك به لساني. والشهيري الذي تعودّ على حالات مثل هذه لم ينفعل إلاّ في وقت متأخر..." وكلما يسأله إن كان يريد الاعتراف، يقابله (طالع) بالصمت أو بالرفض الصريح... وبعدئذ يتقدّم منه، ويحاول خنقه بالبطانية، وكان يصرخ في وجهه:‏
                  (( نهايتك يا ابن الحرام على يدي، راح تموت فطيس مثل كلب لا من شاف ولا من سمع..)) ((كان يحاول بيديه الاثنتين، وكانت الكابلات تنهار كالمطر، ومعها الشتائم مني ومنهم، إلى أن أغيب...)) وبعد أن كاد (طالع) أنْيختنق، توقفوا، وفكّوا الحبال عن ساقيه وظهره، وأبقوا الجامعة (القَيْد) في يده اليمنى، ثم رفعوه عن الطاولة، وعلقوه في زاوية في السرداب مثل الذبائح، ثم غابوا.. وبعدها راح (طالع) يشعر بالعطش الحارق القاتل، وصار الحريق يمتد ويصبح قوياً ومستبداً، ويتردد في صورة خوف وحيد: ما أبشع أن يموت الإنسان محترقاً. وكان لسانه جافاً كأنه حطبة تملأ الحلق، ويكاد يختنق، فالحريق يبدأ من أظافر القدمين ويمتد ويمتد مع كل شبر، حتى إذا وصل إلى الوجه والعينين أحسّ أن جلدة الرأس بدأت تقبقب وتتحرك، ولا بد أن تدخن ثم توجَّ، ثم يصرخ: ماء، ماء ما أريد غير الماء يا ظلاّم، لكن لا أحد..."(الآن... هنا‏
                  ص 247-248).‏
                  ومن أفظع ألوان التعذيب لعادل الخالدي كانت المحرقة، وهي علبة من الزنك تكاد تكون على قدر جسم السجين، يدخل فيها وتغلق عليه، وهي في العراء، وتبدأ شمس الصيف اللاهبة تنفث بحرارتها جدران صفيح هذه العلبة، لتصبح كتلة ملتهبة، تشعره بأنه سيختنق أو يموت بين برهة وأخرى، فبعد أن هرب (رضوان فرج) من سجن العفير، وقبض عليه، فرز المحقق أربعة رجال من السجن هم (هشام زينو) و (رضوان فرج) و (حامد زيدان) و(عادل الخالدي). ووضع كل واحد منهم في علبة من العلب المصنوعة من الزنك القوي، وهي مسقوفة ولها باب... وقد كان السجان هنا(العطيوي) وليس (الشهيري)، ولكنهما وجهان لعملة واحدة. ويروي (عادل) أنه لم يهتم أولاً حين سمع كلمة (المحرقة)، ولكنه عندما حشر فيها، وصارت الحرارة بعد ارتفاع الشمس، تتفجر، وتتدفق من الخارج إلى الداخل، شعر بالتخاذل والذوبان والتلاشي، وها هو ذا يصف بعض معاناته فيها: ((افترضتُ أنَّ الجلوس يمكن أن يبعدني عن السقف الذي تنصبّ منه تلك الحمم، جمعت نفسي وهبطت إلى الأرض، مسّت يدي جدار العلبة، فانكوت، سحبتها لا شعورياً واتكأت على الجدار الآخر، ونظراً للعرق الذي يزخّني، والذي كان يفيض من كل المسامات، فما أن اتكأت على ذلك الجدار، حتى شعرت أن يدي تلتصق بالصفيح، وأَشمّ رائحة احتراق اللحم، أما وأنا أتداعى على الأرض وتلامس الاليتان الرمل، فقد تأكدت أنني فوق صاج محمّى، قفزت في محاولة لاتقاء الحريق. ولكن الجوانب لدغتني من هنا ومن هناك. قلت وأنا أشّتمُ: ((لا أتصور أن هناك مجرماً عبقرياً يفوق من اخترع هذه العلب ووضعها في هذا المكان)) .((أدور من هذه الجهة إلى الجهة المعاكسة، إلى الجهة الجانبية، لكن الفرن بحرارة واحدة من كل الجهات. العرق يتساقط. وداخلي يغلي. بدأ الونين في الأذنين، واليباسة في الحلق، شعرت أنني أمتلئ تعباً وأتهاوى...)).‏
                  وتنتقل (الأنا) الساردة إلى حوارية قصيرة بين (عادل) وأصحابه الآخرين في العلب وإلى شعورهم فيها، ثم يصل إلى الزمن فيقول: ((إن الزمن في مثل هذه الحالات لا يعد بالدقائق والثواني بل بأجزائها، لأن اللهيب الذي يزداد ويتكاثف ثانية بعد أخرى له مفعول المخدّر، إذ تتراجع القوى بسرعة، ويفقد الإنسان قدرته على التحكم، وتصبح للأشياء أشكال وألوان مختلفة..)) - (الآن... هنا 363-364).‏
                  وإذا كان هذا الوصف يكشف عن قدرة فائقة من الروائي على الدخول إلى عالم السجين ورصد كل حركة لديه وكل إحساس، فإنه يطرح أيضاً سؤالاً مآله: هل عاين (منيف) بعضاً من هذه العذابات، أم أنه قرأها في مذكرات بعض السجناء السياسيين؟ أم سمعها من أفواههم على نحو أو آخر، ثم أعمل الخيال في سد الثغرات ولحم الأجزاء وتكوين الصورة؟ أم أنها كلها من صُنْع الخيال والتصوّر؟؟ وعلى أية حال، ومهما يكن الأمر، فإن هذا الوصف الذي يمكن للمرء أن يحدس فيه، ويردّه إلى وثائق مكتوبة من قبل، دونما يقين لديه، قد صار عملاً فنياً تخييلياً. ومن الثابت في هذا الصدد أنه لايمكن لعمل فني أن يصبح وثيقة، في حين يحوِّل الفنُّ الوثيقة إلى عمل فني... وهذا ما فعله (منيف) من قبل في روايته ((سباق المسافات الطويلة)) وما فعله أيضاً (صنع الله إبراهيم) في روايته ((ذات)) إذ جعل من أقوال الصحف المصرية فصولاً تتناوب في الظهور مع فصول حياة امرأة تدعى ((ذات))، ليعكس آثار الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على حياة هذه المرأة وأسرتها، فصارت الوثائق فناً، وهو أيضاً ما فعله حسن حميد في روايته ((جسر بنات يعقوب)) المنشورة بدمشق عام 1996.‏
                  وإذا كان الكاتب قد أتقن فنَّ الوصف، لما هو في الداخل، فإنه لم تفته الالتفاتة لما هو في الخارج، فالقارئ للرواية لايني يتساءل: لم هذا السجن؟ ولمصلحة من؟ وما الشريحة التي أسسته وكرّسته وعمّقت عذابات الداخلين إليه؟ وإنه من المؤسف أن يكون الحاكم والآمر والمكرّس للسجن السياسي، هو من أبناء الفقراء المضطهدين بالأمس، الحاكم بأمره اليوم، فـ (عادل) يقول في حكام (عمورية) الذين أودعوه سجن العذاب والألم والجلد: (( وهؤلاء الذين يحكمون أبناء الفقراء، وقد كانوا إلى الأمس القريب مضطهدين ملاحقين، ثم بين يوم وليلة، ولأسباب لا تزال بالنسبة لي غير واضحة، قفزوا، وصلوا، وبدل أن يغيّروا ما كانوا يشكون منه، تغيّروا، أصبحوا هم الجلادين الذين يضطهدون الناس، يعذبونهم، وبقسوة تفوق الجلادين الذين سبقوهم، ودون مبرر وبلا أسباب، أغلب الأحيان. وأصبحوا أيضاً يستبيحون كل شيء: المال، والأعراض، ولا يترددون في أن يسرقوا جهاراً نهاراً. فماذا حصل لهذه الدنيا؟ كيف تغيّرت بهذه السرعة وبهذا المقدار؟ وكيف تغيّرت النظرة والمقاييس والسلوك؟؟".‏
                  ويبدو من النص السابق أن الكاتب لم يكن يلجأ إلى الرمز أو المواربة في كتابته الروائية، على نحو ما يفعل غيره من الروائيين مثل (نجيب محفوظ) في كثير من رواياته، ومثل (أحلام مستغانمي) الجزائرية في روايتيها ((ذاكرة الجسد)) و ((فوضى الحواس))، أو (جون شتاينيك) الأمريكي في روايته ((اللؤلؤة))، فمنيف، على عكس هؤلاء، يسير إلى الهدف دون طرق جانبية، أو ملتوية، ويعد ذلك شجاعة، وها هو ذات يقول في هذا المعنى في جواب له على (جهاد فاضل): ((إنه يمكن لبعض الكتّاب أن يحاولوا التوجُّه رأساً للهدف، بدون أخذ طرقٍ جانبية، أو طرق ملتوية، وأعتقد أنه يفترض في الروائي أن يكون شجاعاً، إن عملية الاقتحام، عملية التحدي هي قضية أساسية لا بالنسبة للروائي فقط، وإنما بالنسبة لكل فنان، لذلك فإن الأشخاص الذين يقولون الأشياء بطرق غير مباشرة بحثاً عن السلامة، فإنما يضعفون عملهم، ويضعفون التواصل المطلوب بين الكاتب والقارئ)) -(أسئلة الرواية ص 146). ومن هذه الزاوية فإن الرمزية تكاد تكون مفقودة في أدب (عبد الرحمن منيف) على عكس ما هي عليه الحال في أدب(نجيب محفوظ) الذي استحقت ظاهرة الرمزية في أدبه أن تكون رسالة علمية قائمة برأسها نهضت بها الكاتبة (فاطمة الزهراء محمد سعيد)، ونشرتها في بيروت سنة 1981بعنوان: "الرمزية في أدب نجيب محفوظ". وهذا مالاحظه بالضبط ( صلاح فضل) في كتابه " أساليب السرد في الرواية العربية" عندما قارن بين الأبعاد الملحمية في الأسلوب الغنائي الجديد عند (( منيف)) والملحمة الرمزية في "أولاد حارتنا" و"الحرافيش" ( لـ نجيب محفوظ) ، فهنا حسَّ رمزي، وعند ( منيف) في روايته هذه حسَّ غنائي،‏
                  (انظر أساليب السرد ص 97 فما بعدها).‏
                  والحقيقة أن المادة الحكائية المسرودة لم تكن لتنطوي على حبكة تشبه حبكات الروايات التقليدية، بل جاءت مادة تنمو وتتطور بفعل الأسباب الموجبة، والعلاقات المتشابكة التي يقود بعضها إلى بعض، في منطق سردي خاص. فمثلاً بعد أن ألقي القبض على (رضوان فرج) أثر هروبه، قرر المحققون تعريض السجناء إلى المحرقة، وبعد أن تجاوز المساعد حدوده، ضربه الحاج مصطفى، وأذلّه ورفع رأس السجناء عالياً، ثم فوجئ هؤلاء بعد فترة، بموتِ، أو قتل، الحاج مصطفى، وبعد أن يرفض (طالع العريفي) الاعتراف يزور السرداب حيث العذابات اللاهبة، ولأن رجلاً عميلاً اعترف على (هلال المعتوق) بأنَّه مسؤول عن الجناح العسكري في التنظيم، أطلق (الشهيري) النار على رأسه، وذبحه.. ! وعلى الرغم من أن هذه الأشياء لا تسوغ أعمال الجلادين القتلة، فإنها تجعل الأحداث في الرواية تنمو شيئاً فشيئاً، وتتطور رويداً رويداً، كما تبدو مشدودة بأربطة قوية تحول دون تفككها أو هلهلتها.‏
                  الزمن في الرواية:‏
                  وإذا كان (منيف) قد نشر روايته هذه في العام 1991، فإنّ زمن القصة فيها، أو زمن وقوع الأحداث، وإن تمّت المراوغة فيه، يشير إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وبعد أن نالت دول شرق المتوسط (وجنوبه) استقلالها، وقفز إلى كراسي الحكم فيها أبناء الفقراء والمضطهدين الذين بدلاً من أن يغيروا، تغيّروا..‏
                  والناظر في عنوان الرواية الثانية بإمعان، يرى أن الكاتب قد لجأ إلى دمج الزمان والمكان فيها، إذ لازمان بلا مكان، والعكس صحيح، فعنوانه الأول ((الآن.. هنا)) والثاني ((شرق المتوسط مرة أخرى))، فالأحداث تتم في هذه الأزمنة، وفي هذه الأمكنة... وما جرى أمام بصر الأبطال وخاصة (طالع) و (عادل) يشير إلى أحداث الربع الأخير من القرن العشرين فقد راحت سلطات (براغ) وكانت -حسب الظنّ- تشكل مظلة للمضطهدين وأصحاب الرأي ودعاة العدالة في العالم، راحت تتآمر مع حكام (موران)، وتتنكر للسجناء الذين يقبعون في مشافيها للاستشفاء من أعطاب أجسادهم في سجون العالم الثالث.. وتنفذ رغبات وزير نفط (موران)، وتطلب من (طالع) عدم الخروج من غرفته إلى أن يغادر الضيف الثقيل (براغ) فيطقُّ (طالع) ويموت! إن المؤامرة على أفكاره ومشروعه ومبادئه تتضافر على حياكة خيوطها سلطات (براغ) وسلطات (موران)، فتموت... وهذا دليل على اهتزاز القيم عند المنادين بها، وإهدار كرامة الإنسان وحريته في ((شرق المتوسط))و ((شرق أوربا)) معاً، كما هو دليل على اهتزاز زمن (الايديولوجيا) ومحنتها، في عصر توجه علاقاته الدولية المصالح الاقتصادية، لا المبادئ ولا الشعارات.‏
                  أما (عادل) فخيبته المريرة كانت بسبب فقدانه اليقين، لأن التنظيم الذي كان ينتمي إليه، تشقق وتشرذم. وراح كل واحد من فرقائه يعرض عليه الانضمام إليه.. ثم وصلته رسالة وهو لا يزال في (براغ) باتخاذ عقوبة ضده، لأنه، في زعم القيادة، انحرف وارتكب أخطاء جسيمة، علماً بأنهم قبل أيام، كانوا يرون فيه رمزاً للصمود والنقاء والثبات على المبدأ. ولكن الذي غيّر رأي التنظيم فيه أشياء ثلاثة آمن بها ،هي:‏
                  أولاً : إيمانه بالديمقراطية، لا لحزب ولا لفئة ولا لطبقة، بل للجميع، وبنفس المستوى، عدا أولئك الذين يخونون وطنهم.‏
                  ثانياً : مطالبته كل حركة سياسية بتقديم كشف عما قامت به من أعمال، وما حققته من نتائج، وهذا الكشف يجب أن يكون دقيقاً ونزيهاً وشاملاً.‏
                  ثالثاً : إنه مع الحزب وضد الكتل، ومع الديمقراطية وضد الحقوق المكتسبة والإرث التاريخي، ومع الأغلبية ضد مراكز القوى، ومع المنطق ضد الإرهاب والتشهير، ومع النزاهة والاستقامة، وضد الشطارة والتلفيق والافتراء على الآخرين من أجل تصفيتهم... ومع الإنسان ضد الغول والبهلوان والصنم- (الآن..هنا ص104-105).‏
                  إن هذه الأقوال الروائية تحيل إلى واقع خارجي وموضوعي، كان يعاني منه أحد التنظيمات في بلادنا (سورية). ولقد كنّا نسمع أقوال (طالع) ذاتها على ألسنة بعض اليساريين حرفياً، ممن كانوا في زمن ما ينظرون بإعجاب إلى (براغ) ويحتذون عمل الرؤوس في شرق أوربا، قبل العام 1991. ثم تحوّلوا بسبب وعيهم لمعنى الديمقراطية، وراحوا يجأرون بعالي صوتهم ضد التسلّط والاستبداد والقمع، وربما ضد الذيلية الممجوجة، والتبعية المكروهة.‏
                  ولا شك أن الصلة بين البطل وكاتب الرواية كانت قوية جداً، فتلك هي أفكار (طالع) وأفكار (منيف) فيما يبدو... ولا أدلّ على ذلك من أن صاحب رواية ((الآن... هنا)) المؤمن بالديمقراطية، كأبطال روايته، قد أنشأ كتاباً كاملاً بعد نشر روايته هذه أسماه: ((الديمقراطية أولاً.. والديمقراطية دائماً)). وعليه فرواية الكاتب تعبّر عن وجهة نظره في السياسة، وتشكِّل المرآة التي تعكس آراءه في الحياة والناس والكون.‏
                  ومن الواضح أن (منيف) قد كسر خط الزمن في مادته الحكائية، فهو يبدأ السرد على لسان (عادل) بعد أن أطلق سراحه، وصار في (براغ)، ثم يعود بعد القسم الأول من الرواية للحديث عن الماضي، مرة بلسان (طالع) ومرة بلسان (عادل)، ويعود من جديد إلى الحاضر، فخطُّ الأحداث كان على النحو التالي: حاضر -ماض- حاضر. وعليه فزمن القصة في السجن كان زمناً لوقوع الأحداث في (موران) و (عمورية). أما زمن الخطاب فيها فهو زمن سرد الأحداث، حيث الراوي في (براغ) أولاً ثم في (باريس) ثانياً. والانتقال من الحاضر إلى الماضي، فالحاضر، يعني أننا أمام زمن دائري بدأ فيه السارد الرواية بعد الإفراج عنه، وأنهاها وهو طليق في (باريس) يعمل مصححاً لغوياً لمجلة (لميس) الفنية.‏
                  ولم يترك الكاتب مادته الحكائية تنفد قبل أن ينشئ صفحات يشنع فيها على الجلاّد أفعاله، ويحيله من رجل متجبّر متوحش، إلى مريض ضعيف، يحتاج إلى عون ضحيته، مُرسخاً معنيين هامين، هما: النّدم، والتوبيخ. فالضحية، دون قصد منها، توبّخ جلاّدها، والجلاد، بوعي منه، يزدري نفسه ويحتقر فعله، فقد التقى (عادل) في (باريس) بجلاده (أبو مهَّند) الذي قدم إلى هناك للمعالجة من مرض السكري، وقد بترت رجله، ولأنه لا يعرف اللغة الفرنسية، فقد قام عادل بدور الترجمان له. وصار (أبو مهنَّد) لا يثق إلاّ بما يقوله (عادل)، رغم أنه كان خائفاً وخجولاً وحائراً...‏
                  وفي حوارية جميلة يديرها الكاتب بين (عادل) و (أبو مُهنَّد) يندم هذا الأخير على ما فعله بعادل، وعلى شراسته وحيوانيته وجلده، يقول (عادل) بنوع من التحريض:‏
                  (( إنسَ يا أبو مُهنَّد، أننا كنا في العفير، أحدنا جلاّد، والثاني ضحية، الأول آمر للسجن، والثاني سجين... لقد كان ذلك منذ وقت قديم، وأنا نفسي نسيت ذلك وعليك أن تنسى.‏
                  يردّ بحزن:‏
                  - لا أعرف كيف أقول: كنت خرا، كنتُ كلباً، أنا لا أستحق، وأنت أحسن مني.‏
                  - اترك هذا الكلام يا رجل، لقد نسيت كل وقائع الفترة الماضية، والحياة ليست يوماً أو اثنين والناس للناس.‏
                  يصرخ كمجنون:‏
                  - الله كم كنت حيواناً ورديئاً ونذلاً.‏
                  يضرب بالسرير ويصرخ:‏
                  - لافائدة مني، أصبحت جثة ولا أعرف ماذا أفعل.‏
                  لا حاجة لأن تفعل أي شيء، يا أبو مهنَّد، فقد كنت مجرد موظف، ربّما انسجمت أكثر من اللازم، لكن عليك أن تبدأ من جديد"- (الآن... هنا 533). وبعد، فهل سيتذكر الجلادون أنهم قد يلتقون ضحاياهم البريئة ذات يوم، فتأكلهم الندامة ويحرق قلوبهم الإحساس بالذنب، ويصبحون جثّة لا حياة فيها؟ إن التوبيخ الذي مارسه (عادل) على جلاّده، بإحسانه له وغفرانه، قد فعل فعل سياخ النار عند هذا الجلاد، العديم الإحساس: وها هنا ينشأ التقابل بين العذاب الجسدي الذي يوقعه الجلاّد على ضحيته، والعذاب النفسي الذي قد يوقعه السجين على جلاّده،... وفي الوقت الذي كان الجلاد يرى نفسه جثّة لا روح فيها ولا قيم ولا معنى خارج المعتقل، كان السجين، وهو وراء القضبان، كياناً مفعماً بالروح المعنوية العالية جداً، ومملوءاً حتى الحواف بالقيم والمعاني النبيلة... مما جعل السجن، وهو مكان محصور ضيّق، فضاء رحباً فسيحاً تسبح فيه الروح في كل الآفاق.‏
                  بين الروايتين السابقتين، ورواية الأشجار واغتيال مرزوق:‏
                  إن قراءة هاتين الروايتين ((شرق المتوسط)) و ((الآن.. هنا)) لتذّكر المرء برواية (منيف) الأولى ((الأشجار واغتيال مرزوق)). فالروايات الثلاث ذوات بنى متشابهة. وقد درسها (صبحي الطعان) في فصل واحد عنوانه: ((دهاليز النص القمعي)) (انظر عالم عبد الرحمن منيف الروائي 93 فما بعدها). والذي أوحى للطعّان بهذا الدرس هو، على الأرجح، قولة الروائي نفسه ذات مرة:‏
                  ((إذا أردت الصراحة فإن الكثير من الأجنَّة لمعظم ما كتبته موجود في ((الأشجار واغتيال مرزوق)) وهي الرواية الأولى له (( انظر مجلة النهج ع 18 لعام 1988) ومن أشكال التماثل بين الروايات الثلاث:‏
                  - أن ثمة شخصية محورية ترحل عن الوطن بعد طردها أو سجنها، فمنصور عبد السلام يسرّح من عمله في ((الأشجار)) وهو أستاذ جامعي، ويرحل جنوباً ليعمل مع بعثة أوربية. وكذلك (رجب اسماعيل) و (طالع العريفي) و (عادل الخالدي) يطالعوننا بالكتابة عن ماضيهم، وهم مرحّلون إلى (أوربا)، ويجمع بينهم أنه يعالجون هناك من عقابيل المعتقلات والعذابات في سجون الوطن.‏
                  - إن موضوع المادة الحكائية قائم، بالدرجة الأولى على التذكر، واختزال الزمن، ويتركز على ألوان التعذيب الفظيعة وجنون الجلاد السادي.‏
                  - إن البطل في هذه الروايات، هو بطل مثقف معنيٌّ بالكتب والقراءة، وبهاجس الكتابة التي ستكون شاهداً على القمع والاستبداد والقهر، وهو مؤمن بالعدالة والديمقراطية والحرية للجميع... ثم إن هذا البطل بطل جلجلي، يصعد الجبل وصليبه فوق كتفيه، مثله مثل المسيح يتلقّى العذاب والشتم، دونما ذنب واضح اقترفه... ولكن ثمة فروقاً بين الأبطال، فإذا كان (رجب) قد سقط في ((شرق المتوسط)) ووقَّع، فإنَّ (طالع) و (عادل) لم يسقطا في (الآن... هنا) ولم يوقِّعا. وإذا كان (رجب) و (طالع) قد ماتا، فإن (عادل الخالدي) لم يمت. ولماذا يموت؟ أليس هو منسوباً للخلود ومشتقاته، (الخالدي)؟ فالخلود سمة من سمات هويته، كما هو سمة من سمات نسبه.‏
                  وقد استنكر الناقد (كما أبو ديب) الضجة العنيفة التي أثارها الكاتب، أو الأنا الساردة، على (رجب)، بسبب سقوطه وتوقيعه، إذ رأى في خروجه لفضح الاستبداد وذهابه إلى جنيف مهمة نبيلة وخطة ذكية لا يسوغ معها الندم والعودة مرة أخرى إلى السجن... وقد طالب هذا الناقدُ، الكاتب (عبدالرحمن منيف) أن يعيد كتابة رواية رجب ويحذف منها ما أسماه الخلخلة العميقة في بنيتها تلك -(انظر مجلة الناقد العدد 21 لعام 1990 ص 67). ولكن (منيف) لم يشأ إعادة كتابة (شرق المتوسط) بل كتب رواية جديدة أسماها (الآن... هنا) تشبه الأولى إلى حد كبير، ولكن تمتاز عنها بأنها كانت شاهداً على نضج التجربة، وغنى الفن، وصمود البطل، كما تمتاز أيضاً بظاهرة أخرى بارزة، أعني بها، ظاهرة التناص.‏
                  التناص في ((الآن... هنا)) خاصة:‏
                  منذ الصفحة الأولى يستشهد (منيف) بمقبوس من كتاب ((حياة الحيوان الكبرى)) للدميري، حول الشرطة، ومقبوس آخر من طبقات الشعراني، يقول المقبوس الأول: ((... عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: أُدخلتُ الجنّة فرأيتُ فيها ذئباً، فقلتُ: أذئبٌ في الجنّة، فقال: أكلت ابن شرطي، فقال ابن عباس: هذا، وإنما أكل ابنه، فلو أكله لرفع في عليين)) والمقبوس الثاني يقول، عن سفيان الثوري: (( إذا رأيتم شرطياً نائماً عن صلاة، فلا توقظوه لها فإنه يقوم يؤذي الناس)). وقد أتبع الكاتب ذلك بعبارةٍ فاه بها بطل رواية الأمل لمالرو تقول: ((أفضل ما يفعله الإنسان أن يحيل أوسع تجربة ممكنة إلى وعي))، وقد فعل الكاتب ما عنته تلك العبارة، إذ حوّل السجن إلى وعي، مستنكراً الظلم والاستبداد، معلياً شأن الحرية والكرامة والإنسانية.‏

                  والحق أن القسم الأول من هذه الرواية، هو الذي حفل بالتناص والنصوص الكثيرة، ومن أشكال ذلك، استغلاله للشعر في سرده كما في الصفحة (55) واستثماره لما تعنيه صخرة سيزيف (ص 56) واستشهاده بأبيات لطاغور (ص77) فها هنا يقول طاغور: (( الإنسان أسوأ من الحيوان حين يكون حيواناً، ولن يصبح الخطأ صواباً إنْ أصبح هو أقوى)) و ((نعيش في هذا العالم حين نحبّه)).‏
                  وثمة ما يدل علي اطلاع جيد على محاورات (لوقيانوس) (ص98) وإشارة إلى (ايلوار)، وأشعاره حول الحرية (ص117)، واستثمار لما جاء في كتاب الفرج بعد الشدّة، للتنوخي، من أدعية ترفع للواقع في ضيق (ص237)، ولأقوال لرامبو (ص 301) فقد قال رامبو مثلاً: ((قبل أن يمضي لا بدّ أن يعض بنادق الجلادين القتلة)). واستشهادات بقول (هاملت) (ص301-302) فـ (طالع) يكرر أقوال (هاملت) في إحدى مناجياته فيقول:‏
                  ((آه، ليت هذا الجسد الصلد يذوب‏
                  وينحلّ إلى قطرات من ندى‏
                  يا ليت الأزلي لم يضع شريعته‏
                  ضد قتل الذات، رباه، رباه))‏
                  وهناك أشعار للحطيئة ساقها الكاتب في (ص529)، واستشهاد بما علمه (ديكارت) للفرنسيين، وهو الأهم من منهج التفكير، فقد علمهم كلمة ((لا)). وثمة تناصات أخرى كثيرة منها مثلاً تناص مع أدب الكاتب ذاته، فقد شبّه المرأة العرجاء، التي جاء دورها بالجلد على الطاولة، بالعظيم الذي يمتطي البراق، أو بالخضر الذي يركب حصانه، ثم أضاف: ((ولا تختلف أيضاً عن متعب الهذَّال وهو يعتلي ناقته ويمضي)) ((الآن ... هنا ص 279)). والمعروف لقارئ أدب (منيف) أن (متعب الهذَّال) هو أحد شخصيات خماسيته ((مدن الملح)).‏
                  خاتمة:‏
                  وبعد، فإن الرسالة التي كان يبعثها (عبد الرحمن منيف) من وراء السطور، هي قبول الآخر، واحترام الاختلاف، وإعلاء شأن الحوار. فليس صحيحاً لأية سلطة في الدنيا أن تزعم بأنها تملك الحقيقة كاملة، أو الصواب والسداد كليهما، في الحكم وتصريف الأمور.. وقبل ذلك في الرؤية والقول والخطاب... ومن هنا كان لابد من إفساح الحرية للآراء الأخرى، وللمعارضة الديمقراطية المسؤولة، ولا بدّ من أن نتذكر في كل يوم، قولة (فولتير) الخالدة: ((قد اختلف معك في الرأي، ولكنني على استعداد لأن أبذل دمي من أجل حقك في الدفاع عن رأيك)).‏
                  فلو آمن حكام ((شرق المتوسط)) بحق الاختلاف والحوار، لما كان سجن سياسي، ولما كان تعذيب وجلد وإذلال وإزدراء لكرامة الإنسان، بل على العكس، لكان تقدم وتطور وازدهار، لأن هذه القضايا الأخيرة، في جانب من تكونها، هي ثمرة من ثمار الحرية والديمقراطية. وهذا كله يثبت أنه كما كان لأبطال كاتبنا هدف رسالة، في التخييل الفني، كان للمؤلف نفسه هدف ورسالة في الواقع الموضوعي... فالعلاقة بين البطل وصانع البطل قد تكون، أحياناً، قوية إلى حد التطابق، كما هي العلاقة بين (طالع) و(منيف)أو (عادل) و(منيف).‏
                  والحقيقة الأخيرة التي ينبغي الإشارة إليها هي أن الكتابة عن السجن السياسي حظيت بجهود روائية كثيرة غير جهد (عبد الرحمن منيف)، وقد ذكر الناقد (سمر روحي الفيصل) عدداً من الروايات العربية التي تحدّثت عن السجن السياسي قبل عهود الاستقلال، فكان منها وراء القضبان لأحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة، والعين ذات الجفن المعدنية، (1974) وجناحان للريح (1974) وكلتاهما لشريف حتاته، والقطار (1974) لصلاح حافظ، والعسكري، ليوسف ادريس. ومن الروايات التي ألفت بعد الحصول على الاستقلال: الهزيمة (1978) لشريف حتاته، والسجن (1972) لنبيل سليمان، ونجمة أغسطس (1974) لصنع الله إبراهيم، والمستنقعات (د. ت) لإسماعيل فهد إسماعيل، والحقد الأسود (1966) لشاكر خصباك، والوشم (1972) لعبد الرحمن مجيد الربيعي، والبصقة (1980) لرفعت السعيد، والفلسطيني الطيب (1979) لعلي فودة، ووراء الشمس (1975) لحسن مُحْتَسّب، والكرنك (1976) لنجيب محفوظ، والساحات (1987) لسالم النحاس- (انظر مجلة الناقد، بيروت ع 34 ص65). ويمكن أن نضيف إليها دائرة الاختناق لعمر بن سالم.‏
                  وهكذا، فإن موضوع هذه الروايات (السجن السياسي) موضوع هام للغاية، لذا خصص له المؤتمر الأول للابداع الروائي العربي، المنعقد بالقاهرة عام 1998، محوراً مستقلاً. وقد انتهى هذا المؤتمر ذاته إلى منح الروائي (عبد الرحمن منيف) جائزته الأولى، فما زاغ عن الصواب، وما انحرف عن المنتظر.‏
                  المراجع بحسب ورودها في الدراسة:‏
                  1- شرق المتوسط، لعبد الرحمن منيف، بيروت، ط4، 1981.‏
                  2- الآن... هنا، لعبد الرحمن منيف، بيروت، ط4، 1993.‏
                  3- الأشجار واغتيال مرزوق، لعبد الرحمن منيف، بيروت، ط4، 1981.‏
                  4- أعلام الأدب العربي المعاصر، لروبرت كامبل، بيروت، ط1، 1996.‏
                  5- مجلة الجديد في عالم الكتب والمكتبات، بيروت وعمان، العدد 12 لعام 1996.‏
                  6- عالم عبد الرحمن منيف الروائي، لصبحي الطعان، دمشق 1995.‏
                  7- مجلة البحرين الثقافية، المنامة، العدد 18 لعام 1998.‏
                  8- مجلة مواقف، بيروت، العدد 69 لعام 1992.‏
                  9- الرواية العربية: النشأة والتحول، لمحسن جاسم الموسوي، بيروت/ ط2/ 1988.‏
                  10- مجلة الآداب، بيروت، السنة 45 ع 9و 10 لعام 1997.‏
                  11- أسئلة الرواية، لجهاد فاضل، بيروت. د. ت.‏
                  12- الرمزية في أدب نجيب محفوظ، لفاطمة الزهراء محمد سعيد، بيروت 1981.‏
                  13-النمور في اليوم العاشر، لزكريا تامر، بيروت 1978.‏
                  14- مجلة النهج، قبرص العدد 18 لعام 1988.‏
                  15- أساليب السرد في الرواية العربية، لصلاح فضل ، الكويت 1992.‏
                  16- مجلة الناقد، بيروت العدد 21 لعام 1990. مقال كمال أبو ديب ((لعنة شرق المتوسط)).‏
                  17- مجلة الناقد، العدد 34 لعام 1991 مقال سمر روحي الفيصل عن ((طقوس السجن السياسي)).‏
                  ¦‏
                  ببلوغرافيا عبد الرحمن منيف (غير مكتملة):‏
                  آ- الكتب:‏
                  1- عالم عبد الرحمن منيف الروائي، لصبحي الطعان، دمشق 1995.‏
                  2-التقنيات السردية في روايات عبد الرحمن منيف، (رسالة ماجستير) لعبد الحميد المحادين، جامعة البحرين، نوقشت عام 1997.‏
                  3-الكاتب والمنفى: مقالات عن أدبه وحوارات ومقابلات معه، بيروت، 1992.‏
                  4- البطل الملحمي في روايات عبد الرحمن منيف، لأحمد جاسم الحميدي، دمشق 1987.‏
                  ب- الدراسات الجزئية عنه في الكتب والمجلات:‏
                  1- صلاح فضل: في كتابه أساليب السرد في الرواية العربية، الكويت 1992.‏
                  2- روبرت كامبل: أعلام الأدب العربي المعاصر، بيروت 1996، مجلد 2.‏
                  3- جورج طرابيشي: الأدب من الداخل، بيروت 1978.‏
                  4- شاكر الانباري: مدن الملح، رواية متعددة المحاور، مجلة الناقد، بيروت ع42/1991.‏
                  5- يوسف ضمرة: التقاليد الملحمية في رواية مدن الملح، مجلة الموقف الأدبي، دمشق (العدد...).‏
                  6- جورج طراد: ((هموم الرواية بالتقسيط))، الناقد ع61 لعام 1993.‏
                  7- محمود حيدر: خجل الروائي وجاذبية السياسة، مراجعة لكتابة الديمقراطية أولاً... الديمقراطية دائماً، مجلة الناقد، العدد 49 لعام 1992.‏
                  8-محسن جاسم الموسوي: الرواية العربية، النشأة والتطوّر، بيروت ط2 1988- (دراسة لشرق المتوسط، ولعالم بلا خرائط، ولسباق المسافات الطويلة).‏
                  9- ثامر غزي، القص والتبئير في شرق المتوسط، مجلة كتابات معاصرة، بيروت العدد 23.‏
                  10- كمال أبو ديب: لعنة شرق المتوسط، مجلة الناقد، بيروت، العدد 21 لعام 1990.‏
                  11- سلمان حسين: 1ً- العنف الشعري في قصة حب مجوسية، في كتاب الطريق إلى النص، دمشق 1997.‏
                  2ً- عالم بلا خرائط، مجلة إلى الأمام، العدد 103 2/1991.‏
                  12- أسعد فخري: الأشجار واغتيال عبد الرحمن منيف، مجلة المعرفة، دمشق 306-307/1998.‏
                  13- ناجي المعموري: حين تركنا الجسر، مجلة الأقلام، بغداد، ع4 لعام 1978.‏
                  14- شجاع العاني: عبد الرحمن منيف روائياً -(انظر صبحي الطعان م.س ص235).‏
                  15- مجلة الجديد في عالم الكتب والمكتبات (محور حوله) العدد 12 لعام 1996.‏
                  16- مجلة المشرق، بيروت، دراسة لبشيرة مؤمن العوف، ج1/ لعام 1994،وج2/ 1995.‏
                  الحوارات والمقابلات:‏
                  1- حوار مع سلوى النعيمي: نشر في كتاب عبد الرحمن منيف ((الكاتب والمنفى)) بيروت 1992 ص ص149-180، وظهر للمرة الأولى في مجلة الكرمل 1982.‏
                  2-حوار مع يمنى العيد: نشر في الكاتب والمنفى ص ص181-201، وظهر من قبل في مجلة الطريق 1985.‏
                  3-حوار مع هاشم قاسم: في الكاتب والمنفى ص ص202-212، ومن قبل في مجلة النهار العربي والدولي 1985.‏
                  4-حوار مع كمال عيد: في الكاتب والمنفى ص ص 213-225، ومن قبل في مجلة بيروت المساء 1986.‏
                  5- حوار مع جميل حتمل: في الكاتب والمنفى ص ص 226-249، ومن قبل في مجلة الكفاح العربي 1987.‏
                  6-حوار مع فيصل دراج: في الكاتب والمنفى ص ص 250-330، ومن قبل في مجلة النهج العدد 18/1988.‏
                  7- حوار مع جمعة الحلفي: في الكاتب والمنفى ص ص 331-335، ومن قبل في مجلة الحرية 1991.‏
                  8-حوار مع اسكندر حبش: في الكاتب والمنفى ص ص356-373، ومن قبل في جريدة السفير 18 و 19/9/1989.‏
                  9- حوار مع حليم بركات: في الكاتب والمنفى ص ص374-399، ومن قبل في مجلة مواقف بيروت، العدد 69 لعام 1992.‏
                  10- حوار مع نعمة خالد: في مجلة الجديد في عالم الكتب والمكتبات، بيروت العدد 12 لعام 1996.‏
                  11-حوار مع ماجد السامرائي: في مجلة الآداب، بيروت، السنة 45 العدد 9 و10 لعام 1997.‏
                  12-حوار مع ممدوح عدوان: في مجلة الهدف، قبرص العدد 319.‏
                  13- حوار مع جهاد فاضل: في مجلة الفكر العربي المعاصر، 1982 ثم في كتاب فاضل نفسه: ((أسئلة الرواية))- (د.ت).‏
                  14- حوار معه، منشور في مجلة الثقافة، تونس 1980.‏
                  15- حوار معه، في مجلة المدى، دمشق 1993.‏
                  16-جريدة الأسبوع الأدبي، دمشق 2/10/1986.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

                    أحلام مستغانمي في روايتَيْها: " فوضى الحواس" و" ذاكرة الجسد"
                    ((إن الحب والموت يغذيان وحدهما كل الأدب العالمي، فخارج هذين الموضوعين لايوجد شيء يستحق الكتابة)) -(فوضى الحواس 195).‏
                    بهذه العبارات قدّمت الكاتبة الجزائرية (أحلام مستغانمي) -حاملة شهادة الدكتوراة في علم الاجتماع من السوربون -مفتاح الولوج إلى عالمها الروائي، فلقد جرّبتُ أن أمتحن قضايا السرد في روايتها الأخيرة ((فوضى الحواس))- الصادرة عن دار الآداب ببيروت بطبعتها الرابعة عام 1998- وأفلسف أحداثها، وحواراتها، وسلوك شخصياتها، ومفارقاتها، ومثاقفاتها، فوجدت ذلك كله يستجيب لمفاهيم الحدثين الكبيرين: الحب والموت، ولشيء ثالث هو الوطن. فأين هو الحب في الرواية؟ وما ملابساته؟ وما مغزاه؟ وأين هو الموت؟ وما ملابساته؟ وما مَغْزاه؟ وأخيراً أين هو الوطن رمزاً وحقيقةً في الرواية؟. فالحب والموت والوطن هي المحاور الثلاثة التي تمثل أهم أساسيات الخطاب الروائي عند أحلام مستغانمي، وإن كان هناك محاور أخرى سترد في حينها.‏
                    أ- الحب:‏
                    من المعروف في تاريخ الأدب الروائي، عربياً وعالمياً، أنّ أي عمل فيه يُجَرَّدُ من قصة حب، مهما كانت صورتها وأحداثها ودلالاتها، قد يفقد جاذبيته عند القّراء، فالحبّ فعل كوني، وقيمة إنسانية، بهما تستمر الحياة، وعليهما يقوم الفن، أو أكثر آثاره، حتى إننا نملك الزعم أن حياةً وفناً، لا حبَّ فيهما، غير جديرين بالعيش والوجود والتذوّق...‏
                    ولكن حبّ الذات الساردة في ((فوضى الحواس)) كان حباً عبقرياً وفذّاً ومختلفاً، فقد بدأت الكاتبة السطور الأولى من روايتها "فوضى الحواس" بقولها: ((عكس الناس كان يريد أنْ يختبر بها الإخلاص، أَنْ يُجرِّب معها متعة الوفاء عن جوع، أن يربِّي حباً وسط ألغام الحواس)). فنحن منذ فاتحة هذا العمل إزاء حب غريب معاكس لحب الناس، هدف أحد طرفيه، اختبار الإخلاص، وتجريب متعة الوفاء مع الحرمان. وهو حبّ ينبغي أن ينبت وينمو رغم هتافات الجسد الهادرة... وإذا نزلنا من الحلم إلى الواقع، وتصوّرنا المرأة وطناً، كما أوحت لنا الرواية، أبْدَلْنا قولَنا السابق بالآتي: على الحب أن ينمو ويزدهر رغم كل ألوان الكراهية والعنف والخراب، التي يمور بها واقع الجزائر اليوم ويطفح. إنَّ شأن الوطن كان هاجس الكاتبة في روايتها الأولى ((ذاكرة الجسد))، وهو هاجسها أيضاً في روايتها الثانية ((فوضى الحواس))، التي تعد الجزء الثاني من مشروعها الروائي، الذي ربّما لم ينتهِ هنا. وسوف نرى وشائج قوية بين العملين المذكورَيْن تجعل قراءة العمل الأخير بمعزل عن العمل الأول مُتَعذِّرة.‏
                    وقد بدأت الكاتبة عملها الأخير((فوضى الحواس)) بالإعلان عن مخاض النص الإبداعي من خلال فصلها الأول الذي تذكر فيه أنها كتبت قصة قصيرة بعنوان ((صاحب المعطف)) قدّمت فيها إرْهاصات كثيرة لما سيأتي في القصة الرئيسية، فكانت هذه القصّة كمقدّمة للأخبار التي سيأتي تفصيلها فيما بعد، أو مثل صورة مصغّرة عن مجمل الرواية التي سيلي تكبيرها لاحقاً.. وقد فعل فعلها هذا كتّاب آُخَر فأرنَست همنغواي طوّر قصة قصيرة كان كتبها سنة 1936 لتصبح رواية ((الشيخ والبحر))- (انظر بحث في تجربة الكتابة ص112).وحنا مينه أيضاً طور قصة المرصد القصيرة، لتصبح رواية كاملة قائمة برأسها هي (المرصد) ذاتها.‏
                    واختارت الكاتبة أسلوب المزج بين (الأنا) الساردة، والـ (هي) العاشقة، فهي مرة تراقب العاشقين في قصّتها، ثم تتلبَّس دور العاشقة فيما بعد، فبينما هي تشاهد فيلماً سينمائياً لبطلَيْ قصتها الخياليين، يأتي رجل ليجلس جوارها، ومن خلال كلمتين اثنتين تفوّه بهما في السينما، عرفَتْهُ، أو كادتْ، فهو لم يقل سوى ((قطعاً)) و ((طبعاً)). وهاتان الكلمتان تدلاّن على القَطْع والحَسْم، وكان الحبيب الأول في رواية ((ذاكرة الجسد)) يحبّ القطع والحسم، لذا خامرها الشك في أن يكون هو ذاته الذي ساقه القدر إلى السينما ذاتها، لمشاهدة الفيلم ذاته، وليكمل القصة التي بدأت في الجزء الأول من المشروع الروائي. وفي حيلة فنية راحت الكاتبة تقول: ((لم يكن مهماً لحظتها أنْ تكون تلك المرأة التي جلست إلى جواره ((هي)) أم ((أنا))، فقد حدثت الأشياء بيننا كما أرادها في عتمة قاعة سينما)) -(فوضى الحواس59 ص). ولئن كان الراوي في ((ذاكرة الجسد)) قد جاء بصيغة المتكلم المذكّر، فإنه جاء في ((فوضى الحواس)) بصيغة المتكلم المؤنَّث. وكانت العملية السردية تتم من زاويتين: الرؤية من الأمام والرؤية من الخلف. ومن المعروف أن ضمير المتكلم في السرد- كما يرى عبد الملك مرتاض- يجعل الحكاية المسرودة أو الأحدوثة المروية مندمجة في روح المؤلف فيذوب الحاجز الزمني الذي ألفناه بين زمن السرد وزمن السارد... ومن شأن ضمير المتكلم أيضاً أنه يستطيع التوغل في أعماق النفس البشرية، فيعرّيها بصدق ويكشف عن نواياها بحق... وهو أيضاً يذيب النص السردي في الناصّ، ويجسّد الرؤية المصاحبة كما يقول تودوروف. فكل معلومة سردية، أو كل سر من أسرار الشريط السردي، يغْتدي مُتَصاحباً مع الأنا السارد، مع الأنا المستحيل إلى مجرد شخصية من شخصيات هذا الشريط السردي. (انظر: في نظرية الرواية، لمرتاض ص184- 185).‏
                    ومن الملاحظ أن قصة الحب التي بدأت في ((ذاكرة الجسد)) قد ساقها القدر، وأن تتمتها في ((فوضى الحواس)) قد ساقها القدر أيضاً. تقول الكاتبة هناك: ((كان يوم لقائنا يوماً للدهشة، لم يكن القدر فيه هو الطرف الثاني. كان منذ البدء الطرف الأول))- (ذاكرة الجسد 59). وكلمة ((طبعاً)) التي قالها خالد في قاعة السينما، هي الكلمة ذاتها التي أجاب بها (أما) أو (حياة)، والاسمان لمسمّى واحد، عندما سألته ((هل ستكون غداً في قاعة الرسم)) في الرواية الأولى (ص56). فقاعة السينما في ((فوضى الحواس)) كانت معادلاً بديلاً لقاعة الرسم في باريس في ((ذاكرة الجسد)). وكلا المكانين حيّز للفن. وهكذا تتناظر الحيوز الروائية في الجزأين. والمعروف أن (خالداً) و (حياة) قد التقيا في الجزء الأول في (باريس) أثناء معرض لرسوم خالد، وقد زارت حياة هذا المعرض بطريق الصدفة. فالصدفة والقدر هما اللذان جمعا بين العاشقين. وهما أيضاً اللذان كانا وراء بعض أحداث الجزء الثاني، كمقتل السائق (أحمد) عند جسر في (قسنطينة)، واللقاء الثاني بالبطل في العاصمة (الجزائر).والحق أن للقدر والمصادفة منزلتهما في العمل الروائي، وقد عنون (نجيب محفوظ) أول رواية له في مرحلته التاريخية بـ "عبث الأقدار"، وقال في شأن (القدر) أو (المصادفة): ((إنه كلمة مهضومة الحق، يظن بها التخبط والعمى. ومع هذا فهي المرجع الوحيد لأغلب السعادات، وأجل الكوراث، فهي كالقضاء المقنّع، وإنها كالعاقل المتغابي))- (انظر كتاب محفوظ: أتحدث إليكم ص115) ومن اللافت للانتباه أن لشكيب الجابري رواية بعنوان " قَدَرٌ يلهو " أما مطاع الصفدي فعنون إحدى رواياته بـ " جيل القدر" .‏
                    بيد أن (خالداً) هنا في ((فوضى الحواس)) كائن حبري أنهضته الكاتبة من بين سطور الرواية الأولى، لتخوض معه مغامرات حب وعشق وجنس، تقول من خلالها أشياء كثيرة، أو لنقل بعبارة أخرى، جاء خالد ليكون رمزاً لفكرة رئيسية، ولاسيما أنه كان أحد أبطال حرب التحرير الجزائرية في الرواية الأولى، ويعمل تحت قيادة والد الذات الراوية.‏
                    لقد أرهصت الكاتبة في القصة القصيرة في ((فوضى الحواس)) للأحداث الجسام التي ستتناولها في القصة الكبرى في الرواية كما ذكرنا. ففي القصة الصغرى بداية لحبٍّ فذٍّ عجيب ومعجز، سنرى تفصيلاته في القصة التفصيلية الثانية. وفي الأولى إعلان عما في ذاكرة الذات الراوية من تكريم للعسكريين الذين كتبوا بدمائهم حرية الجزائر وماضيها القريب المشرق، ثم، ويا للغرابة! راحوا يكتبون، بفسادهم وانحرافهم وجشعهم، راهنها الباهت الحزين، وحاضرها الذي يخون ماضيها...! لقد عرفنا أن الذات الراوية قد تزوّجت من (سي مصطفى) الضابط الذي يرمز للسلطة الراهنة في الجزائر. وقد كانت ابنة للمناضل الشهم العنيد (سي الطاهر) -صديق الفنان التشكيلي (خالد). الذي أحبّها حباً جارفاً إثر لقائهما في باريس... ولما قرر عمُّها (سي الشريف) أن يزوجها من الضابط، حزن خالد حزناً عميقاً لهذا الحدث، على الرغم من، اضطراره لحضور حفل زفافها.. وهاهو ذا (خالد) يُماهي بين حياة (العروس) والجزائر (الوطن). فيقول في لغة رمزية رائعة متحدثاً عن ثوب الفرح الذي لبسته حياة: ((حزني على ذلك الثوب، حزني عليه كم من الأيدي طرَّزَتْهُ، وكم من النساء تناوَبْنَ عليه، ليتمتع اليوم برفعه رجل واحد، رجل يلقي به على كرسي كيفما كان، وكأنه ليس ذاكرتنا كأنه ليس الوطن، فهل قدر الأوطان أن تعدّها أجيال بأكملها لينعم بها رجل واحد؟)) - (ذاكرة الجسد ص362).‏
                    فهل نجد في هذه العبارات فرقاً بين (حياة) من جهة، و(الجزائر) من جهة ثانية؟ أو فرقاً بين عريسها (سي مصطفى) و(العسكر) الذين تسلموا السلطة، واستبدوا بالوطن، ونهبوا خيراته وتمتعوا بملذاته؟ إنَّ تاريخ الجزائر، (أو ثوبها)، طرّزته أيد كثيرة، تماماً كثوب فرح (حياة). لذا فنحن نرى في داخل ثوب العروس الإنسانة، إهابَ وطنٍ بأسره، هو الجزائر.‏
                    لقد كان هذا كله في الرواية الأولى (ذاكرة الجسد)، أما إذا انتقلنا إلى الرواية الثانية (فوضى الحواس) ونظرنا في الإيقاع الخفي مابين مقدمتها وخاتمتها، فإننا لانفارق موقع الراوية، ولا ننفصل عن رؤيتها لشكل الحب وملابساته ومغزاه. فالكاتبة ترى إلى الحب وقد اقترن بالحرمان، وتراه إخلاصاً لمعنى الوطنية والتاريخ والذاكرة. نعم عرضت الرواية الثانية قصة حب (خالد) لحياة، رغم زواجها من (سي مصطفى) الرائد أولاً، ثم العميد في الجيش ثانياً، وصوّرت مغامرة عشقية لها معه... فهل كان حبّها هذا فعل خيانة زوجية؟ لاشك أن الأمر على غير مايبدو في الظاهر، فنحن إزاء كائن ورقي هو (خالد)، وإزاء فعل عشقي ينفتح على الوطن بأسره،وإزاء مفهوم آخر لمغامرة العشق تقول: إن (الجزائر) أو (حياة) تروم التوحد مع تاريخها المشرِّف، وتصبو إلى الاندماج في ذاكرته البهية، وماضيه العظيم، الذي كان الناس فيه يحبّون الجزائر، رغم جوعهم، ويضحون بأرواحهم، تكريماً للحب، وإعلاء لشأن الوطن، على حساب اللذات العابرة. ففي لغة تجمع بين الواقع والحلم قال البطل مخاطباً البطلة أو الذات الراوية:‏
                    ((بيننا وبين المتعة مفتاح لا أكثر، ولكنني أرفض أن يتحكم هذا المفتاح فينا، وإلا فسيكون في هذا إهانة للحب... عندما نبلغ ذلك القدر المُخِيف من اللذة، فكل متعة لا تزيدنا إلاّ جوعاً، وعلينا أن نجرّب لذة الامتناع، لنتصالح مع أجسادنا... لنعرف كيف نعيش)).‏
                    وعندما تقاطعه (هي) بقولها: ((لا أفهم لما أغريتَني بالخيانة. إذا كنتَ ستطالبني بالوفاء عن جوع))، يردّ ساخراً: ((أنت تسيئين فهمي مرة أخرى، أنا لم أطالبك بشيء؟ أعددتك للإخلاص دون أن أطالبك بأن تكوني مخلصة لي)) - (فوضى الحواس324). فالكاتبة إذن تَعْبُر مِنَ الذات إلى الجماعة، وتنتقل من الحالة الخاصة إلى الحالة العامة عندما توحي بضرورة الإخلاص للإخلاص، والتجرّد للتجرّد، فليكن الحب لعامة الجزائر، ولتاريخ الجزائر، وليكن حباً فوق المصالح والأنانيات، وفوق الملذات والشبهات، فبهذا تُبْنَى الأوطان...‏
                    إن الرموز والمعاني لتكتتف بقوة علاقة الحب بين الذات الراوية وحبيبها، فقد كان هذا البطل المحبوب ((كائناً ورقياً)) عاشت معه البطلة 400 صفحة، هي صفحات روايتها الأولى ((ذاكرة الجسد))، ومايقارب الأربع سنوات. وهاهي ذي تحبّه بعمق، من جديد، لأن أبطال الروائيين بحاجة إلى من ابتدعهم كما تقول الكاتبة ((لأنهم لايملكون غيرهم على وجه الأرض)) -(فوضى الحواس 272). ألم يقل (حنا مينه) أن أبطال الروايات هم أحياء تماماً بالنسبة للقراء، وهم أكثر حياة بالنسبة للمبدعين؟ -(هواجس في التجربة الروائية ص111).‏
                    لقد حوّلت الكاتبة بحبّها، الحُلْمَ إلى واقع، والصورة المجردة إلى كائن حي يحسن القُبَل ويشتهي ما يشتهيه الأحياء في الحياة، فعكست الآية في كتابتها، فبدلاً من أن تنقل الواقع إلى رواية، نقلت الرواية إلى واقع.. ولم تكن بذلك تفعل شيئاً غريباً عن عالم الفن والأدب، ففِعْلها هذا شبيه بفِعْلِ (بيجماليون) الذي أبدع تمثالاً من رخام لامرأة تدعى (جالاتيا)، ثم راح يصلي للآلهة أن تهب الحياة لتمثاله، فاستجابت الآلهة، وتزوّج (بيجماليون) من (جالاتيا)! بَيْدَ أن الكاتبة هنا، والحق يُقال، لم تَبْقَ في حدود الأسطورة القديمة، وإنْ أسطرت أدبها، بل حققت المعادلة النقدية الصعبة التي لخًّصها الناقد الروسي (خرابتشينكو) الذي أتذكّر أنه قال في كتابه ((ذات الكاتبة الإبداعية)): إن الفكر الفني دون خيال عقيم، بمقدار، ماهو الخيال عقيم دون واقع. فلم يبقَ محبوبُها كائناً من روق بل حَوَّلته، من خلال لعبة فنية، إلى معشوق من لحم ودم، يتقن فن القُبَل، ومابعد القبل (انظر ص287و 288). وتبدو مأثرة (مستغانمي) هنا في قدرتها على اختيار المفردات التي تقع في المنطقة الوسطى مابين الواقع والحلم، والخيال والحياة، بحيث توهم بأن مايجري قابل للوقوع، ومحتمل الحدوث، وإن كان في أصله من نسج الخيال. كما تبدو قدرتها في نقل مكان ممارسة الحب إلى العاصمة (الجزائر) بعد أن كانت الأحداث في مجملها تتمُّ في (قسنطينة). ومن المعروف أن تغيير الأمكنة في الرواية يوحي بعبْرة أو أمثولة يريد الكاتب نقلها إلى المُتلقِّين.والعاصمة هي قلب الوطن، وهي مركز إدارته، واتخاذ القراءات المصيرية في تاريخه.‏
                    ومن مزايا الحب في هذه الرواية أنه يتكشف عن أنّ مَنْ أحبَّته الراوية كان شخصاً آخر، غير الذي تبحث عنه، فذلك الكائن الحبري يقول: ((أجمل حب هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر)) -(ص347). ولأن الذات الساردة مصابة بفوضى الحواس، وهو العنوان الذي اختارته لروايتها، لم تكن تعي أن ماعاشته من مغامرات كان مع صديق حبيبها (عبد الحق)- (ولنتأمل دلالة هذا الاسم: عبد الحق) -وأن الشقة التي شهدت مغامرتها معه، كانت شقة (عبد الحق). وبعد هذا تتساءل هل ماعاشته مع بطل القصة كان أجمل حقاً مما كان مفترضاً أن تعيشه مع شخص آخر كانت تبحث عنه، ففي نهاية كل حب نكتشف أننا في البدء كنا نحب شخصاً آخر. وعليه فعلاقة الحب لدى الكاتبة هي ثلاثية الأطراف وليست ثنائية. وذلك لأن في قصص الحب الثنائية كثيراً من البساطة والسذاجة، التي لاتليق برواية، لذا كان يلزمها رجل يعيش بمحاذاة قصة قبل أن يصبح هو بطلها ((لأن هذا هو منطق الحب في الحياة، نحن نخطئ دائماً برقم)). وقد عاش (زياد) الشاعر الفلسطيني بمحاذاة قصة حبها مع خالد، وعاش (عبد الحق) بمحاذاة قصة حبها لخالد.... وإذا كان هذا هو هذا، فهل نستطيع التنبؤ بأن الكاتبة ستعود من جديد لكتابة رواية ثالثة يكون بطلها (عبد الحق)؟؟ فقد تركت روايتها (فوضى الحواس) مفتوحة غير منتهية، إذ ختمتها بكلمة (عندما) يليها ثلاث نقاط لانعرف ماذا وراءها، علماً بأن الكاتبة قد ردّت على مَنْ قال لها: ((الأسود يليق بك)) بقولها هذا يصلح عنواناً لرواية ثانية (ص357).‏
                    ب- الحب والموت:‏
                    ولكن المَيْسم الأعمق في حب الذات الراوية هو أنه جاء ليكون مكافئاً للموت. أو لنقل جاء، على الأقل، ليفتح نافذة في جدار الموت والدمار. أو ليكون بلسماً لجراح الوطن وخرابه.‏
                    فحب (حياة) -(ولنتأملْ رمزية هذه الكلمة)- لحبيبها (خالد) يمثل عملاً بطولياً تقاتل به الذات الساردة أعداء الحياة. ومن قصر النظر أن نرى في مضاجعة الذات الراوية لحبيبها (خالد) عملاً حسياً حقيقياً، فنحن إنْ فعلنا نكنْ كَمَنْ يقصُّ جناحيَ الفن الروائي، ونعدم قدرته على التحليق، وتقديم المعاني.. وآية ذلك أننا إذا رحنا نتابع (البطلة) في طريقها إلى شقة حبيبها، وجدناها تقارن بين هيئتها، وهيئة (جميلة بوحيرد). فكلتاهما تقوم بعمل بطولي، ففي حين كانت (جميلة بوحيرد) تلبس لباساً أوربياً سافراً في جزائر الخمسينيات المُحافِظة، لتخادع الفرنسيين، ولتؤمّن النجاح لعمليتها الفدائية المشهورة في مقهى (ميلك بار)، تأتي بطلة ((فوضى الحواس)) في ثياب التقوى (العباءة والشال)، تمويهاً، لتقوم بأكبر عملية تقوم بها امرأة في جزائر التسعينيات. وهي عملية حب.. وهذه هي أهم المفارقات الجميلة التي اكتنزتها الرواية...!‏
                    فبالحبِّ إذن تُقاتِل البطلة صانعي موت الجزائر وخرابها، وبالحب تكافح القتل والقنص والدمار.. وهي، لأنها عاشقة، تشعر بالأمان، بدلاً من الخوف، وسط عشرات الرجال ذوي الأزياء العجيبة، والملامح العدوانية، والمشغولين عن همومها، بهموم الآخرة، مرددين هتافات وشعارات دينية وسياسية...ألم تقل الروائية على لسان البطل المحبوب:((يلزمنا كثير من الحب‏
                    لنثأر به من الموت؟)) - (فوضى الحواس 296).‏
                    إن صورة رمزية توازي بقوة مشهد البطلة (حياة) العاشقة، وهي تتخلل الحشود الحاقدة ذات الملامح العدوانية، صورة رمزية تقول، بالإيماء، إنّ الحب وحده هو مصدر الأمن والأمان، عندما يتغلغل في مشاعر الحقد والعدوان. فهي تشعر بالأمن لأنها تحب، وليس لأنها تلبس، تمويهاً، العباءة والشال. فهذه مظاهر خداع ليس إلاّ، أما الصدق والحب فهما في العمق والقلب..ولم تكف الكاتبة عن تأكيد هذه الفكرة، فإذا ماانتقلنا إلى الصفحات الأخيرة من روايتها بدت لنا البطلة أو (الذات الراوية) تلبس السواد، وتقف في المقبرة، وتعلن بوضوح أن الحب وحده يملك القدرة الخارقة على جعل كل شيء جميلاً حتى لقاء عاشقين على مقبرة)) -(فوضى الحواس ص360).‏
                    وتزداد الصورة جلاء إذا دققنا أكثر في جزئياتٍ روائيةٍ أخرى، فحياة التي كانت تقترن بضابط برتبة عميد في زواج ثانٍ له، كانت عاقراً لاتنجب، وبما أن (حياة) هي رمز للجزائر كما ذكرنا، ففي الوسع أن نفهم أن الجزائر التي يحكمها رجال عسكريون، اتّصفوا بالفساد وعدم الإخلاص، ستكون عاقراً أيضاً لاخير فيها ولا ثمار، لأنَّ حكم هؤلاء فاسدٌ لاخيرَ فيه ولا ثمار... ! إن زوج الذات الساردة كان- كما تصفه الكاتبة- رجلاً لاخيال له. كانت تتمنّى أن يمارس الحبَّ معها ببزّته العسكرية، بكل ماترمز إليه من شرف وشهامة ونُبْل وفروسية، ولكنه لم يفعل يوماً..! ولهذا فإنها تخونه في مغامرة عشقية مع كائن حبري، قُدّم لنا، في وهم الكاتبة، رجلاً يُعارض السلطة الغاشمة ويعاديها، من خلال السلاح الذي يتقن استخدامه، فهو مصوّر صحفي أراد تصوير شرطي يصوّب بندقيته إلى الأبرياء في شارع في الجزائر، دون أن يعرف هل هم مذنبون أم لا؟ ولهذا أُطْلِقتِ النار على ساعده الأيسر فشُلّت، وكذلك هددّه المتطرفون ببَتْر ساعده الأيمن إنْ تابع نَقْدهم في عموده الصحفي، فهو إذن بينْ نارين: نار السلطة ونار المتطرفين الذين يحاربون في ضوء ذهنية خاصة.‏
                    من هنا تبرز رؤية الكاتبة (أحلام مستغانمي) لمستقبل (الجزائر)، فهي تراه في منطقة وسطى تقع بين نزاهة العسكريين وسلام المتديّنين... وليس أدل على ذلك من تمجيد الكاتبة للرئيس الجزائري الشهيد (محمد بوضياف) الذي كان، كأبيها، بطلاً من أبطال حرب التحرير الجزائرية، والذي نُكّل به وسجن ونفي أخيراً إلى (المغرب)، ثمانية وعشرين عاماً بعد الاستقلال.. فدعاه العسكريون من منفاه ليتسلّم السلطة، فجاء (محمد بوضياف) وفي ذهنه مافي ذهن الكاتبة، ومافي ذهن حبيبها المصوّر الصحفي، جاء ليحاسب السلطة الفاسدة في الجزائر ويحدّ من طغيانها، فدفع حياته ثمناً لفساد الذين سمَّتْهم الكاتبة: بعلي بابا والأربعين حرامياً...‏
                    ولكن الكاتبة شدّدت النكير أكثر فأكثر، على الطرف الآخر الذي يمارس القتل في الساحة الجزائرية، والذي يتغنّى بالديمقراطية، لا احتراماً لها، بل لأنها مطية لوصوله إلى السلطة، حتى إذا وصل إليها تنكّر لها وأنكرها، وأنكر الوطن بأسره. ومن هنا تأتي قولة (بوضياف) ((إنه لو خيّر بين الديمقراطية والجزائر، لاختار الجزائر)) لتكشف عن شكوكه الكبرى بالطرف المتطرف في بلده. فهو لاينحاز إلى الجانب الذي يتخذ الديمقراطية مطية لتدمير الجزائر، بل ينحاز إلى تاريخ هذا الوطن النقي البهي. وكذلك تنحاز إليه الكاتبة التي كشفت لنا من خلال الذات الساردة أن حبيبها كان واحداً من أعضاء المجلس الاستشاري الذي شكله (محمد بوضياف) لتقرير شأن الجزائر الأسلم الأصوب. بيد أن يد الجريمة اغتالته من الخلف، فانهار حلم الجزائر، وحلم بطلة الرواية، وحلم كاتبتها على حد سواء.‏
                    جـ- الموت والوطن:‏
                    إن بصيرة الناقد لترى أن الجزائر تكتب تاريخها الحديث في هذه الرواية؛ فثّمة قصة رمزية، وقصة سياسية في الوقت ذاته، كلٌّ منهما تكتب الأخرى. وهما تَبْدُوَان قصتين متوازيتين، فعلى الصعيد الكتابي نحن أمام عاشقة من لحم ودم تكاد تكون هي الجزائر ذاتها، تهب ذاتها لرجل يندّد بالسلطة الغاشمة والفاسدة، وينتقد التطرّف الذي اتخذ من القتل والتدمير ديناً ومسلكاً.. فها هنا فكرة تعانق فكرة. وعلى صعيد الواقع والتاريخ نحن أمام رجل في الثانية والسبعين هو (محمد بوضياف) أحب الجزائر بإخلاص، وجاهد، وضحّى بمتع الحياة، ثم أفاق، بعد الاستقلال، ليجد نفسه نزيل سجن الوطن، كما كان قبل الاستقلال نزيل سجون فرنسا. ثم ليجد ذاته ملاحقاً ومطروداً ومنفياً إلى بلد مجاور، أقام فيه نحو ثلاثين عاماً كاد الوطن خلالها ينساه. ثم حين جاء النداء ((إن الجزائر بحاجة إليك)) أبى إلا أن يستجيب، لأنه رأى في نفسه المنقذ والمخلص، فتحامل على نفسه، وكظم جراحه، وأعلن أن الكراهية لايمكن أن تبني وطناً، وغفر غفراناً واسعاً لمن أساء إليه، وجاء للاصلاح، ولكنه اكتشف أنه جاء ليكون واجهة فقط تغطي على النهب والسلب والاستبداد والتخريب، فاستنكر ذلك، ورام محاسبة الفاعلين ممن كانوا حوله، فقتلوه على عجل بعد 166 يوماً من حكمه... ولهذا لاجرم في أن تصدّر الكاتبة روايتها ((فوضى الحواس)) بهذه الكلمات الدالة: (إلى محمد بوضياف رئيساً وشهيداً، وإلى سليمان عميرات الذي مات بسكتة قلبية وهو يقرأ الفاتحة على روحه فأهدوا إليه قبراً جواره.... إلى ذلك الذي لم يقاوم شهوة الانضمام إليهما، فذهب ذات أول نوفمبر بتلك الدقة المذهلة في اختيار موته لينام على مقربة من خيبتهما... من وقتها ورجال أول نوفمبر قَهْراً يرحلون... من وقتها وأنا إلى أحدهم أواصل الكتابة.. إلى أبي مرة أخرى)). ومما يلاحظه المرء هنا أن الكاتبة عند انتقالها إلى الكلام على (بوضياف) في الرواية تنضو ثوب الفن، وتنزع قفاز الرواية، لصالح لغة تاريخية تقريرية غابت عنها المواربة والرمز، وقد ظهرت وكأنها نسيت ماسبق أن أعلنتْ عنه، وهو أن "الكاتب يعيش على حافة الحقيقة، ولكنه لايحترفها بالضرورة. ذلك اختصاص المؤرخين، إنه في الحقيقة يحترف الحلم، أي يحترف نوعاً من الكذب المحبب. والروائي الناجح هو رجل يكذب بصدق مدهش، أو هو كاذب يقول أشياء حقيقية".. فالكاتبة عند حديثها عن (بوضياف) لم تحترف الحلم ولا الكذب المحبب، بل عملت مايعمله المؤرخون، فكانتْ بهذا بعيدة عن فنها الروائي الذي يشاكل الواقع، ولكنه لا ينقله حرفياً.‏
                    وبسبب ذلك فإن خيط الوطن بدا ثخيناً وقوياً ومحورياً في (ذاكرة الجسد) وفي (فوضى الحواس). وهو باد بوضوح أشد عندما تناجي الذات الراوية وطنها فتقول:‏
                    ((وطن، أي وطن الذي كنا نحلم أن نموت من أجله، وإذ بنا نموت على يده، أي وطن هو... هذا الذي كلما انحنينا لنبوس ترابه، باغَتَنا بسكّين، وذَبَحَنا كالنعاج بين أقدامه؟))- (فوضى الحواس ص368).‏
                    إن موت (بوضياف) لم يكن الموت الوحيد في ((فوضى الحواس))، فقد عرفنا أن والد الذات الراوية مات شهيداً في قتاله ضد ٍ فرنسا من أجل الحرية والاستقلال، وعرفنا، روائياً، أن السائق (أحمد)- سائق زوجة الضابط- وبطلة الرواية، وهو جندي متقاعد، قد قُتل أيضاً على يد المتطرفين، كما قُتِل كثير من الصحفيين الذين ينتقدون موجة القتل الأعمى. وكان من بينهم (عبد الحق) الذي أحبته (الراوية) دون أن تتعرف عليه. وكان الرقم الذي أخطأت به في حبّها.‏
                    وتتسق هذه الميتات مع إشارات كثيرة إلى حالات الانتحار في الرواية، فقد أشارت الكاتبة إلى انتحار (ميشيما) الياباني استنكاراً لهزيمة اليابان على يد أمريكا، وإلى انتحار (خليل حاوي) الشاعر اللبناني استنكاراً لحصار بيروت من قبل إسرائيل عام 1982، لأنه لايريد أن يقاسم الإسرائيليين هواء وطنه.‏

                    ويَسْتَوْقفنا في العمل الروائي، الذي نحلله، موت السائق (أحمد)، الذي لم يَنْجُ من رصاص الغدر، رغم لباسه المدني، فقد قتله المتطرفون لظنهم المغلوط بأنه مسؤول يُصاحب زوجتَه. وكان مقتله في مدينة (قسنطينة) التي دار فيها كثيرٌ من أحداث الرواية. وفي المكان الذي حارب فيه ثلاثين سنة ضد الفرنسيين. ولكن ((القدر)) لم يشأْ أن يأخذه شهيداً برصاص فرنسي، بل أراده شهيداً على مقعد ضابط موهوم، وبرصاص جزائري..! وأقول على مقعد ضابط موهوم، لأن القتلة ظنوه زوج الذات الساردة بسبب جلوسها جنبه لا خلفه، وقد جلست جنبه احتراماً لماضيه وحياته العسكرية. وكان جلوسها هذا قد حوله من سائق إلى ضابط، فقُتِل..!‏
                    وقد اختارت الكاتبة مكان القتل بعناية، فهو أجمل أمكنة قسنطينة. إنه قنطرة الحبال أو جسر الحبال. وهو الجسر الذي رسمه (خالد) في لوحة سنة 1957 وسمّاها ((حنين)). وفي الربط بين ماجرى في ((ذاكرة الجسد)) وماجرى في ((فوضى الحواس)) يظهر التكامل القوي بين العملين، فخالد الفنان التشكيلي المناضل يرسم أجمل مافي قسنطينة، ويحرص عليه كما يحرص على روحه، ويصحبه معه إلى معرض له في باريس، حيث التقته (حياة). أما القتلة فيمارسون القتل قرب أجمل مكان في الجزائر، ليشوّهوا كل جميل فيها، ويلطّخوه بدماء الأبرياء، غير عابئين بتاريخ الجزائر ونقائه وطهره. فهاهي ذي الرموز تتجاوب، المجاهدون في صورة (خالد) يخلّدون أجمل مافي الجزائر، والمتطرفون في صورة قَتَلَة السائق (أحمد)، يعبثون بتاريخ الجزائر ورموزه العظيمة...‏
                    وقد أفضى العبث بتاريخ هذا الوطن إلى ظاهرة أخرى في الرواية، هي الهروب من الوطن والنفي الاختياري، فقد هرب ناصر أخو (الذات الساردة) إلى ألمانيا، وهرب أيضاً البطل (خالد) إلى باريس. أما ناصر أخو (الراوية) فقد مثّل شريحة شبابية جزائرية، كانت (الراوية) تقف في الضفة المقابلة لها... فقد بدا (ناصر) و (هو اسم موحٍ بقوّة) مؤيداً للإسلاميين، وها هو هذا يتغيّر بعد سلسلة من الخيبات، فيبدأ بمطالبة أخته بأن تطلق زوجها (العميد)، لأنه ليس أهلاً لها... وقد بدأ مرحلة من الصمت فلم يعد يحدثها عن الستة والعشرين ملياراً التي تبخّرت من خزينة الدولة الجزائرية قبل العام 1991، ولا عن أصدقائه الذين انضمّوا إلى لوائح آلاف الطلبة الجزائريين الجاهزين للدفاع عن العراق، والاستشهاد تحت علمه، الذي أضيف إليه، للمناسبة، عبارة: ((الله أكبر))، وهو ماجعل بعض الساخرين يقترح أن يُضاف إلى العلم الجزائري عبارة ((الله غالب))، أيْ لانستطيع شيئاً من أجلكم..! وبإيجاز شديد فإن أخا ((الساردة)) ناصراً ((بين خيباته الوطنية وإفلاس أحلامه القومية، غسل يديه من العروبة، أوعلى الأصح توضأ ليجد قضيته في الأصولية)) -(فوضى الحواس 133).‏
                    إن ناصراً يمثل شريحة من الشباب العربي الطالع في التسعينيات، وهو زمن كتابة الرواية، وزمن الموضوع الذي تتحدث عنه. وخواطره، على الصعيد الواقعي، هي خواطر الشباب الجزائري والعربي الذي لم يُشْفَ بعد من حرب الخليج الثانية، فهو -كما تقول الكاتبة- كان ينام عند بدء الاجتياح العراقي للكويت مشتتاً مضطرباً، ينام وهو من أنصار صدام حسين، ويستيقظ وهو يدافع عن الكويت (ص128). وهو -على الصعيد الروائي- يطالب أخته الكاتبة أن تكف عن الكتابة وتصمت، أو تنتحر مثل من انتحر قبلها، فقد كان العرب قبل عام 1991 يملكون ترسانةً نووية، ثم تَحَوَّلوا فجأة إلى أمّة لم يتركوا لها سوى السكاكين.... وكانوا أمَّةً تملك أكبر احتياطي مالي في العالم، فتحّولت إلى قبائل متسوّلة في المحافل الدولية.. وإني لواجد في أقوال (ناصر) مايرسم الإطار الأوسع لما كان يحل في الجزائر، فالسلبيات والتجاوزات والسرقات والانحطاط والضعف تشمل الجزائر، كما تشمل إطارها العربي بأسره. وهذا حيّز روائي كبير كان لابد للناقد من أن يرى إليه وقد تشاكل مع الحيّز الروائي الأصغر، أعني الجزائر. فالكربة التي حلَّتْ في الوطن العربي عامة، حلَّتْ، على نحو أدهى وأمرَّ، في قطرٍ منه، هو الجزائر، التي كانت مضرب المثل في البطولة والشهادة، وانتزاع الحقوق والحريات من الغاصبين. أليست هي بلد المليون والنصف من الشهداء الباسلين؟‏
                    د- المفارقات:‏
                    وقد حفلت رواية ((فوضى الحواس)) بمجموعة من المفارقات التي جعلت منها لوحة، فيها ثنائيات تتقابل، أو تتفاعل، لتسهم في رسم الصورة، وفي نمو الحدث، وفي صراع الشخصيات وحواراتها.‏
                    فمنذ البداية نجد الحب الذي حيكت خيوطه في هذا الأثر الفني، حباً عكسَ حبّ الناس، ينبت فوق ألغام الحواس. ومفارقاته كثيرة، ففي القصة القصيرة التي كونت مقدمة الرواية، ثمَّة لغة قاطعة عند الرجل تتمثَّل بـِ طبعاً وحَتْماً ودوماً، ولغة أخرى مفارقة عند المرأة، فهي تحب الصيغ الضبابية والجمل الواعدة ولو كذباً، تلك التي لاتنتهي بنقطة، وإنما بعدة نقاط..! (ص18).‏
                    وثمة مفارقة بين أحداث الفيلم السينمائي الذي شهدته الذات الراوية مع حبيبها، في اللقاء الأول: فهناك معلم مُشاكس كمشاكسة حب ذلك الرجل، يبعث روح الحياة والتحدي في فكر الطلبة، ومدير يكرس التقليد الممجوج والفهم العقيم للأشياء...‏
                    ومفارقة ثالثة بين (حياة) و(أمها): فالأم ولود، والابنة عاقر، والأم تكاد تكون رماداً، في حين تبدو الابنة جمرةً متقدة. وثمة مفارقة مابين فهم الأم لزواج (حياة) من العميد (سي مصطفى) وفهم (ناصر) لهذا الزواج: فالأم تعدّه مصدر فخر واعتزاز، في حين يعدّه ناصر مصدر إهانة وازدراء..!‏
                    ومفارقة أخرى كبرى بين العقل والجنون، فثمة جنون يقترح أشياء خارجة عن المألوف، وعقل يسعى لتنظيمها وترشيدها..! وإذا شئنا قُلْنا واقع يفرز فساداً وعفناً ودماراً، وفنّ يرد على ذلك الفساد والعفن والدمار.. وبعبارة أخرى بين واقع يؤول إلى موت، وحبّ يوحي بالحياة..!‏
                    والمفارقة الأكبر كانت أيضاً في فِعْل الكتابة ذاتها، فإذا كان الواقع العربي عامة، والجزائر خاصة، يُفْضيان إلى الصمت، أو الانتحار، بوصفه أحد ألوان الصمت، فإن الكتابة تعدّ عملاً شجاعاً وصرخة مدويّة وفِعْلاً تعويضياً عن واقع ذاهب بالبؤس إلى مداه.. ولا غرو أن تصوّر ((أحلام مستغانمي)) وقد تماهت مع ((الذات الراوية))، أن تصوّر ذاتها بقولها: إنها تشبه أولئك الرائعين الذين يأخذون كل شيء عكس مأخذه، فيتصرفون هم وأبطالهم بطريقة تصدم منطقنا في التعامل مع الموت والحب والخيانة والنجاح والفشل والفجائع والمكاسب والخسارة.. لذا أحبّتْ (زوربا) الذي راح يرقص عندما كان عليه أن يبكي! وأحبّت ذلك البطل في رواية ((الغريب)) لألبير كامو، الذي حكم عليه القاضي بالإعدام، لأنه لم يستطع أن يبرر عدم بكائه عند دفن أمه، بل إنه في يوم مأتمها ذهب ليشاهد فيلماً ويمارس الحب رفقة صديقة له! (ص359).‏
                    وقد فعلت الكاتبة فعل هؤلاء، فهي، في الوقت الذي يصلح للصمت، تجأر بالكتابة، وتُنْشِئ الروايات، التي يقوم أبطالها بأفعال هادفة، فالذات الراوية، تعلن حبها بقوة، وتذهب إلى شقة حبيبها في العاصمة الجزائر، في زمن الموت الأعمى... وقد سمّت نفسها (حياة) لتكون الصورة المقابلة للموت. وفي زمن الالتزام المقيت بوطن بائس يحفُّ بهِ الخراب، ويستبد به العسكر، تعلن خيانتها، لزوجها الرامز لهم، وتنحاز إلى النقاء والطهر، الممثلَيْن بخالد (الموهوم). فهي تنبذ الحاضر الملطخ المُشَوَّه، لصالح الماضي النقي الطاهر. ولا غرو في ذلك فهي ابنة الشهيد (سي الطاهر) رسالةً وفناً.‏
                    هـ- المثاقفة والفن:‏
                    إِن الإشارتين إلى (زوربا) و (بطل رواية الغريب) لم تكونا إشارتين يتيمتين في هذا الأثر الفني البديع الحافل بالإشارات الثقافية والنصوص المقبوسة من المفكرين، والروائيين، والفنانين، فقد كانت تلك المقبوسات موظفة ببراعة لخدمة الفن السردي، الأمر الذي يمكن من الزعم أن الروائي المعاصر في مقدوره أن يكون كاتبَ ثقافةٍ وخالقَ فنٍّ في الوقت ذاته، يقدر على المراوغة والإيهام، كما يقدر على إغناء أثره بمُنكِّهات فكرية ونقدية وفنية ونفسية، تجعل منه وَجْبة دسمةً، وتسمو به عن أن يكون حكاية ساذجة لصبية صغار، وتُحِيله عملاً كثيفاً فيه بُعْدٌ ثقافي، وبعد نفسي، يتجليان من خلال السرد والحوار والمناجاة.‏
                    وإني لأعلن عن استمتاعي بهكذا روايات. وقد حاولت في قراءتي الثانية لـِ ((فوضى الحواس)) أن أفحص الشأن الثقافي فيها، فقبستُ منها الكثير من النصوص الدالة على عمق ثقافة الروائية (أحلام مستغانمي) وسعة اطلاعها، ووعيها الدقيق لطبيعة العمل الفني وحدوده. ومن هنا جاءت النصوص المقبوسة مسخّرة لفنها خير تسخير، ومتشابكة مع خيوط الحبكة، تشابكاً سائغاً وجميلاً.‏
                    فهي تستشهد مرة بما قاله (أندرَيْه جِيْد) من أن أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل (ص44). ويعني الجنون في الأدب أن تهدم الحواجز بينك وبين المحرمات لتفهم أكثر، أو لتقول أكثر. وكثيراً ما استخدم الروائيون وكتبة الأعمال التلفازية، شخصاً مجنوناً ليصرّح بما لايقوى العقلاء على التصريح به، ففي كل مجتمع وفي كل بيئة وفي كل زمان، توجد مناطق محظورة، لايجوسها غير المجانين، لخطورتها، ومن هنا تأتي جرأة الجنون في الفن التي تحطم الحواجز والحدود والأعراف وتهدم القيود والتقاليد.... وقد كانت (الذات الساردة) عاشقة تقترف الحب بجنون، يقودها جنونها بأرجله العاقلة إلى شقة حبيبها في (الجزائر)، بغية تحقيق هدف رسمه العقل بدقة، وهو إعلان الحرب على الموت، بمغامرة الموت حباً..! وكان جنونها الأدبي الأقوى، في تخيّلها أن حياة دبّتْ في أبطالها الورقيين فنهضوا من بين السطور، وراحوا يحيون حياةَ مَنْ له لحمٌ ودمٌ...!‏
                    وتستشهد الكاتبة بما قاله (رولان بارت) (ص286) من أن الموسيقا تجعلنا تعساء بشكل أفضل، لتتبع ذلك بسماعها لشريط لـِ (ديميس روسوس) اليوناني، الذي كان يغنّي بالانكليزية، ببحّة الألم، خيباتهِ العاطفية. وقد كانت تلك الموسيقا جزءاً من الحيِّز الروائي، لحظةَ ممارسة العشق مع الحبيب الغامض والرامز معاً. فالأنا الساردة خائبة عاطفياً وسياسياً، لذا فهي تعيسة على نحو أفضل، رغم برهة الحب التي تحياها... ألسنا في عالم ((فوضى الحواس)) حيث (زوربا)، وحيث بطل رواية (الغريب)، وحيث الحزن والحب معاً، وحيث الصمت والكتابة، وحيث الفن والحياة، والخيال والواقع في توليفة فنيّة جميلة؟؟‏
                    ونلتقي بقول (تشي غيفارا) (ص350) الذي قال لقاتله: ((أطلق النار أيها الجبان. إنك تقتل إنساناً)). وقد جعلت الكاتبة من هذه العبارة عنواناً لمقالٍ لعبد الحق رثى به صديقه الصحفي (سعيد مقبل). وعليه، فالإيحاء واضح، بأن القاتل، هنا وهناك، جبانٌ، وأن القتيل، هنا وهناك، إنسان، وأن فعل القتل، وجهاً لوجه، أو غدراً، مستنكرٌ مذمومٌ في الحالتَيْن...‏
                    وقد حوت الرواية أيضاً جدلاً آخر مع فنّها- جدلاً أرادت منه الكاتبة أن توجه به اهتمامنا إلى الفكرة الرئيسية فيها، وهي الوطن، وتاريخه المجيد، الذي ينبغي أن يخلص له الناس، رغم الحرمان. فقالت، عندما تعمقت في ماقاله الكاتب الأرجنتيني (بورخيس) الذي أصبح أعمى تدريجياً: ((اكتشفتُ أن كل رواية ليست سوى شقة مفروشة بأكاذيب الديكور الصغيرة وتفاصيله المخادعة قَصْدَ إخفاء الحقيقة، تلك التي لاتتجاوز في كتاب مساحة أريكة وطاولة نفرش حولها بيتاً من الكلمات منتقاة بنوايا تضليلية حدّ اختيار لون السجاد ورسوم الستائر وشكل المزهرية.. الخ)). وبهذه العبارات أومت لنا بقوة أن نركز على الفكرة الرئيسية في هذه الرواية، وفي سابقتها ((ذاكرة الجسد)). وهي فكرة الكتابة عن ماضي الجزائر وحاضرها، عن الوطن الذي طرَّزته دماء الشهداء، كثوب عروس، ثم آل إلى حالة من البؤس والفساد والجشع والقتل والخراب. ولا أدلّ على ذلك من أنها بدأت الكتابة في ذات أول نوفمبر، وهو التاريخ الذي شبَّت فيه ثورة الجزائر عام 1954 ضد فرنسا.‏
                    وقد حفلتْ ((فوضى الحواس)) بنصوص ونقول عن (مارسيل بروست) الذي كانت له القدرة على وصف قبلة في عشرين صفحة، وعن (بودلير) الذي كان يقول ((كل إنسان جدير بهذا الاسم تجثم في صدره أفعى صفراء تقول: لا، كلما قال: نعم)) -(ص255). وعن (هنري ميشو) الذي قال في كتابه ((أعمدة الزاوية)) ((في انتظار الشمس تعلم أن تنضج في الجليد))-(الرواية ص267). وعن خليل حاوي الذي قال في بيت له: (الرواية ص343)‏

                    كل ما أعرفه أني أموت مضغة تافهة في جوف حوت‏
                    وعن نيتشه القائل: ((إن أعظم الأفكار تأتينا ونحن نمشي)) -(ص328). وثمة إلْماعاتٌ وأقوالٌ لكلٍّ من (بيكاسو)، و(أوسكار وايلد)، و(والت ويتمان) و (الخنساء)، و(نابليون)، و(جبرا إبراهيم جبرا).. الخ.‏
                    وبين ثنايا هذا النص الماتع ((فوضى الحواس)) دراية عميقة بحقيقة النفس الإنسانية، تشعرك بأن الكاتبة، تُعْنَى بالعمق، كما تُعْنَى بالسطح، وتفهم الباطن كما تفهم الظاهر. وهاهي ذي تكتب حول العفة والخطيئة: ((أنا أدري أن كل إنسان عفيف يحمل داخله قدراً كافياً من القذارة، قد تطفو يوماً فتغرق حسناته تماماً. كما أن في أعماق كل إنسان سيّئ شعلة صغيرة للخير ستضيء داخله يوماً في اللحظة التي يتوقعها الأقل))- (فوضى الحواس ص234).‏
                    وتكتب ساخرة ذات مرة: ((من لايُغيّر رأيه هو الجاهل فقط))، وتلاحظ بصدق وعمق ((أن الصمت يجعل الآخرين يكتشفون أخطاءهم))، وأن الأسماء التي تشبهنا تهبنا إياها الحياة، أما تلك التي تأتي بها الحياة، فكثيراً ماتجور علينا. ولهذا يغيّر الصينيون أسماءَهم في أواخر حيواتهم -(الرواية ص265). وتجمع الحب والموت على صعيد واحد، وترى ردّ فعل الإنسان عليهما يتمثل بالعجز والتسليم فتقول: ((في مواجهة الحب كما في مواجهة الموت نحن متساوون لايفيدنا في شيء، لاثقافتنا، ولا خبرتنا، ولا ذكاؤنا، ولا تذاكينا))- (الرواية ص94).‏
                    وفي آخر الرواية تفصح عن هذه الحقيقة العليا في عالم الحزن والموت فتكتب: ((ثمة حزن يصبح معه البكاء مبتذلاً حتى لكأنه إهانة لِمَنْ نَبْكِيه)) -(الرواية ص366).‏
                    أما الإشارة الثقافية التي جاءت بها الكاتبة متّسقة مع عنوان روايتها ((فوضى الحواس)) فهي إشارتها إلى السر في مارَسَمه (ليوناردو دافنشي) في ابتسامة الموناليزا، فالسرّ هنا كامن في قدرة ذلك الفنان المذهلة على نقل أحاسيس متناقضة في ابتسامة غامضة تجمع بين الحزن والفرح في آن واحد (الرواية ص125). والجمع بين الحزن والفرح في آن واحد هو التعبير الآخر عن ((فوضى الحواس)) وهو ماجسّده كل من (زوربا)، وبطل رواية (الغريب)، وبطلة رواية ((فوضى الحواس)) أيضاً.‏
                    وكل أولئك يؤكد على أن هذا النص الذي نحلله ينطبق عليه ماقاله (رولان بارت) وعبارته:‏
                    ((إن النص ماعاد نشاطاً بريئاً، أو بئراً معزولة عن هواء العالم، إنه نسيج من الاقتباسات والإحالات والأصداء واللغات القديمة والمعاصرة التي تخترقه بكامله)) -انظر (مجلة علامات، جدة ع23 ص123).‏
                    و- شعرية الرواية وإيقاعاتها:‏
                    ويبقى شيء بارز أُفْعِمَتْ به هذه الرواية، والرواية الأولى ((ذاكرة الجسد)) أيضاً، ولا يصح لنا أن نتجاوزه. وهو الروح الشعرية التي تكتب بها (أحلام مستغانمي)، فنحن هنا، كما نحن هناك، أمام نص أدبي شعري الميسم، بكل مافي هذه العبارة من معنى، نص فيه توهج الانفعال، واكتظاظ الصور، وتكثيف العبارة، وانتقاء المفردة الموحية الدالة والمازجة بين الحلم والواقع، أو الخيال والحياة... والذي يبدو لي أن الكاتبة عندما جاءت لتكتب الرواية، لم تَتَخلَّ عن موهبة الشعر عندها، ولم تغادر عالم الجمال البتة. فقد كانت (مستغانمي) شاعرةً أولاً، وروائيةً ثانياً، ولعلّها ناقدة ثالثاً. ومن أدلة ذلك أنها تنعى على مَنْ ينقد الشعر بعبارةٍ لاروح فيها فتقول: ((لايمكن أن نقيس الشعر طولاً وعرضاً كأننا نقيس أنابيب معدنية... اندهاشنا، انبهارنا، انفعالنا هو الذي يقيس الشعر. أمام قصيدةٍ، النساءُ يُغْمَى عليهن، والآلهة تولد، والشعراء يبكون كأطفال)) -(الرواية ص51). وهكذا قدّمت لنقد الشعر بلغة شعرية جميلة.. وقبل ذلك راحت تتوغل، بلغتها النافذة كالسهم إلى عمق ذات ((الذات الساردة)) التي بدأت شعلة الحب تتوقد فيها شيئاً فشيئاً، فكتبت تقول عن الـ (هي) أو (الأنا) المتماهية معها، وهي لما تزل في قاعة السينما: ((تراقبه في دفء، تململه البطيء جوارها، وحضوره الهادئ المربك بمحاذاة أنوثتها، مأخوذة بكل تفاصيل رجولته)) -(ص29). وتصف لحظة حاسمة حافلة بالانفعال فتكتب: ((كان الصمت يجعلنا أكثر فصاحة. ذبذبات الرغبة التي تعبرنا صمتاً تضعنا دائماً في كل موعد في منطقة حزام الزلازل)) -(ص284). وفي موضع آخر تتوهج لغة شعرية جديدة جسّدتها هذه العبارات: ((فجأة تصبح كلماته كأطراف أصابعه، أعواد كبريت تشعل كل شيء تمر به، ولا أفهم ماذا يعني.. ولا... لماذا يريد لنا حريقاً كبيراً إلى هذا الحد)). وهاهي ذي تعرب عن إعجابها بكبرياء حبيبها فتقول: ((لم ألتقِ برجلٍ ثَمِلٍ بالكبرياء إلى هذا الحد)). لقد كانت (مستغانمي) هنا، مثل حيدر حيدر في (الزمن الموحش)، ومثل إدوار خراط في (الزمن الآخر): تكاد تكتب قصائد مطولة لاينقصها لتكون شعراً سوى الوزن والصيغة الإيقاعية والشكل الكتابي.‏
                    ومما يتّصل بالشعرية في الرواية، الإيقاع الذي تخلّل أحداثها، وحواراتها، ومظاهر السرد فيها. ومن المعروف أن الإيقاع قد يكون تماثلاً، أو تخالفاً، أو تناظراً أو تناقضاً.. الخ.‏
                    ولعلّ أهم أشكال الإيقاع فيها أنها مكوّنة من خمسة فصول هي: بدءاً وطبعاً وقطعاً وحتماً ودوماً. وهي تناظر الجسور الخمسة التي توجد في (قسنطينة). و(قسنطينة) هي الحيّز المكاني الأهم في هذه الرواية، وبها تمّت أكثر أحداثها. وثمة إيقاع مابين القصة القصيرة الأولى، وأحداث القصة الكبيرة التي تلتها. حتى إن ماوُصِف به البطل هنا، كان قد وُصِف به هناك (قارن بين ص9 وص180) وهذا فعل روائي يكاد يشبه مانسمّيه في فننا الشعري القديم ردَّ الأعجاز على الصدور. فهي تقول عن الحبيب في الصفحتين السابقتين: (شفتاه تتقدمان حيث توقفتْ يداه، ها هما تعبرانني ببطءٍ متعمَّد على مسافة مدروسة للإثارة)). ويبدو التناظر قوياً مابين قصيدة (والت ويتمان) ((على جسر بروكلين)) ومجمل الأحداث عند جسر قسنطينة، فقد قبست منها الكاتبة قول (والت ويتمان): (ص107) ((المد الصاعد حوالي وأراك وجهاً لوجه. غيوم الغرب والشمس ماتزال لنصف ساعة أخرى وأراك وجهاً لوجه، حشود من الرجال والنساء يتنكرون في ثيابك العادية.. ما أغربكم في عيني)).‏
                    وهناك توازٍ بين لوحة ((الغرنيكا)) لبيكاسو، التي صوّر فيها خراب المدينة التي تحمل اسم (الغرنيكا)، والخراب الذي يحل بالجزائر أو بـِ (قسنطينة). وإذا كان (بيكاسو) قد أجاب على سؤال من سأله حول لوحته: أنتَ الذي فعلتَ هذا، بقوله: ((بل أنتم)). فإنَّ بطل رواية ((فوضى الحواس)) ردّ أيضاً على من سأل عن مَنْ كان وراء شلل ساعده الأيسر: ((إنّه هم)). وبين ((أنتم)) و((هم)) هنا علاقة تماثلية واضحة، فإيقاع الأذى والسوء هو الجامع بينهما!‏
                    وهناك إيقاعات أخرى عديدة بين العمل الأول والعمل الثاني لمستغانمي، فكما كان ثمة طرف ثالث في علاقة الحب بين (خالد) و(حياة) في الرواية الأولى، هو(زياد). كذلك كان طرف ثالث في العلاقة ذاتها في الرواية الثانية، هو (عبد الحق). وكما استعارت البطلة كتاباً من مكتبة (خالد) في باريس، هو ديوان شعر لزياد، استعارت كتاباً من مكتبة (خالد بن طوبال) في الجزائر، هو (أعمدة الزاوية) لهنري ميشو. ومن الواضح هنا أن الكاتبة تستغل حيّز المكتبة بوصفه حيّزاً روائياً ثرياً، وتستثمره استثماراً فنياً موفقاً. ومن اللافت للنظر أن مصير الطرف الثالث في علاقتي الحب كلتيهما، في الروايتين، كان الموت، فقد مات (زياد) في لبنان، ومات (عبد الحق) في الجزائر. ومن المثير للانتباه أن كلا القطرين عانى أويعاني من حرب أهلية يقتل فيه المواطن أخاه المواطن، وكذلك لانزال نتذكر أن (خالداً) في ((ذاكرة الجسد)) قد أراد أن يدرّب صاحبته (كاترين) الفرنسية على الحرمان رغم هتاف الشهوة، وهاهو ذا في ((فوضى الحواس)) يكرر الفعل ذاته مع (حياة)، إذ يطلب إليها أن تتعلم الحب مع الحرمان، وأن تكون مخلصة، ليس له، بل للحقيقة التي يروم أن يفهمها من بين السطور: أن تكون مخلصة للوطن وللتاريخ وللذاكرة. هل نقول: إن الدوائر التي كانت ترسم هناك، راح القلم من جديد يعيد رسمها هنا، ولكن ليملأها بأشياء أخرى جديدة؟. أو أن الفنان يرسم لوحة تشكيلية واحدة، ثم يعاود في المرات التالية رسمها من جديد بفروقات طفيفة‍؟! ولكنَّ الإيقاع الأقوى تمثل بالتحدي بالكتابة والأنوثة. فثمة واقع يعادي هاتين الظاهرتين لأن الكتابة تفضح وتؤرخ وتفلسف، ولأن الأنوثة تخنع وتستلم وتسلّم. وها نحن أمام عمل فني يعاند الواقع، ويتحدى أعداء الكلام فيه، فيكتب ويفضح، وبطلته تحب، وتعشق بجرأةٍ، قلما قرأنا مثيلاً لها في إبداعنا الروائي المعاصر. ولقد كتبت ( مستغانمي) تقول مرة ماخلاصته: إن الأصعب هو أن تأخذ الكتابة مأخذ الجدّ دون أن تأخذ نفسك مأخذ الجد .. أن تكون كاتباً دون إضافات، لاكاتباً ثورياً، ولا رجعياً، ولا كاتب مناسبات ، بل كاتب فقط، فعظمتك في ألا تكون أكثر من ذلك . والأكثر صعوبة هو أن تكون كاتباً جزائرياً تنتمي إلى وطن يرفض أن يبقيك على مسافة وسطية من الأحداث ، تلك المسافة التي تلزمك للرؤية ويَرْفض بقاءك في حالة الصمت الذي يلزمك لللكتابة ويرفض انحيازك للحبر في زمن عليك أن تنحاز فيه للدم- (مجلة النهج ع 41 لعام 1995ص 170-171)‏
                    ز- الخاتمة:‏
                    وهكذا نرانا أمام أثرٍ روائي امتلك رؤية وطنية، ولبس لبوساً فنّياً، وتنزل تنزلاً شعرياً، عوَّضَ فيه رقيُّ اللغة، عن فُقْر الحدث، وقام مقام الأفعال فيه، المناجياتُ والتأملات والاستبطانات وأعمال الذاكرة، التي شدَّتْ وأمتعتْ...‏
                    إنه عملُ كاتبةٍ مثقفة كان هاجسها مصير وطن يتمزّق، ومآل بلادٍ تتحرّق، فوجدت أن خير ماتفعل من أجلها هو أن تكتب، مُتْستَعِيْنةً بذاكرة الماضي الطاهر البهي، لتكافح الحاضر المشوّه المغلوط، الذي ينقض الماضي ويدمّره.. إنها كاتبةٌ، قلبُها في الجزائر، وعقلها في تاريخها، وقلمها رمح وترْس مسخران لدفع الموت والفناء عنها وعن بنيها.‏
                    وأخيراً، فإذا كانت (أحلام مستغانمي) قد حازت جائزة نجيب محفوظ عن روايتها الأولى ((ذاكرة الجسد))، فإنها، في تقديري، لجديرة، بجائزة الجزائر اليوم، على روايتها الثانية ((فوضى الحواس))، جائزة الجزائر التي لايجوز أن يمنعها إسلامها من سلامها، ولا أنْ يحول دِيْنها دون سداد دَيْنها لتاريخها، ودون حبّها لبنيها، ولماضيها، الذي بات اليوم في أمس الحاجة للمخلصين الذين يكابدون الحرمان عن لذّة، ويكافحون الجشع بالتسامي، كما أراد بطل ((فوضى الحواس)) لحبيبته أن تعي مايريد فهو ((يريد أن يختبر بها الإخلاص، أن يجرِّب معها متعة الوفاء عن جوع، أن يربّي حبّاً وسط ألغام الحواس)).‏
                    فهل ينشأ حب وسط ألغام الحياة في الجزائر، وينتصر النور على الظلمة، وتقوى الحياة على الموت؟؟ إنها أسئلة كبيرة، والأمل المَعْقود هو أن يردَّ أحفاد الشهداء المليون والنصف عليها بالإيجاب، ليعمَّ السلمُ والسمو والحبُّ والازدهار.‏
                    المراجع:‏
                    1-فوضى الحواس، لأحلام مستغانمي، بيروت، دار الآداب، ط4، 1998.‏
                    2-ذاكرة الجسد، لأحلام مستغانمي، بيروت، دار الآداب، ط8، 1998.‏
                    3-هواجس في التجربة الروائية، لحنا مينه، بيروت، دار الآداب، 1982.‏
                    4-ذات الكاتبة الإبداعية، لـ م. خرابتشينكو، ترجمة نوفل نيوف وعاطف أبو جمرة، دمشق 1981.‏
                    5-بحث في تجربة الكتابة، تأليف س.ر. مارتين، ترجمة تحرير السماوي، بيروت، 1981.‏
                    6-في نظرية الرواية، لعبد الملك مرتاض، الكويت، عالم المعرفة (240)، 1998.‏
                    7-أتحدث إليكم، لنجيب محفوظ، بيروت، دار العودة، 1977.‏
                    8-مجلة علامات في النقد- جدّة- السعودية- ع23.‏
                    9- مجلة النهج ، دمشق - العدد 41 لعام 1995.‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

                      الروائي المغربي: محمد شكري في روايتيه: " الخبز الحافي " و " الشطار "
                      ازدهر الفن الروائي المغربي في الربع الأخير من القرن العشرين ازدهاراً كبيراً بعد أن أُرْسِيَتْ بداياته العربية في خمسينيات هذا القرن، فقد نشر عبد المجيد بن جلّون في العام 1957 روايته ((في الطفولة))، ونشر عبد الكريم غلاّب سيرته الذاتية عام 1965 بالقاهرة، وألّف رواية ثانية له بعنوان: ((دفنا الماضي)). وبدأت نجوم الفن القصصي والروائي تظهر في سماء المغرب، فلمع محمد زفزاف، ومحمد عزيز الحباني، ومبارك ربيع، ومحمد عز الدين التازي، والميلودي شغموم، وخناتة بنونة، وأحمد عبد السلام البقالي، وسعيد علوش، ومحمد الشركي، وسالم حنيش الذي فازت روايته ((مجنون الحكم)) بجائزة مجلة الناقد عام 1990، كما سطع نجم عبد الله العروي بوصفه مفكراً وروائياً، وكذلك محمّد برّادة، وأحمد المديني، وآخرون كثيرون كان من بينهم (محمد شكري) الروائي الصعلوك، الذي عرفنا من أعماله القصصية: مجنون الورد، والمدينة المضادة، ومن أعماله الروائية: السوق الداخلي، والخيمة، وروايتي: الخبز الحافي، والشطار، وهما الروايتان اللتان كتب بهما سيرته الذاتية، واللتان ستكونان محور كلامنا هنا.‏
                      و(محمد شكري) وُلِد في الريف المغربي في العالم 1935، ثم انتقل أهله إلى مدينة (طنجة) وهو في السابعة من عمره. وكان قد نجا بصعوبة من المجاعة التي ألمّت بالريف المغربي في تلك الآونة، وبدأ رحلة الحرمان والقهر والعذاب، فعمل في أعمال شتّى، وبقي أميّاً لايعرف القراءة والكتابة حتى سنّ العشرين، إلى أن دخل مدرسة المعلمين ووضع بتعلمه ووظيفته، فيما بعد، جداراً منيعاً بينه وبين الاحتقار الاجتماعي والجهل والبؤس معاً -كما يقول في سيرته الروائية، ولا أقول الذاتية فقط.‏

                      فسيرة الكاتب إذن ذاتية روائية مؤلَّفة من جزأين. وسنتناول هذين الجزأين معاً بوصفهما عملاً فنياً متكاملاً.‏
                      ومن أبرز شؤون هذا الأثر الفني أنَّ جزأه الأول نُشِر في العام 1972، أولاً باللغة الانكليزية، ثم بالفرنسية، وقد ترجم إلى اليابانية، ثم نُشِر بالعربية في العام 1983، فهو، من هذه الزاوية، نص يقترب من العالمية.. ويتناول الجزء الأول سيرة الكاتب من 1935 إلى 1956. أما الجزء الثاني وعنوانه "الشُّطَار" فقد كتبه (محمد شكري) بعد عشر سنوات من كتابة الجزء الأول، أي في العام 1982. وقد وقعت بين يديّ الطبعة الرابعة للخبز الحافي، وتاريخها 1996، والطبعة الثانية للشطار، وتاريخها 1994. والاثنتان صادرتان عن دار الساقي ببيروت. وقد مُنعت ((الخبز الحافي)) في المغرب، فبيع منها تسعة عشر ألف نسخة في عام ونصف، وهو رقم لافت للانتباه وجدير بالتأمل.‏
                      مشكلة تصنيف:‏
                      بيد أنَّ ذاك المَنْع، وهذا الرواج، ليسا المسألة الكبرى التي تستوقف دارس هاتين الروايتين، بل ثمة مسائل أخرى نراها تستأهل الجَهْد النقدي المبذول. وأولى هذه المسائل هو تصنيف هذه الرواية بقسمَيْها، فهي تبدو جنساً "هجيناً" يمثّل ثمرة التزاوج ما بين السيرة الذاتية، والسيرة الروائية. وقد ردّ الكاتب (محمد شكري) على سؤال حول إشكالية التصنيف لروايته، فقال: "أنا لا أقول إنها رواية ولا أقولُ، في نفس الوقت، إنها سيرة ذاتية مكتوبة بتاريخ مسلسل، فهي سيرة ذاتية مُروّاة، أو سيرة ذاتية بشكل روائي". ويضيف الكاتب حول اتهامه بالصدق والكذب في روايته: "هناك من يقول: هل هذا صادق أم كاذب؟ أنا لا يهمني الصدق والكذب. كل ما أفكرّ فيه، وكل ما أكتبه هو حقيقي حتى ولو لم أعشه" -(أسئلة الرواية، لجهاد فاضل ص205).‏
                      والحقيقة أن ذات الكاتب في هذه الرواية كانت تتشظّى بين واقعٍ وخيال، أو بين حادث محتمل الحدوث، واحتمال لحدوث الحدث. وفي جميع روايات السيرة الذاتية تنقسم الذات على نفسها، لأنها هي التي تكتب، وهي التي تكون موضوع الكتابة، فالكاتب يجفو ذاته ليعرفها، وينأى عنها ليدنو منها". وقول (محمد شكري) إنه كان يكتب ما هو حقيقي صحيح كل الصحة، لأنّ المتخيّل لا يكذب. وفي الرواية ينشأ دائماً باب سرّي تلج فيه الروح إلى فسحةٍ تُخْرِجها عن كل رقابة، فتقول الحقيقة بلا زيف، (فشكري) مثلاً كان يصرح بأنه يمقت أباه ويلعنه ويتمنّى موته، بسبب شراسته وتوحشه، وعنفه عليه وعلى أمه وأفراد أسرته. وقد قتل ابنه عبد القادر بيديه خنقاً على مشهد من أنا الراوي، وكان يضرب (محمداً) كلما يلقاه حتى يُدْمِيه، يقول (محمد شكري) ذات مرة: (تعثرتُ، سقطتُ هوى عليّ بالعصا، عَوَيْتُ، شتمتُه في خيالي، يضربني ويلعنني جهراً، أضربه وألعنه بخيالي، لولا الخيال لانفجرتُ)- (الخبز الحافي ص53).‏
                      والذي يبدو أن الرواية التي تلتبس بسيرة الكاتب هي أغنى بكثير من سيرته حين تتجرّد من الخيال والتخييل. وفي هذا الصدد يقول (أندريه جيد): "لا يمكن أن تكون المذكرات إلاّ نصف صادقة، حتى لو كان همّ الحقيقة كبيراً جداً. فكل شيء أكثر تعقيداً دائماً مِمّا نقوله، وربما كنّا نقترب من الحقيقة أكثر في الرواية". وعندما نشر (جان بول سارتر) جزءاً من سيرته الذاتية في كتابه "الكلمات" قال: "إني لا يمكن أن أقول الحقيقي إلا في عمل تخييلي"- (انظر جابر عصفور: زمن الرواية ص250).‏
                      الحداثة في الرواية:‏
                      فـ "الخبز الحافي"، والشطّار" كلتاهما روايتان تمزجان ما بين فَنّ السيرة الذاتية وفنّ الرواية. وهذا المزج والمزاوجة بين هذين الفنَّيْن يُعَدُّ مَلْمَحاً من ملامح الحداثة في هذه الرواية.‏
                      وقد لجأ (محمد شكري) في كتابته إلى ضمير المتكلم ليكون عمله أكثر حميمية، وهو بهذا يقترب من طريقة (حنا مينه) في "بقايا صور" ويفترق عن طريقة (طه حسين) في "الأيام". واللجوء إلى ضمير "الأنا" في السرد الروائي يجعل من الأثر الفني رواية اعتراف. والمعروف أن روايات الاعتراف قد كثر حضورها في الأدب العالمي الحداثي.. فالكاتب الذي يبوح بمكنون نفسه، ويعبر عن المخبوء لديه، يتطهَّر. ومن هنا، فإنّ الرغبة في التطهر مَثَّلَتْ أحد دوافع هذا الكاتب للتحرّر من القهر ومن الموت معاً.‏
                      ولم تقتصر سمات الأدب الحداثي وما بعد الحداثي على كون الرواية إحدى روايات الاعتراف، بل تجاوزت ذلك إلى كونها ثمرة ظاهرة حضرية، ففضاء القسمين من الرواية، كان، غالباً، فضاء مدينة (طنجة) المغربية الساحلية، التي شهِدت يفاعة الكاتب وشبابه ونضجه وعمله، والتي أحبّها كثيراً كما سنرى. ولكن الكاتب الذي عاش في المدينة لم يتنكر لماضيه وفقره المدقع الفظيع، فراح يكتب عن قاع المدينة الاجتماعي، مركزاً "على حيوات الهامشيين والمُهَمّشين في الحياة، ولم يتورّع حتى عن الكتابة عن المجانين في مشافيهم- (انظر عنوان "المنسيون" في رواية، الشطّار) وقد عُني عناية مفرطة بالنزعة الشبقية البدائية عازفاً عن الروادع والزواجر، مخلياً فسحة الحديث عن الروح، لصالح فسحة الحديث عن الجسد.. ولكن فعله هذا لم يكن من أجل الإثارة والإغراء، فالجنس الذي يكتبه جنس بائس ومقزّز، وهو موظّف فنيّاً، فالمرأة التي تحيط بها خلفيات محدّدة تنزلق بسهولة إلى مسلك الدعارة وبيع الجسد، وقد صَحّ فهم الناقد (صبري حافظ) لهذه الظاهرة في الرواية عندما عدّ "الصراحة والمباشرة هي وسيلة النص للتخلّص من كل إثارة أو شبهة للإثارة"- (انظر دراسة صبري حافظ: البنية الفنيّة لسيرة التحرّر من القهر، في آخر رواية الشطار، ص226) .‏
                      والرواية تنتمي إلى الحداثة، من زاوية أخرى، لأنها مثّلت تحدّياً "للسلطة الأبوية، ومحاولة للإجهاز على السلطان الغاشم، حتى وإن كان للأب. ونحن نرى أن الأب، في هذه الرواية، بالإضافة إلى كونه أباً من لحمٍ ودم، كان رمزاً للظرف القاهر الذي حاق بالطفل، وتجسيداً لأنياب الزمن الذي راح يعذّب روح الطفل ويعتصرها ويذيبها، فيجعلها تتقزم وتتضاءل وتلتصق بالجسد، وتنحلُّ فيه انحلالاً. إنّ لقمة العيش مثَّلتْ هدفاً جوهرياً في حياة الراوي، وأية لقمة؟ إنها "الخبز الحافي" المجرّد من أي أدام، أو نكهة، أو حلاوة، وعنوانا الروايتين: الخبز الحافي، والشطار، دالان دلالةً كافية على المحتوى، وعلى الهاجس وعلى رؤى الكاتب معاً.‏
                      ومن الظواهر الحداثية في الرواية المغربية المعاصرة تثوير اللغة وتعدديتها وتنويعها، وهذا ما يلاحظه المرء بجلاء في عمل (محمد شكري) هذا، فهو وإنْ كتبه بالعربية الفصحى نجده يوشّيه باللغة الشعبية، واللهجة العامية المغربية، ويكسّر سياق الفصحى بعبارات ريفية مغربية، وبألفاظ من عامية المغرب، لا يفهمها أهل المشرق، مما حمل الكاتب على شرح بعض المفردات الغريبة في هوامش صفحاته، ومن أمثلة تلك المفردات: الشقف، وهو شيء شبه الكشتبان. والمطوي، وهو محفظة الكيف، والكيف هو التبغ. والسّبْي، وهو الغليون في عربية بلاد الشام (الشطار 14)، ومن غريب مفردات "الخبز الحافي" (أراحد) وتعني تعال و(أذاي ينغ) وتعني (سيقتلني)، و(أمش) وتعني: (مثلما)، و(ينغا) وتعني (قتلَ) و(أوما اينو) وتعني أخي. وهو في هذه الكلمات كان يخاطب أمه التي دعته للعودة إلى البيت بعد أن قتل أبوه أخاه (الخبز الحافي ص12و 13). ولكن الكاتب الذي شرح بعض الغريب، ترك غريباً آخر بلا شرح، فشوّش تمام الفهم لروايته من قرّاء غير مغاربة أمثالي.‏
                      ومن سمات الحداثة في هذه الرواية التجريب، والبعد عن التفلسف، والنفور من التنظير، على الرغم من وجود بعض العبارات الفلسفية في الرواية، التي كانت تجيء ملتحمة بالنسيج، فلا تبدو نشازاً أو وعظاً أو إثقالاً لمتعة القراءة والتتبّع. وهي عبارات تشف عن فكر الكاتب وروحه، ورؤيته للناس والحياة معاً". ومما قاله بطل الرواية: "لقد بحثت عن لعبة الحياة ورمزها لا عن حقيقتها، عن الغامض واللغز، لا الواضح والبسيط، عن المجهول لا المعلوم، عن السراب، لا الماء". وكذلك قال: "ربما أجمل العيش وَهْمهُ" ورأى أنّ: "المرأة التي تتعرّى نموذجاً لا تثير شهوة الرسّام لأن الفن يبتلعها" وأفاد: "أنَّ مهمة الفن أن يجمِّل الحياة".. وقال: "ينبغي ألاّ نثق كثيراً بالسعادة، إنه آنية هاربة منفلتة كلما أردنا القبض عليها". ولاحظ أن "الفقر فوق القانون" وكان بهذه العبارة الأخيرة كأنه يستعيد ما أثر عن الجوع والفقر في تراثنا ، فقد روى عن أبي ذر قوله : "عجبت لمن يكون جائعاً ولا يجرِّد سيفه".‏
                      الصعلكة وحضورها في القَصّ:‏
                      والحقّ أن هذا الكاتب الذي عضّه الجوع، بأسنانه الحداد، في طفولته ويفاعته، وحتى في شبابه، قد رسم في سيرته الروائية حياة الصعلكة رسماً دقيقاً ومثيراً ومحزناً ومدهشاً معاً. فالعبارة الأولى في رواية "الخبز الحافي" كانت ترشح بالبكاء والموت والجوع والحرب، فقد افتتح الكاتب نصّه بقوله: "أَبكي موت خالي، والأطفال من حولي، يبكي بعضهم معي. لم أعد أبكي فقط عندما يضربني أحد أو حين أفقد شيئاً. أرى الناس أيضاً يبكون. المجاعة في الريف. القحط والحرب"- (الخبز الحافي ص9).‏
                      إنّ الموت قد مثّل موضوعاً "بارزاً" في الروايتين، فقد مات الخال في البداية، ومات الأخ خنقاً بعد قليل، خنقه الأب الشرير المجنون، وماتت الأم، وقبلها مات الأب، ومات أناس كثيرون، منهم من عرفه الراوي، ومنهم من لم يعرفه. ولكثرة الموت وقوّة وقعِه على روح الفتى، صار الحب، وهو أجمل لحظات العمر، يذكّر بالموت، يقول الكاتب ذات مرة: "جَلَسْنا. فكّرت في الموت. الحبّ دائماً يجعلني أفكر في الموت"- (الخبز الحافي ص145). والسؤال هنا: هل كان حبّ الراوي لأخيه البريء، وموته أمام عينيه، بيدي أبيه، وراء هذه العلاقة الغريبة القائمة في نفسه ما بين الحب والموت؟ إن الحب والعطف والرعاية اللاتي يُتَوخّى أن تصدر عن أبٍ سَوِيٍّ، قد انقلبت في أسرة الراوي إلى كَرْهٍ وفظاظه وإهمال وقَتْل. ونظراً لحب كاتب الرواية للموت والقبور، فإنه اتخذ من الجلوس في المقابر طقساً كتابياً، مما يدل على مزاج منحرف غريب أفرزته وقائع منحرفة وغريبة. وقد صرّح (محمد شكري) بذلك دون حرج حين قال: إنه كتب الجزء الأول من سيرته الذاتية في المقابر، المقابر اليهودية والنصرانية والإسلامية، وخاصة المقابر التي يرجع عهدها إلى القرن التاسع عشر في (طنجة). ويعلل ذلك بقوله: "ربما لأن المقابر القديمة أكثر إيحاء"، أو لأني أحبّ الموت القديم" ويكرر ذلك فيتساءل، في موضع آخر، عما يحفزه دائماً على التجوّل في المقابر، أهو سلامها؟ أم هي عادتي، أيام نَوْمِي فيها؟ أم حبّا في الموت"؟ (الشطار ص28).‏
                      وكما كان الكاتب يحبّ الموتَ، كان يحبّ الليل. إن "الليل دائماً يُنير له درب النجاة"- (الشطار 202). ولا غرو في هذين الحَّبين، لأن المتتبّع لسيرة الكاتب الروائية لا يعجب من ميله للموت وعشقه لليل وتآخيه معه، فالنزوع إلى الخلاص كان يتمثّل بالموت أحياناً. والسواد في حياة هذا الفتى طغى على البياض، وكان الحزن أوسع مساحة من الفرح، والبهجة أضْأل كثيراً "من الأسى، فهو منذ السابعة من عمره عمل في مقهى من السادسة صباحاً حتى ما بعد منتصف الليل، وكان أبوه يأخذ أجره، ويأتي هو في آخر الشهر فقط ليقبّل يدَ أبيه، التي كانت تصفعه باستمرار، بذنب وبغير ذنب.. وكذلك عمل ماسح أحذية، وعمل في بيع الخضار والفواكه، وفي الفلاحة، إذ كان يقود البغل بالزمام في خط المِحْراث، واشتغل خادماً عند زوجة مراقب المزرعة في (وهران) حيث كان يغسل الصحون ويقلي البيض، وعمل بائع صحف، وشارك في التهريب حمالاً. وبعد أن بلغ سن العشرين تفتحت روحه للمعرفة، وتبرعم شوقه للاطلاع، فالحياة كلها في الكتب، كما قيل له. فصمّم على أنْ يتعلّم، وسافر إلى مدينة (العرائش)، وتعلّم هناك في نطاق معاناة فظيعة ومقاساة أليمة جداً، إلى أن استقرّ به المطاف معلماً في (طنجة). وقد وصف محمد شكري شقاءه وفقره وصعلكته وقذارته، وهو طالب في (العرائش) فقال:‏
                      "ثيابي تتسخ وتبلى وتفوح منها روائح جسدي. القمل يعشش فيها، حذائي يتسرب إليه الماء، شعري يقزّز ويتدبّق وسخاً، أحكّه باستمرار حتى يسودّ ما بين أظافري. حين أمشّطه إلى الأمام لأنظفه من قشرة الرأس والغبار، يتماشط منه قمل أسود نشيط. في كل مشطة لا أقل من ثلاث أو أربع قملات سمينة تتحرك بحيوية موجّهاً إيّاها -بعود صغير- أجعلها تتسابق ثم أضعها في قصاصة ورق وأحرقها بوقيدة لأتسلّى بطقطقة احتراقها"- (الشطارص32). ومن دلائل صعلكته الشريرة أنه عندما لاحظ أن صاحب المقهى يستغلّه ويسرقه، إذْ يدفع لغلمان أُخَر أجراً أكثر منه، صرّح قائلاً: "سأسرق كل من يستغلني حتى ولو كان أبي وأمي، هكذا صرت أعتبر السرقة حلالاً مع أولاد الحرام"(الخبز الحافي ص30).‏
                      إن العالم بأسره كان يبدو للراوي مرآة كبيرة يرى فيها وجهه مشوّهاً، ولهذا السبب راح يتعاطى الحشيش والكيف والجلوس في المقهى والدخول إلى السينما، ويكثر بإفراط من مشروباته الروحية المتنوعة.‏
                      وقد بقيت آثار التشرد والتسكع والاضطراب والضياع، تعمل عملها في ذات الراوي طويلاً، فهو لم يكن يعرف عدد أفراد أسرته، يقول: "حتى الآن لا أعرف كم كنّا. لقد كان يولد لي أخ وأخت فيموت او تموت، وأنا في طنجة لا أعلم شيئاً". لم أسألها (يريد أمّه) قطُّ حتَّى وفاتها في 8/6/84"-‏
                      (الشطار ص100).‏
                      وفي صراحة آسرة وبوح نادر، وبعد أن حصل تطور مذهل في حياة الكاتب، وبدأ باكتشاف إمكاناته الجديدة، وبعد أن نشر قطعة نثرية بعنوان (جدول حبّي) في جريدة العَلَم. كتب يقول: "دَوَّخَني الفرحُ، وسكرتُ احتفالاً بموهبتي الأدبية الدقيقة، اشتريت أعداداً كثيرة وزّعتها على رفقائي المتدربين، لأشعرهم بأهميتي بينهم، فكّرتُ: ابن الكوخ والمزبلة البشرية يكتب أدباً وينشر". ثم بدأ يغيّر هندامه، ليتناسب مع مكانته التي سيَحتلّها، وعلّق على ذلك بقوله: "ابن البرّاكة، وعشير الفئران يتأَلّقُ، يتحضّر، يتطوّر، يخرج من جلد خشن، ليدخل في جلد ناعم، والإلهام، آه، لا بد من ملهمة، ابن الوحل يستلهم..)-(الشطار ص108).‏
                      ثفافة كاتب:‏
                      والحقّ أن هذه العبارات المدهشة بصراحتها وعرائها وصدقها معاً تصوّر بؤس الماضي، في الوقت الذي تشير إلى تحدّ كبير لامتلاك المعرفة، التي تنير الدروب مهما أظلمت ...ولا عجب ممّن كابدَ تلك المكابدات أنْ يَتثَقَّفَ وأَنْ يُقْبِل على المعرفة بنهمٍ. ومحاولة رصدٍ لما كان يقرأ الراوي من خلال ما ذكره في الجزء الثاني من سيرته، تفضي إلى معرفة جوانب من ثقافته الواسعة، في الآن الذي تُشكّل فيه خيطاً من خيوط نسيج هذه الرواية، فقد قرأ الكاتب العارف الانجليزية والفرنسية والإسبانية، فيما يبدو، الكثير من آداب هذه اللغات، واقتبس منها بعض النصوص والإشارات، فيما يترجمه (سعيد يقطين) بالمصاحبات النصية (انظر انفتاح النص الروائي ص97) ومن الملاحظ أن الراوي قد عرف رامبو، وهاينرش هايني، وديكارت، وسارتر، وفرلين، واستشهد بأقوال لهم في الجزء الثاني من سيرته، مثل قول (رامبو): "ليس من الخير أن نبلي سراويلنا على مقاعد الدراسة، وقول (هايني): "أنا أحب إذن أنا أحيا"، وقول (ديكارت): "أنا أفكر إذن أنا موجود". وتعلّم من (جان جاك روسو) في "اعترافاته" أن يشعر بالعزاء بامتلاك الأشياء الصغيرة التي يهملها الآخرون. وكان قد ذكر في الرواية (إسحق نيوتن) و(هنري تورو) و(روبرت فروست) و(فان غوغ) وكذلك تعرف الأديب المغربي محمد الصباغ الذي نظر له في أول انتاجاته، ونصحه بالإكثار من القراءة. وكان حافظاً بعض أشعار صفي الدين الحلي، ومالكاً لديوان المعتمد ابن عبّاد. وقد قرأ المنفلوطي وزكي مبارك وكُتّاباً عرَباً آخرين. وهو إلى هذا وذاك، كان يستمع إلى الموسيقا الغربية والعربية، وإلى بعض أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، وغيرهم. وكذلك بسط لنا في (الشطار) حديثاً مطولاً عن ديكتاتور إسبانيا في القرن العشرين (فرانكو)، وعن إعدامه عشرة على الأقل، إذْ يوقّع على أوامر إعدامهم، وهو يتناول طعام الإفطار بأعصاب باردة، ونفس استمرأت القتل وألفته! وكذلك كان يشير إلى هجرة اليهود من المغرب إلى فلسطين.‏
                      الإيقاع الروائي:‏
                      بيد أن ما سبق كله لم يجعل هذا الكاتب يعالج شجون الروح وشؤونها، وذلك لأن مسّه الغّلاب كان انحلال روحه في جسده، كما يقول هو، وهو انحلال كان يطالعنا بين فينّة وأخرى، فهو ما أنْ يغيب قليلاً، حتى يعاود الظهور من جديد، مما جعله واحداً من عناصر النسيج الروائي في هذا الأثر الفني، وخاصة في القسم الأول منه.. وفي وسْعنا أن نعدّه لوناً من ألوان الإيقاع في هذه الرواية. والإيقاع الروائي قيمة فنية تستوقف الناقد وتستحق جهده النقدي. وقد كتب (البيريس) في كتابه "تاريخ الرواية الحديثة" يقول:‏
                      "إن الإيقاع الروائي هو إيقاع للمحاورات بأكملها وللحوادث وللمشاهد الروائية. فبعض الروايات يأسرنا انسجامها الداخلي بقوة الروابط التي توحي بها وتعقدها، وبإيقاع الحركات الروائية التي تتصالب فيها"-(تاريخ الرواية الحديثة- ترجمة جورج سالم ص465). وفي دراسة للناقد (أحمد الزعبي) بعنوان: "نظرية الإيقاع الروائي" ذهب هذا الناقد إلى حدّ القول إن "الإيقاع الروائي يضبط ويشكل ويجسّد البنى الروائية المختلفة في ترتيبها وهندستها وتواصلاتها الظاهرة والخفية، كما أنه يرسم ويرصد بدقة وانسجام عمليات التنسيق والتحرك والضبط والتكرار والترتيب والتوظيف والتوافق والتعارض والتغيّر والتصادم في الأحداث والمفاهيم والأزمنة والأمكنة والعواطف والشخصيات والعقد والحلول إلى آخر معالم الرواية على صعيدي الشكل والمضمون"- (انظر د. أحمد الزعبي. نظرية الايقاع الروائي- مجلة الناقد- العدد 20 ص34).‏
                      وروايتا (محمد شكري) تستجيبان للقراءة وفق مفاهيم الإيقاع الروائي في كثير من فصولهما ومشاهدهما وتعالق أجزائهما في السرد والحوار والوصف، وفي عالمي الداخل والخارج، والذات والمجموع، والجهل والمعرفة، والحضور والغياب.‏
                      وقد قدّمنا أن انحلال الروح في الجسد كان خيطاً من خيوط النسيج الروائي في هذا الأثر الفني، وهو يشكل إيقاعاً متوازياً "ما بين الرواية والواقع، أو الفن بوصفه حاملاً، والواقع بوصفه محمولاً. ففي زمن البؤس الفظيع والفقر المدقع، والجوع الجارح، تتموت روح الإنسان، ويخبو هتاف الروح فيها، لصالح علو هتاف الجسد. وكما أن الجيوش لا تزحف إلا على بطونها، فإن الناس الذين، يكادون أن يفتقدوا ما يقيم الأود في محيطهم، يفقدون معاني الحياة ويخسرون هيف الروح معاً، وتتخشّب مشاعرهم، فتنحل أرواحهم في أجسادهم، وخاصة أنهم لا ينعمون بنور المعرفة، بل يرسفون في أغلال الجهل ويصابون بغبش البصر... ومن هُنا، فإن كاتبنا أعلن دون مواربة بأنه لم يعرف الحب الحقيقي، رغم أنه اشترى كتب المنفلوطي وجبران خليل جبران.. وبعد أن قرأ هذه الكتب وجَدَ الحبّ الحقّ مشروطاً بالموت أو بالحزن الأبدي أو بالجنون -‏
                      (الشطار ص46).‏
                      ومن أشكال الإيقاع في الرواية شخصية الأب المتوحش الشرير، فهو يذكرنا بأب الراوي في بعض قصص (حنا مينه). وقد ألمحْنا إلى أن أبا الراوي هنا رمزٌ مُكافئ للواقع القاسي، والظرف الظالم. فالناس، كما يقول عمر بن الخطاب "أشبه بأزمانهم منهم بآبائهم". ولهذا فإنّ الأب المهووس بالعنف والضرب والخنق، هو صُنْوٌ للزمن المتّصف بالعنف والضرب والخنق. وإذا تأملنا بعمق في ما جرى ما بين الفتى وأبيه في الجزء الثاني من الرواية، وجدْنا ما يعضد ما ذهبنا إليه، فقد منع الشاب أباه من إلحاق الأذى بأمه، مهدداً أباه، إنْ فعل، بضرْبه بيد الهاون، وقد رفعها بوجهه حقاً، فأخمد عدوانيته وهزم جبروته وحطّم حيوانيته..! وقد كان هذا الإخماد والهزيمة والتحطيم متناغماً تمام التناغم مع حلول الأمن والاستقرار والهدوء اللاتي تأمنت للكاتب بعد أن توظّف، وصار له دخل ثابت، واستحال من حال إلى حال، فهو يقول: إنه بعد أن صار يقبض مرتباً شهرياً بنى جداراً ضد الجهل والاحتقار والتجاهل. وكم هو وجيه أن يعقد المرء مشابهة بين هذا الجدار، وبين يد الهاون التي حالت دون التهديد المستمر للأم الوديعة. فبين هزيمة جبروت الأب وهزيمة قسوة الحياة صلةُ تشابُهٍ لا تخفى... ويعمّق هذه الصلة أيضاً أن نلاحظ أن الأب بعد تلك الحادثة راح يبكي ذاته المهزومة عند الجيران، تماماً كما كان الابن يبكي جوعه وظلم أبيه في الصفحات الأولى من "الخبز الحافي"، فها هي ذي الأدوار إذاً تتبادل.‏
                      ومن ألوان الإيقاع في هذه الرواية بجزأيها، الصلةُ ما بين بدايتها ونهايتها، فقد افتتح الكاتب نصّه بتحيّة (طنجة) التي أحبّها حباً جماً، واختتم نصّه بقصيدة بعنوان (طنجيس) وهو الاسم الأسطوري لـ (طنجة) فقد قال في مطلع الجزء الأول:‏
                      "صباح الخير يا طنجة المُتفرسة في زمن زئبقي". وقال في خاتمة الجزء الثاني مخاطباً طنجة: "يحكون عنك أن طينة الخلاص منك وأن نوحاً فيك قد تفيّأ الأمان، وأنه حمامة أو هدهد، وأنه غراب. وبين موجتين تناسلت طنجة ملء زبدَ البحار"(الشطار ص213). وتعارض الخطابين واضح، فبعد أن كان زمنها زئبقياً رجراجاً في مطلع النص ليتناسب مع زمن الراوي الرجراج المتقلّب، صار طينها طيناً للخلاص والأمان معاً. إن حب الكاتب لمدينة (طنجة) وغزله فيها، يمثلان رغبة دفينة في الامتلاء، بعد الفراغ القاتل الذي كان يلقاه في غيرها من المدن التي جال فيها وهي: تطوان ووهران والعرائش. فهو فيها لا يحسّ بالفراغ الممل، وفيها يمكن له أن يولّد من أكثر الأيام كآبة وعوزاً بعض المتع: العزلة فيها حرّة لها مذاق التوت البري، والعزلة في (تطوان) مفروضة ومرّة، ولها مذاق الحنظل- (انظر الشطار ص95-96).‏
                      وقد صرّح الكاتب ذات مرة بتعلقه بطنجة فقال: (لي أماكن في طنجة، لي ارتباط جداً بالمكان، أنا أقدّر ما يُسمّى بجمالية المكان في القصة أو في الرواية، رغم أنه مذهب كلاسيكي واقعي، ولكني مرتبط جداً بالأمكنة. وأحياناً لا أعرف كيف أكتب حتى أكون جالساً في مكان معيّن" (أسئلة الرواية ص203). وقد مرّ بنا من قبل حديث الكاتب عن إنْشاء روايته (الخبز الحافي) في المقابر، وكذلك فعل في بعض فصُول روايته الثانية (الشطار).‏
                      ولعلّ مظهر الإيقاع الأكبر في هذا العمل الفني قد تجسّد في حالة التناظر والتقابل ما بين مهمة الراوي الفنية، من جهة، وواقعه البشع الفظيع، من جهة ثانية، فهو إذْ يحاول أنْ يقهر الزمن الزئبقي لطنجة، وغيرها من فضاءات الأمكنة المتقلبة، ويثبته بكتابة رواية تبقى وترسخ وتخلد، يحاول في الوقت ذاته ألا يكون آلة تصوير (فوتوكوبي) ترسم الواقع كما هو. إنه كاتب يدرك مهمة الفن ووظيفة الأدب، ويفهم معنى أن يكون المرء منفصلاً عن تجربةٍ، عاشها، ثم راح يكتب عنها، وآيةُ ذلك أنه في "الشطار" يذكر أن المستشرق الياباني (نوتاهارا) الذي ترجم له "الخبز الحافي" إلى اليابانية ارتأى، بعد ترجمة ثلاثين صفحة منها، أن يرى الأمكنة الموصوفة في النص، فذهبا معاً إلى (تطوان) وعادا إلى (طنجة)، وفي الأخيرة أطلع شكري (نوتاهارا) على الصهريج الذي وصفه في الرواية الأولى، فقال له المستشرق الياباني: "وصْفُكَ له في الكتابة أجمل من واقعه الحالي". فقال محمد شكري: "هذه هي مهمة الفن. أن نجمّل الحياة حتى في أقبح صورها، إن هذا الصهريج انطبع في ذهن طفولتي جميلاً. لا بد لي من أن أستعيده بنفس الانطباع، حتى ولو كان بركة من الوحل، ثم إنني كنت بعيداً عنه زمنياً ومكانياً عندما وصفتُه".‏
                      ومما يلاحظ في قسمي الرواية أن فصول الأولى منها كانت تتابع بأرقام (1-2-3-4-......). أما الثانية فقد صارت فصولها تُعَنْوَن بعناوين مثل‏
                      (زهرة دون رائحة) و(حين يفر السادة يموت العبيد) و(أول درس).. الخ والإيقاع هنا يتمثل بتحّول في شخصية الكاتب الراوي، فهي كانت في حال مُزْرية من الجهل والهامشية، قبل أن تنضج عام 1956، وصارت في حال أخرى بعد عام 1956، وهي الأعوام الأخيرة التي تحدّثت عنها الرواية، فحالة الجهل والضياع والتهمش، تناسبها الأرقام التي لا تدل على هوية أو شخصية أو تحديد، كما في القسم الأول من السيرة، وحالة الوعي والمعرفة والوجود، تصاقبها العناوين الدالة على الهوية الشخصية والتحديد، كما في القسم الثاني. (وانظر دراسة صبري حافظ للرواية في آخر "الشطار" ص 234-235)‏
                      بيد أن السرد المتسلسل في "الخبز الحافي"، رغم الذاكرة الانتقائية للكاتب وجهده في الحذف والإثبات، راعى التوالي الزمني في حياة الأنا الراوية، ولكنه في "الشطار" راح يتكسّر، ولا يبالي بالتتابع أو التعاقب. فالكاتب صار يختار من الذاكرة أشخاصاً وأحداثاً يلتقطها من تيار تدفق وانتهى، ليكتب عنها فصولاً مقطعة الأوصال، مَبْتُوْتَةَ العُرَى، مكسّراً قيود السرد، غير عابئ بالزمن الذي أمسى ذا وَقْعٍ رخيّ عليه، بعد أن صار يعمل عملاً يؤمِّن فيه قُوْتَه. فهل نستطيع أن نزعم أن تفكك عرى الحبكة في "الشطار" يعبر عن تفكك أوصال المجتمع المدني الذي راح يتطوّر في طنجة بعد استقلال المغرب عام 1956؟‏
                      ويبقى خيط أخير في هذا النسيج السجادي، هو الخيط السياسي، فقد سجّلت الرواية، وربما بأمانة وواقعية، انتفاضة 30 أيار عام 1952 التي طالب فيها الناس بالاستقلال، كما أرخّت انقلاب الناس على الباشا في العنوان (حين يفر السادة يموت العبيد). وقد كان الباشا عميلاً للاستعمار الإسباني في طنجة.‏
                      وإذا كان هذا المظهر يمثل تفاعلاً للنصّ مع التاريخ المعاصر، فإن تفاعلات أخرى كثيرة قد برزت في هذه الرواية، فممّا يُلْفِت الانتباه هنا، ذلك التعبير الحي الصادق عن مناخ مدينة (طنجة) التي كانَ سكانها يتمتعون بجواز سفر دولي تعبيراً عن وضعها الدولي الفريد، إذ التقى فيها أناس من جنسيات مختلفة، فمثّلت بيئة لتزاوج ثقافات متنوعة قديمة وحديثة، محلية وعالمية، شعبية وفوقية. وقد عبّر الكاتب عن ذلك من خلال المراوحة بين الواقع والحُلْم، واليومي والأسطوري، في نسيج يشعر الدارس أن الكاتب الذي نسجه قد ترك فسحة بينه وبين الأحداث، مكنّته من النظر من علٍ، فاختار من الصورة ما يصلح لبناءٍ جُسّدَت فيه اللحظة العابرة من خلال مخيال وذاكرة تناوبا على البناء والتشكيل، وهما إذْ نجحا في إحداث متعة جيدة في (الخبز الحافي) فإن المتعة ذاتها قد هبطت درجتها كثيراً في (الشطار). ولكن القسمين معاً خلّفا لنا صورة كاتبٍ صعلوكٍ أبْهَظَتْه تعاستُه، وقهره الجوع وأحرقه الحرمان، فراح دخان روحه المعطوبة يتصاعد بين سطور هذا العمل.. كما خلّف لنا القسمان صورة لمدينة استحالت من حال إلى حال، ما بين أربعينيات القرن العشرين وسبعينياته. وهي مدينة (طنجة) الساحلية القابعة على نقطة عند لقاء مياه المتوسط بالأطلسي، فلا غرو أن تكون بؤرةً لالتقاء الثقافات ومحوراً للاختلاف والحوار والحرية معاً. فكما كانت "طنجة" مركز العالم عند هذا الراوي، صارت محور الرواية ومركزها الأهم، بكل ما فيها من شوارع وساحات وحانات ومقاهٍ وخمّارات و(بورديلات) وفنادق ومدارس وأشياء وأشخاص، وهذا كله يتيح لنا القول أخيراً: إن المدينة التي تقف وراء أشباح روايات لم تُوْلَد، أو قامات روايات اكتملت، وصارت خلقاً سوياً، تُمَكّن الروايات ذاتها من أن تردّ لها الجميل، فتكتب تاريخها، بماضيه وحاضره، وأجنّة المستقبل المُسْتَكِنّة فيه.‏
                      المراجع:‏
                      1-شكري، محمد: الخبز الحافي، بيروت، دار الساقي، ط4-1996.‏
                      2-شكري، محمد: الشطّار، بيروت، دار الساقي، ط2-1994.‏
                      3-فاضل، جهاد: أسئلة الرواية، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، د. ت .‏
                      4-البيريس: تاريخ الرواية، ترجمة جورج سالم، بيروت 1967.‏
                      5-عصفور، جابر: زمن الرواية، القاهرة، 1999‏
                      6-حافظ، صبري: البنية الفنّية لسيرة التحرُّر من القَهْر، مقال أُثْبِت في آخر رواية الشطّار .‏
                      7-الزعبي، أحمد: نظرية الإيقاع الروائي، في مجلة الناقد، بيروت، العدد 20.‏
                      8-خراط، ادوار: من ظواهر الحداثة في الرواية المغربية، دراسة في مجلد الناقد، بيروت العدد 30.‏
                      9-فضل، صلاح: أسلوب السرد في الرواية، دراسة في مجلة الناقد، بيروت العدد 36.‏
                      10-يقطين سعيد: انفتاح النص الروائي- النص- السياق- بيروت 1989‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

                        القسم الثالث:" روائيون وروايات عالمية ":ماركيز في روايته:" قصة موت معلن "
                        (غابرييل غارسيا ماركيز) روائي كبير من أمريكا اللاتينية، حاز جائزة نوبل للآداب عام 1982. وهو ظاهرة استثنائية في الأدب العالمي المعاصر، فمن طرف يعتبر نوعياً أفضل روائي عالمي، أو يكاد. ومن طرف آخر، فإن كتبه هي الأكثر رواجاً في معظم دول العالم، وقد بيع من رواياته ما يزيد على خمسة عشر مليون نسخة. وخاصة من روايتيه: "مائة عام من العزلة"، و"الحب في زمن الكوليرا".‏
                        وقد ولد (غابرييل غارسيا ماركيز) عام 1928 في (أراكاتاكا) في (كولومبيا) وعاش مرحلة حياته الأولى في هذه المدينة التي أوكلت فيها أمه تربيته إلى ذويها، فتعلق (ماركيز) بجده وجدته اللذين ملأت خياله حكاياتهما الغريبة المفعمة بالخرافات والأساطير، وبذا بذرت البذرة التي نجم عنها الميل الجارف عند هذا الفتى لحبك الحكايات المتقن الذي دلَّ على موهبة يعز نظيرها.‏
                        وانتقل (ماركيز) في الثانية عشرة من عمره ليدرس في مدارس (الجزويت)، ولكنه كان عزوفاً عن الدرس، ملولاً بالمناهج وموادها.. ثم درس الحقوق في جامعة (بوغوتا)، ولم يكن متفوقاً أيضاً. وكأنه خلق بحق ليكون أديباً لا محامياً ولامدرساً ولا شيء غير ذلك. وقد راح (ماركيز) يكتب بعض القصص وينشرها في المجلات المحلية. وكان في بداية عهده يقرأ ويتأثر بـ (جويس) و(كافكا)، ويحاول تقليدهما. وبعد زمن يسير أحس أن شخصيته الأدبية الخاصة تتأبى على أن تستمر في إسار التقليد، وتمنّى لو يَمْحِي كل ما كتبه من قبل.‏
                        وقد عمل (ماركيز) في الصحافة، ثم أرسل إلى أوربا ليكون مراسلاً لجريدة (الـ سبكتادور) وهناك اتصل بجماعة السينما التجريبية. وكانت السينما شيئاً جذاباً إليه، وانتقل إلى باريس، ومنها سافر إلى أوربا الشرقية. وفي تلك الأثناء راح يكتب روايته: "العقيد لا يتلقى رسائل". وعمل (ماركيز)، الذي تزوج من الفتاة (مرسيديس) عام 1958، في صحافة (كاراكاس)، ثم اتصل بـ (كاسترو) بعد دخوله (هافانا). وفي عام 1960 تعرف إلى (تشي غي فارا) وصار بينهما صداقة حميمة.‏
                        وفي العام 1961 وصل إلى (المكسيك)، التي يقيم فيها الآن، وفيها دفع روايته "الأزمنة الصعبة" إلى الطبع، ونال هناك عدة جوائز، واتّخَذَت إحدى المجموعات السينمائية روايته "لا لصوص في هذه المدينة" لتصنع منها موضوعاً لـ (فلم) سينمائي عرض في مهرجان (لوكارنو) عام 1965.‏
                        واستمر (ماركيز) في عطائه القصصي، فأنتج عام 1967 روايته: ((مائة عام من العزلة)) وكان قد بدأ بكتابتها، وهو في السابعة عشرة من عمره، ولم يكملها إلا في سنة 1967، أي أنّ إنجازها استغرق /22/ سنة. وحين ولدت هذه الرواية جاءت مكتنزة بمجموعة كبيرة من التجارب والأفكار، وملخصة لتجارب (ماركيز) وفنه، ومرتفعة به إلى سدة كبار كتاب الرواية في العالم. كما كان لروايته: "خريف البطريرك" الصادرة عام 1975 أثر كبير في عالم النقد، فهي لم تزلْ تشغل النقاد في العالم، وقد ترجمت إلى أكثر من ستّ عشرة لغة.‏
                        أما رواية (ماركيز) هذه: "قصة موت معلن" فقد فرغت بالأمس من قراءتها بالعربية، بعد أن نقلها إليها السيد (صالح علماني) فجاءت في خمسة فصول موزعة بتدبُّر وحذق واتقان على /105/ صفحات. وقد كان لهذه الرواية وقع عميق في نفسي، فهي في ظاهرها المباشر القريب تحكي قصة شاب عربي يدعى (سنتياغو نصار) قدم مع أبيه (إبراهيم نصار) إلى إحدى قرى ساحل الكاريبي، وورث عن أبيه مزرعة (الديفينورستو) وكان يديرها بنجاح. وكان لهذا الفتى العربي واحد وعشرون عاماً عندما قُتل بطريقة فظة وفريدة ومُعْلَنة يوم الاثنين، في تلك القرية التي كان يعيش فيها وحيداً مع والدته (بلاثيدا لينيرو).‏
                        ويسوق (ماركيز) قصة هذا "الموت المُعْلَن" الذي وقع بغتة، ودون تخطيط مُسْبَق، من خلال حدَثَيْن هامّيْن شغلا ساحة السرد الروائي، هما حفلة زفاف (بياردو سان روما)، وقدوم مطران إلى القرية، للاطمئنان الشكلي عن رعيته فيها، واهتمام الناس باستقباله بمن فيهم (سنتياغو نصار).‏
                        وإذا كان الحدث الثاني أعني (قدوم المطران) حدثاً هامشياً شكَّل فقط إطاراً أو تسويغاً لكثير من الأحداث والتصرفات، فإنّ الحدث الأول بدا وثيق الارتباط بمقتل (نصار)، فقد كشف لنا الروائي (ماركيز) أن (بياردو سان رومان) الذي أسرف في الإِنفاق على حفلة زفافه ليلة الاثنين التي وقعت فيها الجريمة، قد أعاد عروسه (انجيلا فيكاريو) إلى بيت ذويها لأنه وجدها غير عذراء.. ولما علم أخوا (أنجيلا) بذلك، سألاها عمن فعل بها تلك الفعلة، فأجابت: (سنتياغو نصار)، فعزما على قتله، وراحا يشحذان سكينين أُعِدا لِذَبْح الخنازير..‏
                        وقد دارت أحداث الرواية جميعها ما بين الساعة الثالثة بعد منتصف ليلة الاثنين المعهودة، والساعة السابعة صباحاً، وهي ساعة قتل (سنتياغو نصار) على يد الأخوين التوأمين (بابلو فيكاريو) و(بيدرو فيكاريو) ثأراً لشرفهما، الذي انتهكه (نصار)، على حد زعم أختهما (أنجيلا).‏
                        وقد استفاد هذا الروائي الأمريكي اللاتيني في بناء صورة القصة، التي كانت مهشمة في ذاكرته، من شهادات بعض الذين حضروا مأساة موت (سنتياغو نصار)، ومنهم أم المغدور (بلاثيدا لينيرو)، ومنهم خطيبة (نصار) نفسه، واسمها (فلورا ميغيل)، ومن رواية ابنة خالته (انجيلا فيكاريو) زوجة (سان رومان) لليلة واحدة، ومن روايات أصدقاء (نصار) ومعارفه، الذين كان منهم (ماركيز) ذاته، وطالب الطب، أو الطبيب فيما بعد: (كريستوبيدويا)، وأخيراً من محضر التحقيق الذي مضى عليه عشرون عاماً، فعاد إليه (ماركيز) ليعرف بعض تفاصيل هذه الحادثة، فلم يستطيع إنقاذ سوى /322/ صفحة من أصل /500/ صفحة كونت ملف جريمة القتل تلك..‏
                        ولا شك أن المرء ينبغي أن يكون على قدر غير قليل من السذاجة، ليعتقد أن (ماركيز) روى لنا الوقائع التي حدثت صبيحة يوم الاثنين، الذي قتل فيه (سنتياغو نصار)، كما هي تماماً، دون أن يتدخل في تركيب الأحداث فيغيّر من مسارها، ويستعير بعض الجزئيات من مواقف أخرى، ويحذف البعض الآخر، من أجل التسويغ والإغناء، والضبط، والحبك، وشد القارئ إلى ما تحت عينيه من سطور، ليبدو (ماركيز) في النهاية الروائي الأصيل الذي يحقق معادلة حدوث الممكن وإمكان الحدث..‏
                        إن قراءة الفصول الأربعة الأولى من رواية (ماركيز): ((قصة موت معلن)) لا تكشف عن كامل المعنى في هذه القصة، وكأنها، أو كأن صاحبها، بقي يؤجل ذلك إلى الفصل الخامس والأخير حيث رحنا نقرأ الأحداث التي يُتمّ بعضُها بعضهَا الآخر، وبعض الأقوال والتصرفات التي تضيء الرواية نصف إضاءة، وتكشف بعض الكشف عن معناها، دون أن تكون تلك الأحداث أو تلك الأقوال منبتة عن فصول القصة مجتمعة.‏
                        ويبدو لي أن بالإمكان التقاط أكثر من فكرة في هذه الرواية، ولعل أبرز فكرة تقدمها هذه القصة الماتعة هي أن القدر الغاشم، المتمثل بجريمة قتل (سنتياغو نصار)، التي اقترفها التوأمان (فيكاريو)، ما كان له أن يقع لولا إحجام الناس عن دفعه، ففي الفصل الأخير يقول (ماركيز): "إن كل ما جرى اعتباراً من هذه اللحظة كان بفعل الإِحجام العام"- (الرواية 95-96)‏
                        والحقيقة أن فرصاً عديدة جداً كانت قد أُتيحتْ لِمَنْع تنفيذ تهديد الأخوين التوأمين (فيكاريو) بالقتل. ولكن الأقدار والصدف كانت تحول دون ذلك. وقد ظهر هذا جلياً في الفصل الخامس والأخير من الرواية، فصديق (نصار) المدعو (كريستوبيدويا) الذي أخبره العربي (جميل سليم) بعزم الأخوين (فيكاريو) على قتل صديقه، ودّعه للحظة، ثم راح لتوه يبحث عنه في كل مكان، ليحذره من ذلك، ولكنه أخفق. ولما رأى عمدة القرية وأبلغه بالخبر، وكان العمدة قد منع الأخوين (فيكاريو) من اقتراف الجريمة سابقاً، تأخر العمدة هذه المرة لأنه دخل إلى أحد النوادي ليحجز موعداً للعبة (الدومينو)، وما كان يتوقع أن تتم الجريمة بهذه السرعة، ولكنها تمت! وكذلك لما كان (كريستوبيدويا) يهم باللحاق بـ (نصار) ليمنعه من المرور أمام غريميه، كانت تعرض له مفاجآت تحول دون ذلك. وماسبق كله يعد لوناً من ألوان الحبكة التي تسهم في نمو الأحداث وتطورها...‏
                        ولما كان في مقدور (نصار) أن ينجو بنفسه عن طريق الاختباء في بيت خطيبته (فلورا ميغيل)، أغضبته هذه الأخيرة لأنها علمت بالتهمة الموجهة إليه، والتي تنطوي على خيانة الحب والعهد، لما نسب إليه من فعلة شائنة (بانجيلا فيكاريو). لذا دفعت له خطيبته رسائله التي لا حب فيها (ولننتبه هنا إلى عبارة: لا حب فيها) وقالت له: "خذ وعسى أن يقتلاك"- (الرواية ص99). وعندما أراد والد (فلورا ميغيل) أن يسلحه ببندقيته، قائلاً له: أنت تعرف إذا كان الأخوان (فيكاريو) على صواب أجاب (نصار): "لستُ أفهم شيئاً مما تقول". وكأن "ماركيز" بهذه المراوغة اللغوية، أراد لـ (نصار) أن يواجه قدرة الغاشم على نحو مأساوي ومفجع، ممتثلاً لما قاله (اندريه جيد) من (أن الرواية الحديثة وسيلة محظوظة للتعبير عن العنصر المأساوي في الإنسان) -(ثلاثة روائيين فلسفيين لجوزيف بريفان، دمشق 1975-ص9).‏

                        ولكي تكتمل المأساة وتتشابك خيوطها جعل (ماركيز) الأم (بلاثيدا لينيرو) تسهم ودون قصد منها، في تنفيذ جريمة القتل، وذلك عندما أغلقت البوابة التي كان يهم ابنها بالدخول منها إلى بيته، ولم تكن تعلم أنه خارج البيت، لأن الخادمة (ديفينا فلورا) أقسمت لها بأنها رأته يدخل البيت (ص86). والحق أن الاثنتين كانتا على صواب، فقد دخل (نصار) إلى بيته، ثم خرج منه دون أن يراه أحد، وكانت الأم- عندما أغلقت البوابة- تغلقها في وجه غريمي ابنها لأنه لم تكن تراه، وهو يهم بالدخول إلى بيته لوجوده إذَّاك في زاوية ميتة بالنسبة إليها.. وهكذا تضافرت كل الأحداث والتصرفات والأقوال لكي يلحق التوأمان (فيكاريو) بـ (سنتياغو نصار) ويثأرا لشرفهما - الذي يعني (الحب) كما كانت والدة (ماركيز) تقول له -ويقتلاه أمام سمع الناس وبصرهم جميعاً.‏
                        إن مقتل (نصار) هذا، وهو قوام رواية (ماركيز) الأساسي، يقدم لنا أكثر من معنى ويثير فينا غير سؤال، والحق أن الروائي يجعلنا في حيرة من أمرنا بشأن هذا الموت، فهو من ناحية يقدم لنا كثيراً من الشكوك في صدق التهمة الموجّهة إلى (نصار)، ويظهر لنا أن أحداً ممن عرفوا (نصاراً) و(انجيلا فيكاريو) لم يصدق أن هذا العربي المهاجر قد اقترف جريمة انتهاك شرف أسرة (فيكاريو)، حتى الروائي ذاته (ماركيز) كان متشككاً في إمكانية وقوع ذلك (انظر الرواية 79) ومن ناحية ثانية يجعل الاحتمال الثاني، وهو إمكانية حدوث الانتهاك، معقولاً وقابلاً للتصديق، فـ (نصار) لم يدافع عن براءته أمام خطيبته (فلورا ميغيل)، وعندما حذره والدها من القتل الذي ينتظره، وعرض عليه البقاء في بيته أو التسلح ببندقية للمقاومة، قال: "لستُ أفهم شيئاً مما تقول"! وعندما هاجمه الأخوان (فيكاريو) لم يصرح بأنه بريء مما يُنْسَبَ إليه.. بل قدمه لنا الروائي وكأنه راض بمواجهة مصيره.. وحتى بعد أن طعن عدة طعنات، وبقي حياً، سار وهو يحمل أمعاءه المندفقة أمامه ليموت في أرض مطبخه، لم ينبس ببنت شفة تنم على براءته.. وفي تلك الحيرة التي أشرنا إليها من قبلُ سرٌّ من أسرار غنى هذه الرواية، وصفة من صفات القص الحداثي الذي حذقه (ماركيز).‏
                        وهكذا يبدو بطل (قصة موت معلن) بطلاً ذا مصيرٍ فاجع.. إنّه ليس البطل الإيجابي بل هو البطل الضد- إن صح التعبير- لقد كان تلك الشخصية التي تفتقر إلى مقومات البطولة لأنها ليست معنية باجتراح ما هو عجائبي، بل هي معنية بالكشف عن العلاقات بين الأشياء والبشر، ومعنية بتقديم الحقيقة أيّاً كانت بشاعتها. ومن الحقائق التي قدَّمَتْها شخصية (نصار) هنا، أن القدر الغاشم لا رادّ له أحياناً، وأن الموت سيأتي رغم كل محاولات الإنسان لدفعه.. ولكن للموت أحياناً وجهاً إيجابياً، وهذا ما لاحظه أحد الصحفيين الألمان في مقابلة له مع (ماركيز) نشرتها مجلة المعرفة السورية (العدد 314-315- نيسان 1989) حين قال له: "لكن في كتبك غالباً ما يأخذ المرء انطباعاً بأن وجود الموت هو الذي يدفع الحياة للحركة. ففي كتابك الأخير مثلاً لاتكتسب نزهة العاشقين العجوزين على الباخرة النهرية شيئاً من روعتها المثيرة سوى أمام خلفية الموت. هل يتيح الموت لديك الحياة إذن؟" -(المعرفة ص176).‏
                        ويجيب (ماركيز): "جائز إنني مُفسّر سيءٌ لكتبي.."‏
                        وكذلك نجد الصفحي نفسه يعود ليسأل (ماركيز): "لكن في (الحب في زمن الكوليرا) يتوجب على الطبيب أن يموت أولاً لكي يتيح الحب للعجوزين. وليس هذا نادراً في كتبك. أليس هذا أيضاً تأثيراً إيجابياً للموت؟" ويجيب (ماركيز) عن هذا السؤال: ".. إنّ مما يُثير جنوني هو مواجهتي بأمور لم ألاحظ بنفسي شيئاً منها".‏
                        والحقّ أن الصحفي في سؤاليه السابقين كان على قدر كبير من الألمعية وعمق التحليل، وهذا ما يؤيده ما جاء في "قصة موت معلن" كما سنرى بعد قليل. وعلى الرغم من إجابات (ماركيز) ودهشته من تحليل بعض الدارسين والنقاد لإبداعه، فمن المسلم به أن النقد الجاد لا يحفل بآراء المؤلفين في مؤلفاتهم، فالنقاد قد يستخرجون من المبدعات ما لم يكن في صميم وعي المبدعين أنفسهم. فالنقد إذن قادر أحياناً أن يشرح ويفسر الأثر الأدبي على نحو لم يخطر ببال منشئه، وأن يهبه من المعاني ما لم يَدُرْ في خلد صاحبه.‏
                        وفي روايتنا هذه "قصة موت معلن" أتاح موت (سنتياغو نصار) لـِ (أنجيلا فيكاريو) حياة جديدة، كما سنرى. هذا أمر، وثمة أمر آخر، أو معنى آخر، يمكن للمرء المدقق في قراءة رواية (ماركيز) هذه أن يستنبطه، وهو إيمان الكاتب بأن العلاقة بين الجنسين حينما تخلو من الحب تخفق، ثم تتلاشى. وربما كان مصير من لا يبالي بهذه الحقيقة الموت المحقق، تماماً كما جرى لـ (سنتياغو نصار). وعلى العكس من ذلك فإن الحب الثابت العميق والوفاء المستديم والتعلق الصادق بمن نهوى، كل أولئك قد يصنع المعجزات ويحول الكراهية إلى حب..‏
                        وهاتان الفكرتان مجسَّدتان في علاقتي (نصار) بخطيبته (فلورا)، و(بياردو سان رومان) بزوجته لليلة واحدة (انجيلا) فقد عرفنا من بين سطور الرواية أن (نصاراً) كان مفهومه للزواج نفعياً مثل أبيه.. وكانت علاقته بخطيبته -كما تقول الرواية- سهلة لا زيارات رسمية ولا اضطرابات قلبية (الرواية ص98) ولهذا السبب عندما تناهى إلى سمع (فلورا) خبر تهديد (نصار) بالموت، بسبب ما نُسِب إليه من فعل شائن مع (أنجيلا) -زوجة (سان رومان) صدّقت الخبر الذي -كما ذكرنا- أحاطه الروائي بهالات كبيرة من الشكوك، وأوحى أحياناً أنه وهمٌ أتى به ليحرك شخوص الرواية ويرسم أحداثها، إذاً صدقت (فلورا)، وأعادت إلى (نصار) رسائله التي بلا حب، وقالت له: "خذ، وعسى أن يقتلاك".‏
                        أما (أنجيلا) ابنة خالة (ماركيز) والزوجة لليلة واحدة، فقد عرفنا أن الحدث الذي جرى لها كان له وقع الصاعقة، فقد هزّها من الأعماق ما فعله بها (سان رومان)، وغيّر كثيراً من كيانها، وصارت سيدة مصيرها.. ثم إنّ إعجابها بزوجها البائس راح يكبر يوماً فيوماً.. وقد ولدت من جديد لما رأته مرة في المشفى دون أن يراها، ثم اكتشفت شيئاً فشيئاً أن الكراهية والحب عاطفتان متبادلتان. وراحت (أنجيلا) تكتب لـ (سان رومان) رسائل كثيرة، بدأتها أولاً بإخباره أنّها رأته في المشفى وتتمنى لو كان هو الآخر رآها.. ثم طورت الرسائل إلى عتاب له لعدم المجاملة... ثم صارت تكتب له كل إسبوع رسالة. وكانت تلك الرسائل تحمل دعوات للوفاق، ثم تحولت إلى أوراق عاشقة مختلسة، فمذكرات عمل، فوثائق غرام.. واستمرت في الكتابة إليه سبعة عشر عاماً.. وفي النهاية ما الذي حدث؟ يقول (ماركيز): "وفي ظهيرة يومٍ من أيام آب، وبينما هي تطرّز مع صديقاتها أحست بأن أحداً قد وصل إلى الباب. لم تكن بحاجة للنظر لكي تعرف من يكون.. تقدم بياردو سان رومان خطوة إلى الأمام دون أن يهتم بالمطرزات الأخريات الذاهلات، ووضع الخرج على ماكينة الخياطة، وقال:‏
                        ((حسناً ها أنا هنا. ))‏
                        "كان يحمل حقيبة ملابسه ليبقى، وحقيبة أخرى مشابهة، بها حوالي ألفي رسالة كانت قد كتبتها إليه.. كانت الرسائل مرتبة بحسب تواريخها في حزم قماشية مزينة بشرائط ملونة وكلها غير مفتوحة"(الرواية ص84).‏
                        وبعد، ألا يمكن القول إذن: إنّ الحبّ يصنع المعجزات. وأن هذه المعجزة، التي ينبغي أن نتصور أنها أعادت لـ (أنجيلا) الجريحة بهاء حياتها، قد وقعت بعد أن قتل (سنتياغو نصار) التي أصرت على أنه هو الذي فعل ما فعل، وليس غيره.. وذلك في تصريح لها لكاتب الرواية ذاته (غابرييل غارسيا ماركيز).‏

                        وإذا كنّا إلى هنا قد وقفنا عند بعض المعاني الفلسفية لهذه الرواية -وهي معان تشهد أن قراءة (ماركيز) ليست من السهولة بمكان- فإننا لا نسوِّغ لأنفسنا أن نتجاوز ما في هذه الرواية من بُعْد وثائقي يتمثل بالإشارة إلى الحالة الاجتماعية والاقتصادية لأبناء الجالية العربية على ساحل الكاريبي، فماركيز يقول عن العرب الذين كان يخشى أن يثأروا لابن جلدتهم (نصار) -(ص72): "كان العرب يؤلّفون جالية من المهاجرين المسالمين الذين استقروا منذ بدايات هذا القرن في قرى منطقة الكاريبي، ووصلوا إلى أقصى هذه القرى وأفقرها. وهناك عاشوا وهم يبيعون قطع قماش ملونة وحلياً رخيصة للمهرجانات، كانوا متحدين نشيطين ومتصوفين. يتزوجون فيما بينهم، ويستوردون قمحهم، ويربون الخراف في باحات بيوتهم، ويزرعون الحبق والباذنجان. وولعهم العاصف الوحيد هو ألعاب الورق". ويضيف (ماركيز) ملمحاً آخر عن حال العربية بين ظهرانيهم فيقول: "استمر المسنون منهم في التحدث بالعربية القروية التي حملوها معهم من بلادهم، وحافظوا عليها سليمة في عائلاتهم حتى الجيل الثاني. أما أبناء الجيل الثالث منهم، باستثناء سنتياغو نصار، فكانوا يستمعون إلى آبائهم بالعربية ويجيبونهم بالإسبانية، وهكذا، لم يكن ممكناً التصور بأنهم سيغيرون فجأة من روحهم الرعوية ويثأرون لميتةٍ يمكن أن نكون جميعاً مذنبين فيها"(الرواية ص72).‏
                        وبالإضافة إلى الملمح الوثائقي للنص يمكن أن ننبه إلى عبارة (ماركيز) الأخيرة في المقبوس السابق. وهي أن تلك الجريمة يمكن أن يكون كل الناس الذين شهدوها مُذْنبيْن فيها. وذلك بفعل "الإحجام العام" كما سبق أن أشرنا من قبل. وربما كان (ماركيز) هنا يوحي بأن المجتمع بأسره مسؤول عن جرائم القتل فيه، وعن موت المغدورين، سواء أكانوا مذنبين أم غير مذنبين..!‏
                        وبعد، فإنّ مجموعة المعاني وجزئيات الأفكار التي اكتنزتها هذه الرواية "قصة موت معلن" لم تكن وحدها التي أورثتها جدارتها وأَكسبتها براءتها، ورفعت من شأن الروائي (ماركيز) وأهلته لأن يتربع على عرش الرواية في أمريكا اللاتينية، بل كان وراء ذلك أيضاً قدرة هذه الروائي على صناعة الحبكة الروائية المتقنة الماتعة. وقد نبعت متعةُ هذه القصة من خلال نأيها عن المباشرة والسطحية، وبعدها عن الانسكاب في قالب جامد بارد، فقد جاءت معجونة عجناً، تنامى فيها الحدث المحوري شيئاً فشيئاً من خلال مجموعة من الخيوط التي كان (ماركيز) يحذق شدّها وإِرخاءها، متى كان يصلح الشد، ويسوغ الإرخاء.. نعم قد ألقى ماركيز بالمشكلة منذ السطور الأولى عندما أشار إلى الفأل المشؤوم لحُلُمَيْ نصار في الإسبوع السابق لقتله، ولكنه راح فيما بعد يوزع الأحداث والأقوال ويصف الأشياء والتصرفات ويوحي بالأفكار والمعاني بالشكل المناسب، والموزع على فصول الرواية الخمسة، التي كان الفصل الأخير فيها يمثل الإضاءة الفنية الملائمة للجزئيات السابقة.‏
                        ولم يكن (ماركيز) ليضيء كل شيء، فلو فعل لسطَّح روايته، وأفقدها سرَّ الجذب والدهشة الذي وفّره لها. بل ذكر أشياء، وسكت عن أشياء، وأتقن فنّ الإثبات والحذف، فنجح في إبقاء الحيرة في نفوس قرائه، وأبقى السؤال الكبير معلّقاً: هل استحق (نصار) هذه القتلة، وهل كان الأخوان (فيكاريو) على صواب عندما اقترفا الجريمة التي كان (ماركيز) بارعاً في وصفها؟‏
                        إن اليقين ليس في يد القارئ أبداً، ولكن الترجيح كان في حوزته.. ولعل هذه هي حقيقة الحياة الإنسانية التي جسدتها الرواية، فالمرء يحيا غالباً بين هذين الأمرين في الحياة: الميل إلى امتلاك اليقين، والجري على هدى الترجيح الغالب..‏
                        ومن أوجه مهارة هذا الروائي أيضاً تمكنّه من رسم الشخصيات عبر لمسات متتابعة، كانت تزداد فصلاً إثر فصل، لتنتهي إلى رسم لوحة كاملة أو ناقصة للشخصية الروائية والحدث الروائي، وذلك بحسب ما رسم لها من دور في هذه القصة. أضف إلى ذلك الطريقة الناعمة الحاذقة التي كان يتم بها تقديم الشخصيات وإدخالها في البناء الروائي فقد عرّفنا (ماركيز) بأن لـ (نصار) المقتول خطيبةً تدعى (فلورا ميغيل) على الشكل التالي: فهو بعد أن أشار إلى تكاليف حفلة زفاف (سان دورومان) قال على لسان (نصار): هكذا سيكون عرسي لن يمتد بكم العمر لحساب تكاليفه، ثم روى الآتي: "أحسّت أختي بمرور الملاك. وفكرت مرة أخرى بحظ (فلورا ميغيل) الطيّب التي أصابت أموراً كثيرة من الحياة. وستحصل فوق ذلك على (سنتياغو نصار) في عيد الميلاد لهذه السنة" (الرواية ص19). فلنصار إذاً خطيبة تدعى (فلورا ميغل) ستتزوجه في عيد الميلاد. ولكن الموت يكون له بالمرصاد!‏
                        وأخيراً، فربما كانت هذه المزايا وتلك القدرات التي تنمّ على خبرة ممتازة في البناء الروائي والحبكة القصصية هي التي جعلت (قصة موت معلن) تثير جدلاً واسعاً في الأوساط الأدبية الناطقة بالإسبانية، حتى إنّ (ماركيز) نفسه عدَّها في مقابلة له مع صحيفة (البايبس) الإسبانية أفضل ما كتب حتى الآن.‏
                        والجدير بالذكر أن هذه الرواية صدرت في إسبانية بطبعة من مليون نسخة، بيع منها في اليوم الأول فقط حوالي /35/ ألف نسخة. وها أنذا أقرأُها في طبعتها العربية الثالثة الصادرة عن دار الحقائق في بيروت 1987. ولم أقرأها مرة واحدة بل مرتين اثنتين، لأنني تمتعت بها أي تمتّع. وأن تحقق الرواية إمتاع القارئ يعني أنّها تنطوي على إنجاز كبير، وميزة عظمى، ربما لا يضاهيها أية ميزة أخرى، فقد قال (هنري جيمس) عن فن الرواية:‏
                        "أما الالتزام الوحيد الذي يجب أن ترتبط به الرواية سلفاً دون أن تجلب لنفسها تهمة التعسّف، فهو أن تكون ممتعة. وهذه هي المسؤولية التي تقع على عاتقها، ولا أحسب أن هناك مسؤولية أخرى، أما الطرق التي لك مطلق الحرية أن تستعملها للوصول إلى هذه الغاية، فهي لا تُحْصَى" (النقد لمارك شورر- دمشق 1966- ج 1 ص118).‏
                        والحق أن رواية (ماركيز) "قصة موت معلن" كانت ممتعة بأيّ مقياسٍ أُخِذَتْ .‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

                          جون شتاينبك في روايته:" اللؤلؤة "
                          (جون شتاينبك) روائي أمريكي حاز جائزة نوبل للآداب عام 1962. وكان له من العمر إذّاك ستون عاماً فقد ولد في (ساليناس) بولاية (كاليفورنيا) في السنة 1902. وهو من أصل ألماني. وانتسب إلى جامعة (ستانفور) ليدرس علم الأحياء البحرية، ولكنه لم يكمل دراسته، فترك الجامعة ليعمل في ميادين مختلفة: عمل عاملاً أولاً، ثم في جمْع الفواكه، فمسَّاح أراضٍ.. وحين أراد أن يقوم بأعمال حرة في (نيويورك) لم يواته الحظّ، فعاد إلى كوخ منعزل في (كاليفورنيا) ليتفرغ للكتابة.‏
                          وكانت روايته الأولى (فنجان الذهب) قد صدرت في العام (1929). وكان حينئذ في السابعة والعشرين من عمره. وتلاها قصصه (رعاة الجنة) (1932)، فروايته (إلى إله مجهول) في العام (1933). ولكن نجمه بدأ باللمعان بعد صدور روايته الأمريكية المكسيكية (تورتيللافلات)- (1935) إذ حققت هذه الرواية نجاحاً كبيراً، وحوّلت إلى عملٍ مسرحي، وتلاها رواية (في معركة مشكوك بها) (1936) و(فئران ورجال) (1937). أما قصة شتاينبك الأكثر شهرة في الأدب الأمريكي والعالمي، فهي (عناقيد الغضب) وصدرت في العام (1939). فقد حصلت هذه الرواية على عدة جوائز منها جائزة (بوليتزر). وهي تتحدث عن عائلة (جواد) jawd) وتحركاتها ما بين (إكلاهوما) و(كاليفورنيا)، وتُعْنَى بنقد الحياة الاجتماعية آنذاك بعنف. ولأهمية هذه الرواية قارنها بعض الكتاب برواية (كوخ العم توم) التي كانت من بين مجموعة من الكتب التي غيَّرت مجرى العالم كالكتاب المقدّس، ورأسمال المال لماركس، وهكذا تكلّم زرادشت لِنيْتشه.‏
                          وترك لنا (شتاينبك) أيضاً روايات أخرى عُرّبَ بعضُها، ولم يعرّب بعضُها الآخر، ومنها: القرية المنسية (1941)، وشارع السردين المعلّب (1946)، والحافلة المتمردة (1947) واللؤلؤة (1947)، وشرقي عدن (1952) وهذه الأخيرة محاولة لبَعْث قصة (قابيل وهابيل) في قالب جديد. ويوم الخميس الحلو (1954).‏
                          ومن مجموعات (شتاينبك) القصصية القصيرة: القديسة كاتي العذراء (1936)، والمهر الأحمر (1937)، والوادي الطويل(1938). وقد عرّب الدكتور حسين مؤنس مسرحية شتاينبك (ثم غاب القمر)، الصادرة عام 1942، ونشرها في القاهرة منذ زمن بعيد.‏
                          وربّما كان كتاب (شتاينبك) (شتاء حُزْننا) الصادر عام (1961) آخر كتبه صدوراً.‏
                          ومن مؤلفات أديبنا غير الخيالية، كتابه: (بحر كورمز)، وفيه يبدو شتاينبك مغرماً بالطبيعة غراماً واسعاً. وهو غرام شكّل خلفية الكثير من لوحات الوصف التي حفلت بها رواياته، وكتابه (رحلات روسية) الذي وصف فيه زيارة قام بها إلى الاتحاد السوفييتي سنة 1948.‏
                          وقد تزوّج (شتاينبك) ثلاث مرات. وتوفي في السنة 1968.‏
                          ومن مميزات روايات (شتاينبك) الكتابة عن أُناسٍ بُسَطاء يتّصفون بمستوى ثقافي محدود، ولكنّهم يتمتعون بقلبٍ كبير غالباً. وسنرى مصداق ذلك في روايته هذه التي اخترناها للدراسة وهي رواية (اللؤلؤة) التي ترجمها إلى العربية الأستاذ (سمير عزت نصّار) ونشرها بدار منارات في عمّان بالأردن، عام 1987.‏
                          ***‏
                          ورواية (اللؤلؤة) هذه المؤلفة من /105/ صفحات، والموزّعة على ستة فصول، رواية تقدّم عبرة وفكرة لمن يشاء الاعتبار والتفكرّ.. وهي توحي بكثير من المعاني التي ربّما كان بعضها ثانوياً، وبعضها الآخر جوهرياً. وذلك بحسب زوايا النظر التي ننطلق منها للحديث عن الرواية، فهي تشير أحياناً، إلى مسألة الخير والشر في الحياة. كما تتناول ثنائية الطمع والقناعة، وتومئ من بعيد بعيد إلى فكرة جوهرية، هي فكرة الصراع بين الإرادة البشرية، وقدرها الغاشم، ولعل هذه الفكرة هي ما تريد علاجه هذه القصة الماتعة التي عَظّم مؤلّفُها المسعى الفردي، وأعلى شأن الطموح البشري، وأكبرَ البسالة الإنسانية.‏
                          وقبل الشروع في تمحيص هذه التأويلات المحتملة لرواية (اللؤلؤة)، نرى أنه لا بُدّ من تقديم صورة مكثّفة عن الشخصيات والأحداث فيها، فنحن نقرأ في القصة حدثاً عظيماً وفريداً يقع لأسرة صغيرة فقيرة تسكن بيتاً متواضعاً من الأغصان في قرية تقع على شاطئ البحر. وتتألف تلك الأسرة من رجل يُدْعى (كينو) يعمل صيّاداً بحرياً. وامرأة تدعى (جوانا)، ووليد رضيع اسمه (كويوتيتو) ولـ (كينو) أخ يدعى (جوان توماس).‏
                          والحدث الذي انبثقت منه حلقات الرواية الأخرى، بما فيها من دلالات، هو عثور رب الأسرة (كينو) على لؤلؤة غالية الثمن، أو توهّم الناس أنّها غالية الثمن، قلبت حياة تلك الأسرة الوادعة الهادئة رأساً على عقب.. وآلت في نهاية المطاف إلى فقدانها ولدَها الوحيد (كويوتيتو)، بطلقةِ رصاصٍ جاءته من أبيه، بسبب خطأ قاتل حدث بعد أن انتزع الأب بندقية أحد أعدائه، الذين كانوا يطاردونه من مكان إلى آخر لسرقة اللؤلؤة، هذه التي وُجدتْ في الرواية لتحكي قصة الإرادة البشرية، وطموح الرجال، وقد حالت دونهما العوائق والعقبات.‏
                          ومنذ الفصل الأول من رواية (جون شتاينبك) هذه، نقف على حدث مشؤوم فحواه: لدْغُ العقرب لابنِ (كينو) الوحيد (كويوتيتو)، الأمر الذي يجبر الأب على عرضه على طبيب سيِّئ الخُلق، يتّصف بالجشع والدناءة، فهو يأبى علاج الطفل لأنّ والديه لا يملكان ما يدفعانه ثمناً لعلاجه، حتى إذا عثر الأب على "لؤلؤة العالم" الثمينة، كما نقرأ في الفصل الثاني، وشاع نبأ هذه اللقيا العظيمة، وجدنا الطبيب يسارع من تلقاء ذاته في اليوم الثاني لزيارة بيت (كينو) المتواضع، ويقدّم العلاجَ للرضيع بعد أنْ يبعثَ القلق في نفس والديْه.. ثم يطالب الأهل بأتعابه، فيقول له الأب: سأدفعُ لك أجوركَ بعدَ أنْ أبيع اللؤلؤة التي وجدْتُها بالأمس. ولمّا حانت التفاتةٌ من (كينو) إلى المكان الذي خُبّئتْ فيه اللؤلؤة، اختلس الطبيبُ نظرة أخرى إلى المكان ذاته. بعد أن كان استدرج الصياد الفقير إلى هذه الخطة الروائية، التي تنمّ على حالة من عدم التدبر والحنكة عند بطل الرواية..‏
                          وبدءاً من الليلة الأولى التي باتت فيها اللؤلؤة في بيت الصياد البائس (كينو)، راحت الأحداث تأخذ منحى جديداً، وتتسارع وتتصاعد لتكوّنَ مجموعةً من المواقف المتباينة والأفكار المتناقضة، التي ألمَحْنا إليها سابقاً. وهي المواقف التي جسّدتْها ثنائيات: الخير والشر، والقناعة والطموح، والتصدّي والهروب، ثم الإرادة والقدر. ففي الليلة الأولى يحاول شخص، يوحي لنا الكاتب بوضوح أنّه الطبيب المداوي الجَشِعُ ذاته، أنْ يسرق اللؤلؤة، فيهب (كينو) لحمايتها، ويحول دون سرقتها، وينجم عن ذلك إصابة (كينو) بلطمة في رأسه، فتسعفه زوجته التي تستنتج عندئذ ان هذه (اللؤلؤة) هي شرّ، وينبغي التخلّص منها. فيرفض (كينو) هذه الفكرة. ويُصِرُّ على أنها فرصته الوحيدة، وأنها سر سعادته القادمة، وأنَّ يوم العثور عليها هو يوم تاريخي يشبه يوم ولادة (كويوتيتو).. ولهذا فإن الأحلام الوردية التي جاءت بها اللؤلؤة يجب أن تتحقق.. وأهم تلك الأحلام إقامة عقد زواج بين الزوجين (كينو) و(جوانا) في الكنيسة، ثم تعليم ابنهما القراءة والكتابة ليعرف ماذا يوجد في الكتب، وشراء الألبسة الجديدة، ثم امتلاك بندقية. وهذا الحلم الأخير هو الذي يتحقق فقط كما سنرى.‏
                          وبسبب ما تقدم، ما إنْ يبزغ نور الصباح حتى ينطلق الصياد المحظوظ الآن، والمنكوب بعدئذ، ليبيع اللؤلؤة في مدينة (لاباز)، فيصطدم هناك بمجموعة من تجار اللآلئ الذين يتآمرون لتبخيس أية لؤلؤة تأتيهم، لأنّهم يشكلون حلفاً واحداً، له وجوهٌ عدّة، أو قلْ: هم أصابع تحرّكها يد واحدة تقبع بعيداً، ويدفع أحد التجار لـ (كينو) ألف بيزوس ثمناً للؤلؤته، فيرفض (كينو) العرض، ويصر على أن "كنزه" هذا يساوي خمسين ألف بيزوس، كما يرفض الألف والخمسمائة بيزوس التي كانت الثمن الأخير الذي دفعه التاجر.‏
                          ويعود (كينو) إلى بيته وفي نفسه قرارٌ ببيع اللؤلؤة في العاصمة، متحدّياً خدعة تجار اللآلئ في مدينة (لاباز). وها هنا نقرأ حواراً يديره (شتاينبك) بين جيران (كينو)، يتصل بموقفه السابق، فمنهم مَنْ قال: (إن كينو كان ينبغي له أنْ يقبل، فمبلغ ألف وخمسمائة بيزوس لرجل فقير جيّدة جداً" ويُنْكِر آخرون هذا الرأي، قائلين: "إنّ كينو رجل شجاع ورجل عنيف، وهو على حق، وقد نستفيد نحن كلّنا من شجاعته. إنّ هذا مجال فخر لكينو" (الرواية ص66. )‏

                          وفي الليلة الثانية لبقاء اللؤلؤة في بيت الصياد. نعرف أنّ صاحبها قد دفنها تحت حَجَرِ حفرةِ النار، على مرأى من عين زوجه (جوانا) ونسمع على لسان أخيه (جوان توماس) الذي زاره في تلك الليلة قوله: أنت لم تتحدّ مشتريّ اللآلئ، بل تحدَّيْتَ البنية الكاملة، كامل طريقة الحياة، وانا خائِفٌ عليك"(ص66). وهنا تتركّز فكرة الرواية الرئيسية في نظرنا، وسيأتي بيان ذلك.‏
                          وبعد أن يغادر الأخ (جوان توماس) بيت أخيه، يأتي لصٌّ آخر لسرقة اللؤلؤة، فيهب (كينو) من جديد للدفاع عن لؤلؤته وعن بيته، فيناله هذه المرة جرح بليغ.. وتستغل الزوجة هذه الحادثة الثانية لتأكيد فكرتها بأن اللؤلؤة شر وليست خيراً، وأنها نقمةٌ لا نعمة.. وهكذا يبدو لنا أن الخير قد يكون مصحوباً بالشر. وهذه ثنائية قلّما تنفصل في حياتنا البشرية، ولهذا تطلب الزوجة من (كينو) أن يحطّم اللؤلؤة أو يقذف بها بعيداً. ولكنّه يأبى ويُصِرُّ على بيعها في العاصمة في الصباح الآتي.‏
                          وقبل بزوغ الصباح نجد (جوانا) تقرر قذف اللؤلؤة في البحر. ولكن (كينو) يلحق بها قبل ثوانٍ من إنفاذ قرارها هذا. وفي الليلة ذاتها يَقْتُل (كينو) رجلاً كان يطارده على شاطئ البحر لاختطاف اللؤلؤة.. وعندئذ يقرر الرحيل من هذه البلدة الملأى بالخوف والفوضى واللصوص والأعداء والحاسدين، ولا سيّما أنّه ارتكب جريمة قتْلٍ فيها، ويطلب من زوجته أنْ تحضر وحيدها (كويوتيتو)، وعندها يكتشف الزوجان أنّ الأعداء قد تجرأوا على بيتهم فأحرقوه، واعتدوا على قارب صيدهم ففتقوه، وحوّلوه إلى هيكلٍ تافهٍ لا قيمة له.. فيذهب الصياد وزوجه إلى بيت أخيه، ومعه ولده ولؤلؤته، ليختبئ فيه نهاراً واحداً و بعض ليلة.‏
                          وفي الفصل الأخير نجد الزوجين وابنهما يتّجهون شمالاً بعيداً عن هذه القرية المعادية، ولكن القدر يكون لهم بالمرصاد، فقد تبعهم ثلاثة من قصّاصِيّ الأثر ، اثنان منهم راجلان، والآخر يمتطي جواداً ويحمل بندقية، وغرضهم جميعاً اختطاف اللؤلؤة. وبعد محاولات كثيرة من التخفي والاختباء، يقرر (كينو) أن ينتقل إلى مرحلة الهجوم، فينقض على الفارس بسكين كان أخوه قد زوده بها، ويستخلص منه بندقية ثم يقتل الرجل الثاني، ويفرّ الثالث فيلاحقه ويصوّب بندقيته عليه، ليقتله أول مرة، ويكرّر المحاولة، فيقع هنا خطأ فظيع يؤول إلى مقتل الوليد، الذي استقرت في رأسه رصاصة أبيه، بدلاً من أن تستقرّ في رأسِ عدوّه! وبعد رحلة العذاب والألم هذه يعود (كينو) مع زوجه إلى قريته وقد فقد ولدَهُ،ولكنّه غنم بندقية..‍!‏
                          وبعد لحظات تأمّل في تلك اللؤلؤة وفي ما جرّته عليه، يقرّر ذاك الصياد الشجاع المنكود الحظ أن يعيد اللؤلؤة إلى زوجته لتقذفَ بها إلى البحر. ولكن الزوجة تقول له هذه المرة: "لا. أنت". فينفذ كينو، ويقذف الكنز المشؤوم إلى البحر، لتتحول اللؤلؤة إلى همس، ولتقول لنا همساً أيضاً، ومن بين سطور تلك الرواية، أشياء كثيرة وكثيرة.‏
                          ولكن اللؤلؤة لم تكن وحدها التي تهمس، بل كان سلوك الصياد (كينو) رغم صخبه وعنفه، يهمس هو أيضاً.‏
                          وسنبحث فيما يلي من سطور، وبين ذينك الهمسَيْن، عن مجموعة المعاني والدلالات الجديرة بالنقاش، متنبّهين إلى أن ما نقوله هنا هو رأي شخصي يطمح ليكون ممتلكاً أكبر قدر من الإقناع ومقاربه اليقين، ذلك أن غاية التحليل النقدي للأثر الفني هي الوصول إلى أقصى قدر مستطاع من الإقناع ومقاربة اليقين.‏
                          فمن الجائز لنا أن نرى في همس اللؤلؤة، التي أصبحت بعيدة في قاع المحيط، تلك الفكرة التي قال فيها الروائي (ص29): "ليس من الخير أن تريد شيئاً أكثر من اللازم، فهذا يطرد الحظ أحياناً، يجب أن تريد على نحو متواضع، ويجب أن تكون لبقاً مع الله أو الإله".‏
                          وبعبارة أخرى لتقنع بأقل ما يأتيك به قدرك، وبأقل ما تجود به الآلهة عليك. وها هنا تبرز ثنائية الطموح والقناعة.. ولكن (كينو) لم يمتثِلْ لهذه النصيحة، بل اختار الطرف الآخر من هذه الثنائية، حينما رفض المبلغ البَخْسَ الذي دفعه له تاجِرُ اللآلئ، وأراد أن يغتنم فرصته إلى أقصى حدّ تسمح له به الحياة.‏
                          هذا أمر، والأمر الآخر الذي يمكن أن تهمسه لنا اللؤلؤة، هو أن النجاح الذي يحدث صدفةً وبغتةً دون جهد واعٍ، وعملٍ متّصل، ودأب مستديم، ومثابرة مستمرة، هو نجاح هشٌّ ومعرضٌ للاختراق، وربّما للتلاشي والزوال.. وهذا كله عكس ما كانت تقوله الآلهة (انظر ص42). والوجه الآخر لهذه المسألة، هو أنّ النجاح مرهونٍ بإرادة الرجال لا بأقدارهم. وهو ما اختاره (كينو)، وخاصة عندما شاهدناهُ لا يستكين لخدعة تجّار اللآلئ، فيقبل بالمبلغ الزهيد الذي دفعوه ثمناً للؤلؤة.‏
                          وقد كان في سلوك (كينو) مثل عظيم على التصميم وقوة الإرادة، فقد قاوم (كينو) شكوك زوجته، التي اعتقدت أنّ اللؤلؤة شرّ ينبغي الخلاص منه ،قائلاً: "سأحارب هذا الشر، سأفوز عليه، سنأخذ فرصتنا" وأضاف مخاطباً (جوانا): "لن يأخذ أي شخص منا حَظّنا الطيب، صدّقِيْني أنا رجل"(ص69).‏
                          وها هنا تبرز ثنائية الإرادة والقدر. ويبدو أنّ صيادَنا (كينو) كان رجلاً بحقّ، فقد سعى ليفوز بالثروة والغنى، وهذا أمر مشروع ومقبول، ولكن القدر كان له بالمرصاد، وحاول أن يتحدّى طريقة الحياة بكاملها في بلدته، ولكن اللصوص والأعداء والحسدة أحاطوا به من كل حَدْبٍ وصوْب. إنّ تحدّي (كينو) هو رمز الإرادة، وأولئك الرجال هم رمز القدر. وها هو ذا بطل "اللؤلؤة" حائرٌ بين أمرين: التصدي أو الانسحاب، أو لنقل القبول بالنزر اليسير، أو طلب الكثير الوفير، وهذه هي أيضاً ثنائية القناعة والطموح. وقد اختار (كينو) الخيار الثاني.‏
                          وحينما ألجأته الظروف إلى أن يتحول إلى الهجوم على أعدائه ومطارديه من قصاصي الأثر، لم يتوانَ.. فهاجم وقتل الأعداء وعاد بالبندقية. ولكنّه خسر ابنه، كما عرفنا. فلم يكن نجاحه كاملاً.. ولكن متى كان النجاح الإنساني كاملاً؟؟ والحقيقة أنّ فقدان الوليد مأساة، ولكنها مأساة نجمت عن خطأ غير مقصود. وهي مأساة كان لها أثرها في بنية الرواية، فقد عمقت تعاطفنا مع البطل (كينو)، ولم تنتقص من إعجابنا برجولته وإكبارنا لسعيه الصادق، وتقديرنا لتصميمه على تنفيذ خططه، وبالتالي فقد بدا لنا (كينو) بطلاً إيجابياً ومتناقضاً مع صورة بطل رواية ماركيز "قصة موت معلن" الذي عرفناه من قبل. فمنذ عثر على (اللؤلؤة) ارتسم له على سطحها أحلام وأحلام. وكان أكثر أحلام يقظته تطرّفاً وأكثرها بهجة، هو امتلاك بندقية (انظر ص38). وقد حقّق هذا الحلم غير عابئ بما كان يعرفه عن الآلهة (الأقدار) من رغبةٍ في "الانتقام من رجل ينجح نتيجة لجهوده الخاصّة" (انظر ص42).‏
                          والحقّ أنّ البندقية هنا هي رمز القوة والهيبة، ورمز الأمن والطمأنينة. ولهذا السبب قال (جون شتاينبك) معلّقاً على حلم الصياد بامتلاكها: "بتملّكِ بندقية فإنّ آفاقاً كاملة ستتفجّر وسيمكنه الاندفاع إلى الأمام. فقد قيل بأنّ الإنسان غير قنوع أبداً، فأنت تعطيه شيئاً واحداً، فيطلب شيئاً آخر. وقد قيل هذا للحطّ من قيمة الإنسان، مع أن هذه صفة لأعظم المواهب التي يتمتّع بها الإنسان. وهي صفة جعلته متفوّقاً على الحيوانات القانعة بما تملكه"(ص38).‏
                          وممّا تقدّم يبدو (كينو) مُحقّاً في نضاله، إنّه رجلٌ يسعى لتحقيق الإنسانية التي يفهمها (جون شتاينبك) عبر الصراع بين الخير والشر، وبين الأمن والتهديد، والفقر والغنى. ومن هنا صحّ لنا أنْ نفهم من "اللؤلؤة" رمزاً لأهدافنا في الحياة، أو لمشروعنا الأكبر الذي ينبغي أن ندافع عنه بكل بسالة. ويسوّغ لنا هذا الفهم ما انطق به الروائي بطله من قولٍ، نصّه: "أصبحتْ هذه اللؤلؤة روحي، إذا تخلّيْتُ عنها سأفقد روحي"(ص81).‏
                          وكلّ ما تقدّم يُحيل إلى الاستنتاج أنّ بطَلَ رواية (اللؤلؤة) يجسّد فكرة إيجابية، لا فكرة سلبية، فكرة صدامية تُعْلي شأن الإرادة، وتعدّها ميزة الإنسان الكبرى، وتقدّس طموح البشر، وتجعل منهُ الشرط الذي يعلو به الإنسان على غيره من الكائنات، كما قال الكاتب في تعليقه على طموح (كينو).‏
                          إنّ (كينو) صاحب تلك الإرادة وذاك الطموح قد شاكسته الأقدار وعاندته الظروف، ولكنه لم يَستَخْذِ، ولم يرضخْ، هاجمه اللصوص والمارقون، فتصدّى لهم، وثبّطتْ همّته زوجُهُ (جوانا)، فلم يستجبْ لها. حاول التّجار خداعهُ والتآمر الدنيء عليه، فأبى خداعهم ورفض تآمرهم، ولم يقبل أن يكون ضحية جشعهم.لاحقهُ قصّاصُو الأثر، وأرادوا انتزاع (كنزه) من بين يديه، فكرّ عليهم وفتك بهم، وعاد أخيراً إلى قريته يحمل بندقية "هي أكثر أحلام يقظته توهّجاً، وأكثرها بهجةً"، وبسبب تلك البندقية الرمز أوحى لنا الكاتب، بأن نفهم من بين سطوره، أنه لن يكون في القرية لصوص بعد، ولن يكون هناك أعداء، أو خوف، أو قلق! وأنّ حُرْمةَ (كينو) و(جوانا) لن يقع التسوّرُ عليها من أحد. ولهذا سيتمكّن بطل (اللؤلؤة) من الاندفاع إلى الأمام كما سبَقَ أنْ ذكرنا.‏
                          ولهذا وجدنا (شتاينبك) يصف عودة (كينو) و(جوانا) بهذه العبارات الجديرة بالتأمُّل: "مشى كينو وجوانا خلال المدينة كما لو لم تكن المدينة موجودةً بالنسبة إليهما، لم تلقِ عيونهما أيةَ نظرة، لا إلى اليمين ولا إلى اليسار ولا إلى الأعلى ولا إلى الأسفل، ولكنهما حَدَّقا أمامهما مباشرة. تحركت أرجلهما مهتزّة قليلاً كدمَى خشبية حسنة الصنع حامليْن أعمدةً من خوف أسود حولهما. وبينما كانا يسيران خلال مدينة الحجارة والجص، اختلس سماسرة المدينة النظر إليهما من وراء النوافذ المقضّبة، وتلصّص الخدم بعين واحدة وضعوها على البوابة المشقوقة.. خطا كينو وجوانا جنباً إلى جنب عبر مدينة الحجارة والجص ثم اتّجها إلى منازل الأغصان وارتد الجيران إلى الخلف وأفسحوا لهما الطريق... وفي أذنَيْ كينو صدحت أغنية العائلة عنيفة كصرخة. كان مُحَصَّناً ورهيباً. وأصبحتْ أُغنيتُهُ صرخةَ معركة"(ص103-104).‏
                          وهكذا نلاحظ أن (كينو) الذي خسر وحيده (كويوتيتو) كسب هيبته وأمنَهُ، وكسب روحه وإرادته، فقد استبدل بلؤلؤته، بندقيةً، أو قلِ استبدلَ بقدرهِ إرادتهُ، ولهذا صارت أعمدة الخوف الأسود تحيق به وبزوجته. ولهذا صار السماسرة يختلسون النظر إليهما، رهبةً وتهيُّباً.. ولهذا ارتد الجيران عنهما وأفسحوا لهما الطريق.. ولعمري هذا هو معنى سلوك (كينو)، وسرّ الحياة الأكبر، فالإرادة والطموح، والتصميم والإقدام، هي مكوّنات جوهر الإنسان وسرّ الحياة، ومن خلال ملامسة جوهر الإنسان والتقرّب من سر الحياة، تنبع قيمة هذه الرواية (اللؤلؤة) وتأتي عظمَة (شتاينبك) الأدبية الشامخة.‏
                          والحقُّ أنّ اللؤلؤةَ التي شعّتْ بتلك المعاني الرائعة، كانت، بوصفها أثراً فنياً، تشعُّ بكثير من ألوان الجمال والإتقان الأدبي اللذين حذقهما كاتبُها. ولا شك لدينا أن هذه القصة المثَلِيَّة التي كان الناس يتداولونها، آنئذٍ، قد انتابها حذف وإثبات على يد صائغها. وأنْ تدبُّراً وتصميماً قد عَملا في بنائها، وفي مشاهدها، وفي مكوّناتها الدقيقة، أعني عباراتها وكلماتها، الأمر الذي حقَّقَ لها شرْطَ جذْبِ القارئ وإمتاعه. فالكاتب منذ الفصل الأول أرهص بنتيجة جاءت في ختام الرواية. فلدْغُ العقرب الوليدَ أوحى بأنَّ أمراً مكْرِباً يمكن أن يقع له فيما بعد، وقد وقع فعلاً، إذْ قُتِلَ برصاصِ أبيه، كما لاحظْنا.‏
                          وحين فرحت الأسرة بلقياها (لؤلؤة العالم) أرهص الكاتب بأنّ هذه اللقيا ليست خيراً كلها، فهي ذات وجه آخر، إنها قد تكون نقمة لا نعمة. وقد أَنطق الكاتب الزوجة بهذه العبارة، وكان حقاً ما قالت، على الأقل بالنسبة لها بالذات، بوصفها أُمّاً فقدتْ وحيدها (كويوتيتو). وهذا الفقدان هو وجه النقمة في اللؤلؤة، ومن زاوية أخرى فقد أثار فينا (شتاينبك) الشعور بالحذر والترقّب عندما سجّل ما قاله (جوان توماس) لأخيه (كينو) "إنّكَ تتحدّى كاملَ طريقةِ الحياةِ، وأنا خائِفٌ عليك" وكان خوفُ الأخِ على أخيه في محلّه، لأنّ قدراً قاسياً كان ينتظره، وهو قَتْلُ وليده بيدهِ في ختام الرواية. إنّ تحدّياً كاملاً لطريقة الحياة قد وقع فعلاً، عندما أبى (كينو) أن يستكين لحالة الخداع والغش، والفوضى، والعدوان، وفقدان الأمن والسكينة. ولكن الوجه الإيجابي لهذا التحدي يبدو بوضوح إذا دَقّق القارئ في هذا التجاوب الذي صنعه (جون شتاينبك) ما بين عباراته في نصف الرواية الأول، وعباراته في نصف الرواية الأخير. وهي عبارات ربّما لم تأتِ قصداً، بل جاءت بفِعْل وَهْج الموهبة، أو بفعل لا شعور الكاتب الذي يداخل عملية الخلْق. فلنقرأ مثلاً قوله (ص38): "إن تملّكَ البندقية سيمكّن كينو من الاندفاع إلى الأمام". وقوله(ص103) بعد أنْ حاز (كينو) البندقية وعاد مع زوجه إلى المدينة: "لم تُلْقِ عيونهما أيةَ نظرة لا إلى اليمين ولا إلى اليسار ولا إلى الأعلى ولا إلى الأسفل، ولكنهما حدّقا أمامهما مباشرة". إذن الاتجاه نحو الأمام كان اتجاه بطل الرواية في مرتّيْن اثنتين، الأولى عندما كان يحلم بالبندقية والثاني بعد امتلاك البندقية وتحقيق الحلم. ولهذا صحّ لنا القول إننا أمام بطلٍ إيجابي كان يصوغ قرارهُ بنفسه، ويحاول أنْ يبدّل بنية مجتمعه على نحوٍ من الأنحاء. وقد يظهر هذا في أحسن صورة إذا تأمَّلنْا موقف المدينة من (كينو) قبل حيازته البندقية، وموقفها بعد الحيازة، فهما موقفان متباينان بوضوح: الأول ينطوي على معاني الاستهانة والصغار والعدوان والقرصنة. والثاني ينطوي على معاني التهيّب والرهبة والإعْجاب والطمأنينة. إنّ حيازةَ البندقية، وهي رمز دون ريب، ورحلة التحول من القدر إلى الإرادة، أو مِن الحظّ الذي ترميه الأقدار، إلى التخطيط الواعي والتصميم الجريء، كل أولئك أحاط (كينو) بالهالة المضيئة التي جعلت أبناء مدينته يجفلون عنه في نهاية الرواية، وجعلت الجيران يرتدّون إلى الخلف، ليفسحوا له الطريق، وكل أولئك آل به إلى أن يصبح (مُحَصّناً ورهيباً). وأخيراً هل نشك أننا إزاء أنوار وأضواء ماتِعة انبعثت لنا من تلك الجوهرة الفريدة، التي اسمها: "اللؤلؤة".‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #14
                            رد: مرايا الرواية دراسات تطبيقية في الفنّ الروائي

                            وليام غولدنغ في روايته:" رجال من ورق "
                            (وليام غولدنغ) روائي بريطاني ذائع الصيت، حاز جائزة نوبل للآداب عام 1983. وكان إذّاك قد بلغ الثانية والسبعين من عمره. فقد ولد في مقاطعة (كورنوول) سنة 1911، ودرس في مدرسة (مالربورو). ومن ثم في كلية (برازنوز) في (اكسفورد)، وتخرج في العام 1935. ومن ثم أصبح مديراً لمدرسة القس (ورد زورث) في (سالزبوري)، والتحق بالبحرية الملكية عام 1940 وشهد غرق سفينة (بسمارك) الألمانية، وتولى قيادة سفينة إطلاق صواريخ خلال الهجوم على فرنسا عام 1944.‏
                            وكان أول رواية ينشرها "سيّد الذباب"، وذلك في السنة 1954، وهي تحكي قصة مجموعة من التلاميذ وجدوا في جزيرة معزولة، واعتادوا حياة متوحشة.. وقد تحولت هذه القصة إلى فيلم سينمائي عام 1963، وجذبت اهماماً واسعاً.‏

                            ومن روايات (غولدينغ) المعروفة (الوارثون) ونشرها عام 1955. وفي هذه الرواية نلتقي بحكم قاسٍ على الشر والفساد اللذين يقبعان في النفس الإنسانية..‏
                            أما روايته "السقوط الحر" والـ "سباير" فتعالجان اللعنة المحققة على رجلين لم يكترثا بالأخلاق.‏
                            ولغولد ينغ مجموعة شعرية صدرت عام 1934، ومسرحية بعنوان "الفراشة النحاسية" استوحاها من قصته القصيرة "سفير فوق العادة".‏
                            ويشير الكاتب ذاته في ثنايا روايته هذه: "رجال من ورق" إلى قصص أخرى له، منها: "المرفأ البارد" و"الطيور الجوارح" و"كلنا نحب الغنم" و"خيول في الربيع".‏
                            ويبدو أن هذا الكاتب المعروف قد تعامل مع النفس البشرية بنجاح، وكان من أبرز هواجسه الروائية الاهتمام بالآثار الإنسانية. وقد استطاع (غولدنغ) كما يقول كاتب سيرته في الموسوعة البريطانية، أن يحقق درجة عالية من الانسجام والتآلف بين الوصف والحدث والرمز، بحيث تمكن أن يحقق مكانة هامة جداً، وأن يجتذب الكثير من التابعين، وخاصة من شباب جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية.‏
                            وروايته هذه "رجال من ورق" رواية حديثة فيما يبدو، وقد نقلها إلى العربية الأستاذ عبد الكريم ناصيف، ونشرها في دمشق عام 1987، فجاءت في (208) صفحات، موزعة على ستة عشر فصلاً. وكنت قد فرغت بالأمس من قراءتها، وسأركز حديثي حول فكرة الرواية الرئيسية، معرضاً عن مناقشة بنيتها الفنية بإسهاب، وذلك لأن ما قاله الكاتب هنا، يعلو، من حيث القيمة، على كيفة قوله.‏
                            والفكرة الأساسية في هذه الرواية هي، في نظري، كشف محاولات القوى المُهَيْمِنة ذات القوة والجبروت اختراق سور الذات الإنسانية، وتسورها حمى حريتها، والافتئات على كرامة الإنسان وحياته الشخصية، ثم ملاحقته ومطاردته بأساليب غريبة عجيبة، وخسيسة أحياناً، لتعرف عنه أشياء قد لا يعرفها هو، أو ربما عرفها ثم أنسيها.. وفي كل ما تقدم عدوان على كرامة الإنسان وسيادته، يرى الكاتب، أنه من الواجب الهزء به، والسخرية منه، وتعريته، وفضح أساليبه.‏

                            وقد امتزج، في هذه الرواية، الخاص بالعام، والفردي بالإنساني، والمحلي بالعالمي، والشخصي بالموضوعي، في بنية فنية متماسكة، حققت شأوا عالياً، وشأناً رفيعاً.‏
                            ففي الفصل الأول من الرواية يقدم لنا (غولدينغ) رجلاً يُدْعى (ريك تكر) أمريكي الجنسية يعمل، أو صار يعمل فيما بعد، أستاذاً للأدب الانكليزي في جامعة (استراخان) في (نيبراسكا). ويجعل الكاتب منه شخصية هامة في أحداث القصة، تماماً كما كان الكاتب نفسه شخصية محورية في هذه الرواية، التي جاء السرد فيها بضمير المتكلم. كما يطلعنا (غولد ينغ) على شخصيات أخرى لعل أهمها زوجته (اليزابيت)، وابنته (املي)، ونعرف بعد فصول أخرى رجلاً يدعى (جوني) يعمل (جاسوساً) وامرأة تُدْعى (ماري لو) عملت لصالح شخصية رهيبة كانت تقبع خلف الستار اسمها (هاليداي). وظهرت (ماري لو) على أنها زوجة أستاذ الأدب الانكليزي (ريك تكر). أما الكاتب نفسه، الذي روى القصة، فقد كان اسمه في الرواية: (ويلف باركلي).‏
                            وتبدأ الرواية بحدثين هامين مترابطين، أولهما جوهري، والآخر عرضي، وفي الحدث الأول يقدم لنا القاص (ريك تكر) رجلاً فضولياً وسخيفاً وقذراً يبحث في برميل القمامة عن أوراق خاصة مُهْمَلَة قذف بها (ويلف باركلي) لعلها تساعده في كتابة سيرة حياة الكاتب.. فيكون جزاء محاولته تلك جرحاً يأتيه من بندقية (باركلي) التي انطلقت قذيفتها دون قصد منه.‏
                            وتطلعنا محاولة (ريك تكر) القذرة تلك على اسم امرأة تدعى (لوسيندا) كان للكاتب (ويلف باركلي) علاقة بها قبل زواجه من (اليزابيت) زواجاً لم يكن مُوفقاً، لذا انتهى بالتفريق بين الطرفين، وهذا التفريق أتاح لـ (ويلف) حريته، بعد أن بلغ الخمسين. وحريته أفسحت له الفرصة للارتحال عن بريطانيا ليزور دولاً كثيرة من العالم، وليكون في الوقت نفسه موضع مطاردة وملاحقة من (ريك تكر) الأمريكي. وتستغرق أحداث الرواية أكثر من عشر سنوات كما يزعم الكاتب، يعود بعدها ليودع زوجته الوداع الأخير بعد ان أُصِيْبت بمرض عضال أودى بحياتها.‏
                            وقد رحل (ويلف) أولاً إلى (إيطاليا) وفيها كان يتلقى رسائل من (تكر)، ثم سافر إلى إسبانيا ليحضر مؤتمراً أدبياً في (اشبيلية). وهناك في إحدى جلسات المؤتمر سمع باسمه يجري على لسان (تكر)، الذي زعم أنّه يرتبط بعلاقة شخصية بالكاتب (ويلف باركلي)، وأن الكاتب نفسه قد وافق على أحكامه النقدية حول مؤلفاته وحول عباراته وجمله الوصلية وغير الوصلية.. وهنا يُبْدِي الكاتب سخرية مُرّة من هذا "البروفسور" الأمريكي يأخذها من مسلّمات النقد الأدبي الحديث، فحواها: أنّ لا قيمة لرأيهِ هو، بوصفه كاتباً، بالأحكام النقدية على آثاره. وهذا صحيح كل الصحة في عرف النقاد والدارسين اليوم.‏
                            ويعود (ويلف باركلي) من جديد إلى (إيطاليا) ثم يطوف في أنحاء أخرى من العالم لمدة سنتين ماراً بشواطئ افريقيا الشمالية والغربية. ولكن أوربا تستأثر بمعظم وقته.‏
                            وكذلك يزور الولايات المتحدة الأمريكية لمدة سنتين اثنتين.. ويعلن في معرض حديثه عن تنقلاته تلك عن هوايته في جمع الزجاج المُلَوّن الذي تُزَّين به نوافذ الكنائس، وتكون وظيفته منع الضوء من النفاذ إلى الداخل. وهذه هواية يجد فيها قارئ الرواية تناغماً وانسجاماً مع مقولة "الكاتب في قصته، وهي المقولة التي يُعرّي فيها محاولات قوى التسلط، التي كان الأستاذ الأمريكي (ريك تكر) يمثل جزءاً منها، للنفاذ إلى داخل الأفراد والجماعات والأجناس.‏
                            ويعود (باركلي) إلى (زيوريخ) في ألمانيا، فيلتقي من جديد بمطارده (تكر) الذي زعم أنه جاء في إجازة مع زوجته (ماري لو)، والذي أَعلن عن رغبته في أنْ يتولّى كتابة سيرة (باركلي) الذاتية، لصالح رجل خفي يدعى (هاليداى) وهو الملياردير الأمريكي الذي كان يحرك خفيةً ثلاثة شخوص في الرواية هم: (تكر) و(ماري لو) و(جوني) الجاسوس الذي التقاه في اليونان.‏
                            ونطلع في أحد فصول الرواية على محاولات (تكر) أنْ يظفر بتوكيل من الكاتب لكتابة سيرته. ونشر مؤلفاته ونجد أستاذ الأدب الانكليزي هذا يبذل في سبيل غرضه كل غال ونفيس حتى إنه لا يتورع عن التضحية بكرامة رباط الزوجية على مذبح هواه، فيشجع زوجه لتكون أداة لاصطياد الكاتب ليوقع سند التوكيل.‏
                            ويحدث في الفصل الثامن حادث، ربما يكون مُفْتَعَلاً، فيه يصبح (ويلف باركلي) مديناً بحياته لـ (ريك تكر) ولهذا الحادث ما يشبهه في العالم الخارجي، الذي كان العالم الروائي نظيراً له.. فالخير عند من يمثله (ريك تكر) يمكن أن يكون مسخّراً للشر، أو لتحقيق مأربٍ من المآرب. وفي هذا الملمح تبدو معرفة الكاتب بطبائع بعض القوى، وبأساليبها الشريرة والرهيبة.‏
                            ورغم تلك الحادثة التي سقط فيها (باركلي) وأنقذه (تكر)، ظل (باركلي) مُصِرّاً على انتقاد هدف (تكر)، رافضاً بإباء التدخل في شأنه الشخصي، مستهدفاً فضح أهداف (هاليداي)، هذا الذي سخّر كل ما لديه من قوة ومن أدوات لمعرفة كل شيء عن (باركلي) الذي صار كما قال -رمزاً لقومه بأسرهم، بل قُلْ: رمزاً للكائن المعاصر- إذا شئْتَ- وهو يواجه تحدّي القوى الطاغية وجبروت البغي الذي يلاحق ويتتبع.. ولنقرأ قول (غولدنغ) عن هاليداي: (ص112 من الرواية) "يا للرجل اللعين، هاليداي! إنّ كانت تلك حاله، إذن فهو في كل مكانٍ، إنْ لم يكن هو شخصياً، فنقوده أو ممتلكاته، أو رجاله ونساؤه... في هاواي كنت أجلس في أحد المشارب فقال رجل في الطرف الآخر، وعلى نحو واضح تماماً: إنّ هاليداي يملك نصف الجزيرة. "وواضح تماماً أنّ الذي قال العبارة الأخيرة هو الكاتب نفسه، لا ذاك الرجل الفكرة.. ونعرف فيما بعد، أنّ (هاليداي) قد أبرم مع (ريك تكر) صفقة مآلها كما أشرنا الحصول على ترخيص بكتابة سيرة (باركلي) بكل جزئياتها. وكان (هاليداي) قد التقط ما توهمه (صوت) (باركلي) بواسطة آلة تسجيل وضعها على كرسي أحد المتحدثين الذين زاروا (أمريكا) ويتضح لـ (تكر)، فيما بعد، أنّ (نبرة الصوت) الملتقطة لم تكن لـ (باركلي) بل لبحّار انكليزي زار (أمريكا) ذات مرة، وألقى فيها محاضرة ذكر فيها شيئاً عن الانكليز والأمريكان.. وحينما يطالب (باركلي) (تكر) بإعادة هذا التسجيل المزعوم لصوته، يقول له (تكر) إنه أصبح ملكاً لـ (هاليداي)، هذا الذي حول حياة (باركلي) الخاصة إلى فريسةٍ تطارد وتلاحق.. وهما مطاردة وملاحقة أشعرتا الكاتب بالبرم والضيق والتنغيص، حتى إنه عندما شاء أن ينشد العزلة في إحدى الجزر، حدّثنا عن شعوره فيها، فقال (ص130):‏
                            "لكن أدركْتُ بعدئذ أنّ علتي ليست في الشرب. وسوء حالتي ليس مرّده الشراب، بل هو شيء آخر، أنني موضع مطاردة، أعني موضع تجسس، وأنّ عدم وضعي نهاية لتلك المسألة يخل بتوازني وأحكامي بعض الشيء".‏
                            ويحاول الكاتب، على نحو بارع، أنْ يُزاوج في الفصل الحادي عشر، بين غضب الطبيعة، وغضب البشر، فيقول: إن الأرض تهتز، واهتزازها الذي سبب قلق قاطنيها هو صنو لمطاردة (هاليداي) لـ (باركلي) تلك المطاردة التي أثارت اشمئزاز الكاتب وقلقه واضطرابه.. لكن الكاتب يبقى محتفظاً بحقيقته وسره ومبادراته إزاء كل محاولات الاختراق التي يتعرض لها، فنجده حين يجرب أن يقدم توكيلاً لـ (ريك تكر) لكتابة سيرته ونشر مؤلفاته، يشترط عليه أنْ يكتبها على الطريقة التي يريدها (باركلي) نفسه، فيشير فيها إلى المحاولات الخسيسة للتجسّس عليه، كأنْ يذكر تسخير زوجة (تكر) للحصول على سند الوكالة، حتى وإنْ كان ثمنْ ذلك، بيعَ جسدها لـ (باركلي)، فالسيرة الذاتية إذن يريدها أنْ تكون ثنائية للطرفين معاً: المُلاحِق والمُلاحَق.‏
                            ويبدو أنّ مشروع الروائي الأبرز في عمله الفني هذا "رجال من ورق" يكمن في دعوتنا للتفكير في محاولات (هاليداي) هذا الذي بقيت صفحته بيضاء في سجل الشخصيات الأمريكية، لأنّه -كما ينبغي أن يكون- هو يد خفية لا يصح كشفها.. لذا لم يكتب عنها شيء في معاجم الشخصيات المشهورة في أمريكا رغم كل قدراته وأدواته المنغّصة هذه التي شبهها الكاتب بالقمل، وأراد بها البروفسور (ريك تكر). ولنتأمل ما كتبه (غولدينغ) على لسان (باركلي) مخاطباً (ريك) (ص164):‏
                            "فكّر ياريك، فكّر بكل أولئك الذين نُكبوا بقملٍ مثلكَ عشَّشَ في شعورهم، بكل أولئكَ الذين تعرّضوا للتجسس، للملاحقة، للكذب عليهم، بكل أولئك الذين يعرضون على الجمهور العريض، سوف ينتقم لنا ياريك، سوف ينتقم لي منهم كلهم".‏
                            فمثل هذه التجارة بحيوات الناس وخصوصياتهم، هي الشأن الذي يشدّد الكاتب نكيره عليه، وهذه التجارة هي التي يسعى (غولدينغ) لتعريتها، من خلال نسيج عمل روائي ناجح.‏
                            والحق أن هناك أشياء لا يصح أن تكون موضوع تجارة كما توحي الرواية، فحياة الإنسان الخاصة وحريته الشخصية، ليسا موضوع مساومة أو ربح وخسارة. وحرية الإنسان هي التي يعلي شأنها الكاتب، وها هو ذا يكتب: "كان (ويلف) يعيش حالة من الحرية التامة، تلك الحرية التي يجب أن يحذر الناس منها، الحرية التي يجب أنْ تحمل للحكومة إنذاراً صحياً كإصابات السّرطان، علّموا ذلك في المدارس، اصرخوا به من على منصات الخطابة، انهض وقل ذلك أيها السيّد الخطيب، اسمعوا، اسمعوا، لكن مهما كان الأمر يجب ألاّ تصدقيه أيتها العذراء اللطيفة"(ص137).‏
                            فالكاتب لا يحب أن تكون الحرية خطراً على الحكومات، أو أن تحمل إنذارات.. ولكنه يعود ويفرق بين الفوضى والحرية قائلاً "حسنٌ هناك حرية وحرية" والحرية التي يأبى الكاتب انتهاكها، هي حرية المرء في أن يصوغ حياته على النحو الذي يشاء، دونما مطاردة أو ملاحقة من حكومة، أو من (هاليداي) أو من أدواته البغيضة، مثل البروفسور (ريك تكر).‏
                            وبعد، فنحن، في هذه الرواية، إزاء مشكلة من مشكلات الفرد الأوربي تتمثل في معاناته من سلطة الدولة القوية القادرة، والتي إنْ شاءت، أحصت عليه أنفاسه رغم كل محاولات ترحاله أو ابتعاده عن مركز ثقلها، فـ (ويلف باركلي) رغم أنه ترك مسقط رأسه، وارتحل عنه بعيداً، لم يتخلص من ظل المطاردة الثقيل.. فأقضَّ هذا مضجعه، وصار هاجساً من هواجسه، وهو هاجس يختلف إلى حد كبير عن هواجس فرد آخر أو أديب آخر، يحيا في شرط اجتماعي وسياسي مختلف، الأمر الذي يشهد أن لكل بيئة أدبها وقضاياها، ولكل مجتمع أدباءه المعبرين عن مشكلاته وهمومه.‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق

                            يعمل...
                            X