مدخل: " قلبي ليس طبلة تضرب وحدها في الفراغ، إنه يضرب في داخل أسوار الزّمن العربي، ويصرخ في وجه الزمن العربي، وينقل كل اهتزازات الغضب العربي " نزار قباني.
بقدر ما تتميّز به قصيدة " المهرولون " من سمات جمالية شعرية تعكس عمق تجربة الشاعر الراحل نزار قباني، بقدر ما تفجّر في ذات المتلقي - العربي تحديدا- إحساسا حادّا بالألم الغامض والشعور المخجل المشحون بالذنب الذي لم يرتكبه، وذلك حين يجد نفسه فجأة مُحتجزا في فضاء القصيدة، مُتّهماً بالخزي والسكوت عن الجريمة،فهو لا يكاد ينتهي من فكّ شفرات العنوان ذي الدّلالات المكثّفة، متسائلا عن هويّة المهرولين ووجهتهم حتى يُفاجأ بأنه لا يعدو أن يكون واحدا منهم، صوته صوتهم ،وتاريخه تاريخهم،ومصيره مصيرهم.
وقد يبدو عنوان هذه القصيدة للوهلة عنوانا بسيطا، لا يحتاج إلى أكثر من تفسير معجمي للفظة الهرولة، غير أن الأمر بالنسبة للمتلقي المسكون بأسئلة الشعر لن يكون كذلك إطلاقا، فهذا العنوان وإن بدا بسيطا بساطة معنى الهرولة ، فإنه يضمر في بساطته السطحية سر قصيدة مفجعة، تختصر تاريخ هزيمة نكراء في لفظة واحدة.
وبشيء من التمعّن في هذا العنوان يتأكد أنه عنوان مشحون بالدلالات والإيحاء، بما يثير رعشة التّوقع ويحرّك نشوة الأسئلة الشائكة،فمن السذاجة أن يخمّن المرء بأن شاعرا متمرسًّا مثل نزار قباني يكون قد وضع العنوان بعفوية تغيب فيها الأبعاد الدلالية الأكثر عمقا،أو الأبعاد الجمالية الأكثر إثارة.
بقدر ما تتميّز به قصيدة " المهرولون " من سمات جمالية شعرية تعكس عمق تجربة الشاعر الراحل نزار قباني، بقدر ما تفجّر في ذات المتلقي - العربي تحديدا- إحساسا حادّا بالألم الغامض والشعور المخجل المشحون بالذنب الذي لم يرتكبه، وذلك حين يجد نفسه فجأة مُحتجزا في فضاء القصيدة، مُتّهماً بالخزي والسكوت عن الجريمة،فهو لا يكاد ينتهي من فكّ شفرات العنوان ذي الدّلالات المكثّفة، متسائلا عن هويّة المهرولين ووجهتهم حتى يُفاجأ بأنه لا يعدو أن يكون واحدا منهم، صوته صوتهم ،وتاريخه تاريخهم،ومصيره مصيرهم.
وقد يبدو عنوان هذه القصيدة للوهلة عنوانا بسيطا، لا يحتاج إلى أكثر من تفسير معجمي للفظة الهرولة، غير أن الأمر بالنسبة للمتلقي المسكون بأسئلة الشعر لن يكون كذلك إطلاقا، فهذا العنوان وإن بدا بسيطا بساطة معنى الهرولة ، فإنه يضمر في بساطته السطحية سر قصيدة مفجعة، تختصر تاريخ هزيمة نكراء في لفظة واحدة.
وبشيء من التمعّن في هذا العنوان يتأكد أنه عنوان مشحون بالدلالات والإيحاء، بما يثير رعشة التّوقع ويحرّك نشوة الأسئلة الشائكة،فمن السذاجة أن يخمّن المرء بأن شاعرا متمرسًّا مثل نزار قباني يكون قد وضع العنوان بعفوية تغيب فيها الأبعاد الدلالية الأكثر عمقا،أو الأبعاد الجمالية الأكثر إثارة.
إن في هذا العنوان الشعري ما " يغري القارئ المستعجل بأن يقرأ القصيدة" على حدّ تعبير مصطفى ناصف،فالشاعر إنسان مبدع مهووس بالتمرّد ، مهووس بالإنزياح في اشتغاله على اللغة، مما يجعله يعمد إلى توظيف اللفظ توظيفا شعريا، يحرّره من معناه المعجمي الثابت، ليجعل منه إشارة حرّة قابلة للتأويل وتعدّد الدلالة، انطلاقا من هذا ، فإنه يمكن مقاربة العنوان " المهرولون" باعتباره إشارة حرّة، يمكن تأويل دلالاتها من زوايا شتى.
ولعلّ اول ما يلفت انتباه المتلقي في البنية اللفظية لهذا العنوان أنه جاء مشحونا بما يكفي من الطاقة الصوتية ،التي من شأنها أن تثير في ذهنه حركة اندفاع جمع من الناس، هم في عجلة من أمرهم ، يتلهفون للوصول إلى مبتغاهم الذي لا نعرف عنه شيئا قبل الشروع في قراءة القصيدة، وتتبعها من البداية حتى النهاية.
ولعلّ اول ما يلفت انتباه المتلقي في البنية اللفظية لهذا العنوان أنه جاء مشحونا بما يكفي من الطاقة الصوتية ،التي من شأنها أن تثير في ذهنه حركة اندفاع جمع من الناس، هم في عجلة من أمرهم ، يتلهفون للوصول إلى مبتغاهم الذي لا نعرف عنه شيئا قبل الشروع في قراءة القصيدة، وتتبعها من البداية حتى النهاية.
إن لفظة الهرولة في المعاجم العربية تدل على الإسراع في المشي بما يعني الإسراع في طلب الشيء المقصود أو الوجهة المقصودة،فإذا كان الشيء المطلوب غير محمود فستصبح الهرولة معادلا للخزي والعار، ومن ثمّ، فإنه ما يكاد القارئ يقرأ العنوان ومطلع القصيدة حتى يتبين له أن الهرولة هنا اختزال لزمن الخيبة، حدث جلل تمّ اختزاله في لفظة معزولة السياق، كمن يهرول في فضاء مفتوح لا ينتهي، كما جاءت اللفظة بصيغة الجمع للدلالة على فداحة المصيبة والمشاركة الجماعية في اقتراف الإثم والفعل المخجِل،فالعنوان الوارد في شكل لفظة معزولة فيه من الإيحاء ما يجعله أو سع دلالة مما لو جاء جملة إسمية أو فعلية مكتملة العناصر، من فعل وفاعل ومفعول به أو مبتدأ وخبر، إن لفظة " المهرولون" هنا تصلح بامتياز لأن تكون شارة على لافتة تعلّق في وطن الهرولة/ الوهم، الذي رسمت ملامحه القصيدة، ويمكن تفسير ذلك من الناحية الصرفية الدلالية المحضة، إذ يكفي المتلقي أن يعرف في المقام الأول أن العنوان في صيغته الصرفية ،جاء اسم فاعل دال على الجمع ،فثمة إذن ذوات تقوم بالفعل فتنشأ عن ذلك حركة تمتد في زمن مفتوح لا ينتهي إلا بانتهاء الهرولة،بما في ذلك احتمال فرضية اللاوصول إلى الهدف المنشود أو الوجهة المقصودة، فلا شيء يدل على أن ثمة هدفا معيّنا أصلا، فاسم الفاعلين -هنا- يثير في أذهاننا حركة هرولة لا تتوقف، تمتد إلى ما لانهاية في الزمن المتجه نحو المستقبل، وهي حركة تمتد في الفضاء الشاغر، كون الحدث هنا مفتوحا في زمنيّته ، ومجرّدا من مكانيّته، وحتى الفاعلون الحقيقيون يبدون فاقدين لهويتهم الصرفية ، من حيث يمكن أن يكون المهرولون " هم" أو " نحن" أو " أنتم" فكلها ضمائر تصلح لأن تسُدّ مسد واو الجماعة مطلقا، ومن ثم تغدوا كل الضمائر معنية، فمع ضمير الغائبين " تكون صيغة العنوان المؤوّل " هم المهرولون" ومع ضمير المتكلمين " نحن المهرولون" ومع ضمير المخاطَبين " أنتم المهرولون" والهرولة بهذا تصبح شقاءً جماعيا، يفضي في النهاية إلى وهم كبير اسمه السّراب.
ثمّ إنه يمكن للمتلقي أن يجرّب طريقة أخرى لرصد الدّلالة ،بتجسيدها بالصوت وتمثيلها في الذهن بالصورة الملونة ، فلا يتطلب ذلك منه سوى تلفّظ العنوان بصوت مسموع شاعري، حتى يتراءى له مشهدُ المهرولين المتعبين التائهين، عيونهم على مسافة من أجسادهم،وهي تتطلع نحو السراب،وقلوبهم أبعد ما يكون عن موضع أقدامهم،لا شيء يشغل بالهم سوى مصير مجهول ، يهرولون صوبه على غير هدى ، كأنهم فاقدو الوعي والبصر والبصيرة،فإن تكلّف المتلقي بعض الشيء وتلفّظ العنوان بصوت حاد ساخر، فإن المشهد المتخيّل سيصبح فظيعا للغاية، إذ لن يكون لديه سوى خيار تأويلي وحيد ، ينذر بالمصير المشؤوم والخيبة المنتظرة لهؤلاء المهرولين، وذلك يجعله يتمنى على غير العادة أن يخيب توٌقعه بخصوص مصيرهم، الذي فيه ضياعهم وتيههم، غير أن القصيدة لا تمهله أن يمنيّ نفسه ولو حتى نهاية القصيدة ، إذ تنزف جراح القصيدة في أعماق المتلقي بمجرّد قراءته لأول كلمة افتُتِحتْ بها، تجعله يعيد قراءة تاريخ هزيمة أخرى مشينة فظيعة.
داعبد الغني بن الشيخ
ثمّ إنه يمكن للمتلقي أن يجرّب طريقة أخرى لرصد الدّلالة ،بتجسيدها بالصوت وتمثيلها في الذهن بالصورة الملونة ، فلا يتطلب ذلك منه سوى تلفّظ العنوان بصوت مسموع شاعري، حتى يتراءى له مشهدُ المهرولين المتعبين التائهين، عيونهم على مسافة من أجسادهم،وهي تتطلع نحو السراب،وقلوبهم أبعد ما يكون عن موضع أقدامهم،لا شيء يشغل بالهم سوى مصير مجهول ، يهرولون صوبه على غير هدى ، كأنهم فاقدو الوعي والبصر والبصيرة،فإن تكلّف المتلقي بعض الشيء وتلفّظ العنوان بصوت حاد ساخر، فإن المشهد المتخيّل سيصبح فظيعا للغاية، إذ لن يكون لديه سوى خيار تأويلي وحيد ، ينذر بالمصير المشؤوم والخيبة المنتظرة لهؤلاء المهرولين، وذلك يجعله يتمنى على غير العادة أن يخيب توٌقعه بخصوص مصيرهم، الذي فيه ضياعهم وتيههم، غير أن القصيدة لا تمهله أن يمنيّ نفسه ولو حتى نهاية القصيدة ، إذ تنزف جراح القصيدة في أعماق المتلقي بمجرّد قراءته لأول كلمة افتُتِحتْ بها، تجعله يعيد قراءة تاريخ هزيمة أخرى مشينة فظيعة.
داعبد الغني بن الشيخ
تعليق