رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-
الموقف العربي قراءة في ضوء العدوان
استغرق بحث شكوى السودان التي رفعها إلى مجلس الأمن، ضد الولايات المتحدة الأميركية لعدوانها على أراضيه ومواطنيه وقصفها لمعمل الشفاء للأدوية في الخرطوم بحري، عشرة دقائق، وتُرِك الأمر من بعد لأعضاء المجلس فيما لو أرادوا فتح الموضوع مستقبلاً ؛ ويبدو أن الضغط والإغراء الأميركيين المجربين لن يتركا لأحد فرصة أو رغبة في فتح الموضوع مجدداً، لأنه يعرف النتائج والعواقب أيضاً، ولأن عليه أن يقتنع بالمطالعات والمعطيات الأميركية حول الموضوع ؛ فما لدى الولايات المتحدة الأميركية من وثائق ومعلومات تسوِّغ عدوانها يكفي لتكوين الرأي والموقف "المعصومين" من الزيف والزلل ؛ وحتى لو كان ذلك كذباً صريحاً فإن صدوره عن الدولة الأعظم كاف لإضفاء صفة الصدق عليه وتسويغ الأفعال المستندة إلى شرعيته، والقبول به !؟؟
وفي سوابق لهذا الحدث نجلو موقفاً ونهجاً أميركيين ثابتين يكشفان عن استهتار واحتقار وغطرسة، وادعاءات عريضة بامتلاك الحق نظراً لامتلاك القوة، ففعل القوي سيد الأفعال ؟!! ونسأل بهذه المناسبة عن موقف ونهج عربيين مقابلين، يعريان ذلك الذي يوجه ضدهما على الأقل؛ فلا نجد في معظم الأحوال إلا زحفاً أميركياً وتراجعاً عربياً يخفي تبعية مشينة أو تردداً وخوفاً فضَّاحين !؟
في مجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين، الذي عقد بعد العدوان بناء على طلب السودان، صوَّت العرب جميعاً إلى جانب قرار يشجب العدوان ويعلن موقفاً إلى جانب السودان ويدعمه حيال العدوان الأميركي عليه، وكان هذا مريحاً للسودان، الذي يبدو أنه لم يفكر أصلاً بالحصول على أكثر منه ؛ ولكن هذا القرار " المعلن ـ الموثق " في مجلس الجامعة لا يقدم الحقيقة السياسية لموقف كل قطر عربي من الأقطار التي صوَّتت عليه، شأنه في ذلك شأن كثير من القرارات!؟ فهناك دائماً وجه وقناع، وهناك دائماً فرصة كافية للتنصل من أي قرار لا يوافق عليه القطر أو يجد أن " أنظمته ولوائحه القطرية لا تسمح بتنفيذه " ؛ وذاك مدخل ينفذ منه الجمل ويضيع فيه الجبل، وكثيراً ما تاهت فيه قرارات وتملَّصت منه حكومات وضاعت فيه التزامات وعلاقات وحقوق؟! هناك، في موضوع العدوان على السودان، من أبهجته الضربة لأنه يعتبر السودان بلداً "إرهابيا"ً أو يرعى الإرهاب " وقد شق عصا " الطاعة " على " الكبار "، ويحتاج إلى تأديب، وأن تأديبه قد تأخر كثيراً فأغرى بالمزيد من التمادي!؟ وهناك من يتساوى عنده الأمر في حالي السلب والإيجاب فالسودان والعدوان مزعجان، وهناك من يفتك به الغضب ويتمنى لو يرد الصاع صاعين للولايات المتحدة الأميركية وسواها، ممن يستبيحون أرواح المواطنين في أرض العرب وسيادة الدول ـ الأقطار فيها، سواء أكان ذلك في هذه الجبهة المنتهَكة أو تلك من الجبهات المفتوحة على وطن العرب .
وليس هذا هو وضع دول الجامعة وموقفها من العدوان على السودان فقط، بل هو الموقف المعتاد لمعظم الأنظمة العربية في معظم القضايا والأحوال، مع تأكيد تمايز حسب الحال واستثناء لبعض الأحوال، وهذا هو الوضع في تداخله وتعقيداته وهوامشه، من معظم القضايا التي تُعرَض عليها، مما تتعرَّض له الأقطار العربية والقضايا المصيرية للأمة ؛ فلا يطيب التلاوم وتصفية الحسابات والشماتة ـ إن سراً وإن علناً ـ عند بعض الأنظمة والحكام إلا حين تصبح السكين على العنق وتنطلق صيحات الاستغاثة ؟!. وقد وقفنا في أحاديث وكتابات تلت العدوان " لمثقفين عرب " ومعارضين سودانيين، على حالة عدوانية ـ سادية، تصل إلى درجة مذهلة في ضلالها واضطرابها وانحيازها وتضليلها، قدمت السودان على أنه إرهابي يخضع للمحاكمة ونسيت أو تناست العدوان الأميركي عليه نهائياً؟! كما استمعنا إلى تصريحات لمعارضين سودانيين حمَّلت السودان مسؤولية العدوان واستعْدَت الولايات المتحدة عليه أكثر، وحثتها على أن ترسل فرق تفتيش دولية لتجوس أرض السودان كله وعيون أهله وتفتش عن " أسلحة التدمير الشامل أو ما يمهد لصنعها "، على نمط ما يجري من تفتيش في العراق منذ سنوات. وقد نسي أولئك أو تناسوا انتماءهم الوطني والقومي، وما يتعرض له وطنُهم وشعبُهم من عدوان وإرهاب أميركيين صريحين، وما تتعرض له عقيدتُهم وهويتُهم من تشويه مقصود ؟!؟
ويوم دخلت ليبيا قفص الحصار ـ ولا نسوق حالة العراق لاختلاف الوضعين وضيق المجال ـ كان هناك من العرب من يضحك في سريرته ويخفي علامات السرور ويقول : " يستحق العقيد ذلك " ها قد حان وقت الحساب ودفع ثمن " العنطزة "، وكأن الذي يدفع هو العقيد وحده ـ على الرغم من استهداف حياته سابقاً في غارة أميركية على طرابلس عام 1986 ـ وليس الجماهيرية والشعب العربي هناك !؟ والقائل العربي يقول ذلك لأن له معه ومعها حسابات يصفيها الغير الآن، فلم الغضب والعتب والعجب؟! ويوم وضعت قضية اختراق الجانب العربي للحصار المفروض على الجماهيرية على المحك بقي موقف الأنظمة العربية في العمق كما هو : الرافضون على رفضهم، والملتزمون بقرارات مجلس الأمن الدولي على التزامهم، لا يحركون ساكناً ويستشيرون الإدارة الأميركية في كل خطوة ظاهرة وباطنة يتخذونها، وظل " المرجئة " في تأملاتهم، وكأن الوضع البعيد عنهم آنياً لا يعنيهم.
وحين نددت الجامعة بذلك الحصار الذي طال وكثر ألمه، وهدَّدت بخرقه دولياً من طرف واحد ـ من دون أن تحدد أجلاً لذلك كما فعلت القمة الإفريقية التي نفذ بعض رؤسائها القرار بخرق الحصار في الأول من أيلول 1998 ؛ مما ترك في قلوب بعض الليبيين عتباً على أشقائهم العرب وغضباً منهم ـ وافق الجميع على النصوص، وأبلغ واشنطن من يرى أن عليه واجب إبلاغها بأن الوضع العربي يملي عليه القبول، أما القرار والموقف الأميركيان فلا يمكن تخطيهما عملياً والالتزام بهما قائم وواجب، فللكلام والبيان أحكامهما وللسكوت والالتزام الضمني بتطبيق الحصار أحكامهما أيضاً، أما حقائق الحال فتجلوها الأعمال والوقائع المنفَّذة على الأرض!؟
وإذا أراد أحد أن يستذكر، في مثل هذه الأوضاع والأقوال والمواقف والحالات والمناسبات، جواب ذلك الذي سئل يوماً : ما بالك تأكل على مائدة معاوية وتصلي خلف علي، فلأي منهما ولاؤك وهما خصمان، فقال ما معناه : الطعام عند معاوية أطيب والصلاة وراء علي أثْوََب أو أوجب !!!
فمن حقه أن يفعل ذلك.
عيب العرب في هذا المجال يتضح أكثر ما يتضح عندما تُستعرض المواقف الحقيقية من القضية الفلسطينية والقدس والمصالح الأميركية في المنطقة، ومن المقاومة الوطنية والتيارات التي تتخذ مواقف مبدئية وجذرية من الصراع العربي الصهيوني وبقية القضايا المصيرية، وتخوض نضالاً من أجل التحرير؛ إذ ينكشف حرص البعض على ألا ينتصر للقضية بل لنفسه، وألا ينتصف من عدوه بل من "خصمه" العربي، بصرف النظر عن التوقيت والمخاطر والمسؤولية القومية والتاريخية والخُلُقية ؛ ولذلك تراه يراوغ ويخاتل ويجادل، ويطلب ألا يُعطى " فلان " مثل ما أخذ هو حتى لا يتساوى معه أو يفْضُلَه بنظر الأمة؟! وألا يتحقق صمود للصامد أو نتيجة لصموده أو جدوى لمقاومته، لأن من شأن ذلك أن يكشف الذين أُمروا بأن يكونوا " متعقلين " فأطاعوا وتركوا الصمود والمقاومة، ويظهرهم بمظهر المفرِّطين أو أكثر من ذلك قليلا ؛ وهذا في النتيجة سيكلف الذي انساق وراء الرغبة الأميركية ـ الصهيونية أو الغربية مكانته وكرامته وربما حياته، وسيجعله يظهر ضعيفاً أو متواطئاً أو حتى خائناً في سوق الكلام والسياسة العربيين، وأمام جماهير الأمة ؛ وهذا ما لا يطاق وما لا يجوز أن يحدث، وهو ما ينبغي ألا يتجاوزه الغربيون والصهاينة أو يغفلونه أو يغفرون لمن يعمل على حدوثه !؟!.
وحده الذي يقف الموقف المبدئي الواضح الصادق الصلب يدفع الثمن، ويدفعه قاسياً جداً وباهظاً جداً، وقد يكلفه حياته، ويكلف شعبه الكثير من القهر والمعاناة والتضحيات والدماء، إذا كان مسؤولاً يعي أبعاد المسؤولية التاريخية ويلتزم بها. فهل مثل هذا الوضع الذي نحن فيه يشكِّل قوة منقذة أو رادعة حيال مواقف مبدئية وقضايا قومية ومواجهات مصيرية كتلك التي تواجهها الأمة العربية؟! وهل يقود هذا إلى ثقة متبادلة بين الحاكم والحاكم، النظام والنظام، الحاكم والمحكوم في الوطن العربي ـ مع رفضنا لصيغة الحاكم والمحكوم القائمة، تلك التي تشلنا وتعطل إرادتنا وتغلق آفاقاً رحبة أمامنا ـ وهي ثقة نحتاج إليها في نضالنا ومواجهاتنا وتعاملنا مع الحوادث والدول والمؤسسات الدولية والصراعات المصيرية، وحتى مع الأحلام الكبيرة والتطلعات الحضارية العريضة ؛ ونحتاج إليها على الخصوص في صراعنا المضني مع قوى العدوان والاحتلال والعنصرية، التي تستهدف هويتنا وعقيدتنا وثقافتنا ووجودنا ذاته، وكل ما يبني ذلك الوجود ويحميه ويحافظ عليه ويدفعه قُدُماً؟!
إنه السؤال المؤرق الذي نجده يتجدد ويتورَّم كلما اجتاحنا خطب وتجددت مصيبة ووقعت كارثة وحصل عدوان !! وهو السؤال الذي علينا أن نواجهه بشجاعة ونحاول الإجابة عليه بموضوعية ومسؤولية، وأن نبحث عن مخارج من الأوضاع والأزمات والحالات التي يخلقها الغياب عن مواجهة استحقاقاته، ومن الانعكاسات التي يتركها على نضالنا وعلاقاتنا وسبل تعاوننا وتقدمنا !!.
لم يكن السودان يتوقع من أقطار الأمة العربية أكثر من الذي حصل عليه من عواطف وكلام، ولم يكن ذلك قادراً على ردع المعتدي والرد على العدوان وتوفير حالات الأمن والأمان؛ ولم يكن حال السودان هو الحال الأسوأ ـ عربياً ـ في هذا المجال، فهناك معاناة للجميع مع الجميع ومن الجميع !! فمتى ينتهي هذا الوضع، متى نفتح صفحة جديدة بكل الصدق والإخلاص والصفاء والالتزام، لنبدأ مسيرة الأمة الواحدة في مواجهة أعدائها وحماية حقوقها ومصالحها ووجودها؟! متى نبدأ المصارحة والمصالحة والعمل المشترك، ونلقي بعيداً القناع الذي أصبح وجهاً لنا لنكشف عن حقيقة الوجه الذي لنا، ونبني ابتداء من ذلك المواقف السليمة والتوجهات الاستراتيجية ونستعدّ للمواجهات الحقيقية ؛ ونجبر الآخرين على الإصغاء لحقنا ومنطقنا وصوتنا الواحد وخطابنا الصادق المتكامل؟!
متى يكون لنا أكثر من دقائق عشر في مجلس الأمن؟! ومتى يكون لنا صوت مسموع، ومندوب دائم، وكلمة تفرض مضمونها وهيبتها واحترامها، وقوة تجعل لكلمتنا صوتاً ومعنى ومصداقية؟!
لا بد أن يكون المدخل إلى ذلك : كيف نفعل ذلك ومتى؟! ، وعندها سيقال : ها قد دخلنا دوامة الكلام من جديد؟! إن ما ينقصنا حقيقة ليس هو الكلام بل العمل، ولن يتغير وضعنا وحالنا من تلقاء ذاته و من غير شجاعة في مواجهة الذات، و " إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ". صدق الله العظيم.
دمشق في الأربعاء، 10 أيلول، 1998 ـ المستقلة ـ لندن
دمشق في الأربعاء، 02 أيلول، 1998 ـ المستقلة ـ لندن
الأسبوع الأدبي/ع626//12/9/1998
وفي سوابق لهذا الحدث نجلو موقفاً ونهجاً أميركيين ثابتين يكشفان عن استهتار واحتقار وغطرسة، وادعاءات عريضة بامتلاك الحق نظراً لامتلاك القوة، ففعل القوي سيد الأفعال ؟!! ونسأل بهذه المناسبة عن موقف ونهج عربيين مقابلين، يعريان ذلك الذي يوجه ضدهما على الأقل؛ فلا نجد في معظم الأحوال إلا زحفاً أميركياً وتراجعاً عربياً يخفي تبعية مشينة أو تردداً وخوفاً فضَّاحين !؟
في مجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين، الذي عقد بعد العدوان بناء على طلب السودان، صوَّت العرب جميعاً إلى جانب قرار يشجب العدوان ويعلن موقفاً إلى جانب السودان ويدعمه حيال العدوان الأميركي عليه، وكان هذا مريحاً للسودان، الذي يبدو أنه لم يفكر أصلاً بالحصول على أكثر منه ؛ ولكن هذا القرار " المعلن ـ الموثق " في مجلس الجامعة لا يقدم الحقيقة السياسية لموقف كل قطر عربي من الأقطار التي صوَّتت عليه، شأنه في ذلك شأن كثير من القرارات!؟ فهناك دائماً وجه وقناع، وهناك دائماً فرصة كافية للتنصل من أي قرار لا يوافق عليه القطر أو يجد أن " أنظمته ولوائحه القطرية لا تسمح بتنفيذه " ؛ وذاك مدخل ينفذ منه الجمل ويضيع فيه الجبل، وكثيراً ما تاهت فيه قرارات وتملَّصت منه حكومات وضاعت فيه التزامات وعلاقات وحقوق؟! هناك، في موضوع العدوان على السودان، من أبهجته الضربة لأنه يعتبر السودان بلداً "إرهابيا"ً أو يرعى الإرهاب " وقد شق عصا " الطاعة " على " الكبار "، ويحتاج إلى تأديب، وأن تأديبه قد تأخر كثيراً فأغرى بالمزيد من التمادي!؟ وهناك من يتساوى عنده الأمر في حالي السلب والإيجاب فالسودان والعدوان مزعجان، وهناك من يفتك به الغضب ويتمنى لو يرد الصاع صاعين للولايات المتحدة الأميركية وسواها، ممن يستبيحون أرواح المواطنين في أرض العرب وسيادة الدول ـ الأقطار فيها، سواء أكان ذلك في هذه الجبهة المنتهَكة أو تلك من الجبهات المفتوحة على وطن العرب .
وليس هذا هو وضع دول الجامعة وموقفها من العدوان على السودان فقط، بل هو الموقف المعتاد لمعظم الأنظمة العربية في معظم القضايا والأحوال، مع تأكيد تمايز حسب الحال واستثناء لبعض الأحوال، وهذا هو الوضع في تداخله وتعقيداته وهوامشه، من معظم القضايا التي تُعرَض عليها، مما تتعرَّض له الأقطار العربية والقضايا المصيرية للأمة ؛ فلا يطيب التلاوم وتصفية الحسابات والشماتة ـ إن سراً وإن علناً ـ عند بعض الأنظمة والحكام إلا حين تصبح السكين على العنق وتنطلق صيحات الاستغاثة ؟!. وقد وقفنا في أحاديث وكتابات تلت العدوان " لمثقفين عرب " ومعارضين سودانيين، على حالة عدوانية ـ سادية، تصل إلى درجة مذهلة في ضلالها واضطرابها وانحيازها وتضليلها، قدمت السودان على أنه إرهابي يخضع للمحاكمة ونسيت أو تناست العدوان الأميركي عليه نهائياً؟! كما استمعنا إلى تصريحات لمعارضين سودانيين حمَّلت السودان مسؤولية العدوان واستعْدَت الولايات المتحدة عليه أكثر، وحثتها على أن ترسل فرق تفتيش دولية لتجوس أرض السودان كله وعيون أهله وتفتش عن " أسلحة التدمير الشامل أو ما يمهد لصنعها "، على نمط ما يجري من تفتيش في العراق منذ سنوات. وقد نسي أولئك أو تناسوا انتماءهم الوطني والقومي، وما يتعرض له وطنُهم وشعبُهم من عدوان وإرهاب أميركيين صريحين، وما تتعرض له عقيدتُهم وهويتُهم من تشويه مقصود ؟!؟
ويوم دخلت ليبيا قفص الحصار ـ ولا نسوق حالة العراق لاختلاف الوضعين وضيق المجال ـ كان هناك من العرب من يضحك في سريرته ويخفي علامات السرور ويقول : " يستحق العقيد ذلك " ها قد حان وقت الحساب ودفع ثمن " العنطزة "، وكأن الذي يدفع هو العقيد وحده ـ على الرغم من استهداف حياته سابقاً في غارة أميركية على طرابلس عام 1986 ـ وليس الجماهيرية والشعب العربي هناك !؟ والقائل العربي يقول ذلك لأن له معه ومعها حسابات يصفيها الغير الآن، فلم الغضب والعتب والعجب؟! ويوم وضعت قضية اختراق الجانب العربي للحصار المفروض على الجماهيرية على المحك بقي موقف الأنظمة العربية في العمق كما هو : الرافضون على رفضهم، والملتزمون بقرارات مجلس الأمن الدولي على التزامهم، لا يحركون ساكناً ويستشيرون الإدارة الأميركية في كل خطوة ظاهرة وباطنة يتخذونها، وظل " المرجئة " في تأملاتهم، وكأن الوضع البعيد عنهم آنياً لا يعنيهم.
وحين نددت الجامعة بذلك الحصار الذي طال وكثر ألمه، وهدَّدت بخرقه دولياً من طرف واحد ـ من دون أن تحدد أجلاً لذلك كما فعلت القمة الإفريقية التي نفذ بعض رؤسائها القرار بخرق الحصار في الأول من أيلول 1998 ؛ مما ترك في قلوب بعض الليبيين عتباً على أشقائهم العرب وغضباً منهم ـ وافق الجميع على النصوص، وأبلغ واشنطن من يرى أن عليه واجب إبلاغها بأن الوضع العربي يملي عليه القبول، أما القرار والموقف الأميركيان فلا يمكن تخطيهما عملياً والالتزام بهما قائم وواجب، فللكلام والبيان أحكامهما وللسكوت والالتزام الضمني بتطبيق الحصار أحكامهما أيضاً، أما حقائق الحال فتجلوها الأعمال والوقائع المنفَّذة على الأرض!؟
وإذا أراد أحد أن يستذكر، في مثل هذه الأوضاع والأقوال والمواقف والحالات والمناسبات، جواب ذلك الذي سئل يوماً : ما بالك تأكل على مائدة معاوية وتصلي خلف علي، فلأي منهما ولاؤك وهما خصمان، فقال ما معناه : الطعام عند معاوية أطيب والصلاة وراء علي أثْوََب أو أوجب !!!
فمن حقه أن يفعل ذلك.
عيب العرب في هذا المجال يتضح أكثر ما يتضح عندما تُستعرض المواقف الحقيقية من القضية الفلسطينية والقدس والمصالح الأميركية في المنطقة، ومن المقاومة الوطنية والتيارات التي تتخذ مواقف مبدئية وجذرية من الصراع العربي الصهيوني وبقية القضايا المصيرية، وتخوض نضالاً من أجل التحرير؛ إذ ينكشف حرص البعض على ألا ينتصر للقضية بل لنفسه، وألا ينتصف من عدوه بل من "خصمه" العربي، بصرف النظر عن التوقيت والمخاطر والمسؤولية القومية والتاريخية والخُلُقية ؛ ولذلك تراه يراوغ ويخاتل ويجادل، ويطلب ألا يُعطى " فلان " مثل ما أخذ هو حتى لا يتساوى معه أو يفْضُلَه بنظر الأمة؟! وألا يتحقق صمود للصامد أو نتيجة لصموده أو جدوى لمقاومته، لأن من شأن ذلك أن يكشف الذين أُمروا بأن يكونوا " متعقلين " فأطاعوا وتركوا الصمود والمقاومة، ويظهرهم بمظهر المفرِّطين أو أكثر من ذلك قليلا ؛ وهذا في النتيجة سيكلف الذي انساق وراء الرغبة الأميركية ـ الصهيونية أو الغربية مكانته وكرامته وربما حياته، وسيجعله يظهر ضعيفاً أو متواطئاً أو حتى خائناً في سوق الكلام والسياسة العربيين، وأمام جماهير الأمة ؛ وهذا ما لا يطاق وما لا يجوز أن يحدث، وهو ما ينبغي ألا يتجاوزه الغربيون والصهاينة أو يغفلونه أو يغفرون لمن يعمل على حدوثه !؟!.
وحده الذي يقف الموقف المبدئي الواضح الصادق الصلب يدفع الثمن، ويدفعه قاسياً جداً وباهظاً جداً، وقد يكلفه حياته، ويكلف شعبه الكثير من القهر والمعاناة والتضحيات والدماء، إذا كان مسؤولاً يعي أبعاد المسؤولية التاريخية ويلتزم بها. فهل مثل هذا الوضع الذي نحن فيه يشكِّل قوة منقذة أو رادعة حيال مواقف مبدئية وقضايا قومية ومواجهات مصيرية كتلك التي تواجهها الأمة العربية؟! وهل يقود هذا إلى ثقة متبادلة بين الحاكم والحاكم، النظام والنظام، الحاكم والمحكوم في الوطن العربي ـ مع رفضنا لصيغة الحاكم والمحكوم القائمة، تلك التي تشلنا وتعطل إرادتنا وتغلق آفاقاً رحبة أمامنا ـ وهي ثقة نحتاج إليها في نضالنا ومواجهاتنا وتعاملنا مع الحوادث والدول والمؤسسات الدولية والصراعات المصيرية، وحتى مع الأحلام الكبيرة والتطلعات الحضارية العريضة ؛ ونحتاج إليها على الخصوص في صراعنا المضني مع قوى العدوان والاحتلال والعنصرية، التي تستهدف هويتنا وعقيدتنا وثقافتنا ووجودنا ذاته، وكل ما يبني ذلك الوجود ويحميه ويحافظ عليه ويدفعه قُدُماً؟!
إنه السؤال المؤرق الذي نجده يتجدد ويتورَّم كلما اجتاحنا خطب وتجددت مصيبة ووقعت كارثة وحصل عدوان !! وهو السؤال الذي علينا أن نواجهه بشجاعة ونحاول الإجابة عليه بموضوعية ومسؤولية، وأن نبحث عن مخارج من الأوضاع والأزمات والحالات التي يخلقها الغياب عن مواجهة استحقاقاته، ومن الانعكاسات التي يتركها على نضالنا وعلاقاتنا وسبل تعاوننا وتقدمنا !!.
لم يكن السودان يتوقع من أقطار الأمة العربية أكثر من الذي حصل عليه من عواطف وكلام، ولم يكن ذلك قادراً على ردع المعتدي والرد على العدوان وتوفير حالات الأمن والأمان؛ ولم يكن حال السودان هو الحال الأسوأ ـ عربياً ـ في هذا المجال، فهناك معاناة للجميع مع الجميع ومن الجميع !! فمتى ينتهي هذا الوضع، متى نفتح صفحة جديدة بكل الصدق والإخلاص والصفاء والالتزام، لنبدأ مسيرة الأمة الواحدة في مواجهة أعدائها وحماية حقوقها ومصالحها ووجودها؟! متى نبدأ المصارحة والمصالحة والعمل المشترك، ونلقي بعيداً القناع الذي أصبح وجهاً لنا لنكشف عن حقيقة الوجه الذي لنا، ونبني ابتداء من ذلك المواقف السليمة والتوجهات الاستراتيجية ونستعدّ للمواجهات الحقيقية ؛ ونجبر الآخرين على الإصغاء لحقنا ومنطقنا وصوتنا الواحد وخطابنا الصادق المتكامل؟!
متى يكون لنا أكثر من دقائق عشر في مجلس الأمن؟! ومتى يكون لنا صوت مسموع، ومندوب دائم، وكلمة تفرض مضمونها وهيبتها واحترامها، وقوة تجعل لكلمتنا صوتاً ومعنى ومصداقية؟!
لا بد أن يكون المدخل إلى ذلك : كيف نفعل ذلك ومتى؟! ، وعندها سيقال : ها قد دخلنا دوامة الكلام من جديد؟! إن ما ينقصنا حقيقة ليس هو الكلام بل العمل، ولن يتغير وضعنا وحالنا من تلقاء ذاته و من غير شجاعة في مواجهة الذات، و " إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ". صدق الله العظيم.
دمشق في الأربعاء، 10 أيلول، 1998 ـ المستقلة ـ لندن
دمشق في الأربعاء، 02 أيلول، 1998 ـ المستقلة ـ لندن
الأسبوع الأدبي/ع626//12/9/1998
Comment