رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-
تعالوا إلـى موقف يجمعنا
تعصف بي حالات وأوضاع وأسئلة مما تتلبد به سماء الأمة ويكاثفه الوقت، وأجدني محاصراً ببعضها، أو أحاصر نفسي بها إلى درجة تدفع نحو الصراخ بوجه الناس والزمن وأهل المسؤولية والوعي والهمة، لتنار بالأجوبة طرق الحياة والعمل، ولتخفف وطأة ضغط المقت، وتزول وطأة موت الوقت.
ومن تلك الأسئلة ما هو قديم قدم الفرقة والتآكل فينا، ومنها ما هو جديد جدة اجتهاد المجتهدين من أبناء أمتنا السائرين في دروب تسويق العدو الصهيوني وتزيين احتلاله وتأبيد قوته وتفوقه من جهة وضعفنا وانهزامنا من جهة أخرى.
وأجد نفسي في لحظات من وقت أقف على أبواب الأسئلة وأقف بالأسئلة على الأبواب أقرع الدرجتين، أو البعدين، لأصل إلى نوع من راحة، ولكن... ينقص المرء دائماً شيء يقصي عنه الإحساس بالراحة.
في فلسطين المحتلة يعلن الصهاينة مشاريعهم لتوسيع القدس استكمالاً لتهويدها وإغراق البقية الباقية من أبنائها العرب الأصليين بسيل يهودي دَبِق يجمدهم ويقتلع وجودهم من أرضهم التاريخية!
وهنا بناء في "جبل أبو غنيم" و "باب العمود" وفي كل الأماكن التي يختار العدو أن يبني فيها.
ويقول "نتنياهو" أي الأكثرية المطلقة في الشارع الاستعماري؛ وهي أكثرية تاريخية في ذلك المجتمع مهما تعددت الأحزاب وتنوعت الحكومات.
يقول إن "إسرائيل" تحتاج إلى الأرض التي كان اتفاق أوسلو قد نص على إعطائها للفسطينيين، وهو اتفاق مفروض علينا بحكم قبول حكومات سابقة له، ولأن تلك الأرض تمثل بعداً استراتيجياً وحيوياً للدولة وللمستقبل فإننا لن ننسحب منها؛ ويكفي تنفيذاً للاتفاق أنَّ عرفات يسيطر على أكثر من 95% من السكان وفي هذا تنفيذ للاتفاق.
هذا المنطق مشفوع ببعد آخر يكمل المنطق الصهيوني ويوضحه، هو بعد الحاجة الصهيونية للجولان محافظة على حيوية مشروعها وعلى مواقع استراتيجية للدفاع والأمن المستقبلي:
الأمن المائي، حيث تأخذ " إسرائيل" أكثر من ميلون وثمنمئة ألف متر مكعب من مياه الجولان.
ولتعزيز هذا المنطق يتم تكديس السلاح وتوسيع التحالفات وتعميقها، واختراق الحياة السياسية والثقافية العربية تحت ادعاءات "السلام" ومقولاته الفارغة من أي معنى.
كما يتم قصف شبه يومي لجنوب لبنان، ومتابعة سياسية ودبلوماسية واستخباراتية محمومة للمقاومة بكل أشكالها وللصمود بكل أشكاله فضلاً عن المتابعة الأمنية والعسكرية.
ولا تتوقف جهود العدو ومن يناصرونه، ويحمون مشروعه من الغربيين عن تفتيت كل ظاهرة تجمع أو تضامن أو تعاون عربي من شأنها أن ترفع صوتاً، أو تصنع موقفاً، أو تطرح موضوعاً بجدية في مجال التصدي والمواجهة.
وحيال هذا النشاط الاستعماري- الاستيطاني المتواصل والمتكامل، يخنقنا فضاء عربي يكتفي بطرح أسئلة حول سبل إقامة "سلام" مع "إسرائيل"، ويخنقنا إعلام عربي أو ناطق بالعربية يحاصرنا بمنطق الهزيمة ومنطق الأعداء وحلفائهم معاً، ويخنقنا صمت عربي يدوّي في مدى الصحراء وفضائها ممتداً من الربع الخالي إلى الصحراء الموريتانية والمغربية، إلى الساقية الحمراء ووادي الذهب.
ويدفعنا كل ذلك لإلقاء أسئلة في فضاء النفس قبل فضاء الوقت الذي يمتد غيوماً بلا مطر ورمالاً صحراوية تمتص رطوبة الفم، وتطفئ ضوء العينين:
هل هذه الأمة، ذات التاريخ الثقافي والنضالي والحضاري العريق، الممتد من سهل نطوف قرب أريحا- عشرة آلاف سنة قبل الميلاد- إلى يوم الناس هذا انتهت؟ أو ينبغي أن تنتهي إلى الاستسلام وتسليم شأن حاضرهم والمستقبل، أمام قوة ملكت السلاح وتحصنت بالأرض وأشاعت أنها الأزل والأبد، فتراجع الناس أمام ما أشاعته وتركوا الخرافات والأساطير تعيد تشكيل عقولهم وتاريخهم ومنطقهم، في الوقت الذي يملكون فيه بعد الحضارة والعقيدة والتاريخ، وقوة البشر وإمكانات وطاقات غير محدودة كفيلة بتغيير وجه الحوادث إذا ما استثمرت بمسؤولية ووظفت بحكمة وعلم؟!
وهل يكفي أن يضلع بعض أبناء الأمة العربية في طريق البؤس الروحي والتواطؤ مع العدو، ويعملون معاً على إلحاق اليأس بالأمة وفرض الهزيمة الروحية على بنيها، هل يكفي أن يقوم شيء من ذلك لتنتهي مقاومة الأمة وتستسلم لما يراد لها أن تستسلم له ويصبح صوت إعلامي بائس يزين الاستسلام باسم السلام، ويحاصر المستقبل ببؤس الحاضر، ليحقق هزيمة شاملة في الأعماق الروحية والشعبية للأمة، ويجعل طاقتها الفكرية غائبة أو مغيّبة عن ساحة المواجهة والتصدي ليسوّغ كل ما يؤدي إلى اعتراف بالعدو الصهيوني وتطبيع للعلاقات معه، وتسليم بحق تاريخي له في فلسطين يكون على حساب انتزاع ذلك الحق من الفلسطيني صاحب الأرض والتاريخ، ليبقى خارج أرضه وخارج التاريخ؟!
وهل يكفي أن تمر بنا محنة ونقاسي من ثقل امتحان هدد علاقاتنا حتى نقول:
"إننا خسرنا كلَّ شيء ولا يمكن أن تقوم لنا قائمة، وأن العروبة شعار فارغ وكل، وكل تضامن أو تعاون أو اتحاد أو وحدة هو من الأمور المستحيلة وما علينا إلا أن نلتمس القوة والحماية والبقاء للفسيفساء القطرية بالتحالف مع القوى" الأجنبية والاحتماء بالعدو الصهيوني، لأن في ذلك الخلاص؟!
إن هذا التوجه توجه قاصر ومحكوم عليه، ولن يحكم بإيجابيات له، ذلك أنه مناقض لكل استقراء موضوعي- علمي للتاريخ، ومتعامٍ عن كل إمكانية توفرها طاقة الإيمان بالله والأمة والوطن والمستقبل ويدفع بها إلى ساحة الفعل أداءً يقومك على أرضية العلم والإيمان.
وهو يقوم على مبدأ المصادرة باسم رؤية قاصرة أو يُراد لها أن تكون كذلك، ليشمل الكيان الصهيوني مرحلة من أهم المراحل في مشروعه، وهي انتزاع الاعتراف بحق تاريخي له في الوجود والبقاء، يبني عليها المرحلة المقبلة أو ينطلق إليها من أرضية ذلك الاعتراف الذي يجعل كل تحرير للأرض العربية بعده نوع من احتلال لأرض "إسرائيلية " يوجب القانون الدولي والعرف الانسحاب منها، ويبيح استخدام القوة من أجل تحريرها بوصفها أرضاً محتلة.
إن الذين يروِّجون "لسلام" مع الكيان الصهيوني، ولتحالف وتعاون من أي نوع معه إنما يروجون لمشروعين متلازمين: استسلام العرب وإنهاء مشروعهم لحساب استمرار مشروع العدو الصهيوني وتأثيله وتطويره وإكسابه مداً نفسياً وروحياً ومادياً لا حدود له.
وحين تستخدم الثقافة لهذا النوع من المهام ولهذا النوع من الأداء فلأن أي مشروع من هذا القبيل، لا يمكن أن يستقر، ويستمر، وتتشكل له أرضية في النفوس، تربوية ووجدانية ومعرفية شاملة، من دون الجهد الثقافي بمفهومه الشامل الذي يركز سياسات ويجذِّرها في التكوين، ويروج لها، ويدخلها إلى الساحات البشرية الشعبية الواسعة؛ ولهذا السبب يتم استخدام "ثقافة" لتروج لسياسة لا تربط السلام بالحق والعدل، وتفرض الأمر الواقع على أنه الأفضل والأعدل والأكمل لأنه لا يوجد ما يغير منطق القوة هذا في الوقت الراهن.
وكأن الوقت الراهن هو الأبد الأبيد، وكأن الأمة لا مستقبل لها في ضوء الحاضر الذي يصورونه بائساً ومستقراً ومستمراً على هذا اللون، وكأن كل ما فيها قد انتهى، ولا يمكن أن ينشأ لا في داخلها ولا في العالم من حولها ما يغير الظروف والمعطيات العربية والدولية الحالية.
إننا حيال وضع صعب، وظروف قاسية نعمل في ظلها، وحيال مراهنات يخوضها عالم قوي إلى جانب من يوظفهم من أبناء أمتنا لخدمة منطقه، ونحن في أوضاع عربية داخلية، حتى على الجبهة الثقافية، لا تمكننا من التحرك المتكافئ عملياً للرد على التحديات والبرامج والمخططات التي تنفذ في هذا الإطار.
إن المواجهة الناجحة تحتاج إلى جانب الإيمان بها والإعلان عنها إلى عمل في كل ساحة ومن كل نفس يحول شعاراتها إلى وقائع على الأرض، وتحتاج إلى مبادرات فردية خلاقة تجعل القضية المدافع عنها هي قضية كل فرد وشاغله اليومي، وتحتاج إلى إمكانيات مادية تواكب الطاقة المعنوية والروحية، وإلى معلومات ومعطيات معرفية تمكن من ردود علمية وعملية ومنطقية تدحض حجة الخصم، وتقضي على منطقه وانتشاره.
وهذا يحتاج من المسؤولين المؤمنين بأهمية الدفاع عن ثوابت الأمة المبدئية وحقوقها التاريخية تقديم المساعدة والتسهيلات لجبهة تعمل في هذا المجال إذا كانوا هم محكومين بمعطيات ومتغيرات لا تمكنهم من أن يكونوا مع المبدئي والحقاني والتاريخي العادل ليفرضوه وينجزوه وأن عليهم ألا يكونوا بسلبيتهم أو بتخوفهم وتخرُّصهم عبئاً على ذلك التيار أو معوِّقاً له.
كما يحتاج هذا من المثقفين المؤمنين بحق أمتهم وعدالة قضيتها، والمنطلقين من اقتناع راسخ باختبارهم ورؤيتهم وعدالة تحركهم، أن يتكاتفوا ويتعاونوا فيما اتفقوا عليه، وألا يكون ما يختلفون فيه معوقاً شاملاً لهم عن التعاون في ذلك المشترك الذي يشكل هدفاً عادلاً للجميع وحماية ودرعاً وواحة انطلاق نحو مستقبل أفضل، إن أرض الثقافة هي أرض المستقبل الواعد، وهي التي يستنبت فيها الحق والعدل والحرية، كما تستنبت فيها المقاومة والقدرات العلمية والتقنية التي تجيب عن تحديات العصر والمستقبل والأمم والقوى التي تريد أن تكتسح الآخرين بروح التعالي والعدوان والعنصرية والاستعمار.
فيا أهل الثقافة تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، تجمعنا على المشترك العادل بصدق وقوة، وتلغي من صفوفنا الشك وانعدام الثقافة، وتضع الصغار باهتماماتهم وأساليبهم في دائرة لعب تليق بهم وبشواغلهم وتجعلنا ننطلق خارج حدود اهتماماتهم وتكوينهم وعداواتهم وأساليبهم المتهافتة، إلى حيث المواجهات الحضارية الضرورية، وإلى حيث استنهاض الهمم والقدرات وتكوين الطاقات البشرية وتوفير الإمكانات التي تجعلنا ننجح في الدفاع عن وجودنا وحقوقنا وهويتنا وثقافتنا ومصالحنا في عالم يأكل فيه السريع البطيء ويستمر فيه أكل القوي للضعيف .
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، أرضها الخصبة وجودنا التاريخي المتمايز في هذه الأرض ورصيدنا الثقافي وعدالة قضيتنا وتطلعنا نحو المستقبل بثقة وعقل مفتوح وثبات على الحق والمبدأ وتمسك بمقومات الوجود والتمايز والمساواة، لنا ولغيرنا، على أسس من العدل والحرية تفرزها ثقافة شاملة في أفقها الإنساني ومحددة في هويتها وانتمائها، تغني بتنوعها الحضارة الإنسانية ولا تلغي أمة لمصلحة أمة أو تحقيقاً لنزوع عنصري استعماري تجسده في عصرنا هذا: الصهيونية وسياسة الولايات المتحدة الأميركية، ومن يسير في ركابهما من المتصهينين والمتعاونين والمتحالفين.
الأسبوع الأدبي/ع604//28/3/1998
ومن تلك الأسئلة ما هو قديم قدم الفرقة والتآكل فينا، ومنها ما هو جديد جدة اجتهاد المجتهدين من أبناء أمتنا السائرين في دروب تسويق العدو الصهيوني وتزيين احتلاله وتأبيد قوته وتفوقه من جهة وضعفنا وانهزامنا من جهة أخرى.
وأجد نفسي في لحظات من وقت أقف على أبواب الأسئلة وأقف بالأسئلة على الأبواب أقرع الدرجتين، أو البعدين، لأصل إلى نوع من راحة، ولكن... ينقص المرء دائماً شيء يقصي عنه الإحساس بالراحة.
في فلسطين المحتلة يعلن الصهاينة مشاريعهم لتوسيع القدس استكمالاً لتهويدها وإغراق البقية الباقية من أبنائها العرب الأصليين بسيل يهودي دَبِق يجمدهم ويقتلع وجودهم من أرضهم التاريخية!
وهنا بناء في "جبل أبو غنيم" و "باب العمود" وفي كل الأماكن التي يختار العدو أن يبني فيها.
ويقول "نتنياهو" أي الأكثرية المطلقة في الشارع الاستعماري؛ وهي أكثرية تاريخية في ذلك المجتمع مهما تعددت الأحزاب وتنوعت الحكومات.
يقول إن "إسرائيل" تحتاج إلى الأرض التي كان اتفاق أوسلو قد نص على إعطائها للفسطينيين، وهو اتفاق مفروض علينا بحكم قبول حكومات سابقة له، ولأن تلك الأرض تمثل بعداً استراتيجياً وحيوياً للدولة وللمستقبل فإننا لن ننسحب منها؛ ويكفي تنفيذاً للاتفاق أنَّ عرفات يسيطر على أكثر من 95% من السكان وفي هذا تنفيذ للاتفاق.
هذا المنطق مشفوع ببعد آخر يكمل المنطق الصهيوني ويوضحه، هو بعد الحاجة الصهيونية للجولان محافظة على حيوية مشروعها وعلى مواقع استراتيجية للدفاع والأمن المستقبلي:
الأمن المائي، حيث تأخذ " إسرائيل" أكثر من ميلون وثمنمئة ألف متر مكعب من مياه الجولان.
ولتعزيز هذا المنطق يتم تكديس السلاح وتوسيع التحالفات وتعميقها، واختراق الحياة السياسية والثقافية العربية تحت ادعاءات "السلام" ومقولاته الفارغة من أي معنى.
كما يتم قصف شبه يومي لجنوب لبنان، ومتابعة سياسية ودبلوماسية واستخباراتية محمومة للمقاومة بكل أشكالها وللصمود بكل أشكاله فضلاً عن المتابعة الأمنية والعسكرية.
ولا تتوقف جهود العدو ومن يناصرونه، ويحمون مشروعه من الغربيين عن تفتيت كل ظاهرة تجمع أو تضامن أو تعاون عربي من شأنها أن ترفع صوتاً، أو تصنع موقفاً، أو تطرح موضوعاً بجدية في مجال التصدي والمواجهة.
وحيال هذا النشاط الاستعماري- الاستيطاني المتواصل والمتكامل، يخنقنا فضاء عربي يكتفي بطرح أسئلة حول سبل إقامة "سلام" مع "إسرائيل"، ويخنقنا إعلام عربي أو ناطق بالعربية يحاصرنا بمنطق الهزيمة ومنطق الأعداء وحلفائهم معاً، ويخنقنا صمت عربي يدوّي في مدى الصحراء وفضائها ممتداً من الربع الخالي إلى الصحراء الموريتانية والمغربية، إلى الساقية الحمراء ووادي الذهب.
ويدفعنا كل ذلك لإلقاء أسئلة في فضاء النفس قبل فضاء الوقت الذي يمتد غيوماً بلا مطر ورمالاً صحراوية تمتص رطوبة الفم، وتطفئ ضوء العينين:
هل هذه الأمة، ذات التاريخ الثقافي والنضالي والحضاري العريق، الممتد من سهل نطوف قرب أريحا- عشرة آلاف سنة قبل الميلاد- إلى يوم الناس هذا انتهت؟ أو ينبغي أن تنتهي إلى الاستسلام وتسليم شأن حاضرهم والمستقبل، أمام قوة ملكت السلاح وتحصنت بالأرض وأشاعت أنها الأزل والأبد، فتراجع الناس أمام ما أشاعته وتركوا الخرافات والأساطير تعيد تشكيل عقولهم وتاريخهم ومنطقهم، في الوقت الذي يملكون فيه بعد الحضارة والعقيدة والتاريخ، وقوة البشر وإمكانات وطاقات غير محدودة كفيلة بتغيير وجه الحوادث إذا ما استثمرت بمسؤولية ووظفت بحكمة وعلم؟!
وهل يكفي أن يضلع بعض أبناء الأمة العربية في طريق البؤس الروحي والتواطؤ مع العدو، ويعملون معاً على إلحاق اليأس بالأمة وفرض الهزيمة الروحية على بنيها، هل يكفي أن يقوم شيء من ذلك لتنتهي مقاومة الأمة وتستسلم لما يراد لها أن تستسلم له ويصبح صوت إعلامي بائس يزين الاستسلام باسم السلام، ويحاصر المستقبل ببؤس الحاضر، ليحقق هزيمة شاملة في الأعماق الروحية والشعبية للأمة، ويجعل طاقتها الفكرية غائبة أو مغيّبة عن ساحة المواجهة والتصدي ليسوّغ كل ما يؤدي إلى اعتراف بالعدو الصهيوني وتطبيع للعلاقات معه، وتسليم بحق تاريخي له في فلسطين يكون على حساب انتزاع ذلك الحق من الفلسطيني صاحب الأرض والتاريخ، ليبقى خارج أرضه وخارج التاريخ؟!
وهل يكفي أن تمر بنا محنة ونقاسي من ثقل امتحان هدد علاقاتنا حتى نقول:
"إننا خسرنا كلَّ شيء ولا يمكن أن تقوم لنا قائمة، وأن العروبة شعار فارغ وكل، وكل تضامن أو تعاون أو اتحاد أو وحدة هو من الأمور المستحيلة وما علينا إلا أن نلتمس القوة والحماية والبقاء للفسيفساء القطرية بالتحالف مع القوى" الأجنبية والاحتماء بالعدو الصهيوني، لأن في ذلك الخلاص؟!
إن هذا التوجه توجه قاصر ومحكوم عليه، ولن يحكم بإيجابيات له، ذلك أنه مناقض لكل استقراء موضوعي- علمي للتاريخ، ومتعامٍ عن كل إمكانية توفرها طاقة الإيمان بالله والأمة والوطن والمستقبل ويدفع بها إلى ساحة الفعل أداءً يقومك على أرضية العلم والإيمان.
وهو يقوم على مبدأ المصادرة باسم رؤية قاصرة أو يُراد لها أن تكون كذلك، ليشمل الكيان الصهيوني مرحلة من أهم المراحل في مشروعه، وهي انتزاع الاعتراف بحق تاريخي له في الوجود والبقاء، يبني عليها المرحلة المقبلة أو ينطلق إليها من أرضية ذلك الاعتراف الذي يجعل كل تحرير للأرض العربية بعده نوع من احتلال لأرض "إسرائيلية " يوجب القانون الدولي والعرف الانسحاب منها، ويبيح استخدام القوة من أجل تحريرها بوصفها أرضاً محتلة.
إن الذين يروِّجون "لسلام" مع الكيان الصهيوني، ولتحالف وتعاون من أي نوع معه إنما يروجون لمشروعين متلازمين: استسلام العرب وإنهاء مشروعهم لحساب استمرار مشروع العدو الصهيوني وتأثيله وتطويره وإكسابه مداً نفسياً وروحياً ومادياً لا حدود له.
وحين تستخدم الثقافة لهذا النوع من المهام ولهذا النوع من الأداء فلأن أي مشروع من هذا القبيل، لا يمكن أن يستقر، ويستمر، وتتشكل له أرضية في النفوس، تربوية ووجدانية ومعرفية شاملة، من دون الجهد الثقافي بمفهومه الشامل الذي يركز سياسات ويجذِّرها في التكوين، ويروج لها، ويدخلها إلى الساحات البشرية الشعبية الواسعة؛ ولهذا السبب يتم استخدام "ثقافة" لتروج لسياسة لا تربط السلام بالحق والعدل، وتفرض الأمر الواقع على أنه الأفضل والأعدل والأكمل لأنه لا يوجد ما يغير منطق القوة هذا في الوقت الراهن.
وكأن الوقت الراهن هو الأبد الأبيد، وكأن الأمة لا مستقبل لها في ضوء الحاضر الذي يصورونه بائساً ومستقراً ومستمراً على هذا اللون، وكأن كل ما فيها قد انتهى، ولا يمكن أن ينشأ لا في داخلها ولا في العالم من حولها ما يغير الظروف والمعطيات العربية والدولية الحالية.
إننا حيال وضع صعب، وظروف قاسية نعمل في ظلها، وحيال مراهنات يخوضها عالم قوي إلى جانب من يوظفهم من أبناء أمتنا لخدمة منطقه، ونحن في أوضاع عربية داخلية، حتى على الجبهة الثقافية، لا تمكننا من التحرك المتكافئ عملياً للرد على التحديات والبرامج والمخططات التي تنفذ في هذا الإطار.
إن المواجهة الناجحة تحتاج إلى جانب الإيمان بها والإعلان عنها إلى عمل في كل ساحة ومن كل نفس يحول شعاراتها إلى وقائع على الأرض، وتحتاج إلى مبادرات فردية خلاقة تجعل القضية المدافع عنها هي قضية كل فرد وشاغله اليومي، وتحتاج إلى إمكانيات مادية تواكب الطاقة المعنوية والروحية، وإلى معلومات ومعطيات معرفية تمكن من ردود علمية وعملية ومنطقية تدحض حجة الخصم، وتقضي على منطقه وانتشاره.
وهذا يحتاج من المسؤولين المؤمنين بأهمية الدفاع عن ثوابت الأمة المبدئية وحقوقها التاريخية تقديم المساعدة والتسهيلات لجبهة تعمل في هذا المجال إذا كانوا هم محكومين بمعطيات ومتغيرات لا تمكنهم من أن يكونوا مع المبدئي والحقاني والتاريخي العادل ليفرضوه وينجزوه وأن عليهم ألا يكونوا بسلبيتهم أو بتخوفهم وتخرُّصهم عبئاً على ذلك التيار أو معوِّقاً له.
كما يحتاج هذا من المثقفين المؤمنين بحق أمتهم وعدالة قضيتها، والمنطلقين من اقتناع راسخ باختبارهم ورؤيتهم وعدالة تحركهم، أن يتكاتفوا ويتعاونوا فيما اتفقوا عليه، وألا يكون ما يختلفون فيه معوقاً شاملاً لهم عن التعاون في ذلك المشترك الذي يشكل هدفاً عادلاً للجميع وحماية ودرعاً وواحة انطلاق نحو مستقبل أفضل، إن أرض الثقافة هي أرض المستقبل الواعد، وهي التي يستنبت فيها الحق والعدل والحرية، كما تستنبت فيها المقاومة والقدرات العلمية والتقنية التي تجيب عن تحديات العصر والمستقبل والأمم والقوى التي تريد أن تكتسح الآخرين بروح التعالي والعدوان والعنصرية والاستعمار.
فيا أهل الثقافة تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، تجمعنا على المشترك العادل بصدق وقوة، وتلغي من صفوفنا الشك وانعدام الثقافة، وتضع الصغار باهتماماتهم وأساليبهم في دائرة لعب تليق بهم وبشواغلهم وتجعلنا ننطلق خارج حدود اهتماماتهم وتكوينهم وعداواتهم وأساليبهم المتهافتة، إلى حيث المواجهات الحضارية الضرورية، وإلى حيث استنهاض الهمم والقدرات وتكوين الطاقات البشرية وتوفير الإمكانات التي تجعلنا ننجح في الدفاع عن وجودنا وحقوقنا وهويتنا وثقافتنا ومصالحنا في عالم يأكل فيه السريع البطيء ويستمر فيه أكل القوي للضعيف .
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، أرضها الخصبة وجودنا التاريخي المتمايز في هذه الأرض ورصيدنا الثقافي وعدالة قضيتنا وتطلعنا نحو المستقبل بثقة وعقل مفتوح وثبات على الحق والمبدأ وتمسك بمقومات الوجود والتمايز والمساواة، لنا ولغيرنا، على أسس من العدل والحرية تفرزها ثقافة شاملة في أفقها الإنساني ومحددة في هويتها وانتمائها، تغني بتنوعها الحضارة الإنسانية ولا تلغي أمة لمصلحة أمة أو تحقيقاً لنزوع عنصري استعماري تجسده في عصرنا هذا: الصهيونية وسياسة الولايات المتحدة الأميركية، ومن يسير في ركابهما من المتصهينين والمتعاونين والمتحالفين.
الأسبوع الأدبي/ع604//28/3/1998
Comment