إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    فــي صنعاء ضد الاستسلام والتطبيع
    شهدت صنعاء مؤتمراً حاشداً ضد الاستسلام والتطبيع بين /9 و 12/ كانون الأول - ديسمبر 1996، صادف الذكرى التاسعة لانتفاضة أهلنا في فلسطين المحتلة؛ ومن الأهمية بمكان أن ينعقد مثل هذا المؤتمر في هذه الظروف بالذات، وبعد مد الهرولة العربية المخزي نحو الكيان الصهيوني وما نتج عن تلك الهرولة التي تدمي قلوبنا وتؤذى أبصارنا وأسماعنا منذ سنوات: تطبيعاً مع العدو وتلويعاً لنا.‏
    ومن كان في صنعاء وسمع كلمات المتدخلين وتدقيقهم في الكلمات والأفكار والمواقف، وحرصهم على الوضوح، وشهد صخبهم واندفاع بعضهم بحماسة واضحة بلغت حدوداً غير مقبولة في بعض الأحيان؛ يدرك جيداً أن ما تم لم يكن من قبيل رفع العتب وتبرئة الذمة، وأن من حضر لم يكن قادماً لاستعراض حضوره أو لغايات تختفي وراء ضباب الحضور؛ -إلا من كانت تلك سنَّته في الحياة وباب رزقه وأسلوب عمله- وأن ما جرى في ذلك المؤتمر هو فعل يعنى بتفاصيل ما يتم على أرضنا وما يمكن أن يبنى على ذلك الذي تم ويتم، إذا صدقت النوايا وصحت العزائم وصفت القلوب وتآلفت على الخير والعدل ونصرة حق الأمة.‏
    في صنعاء مبادرة تستند إلى تاريخ كدنا ننساه: ننكره، أو نتنكر له، وما أظن أن تلك المبادرة التي أتت بعد سنوات مريرة عجاف هي من دون معنى أو من دون تأثير، ولكن ينبغي، ونحن نقف على عتبة انطلاقة جديدة في هذا الميدان، ينبغي أن نواجه، بنوع من الجدية والمسؤولية والحزم، بعض الظواهر التي برزت في ذلك المؤتمر ونناقشها وندقق في منطقها، حرصاً منا على سلامة التوجه ووضوح الرؤية، وجدية الاختيار وعلى نظافة المسيرة وخلوها من الألغام وبلوغها الغاية المرجوة.‏
    فمن أتى إلى صنعاء أتى وهو يعرف أنه ينضم إلى جبهة تؤسس لمقاومة الاستسلام والتطبيع وصولاً إلى تحرير الأرض وتحرير الإنسان؛ ومن الواضح جداً أن مفهوم الاستسلام ينطوي على ما هو أبشع من الهزيمة وأكثر من التفريط بالحق؛ والحق في مثل قضيتنا وموقفنا وموضوعنا هو فلسطين: الأرض والشعب والسيادة والتاريخ والانتماء والمقدسات، وما تعنيه قضية فلسطين للأمة العربية منذ عشرات السنين؛ ومن الواضح أيضاً أن يكون سلام الاستسلام مرفوضاً وأن يكون ما يتم في مناخه من تسويات موضوع رفض وإدانة هو الآخر!! والاستسلام للعدو يعني، فيما يعني، القبول بما تفرضه القوة المحتلة من أمر واقع وما تمليه من تسوية وحلول تكون في نهاية المطاف ظالمة ومُذلة، تتم على حساب المحتلة أرضه والمقهورة إرادته والمغلوب على أمره، حتى لو انحصر ترديه في حدود عدم امتلاكه للقوة التي تمكنه من الوقوف بصلابة واقتدار في أثناء المفاوضات مع عدوه.‏
    المؤتمر العربي الشعبي الأول لمقاومة الاستسلام والتطبيع يستند على أرضية المشترك الذي يُفترض أنه يجمع بين المشاركين فيه، ومن البديهي أن يكون احتلال الأرض وما نتج عن ذلك الاحتلال وعن توسعه وتجذره وتطلعه واستمراره في مقدمة ما يرفضه المؤتمر ويعمل على وضع حد له بكل السبل والوسائل؛ وعلى ذلك فإن النظر إلى الصراع العربي الصهيوني على أنه صراع وجود وليس نزاعاً على حدود، وأن فلسطين عربية وينبغي أن تبقى عربية وأن تعود إلى أهلها الشرعيين هو من أبسط ما يمكن أن يتجه المؤتمر إلى تأكيده والانطلاق منه: ولكن... وبكل أسف، حتى في تلك الواحة الصغيرة المحاصرة من صحراء الهزيمة العربية الممتدة، حتى في تلك الواحة المحاصرة بكل ما للكلمة من معنى، وجد من ينطق كفراً ويضعف صفاً ويلغم أرضاً، ومن يمارس ازدواجية الوجه واللسان،ومن يضع قناع الحرب ويهرول نحو استسلام لا يتورع عن تسميته سلاماً ويقبل به ويُقبل عليه؟!؟‏
    ووجد من لم يستفد من دروس الماضي القريب ومازال قادراً على الأداء المتعنت في ظل الوهم المكشوف له ولسواه، ممن يراه ومن لا يراه!! ووجد من لم يستفد على الإطلاق من الدروس القريبة المستفادة من كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة؛ بل وجد من يدعم كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة ويعتقد أنه قادر على الدخول بين جلد من يرفضونها ولحمهم، وأن يسافر في مركبهم ومن ثم يستولي على دفة القيادة ويجبر الربان على التخلي عن مهمته بحجة أن الربان لا يملك الفضائل السياسية التي يملكها ولا يتقن اللعب على حبال الموج في محيط متلاطم من حوله!!؟.‏
    في صنعاء وجدنا من يقول لنا: إنه معنا في مقاومة التطبيع ولكنه ليس معنا في أن الصراع العربي الصهيوني هو صراع وجود مع وجود وليس نزاعاً على حدود، ووجدنا من يؤمن بأن "لإسرائيل الحق في البقاء من خلال تمسكه بالقرار/ 242/ وإقراره بأن تبقى على أرض فلسطين بديلاً لفلسطين، ويرى اعتماداً على هذه المقدمات واستنتاجاً منها: أن على الفلسطينيين أن يبحثوا عن وطن بديل أو أن يستمر تشردهم في الأرض، أو أن يتم توطينهم في الأرض العربية، وحجته في ذلك أن الأمر الواقع لا يمكن تغييره والسياسة الدولية تسير في هذا الاتجاه ولا جدوى من مقاومتها، وأن من لا يأخذ بما هو قائم على أرض الواقع اليوم يكون مخطئاً واهماً.‏
    وتلك هي الواقعية الانهزامية التي نبهنا إليها وحذرنا منها؛ إنها الهزيمة الروحية والفكرية التي تحاول أن تنشب مخالبها في قلوبنا وعقولنا وتمنعنا من رؤية أي نور في نهاية النفق المظلم الذي نمُر به.‏
    الحق أقول لكم: إنني واجهتُ مثل هذا المنطق سابقاً وتصديت له، ولم أذهل لوجوده ولا لقيام أفراد من أبناء أمتنا بحمل رايته وخوض معارك شرسة تحت ظلها، وتنظيم حملات في كل الاتجاهات لإلحاق الأذى بمن لا يخاف من حشد "ميليشياتهم المهولة وقواها الضاربة" ضده، لا سيما في المجال الثقافي الذي تتمترس فيه؛ فهي قوى مدربة على أفضل أنواع الأداء الغوغائي الذي تتقنه الصهيونية وتربي أنصاراً عليه.‏
    والحق أقول لكم أيضاً: أنني لم أفاجأ بموقف من وقف في صنعاء موقفاً مزدوجاً، فكان ضد التطبيع، مرحلياً، "ومع الاعتراف بالكيان الصهيوني "أبدياً"، لم أفاجأ بذلك ربما لأنني شهدت في صنعاء ذاتها قبل سنوات ثمان وبمناسبة الاحتفال بالذكرى الأولى للانتفاضة المباركة موقفاً يقول بالاعتراف بالكيان الصهيوني على استحياء، ويتبرقع بالنضج ويتهم الآخرين بعدم الوصول إليه، إلى أن أعلن اعترافه بذلك الكيان ودعا إلى تطبيع العلاقات معه عندما سنحت أول فرصة له ليقوم بذلك. لم أفاجأ بمن دخل في موقف "عصري واقعي" مزدوج تمارسه الدولة الأعظم في العالم اليوم ويمارسه مجلس الأمن الدولي؛ ما فاجأني هو إصرار تلك الحفنة الصغيرة من الأشخاص في مؤتمر صنعاء على استغفالنا ومحاولتها فرض رأيها علينا جميعاً بغوغائية، وتصميمها المكشوف على أن تكون اللغم الذي يدمرنا من الداخل بعد حين، من دون أن يكون لنا، ونحن في مواقعنا تلك، حق الرؤية والاعتراض والتنبيه والتعبير والنقض في إطار الديمقراطية التي ارتضيناها جميعاً ونحن الأكثرية الساحقة!؟!‏
    وكان مدخل أهل ذلك التيار والمدافعين عن منطقه يقول: نحن تنوُّع في وحدة، وعلينا أن نقبل كل الآراء، وألا نفرض على أحد موقفنا أو توجهنا وهذا بالله جميل وعادل ونظيف إلى حد مذهل؛ نحن مع حرية الرأي، ومع حق الآخر في الاختلاف، ونعرف أننا تنوُّع في وحدة تغتني بذلك التنوع، بل نحن من قال ذلك وأكد عليه، ونعرف أننا نجتمع على المشترك الهش الذي يجمعنا؛ ولكننا لا نتفهم كيف يمكن أن يكون حق الاختلاف مشروعاً إذا كان المختلف عليه هو الحق التاريخي الذي لنا، والوطن الذي يجمعنا ووجودنا المهدد، وموقع الاحتلال منا وموقفنا منه؛ وهو الموضوع الذي نجتمع بعد إجماعنا المفترض على أسس رئيسه لمواجهة ما يتم على ساحته؟! ولا نعرف كيف يكون حق الاختلاف مصوناً عندما يكون المختلف عليه يزري بالمصلحة العليا للأمة كلها وبتضحيات الشهداء وبالكرامة العامة التي لأبنائها، ويضع مصالحها ومصيرها موضع مساومة مع أعدائها!؟! ولا نعرف كيف يكون أساس هذا المشترك الهش الذي دعونا إليه ونحرص على تقويته وتثبيته، كيف يمكن أن يكون متناقضاً إلى حد التضاد ومتفجراً إلى حد التدمير، ويطلب منا أن نقبله ونبني عليه، وأن نتغافل عن المخاطر التي ينطوي عليها وضع كذلك الوضع، ونغض الطرف عن كل الدروس المستقاة من التجارب الماضية، التي بنيت على نوع من الغش في مجالات متعددة من حياتنا وأدت إلى تآكل الثقة والإرادة فينا، وإلى كوارث جمة ما زلنا نحصد نتائجها ونكتوي بنارها حتى اليوم، وقد دار معظمها حول مثل هذه المحاور والمواقف والأفكار فأفسد وبدد وما زال يفسد ويبدد!؟!‏
    الذي يكون معك في خطوة ضد التطبيع وليس معك في طريق تحرير الأرض من الاحتلال، هو في خلاصة الاستنتاج المنطقي يريد أن يؤخر التطبيع مؤقتاً لهدف معين يحققه على مسار التطبيع ذاته، ذاك الذي يبنى أصلاً على الاعتراف؛ إنه يعرقل فقط بهدف الوصول إلى تحقيق أغراض معينة يعود بعد تحقيقها إلى ممارسة التطبيع، الذي لا يرفضه، على أرضية ذلك الاعتراف الذي يعلنه؛ فهو إذن صاحب سياسة مرحلية ترمي إلى تحريك موضوع جزئي وليس إلى تحرير أرض وحسم قضية بصورة كلية؟! إنه السادات في حرب تشرين وعلى ضفة السويس، وهو أكثر خطورة من محايد ويرغب في التوصل إلى حل لما يسمونه "مشكلة الشرق الأوسط" لأن مصالحه تصبح مؤمنة بشكل أفضل إذا ما حُلّت بأي شكل من أشكال الحل، ولكنه ليس معنياً بالعدل ولا بالتوصل إلى تبني قضية المقهورين المغلوبين على أمرهم والمشردين في الأرض في هذه القضية، والذين يتعلقون بالحق والعدل والوطن لاعتبارات تاريخية وخلقية ووطنية وقومية ودينية وإنسانية... الخ.‏
    لقد طلع علينا في مؤتمر شعبي يضم القوى الرافضة للحلول الاستسلامية وللتطبيع بكل صوره وأشكاله -والتطبيع ابن الاعتراف- على أرضية تمسك تلك القوى بعروبة فلسطين وحقوق أهلها الثابتة والمشروعة فيها؛ طلع علينا من يقول بتطبيق القرار/242/ وبتأييد أوسلو إذا ما التزم بها نتنياهو، وكأنه لم يسمع بالمسيرة السياسية العربية المحبطة والمستمرة منذ عشرين سنة لتطبيق ذلك القرار المجحف بحق الشعب العربي الفلسطيني وما آلت إليه الجهود الرامية إلى تطبيق ذلك القرار على الرغم من كونه مجحفاً، ولا بما بذله عرفات من جهد وما قدمه من تنازلات وخدمات، أمنية وغير أمنية، ليحظى بالرضا الصهيوني ولم يفز إلا بترشيحه موالياً محتملاً؟! وهو إذ يطلع علينا بتمسكه بالقرار المشار إليه ينسى أن مكانه، في هذه الحالة، هو مع الذين يتلمسون السبل ويلتمسون الوسائل للوصول إلى إقناع الكيان الصهيوني بقبول اتفاقيات الإذعان/ كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة/ ولكن ذلك الكيان، الذي يطمع بالمزيد من أرض العرب وركوعهم يرفض حتى ذلك ويتابع سياسة الضم والقضم والهضم للأرض العربية والحق العربي؛ إنه ينسى أن موقعه هناك وليس في مؤتمر شعبي يختار طريقاً أخرى؛ طريقاً مستقبلية طويلة وشاقة، طريق أمل وحلم واندفاع على أرضية الإيمان والحق، ويحتاج السير فيها إلى زاد مغاير ورواد مغايرين وخطاب مغاير وعمل مغاير!؟!...‏
    نحن منذ سنوات حيال عملية فرز حقيقية، عانينا كثيراً من عدم القيام من عدم القيام بها في السابق ودفعنا الثمن غالياً، وقد جعلتنا القوى الحربائية المتسلحة بالغوغائية نحبو على أجفاننا سنوات وسنوات من دون أن نحقق الوصول حتى إلى رؤية سليمة للعدو الذي ينهش قلوبنا من داخل أجسامنا ويتحكم بقرارنا من خلال تحكمه بمصدر تسلحنا، وبمقومات الثقة والإرادة والقرار.. قرارنا، تلك التي توضع جميعاً بين يديه بأشكال عدة ويسيطر عليها بوسائل عدة؛ ويبدو أن المطلوب -على الرغم من أن التغير الكبير الذي لحق بالعالم كله من حولنا- أن نبقى في القبضة بأشكال مختلفة، وأن يقودنا من يوهمنا بأنه يذهب بنا إلى أهدافنا، ولكن عبر تل أبيب، وحقوق اليهود، والديمقراطية المزيفة، التي نرى أنها للاستهلاك الغوغائي وسوق المزاد: فهي مرفوضة بوصفها صيغة تجعل الأقلية تخضع لرأي الأكثرية، إذا لم يكن القرار المتخذ عبرها موافقاً لهوى تلك الأقلية ومصالحها والمطلوب منها القيام به، وهي مقبولة في كل حالة مناقضة لذلك؟! الأكثرية في مثل هذه الحالة تصبح أكثرية مرفوضة لأنها لم تحقق وصاية الفئة "المتنورة تاريخياً" و"المتقدمة تاريخياً" و"المؤهلة للقيادة الموحى ببرامجها وتحركاتها واستراتيجياتها وأساليبها من الخارج تاريخياً أيضاً؟!‏
    بعد مؤتمر صنعاء، وبعد أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من أوضاع ومعاناة في وطننا العربي الذبيح، ولا أقول الجريح، وبعد كل ما تراكم لدينا من خبرات واستنتاجات وإحباط، بعد كل ذلك يبدو لي أنه آن الأوان لكي نقول لأصحاب المصالح الذين يريدون بيع قرارنا ورقابنا في السوق: إننا لسنا للبيع، وإننا لن نقبل الألغام الموقوتة بين صفوفنا، وعلى من يختار اختياراً غير التحرير، وحسم صراع الوجود مع العدو الصهيوني لغير مصلحة الأمة العربية وعروبة فلسطين، عليه أن يبحث عن ساحة أخرى يلتحق بها، "ويناضل" فيها؛ فلم يكتب علينا إلى الأبد أن نبقي ساحتنا منتهكة عارية مكشوفة الخواصر مقطعة الأواصر، ولنا الحق كل الحق في أن نقول لمن يقاتل معنا أو يريد أن يقاتل معنا: نحن نقاتل من أجل تحقيق حرية الأرض والشعب: أرض فلسطين والشعب العربي: المستلبة إرادته وحقوقه وحرياته والملغمة دروبه ومسيرته وبرامجه وخططه بكثير من الألغام، وعلينا أن نخلصه من ذلك؛ ولن تجدي المناورات التي يقعقع في ميدانها ما يشبه الرعد وتنثر برقاً خُلَّبِيَّاً في الآفاق، لن تجدي في إقناع الناس بأنها البديل المنقذ، فالغيث يهمي من عيون السحاب بصمت ويروي عطش الأرض المزمن من دون أن يسبب سيول الطمي الجارفة لروح الخصب ومنابته في الأرض.‏
    أيها الناس لقد شبعنا وهماً، واكتشفنا حقيقة العقائد التي تريد أن تقودنا تحت مظلة شعار لتوصلنا إلى تسليم كرامتنا والتنازل عن كل هوية وعقيدة وشعار، وسئمنا الموت يغزونا كل يوم على قرع طبول مجلوبة ترهب، ولا تطرب، وكفرنا بعدل يأتي من واشنطن على يدي نبي من أنبياء يهود، وآمنا بأصالة أنفسنا وقوميتنا وعقيدتنا منقذاً وهادياً وحادياً في ظلام هذا الليل الذي طال، ولم نعد مؤهلين لأن يمارَس علينا الخداع كلما مشينا في دربنا باعاً أو ذراعاً؟!‏
    فكونوا معنا أو كونوا ضدنا أو كونوا محايدين، أما أن تدخلوا صدورنا وجماجمنا لكي تدمروا قوانا وإراداتنا وتبذروا فينا بذور الفتنة واليأس وتبيعونا في السوق وتقبضوا الثمن مرتين: مرة منا ومرة ممن تبيعوننا لهم؛ فتلك والله قسمة لن نرضاها، وذلك محشر لن ندخله معاً؛ وقد آن للقلب أن يرى بنور البصيرة، وآن للعقل أن يبصر نور القلب وهدى الرب، أمّا أن نرى بعيونكم الخزرية، ونتحرك على واقع ألغامكم الصهيونية فتلك والله دروس اكتوينا بنارها عشرات من سنين، وأفقدتنا الأرض والولد والكرامة والتآخي والألفة، وجرّت علينا الويلات وسببت لنا كل المعاناة المرة التي نرزح تحت نيرها منذ نصف قرن ونيف.‏
    لقد كان مؤتمر صنعاء مناسبة طيبة لاستعادة بعض الثقة والمبادرة وللتبصر بأمور شائكة كثيرة، ولكشف بعض الشرائح الاجتماعية في الجسم العربي لم تجد حتى الآن كل اكتشافاتنا لها وكشفنا إياها، ولتبيُّن بعض الحقائق المادية وبعض القوى الروحية التي يهمنا أمرها؛ كما كان مناسبة تحثنا على أن نبحث جيداً عن سلالات فكرية تقول بلغة عربية: إن "إسرائيل" وجدت لتبقى، وصراعنا معها ليس صراع وجود، ولنتمكن من مواجهة العدو داخل أجسادنا وخارجها، داخل حدودنا وخارجها، ولنواجه بنجاح دعاة الواقعية والانهزامية بواقعية عربية واعية لأهدافها وأغراضها ووسائلها، مالكة لقرارها وأدواتها ورؤيتها.‏
    والله من وراء القصد.‏

    دمشق في 18/12/1996‏

    الأسبوع الأدبي/ع542//22/ك1/1996.‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      مؤشرات ما بعد اتفاق الخليل
      "القدس موحدة تحت السيادة الصهيونية، وللأماكن المقدسة: الإسلامية والمسيحية وضع يشابه وضع الفاتيكان في روما، لكن من دون سيادة سياسية، ومن الممكن رفع العلم الفلسطيني أو العلم الأردني على تلك الأماكن؛ وضاحية سلوان سوف تكتسب اسم القدس عند عرفات وتصبح بديلاً لها عاصمة فلسطينية تحمل الاسم ذاته في إطار مسعى نحو مخرج يحفظ ماء الوجه، والمستوطنات الصهيونية في الضفة وغزة ستبقى وتتوسع وتحافظ على استقلاليتها عن سلطة الحكم الذاتي وعلى تبعيتها للكيان الصهيوني؛ وجيش الاحتلال ينتشر على طول الضفة الغربية لنهر الأردن تحت ذريعة حفظ الأمن، ولن تكون هناك حدود مباشرة ومنافذ مباشرة يتحكم بها فلسطينيون بين سلطة الحكم الذاتي وأي قطر عربي، وسلطة ذلك الحكم أو حتى سلطة الدولة الفلسطينية المتطلَّع إليها لن تشمل سوى السكان العرب ممن تشملهم التسوية في غزة والضفة الغربية فليس لعرفات سيادة على الأرض حسب اتفاق أوسلو، وينبغي التنازل التام عن حق العودة لأي فلسطيني ممن يشملهم بحث موضوع التسوية في مراحله النهائية، وعلى رأس الشروط إعلان إلغاء ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية؛ وحق الاختيار بين التبعية المباشرة للكيان الصهيوني أو التبعية غير المباشرة له عن طريق طرف ثالث ممنوح بسخاء يهودي معهود لسلطة الحكم الذاتي؛ ولن يسمح بقيام جيش فلسطيني على الإطلاق؛ حتى أكثر المؤمنين بمنح سيادة تامة ودولة للفلسطينيين من اليهود يقولون: إن ذلك لا يمكن أن يتم قبل عدة عقود من الزمن على الأقل؛ ولا يُسمح بتسليح شرطة الحكم الذاتي بما يزيد على المسدس أو البندقية أو الرشاش البسيط".‏
      هذه هي حدود التصور المبدئي للحل النهائي الذي يقدمه الصهاينة المحتلون، ممن لا يذهبون إلى حدود التشدد أو التطرف في المطالب الصهيونية، وهو ما يوافق عليه رموز أوسلو من العرفاتيين. وهذا ما يبدو أن الخلاف حول موضوع الخليل قد قاد إليه ليكون مفتاح باب الحل النهائي بعد ما أصاب هذه المرحلة من استعصاء قدّم للعرب درساً قاسياً، وقدم لعرفات نتائج أوسلو شبه النهائية التي تتضمن "كرماً" يهودياً عريقاً سوف يذكره التاريخ؟!‏
      طائر منتوف الريش عليه أن يعيش وهم الحرية في قفص ضيق محاط بالحراب، وعليه أن يغرد على هوى مالكه، الذي يستطيع أن يحجب عنه الماء والطعام وحتى الهواء إلى أن "يفطس"، هذا هو وضع عرفات وما يعيشه وما ينبغي أن يرتضيه بعد مسيرة أوسلو الانفرادية البائسة، التي ما كانت أصلاً إلا نقضاً لمرجعية مدريد التي فرضت على العرب في ظروف قاسية وفي ظل انهيارات عربية ومتغيرات دولية معروفة جيداً للمتتبع.‏
      الحل النهائي يُرسم الآن وقبل التوقيع على اتفاق إعادة الانتشار في الخليل، يُرسم في الدوائر الصهيونية أولاً بين العمل والليكود والأحزاب الأخرى في إطار مؤسسات أقاموها للحوار، ويُرسم بالتعاون مع الأميركيين، ويُبحث مع فلسطينيين ساهموا في وضع اتفاق أوسلو وليس أمامهم إلا أن يوافقوا على ما يُعْرَض عليهم في ظل اتفاقيات إذعان يقوم الكيان الصهيوني بإعادة النظر فيها على ضوء مصالحه حتى بعد التوقيع عليها، ومنها اتفاق الخليل: الاتفاق السابع أو الثامن الذي يدور حوله الجدل وينقض ما تم التوقيع عليه في اتفاق أوسلو؟! ونذكر هنا بالخير وبعد النظر قول الرئيس حافظ الأسد إذ قال بعد توقيع اتفاق أوسلو: "إن كل بند في هذا الاتفاق يحتاج إلى اتفاق". وملامح "الحل النهائي" بين الصهاينة والعرفاتيين تبدو في حدود ما ذكرت مما شاع وأصبح في متناول الرأي العام، ولا أظن أن المفاوضات التي سوف تتناول هذه التصورات أو أوراق العمل المطروحة يمكن أن تخرج عن هذا الإطار المرسوم في الدوائر الصهيونية؟!‏
      فكل جراحة تجميليَّة ستتم لن تغير التكوين الأساس للهيكل العام الموضوع: جغرافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.‏
      وهذا الوضع يطرح علينا المشكلة برمتها. من جديد بحدة واضحة، بعد أن كانت مدار بحث ومناقشة وخلاف وصراع خلال السنوات الست التي مضت.‏
      فما هو الموقف القومي من ذلك الذي سيتم التوصل إليه، وهو لا يقدّم، في أحسن صوره، إلا اعترافاً بشرعية الاحتلال وبحق تاريخي لليهود في فلسطين، ويؤسس نقضاً لكل ما بنته المقاومة وبنيت عليه، وما قامت من أجله الحروب بين العرب من جهة والصهاينة وحماتهم الغربيين من جهة أخرى؟! ونقول الموقف القومي استناداً إلى حقيقة البعد القومي للقضية الفلسطينية الذي لا يمكن تغييبه أو التنكر له أو التفريط به.‏
      إخال أن القراءة السليمة للمستقبل واضحة تماماً: فالقوى العنصرية الصهيونية لن تقدم أكثر من ذلك الإطار الهزيل للفلسطينيين، وهي ترى في مجرد تقديمه "تفريطاً" بما تسميه "حقوقها التاريخية في أرض إسرائيل"؛ وكل حل لا يضمن عودة الشعب العربي الفلسطيني إلى وطنه ليمارس سيادة غير منقوصة فوقها بحرية وكرامة، لا يمكن أن يحقق رضا أو يلقى قبولاً، ولا يؤسس لسلام من أي نوع ولا يلغي توتراً من أي نوع.‏
      ولما كان ذلك المنشود المفقود مما لا يمكن أن يتحقق في ظل التسوية أوسلو المطروحة، ولا في ظل مرجعية مدريد، حتى لو طبقت تلك المرجعية باحترام وعلى الوجه الأمثل -لأنها تضمن أولاً وجود إسرائيل على أرض فلسطين، وتضمن لها اعترافاً بشرعيتها ينتزع بالقوة والقهر من أصحاب الأرض الشرعيين المغتصبة حقوقهم، كما تضمن لها عيشاً آمناً وهيمنة تامة وتفوقاً دائماً وتوسعاً مستمراً على حساب العرب- ولا في ظل الضعف والتردي العربي الراهنين؛ لما كان ذلك كذلك فإن علينا أن نبحث عن أساليب عمل مغاير يضمن لنا أن نحقق شيئاً مما نتطلع إليه في المستقبل القريب والبعيد.‏
      الوقائع التي عشناها خلال السنوات الخمسين الماضية وكذلك الحقائق التاريخية والمعطيات الواقعية واستمرار التهويد والاستيطان والتهديد، كل ذلك يثبت أنه لن يستتب سلام في هذه المنطقة مادام الكيان الصهيوني قائماً على حساب الوجود الفلسطيني. وكل استقراء للماضي يشير إلى أن "إسرائيل" بؤرة توتر وحالة عدوان وقلعة تهديد مستمر لدول المنطقة وشعوبها، وأنها مشروع استعماري قام بقوة القهر ويستخدم قوة القهر ليبقى ويستمر، وأن وجود هذا الكيان يعني استمرار استنزاف المنطقة ونهب خيراتها بشكل مباشر أو غير مباشر.‏
      وبناء على ذلك فإن كل اعتراف بذلك الكيان وكل اتفاق معه، هو فعل يرسخ حالة عدوانية -استعمارية- استلابية مستمرة مناقضة للسلام والأمن والعدل وناقضة لها، وهو نوع من الاستسلام لمنطق القوة المتغطرسة لا يكفيها ولا يرضيها، وخضوع لإرادتها وتسليم لها بفرض شروطها وقرارها ومصالحها على الآخرين. ومن يقبل بهذا الواقع اليوم من العرب لا يستطيع أن يقاومه غداً، لأن ذلك سيؤدي إلى حالة من التراخي على أرضية سلام الاستسلام، وحالة من التآكل الروحي والاجتماعي وغياب مسوغات امتلاك القوة، وإلى وضع يسوده التناقض في المنطق الداخلي لفكر الأمة وسياستها وتوجهات أبنائها؛ إذ ما معنى أن يتم القبول بصيغة تمنح قوة غاشمة حقاً وشرعية واعترافاً أمام العالم بحكم قدرتها على فرض احتلالها وفرض الأمر الواقع على الآخرين ثم يجري نقض ذلك؛ أليس الأفضل والأسلم هو عدم منح الاحتلال، الذي سوف يستمر بأشكال مختلفة، شرعية وإبقاءه أمام العالم وفي وجدان الشعب وذاكرة الأمة قوة اغتصاب غير شرعية يجب التخلص من احتلالها وقهرها واستعمارها؟! وفي غير هذه الظروف لا يعود هناك معنى لأن نهيئ النفس لمعركة مادمنا قد سلمنا بانتهائها؟! ولن يكون هناك معنى لأن نرفض التطبيع ونحن نعلن الاعتراف ونمارسه؟!‏
      إن تشتيت الأجيال، وتوزع تيارات الفكر والتربية والسياسة على أنساق متناقضة الاتجاه، أو متنافرة إلى الحدود المسيئة لن يؤدي أبداً إلى بناء أي نوع من أنواع القوة والصحة وسلامة التوجه لأية قضية وأي بناء وفي مواجهة أي عدو أو طامع. ولا يوجد أمة في التاريخ ليس لها أعداء ولا يواجهها في يوم من الأيام من يطمع بها أو يتطلع إلى تحقيق مصالحه على حساب مصالحها؛ وتأسيساً على ذلك فإن كل أمة مدعوة إلى امتلاك مقومات قوة تدافع بها عن نفسها وعن مصالحها، في حالة من السلامة النفسية والخلقية والروحية والوجدانية لتتمكن من استنفارهم للذود عن أنفسهم ووطنهم ومصالحهم عند اللزوم؛ وهذا ما ينبغي أن نؤسس له اليوم بكل الوسائل والسبل، ونحن نواجه هذا الاختيار المر: اختيار القبول بسلام يضر بالكرامة الوطنية والمصلحة القومية ويشكل نوعاً من الاستسلام للعدو الصهيوني.‏
      وحين نقرر اختيار رفض الاستسلام ورفض الخضوع لقانون القوة الباغية علينا أن نقرر كيفية المواجهة وأن نمارس مبدأ الدفاع عن النفس باقتدار وبكل الوسائل الممكنة.‏
      إن "إسرائيل" عدو مغتصب، كيان باغٍ لا يقوم على أي نوع من أنواع الشرعية، ولا يتوقف مشروعه عند حد، ولا يمكن التعايش معه؛ فحالة العداء بيننا وبينه حالة مستمرة، إن لم نمارسها نحن ضده دفاعاً عن حقنا المشروع فسوف يمارسها هو ضدنا وصولاً إلى أطماعه المعلنة، وسيزداد غطرسة وطمعاً وانطلاقاً مما يحققه باستخدام القوة وبفعل ضعفنا واستعدادنا لقبول ما تفرضه القوة؛ ولا يوجد وسيلة ردع لمثل هذا النوع من البغي في التاريخ كله سوى امتلاك القوة والاستعداد لاستخدامها بإرادة وشراسة دفاعاً عن الحق والعدل والشرعية، ومن يقول بغير ذلك يقول بقانون لا يحفظ الكرامة ولا يحقق الحماية، ويسوّغ الخنوع، ويتلمس للضعف والجبن والهزيمة المادية والروحية الأعذار، ويفتح باباً واسعاً أمام كل من تسول له نفسه ممارسة طغيان القوة على سواه من بني البشر.‏
      القوة تردع والضعف يطمع بالضعيف من لا يطمع به أصلاً، وعلينا أن نواجه قدرنا وواقعنا وظروفنا بما يليق ويلائم.‏
      الاحتلال لا يزول بغير قوة يستعيد بها المحتلة أرضه والمنقوصة كرامته أرضاً وكرامة، وامتلاك القوة يستدعي تربية وإعداداً واستعداداً، وهذا لا يمكن أن يتم وينجح من دون قرار سياسي يضع البلاد والعباد في توجه إيجابي عام، ويحافظ على مناخ هذا التوجه، ويوافر له الإمكانات والشروط اللازمة؛ ومن أهم مقومات مناخ هذا التوجه المحافظة على شرط الصحة الروحية والنفسية والجسمية والاجتماعية، ولا يمكن أن تكون هناك صحة روحية - على الصعيدين الفردي والجماعي- من دون إيمان وإرادة ورؤية استراتيجية سليمة وحكيمة للأمور، ووضع كل الطاقات في هذا الاتجاه.‏
      وإشكالية الوضع العربي الراهن حول هذا الموضوع تتلخص باستعداد معظم الأنظمة للتسوية، ورفض معظم المثقفين وأفراد الشعب لها؛ وليس من المستغرب أن تكون بعض الأنظمة العربية في واد والشعب العربي في واد آخر، ولكن هذا الوضع لن يمنع من أن يعمل كل حسب اقتناعه وإيمانه ورؤيته؛ المهم في الأمر أن تكون مصلحة الوطن والأمة وكرامة الشعب هي رائد الجميع.‏
      والله من وراء القصد.‏
      دمشق في 26/12/1996.‏

      الأسبوع الأدبي/ع543//30/ك1/1996.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        أيها العابرون على موج الزمن .. سلاماً
        من تراه يجد الأمان والاطمئنان في ظل تقلب الزمان، ومن تراه يعيش أيامه مطمئناً في حضن تلك الأفعى؟! الزمان فيه من خضراء الدمن شيء ومن الأفعى أشياء، ولا أمان لكل منهما، ومن لا يحذر كليهما يصاب بداء لا شفاء له منه، أو يبقى الدهر مهدداً بالداء.‏
        والزمن بنوه، هم جنته وناره، خيره وشره، صيفه وشتاؤه، منهم يفيض الدفء والنور وبهم يزحف البرد والظلام، فالفرد في فضائهم لا في فضائه يسبح، ولا يكون مجتمع واجتماع وثمار لهما وظلال إلا بهم، ولا يكون عطاء ونماء وشفاء وشقاء إلا بهم ؛ فهم جوهر المجتمع وسره وغاية الاجتماع والتقدم وسببهما، وهم أيضاً علَّة الهلاك والتخلف ومثيرو غبار الخير والشر. وذلك الاجتماع الذي يتشكل بهم يحمل زخم الحياة ويعطيها شيئاً من أسرارها ومعانيها وطعمها، ويدفع باتجاه القبول بها والإقبال عليها والحرص على استنفاد فرصها، حتى لو كانت تلك الفرص منطوية على الخطر ويقطر منها الصاب والعلقم.‏
        نحن في هذه الأيام على عتبة مفصل من مفاصل الزمان، مفصل يحسب عند الناس ولا يُعَدُّ شيئاً في مراقي الإحساس، بَلْه في عمر الزمن ومقياسه ؛ فانقضاء عام وقدوم عام ليس شيئاً أكثر من ومضة بين غفوة وصحوة، إنه برهة قلقة مجرَّحة بين انغلاق جفن على وَهْدَة وسَن وتفتحه على لمعة نور. والكرى يفصل كل يوم بين عالمي موت وحياة، بين حدي زمن يقيسه الناس بمقياس لا يعتد به الدهر أبداَ، ولن ينجح أبناء الزمان في جعله يعترف على حدود السنين أو يعترف بها، حتى لو غضبوا وصخبوا وأناروا ليل يومه الأخير ـ الأول بكل ما يملكون من طاقة النور.‏
        أن ينقضي عام ويطرق أبواب الخلق عام آخر ليس أكثر من فاصلة على الورق لا يشعر بها تدفق شلال الضوء والظلام اللذين يصنعان نهر الوقت، وينتشران في محيط الزمن ليصنعا كوناً في فلك الدهر كوناً : لا نهائي الامتداد أزلي الوجود، سرمدي البقاء ، يخط بتؤدة وحزم حدود الخلود.‏
        في نهاية اليوم ـ العام نفتح صرتنا الكبيرة التي تثقل كاهلنا ونحن نسعى بين رمل ورمل في صحراء الوقت، ونبحث في ثناياها عن بقايا ورقة مما تركَتْه لنا ظلال الواحة التي تفيأنا ظلها في حلم راحة عابر، فلا نكاد نجد من رماد حريق ذلك الحلم شيئاً ؛ نهر الوقت يجرف كل شيء ويتحول ما فيه عند عتبات أرواحنا وأجسادنا إلى تدفق صخَّابٍ لحمم بركان نفس تثور بين قيظ وقيظ وتتكسر على صخر لا يشعر أبداً بتكسًّرها، وتُشوى على نار زمن لا يُعنى بشأنها ولا يستشعر شواظها .‏
        كمٌ في العراء يحاول أن يسوِّغ العري والقسوة والرياء، كمٌ من اللحم والهم والحلم والأمل يتحول أحياناً إلى صحو مذهل في عمق الإنسان، ويريد أن يبقى العالم صحواً مذهلاً على طريقة كل فرد من أفراده، ويتغالب الأفراد على دود الزاد ليلوِّن كل منهم العالم والوقت والغير بلونه هو، ولا يرتوي أي منهم من ظمأ أبيد للسطوة والسلطة وحيازة الغير في صرَّته الثقيلة، ولا يستنقذ نفسه من ولع مقيم في النفس بهلع، ولعٍ ينمو بين صفاقي الرغبة والحاجة ويستسرُّ في أحشائهما ؛ إنه هذا الـ " نحن، أو الأنا " المتورمة، المزمنة القلق والرهق، المشدودة إلى تألُّق توق يزيِّن أمامها الأمور وييسر لها مواجهة الصعاب واحتمال المكاره، والطامعة أبداً في مزيد مما قد يكون للغير تثقل به نفسها.‏
        يا لروعتنا ويا لشقائنا نحن البشر ونحن ننشُد تلك الروعة : روعة الكشف والتملك، ونصنعها ونتوهم فرادتها وحريتنا في مقارفتها، ويا لدهشتنا ووحشتنا حين يَشْقَع من مآقينا ومرافقنا الدمع والدم على دروبها ونحن نخوض صراعاً مديداً فريداً لنكتب سطراً على ماء المحيط ونخط سفراً في خضم الزمن ؟!؟‏
        في كل موت ووقت، في بداية كل عام ونهاية كل عام، يرتفع في فضاء نفوسنا وسماء وجودنا فيض الأسئلة والتساؤلات ولكنه يبقى معلقاً على مشنقة الوقت دون إجابة تحقق شفاء :‏
        نحن الذين نضيف أهميتنا إلى الزمن ونحمِّله معاني وجودنا وأهمية ذلك الوجود، ونخلع عليه منا بُروداً مختلفة ألوانها لنؤكد حضوراً ونسوِّغ صخباً، ولنملأ فراغاً داخلياً، ونشبع غروراً متورماً، ونشيع لنا أهمية من حولنا !! هل ضآلتنا حيال الكون هي التي تدفعنا إلى ذلك، أم ما في طبيعتنا من خواء هو المحرك والمحرض، أم شعورنا بأهمية ما حققناه قياساً إلى الكائنات الأخرى التي تدب على الأرض هو الذي ينفخ أوداجنا بكل ذاك الغرور والصراخ؟! أم هو الخوف العريق المقيم في أعماقنا من أن يكون كل ما فينا عقيم ولسنا سوى جعجعة ندوِّم في خضم الفراغ الهائل، الذي يحيلنا إلى مدى عنكبوتي من التيه، نتطوَّح محمولين على رفيف فضائه ؛ كتلة من الوعي تحفر منسأة الكون بدأب، مثل نملة على كرة عملاقة تريد أن تستشعر أهميتها وقدرتها على ثقب تلك الكرة حتى لو كان في ذلك هلاكها، وتريد تحريكها والتحكم بشؤونها وإظهار الاقتدار عليها ؛ أم تراه الخوف من اكتشاف عبثية الوجود وغياب الغرض من ورائه، وبقاء الظلم ظلمين في الدنيا والآخرة، مع ما يرتبه ذلك الشك من زوغان رؤية وضلال رأي، وما يجره من نصب على من يأخذ بذلك النوع من الاعتقاد المدان الذي لا سند له ؟!؟.‏
        أياً كان الأمر فالإنسان يحاول أن يفرض نفسه، ولكن ... على من وعلى ماذا ؟!؟ سؤال ما زال مفتوحاً على الزمن وسيبقى مفتوحاً على مدار الأعوام.‏
        من عام إلى عام، ومن عقد زمن إلى آخر، ومن قرن إلى قرن، لسنا سوى القشة التي تترنح في بؤرة الدوامة، نعيش حالة من الوهم تكفي تكفي للانفجار كبراً أو فُجْراَ، وليراق من أجلها الدم ؛ يرقِّصنا الموج على أنغام الهلع وزهو الطفو، ثم يبتلعنا الحلق الذي لا يعرف امتلاء !! ولكن هل من تعزية تُبقى في النفس نشوة تُقْتَطَف من سر تألق الحركة فوق هوة الموت، ومن تعلق الحي بالحياة فوق تلك الهوة، ولو كان ذاك التعلق لا يدوم أكثر من نَفْرَة اشتعال الكبريت في فم عود الثقاب ؟!.‏
        الإنسان والزمن سؤال الكون الخالد، ولغزه الأبدي، وشجنه المتصل، وبحثه الدؤوب ؛ فهما طرفا حوار بلغة الخلق والخالق، حوار يستمر متجدداً ما استمرت الحياة ؛ فذاك الكائن الإنسان ارتبط به وعي الحياة بذاتها وسؤالها المتجدد عن ذاتها وعن الآخر الذي يشاركه سر الحياة ويقاسمه معنى الوجود.‏
        في دنيانا هم الأعوام يتراكم ويتجدد ويتجسد في كرات ثلاث : كرة ثلج تكبر وتتسخ كلما ازدادت حركة، وكرة ألم وغضب تتفجر من آن لآن موتاً ومعاناة ودماً يلون دروب الحياة، وكرة خيوط من الصلات والمصالح والعواطف والعلاقات توزعها تيارات الريح على حقول الشوك ؛ ولا أجد مسوغاً للكلام حول هم الأنام في عام وتراكم ذلك الهم من عام إلى عام، فكبة الغزل المفروطة متداخلة الخيوط، وحينما تتموج تلك الخيوط على الشوك يصعب تمييز قوامها وتخليصها سالمة.‏
        دعونا، وقد دلق البؤس الروحي والعدوان الأسود الذي تقوده العنصرية ويجسده الموساد، دعونا نفتح بيادر الألم وخوابي الأمل، دعونا نطلق نسور نفوسنا في سماء الحلم ونقتحم بحر الخوف، وننشد في ذلك الفضاء اللانهائي أغانينا، فقد تخاف نفس من نفس ولكننا لن نرهب الكون ولن نقلق راحة الزمن الذي يتمدد عملاقاً لا يأبه بألمنا ؛ نعم نحلم بقوة وحرية وفرحة ونصر وتحرير وإرادة لا نهائية المدى، أليس لنا في الحلم من نصيب؟! نعم نحلم فليس لنا إلا أن نحلم في ظل قدر غاشم، وليس لنا الحق في نتنازل عن حقنا بالحلم .‏
        أيها المتعبون المطوفون على تخوم الزمن، في عالم تهده الغربة ويهدده الظلم وقوة القتل الأسود لا تتنازلوا عن حقكم بالحلم فهو مدخل مشروع لتغيير الواقع، لا ترقصوا في وداع عامكم الذي مضى فلم يكن بائساً إلى حد الذهول عنه والهرب مما كان فيه، ولا ترقصوا فرحاً باستقبال عامكم القادم، فسيلوح فجره وتشرق شمسه على نجيع بشري تدوم في فضائه البراءة باحثة عن سبب اضطهادها وذبحها بحد الجبن والغدر .‏
        هذه استراحة الروح في ظل صهيل الوقت وصبيب الدم، استراحة ساعات على نسيج الحرف، قد تكون قادرة على تجديد شيء في عزَماتنا يمكننا من متابعة أفضل لصراع مر يدوم طويلاً، صراع في الحياة ومن أجلها.‏
        تعالوا أيها المتعبون إلى ظلال وارفة يصنعها الحلم، تعالوا إلى وقت نتوهم أنه على تخوم الوقت، واحة تقيِّل فيها الروح، ويصبح ما تهبنا إياه من ورق أخضر وارتسام له في المقل مادة حريق مقبل لأوراق قد تتزيَّن بها صرة نحملها على كواهلنا مدى العمر هي الزاد والرماد الزاد .. هي الروح وفناء الروح، وهي دمنا ووهمنا المسفوحين على أعتاب الزمن ؛ تعالوا إلى وقت ننذره لقول يجعلنا أكثر قرباً من طبيعتنا، وأكثر قرباً من إدراك معنى هلعنا وموتنا وعذابنا وفرحنا وأملنا ؟؟.‏
        تعالوا نبحث عن زاد يبقى لنا منه في مدارات التيه شيء، وعن أمل وحلم وعمل تبقى منا في مدارات الحياة التي يعبث بها الزمن شيء، فالألم كل الألم والبؤس كل البؤس أن نموت كل صباح، وأن نقتل فينا الأمل بسيف بالوهم كل صباح .‏
        وإلى قطرة جديدة في محيط ضخم أرجو أن يكون بعض مذاقها مريحاً ؛ وكل عام وأنتم بخير.‏
        دمشق في 31 / 12 / 1996‏
        الأسبوع الأدبي/ع544//4/ك2/1997.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          دم في دمشق
          دمٌ علا جبهة الميلاد في دمشق ليخط شفق الغروب القاتم لمسيرة بائسة هي مسيرة " السلام الإسرائيلي ـ الأميركي " المعروف باسم سلام مدريد؛ دمٌ بريء يضعنا أمام حقائق ثابتة ينبغي ألا تغيب لحظة واحدة عن ذاكرتنا ووجداننا، ونحن نصنع القرار ونخطط للمستقبل، هي حقائق الصراع العربي الصهيوني بوصفه صراع وجود وليس نزاعاً على حدود .‏
          دم بريء وأشلاء متناثرة في فضاء الميلاد ودوي مروع ينهي الوهم أو يقدم أملاً بانتهائه، ويقيم الوقائع سيفاً حاداً مشتعلاً أمام من يريد أن يرى وأن يعمل بهدي مما تقدمه الوقائع التي يغص بها تاريخ الصراع مع العدو الهمجي؛ وهي وقائع زاخرة بالعبر، وتؤكد المذابح منها، تلك التي تمتد من كفر قاسم ودير ياسين إلى " قانا " ومذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل، تؤكد أنه لا يمكن التعايش بأمن وكرامة بين العرب والصهاينة .‏
          دمٌ بريء يطرح علينا السؤال المر للمرة المئة بعد الألف : إلى متى يبقى الدم العربي مستباحاً ومسترخصاً، وإلى متى نبقى تحت مرمى نار العدو وعملائه؟! وإلى أي حد يمكن أن نحتمل مثل هذا الوضع البائس، وكيف الخروج مما نحن فيه ؟!‏
          علينا ألا نستهجن أبداً أن يقوم الموساد بجرائم بشعة وجبانة وقذرة، فهو أولاً يجسد الطبيعة العنصرية النازية للصهيونية، التي لا يمكن إلا أن تمارس الإجرام والإرهاب، فعليهما فطرت وبهما أنشأت " دولة " هي الأنموذج الشرير في العالم كله، والمنبت الأمثل للممارسات المسكوت عليها دولياً والمعكوسة من حيث حقائقها ونتائجها؛ وهو ـ أي الموساد ـ صاحب تاريخ أسود في الإجرام والإرهاب، ويقوم بما هو موكل إليه من مهام بوحي عقلية مريضة ترى في الآخرين " الغوييم " أهدافاً مستباحة لها، فكيف إذا كان " الآخرين " هم العرب الذين سرقت وطنهم؟! علينا ألا نستهجن ذلك وما ينبغي أن نستهجنه هو ألا يفعل الموساد ما يفعله، وألا يلغ في دم الأبرياء، وألا يعبر عن الطبيعة الحقيقية للصهيونية أفضل تعبير، فهو الوريث الشرعي لصانعي فطير صهيون بدم الأبرياء .‏
          وعلينا ألا نستهجن أبداً ما تتخذ ه الولايات المتحدة الأميركية من مواقف فجة ومنحازة " لإسرائيل "، وأن يكون التصرف العفوي الأول للناطق الرسمي باسم الخارجية الأميركية نيكولاس بيرنز هو الهجوم الوقح على سورية، التي لم تدفن شهداءها بعد ولم تغسل الدم من شوارع عاصمتها، قبل أن تتوافر لديه أية معلومات عما حدث في دمشق باعترافه الصريح الذي تضمنه تصريحه التالي أمام الصحافة؛ علينا ألا نستهجن شيئاً من ذلك لا في الكيان الصهيوني ولا في الولايات المتحدة الأميركية، لأن القاعدة القديمة التي عبر عنها الصهيوني الأميركي لويس برانديس Louis Brandies الذي رأس الحركة الصهيونية عام 1914 بقوله : " ألاحظ مع مرور الزمن أنه لكي نصبح أميركيين جيدين علينا أن نكون يهوداً جيدين، ولكي نكون يهوداً جيدين علينا أن نكون صهيونيين جيدين " لأن تلك القاعدة، التي ترسَّخت على أرضية تقارب الممارسات العنصرية والاستيطان على حساب الشعب الأصلي للبلد المغزو بقوة القهر، ما زالت مستمرة وموضع تأكيد ودعم من العاملين في الإدارات الأميركية المتتالية؛ والصهيوني الجيد، حسب تلك القاعدة، هو الإرهابي المتميز بحقده وعنصريته، وينبغي أن يقابله " عربي جيد "، والعربي الجيد بالمفهوم الصهيوني هو : العربي الميت. وأنموذج الصهيوني الجيد هو ذاك الذي لا يحترم عهداً ولا يصون وداً ويرى أن من حقه أن يكون مالكاً للأرض وما عليها بتفويض "إلهي" همجي عنصري كريه لا يمت إلى معنى العدل والحق والديانات والمعايير الإنسانية والقيم السماوية بأية صلة، وصورة ذلك مجسدة : المجرم الأنموذج الذي صدرته نيويورك إلى الخليل / باروخ غولد شتاين / الذي ذبح المصلين في الحرم الإبراهيمي وهم سجَّد لله تعالى !؟!.‏
          " إسرائيل " تمارس طبيعتها، والولايات المتحدة تخدم مصالحها ولا تعنيها القيم والحق والخير والعدل، فتلك بضاعة للتجارة مثلها مثل الفانتوم والسجائر، وتنقلب تلك البضاعة بيدها إلى سلاح تهدد به الآخرين وتبتزهم عند اللزوم؛ وهي ماضية في تطبيق مخططها المعادي لنا بكل المعايير والمناصر للإرهاب الصهيوني بكل المقاييس. وهذا الأمر قديم معروف معلن ومستمر؛ والسؤال الملقى علينا نحن المستهدفين يبقى هو : إلى متى يستمر ذلك، وإلى أي حد يمكن أن نحتمله، وكيف السبيل إلى مواجهته ؟!‏
          ولن تكف أي منهما عن خدمة مصالحها وتحقيق أهدافها ومخططاتها بكل الوسائل والسبل الممكنة .‏
          ونحن، بعد عملية الموساد الأخيرة التي ذهب ضحيتها ركاب حافلة خط : دمشق ـ حلب التي تمت في دمشق، نجد أنفسنا أمام سلسلة من العمليات تقف وراءها " إسرائيل "، بدأت في " طبرجا " ضد حافلة تقل العمال السوريين ولا نعرف متى تنتهي، وتهدف هذه السلسلة إلى :‏
          1 ـ فصل المسار اللبناني عن المسار السوري في المفاوضات الثنائية، وفرض اتفاقية إذعان على لبنان تؤدي إلى ما يشبه اتفاق / 17 / أيار 1982 الذي أسقطته المقاومة الوطنية اللبنانية وجهود سورية، ومنعتا بإسقاطه وقوع لبنان بكامله تحت الاحتلال الصهيوني، وإقامة الكانتونات الطائفية التي تسعى " إسرائيل " وعملاؤها لإقامتها في المنطقة، لتؤسس بذلك لسيادتها واستقرارها واستمرارها بمزيد من التجزئة العربية.‏
          ومن الواضح أن خيار " لبنان أولاً "، الذي طرحته حكومة العمل وأسقطه تعاون سورية ولبنان، يعود إلى الظهور بعد أن استمر الليكود بتبني هذا الخيار، وعجز عن وضع حد للمقاومة الباسلة التي يلقاها في جنوب لبنان؛ وهناك دعم وتفهُّم غربيان لهذا التوجه وتعاطف معه وضغط من أجل تحقيقه، وإغراء بتقديم مساعدات كبيرة في إطاره، وخلق مناخ في المنطقة من أجل تحققه.‏
          وقد قام تنسيق جدي بين عملاء " إسرائيل " في الشريط المحتل ومَن يعملون على مشروعها القديم ـ الجديد في لبنان وخارجه ممن يسمَّون : " التجمع الوطني " / عون ـ الجميل ـ شمعون /، وهم على اتصال بلحد ونتنياهو؛ ويحظون بمباركات مؤسفة وبنوع من التصريحات التي تساوي في نهاية المطاف بين المقاومة الوطنية المشروعة للاحتلال وعمليات عملاء الموساد في طبرجا ودمشق، بشجبها العمليات بما فيها تلك التي تتم في الشريط المحتل من جنوب لبنان ضد الاحتلال.‏
          2 ـ تحميل سورية مسؤولية المقاومة الوطنية في جنوب لبنان ومسؤولية تغذيتها، والضغط عليها لإجبارها على وضع حد لتلك المقاومة مع بقاء الاحتلال واستمراره؛ ومطالبتها بطرد المقاومة الفلسطينية الرافضة لاتفاق أوسلو من دمشق، وتحميلها أيضاً مسؤولية العمليات التي تقوم بها فصائل تلك المقاومة ضد العدو في فلسطين المحتلة. والخروج من ذلك التهديد والوعيد إلى تسويغ توجيه ضربات إلى سورية لإجبارها على أن تصبح حارس الاحتلال في كل من لبنان وسورية وفلسطين؛ وإذا لم تفعل ذلك فهي الدولة التي تحمي الإرهاب، وتعطل عملية السلام، وتهدد الآخرين، وتسبب التوتر، وتسعى لامتلاك السلاح الكيمياوي، وعليها أن تثبت براءتها في كل صباح حتى إذا كانت هي المعتدى عليها، بينما من يمارسون الإرهاب والعدوان والاحتلال ويملكون السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل الأخرى مسكوت عنهم لأنهم في حماية الولايات المتحدة الأميركية التي تقود المجتمع الدولي من لسانه إلى حيث تشاء .‏
          3 ـ عزل سورية ومحاصرتها واستدراجها لتوجيه ضربة " ساحقة " لها عن طريق استفزازها وجعلها :‏
          ـ إما عاجزة عن الرد بفعل الحسابات ذات المردود السلبي من حيث النتائج العامة للرد، وبذلك يتحقق تآكل روحي وعجز لا ترضاهما سورية.‏
          ـ أو إجبارها على الانصياع لتوقيت غير ملائم تُجَرُّ فيه إلى معركة في الظروف والمواقع التي يحددها العدو ويتحكم فيها.‏
          وكل تلك حسابات تعيها سورية جيداً، وتستطيع التعامل معها بثقة واقتدار عند اللزوم.‏
          4 ـ فرض " سلام " بالشروط الصهيونية عليها، وهو حسب نتنياهو وجنرالاته : سلام مقابل سلام، أي بقاء الجولان أو جزء منها تحت الاحتلال، مع فرض الاعتراف والتطبيع، وإلغاء الدور القومي لسورية، وتكبيلها باتفاقيات تلغي ذلك الدور أو تخنقه.‏
          5 ـ تمكين عملاء " إسرائيل " في الشريط المحتل من جنوب لبنان من التفلُّّت من كل حساب، والمحافظة على مصالحهم ومكانتهم وارتباطاتهم معها، ودعمهم مع سائر المتعاملين معها في الداخل لتمكينهم من تبؤ مكانة لائقة في أية تسوية مستقبلية، فضلاً عن حضورهم في ساحة القرار .‏
          إن حسابات الموساد ورجاله كثيرة، وجرائمهم خطيرة، وما يتطلعون إليه أعظم وأخطر وهو مشروع " إسرائيل التوراتية " والسيطرة الشاملة على المنطقة ومستقبلها، ولكن عليهم أن يعلموا شيئاً واحداً بدقة كافية وهو أن الدم السوري خاصة والعربي عامة ليس رخيصاً، ولن يكون من دون ثمن، وأن ابتلاع سورية والعرب ليس بالسهولة التي يظنون؛ وإذا كانت هناك أنظمة وضعاف نفوس يهرولون إلى الأعتاب الصهيونية خوفاً وطمعاً فليس أولئك هم الأمة العربية وتاريخها ومستقبلها ونهاية طريق الصراع معها، نحن أمة تؤمن بحقها وبقدرتها على تحقيق النصر، وهي تملك الحق الساطع والشعب الواسع، وليس لعدوها مثل هذا الذي يضمن المستقبل والنصر، كل المستقبل وكل النصر، بعونه تعالى .‏
          ويبقى من حقنا ومن واجبنا أن نواجه السؤال الملقى علينا لنزداد وعياً وأملاً وقدرة على العمل والإحساس بعامل الزمن الحاسم في مثل صراعنا مع الصهاينة : إلى متى يستمر تفككنا، ومتى نبدأ السير في طريق المواجهة الشاملة في إطار صراع الوجود مع المحتلين العنصريين ؟؟!.‏

          دمشق في 7 / 1 / 1997‏
          الأسبوع الأدبي/ع545//11/ك2/1997.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            السودان والعدوان
            السودان دولة ـ قارة، مترامية الأطراف، تكاد مساحته تعادل مساحة أوربا كلها / 2505810 كم2 / وعدد السكان فيه يصل إلى ثمانية وعشرين مليون نسمة تقريباً، ويخترقه النيلان الأبيض والأزرق ليشكلا عند قدمي العاصمة مجرى النيل الكبير الذي ينتهي في المتوسط قرب الإسكندرية. وتكاد المساحات الصالحة للزراعة تكفي حاجة الوطن العربي كله من المحاصيل إذا ما استثمرت بشكل جيد، والثروة الحيوانية تصل نسبتها إلى سبعين رأساً للفرد الواحد؛ وفي السودان تنوُّع في الطبيعة والبيئة، وهو يشرف على البحر الأحمر ويكوِّن إحدى الدول المهمة في موقعين حيويين : ساحل البحر الأحمر وعمق إفريقيا السوداء؛ وبهذه الهوية الرقمية العامة يدخل السودان في الذاكرة العربية قوة قابلة لأن تكون مؤثرة بشكل ملحوظ، إذا ما توفرت إمكانات التطور على أرضية من العلم والإيمان والعمل بهما.‏
            منذ استقلاله عام 1956 لم يتمتع السودان باستقرار طويل المدى، فقد مر بظروف ومتغيرات كثيرة جعلته عرضة للاستنزاف شبه المستمر.‏
            في بداية الثمانينيات عادت الحرب إلى نشاطها في جنوب السودان، واستفحل أمر المتمردين، الذين كانت ترعاهم وتغذي تمردهم الدول الغربية وتنشر بينهم المبشرين، وتعمل على أن تقيم منهم ولهم دولة على حساب وحدة السودان أرضاً وشعباً وعلى حساب مستقبله. وقد شكل، جون غرنق والذين تحالفوا معه ثم انشقوا عنه ثم تحالفوا معه؛ شكل أولئك خطراً داهماً على الخرطوم ذاتها في فترة من الفترات، يوم كانت حكومات السودان لاهية عنهم وعن الأهداف التي ينشدونها والأخطار التي يمثلونها؛ ولم يكن أولئك مع وحدة السودان منذ أضرموا النار في أطرافه، كما صرح بذلك بعض المسؤولين العرب، وكانوا دائماً عبئاً على الأمة وقد شكلوا خطراً حقيقياً حتى على الذين يتحالفون معهم اليوم من السودانيين.‏

            واستمر استنزاف السودان من خلالهم وما زال ذلك الاستنزاف مستمراً، تنفيذاً لمخطط يرمي إلى تقسيم السودان، وفصله عن العمق الإفريقي، والحيلولة دون تواصل ثقافي عربي ـ إسلامي قد يقيمه السودان مع وسط إفريقيا، التي كانت تاريخياً على تواصل مع ثقافتنا وعقيدتنا وأمتنا العربية؛ ولمنعه أيضاً من ربط رأس الجسر الذي يشكله مع شمال إفريقيا العربية ـ الإسلامية.‏
            وحين تسلمت ثورة الإنقاذ الوطني مقاليد الأمور في السودان / 30 حزيران 1989 / جعلت على رأس اهتماماتها مواجهة المخاطر التي يشكلها التمرد الذي يسيطر على الجنوب؛ وقررت وضع حد لمن يفتح عليها أبواب التدخل الأجنبي في شؤونها ويعيقها عن أداء واجباتها والاهتمام بالأوضاع الداخلية؛ ووجهت قواها بتركيز مستمر خلال السنوات الماضية نحو الجبهة المفتوحة هناك؛ وكانت تقاتل في تلك الجبهة قوى يُقدَّم لها دعم لوجستي من الجوار بإيحاء وضغط أميركيين، وتغطى تكاليف حربها بمساعدات مادية ومعنوية غربية، حيث يأتيها السلاح والتأييد والتغطية السياسية والإعلامية من هناك بشكل علني واضح؛ وكانت المرجعيات الغربية، الروحية والسياسية، تمارس ضغطها وتدخلها لنصرة غرنق وفريقه بكل الوسائل الممكنة، ومنها الوساطة الملغَّمة، التي كانت تقوم بها شخصيات أميركية وغير أميركية مع الحكومة السودانية، عندما كانت قوات تلك الحكومة تتقدم نحو معاقل المتمردين وتهزم غَرَنْق أو تضعفه هو والجهات المتحالفة معه.‏
            ونجحت ثورة الإنقاذ في مهمتها في الجنوب، وسيطرت على معظم المعاقل، وكسبت شرائح واسعة من الجنوبيين، وقدمت لهم ظل الوطن المريح وأمنه وخيره، ولم يبق إلا القليل لتنهي حالة الاستنزاف المميت، وتربط الشريان المفتوح، وتضع حداً للخطر الكبير الذي حاق بالوطن والثورة، وهو الخطر القادم من تلك الثغرة المؤلمة. عشرات الآلاف من الشهداء سقطوا على تلك الطريق، طريق حماية وحدة السودان : الأرض والشعب.. طريق وضع حد للتدخل الأجنبي البغيض.. طريق بناء السودان بهوية عربية وروح إسلامي وانتماء صريح للأمة والعقيدة والتاريخ.. طريق ترسيخ وحدته ودوره واستقلاله ومن ثم التطلع إلى بناء قواه الذاتية وبناه التحتية، وكم أريق دم ودمع وعرق، وكم صرف مال وجهد في تلك الطرق التي لم تكن نتائج الأداء الإيجابي أو السلبي فيها لينحصر أثرها في السودان دون أمته العربية. وبدأ السودان الغني، المُفْقَر، ينتج كفايته من بعض المحاصيل الزراعية وما يزيد عن تلك الحاجة، وبدأ يتعامل بثقة مع الواقع، ويتطلع بأمل إلى دور قومي وإسلامي وإقليمي نشط.‏
            لقد دفع السودان، بصمت وكبرياء، ثمناً غالياً جداً لنجاحه ومواقفه واختياره، ولرفضه تقسيم أرضه وشعبه، وكلفه غالياً جداً عدم الانصياع لطلب الغرب وعملائه بإقامة دولة لغرنق وأضرابه تفصل السودان عن عمقه الإفريقي ثم تبدأ الزحف على ما يتبقى منه بالقضم والتقسيم والتفتيت والتآكل الداخلي، الاجتماعي والروحي.‏
            ولم يكن السودان، على الرغم من المحنة القاسية التي يعيشها، ليتخلى عن دوره القومي، لا سيما نحو القضية الفلسطينية ببعديها العربي والإسلامي؛ ولا عن دور يكون له في مستقبل أمته، وفي هذا الإطار جاء دعمه للمقاومة الوطنية الفلسطينية، وإيواؤه لعناصر حماس والجهاد الإسلامي الذين لاحقتهم " إسرائيل " والصهيونية لتبيدهم، لأنهم رفضوا التسليم بذهاب وطنهم فلسطين إلى الأبد، وقالوا ربنا الله، واختاروا طريق المقاومة لاستعادة الأرض والحرية والسيادة والكرامة؛ وهو دعم نابع من نظرة السودان إلى الصراع العربي الصهيوني على أنه صراع وجود مع وجود وليس نزاعاً على حدود، ومن تقديره لأبعاد ذلك الصراع التاريخية والمصيرية والمستقبلية. وقد كلفه ذلك الاختيار غالياً ورشحه ـ مع أمور أخرى رأت فيها الإدارة الأميركية خطراً على ما تسميه مصالحها في المنطقة ـ رشحه للمرحلة الحالية التي يخوضها منذ أيام.‏
            من المعروف أن مصالح الولايات المتحدة الأميركية الرئيسة في المنطقة ثلاث هي : النفط ـ و" إسرائيل " ـ والسوق الاستهلاكية بمفهومها الواسع والشامل؛ وأن كل دولة تقدم مصالحها الوطنية والقومية على تلك المصالح، أو ترفض " إسرائيل " وتعترض على " سلامها " المفروض المرفوض في آن معاً، أو تناصر حق الفلسطينيين في وطنهم، بالمفهوم التاريخي والمبدئي والجذري لذلك الحق؛ ينبغي أن تدفع الثمن وأن تنسحب من ساحة المواجهة مهزومة، أو تركع ذليلة؛ فكيف إذا كانت تلك الدولة تأخذ بمفهوم الصحوة الإسلامية، وتختار بناء دولة إسلامية على أسس الشريعة، وتدعو، على شواطئ البحر الأحمر، إلى تغيير يقود إلى الحرية والتحرير ووحدة الصف بوجه الأطماع الغربية والصهيونية؟! إنها إذن موطن من مواطن " الأصولية " بالمعنى الغربي ـ السلبي للأصولية؛ وبؤرة من بؤر التوتر والإرهاب والتخريب والرفض، وهو المعنى الذي يحاول الغربيون والصهاينة إضفاءه اليوم على الإسلام والمسلمين؟!؟‏
            إن السودان، الذي تربطه بإيران علاقات طيبة ويلتقي معها في المشروع الإسلامي وتطلعاته المستقبلية، يشكل ـ من وجهة النظر الأميركية ـ الصهيونية تهديداً للمصالح الأميركية ولمصالح حليفتها " إسرائيل "، ولما تريانه أمن المنطقة. وهذه قضية في غاية الأهمية والحساسية، وتشكل مفتاح الأحداث الدائرة اليوم في شرق السودان ومرامي تلك الأحداث.‏
            فبعد أن أمَّنت الولايات المتحدة سيطرة على أرتيريا، وهي الدولة التي تملك أطول شاطئ تقريباً على البحر الأحمر، وأصبح لرئيسها / أسياس أفورقي/ علاقات ودية للغاية مع " إسرائيل "، وشجعتها على أخذ بعض الجزر الاستراتيجية من عرب اليمن ـ جزر حنيش ـ وأمدتها بقوة تمكنها من أن تكون مركز توازن وتهديد؛ بعد أن فعلت ذلك، عمدت إلى تشجيعها على تكوين تفاهم وتعاون مع أثيوبيا لتنطلق من هناك قوة، مسيطر عليها صهيونياً وموجهة أميركياً، تشل السودان وتجهض ثورته، وتقطع كل اتصال له مع ما يتطلع إليه، ومن يتطلع إليهم من عرب ومسلمين؛ وتغيِّر نظامه الذي يقال : " إنه أصبح خطراً على الجوار " وهو يبوء بكل هذا الغضب في الواقع، لأنه نظام لا يرضي الولايات المتحدة الأميركية و" إسرائيل " لأنه لا يشكل جزءا من استراتيجيتهما، وليس مخلباً لهما.‏
            وترى السياسة الأميركية ـ الصهيونية التي تريد أن تسيطر على البحر الأحمر،أن أي تحالف استراتيجي سوداني- إيراني محتمل يجر إليه اليمن سوف يشكل خطراً على المنافذ الاستراتيجية للملاحة في البحر الأحمر وعلى حرية تدفق النفط وتحرك " إسرائيل " في تلك المياه، لا سيما وهما تعارضان الاعتراف بها، والتالي أن ذلك ذو تأثير على مضائق تيران.‏
            إن السيطرة الغربية ـ الصهيونية على البحر الأحمر تستدعي إبعاد شبح أي قوة سودانية قد توحي بإمكانية تحالف إيراني سوداني عراقي محتمل، ولو في المدى البعيد؛ فهو تحالف يؤثر سلبياً في بحر العرب المسيطَر عليه أميركياً، كما يؤثر في دور مصر التي تُسْتَنْهَض غربياً لترى أن الخطر متجه نحو دورها القيادي، عربياً وإفريقياً، وموجه ضد سياستها وقيادتها.‏
            وقد استثمرت الأجهزة الاستخباراتية الأميركية والصهيونية الحادث الذي تعرض له الرئيس محمد حسني مبارك، وهو في طريقه إلى أديس أبابا، إلى أبعد حدود الاستثمار، ووظفته مع رصيد سابق عملت عليه ونمته وضخمته، يتصل بتعاون التيار الإسلامي في مصر مع الحكم في السودان ومع إيران، ليصبح ذلك خلفية رهيبة للمواقف التي جعلت كل ما هو تاريخي وحميمي وأخوي بين مصر والسودان لا يفعل فعلاً إيجابياً لدى الرئيس مبارك، عندما بدأ العدوان الأخير على شرق السودان بدعم أثيوبي ـ أرتيري لا شك فيه، حيث أصر الرئيس مبارك على تبرئة الجوار السوداني من العدوان، وألحَّ في اتهام السودانيين، وبرأ غرنق من التوجه الانفصالي، وكل ذلك واضح ومكشوف، ولكن دم الجرح غلف الرؤية ووجهها.‏
            إن " سودان حركة الإنقاذ الوطني " بعد الانتهاء من معضلة الجنوب، وهو الأمر الذي غدا وشيكاً، سوف يمارس دوراً نشطاً في المنطقة، وسيكون له تأثير ملحوظ في البلدان المجاورة، وقد يشدها إلى التفكير بحماية أمن المنطقة من التدخل الأجنبي؛ أو إلى التفكير باستقلالية نسبية لا تجعلها في حالة تبعية على الأقل.‏
            وهكذا وُضِعت حكومة الخرطوم على لائحة الدول التي ترعى الإرهاب وتدعمه؛ وبدأ تهديدها بالعقوبات والحصار، ثم اتُّخِذَت الخطوات التي تؤدي إلى تنفيذ ذلك في " مجلس الولايات المتحدة الأميركية للأمن الدولي "، وحوصرت بكل هذه الهواجس بينما كان المخطط الحالي على نار هادئة.‏
            لقد جمعت المعارضة، وهيأت الخطة، وبدأ العدوان ضد " سودان ‎" ثورة الإنقاذ من الشرق انطلاقاً من الأراضي الأثيوبية والأرتيرية. ولم يكن غرنق ومن معه بقادرين على الدخول إلى " الكرمك " و " قيسان " وإعلان التوجه نحو " دمازين "، حيث مصدر كهرباء العاصمة الخرطوم، إلا بدعم تام ومشاركة فعلية من قوى أثيوبية وأرتيرية توجهها وتخطط لها وتغطيها سياسياً وإعلامياً الولايات المتحدة الأميركية و" إسرائيل " وهما صاحبتا المصلحة الأولى في هذا العدوان، الذي يرمي إلى إسقاط حكومة الخرطوم والقضاء على ثورة الإنقاذ الوطني وعلى توجهها العربي ـ الإسلامي.‏
            لم يكن العميل غرنق في يوم من الأيام إلا مخلباً غربياً وصهيونياً، بعد أن توجهت أنظار " إسرائيل " إلى عمق إفريقيا وإلى منابع النيل في الحبشة، لم يكن إلا صورة من سعد حداد وأنطوان لحد وغيرهما من عملاء " إسرائيل "، مع فارق وحيد هو موقع العمل، أما الغايات والأهداف والوسائل فواحدة، والموجِّه واحد، والمستفيد واحد.‏

            إن هذا العمل يتم لمصلحة من تؤذيهم يقظة العرب والمسلمين، ومن لا يهمهم إلا أن ينتهي كل أمل ممكن للعرب والمسلمين في يقظة أو نهضة.‏
            ومن المؤسف أن يكون المناخ العربي الذي تتم فيه مثل هذه الأحداث مهيئاً بعناية فائقة لمصلحة من يعتدون على أمتنا ويعملون على النيل منها. فها هو ذا العدوان الغادر يتم في وقت تقدِّم فيه الإدارة الأميركية " وإسرائيل " نفسيهما على أنهما صانعتا سلام على أرضية ما يسمى " بإنجاز " الخليل؛ وهاهو الوسيط الذي " حققه " بطلب من كلنتون، لمصلحة العدو الصهيوني وحليفه الأميركي، هاهو يغتسل بمياه النيل القومي في ملتقى النيلين مدافعاً عن قضية السودان العادلة، مديناً العدوان الذي يستحق الإدانة؛ وهذا فعل يرضي الشارع العربي ويريحه؛ ويجعله يسقط بعض الوزر أو يتناساه (؟!؟) بينما تتخذ مصر موقفاً لا يرضي الشارع العربي الذي ينتظر منها موقفاً بحجم مكانتها القومية وبحجم تاريخ أخوة النيل وعراقته، ذاك الذي وحد مشاعر أهلنا في مصر والسودان منذ آلاف السنين. ويحقق هذا الفعل بمجمله مزيداً من خلط الأوراق وضبابية الرؤية، وهو بتقديري أمر لا يخدم سوى أعداء الأمة.‏
            إن موقف من يدفع ليكون حصان المستقبل يأتي على حساب الحصان الذي يكبح ويلجم ويوضع في الميدان الغلط، لكي يستمر نمو التناقض والتآكل والتهافت في صفوف الأمة؛ وتلك حالة مزمنة ومؤسية ومؤسفة.‏
            ليس الوضع الذي فرض على أشقائنا في السودان مريحاً لهم أو لنا، ولكنه ليس وضعاً يدفعنا أو يدفعهم إلى اليأس أو الإحباط بأي حال من الأحوال.‏
            فالذي قطع دابر التمرد وأخرج غرنق وأمثاله من جنوب السودان قادر على قطع دابر هم في شرقه، ومن تصدى لحمل رسالة الجهاد تحت لواء الرسالة المبدئية السامية قادر على متابعة الطريق وتحقيق النصر.‏
            ولكن الذي يقلق ويمض ويدعونا لكي نضع له حداً، هو تمكن عدونا والطامع بنا من تسخيرنا لأغراضه ولتحقيق مخططاته، وجعلنا نهن ونهون بنظر أنفسنا وبنظر (الغير)؛ ويتركنا شلواً ممزقاً تتقاذفه أرجل العابرين، ويطمع بنا من لم يكن يوماً أهلاً لننظر إليه نظرة اهتمام !! أفلا يستحق هذا الوضع منا شيئاً من التفكير والتبصر والعمل للخروج من دياجيره إلى صبح الرؤية السليمة ونشوة الموقف الكريم ؟!؟‏
            يا أشقاءنا في السودان إننا معكم في دفاعكم عن وحدة الأرض والشعب، وفي سعيكم المبارك للم الفتنة وإبطال مفعول الكيد والغدر والعدوان. شهداؤكم شهداء الأمة ودفاعكم دفاع عن الأمة، والعدوان عليكم عدوان على الأمة؛ ولتكونوا كما عهدناكم دوماً : قوة الحق وتصميم العدل وبصيرة المؤمن؛ والنصر لأمتنا.‏
            دمشق في 21 / 1 / 19997‏

            الأسبوع الأدبي/ع547//25/ك2/1997.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              كوبنهاغن بعد غرناطة
              في متحف لويزيانا، شمال العاصمة الدانمركية كوبنهاغن، اجتمع يومي 29، 30 كانون الثاني / يناير 1997 / حوالي أربعين ممن سموا أنفسهم " التحالف الدولي من أجل السلام العربي ـ الإسرائيلي " في مؤتمر أشرفت عليه ومولته ورعته وزارة الخارجية الدانمركية بالتعاون مع الاتحاد الأوربي؛ وحضره وزيرا الخارجية والتنمية الدانمركيان وممثل الاتحاد الأوربي دييجو دي أوجين، والسفير موراتينوس ممثل الاتحاد إلى مفاوضات السلام، وضم المؤتمر وفوداً من مصر و " إسرائيل " والأردن وفلسطين والاتحاد الأوربي وأصدر في نهاية أعماله " إعلاناً " دعا فيه إلى تكوين ما أسماه قاعدة " شعبية " تعمل على دفع عملية السلام تحت شعار : " فلتنته حالة الحرب .. ولنبدأ حالة السلام. " .‏
              وتأتي هذه المبادرة، ممن اعتبروا أنفسهم ممثلين لروح " تحالف شعبي " قادم، لأن " السلام من الأهمية بمكان حيث لا يترك للحكومات فقط، كما أن الصلات بين الشعوب هي أمر حيوي لنجاح جهود السلام في المنطقة، وما لم تقف وراءها قاعدة شعبية فإن عملية السلام سوف تتراجع ". والعبارة الأولى هي عبارة شمعون بيريس، قد أصابها بعض التعديل، عبارة كان قد استخدمها في كلمته أمام ملتقى غرناطة " الطيب الذكر " الذي حضره أكثر من هذا العدد ـ خمسون ـ من المثقفين العرب والأوربيين والإسرائيليين بين 9 ـ 12 / كانون الأول / ديسمبر 1993 / لدعم اتفاق أوسلو والاحتفاء بإعادة انتشار جيش الاحتلال، بعد مرور ثلاثة أشهر على توقيع ذلك الاتفاق.‏
              لقد جاء ملتقى غرناطة ليوظف الثقافة في خدمة اتفاقيات الإذعان والضعف والخذلان، وليشكل من مثقفين ومن ثقافة حاضنة للتطبيع العربي مع " إسرائيل"، وليفتح باباً على العقل والوجدان العربيين بغية غسل الذاكرة وتشويه الوجدان، ولكنه لم يفلح في المرور؛ لقد عقد تحت شعار " لننتقل من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام " وأفلح في شن الحرب على الحق والعدل والسلام، فقد توِّج بمذبحة " قانا "، وبشوفينية نتياهو، ومذبحة نفق القدس، وبإطلاق أحد تلامذة المجرم الصهيوني باروخ غولد شتاين النار على عرب الخليل دون تمييز .‏
              في الجعبة الرسمية لأهل غرناطة كانت هناك أربعة عشر من الموضوعات / السياسية ـ الثقافية ـ الاجتماعية ـ الاقتصادية / التي تم التركيز على تبنيها بوصفها موضوعات ذات أولوية ملحَّة، وموِّلت تمويلاً كبيراً، وما زال العمل جارياً في أطرها، ولكن عورتها انكشفت للناس؛ ولم يدخل أهل غرناطة دخول الفاتحين إلى عقول الجماهير العربية وقلوبها، وكان لا بد من بدائل وروافد لملتقى غرناطة في آنٍ معاً .‏
              أما أهل كوبنهاغن فيطالعوننا بصيغة معدلة عن صيغة غرناطة، صيغة أقل فجاجة وأكثر استفادة من الدروس الماضية، توهم بقدرتها وسعتها، وهي تصب في النهر ذاته لتحقق الهدف ذاته : " خدمة إسرائيل " وتسويقها عربياً، وتسويق " إسرائيل نتنياهو " هذه المرة، بعد توقيع اتفاق الخليل الذي يقدَّم على أنه انتصار الخليل، وما هو سوى بضاعة فاسدة تدسُّ في أنوف العرب ليزدادوا هرولة إلى أعتاب العدو الصهيوني، والمطلوب هو أن تكون الهرولة : رسمية وشعبية، ففي ذلك إرضاء أكثر لغرور العدو !!. إنها صيغة تجعل الرسمي لا يشعر أنه بلا سند شعبي، وتجعل الشعبي يركض بالرسمي الذي يومئ إليه. إنها صيغة تحاول أن توهم السياسي العربي على الخصوص بأن هناك قواعد شعبية تدعم كل ما يقدمه من تنازلات للعدو، بوصفها تنازلات من أجل السلام " الذي طال انتظاره " وانتظار ما في جعبته؟! .‏
              ويقدم أهل إعلان كوبنهاغن أنفسهم ممثلين للشعوب، بطريقة غريبة مريبة، على الرغم من أن الذي يدعوهم هو وزير خارجية، وأنهم إما من المسؤولين السياسيين أو بطانة لمسؤولين وأجهزة مكشوفة معروفة؛ وهم يتدافعون إلى تلبية دعوة رسمية وتوقيع " بيان " أعد لهم مسبقاً، واقترح عليهم أن يوقعوه خلال اجتماع لا يزيد على تسعين دقيقة ومن دون مناقشة تذكر؛ ومع ذلك يتجاسرون على تقديم أنفسهم بوصفهم ممثلين " لقواعد " شعبية، وأن حرصهم وحرصها على السلام هو الذي أدى إلى ولادة هذا الإعلان؟!‏
              قصة غريبة مريبة، تجعل من هؤلاء الذين فقدوا حس التمييز بين كونهم صوت الصهيوني المحتل / نتنياهو أو بيريس لا فرق / " ممثلين " في الوقت ذاته لشعب يرزح تحت الاحتلال ويتعلق بالحرية ويقدم التضحيات والدماء كل يوم ويرفض سلام الاستسلام؟! وهذه الطليعة بـ " خمس نجوم " لا تعرف عن حقيقة شعبنا العربي شيئاً، وتفتري عليه، وتريد أن تشوه صورته وتقدم نفسها للعالم على أنها ممثل شرعي له؟! إنها جرأة على الحق والعدل والشعب لا نظير لها، وحماسة " للسلام " مدفوعة القيمة، تجعل تجار القضايا يبيعون الحقوق والشهداء من دون حياء:‏
              جنون ... والجنون فنون.‏
              في كوبنهاغن، التي يبدو أنها أصيبت بحمى الغيرة من أوسلو، قُدِّم إعلان فيه إشارة إلى ولادة " حركة "، يهيب مؤسسوها بـ : " الجماعات والأفراد، على المستويين الإقليمي والدولي، المعنيين بمستقبل المنطقة ـ أي منطقة الشرق الأوسط ـ أن يتبنوا هذا الإعلان وأن يلتحقوا بحركتنا وأن يدعموا بشدة قضاياها وأهدافها. ". فلننظر ما هو هذا الإعلان وما هي أهدافه :‏
              في سياق مجار للنص : أود أن أسجل الملاحظات الآتية المبنية على مقبوسات من نص الإعلان ذاته. يقول أهل الإعلان :‏
              ـ " لقد اجتمعنا في كوبنهاغن لكي نسهم في حل دائم وشامل للصراع العربي ـ الإسرائيلي قبل نهاية هذا القرن، ولكي نبدأ عصراً للسلام العادل والدائم الذي يتمتع فيه الشرق الأوسط بالأمن والاستقرار والرخاء ". ولا ندري كيف يمكن أن نصل إلى الحل الدائم والسلام العادل مع بقاء الاحتلال وشَرْعَنَتِه، ومع بقاء القوة وسيطرتها؟! فأهل الإعلان يريدون حلاً عادلاً للصراع، ولن يكون أي حل عادلاً ما دام يتم على حساب الشعوب التي تعاني من التشرد وما زالت ترفض الاحتلال؟! ولا يمكن أن يكون هناك حل يرضي الصهاينة ويوطد دعائم " إسرائيل " إلا ببقاء احتلالها ونمو سيطرتها في الأرض العربية، سواء أكانت أرض الـ / 48 / أم أرض الـ / 67 / أم أرض الـ / 82 ـ 85 / فالحل الذي تضمَّنه آخر فرع من اتفاق أوسلو / فرع الخليل / نص على أن : " مساحة الأراضي التي سيجري التنازل عنها للفلسطينيين متروكة لاستنساب " إسرائيلي " " فهي إذن التي تحدد المناطق التي تبقي فيها قواتها بشكل دائم، وهي التي قالت أيضاً : إن حدودها الآمنة هي ضفة نهر الأردن، وأن القدس " عاصمتها الأبدية الموحدة "، وأن الجولان ضروري لأمنها، وأن الفلسطينيين لا حق لهم في العودة !!؟ ومن الطبيعي ألا يكون هذا عادلاً بالنسبة للعرب، فهل يبقى من معنى لدوام السلام من دون العدل؟ أفلا تثور الشعوب التي " يزعمون أنهم يمثلونها " من أجل العدل الذي يخل به وجود الاحتلال وغطرسة القوة؟! أم أن نوع الشعوب التي يمثلونها لا تعنيه " ترهات " مثل : العدل والحرية والكرامة القومية؟!‏
              ـ جاء في الإعلان : " لكي يتوافر مناخ حوار للمفاوضات ينبغي عدم استخدام أو تشجيع أو قبول العنف والإرهاب بأية صورة. " ومن الواضح أن هذه الفقرة موجهة للمقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية، لحماس والجهاد الإسلامي وحزب الله؛ وتتضمن تحريضاً للسلطة الفلسطينية ومطالبة لها بالوفاء بالتزاماتها، التي تضمنها اتفاق الخليل، وهي التزامات واضحة جداً تقضي بتصفية عناصر المقاومة في حماس والجهاد بوصفهم يمارسون الإرهاب عندما يقاومون سلطة الاحتلال؟! وتلك أكبر فاجعة للثورة والشعب والقضية والضمير والشرعية الدولية، لأنها تريد أن ترسخ : " دولياً وعربياً وفلسطينياً، مفهوماً مشوهاً غريباً هو : أن ما قامت به الثورة الفلسطينية وما يمكن أن تقوم به أية شرائح شعبية عربية مقاومة للاحتلال وللكيان الصهيوني المغتصب للحق والوطن : هو إرهاب موجه ضد دولة صاحبة " حق تاريخي في الوجود " وأن استمرار هذا " الإرهاب ضدها " يعكر مناخ المفاوضات معها؛ وهو أمر ترفضه " قوى التحالف الدولي ـ الشعبي من أجل السلام " وتدعو إلى مقاومته؟! وهذا أمر عجيب، وهو المفهوم المشوه ذاته الذي دأبت الصهيونية والإدارات الأميركية على ترويجه.‏
              وهذا يعني، فيما يعني، خلق مناخ ملائم لنتنياهو، تلميذ شامير والناطق باسمه في مؤتمر مدريد، لكي ينهي على مهل فرض الأمر الواقع الذي يريد في الأراضي العربية المحتلة، من دون مقاومة من أي نوع ومن دون ضغط من أي نوع؛ وهو قمين بجعل المفاوضات تمتد الوقت الكافي لتصفية كل من يقول لا " لإسرائيل "، أو لا إله إلا الله في فلسطين والوطن العربي، لأن أولئك يعكرون مناخ المفاوضات، ويزعجون السيد المحتل الذي يريد أن يرتب أوضاعه بهدوء؛ وهم بمقاومتهم للاحتلال وشروطه يرفضون سلام الاستسلام المفروض بقوة القهر الغربية وعملائها " الشرعيين " ؟!‏
              ـ وقال أهل إعلان كوبنهاغن : " لكي تزول مخاوف الفلسطينيين فإنه ينبغي عدم بناء مستوطنات جديدة وعدم مصادرة الأراضي الفلسطينية " ولكن ما معنى هذا الكلام بالضبط على أرض الواقع اليوم ؟!‏
              إنه يعني أن من حق " حكومات إسرائيل " أن تتابع توسيع المستوطنات التي صادرت من أجلها الأراضي اللازمة للتوسع، ومن حقها أن تتصرف بكل ما تسميه أراضي الدولة، لأنها لا تصادر أراضي الفلسطينيين، كما تزعم، وإنما تصادر أراضي " فلسطين " التي استعيدت صهيونياً، وهي أراضٍ لا يملكها أفراد فلسطينيون ولا يشملها مفهوم المصادرة !! فإسرائيل " استعادت فلسطينها"، أما الفلسطيني فهو من أقلية تعيش في " أرض إسرائيل " ؛ ومن حق " إسرائيل " حسب المفهوم الصهيوني والغربي " لأرض إسرائيل " أن تبني على أرضها كيفما تشاء وأنى شاءت، سواء بوجود مفاوضات أو من دون وجودها، فحقها في التصرف " بملكيتها " لا يعترض عليه أحد، لا من الحكومات ولا ممن يسمَّون " القاعدة الشعبية المحبة للسلام والحريصة عليه "، قاعدة كوبنهاغن ؟!؟.‏
              وهكذا في ظل الأمن والاطمئنان والراحة التامة، يستمر المشروع : الاستعماري الاستيطاني ـ التوسعي الصهيوني، وتموت المقاومة، ويموت معها الشعور بالوطن والحرية والحق والكرامة !!.‏
              ـ تحاشى أصحاب إعلان كوبنهاغن استخدام كلمة التطبيع، وحذفوها بعد أن وردت في نص المشروع، واستعاضوا عنها بعبارة تعطي المدلول ذاته ولكنها لا تثير ما تثير كلمة التطبيع من رفض واعتراض، فقالوا : " ببناء علاقات عادية ". والنتيجة كما نرى واحدة، ولكن لذلك دلالاته النفسية والاجتماعية والسياسية؛ فمقاومة التطبيع حظيت بمد شعبي عربي لا يقاوم، وسقطت مقولات المطبعين ولم تسقط أهدافهم، ولذا فإن هذه " الحركة " التي تسمي نفسها " شعبية " تتابع الأهداف ذاتها تحت مسميات أخرى، فهل تراهم يفلحون في خداع أحد من الناس يا ترى؟!‏
              ـ لم يجرؤ أهل إعلان كوبنهاغن على المناداة بجعل المنطقة التي " يحرصون على السلام والازدهار فيها " خالية من أسلحة الدمار الشامل، ولم يرد في إعلانهم مطالبة " إسرائيل " بالتخلص من ترسانتها النووية، أو بالانضمام إلى الاتفاقيات والمنظمات الدولية المسؤولة عن مراقبة الطاقة النووية. فليس في برنامجهم ـ برنامج السياسة الغربية، الصهيونية، الثابتة المستقرة ـ أن تكون " إسرائيل " مثل غيرها من " دول المنطقة " مجردة من السلاح النووي؛ فهذا السلاح ضروري لها ولهم ليقيموا " سلاماً نووياً إسرائيلياً " تكون الصهيونية فيه متفوقة نوعياً على دول المنطقة جميعاً بالسلاح النوعي، وتكون بقية دول المنطقة ـ عربية وإسلامية ـ محرومة حتى من السلاح التقليدي الذي تدافع به عن نفسها عندما تقرر " إسرائيل " متابعة تنفيذ المراحل القادمة من المشروع الصهيوني المستمر : مشروع إقامة " إسرائيل التوراتية " في ظل تنمية قوة القهر التي تهيمن بواسطتها على شعوب المنطقة وتسلب منها خيراتها، وتعمل على تأمين مصالحها هي ومصالح حلفائها الكبار، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية !؟‏
              وينسى أو يتناسى أهل إعلان كوبنهاغن أن السلام هو الآخر يحتاج إلى توازن قوى يحميه، وأن الشعوب الأخرى في المنطقة تعاني من تهديد أمنها من قبل دولة العدوان الصهيوني ـ النازي المزروعة بالقوة ؟!‏
              لم ينس المتحالفون دعوة الشعوب للالتحاق بهم، ولم ينسوا تأسيس " سكرتاريا " (** لتتابع دفع مشروعهم، والضغط من أجل تحقيق " سلام الاستسلام " قبل نهاية القرن الحالي !!‏
              ما يلفت النظر في هذه الموجة من موجات تفتيت الإرادة العربية وتثبيت الاحتلال الصهيوني وشرعنته، هو التأييد السياسي المرسوم والمدروس والمخطط له مسبقاً ليواكب تأييدُه للإعلان لحظة صدور ذلك الإعلان؛ فقد أيد بعض وزراء الخارجية العرب الإعلان وأثنى عليه بعضهم، واحتضنته السياسة الغربية، لا سيما الأوربية بشكل رسمي؛ ولكنه ووجه برفض شعبي مؤسساتي عربي صارم وواسع، لا سيما في مصر العربية، حيث بدا أن من المرغوب فيه أن تكون بيضة المشروع وثقله العربي هناك.‏
              بقي أن أختم بملاحظتين :‏
              ـ أن الذين تصدروا هذه الحملة، باسم شعبيتهم، أو بادعاء تمثيلهم للشعب، لا يمثلون في الحقيقة إلا أنفسهم؛ وقد عزل بعضهم نفسه عن كل صلة بالشعب منذ زمن طويل، ولا يكن للشعب إلا " الاحتقار "، ويكاد ثمن السيجار الذي يدخنه في اليوم يوازي دخل عدة عائلات شعبية عربية من تلك التي " يمثلها"!!.‏
              ـ أن الكثير من المؤسسات الحزبية والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية والاتحادات العربية، شجبت هذا الإعلان، ووضعته مع " شعبيته " في المكان الذي تستحقانه : سلة المهملات .‏
              ولا يعني هذا موت الإعلان، فوراءه قوى تدفع وتحمي وتعمل منذ عقود من الزمن على ترسيخ الكيان الصهيوني في المنطقة واستلاب أهلها كل مقومات البقاء والسيادة، وسوف تستمر هي والصهاينة أنفسهم ـ حيث يجمعهم كلهم تحالف دنس ضد الشعوب والسلام والعدل والحق والحرية، وضد أمتنا العربية ومقومات شخصيتها وثقافتها وعقيدتها ـ سوف يستمرون في الكيد لها ولكن : هل يفلح المبلِسون؟! إن أمتنا ماضية في رفضها للاستسلام للعدو الصهيوني، ولتطبيع العلاقات معه، ورفضها للاستعمار وأذناب الاستعمار، والنصر لها مهما طال الزمن وعظمت التضحيات.‏

              وثيقة إعلان كوبنهاغن(*

              تجمع مصريون وإسرائيليون وأردنيون وفلسطينيون ومحبون للسلام من جميع أنحاء العالم في كوبنهاغن لكي ينشئوا تحالفاً دولياً من أجل السلام العربي - الإسرائيلي. إن السلام من الأهمية بمكان بحيث لا يترك للحكومات فقط كما أن الصلات بين الشعوب هي أمر حيوي لنجاح جهود السلام في المنطقة، وما لم تقف وراءها قاعدة شعبية فإن عملية السلام سوف تتراجع. لقد اجتمعنا في كوبنهاغن لكي نسهم في حل دائم وشامل للصراع العربي - الإسرائيلي قبل نهاية هذا القرن. لكي نبدأ عصراً للسلام العادل والدائم الذي يتمتع فيه الشرق الأوسط بالاستقرار والأمن والرخاء. إننا سوف نعمل على عقد اجتماعات عامة، ونضغط على الحكومات، ونراقب التقدم والنكسات في عملية السلام بنفس القدر الذي نراقب به أعمال التمييز والعقاب الجماعي، والإساءة إلى حقوق الإنسان وأعمال العنف، كما أننا سوف نعبئ الرأي العام وراء جهود السلام.‏
              إننا نحتاج إلى بعضنا البعض، نؤكد عزمنا على توحيد صفوفنا مع كل الشعوب المحبة للسلام لكي تحقق هذه الأهداف. ولكي نفعل ذلك، فإننا -نحن الموقعين على هذا الإعلان- اتفقنا على ما يلي:‏
              1- إن التوصل إلى سلام بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني سوف يحل المشكلة المركزية في قلب الصراع العربي -الإسرائيلي. وإننا نحن التحالف الدولي من أجل السلام، ندعو الحكومات المعنية أن تعمل بقوة وسرعة على التطبيق الكامل للاتفاقيات الإسرائيلية - الفلسطينية بنصها وروحها، وبكل أمانة وصدق، وأن تعمل بشكل خاص على توفير وتحسين الحياة الطبيعية للفلسطينيين كما أننا ندعو الحكومة الإسرائيلية والسلطة الوطنية الفلسطينية للتوصل إلى اتفاق عادل حول القضايا المهمة للوضع النهائي (القدس، اللاجئين، المستوطنات، الحدود، الأمن، والمياه) في أسرع وقت ممكن، ودون تأخير عن 5 مايو 1999، كما تم النص عليه في اتفاق أوسلو. ولما كانت القدس على وجه الخصوص، موضوعاً مركزياً شديد الحساسية لكل الأطراف، فإنه من ثم يستدعي اهتماماً خاصاً في مفاوضات الوضع النهائي من أجل الوفاء بمتطلبات جميع الأطراف، وهذا الاتفاق النهائي بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية يجب أن يؤدي إلى ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير، بما فيه حق إقامة الدولة، طبقاً للقوانين الدولية، وحين التوصل إلى تسوية متفق عليها للوضع النهائي بين الطرفين. ولكي يتوافر مناخ حوار للمفاوضات لا ينبغي استخدام أو تشجيع أو قبول العنف والإرهاب بأية صورة. ولكي تزول مخاوف الفلسطينيين فإنه ينبغي عدم بناء مستوطنات جديدة وعدم مصادرة الأراضي الفلسطينية.‏
              2- نحن التحالف الدولي من أجل السلام نعتقد أن السلام الشامل يجب أن يكون هو الهدف الحقيقي لجميع الجهود السياسية من داخل المنطقة ومن خارجها. كما يجب أن تبذل جهوداً جديدة للتوصل إلى تسوية سلمية بين إسرائيل وسوريا، وبين إسرائيل ولبنان على أساس من قاعدة مبادلة الأرض بالسلام وقرارات الأمم المتحدة 242و 338و 425. إن مثل هذه التسوية يجب أن تحقق الحد الأقصى من الأمن المتبادل لكل الأطراف، وكذلك بناء علاقات عادية بينها.‏
              3- إننا نحث كل القوى في الشرق الأوسط أن تتكاتف من أجل إعادة بناء منطقة مبرأة من سباق التسلح وخالية من التشاحن والفقر.‏
              4- ومن أجل ضمان استمرارية الدفع من أجل السلام، فإن سكرتارية دائمة التحالف سوف يتم تأسيسها. وسوف يكون شعارنا من الآن فصاعداً: "فلتنته حالة الحرب.. ولنبدأ حالة السلام".‏
              5- وفي هذا السياق، فإن المؤسسين للتحالف يدعون الجماعات والأفراد على المستويين الإقليمي والدولي المعنيين بمستقبل المنطقة أن يتبنوا هذا الإعلان وأن يلتحقوا بحركتنا وأن يدعموا بشدة قضاياها وأهدافها.‏


              الأسبوع الأدبي/ع549//8/2/1997.‏


              (** السكرتارية من : لطفي الخولي - د. عبد المنعم سعيد - نيلز هيلفيج .‏
              (* حضر مؤتمر كوبنهاغن كل من :‏
              وفد مصر : لطفي الخولي- حسن الحيوان د. عبد المنعم سعيد - علي الشلقاني - رمسيس مرزوق - د.مراد وهبة - أحمد شوقي - د. رضا محرم - والسفير صلاح بسيوني.‏
              وفد الأردن : عدنان أبو عودة - وزير سابق - اللواء إحسان شردم - مروان دودين - تيسير عبد الجابر( وزير سابق) - زياد صلاح - جورج حواتمه - رامي ضرري.‏
              وفد فلسطين : مروان برغوث - جواد طيبي - حامد عبد القادر (مجلس الشعب) محمد جاد الله (الشعبية) - زكريا كمال ـ جمال حمامي - محمد عبد القادر - حنا سنيورة - خالد العسلي - سري نسيبة - محمد الحوراني - غسان الشكعة.‏
              وفد إسرائيل : مكسيم ليفي - يهودا لانكري - (كنيست غيشر) يائيل دايان - وسكوموين عامن (كنيست - العمل) - دافيد كمحي - ناديا هيلو - أوري برنستين - عاموس إيلون - أديث فوبرتال - مايكل مالكي أور - ايهود يعاري - رون بونديك - يورام كينوك.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                هوامش على مقاومة الإرهاب
                عقدت مؤسسة الأهرام ندوة دولية حول موضوع الإرهاب من 22 إلى 24/شباط-فبراير 1997 حضرها ممثلون من ثلاثين دولة تقريباً وتناولت المحاور الآتية: دوافع الإرهاب وصوره وأغراضه-الإرهاب والفكر-الإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان والشعوب-الإرهاب والنظام الدولي-الإرهاب والمسؤولية الدولية-الإرهاب والتعاون الدولي-الإرهاب والجريمة المنظمة-الإرهاب والإعلام والاتصال الجماهيري.‏
                وكان في جدول أعمالها: العمل على إنشاء المركز الدولي لمقاومة الإرهاب، وإحداث صندوق دولي لضحايا الإرهاب. وتوجت أعمال تلك الندوة بإصدار "إعلان القاهرة العالمي لمواجهة ظاهرة الإرهاب الدولية" والموافقة على إنشاء المركز الدولي لمقاومة الإرهاب ومقره القاهرة ضمن دار الأهرام ومؤسستها. وقد سبق هذه الندوة لقاء تم تحت عنوان "العالم والإرهاب" عقد في القاهرة 29و30/أيار 1996 وكان بمثابة لجنة تحضيرية للموضوع.‏
                وكان المشاركون في هذه الندوة على درجة من التنوع في الاهتمام والاختصاص تثير الانتباه: فمنهم خبراء في شؤون الإرهاب وباحثون وخبراء أمنيون وأساتذة جامعة في القانون أو سواه، ومثقفون وكتاب وصحفيون، وسفراء ودبلوماسيون، وأدى التنوع والاهتمام إلى حوار مسؤول ومواقف شبه رسمية، وعن توجهات وآراء ومعاناة، ولم يكن ليتأتى ذلك لولا المناخ الجيد الذي تحقق في اللقاء.‏
                ومن الطبيعي في مثل هذه المؤتمرات واللقاءات أن تكون اللباقة واللياقة هي سماكات القطن الموضوعة بين أشواك القنافذ المتلاصقة، وأن تكون العبارات الدبلوماسية مشحونة بالمواقف ومبطنة بالإشارات والإيحاءات والدلالات والاتهامات على الرغم من كل ما فيها من حذر يتوخاه المتحدث حفاظاً على مناخ العمل، من غير أن يؤثر ذلك في وضوح التعبير عن المواقف والرأي أو يخل بهما.‏
                وقد كان اللقاء فرصة طيبة للوقوف على فهم متعدد الأرضيات والآفاق والأسباب والأغراض لموضوع الإرهاب، واستخدام واعٍ لذلك الفهم المغرض أو المتحيز تصنعه السياسة أو توظفه لتحقيق أغراضها بعيداً عن الموضوعية والإنصاف، وخارج حدود المعطيات القانونية والخلقية.‏
                فالذي يرى في الإسلام السياسي إرهاباً أصولياً، يحاول أن يسحب رؤيته على الإسلام وأصول العقيدة لينال من العرب والمسلمين على أرضية صراع حضاري قديم متجدد تمتد أغراضه بين الهوية الثقافية والنفط والخامات الأولية، والذي يأخذ بصراع الحضارات على أساس فهم صامويل هنتنغتون لذلك الصراع وتصوراته لمستقبله يحاول أن يضع المصلحة فوق الأخلاق، ويوظف المعرفة لخدمة الإثراء غير المشروع، ويرى في القوة أداة لنهب الشعوب وقهرها. ويستخدم التحالفات المقبلة في ظل رؤيته "للنظام العالمي الجديد" لإضعاف شعوب وعقائد وغرس الدونية في نفوس الآخرين واليأس في أعماقهم من إمكانية تحقيق نهوض أو قدرة على المواجهة، ويجري في هذا العالم المزيّن بالابتسامات والأقنعة ابتعاد مدروس ومحسوب جيداً عن ملامسة جلود التماسيح المتوحشة وعن مساحات انتشار أسماك القرش وتأثيرها. كما يجري خلط أو سكوت عن خلط لمفاهيم الإرهاب، وخلط لمفهوم المقاومة الوطنية المشروعة ضد الاحتلال مع مفهوم الإرهاب وتصوير المقاومة إرهاباً، أو السكوت عن التمييز.‏
                ومن المفيد التوقف هنا عند بعض النقاط الملتبسة، أو تلك التي يُسْكت عن الالتباس المتعمد في مجالات مفاهيمها.‏
                - الإرهاب والمقاومة:‏
                الإرهاب فعل عنف مرافق بدرجات من الرعب والتخويف قد يصل إلى حدود التصفية الجسدية والعدوان المدمر على الجانب الروحي والفكري في الإنسان، وقد يعبر عن نفسه في تدمير الممتلكات وتهديد الاستقرار الاجتماعي والنفسي، والتأثير السلبي على ممارسة الحقوق والواجبات والحريات العامة.‏
                ويقوم من يمارس الإرهاب بفعله وصولاً إلى سلطة أو حفاظاً على سلطة أحياناً/روبسبير-الفوضويون-الإرهاب في فترة الثورة الشيوعية" أو ممارسة للعنف السياسي وللإرهاب بوصفة صيغة متقدمة على العنف السياسي بغية الوصول إلى السلطة وتدمير الخصوم المحتملين بعيداً عن الممارسة القانونية-الديمقراطية لأساليب تداول السلطة.‏
                كما يقوم من يعتمد الإرهاب أسلوباً لتحقيق أهدافه السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية الخاصة بأفعال من شأنها أن تلحق الهزيمة بالأعماق والإرادة وتشيع حالة فظيعة وواسعة، من الخوف لدى فئات من الناس، لكي يسفر ذلك عن تحقيق أهداف مرسومة. ومن أفعال الإرهاب البارزة في هذا المجال ما قامت به الصهيونية وما تقوم به من مذابح على أساس عنصري لطرد الفلسطينيين من وطنهم وإلحاق الهزيمة بمقاومتهم وبكل مقاومة عربية ترمي إلى تحرير الأرض أو المحافظة عليها. ويأتي في هذا الإطار الفعل الرهيب الذي قام به أمثال : بيغن وشامير وشارون وباروخ غولد شتان وبيرس في مذابح: دير ياسين- قبية- كفر قاسم-صبرا وشاتيلا- مذبحة الحرم الإبراهيمي-ومذبحة "قانا"/وهذا على سبيل المثال لا الحصر .‏
                وقد يأتي فعل الإرهاب تحقيقاً لمكاسب عن طريق الابتزاز، وخلقاً لبؤر توتر تقوم بها أجهزة استخباراتية أو شركات كبرى من تلك التي تعمل على ترويج صناعتها من الأسلحة، أو دول ترمي إلى تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو مكاسب مالية والحصول على امتيازات عن طريق الإرهاب وهناك الإرهاب المرتبط بالجريمة المنظمة أو المتعاون معها لغسل أموال فاسدة أتت عن طريق التجارة بالمخدرات أو بالرقيق الأبيض، وغير ذلك.‏
                ومن الملاحظ في عالم الحيتان الرهيب، وفي واقع عالم يوصف بأنه على أعتاب نظام دولي جديد أنه كلما كبرت الجريمة وازدادت القوة التي تقف خلفها غطرسة وإرهاباً كلما ضمر الحق وضعف الموقف القانوني والدولي والسياسي المواجه له.‏
                فإرهاب الدولة الذي تمارسه " إسرائيل " بتغطية أميركية، أو إرهاب الدولة الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية، ضد دول وشعوب، وتنتصب على طرقه كقاطع طريق شرس فوق القانون الدولي أو تأخذ القانون الدولي بيدها وتوظف المؤسسات الدولية لخدمة أغراضها تلك بكل الوسائل المتاحة؛ ذلك النوع من الإرهاب مسكوت عنه؛ وقادر من يقف وراءه على تغيير الحقائق والوقائع والمعطيات ليقدم نفسه حارساً للقانون ولحقوق الإنسان من الحريات، بينما يدخل تحت أقنعتها وأقنعة "الديمقراطية" ليخرب سياسات ويتحكم بحكومات ويصادر قرارات دول، ويؤثر في مصائر شعوب.‏
                فالكيان الصهيوني هو أول الجهات "الدولية" التي مارست خطف الطائرات المدنية في المنطقة، وقد بدأت باختطاف طائرة سورية أولاً، وهي التي قامت بعمليات إرهابية شخصيات دولية مثل الكونت برنادوت، وأسقطت طائرات مدنية عمداً، وسممت الخبز في مدن ألمانية، وذبحت الأطفال والنساء في قرى عربية، وصادرت أرض العرب وفرضت عليهم التشرد والموت والقهر، وما زالت تفعل ذلك وتهدد الأشخاص والممتلكات والمقدسات والحقوق بالنسبة لدول عربية ولمجموعات بشرية تتعرض لأنواع من الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان والجولان؛ ويلقى فعلها ذاك تغطية قانونية وإعلامية ودبلوماسية وعسكرية من الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية. بينما تحاول تلك "الدولة" وحماتُها تقديم المقاومة الوطنية ضد الاحتلال على أنها إرهاب، وتلك من المفارقات الخلقية للنظام العالمي الجديد الذي يقوم على الإخلال بمنظومات القيم والسلوك والعلاقات ويدعي أنه يحافظ على القيم والسلوك والعلاقات!!!‏
                إن مما هو ملح بشكل واضح، في تقديري، وضع حد للخلط بين مفهوم الإرهاب ومفهوم المقاومة الوطنية المشروعة للاحتلال؛ وهذا الموضوع تتعمد الخلط فيه "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية وأجهزة الإعلام الغربية وبعض دول الغرب، وقد سارت في "زَفتّهِ" بعض الدول العربية فأخذت تطلق على المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني لا سيما حماس والجهاد" وعلى المقاومة الوطنية اللبنانية ضده في جنوب لبنان" لا سيما حزب الله" صفة الإرهاب والتخريب، بينا هو المقاومة الوطنية المشروعة التي أقَّرّتها شرعة حقوق الإنسان والقوانين والمواثيق والأعراف الدولية ويحارب الشعوب وتاريخ نضالها، فالمقاومة للمحتل حق لمن تُحتل أرضه وواجب عليه. بينما تنطلق إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية في تقويمهما ونظرتهما للأمر على أن ذلك تخريب وإرهاب لأن "إسرائيل في أرضها التاريخية والفلسطيني واللبناني، والعربي بشكل عام "يمارس العدوان والإرهاب " دون حق له. وفي هذا تزييف متعمد للتاريخ وقلب مدروس للحقائق والوقائع، وبناء على القوة وتدمير للحق بوسائل القهر.‏
                ومن أجل وضع حد لهذا الخلط دعت سورية لعقد مؤتمر حول الموضوع وما زالت دعوتها تطرق أبواب المنظمات الدولية، والدول ذات العلاقة، والمجتمع الدولي. وقد لحقها أذى من ذلك لأنها قُدِّمت من قبل الولايات المتحدة و"إسرائيل" على أنها دولة ترعى الإرهاب ومورس ضغط على دول ومنظمات دولية لفرض ذلك التصنيف عليها بسبب موقفها من المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية. فهي إذ تؤوي الفلسطينيين الذين طردوا من وطنهم وشردوا عدة مرات في أعوام: 1948-1967-1982 لا تؤوي إرهابيين وإنما أصحاب حق ووطن طردوا من وطنهم بفعل قوة عدوان عنصري يمارس كل أنواع الإرهاب، وإذا ما قاوموه ليحرروا الأرض التي تعود ملكيتها تاريخياً لهم، أو إذا رفضوا الانصياع لأوامره والاعتراف بحق له في وطنهم التاريخي، وصمدوا في وجه محاولاته المتكررة لسرقة وطنهم واعترافهم بشرعية السارق والسرقة، فإنهم لا يستحقون أن يصبحوا إرهابيين بسبب ذلك، ومن يؤويهم لا يؤوي الإرهاب وإنما يعطيهم فرصة العيش وأبسط الشروط الإنسانية، والحقوق القومية، وحين يدعم نضالهم كان يدعم مقاومة وطنية مشروعة ضد الاحتلال البغيض.‏
                وعلى ذلك فلا بد من التفريق بين المقاومة المشروعة والإرهاب المدان، ووضع أرضية قانونية وخلقية لذلك التفريق، ووضع آلية دولية ليتم بموجبها تحديد الفعل الإرهابي والممارسة الإرهابية بموضوعية وحسب شرعية دولية تقوم بها مؤسسات دولية حرة وغير محتلة عملياً من قبل القوة المتغطرسة الكبيرة، قوة الولايات المتحدة الأميركية.‏
                - ولما كان الإرهاب هو عدوان على الأشخاص والممتلكات يسبب الموت والرعب والخسارة وفقدان الاستقرار والشرط الإنسان للعيش الآمن ويستقر الرأي على ضرورة تجفيف مصادر التمويل بالنسبة للإرهاب فضلاً عن عدم إيواء الإرهابيين فإن الدعوة ينبغي أن تكون شاملة ودقيقة وجادة لتشمل كل مصادر تمويل الإرهاب وكل من يؤوي الإرهابيين ويرعاهم ويقدم لهم الدعم والحماية والإسناد بكل أشكاله.‏
                ويبدو لي أن هناك نوعاً من إرهاب الدولة الضخم في مردوده وتأثيره وقسوته مسكوت عليه، ونوعاً من المصادر المالية المذهلة التي تقدمها الولايات المتحدة الأميركية تحديداً لدعم الإرهاب ورعايته وتمويله وهي تمارس ذلك في الوقت الذي تقوم بتجفيف مصادر تمويل ما تسميه إرهاباً حتى لو كان على شكل مساعدات خيرية لمن فقدوا بيوتهم أو معيليهم من الفلسطينيين واللبنانيين جراء الإرهاب الصهيوني والعدوان الواقع عليهم ويتجلى ذلك بدرجة هائلة من الوضوح ويغطى بدرجة كثيفة من التعتيم. وأقصد بذلك الإرهاب المدروس الذي يلحق بالفلسطينيين لمصادرة أراضيهم وانتزاع أملاكهم منهم بالقوة ليحل محلهم "مستوطنون يهود" تقوم الولايات المتحدة الأميركية بتغطية نفقات استيطانهم "أي إرهابهم" وتقدم التسهيلات والدعم لذلك كله.‏
                فقد قدمت الولايات المتحدة الأميركية عشرة مليارات دولار على شكل ضمانات قروض "لإسرائيل" لتمويل الاستيطان وتوسيعه. والاستيطان حركة عدوان إرهابي تقوم به الدولة ليستقر أشخاص يهود في أملاك أشخاص عرب وعلى حساب وجودهم ومستقبلهم وحياتهم وأملاكهم وهذا النوع الصارخ من الإرهاب الضخم لا يقابل بأي نوع من أنواع الاعتراض أو الإدانة أو الاستهجان. وتسمح الإدارة الأميركية بضخ الأموال من ولاياتها ومن أنحاء العالم لدعم الاستيطان -الإرهاب الصهيوني الذي يطال أشخاصاً وممتلكات ومقدسات وتفتح حضنها لإسرائيل ولكل دعم تريده لممارساتها الإرهابية. ويجدر بنا أن نجفف مصادر تمويل الإرهاب الصهيوني أولاً، وأن نوقف الدعم الدولي لذلك النوع من الإرهاب.‏
                - هناك نوع ثالث من الإرهاب المقترن بالفساد، وهو إرهاب يقع على الشعوب، على حياة الناس وصحتهم، وتمارسه الدول النووية تحديداً تلك التي تلقي بالنفايات النووية على شعوب بعض دول العالم بالتعاون مع فاسدين مفسدين، وهذا نوع من الموت البطيء، والتهديد المستمر، والتشريد الفاضح للأمن النفسي والاجتماعي يقع على الأفراد جراء التلوث والخوف من الإشعاع وتقوم دول الغرب على الخصوص بممارسة هذا النوع من التهديد لحياة الأفراد وسعادتهم بمشاركتها التامة الواعية بما تسميه الجريمة المنظمة المتعاونة مع الإرهاب أو المعتمدة عليه أو المسببة له من حيث النتيجة النهائية للفعل الجرمي. فإذا كان الإرهاب جريمة- وهو كذلك فعلاً- فإن كل جريمة تسبب إرهاباً أو تنتج عن إرهاب وتؤدي إلى نتائج يسفر عنها الإرهاب.‏
                وتبقى خارج هذه الأطر التي أشرت إليها قضايا أخرى تتصل بالإرهاب وممارسته وبما يسمى إرهاباً وتبنى عليه البنى والقرارات وحالات الحصار، كما تبقى خفايا التهم وأسبابها الحقيقية التي تجعل بعض السياسات وبعض الدول هي الممارس الأول للإرهاب أو العرّاب الأول له وترمي من وراء ممارساتها أو تشجيعها إلى تحقيق برامج ومخططات سياسية، وكل ذلك يحتاج إلى عرض وتدقيق في مجال أكثر ملائمة من هذا المجال.‏
                والله ولي التوفيق.‏
                الأسبوع الأدبي/ع551//1/3/1997.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  طريق الأمل وطريق الوهم
                  الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الأعظم في العالم التي ترعى الإرهاب بكل صوره، وتتجرأ مع ذلك على الحقيقة والعقل بادعائها الكاذب بأنها تحارب الإرهاب وتعمل على القضاء عليه.‏
                  فهذه الدولة تقدم عشرة مليارات دولار للكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين من أجل دعم الاستيطان، وهو عدوان على أملاك الأشخاص وحياتهم واستقلالهم ومقدساتهم واطمئنانهم يتسبب في طردهم أو قتلهم بعد انتزاع أملاكهم منهم وتمكين اليهود المجلوبين من أنحاء العالم من إقامة مستعمرات عدوان على أرض العرب القابعين تحت الاحتلال.‏
                  وتسمح هذه الدولة، التي لا تكف عن التشدق بحقوق الإنسان، بجباية أموال وضخها للكيان الصهيوني لدفع قيمة العدوان وتغطية أفعال الإرهاب العنصري التي يمارسها ذلك الكيان ضد العرب صباح مساء.‏
                  ويقوم اللوبي الصهيوني الذي يحتل "الكونغرس الأمريكي" بتوجيه السياسة الأمريكية التي تحتل بدورها مجلس الأمن الدولي وتسيطر عليه بالفيتو والتهديد والوعيد والإغواء والإغراء، يقوم باحتلال المراكز الفاعلة في الإدارة الأمريكية من خلال يهود في تلك المراكز: صاموئيل برغر:مستشار الأمن القومي ـ مادلين أولبرايت: وزيرة الخارجية ـ وليم كوهين: وزير الدفاع ـ دنيس روس مسؤول المفاوضات "النزيهة" مع العرب ـ مارتن انديك: السفير الأمريكي في إسرائيل... إلخ إضافة إلى الصحافة ومواقع تحريك المال والرأي العام.‏
                  وعلى أرضية هذا النفوذ وتلك الرعاية للإرهاب الصهيوني التي توِّجتْ باستخدام حق النقض "الفيتو" الأميركي ضد مشروع قرار يدين "إسرائيل " لعزمها على بناء مستعمرة يهودية في "جبل أبو غنيم" جنوبي القدس، على أرضية ذلك أعلن الإرهابي بنيامين نتنياهو العائد من موسكو ممتلئاً بالغرور العنصري: أن أعمال بناء المستوطنة سوف تبدأ خلال هذا الأسبوع !؟!‏
                  ولم يفعل ذلك وخلفه الراعي الأول للإرهاب لتشويه الحقائق والوقائع ـ ولتصفية حقوق العرب في فلسطين، الولايات المتحدة الأمريكية؟! تلك التي يعمل سياسيوها على مشروع "إيماني" بتهيئة أرض "المسيا" ـ المسيح القادم ـ ليتم بعثه في وطن اليهود المستقر ودولتهم المهيمنة على "أرض الميعاد"؟!‏
                  إن أصحاب المشروع الصهيوني ـ من يهود ومتصهينين ـ يعملون دون كلل غير آبهين بالاعتراض والاتفاقيات والشرعية الدولية والمرجعيات القانونية، على تحقيق مشروعهم في إطار مرحليات مدروسة ومستمرة، ومنها مرحلية انتزاع شرعية للاحتلال وتوطين الدولة الصهيونية في المحيط العربي باعتراف العرب ورضاهم، وتطبيع العلاقات معها، لتقوم بتنفيذ المرحلة القادمة من المشروع انطلاقاً من شرعيتها وانتمائها للمنطقة، ومن خلال فعل تدميري لما تبقى من علاقات بين العرب ومن انتماء شكلي يجمعهم أو يحرك وجدانهم.‏
                  لقد أعلن نتنياهو بوضوح أنه لا يريد أن ترتبط اتفاقياته وعلاقاته مع العرب الذين وقعوا معه اتفاقيات أو أقاموا معه علاقات بموضوع خلافاته مع السلطة الفلسطينية وتبقى متأثرة بها "فما دخل أولئك بخلافاتنا مع الفلسطينيين"؟!‏
                  ونتنياهو، حين يعلن ذلك ويطالب به ويمارس كل أفعاله على أساس منه، إنما يكمل مسيرة التواطؤ والتآمر التي بدأها عرفات على الأمة والقضية - عن وعي أو من دون وعي - منذ أن أخذ يصرخ في الثمانينات من بيروت بمقولته الشهيرة " يا وحدنا " ليصل إلى القرار الفلسطيني المستقل الذي جرد القضية الفلسطينية - أو رمى إلى تجريدها - من بعدها القومي، باصقاً على الدم والتضحيات منطلقاً من ذلك وعلى أرضيته إلى لقاءات ومفاوضات سرية منفردة أدت إلى اتفاق أوسلو " الذي يحتاج كل بند فيه إلى اتفاق جديد " والذي جرد الفلسطينيين - الشعب والشرفاء - من كل حق إلى حق الرفض والثورة على من وقعه ومن يتعامل معه .‏
                  إن المتتبع لمراحل تنفيذ اتفاق أوسلو يجد أن ما وصل إليه الحكم الذاتي اليوم بارزٌ في جبين الاتفاق السبة ومن وقعوه، وظاهر في انعزالهم عن أمتهم، وعزلهم لمسار القضية عن مسار مدريد والمرجعية الدولية والعربية، الأمر الذي أدى إلى أن يقول الصهاينة اليوم بعد كلنتون وعرب كلنتون : وما دخل العالم والعرب ومجلس الأمن والأمم المتحدة بالخلافات الفلسطينية "الإسرائيلية" التي يجب أن تسوّى ثنائياً ومن خلال المفاوضات المباشرة، وليس في مجلس الأمن أو في الأمم المتحدة؟!‏
                  من هناك بدأ التواطؤ ضد الشعب الفلسطيني كله وضد من يناصرون قضيته بالدم والمال والتضحيات ويعتبرونها قضيتهم المركزية، ومن هناك بدأ التواطؤ ضد القدس والمقدسات وضد العودة وضد الانتفاضة، وضد المقاومة الوطنية التي أخذت، حتى الدول العربية المحترمة، تسميها إرهابا عملاً بقول الرئيس كلنتون الذي أصبح بيته الأبيض محتلاً من قبل السيد "الإسرائيلي" وجماعته.‏
                  المستوطنة الصهيونية في " جبل أبو غنيم " سوف تبنى بالمال الأميركي والتصميم الصهيوني واليد العاملة العربية، وبموارد أولية يصنع بعضها في الأرض العربية؟! والضفة الغربية لن يعود منها لسلطة عرفات أكثر من المسؤولية الشكلية عن جزر بشرية واقعة عملياً وعسكرياً تحت الاحتلال الصهيوني دون أن يلحق الاحتلال" وجع رأس " من انتفاضة محتملة أو اعتداءات أو خدمات تقدم " للغوييم" ؟!؟‏
                  والمفاوضات بين" إسرائيل" والفلسطينيين سوف تستمر تحت سمع العالم وبصره ليقال إن " السلام" قد حلّ بين العرب واليهود وليقبل العالم على" الدولة اليهودية" بكل إيجابية وليستمر ضعاف النفوس من العرب في ممارسة التطبيع والتعامل والتواطؤ ضد الأمة والحق والتاريخ؛ ولكن تلك المفاوضات لن تسفر إلا عن الخضوع المذل من قبل فلسطيني الحكم الذاتي لمزيد من الشروط والتنازلات التي تمليها القرارات الصهيونية التي تتخذ في مجلس وزراء قوة الاحتلال وتبلغ للمفاوض الفلسطيني الذي يبقى من حقه أن يشرب القهوة ويبتسم أمام " كاميرات " الإعلام الصهيوني والغربي التي تقدمه للعالم" جميلاً ذليلاً" له الحق أن يبدي بعض الأسف ولا يملك -كما أنه لا يرغب - أن يتراجع عن مسيرة تعرض فيها لكل هذا الحجم من الإذلال، فلماذا يتوقف في منتصف الطريق بعد أن نزف كل ما نزف على أرصفتها حتى الآن؟!‏
                  وفي الوقت الذي يستمر فيه هذا العمل" النوعي " على هذا المسار، يستمر العمل في مسارين آخرين متلازمين:‏
                  1- زيادة القدرة العسكرية الإسرائيلية بكل الوسائل، والعمل على حمايتها وتوفير كل إمكانات التطور لها؛ وتمتين تحالفاتها على الأرض مع أنظمة في المنطقة لاسيما مع الأردن وتركيا. وجعل هذه الدولة قادرة عملياً على أن تفعل ما تشاء دون أن تخشى أحداً، وأن تهدد من تريد دون أن يتعرض تهديدها لمساءلة أو لانعدام مصداقية من أي نوع.‏
                  2- زيادة الحصار والضغط على الدول العربية التي تتململ من هذا الوضع، وتركيز الضغط على سورية والمقاومة الوطنية في جنوب لبنان وفلسطين المحتلة، ومحاصرة هذه القوى حتى لا تحصل على أية قوة : مادية أو معنوية، تمكِّنها من الصمود في وجه الاحتلال والعدوان والتوسع الاستيطاني الصهيوني، ومواجهة الضغط السياسي والاقتصادي والأمني الذي يمارس لمصلحة المشروع الصهيوني والدولة الصهيونية بغية قتل الأمل وتفتيت الإرادة وفرض الاعتراف بالعدو وتطبيع العلاقات معه، وإقامة ما يسمى " السلام " بالشروط والمفاهيم والمواصفات الصهيونية - الأميركية؛ وعزل القوى العربية الرافضة للاستسلام عن محيطها العربي، وإحداث ما أمكن من التخريب في بناها الداخلية، على صعيد الفرد والمجتمع والدولة، في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ؟!؟.‏
                  وحيال هذا الوضع نسأل بمرارة ومسؤولية : ما هو الممكن المقبول أخلاقياً وقومياً، الذي يمكن أن نفعله أو نقبله؟! وما هو العمل الذي يمكن أن يشكل رافعة حقيقية للوضع العربي المتردي مما هو فيه ؟!.‏
                  - هل ينقذ القدس، والمقدسات المسيحية والإسلامية فيها، اجتماع للجنة القدس، ولمجموعة المؤتمر الإسلامي الدولية؟! وماذا تفعل أكثر من إصدار البيانات والإدانات والشجب والتصريحات؟!‏
                  هل هي على استعداد لمقاطعة المحتل الصهيوني ووقف تطبيع العلاقات معه؟! ابتداء من إسلام الأنظمة في المغرب وانتهاء بتركيا ومروراً بمصر العربية وبعض دول الخليج العربي ؟!.‏
                  هلي هي على استعداد لاتخاذ موقف من المصالح الأميركية في المنطقة والولايات المتحدة هي التي تنفذ المشروع الصهيوني التوسعي وترعى إرهاب الدولة الذي تمارسه " إسرائيل " !! هل هي على استعداد للقيام برد سلبي على ذلك ينحو منحى تنمية علاقات التعاون الاقتصادي والثقافي فيما بينها على الأقل؟!.‏
                  إنني أشك في قدرتها على ذلك، وفي رغبتها أصلاً في اتخاذ خطوة عملية على تلك الطريق، مع اقتناعي بأنها يمكن أن تفعل شيئاً مؤثراً إذا قررت المضي إلى أبعد من الكلام في وسائل الإعلام .‏
                  - هل يضع حداً للاستهتار الصهيوني - والأميركي ضمناً - بالعرب موقفٌ عربي مرتجى يهدد على الأقل بسحب السفراء والقناصل من " إسرائيل العزيزة عملياً " على بعض قلوب المسؤولين العرب الذين يصرخون في وجهها أحياناً ويتوددون لها في كل حين؟! أشك في أن ذلك الذي غدا مضحكاً مبكياً في آنٍ معاً، مما يجدي فتيلاً ولكنه " هشة " في وجه الكلب الذي سينهش غداً عروشهم وقلوبهم ويلقيهم صرعى عند أقدام من يتجبر ويتكبر وهو نذل الأمم وجبانُها تاريخياً ؟!.‏
                  - هل يعلن العرب على الأقل - على الرغم من عرفات عريف القناصل- وفصائله المقاتلة بخمس نجوم، أن القضية الفلسطينية تحتفظ استراتيجياً ببعدها القومي، وأن أوسلو لا تغني عن مدريد والمرجعية الدولية، وأن هذه لا تغني عن الوجدان الشعبي العربي وما يستقر فيه من حق وانتماء ومسؤولية تاريخياً؟! إن شيئاً من هذا يجعل الأنظمة العربية أكثر قدرة على التعبير عن انتمائها للشعب العربي، وأكثر قدرة على التماسك والصمود أمام إغراء الهرولة على أعتاب من يهدمون المقدسات ويستعبدون القدس، وأن شيئاً من هذا كفيل بأن يلفت نظر العالم إلى حقيقة أن العرب لم ينسوا ما كان يصدر عنهم من تأكيدات البعد القومي للقضية عبر التاريخ الطويل المرير الذي استقطب جهودهم في هذا القرن .‏
                  - هل تسمح الأنظمة العربية بمد شعبي يضع حداً للفاسدين المفسدين الذين يتعاملون مع العدو في شراكات تجارية وصناعية وثقافية ويربحون في سوق يبيعون فيها قضيتهم وأمتهم ودم شهدائهم ومستقبل أوطانهم وأجيالهم مقابل مال تعرف الصهيونية كيف تسحبه من أيديهم في الدقيقة التي يقبضونها فيها، حيث يودع هناك في المصارف الصهيونية بعيداً عن الوطن المسروق والشعب المستغفل ؟!.‏
                  - هل يقوم عمل عربي حكيم أصيل مسؤول مخلص وبناء، يعزز الوعي العربي والمسؤولية القومية والقوة الروحية والبنية الخلقية والاجتماعية، ويؤسس لعمل عربي مشترك في مجالات المواصلات والاتصالات والمصالح المتبادلة للأفراد والأقطار، ويقيم شبكة من الصلات المصيرية التي تجعل كلاً منا - فرداً أو قطراً - يشعر بأن مصيره ومستقبله مرتبط فعلاً بمصير أخيه ومستقبله؟! وينمي عملاً دفاعياً يقوم على امتلاك القوة على أرضية من العلم والإيمان، ويغير صيغ العلاقة القائمة على الشك وتَجَذُّر القطرية لتقوم على الثقة والمشروعية القومية التي تأخذ بتلازم العروبة والإسلام، والانطلاق من مسؤولية تاريخية حيال صراع ذي أبعاد تاريخية مع أعداء يريدون الأرض ويستهدفون الشخصية والهوية وحيوية الوجود والمصير .‏
                  إن نتنياهو الذي يمثل الصيغة الأجلى للمشروع الصهيوني في الوقت الحاضر، يقدّم الأنموذج المستمر الذي يجسد ملامح ذلك المشروع وأساليب تحقيقه وقدرة أصحابه على تشويه التاريخ والحقائق، وفرض الوقائع على الأرض وإجبار العرب والعالم على التعامل معها. وسؤال الأسئلة الآن هو : هل ندفن رؤوسنا في الرمل، ونتغاضى عن كل ما يعلن من أهداف وما يتم من ممارسات، ونبقى على أمل بسلام مع وجود السيادة الصهيونية والمشروع الصهيوني، ونستسلم للوجه الآخر للصهيونية وهو الإدارة الأميركية ووعودها، ونقنع أنفسنا بأنها وسيط " نزيه " بينما هي الأعتى في التصميم على تنفيذ المشروع الصهيوني والأقدر على تطويع العرب وتسخيرهم لخدمته وقبوله والإقبال عليه ؟!.‏
                  إن التدقيق في هذا السؤال، والإجابة الموضوعية عليه، والرغبة في مواجهة ما يلقيه من تبعات تضعنا على بداية طريق تحرك طويلة وشاقة، ولكنها طريق قد تفضي بنا في يوم من الأيام إلى التحرير واستعادة الإرادة والمبادرة على ما في ذلك من مشاق وما دونه من عقبات، ولكن السير في طريق مضنية طويلة أفضل من التيه وابتلاع سموم الوهم والخضوع لأنواع الإذلال .‏
                  ولنا كل مقومات الأمل والتفاؤل في قدرة أمتنا على السير في طريق منقذة وسليمة ومفضية إلى الخلاص بعمل مغاير لأسلوب العمل الذي نتبعه، وبالكف عن ابتلاع الوهم والوقوف تحت شمس الحقيقة المحرقة وعندها نواجه الاختيار الحق .‏

                  الأسبوع الأدبي/ع553//15/3/1997.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    دعوة باتجاه التأمل والشرق
                    بيننا وبين الغرب تاريخ من المعاناة المرة، بل تاريخ من اللغة التي تتجسد في كل قرن وتضحيات نكون نحن العرب فيها الجانب الذي يدفع ويخسر. والغرب هو الذي يأخذ ويكسب. صحيح أنه لم ينهنا ولم يبد إرادتنا ولم يصل إلى القضاء على شخصيتنا الثقافية بكل مقوماتها ولن يستطيع، ولكنه لا يكف عن المحاولة ولا نكف عن الاستجابة.‏
                    وسواء نتج ذلك عن جهل بنا أو تجاهل علينا، فإن الحصيلة حالة من الاستنزاف وحالة من التبعية، وسيل من النهب والابتزاز لا ينتهي تدفقه بأشكال مختلفة .‏
                    ويبدو أن معسكرات الغرب عبر العقود المترامية في قرنين وأكثر من الزمن تتبادل الأدوار والقوى والنفوذ، وتبقى بينها وشائج المصالح وثوابت الأهداف فيما يتعلق بموقفها منها. فحين كانت القيادة بريطانية - فرنسية كان الموت والتمزق والاستعمار والنهب وإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، وحين أصبحت القيادة أميركية ازداد عدد الشركاء في توجيه الأذى وتراجع ذئب لذئب أشد عن جزء من الفريسة، ولكنها بقيت بين الذئاب .‏
                    وفي كل يوم يمر يزداد العرب ارتماء على أعتاب السيد الغالب، ويزدادون تلهفاً على إرضائه والخضوع لإرادته - إلا من رحم ربك منهم - ولكل أعذاره وأسراره وأهدافه ومسوغات فعله، ولكن النتيجة تكون وبالاً على الأمة وأجيالها وحقوقها ومقدساتها .‏
                    وبعد مرور كل هذه العقود المرة من زمن الإباحة والاستباحة، زمن الاستشهاد لاسترداد الموقع والموقف وزمن الاستبداد لتدمير الموقع والموقف نتساءل على أبواب " الفيتو " الأميركي العريق ضد الحق العربي، وعلى أبواب التنسيق الغربي وتبادل الأدوار لتحقيق الأهداف : الصهيونية - الغربية المشتركة في وطن العرب وضد وجودهم وثقافتهم وآمالهم وعقيدتهم، نتساءل هل من إرادة للخروج من الشرنقة؟! وهل من رؤية لمسالك امتلاك تلك الإرادة ومقومات ممارستها؟!‏
                    المعطيات المادية والموضوعية، من منظور الواقعية، تقود إلى واقعيتين:‏
                    1- واقعية انهزامية ترمي إلى توظيف تلك المعطيات - عربياً ودولياً، نفسياً واجتماعياً - لتدمير الإرادة وفرض القبول بالمشروع الصهيوني - الغربي، وبكل أشكال الهيمنة والإذلال؛ لأنه " ليس بالإمكان أبدع مما كان " في مواقع التسليم والانهزام والاستسلام لتبعية مطلقة للمركزية الغربية - الصهيونية، والاكتفاء بدور العبد بين يديها.‏
                    وهذه الواقعية تحشد المعطيات والوقائع في الميدانين : العربي والغربي - الصهيوني، لتؤكد على ضرورة الفوز بشهقة أخرى قبل الموت الذي تؤدي إليه حالة السبات التي ترى أن تستمر، ويعمل أهل هذه الواقعية الانهزامية على تكويم تلال الردم في وجه أضعف شعاع ينبعث من آخر النفق العربي المظلم .‏
                    2- واقعية تفاؤلية، إيجابية، تعمل على توظيف تلك المعطيات الواقعية الموضوعية، ضمن منظور تاريخي يستفيد من عبر تاريخ الأمة العربية وتاريخ الشعوب، ومن طبيعة حركة الحياة التي لم تعرف استقراراً أبدياً واستمراراً أبدياً لحالة ضعف أو حالة قوة عند شعوب حية وعند من يملكون إرادة التغيير .‏
                    ويعمل أهل هذه الواقعية على زيادة حجم الأمل المنبعث من آخر النفق العربي المظلم، ويرون أن السبات المطلوب .هو الوصفة الغربية الصهيونية لقتل ما تبقى من الإرادة العربية، وأن الخروج من حالة السبات والتحرك الواعي في مختلف الجهات كفيلان بتقديم البديل الموضوعي للذل والاستسلام والموت، وهما المقدمة الموضوعية لتفكير وعمل مغايرين يؤديان إلى وضع مغاير للراهن المرفوض؛ وأن مقومات ذلك وكل ما يحتاج إليه من إمكانيات أولية متوافر بموضوعية لدى الأمة العربية .‏
                    على أرضية الواقعية الانهزامية فرخت أوسلو ثقافة تسوغ المنطق الصهيوني وتسوقه وتروج له، وتدعو المثقفين العرب إلى المشاركة في ذلك الموضوع تحت لافتة جديدة من تلك التي تكتب بحبر غرناطة وكوبنهاغن، وبأقلام يملكها جيداً ويتحكم بمدّها ومدادها ومددها عناصر الموساد من أمثال ديفيد كمحي، والـ "c.i.a " من أمثال مارتن انديك .‏

                    وفي الجامعات والمدن التي شهدت شرف الانتفاضة تدعو تلك الثقافة إلى عمل ثقافي عربي - ودولي يقول بالاستسلام بدلاً من مئة سنة قادمة من الحروب؛ ويقول بقبول الأمر الواقع في جبل " أبو غنيم " مقابل تنفيذ مطار فلسطيني تحت السيطرة الصهيونية كان قد تم الاتفاق على إقامته في أوسلو، ويقول بالرضا بنسبة 9% من الضفة الغربية بعد أن تحمّلنا كل ذلك الذل في المفاوضات بدلاً من حزم الحقائب والعودة إلى النضال مع الأمة وقيادتها في ميادينه ‍؟.‏
                    مداخل كثيرة لتسويغ الهزيمة وشَرْعَنَة الاحتلال، وتسويق منطق القوة الأميركية التي تصنع الإرهاب وترعاه وتمارسه، وتزرع القهر في نفوس العرب وتتعهد نموه. ومداخل كثيرة أيضاً لتشويه صورة العربي المقاوم والمسلم المتمسك بالمقدسات والحقوق، والأمة التي يرى أبناؤها ضرورة التمسك بالحق التاريخي الذي لهم في فلسطين مما لا يمكن التنازل عنه والسكوت على سلبه!؟!.‏
                    فما الذي يمكن أن نقوله ونحن نرى ما نرى ونسمع ما نسمع ويركع منا من يركع على ركبتين من ذل ويزعم أنه يمثل الأمة؟! ماذا نفعل ونحن نرى تراكم الخجل في فضاء نفوسنا يزداد من مواقف من يخجلون من قتال الأعداء العنصريين المحتلين، ويزدرون إرادة كل أنظمتنا وحكامنا وأقطارنا وأجيالنا ؟!.‏
                    على الأرض يجب أن نقاوم الإحباط ونستشعر قوة الملايين التي نحن لسانها وألمها ووجدانها، تلك التي ترفض أن تعيش قروناً قادمة من الذل وتتحول إلى عبيد يقبلون اتفاقيات العبيد؛ وعلى أن نحول إرادة الصمود إلى متاريس قتال على جبهات الثقافة والمقاومة والبناء وتحرير الإنسان العربي وإرادته وتنمية وعيه؛ وعلى الأرض علينا أن نبدأ بسؤال أنفسنا كل يوم ماذا حققنا لنكون أقوى وأفضل وأقرب إلى روح العصر ومتطلباته وأسلحته وأدواته على أرضية العلم والإيمان والعمل بهما؛ وعلى الأرض علينا أن نحاور الأنظمة العربية بلغة أخرى، ونغير في خطابنا وسلوكنا لنكون حاضرين عند رسم صورتنا ومصيرنا وقرارات تتصل بذلك المصير، ولا يكون الغياب. والغياب فقط نصيبنا حتى ونحن نقدم مقومات الحضور ومادته الخام. وأظن أن في مقدمة ما يتوجب علينا فعله أن نبحث عن مخارج مما نحن فيه فالعالم - القرية يتسع كلما ضاق في عين المعلومات والفضائيات، أظن أن حوارنا مع الغرب ينبغي أن يستمر ولكن بعد الخروج من التبعية وشرانق الوهم، وأن حواراً استكشافياً ومصيرياً ينبغي أن يبدأ مع الشرق بحلقاته المتداخلة : حلقة الحضارة العربية - الإسلامية ومن يمثلها فقد أصبحت عمقنا الاستراتيجي وجبهتنا المشتركة والجبهة المستهدفة من الصهيونية والغرب؛ وسوف نكتشف في هذه الجبهة الكثير ونوظف من عناصر القوة ما هو مؤثر ومفيد ومصيري؛ ويكفي أن ينهض فيها صوت مشترك يستشعر مصيراً مشتركاً ويتلفت إلى ماضٍ يصب في الحاضر، وحاضر تستشرف منه صورة المستقبل .‏
                    وحلقة البعد الروحي والمعاناة المشتركة من ظلم الغرب، والمنافع والمصالح المتبادلة التي يسلبها من كل منا الغرب المتغطرس، ذاك الذي يشهر سيف القوة والمادة ويقتل في الحياة المعاني السامية لكثرة ما يشوهها ويتاجر بها ويوظفها ليحوز الدنيا وليجعل الآخرين فيها تبعاً وأدوات تنمي سلطته وثرواته وهيمنته المطلقة .‏
                    وحلقة القوى المستقبلية المحتملة / اقتصادياً وبشرياً وربما علمياً وعسكرياً، فلم لا والشرق فيه كل ذلك المدى من العطاء الذي لا يحد والإمكانات التي لا تحصى؟! الشرق هو الصين الواعدة، واليابان، والهند، وأندونيسيا، وماليزيا، وكوريا، وباكستان، وإيران، وكل الأفق الذي يفتحه انتماء العرب الفعلي إلى شرقهم الغني وكل ما يمكن أن يفعلوه معه. ليست هذه دعوة للقطيعة مع الغرب ولكنها دعوة لقراءة متأنية للعلاقة التاريخية وللمستقبل في ضوء خطط الغرب وبرامجه واستراتيجياته، ودعوة لمعرفة الآخر وتقويم الذات وقدراتها من خلال تلك المعرفة، إنها دعوة لقراءة جديدة للعالم اليوم في ظل ما يقدمه العلم والتطور وما يبشر به المستقبل المفتوح على العلم والتطور .‏
                    إن الثقافة تبني المعرفة، وتبني الوعي والقيم وصورة الغد في ضوء المعرفة، ويبدو أن الغرب الذي نتيه منذ عقود في دوامات التبعية لمركزيته الثقافية لا يرى في الثقافة إلا أداة لتنمية الصراعات القائمة على امتلاك المادة والثروة والطاقة بقهر الآخرين، وهو لا يرى في الآخرين شركاء في المصير الإنساني والشرط الإنساني وإنما يرى فيهم قوى محتملة ينبغي أن يقهرها باستمرار لينهبها باستمرار، وهذه الروح الفاسدة المريضة تؤثر في عالمنا بشكل فتاك وقد تسرق الشرق من أهله و من قيمه ومن تاريخه، وسوف يردّ ذلك وبالاً على الإنسان والحضارة والحياة .‏

                    فهل ننظر إلى المكان الذي تشرق منه الشمس، ويتدفق منه نهر الفجر كل صباح بدلاً من أن نغرق أبصارنا وبصائرنا وأرواحنا دائماً في عتمة الغروب وما تحمل من زحف جحافل الظلام ؟!‏
                    إنها دعوة للتأمل وطرح الأسئلة على الذات، ودعوة لقراءة ممكنة لعالم لا تشوهه الصهيونية والإمبريالية الأميركية .‏

                    الأسبوع الأدبي/ع554//22/3/1997

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      الولايات المتحدة ترعى الإرهاب
                      الإرهاب بالمعنى السياسي في العصر الحديث بدأ مع الثورة الفرنسية، ونظّر له ومارسه روبسبير وأعوانه، واتخذته الثورة البلشفية نهجاً لتصفية الخصوم ومن سمتهم أعداء الثورة أو أعداء الشعب؛ وتنوعت أساليبه وأغراضه بتعدد الجهات التي مارسته وتنوع بيآتها وأهدافها ووسائلها. ولمن يمارسه أو يحرض على ممارسته مسوغات، وأخطر ما في مسوغاته إدعاء الشرعية والحق والعصمة، والصدور في ممارسته عن أيديولوجيات وإسناده بدفاع عن الحق والعدل والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة؛ حيث يتم سحق كل ذلك أو تشويهه بسحق الإنسان وتشويه صورته لأغراض خفية تتعلق بمصالح أو مخططات تفوح منها رائحة الحقد والاستلاب والعدوان على الآخر أو ممتلكاته، وتخويفه بقصد ابتزازه أو اغتصاب حقوقه. ويكاد يكون إرهاب الأيديولوجيا وإرهاب الدولة أغنى أنواع الإرهاب وأشدها فتكاً وإخلالاً بقيم الحياة ومقوماتها وشرطها الإنساني الذي يجمع بين بني البشر، أو يفترض أن يجمع بينهم، وكلما كانت الجريمة الإرهابية ضخمة وبشعة وواسعة التأثير، كلما ازداد حجم التسويغ لها والسكوت عليها والتضليل الذي يرافقها، لا سيما إذا قامت بها قوى كبرى، أو تحالف قوى بشكل جزئي أو كلي، وأبرز أنموذج لإرهاب الدولة البشع والمغطى "خلقياً وقانونياً وإعلامياً وسياسياً" ببهرجة لا ذوق فيها هو أنموذج إرهاب الدولة الصهيوني الذي ترعاه وتدعمه وتباركه الولايات المتحدة الأميركية. وفي مباشرة للقول من أقصر السبل أطرح السؤال الآتي: هل الولايات المتحدة الأميركية التي تبشر بنظام دولي جديد وتعلن أنها حامي الديمقراطية والمدافع عن حقوق الإنسان والحريات العامة هي دولة ترعى الإرهاب؟!‏
                      والجواب عندي بصريح العبارة وواضحها: نعم إنها ترعى الإرهاب وتمارسه وتدعمه تحقيقاً لمصالحها وهيمنتها ومخططاتها، وتقوم بذلك اعتماداً على قوتها الشاملة وتحالفاتها وسيطرتها على المنظومات الدولية، لا سيما مجلس الأمن الدولي؛ وهي تمارس إرهاب الدولة الأعظم في العالم مطمئنة إلى قوتها من جهة وإلى تمكنها من قلب الحقائق وتشويه الوقائع والكيل بمكاييل مزدوجة لقضايا واحدة من جهة أخرى !! ولن أتوقف عند ممارسات عبر تاريخ قريب تمت في هذا المجال: من عدوان وضغط وحصار وتخويف وشن حملات إعلامية وسياسية والقيام بعدوان ساخن، وإنما أركز على حالة واحدة مستمرة تبرز ذلك النوع من الإرهاب الذي ترعاه الولايات المتحدة الأميركية بحزم واقتدار وهو الإرهاب الصهيوني الذي تمارسه "إسرائيل" ضد العرب في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان والجولان، في ظل مسيرة مدريد على الخصوص.‏
                      فإذا كان الإرهاب بإيجاز هو شديد عدوان على الأفراد والممتلكات والحقوق والحريات أو تهديد لها فإن حركة الاستيطان-الاستعماري- الصهيوني في الأراضي العربية المحتلة تنتزع ملكية الأفراد الواقعين تحت الاحتلال وتهدد مقدساتهم في القدس وعلى رأسها المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة، ولا تحفظ حقاً من حقوقهم؛ وتقوم بقتل من يعترض مشروعها الذي يؤدي حتماً إلى طرد الأشخاص من بيوتهم وأراضيهم إن لم يقتلوا، وتجريدهم من حقوقهم ووضعهم في السجون بذرائع مختلفة، وتعريض أمنهم وأمن أسرهم للخطر. وهي تفعل ذلك للاستيلاء على الأرض- الوطن من أجل زرع أشخاص آخرين فيه مجلوبين من خارج المنطقة ليشكلوا قوة قهر وعدوان وسلطة قمع وإرهاب ونهب لشعب المنطقة وخيراتها. والولايات المتحدة الأميركية، التي دعت إلى قمة شرم الشيخ من أجل مقاومة الإرهاب- بعد عملية بيت ليد الفدائية المشروعة ضد قوة الاحتلال الصهيوني- وأشرفت على نشاطات وندوات عديدة حول الموضوع، وجرت ثلاثين دولة لتضع معلوماتها ودراساتها وقواها الأمنية بمواجهة المقاومة الوطنية المشروعة للاحتلال التي تسميها إرهاباً، الولايات المتحدة الأميركية التي تنادي بتجفيف مصادر الدعم المالي للإرهاب- ونحن معها في ذلك- لا تلتزم أبداً بتجفيف مصادر الدعم المالي للإرهاب الصهيوني الفعلي وإنما على العكس من ذلك تشكل المصدر الأغزر لدعم ذلك الإرهاب، بينما تجفف مصادر تمويل المقاومة .‏
                      فهي تضع عشرة مليارات دولار أميركي على شكل ضمانات قروض تحت تصرف "إسرائيل" لموضوع الاستيطان الذي هو عدوان صريح وإرهاب كامل يمارس يومياً ضد الشعب الفلسطيني وضد المواطنين في الجولان وجنوب لبنان وضد حقوق دول أعضاء في الأمم المتحدة. كما تسمح بجباية الأموال من الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن تشجيع عمليات الابتزاز الصهيوني الدولية للأموال- سويسرا آخر الأمثلة- لتكون تلك الأموال في خدمة الاستيطان. تفعل ذلك في الوقت الذي تمنع فيه حتى الجمعيات الخيرية العربية من تحويل أموال لمن قتل معيلوهم وهُدمت بيوتهم بفعل الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان.‏
                      وهذا الفعل الأميركي هو رعاية صريحة للإرهاب ودعم مستمر له في منحيين مدروسين جيداً:‏
                      - منحى تقوية الإرهاب الصهيوني وتمويله وتغطيته سياسياً ومالياً ودبلوماسياً وإعلامياً، وتسويغه وتقديمه مبهرجاً للناس تحت لافتات "إنسانية" وقانونية، حتى عندما يهدد "السلام" الذي تدعي حرصها عليه، واتفاقيات الإذعان التي رعتها وفرضتها، وأخرها فرع الخليل من اتفاقية أوسلو الذي يهددها نتنياهو ببناء مستوطنة في جبل أبو غنيم جنوب القدس.‏
                      - ومنحى إضعاف صمود العرب بوجه الإرهاب الصهيوني وفرض حصار مالي واقتصادي وعسكري عليهم، وتشويه مقاومتهم الوطنية المشروعة للاحتلال والإرهاب الصهيونيين وفرض الهزيمة الداخلية واليأس عليهم.‏
                      وهما منحيان يتكاملان ويشكلان محورين لسياسة واحدة تعمل على إبادة شعب وسرقة وطن وتفتيت أمة بوسائل الإرهاب جميعاً وبقوة القهر لإحلال قوة استعمارية استيطانية عنصرية مكانه.‏
                      وهذه السياسة الأمريكية التي تعتمد تشجيع الإرهاب الصهيوني وتتبناه تنسجم في منطلقاتها العنصرية مع التوجهات والممارسات الصهيونية العنصرية، لأن كلاً من الدولتين: الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني قامت على أساس إبادة السكان الأصليين: الهنود الحمر، والفلسطينيين- وسلب وطنهم وتشريدهم، أو إلحاق الهزيمة الروحية بمن تبقى منهم على قيد الحياة.‏
                      إن المطلوب هو أن تدرك الإدارة الأميركية أن العالم يعي أنها الراعي الأكبر لهذا النوع من الإرهاب، وأنه لا يُخدع أبداً بما ترفعه من شعارات"إنسانية" لتغطية جرائمها البشعة وتواطؤها مع الأنظمة العنصرية: بريتوريا بالأمس و"إسرائيل اليوم"، ومن يتواطأ مع العنصرية ويغذي الإرهاب ويقف بوجه المقاومة الوطنية للاحتلال ويشوه صورتها هو أكبر وأول ممثل للإفلاس الروحي، ولا يحق له أن يتكلم باسم الحق والحرية والعدل والسلام، فضلاً عن تجرُّئه على الآخرين واتهامهم بالإرهاب. فهل تعي الإدارة الأميركية أن العالم يعرف من هي، أم أن ذلك كله لا يهمها أصلاً؟!‏
                      أظن أن الشق الأخير من التساؤل الأخير هو القائم والمأخوذ به فعلاً هناك، وعلى العالم المعني بالحقوق والحريات والعدالة والأمن والسلام، أن يتضامن ويتعاون ليتخلص من تحالف التنين وأسماك القرش، وإلا فالنظام القادم سيغرقنا في مستنقعات الدم والرعب.‏

                      الأسبوع الأدبي/ع555//29/3/1997.‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        ( أوسلو )على فراش الموت
                        اتفاقية أوسلو في الحضيض، انتهت أو كادت تنتهي، وأهلها يعلنون أنها على فراش الموت في النزع الأخير ؛ ويبدو أن الراعي الأميركي لا يستطيع منحها فرصة الحياة حتى لو أراد، ولا يريد أن يطلق عليها رصاصة الرحمة، لا يستطيع ولا يريد وليس ذلك في مصلحة من يملكون زمام القرار الأميركي، وهم الصهاينة أو المتصهينون؛ فأوسلو صنعة صهيونية أدت أغراضها في تمريغ جباه بعض الفلسطينيين في الوحل، وفتح الباب أمام الملك حسين لتوقيع اتفاق وادي عربة، وجر أخْطِمَة كثيرين من العرب إلى أعتاب المحتل الصهيوني مهرولين في مسعى غير مقدَّس، ملبين داعي الضلالة والمذلة، مهللين لغير الله، ناصرين عدوهم على المقاومين من أشقائهم، يوم سمَّتهم الصهيونية إرهابيين فحلت عليهم " لعنة " أميركية شدت ثلاثين من دول العالم بينها ثلاث عشرة دولة عربية إلى شرم الشيخ في مؤتمر كان ضد الأمة العربية وكُرِّس لتشويه المقاومة الوطنية الفلسطينية للاحتلال ولخدمة الإرهاب الصهيوني المدعوم أميركياً !؟‏
                        " أوسلو " على فراش الموت، والتطبيع الذي رافقها ونتج عنها يتراجع، والمطبعون على كل مستوى وصعيد : من تجار الأفكار والمواقف والمبادئ إلى تجار الدولار والسلع والمواد الأولية، ومن أهل غرناطة إلى أهل كوبنهاغن ومن ناصرهم وشد على أيديهم وتجشم الصعاب من أجل نصرتهم؛ هؤلاء جميعاً في حلكة ليل كأن على رؤوسهم الطير، خشية موت " السلام " وعودة المقاومة والحس الوطني وما قد يجره ذلك على أصحاب المشأمة.‏
                        " أوسلو " على فراش الموت والرصاص القاتل جاء من مصادر متوقعة تماماً نذكر منها :‏
                        1 ـ المشروع الصهيوني ـ التلمودي ـ العنصري المستمر، الذي حققت "أوسلو " له شيئاً مرحلياً هو اعتراف كثير من الدول العربية بـ " إسرائيل" واستعدادها لذلك الاعتراف ؛ ولهذا الأمر دلالاته البعيدة والعميقة : استراتيجياً ونفسياً وسياسياً.‏
                        2 ـ المقاومة الوطنية الفلسطينية التي كان عمادها وركنها الأول : حماس والجهاد الإسلامي، والشباب الفلسطيني الرافض للاستسلام.‏
                        3 ـ القدس بما تمثله في الوجدان العربي والإسلامي، وبما تحمله من أبعاد تاريخية وروحية وثقافية ؛ وبما لها من تأثير في الوجدان الجمعي للناس.‏
                        4 ـ الإرهاب الصهيوني ـ الأميركي المتحالف ضد هذه الأرض وأهلها وتاريخها وعقيدة أهلها السماوية، على أرضية من المصالح والخطط الاستعمارية ـ العقائدية ؛ ذلك الإرهاب الذي انتشر في أرجاء فلسطين كلها، الممهورة بخاتم " أوسلو " وغير الممهورة بذلك الخاتم. وقد أراد ممارسوه، الذين ينتزعون الأرض من أصحابها الأصليين والذين يمولون ذلك الانتزاع ويغطونه سياسياً ودبلوماسيا وعسكرياً عند الضرورة .. أرادوا أن ينهبوا الأرض من تحت أرجل أهلها الفلسطينيين بالاستيطان الصهيوني بأسرع ما يستطيعون، بعد أن حققت لهم اتفاقيات الإذعان التي وقَّعوها مع المفرّطين بفلسطين وأهلها ومقدساتها ما يريدونه منها.‏
                        خلاصة القول : إن " أوسلو " على فراش الموت، وإن أهلها في مأزق، وإن كل علاج يُقدَّم لها يزيدها اعتلالاً، فما بني على باطل سيؤول أمره إلى فساد وباطل .‏
                        قد لا يشيَّع ذلك الجثمان السياسي النتن قريباً، وقد لا يدفن أبداً ؛ ولكن ذلك لا يعني أنه لم يمت، فبعض الموتى بقيت جثثهم عقوداً من الزمن محشوة في عيون الأحياء ومع ذلك بقوا من الأموات ؟!؟ ولكن حين يحل موعد تشييع تلك الجيفة السياسية / أوسلو / علينا أن ندرك جيداً أن مرحلة جديدة من النضال والعمل قد بدأت، وأنها لن تكون أقل خطورة وقسوة من سابقاتها من المراحل في عمر الصراع العربي الصهيوني، وإن كانت أكثر قدرة على بعث التفاؤل بين صفوف العرب الذين رفضوا " أوسلو " وقاوموها، واكثر قدرة عل تحريك الفكر وبعث الوعي في تقديري .‏
                        المواجهة بين العرب والصهاينة سوف تكون دموية، وفي أرض فلسطين ستنبعث الانتفاضة بشروط ومواصفات مغايرة لتلك التي كانت عليها يوم انطلقت عفوية شعبية في المرة الأولى ؛ سيزداد الاستيطان حدة وانتشاراً وتسارعاً، وستشهد القدس مزيداً من التهويد، وسيعاني أهلها أكثر مما عانوا سابقاً من القمع والتشريد والطرد والضغط ؛ ولكن هذا لن يكون بلا ردود أو بلا مردود.‏
                        الفرز سيبدأ، على أرضية سليمة وصلبة ودقيقة وفي مجال رؤية واضحة، بين المفرّطين بالأرض والحق والمتآمرين على القضية والمتحالفين مع العدو الصهيوني من جهة وبين الرافضين من العرب لمسيرة الاستسلام والتنازل عن الحق التاريخي للأمة والخضوع من جديد لعقود من التبعية والذل والقهر والزحف على الرُّكب والرموش.‏
                        سوف تتجلى المهانة وعند تلك الحدود بالضبط تبدأ مرحلة الوعي العربي بإدراك الفارق الذي علينا أن نتجاوزه بين قدرات العدو التدميرية وقدراتنا الدفاعية، بين مشروعه العدواني ومشروعنا الدفاعي ؛ إذ على أرضية التحدي والمواجهة الساخنة والتهديد تنكشف القدرات والحاجات وتوضع الأمة أمام المحك الحقيقي ويوضع أبناؤها أمام الاختيارات الصعبة. وهناك يطرح السؤال التاريخي نفسه على العرب بقوة وقسوة : " هل تملكون القوة لكي تحفظوا الحق، أم تتنازلون عن الحق والكرامة معاً وتغدون ـ أو تبقون ـ لأعدائكم تبعاً " ؟!؟ هل معركتكم مع الصهيونية هي أول المعارك وآخرها لتكتفوا بالتجاوز عن حقكم في هذه المعركة راضين بسلامة البائسين ؛ أم أن للصهيونية أطماعها التي لا تنتهي في أرضكم ومشروعها التوسعي المعلن وبرنامجها المتكامل للهيمنة على المنطقة وتشويه هويتها والقضاء على إرادة أهلها ؛ وأن المواجهة معها مفتوحة في كل وقت وكل موقع وبكل سلاح !؟ وهل كان تاريخ أمتكم خالياً من الصراع مع الأمم، وهل هي مطمئنة إلى أنه لن يكون بينها وبين أي من الأمم صراع في المستقبل يحتاج إلى القوة التي تحفظ وجوداً، وتصون حقاً، وتحمي مصالح وأرضاً وحضارة وقراراتٍ وإرادة ؛ أم أن ذلك التاريخ كان ممتلئاً بالصراع ولن يخلو منه أبداً، وأنه ليس من نهاية للتاريخ وليس من نهاية لاحتمالات الصراع؟!‏
                        إن أمة العرب أمة تعرضت وستبقى معرضة لمن يطمع بها ويريد أن ينال منها، وليس لها إلا امتلاك القوة للدفاع عن نفسها وعن مصالحها وثقافتها وشخصيتها وحضورها بين الأمم، وهذا أوان الوعي بذلك والعمل على تدارك كل تقصير في مجالاته ؛ ولا يدفع نحو الاقتدار واكتشاف قوى الذات والإبداع في المواجهات مثلّ التحديات والمحن والشدائد والحروب، فهي تظهر معدن الفرد وجوهر الشعب وفعل الإيمان وعبقرية الإنسان ؛ فهل نحن متعظون بما مر بنا من أيام وعبر، وبما مر بسوانا من الأمم من تلك الدروس والأيام والعبر؟!‏
                        نعم ستكون شِدَّة وسيكون امتحان وستكون محنة، ولكن أي أمة من الأمم لم تدفع ثمن حضورها الكريم في التاريخ دماً ومعاناة وتضحيات؟! وأي أمة تنال ما تريد من حرية ومنعة وازدهار، وتحقق ما تتطلع إليه من تقدم، من دون أن تدفع ثمناً غالياً لذلك كله؟!‏
                        نعم ستكون هناك شدائد ومواجهات ومحن وحروب، وصبيب دمع ودم، وسيكون ذلك قاسياً ومكلفاً وبغيضاً ؛ ولكن علينا أن نختار بين الهزيمة والاستسلام وما يجلبانه ويعنيانه ويحتِّمانه من دفع ثمن ذلك الاختيار الذليل كل يوم أرضاً ودماً وتخلفاً وانصياعاً وخوفاً من الموت والقهر وموتاً في ظل الذل والقهر ؛ علينا أن نختار بين ذلك وبين النصر والعز والمنعة، والقوة التي تحمي وتحرر وتصون التقدم والبناء، فضلاً عن صونها للكرامة والحق والوجود والأمن.‏
                        حين يشيَّع جثمان " أوسلو " النتن سوف تكون كل الاحتمالات مفتوحة، وفي مقدمتها استعادة الوعي والتضامن العربيين، واكتشاف الذات والقدرات والإمكانيات والصداقات، وسيكون من الممكن التحديق في دوامة الخواء الذي كنا نتغلغل في فضائه ويتغلغل في نفوس بعضنا ونحن نتقدم على طرق مدريد واتفاقيات الإذعان، ومدى البؤس الذي كان ينتظرنا ويحيط بنا : البؤس الناتج عن إغلاق باب الأمل والتسبيح بحمد قوة قهَّارة هي قوة السيد الأميركي المحكوم بالمصلحة الصهيونية والأسطورة التلمودية والرسيس الصليبي القديم المتجدد، ذلك الذي اكتوت بناره المسيحية المشرقية وتبرأت منه .‏
                        لقد أعلن اليهود بلسان نتنياهو أنهم يريدون القدس، كل القدس، عاصمة أبدية لهم، وأنهم لم يقولوا أبداً ولن يقولوا أبداً بحق من أي نوع للفلسطينيين أو للعرب أو للمسلمين في القدس، لا في كامب ديفيد و لا في مدريد ولا في " أوسلو " ولا في وادي عربة ولا في الخليل آخر فروع " أوسلو " ؛ وهاهي الجرَّافات "الإسرائيلية " تعمل على تهويد ما تبقى من المدينة المقدسة، وهاهي الأنفاق تُحْفَر تحت مقدسات العرب والمسلمين فيها وفي مقدمة تلك المقدسات المسجد الأقصى الذي يتجه قرار السلطات الصهيونية إلى تفجيره من الأنفاق التي تحفرها تحته لتقيم "الهيكل " على أنقاضه ؛ ولا يبدو أن اليهود سينتظرون حتى نهاية هذا القرن ليتموا ذلك فموعده كما يتمنون ويخططون وينفذون أقرب من ذلك بكثير، قبل احتفالهم بما يسمونه ذكرى مرور ثلاثة آلف سنة على القدس ـ الهيكل. والقدس عربية عريقة وأقدم مما يصفون، والهيكل قلعة يبوسية ـ عمورية ـ كنعانية قبل أن تكون يهودية، والقدس لم تكن عاصمة تاريخية لليهود كما يهرف بذلك صانع الأكاذيب العنصري الحقود بيبي نتنياهو ؟!؟.‏
                        أما الأسباب والأكاذيب والذرائع، التي يمكن أن تقول بها الصهيونية لفعل ذلك وتغطيته سياسياً وإعلامياً، فحدث عنها ولا حرج ـ هناك الزلازل والمجانين والمتطرفون والمؤمنون بالأكاذيب والأساطير الصهيونية التي حشيت بها أدمغة الغربيين وكونت شيئاً من ذاكرتهم ـ فكل تاريخ الصهيونية الأسود قائم على ذلك النوع من الأكاذيب والأساطير، التي تنقلب مع الزمن والتكرار والاجترار إلى " حجج تاريخية " ووقائع مرعية الاعتبار!‏
                        " أوسلو " على فراش الموت، ولكن لا يظنن أحد أن رموزها سوف تموت معها، ذلك لأن تلك الرموز أدت دوراً وقد انتهى ذلك الدور الذي كانت فيه خدمة جلى للصهيونية " وإسرائيل "، وكل من الصهيونية و"إسرائيل" لن تتخليا عن عملائهما وستكافئان من يدمر شعبه وأحلام ذلك الشعب وآماله من أجلهما ؛ وهذا ما سيفوز به رموز " أوسلو "، كلهم أو جلُّهم. وعلى من تأخذهم في ذلك ريبة أو شكوك أن يتذكروا أن جهاز الموساد ووكالة المخابرات الأميركية /c.i.a / كانا الجهازين الأكثر حرصاً على حماية " الرمز " عرفات ؛ وأن الحكومة " الإسرائيلية " قدمت في عهد رابين وعوداً مرعية التنفيذ بأنها ستكون الحامية لعرفات والضامنة لأمنه ولمستقبل أسرته ؛ ومن المفيد أن نضيف إلى ذلك حقيقة الحساب المفتوح في تل أبيب بقيمة نصف مليار شيكل ـ حوالي مئتين وخمسين مليون دولار أميركي ـ باسم عرفات، وهو ما أعلن عنه قبل أيام في "معاريف"، ولا يحرك ذلك الحساب إلا بمعرفة " إسرائيل " وموافقتها.‏
                        ولكن يبقى السؤال الأبدي ـ الأزلي الذي ينتصب شامخاً أمامنا : هل تموت القضايا العادلة والشعوب المناضلة ويضمحل شبح الشهادة والتضحيات وتبقى الرموز البائسة منفوخة مبتهجة أم أن العكس هو الذي أثبت التاريخ صحته ؟!؟‏
                        إن الشعوب تبقى وراية الحق تبقى عنواناً ومرجعاً لمن تعنيهم العدالة والحرية والشهادة، والقيم التي تبقى غاية للنضال وللشرفاء محبي العدل والأوطان والحرية من أبناء الشعوب ؛ أما المعتدون والقائمون على الرقاب بقوة الحراب فمصيرهم إلى زوال، حيث يرتفع نشيد الحرية والعدالة في أرجاء الأرض قرناً بعد قرن معلناً انتصار الحق والشعب وعدالة السماء، وصدق رؤية من يؤمن بها ويعمل لها من أبناء الأرض.‏

                        وإن غداً لناظره لقريب.‏

                        دمشق في 8 / 4 / 1997‏

                        الأسبوع الأدبي/ع557//12/4/1997.

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          الأجيال رهان المستقبل
                          متى يصبح عرب اليوم أكثر عروبة مما هم عليه اليوم!‍ أي أكثر وعياً بانتمائهم وتمايزهم عن (الغير) واستقلاليةً في المسار والقرار!‍‏
                          سؤال لا تنحصر مسوغات طرحه فيما أصاب السياسة والاقتصاد من تهافت وتبعية، وإنما ينسحب بكثافة أيضاً على الثقافة بمفهومها الشامل، وعلى التربية والفنون والآداب من بين ما تشمله الثقافة. ولا يكمن داء العرب في تاريخهم الحديث وفي صراعهم مع الاستعمار والصهيونية، وفي سعيهم من أجل امتلاك مقومات التقدم؛ لا يكمن ذلك الداء في قدرتهم على الأداء والاستيعاب بمقدار ما يكمن في توزعهم على جبهات الخصوم ونقلهم معركة الخصم إلى داخل حدودهم الجغرافية والسياسية والنفسية؛ وكذلك في استعداد كثرة كاثرة منهم لأن يكونوا مطايا الخصوم بشكلٍ أو بأخر وخناجرهم التي تمتد إلى خواصرهم من أقرب المسافات، ومن أكثر المواقع أمناً بالنسبة لهم.‏
                          في فترة النضال القومي ضد حملة التتريك كان سدنة الاستعمار البديل يقاتلون بمنطق الغرب وأدواته وأسلحته، ويخوضون معركته الطاحنة ضد مقومات الهوية والقومية العربية : اللغة والدين، ولم يكن أي من أولئك يوفر العقل العربي تاريخياً، بل يحرمه حتى من أبسط معطياته وقدراته وعطاءاته التاريخية، ويبسط رؤية الاستشراق الاستعماري على الشخصية العربية كلها.‏
                          وكان المدافعون عن الأصالة والعروبة يضطرون لخوض حرب في جبهتين جبهة الأعداء وجبهة الأصدقاء، وكان الضعف أبرز النتائج التي تجنيها الأمة من ذلك كله.‏
                          وفي فترة النضال ضد الاستعمار الغربي كان الموالون له والمنتفعون من استمراره والمرتبطة مصائرهم بهيمنته يؤسسون لتوطين التبعية له في أعماق التكوين الفردي والجمعي بوسائل كثيرة؛ ويساعدهم استعداد من نوع ما، أو قابلية للاستعمار من نوع ما، لدى تيارات وشرائح تكره الاستعمار ولكنها لا تعنى كثيراً بالتفريق بين ركائزه الفتاكة غير المرئية التي احتضنت تبعية بديلة وبين العودة الواعية إلى الذات مع انفتاح على العلم والحياة يبقيها أصيلة وعصرية وقادرة على الأداء في آنٍ معاً.‏
                          وجاءت الحصيلة العامة لذلك:‏
                          - توهج وجداني، وطني وقومي، مجرد من القدرة التي تؤهله لإثبات حضور نوعي، باستقلالية قادرة على حماية ذاتها وامتلاك أدواتها على أرضية من العلم والوعي المعرفي.‏
                          - وتطلعات وطموحات كبيرة، مشروعة وموضوعية، لا تملك إلا أن تعتمد على من تقاومهم من الخصوم، لكي تحقق عملياً ما تصبو إلى تحقيقه، مما يعارض مصالحهم ويحرر مصالح الأمة وقرارها.‏
                          وفي فترة الصراع مع العدو الصهيوني كان السوس في قلب الساق التي تقوم عليها الشجرة، ظاهراً وباطناً كان يعمل، منذ بدأت المعارك الأولى على أرض فلسطين من أجل فلسطين؛ فكان هناك من يفاوض العدو ويرى فيه شريكاً أو حليفاً، في الوقت الذي يقود فيه الجيوش ليحرر الأرض منه ومن مشروعه الخبيث.‏
                          وحتى يوم الناس هذا يوجد نوع من الازدواج والانقسام في عقل العربي وشارعه وقراره، وإرادته، نوع من ازدواجية الوجه والقناع وتعارض الوجدان والمنطق الذي تشكل حوله فخاً أو بيت عنكبوت، يظهر في القول والعمل، ويتجلى في كل ساحة وفي كل مساحة من ساحات العرب ومساحات أرضهم؛ نوع من الازدواج يضج فيه التعارض والتناقض، ويجعل القدرة العربية والرؤية العربية في حالة تضاد:‏
                          - أنظمة ترى استقرارها وأمنها ومصالحها مرتبطة بالغرب و " إسرائيل ".؟!‏
                          وأنظمة ترى أن استقرارها وأمنها ومصالحها ومستقبل الأمة كله مهدد من قبل الغرب "وإسرائيل". ‍‍‏
                          - سياسة وثقافة تريان في العدو الصهيوني وحليفه الغربي شريكين وحليفين؛ " وتحْرَدَان" منهما أحياناً من باب الدلال عليهما والعشم فيهما، وستر العورة من العرب " الأغراب "؛ دفعاً للشماتة؛ وتمارسان فعلاً يومياً مدروساً على الصُّعُد كافة، سراً وعلناً، موجهاً ضد الأمة بكل شرائحها ومصالحها " لتنضج وتعي وتعقل " فتقبل واقعية عصرية تقول:‏
                          1- فلسطين أصبحت " إسرائيل "، بعاصمة " أبدية " موحدة هي القدس، وللعرب والمسلمين منها ما "للفاتيكان" في روما.‏
                          2- الفلسطينيون الموجودون خارج فلسطين يجب توطينهم في الأرض العربية، ونسيان حق العودة.‏
                          3- " إسرائيل " " أقوى من أن تؤخذ بالحرب "، والعالم اليوم استقر على هذا الوضع الذي نحن فيه بقيادة أميركية أبدية. وعليكم أن تدركوا أن هذه هي نهاية التاريخ، ولا يوجد أي احتمال للتغيير مستقبلاً وإلى أبد الآبدين، وعليه فكل ما تقولون به وما تقومون به من استنكار ورفض، وتأخير في الركوع هو نوع من عدم النضج وعدم الوعي والضوضاء الوطنية التي لا مسوِّغ لها.‏
                          4- العالم - عالمنا نحن أبناء المد الغربي في أجسامكم منذ حملة نابليون حتى اليوم - أصبح لنا وأمامنا على هذه الصورة فاقبلوه قبل أن يرفضكم .‏
                          5- لا أمل لكم ولا حلم، ولا قدرة على امتلاك علم أو قوة تغيرون بها من واقع الأمور شيئاً، وليس أمامكم إلا التسليم والاستسلام، قبل فوات الوقت وزيادة عدد الفرص الضائعة، وأنتم خبراء بإضاعة الفرص؛ فلا تكرروا ذلك، وافعلوا ما نقوله لكم قبل أن يضيع منكم ما تملكون اليوم التنازل عنه !!.‏
                          6- إن ازدهاركم وتحديث مجتمعاتكم وعقولكم، وخروجكم من أزماتكم كلها رهن بهذا الاستسلام، الذي يزدهي أمامكم بثوب السلام فترفضونه وتقتلونه وتشردونه بالممارسات " الإرهابية ." !؟‏
                          وسياسة وثقافة تريان في العدو الصهيوني وحليفه الغربي شريكين وحليفين عنصريين استعماريين لا يمكن القبول بهما والتعايش معهما، لأن في ذلك نقضاً للوجود العربي كله بكل مقوماته السياسية والاقتصادية والثقافية.‏
                          وهما عدوان تاريخيان يريدان الأمة العربية مجردة من هويتها وخصوصيتها ومن كل مشروع تحريري أو تحرري لها يقيم لها قواماً بين الأمم.‏
                          وتريان أنهما تقاومان من أجل أبسط أنواع الوجود القومي، ضد صليبية جديدة متصهينة هذه المرة، تريد الوطن العربي : إسلاميَّيه ومسيحيّيَه، وتريد نفطه وروحه معاً؛ صليبية وصهيونية تؤسسان لمنعه من مجرد التفكير بامتلاك قوة تحرره وتجعله حاضراً بأي شكل من أشكال الحضور .‏
                          وهما ـ أي السياسة والثقافة المعنيتان ـ ترفضان واقعية انهزامية تروِّج لها ألسنة عربية بدعم ومشاركة من الحلفاء التاريخيين لتلك الألسنة، التي أخذت تتجرأ على كل شيء باسم العقل والمنطق!؟! لأن كل المغالطات التي يسوقها الأعداء وحلفاؤهم في الداخل لا تصمد أمام امتحان المنطق السليم وحقائق الحياة، واستقراء التاريخ وتجارب الأمم .‏
                          - فهزيمة الإرادة وتفتيت الأعماق، وإلحاق العقل العربي بالغرب .. هو ما يرمون إلى إجبار الأمة على التسليم به والانهيار تحت ركامه؛ وذلك هو الموقع الاستراتيجي الذي إذا صمد يصبح رافعة التغيير المستقبلي وأداته ومنطلقه، ولذلك فإن هذه الجبهة العربية تدرك قيمة هذا الموقع من جهة وتدرك معنى التركيز الصهيوني عليه من جهة أخرى. ومن صمود هذا الموقع : صمود الإرادة والأمل والإيمان بالحق والمستقبل وقوانين الحياة التي لا تعرف الركود، يبدأ الرد المنطقي على منطق الهزيمة، ومن عناصره نذكر :‏
                          1- فلسطين عربية؛ و" إسرائيل " حربة المشروع الصهيوني - الاستعماري الغربي الذي يستهدف الأمة، ولا يريد ما يسميه السلام إلا بوصفه مرحلة تؤسس لمراحل المشروع الأخرى.‏
                          2- لا يوجد وطن بديل للفلسطينيين،إنه مرفوض فالوطن لا يستبدل، ومن حقهم أن يعودوا إلى وطنهم.‏
                          3- كل ما يتم تحت خيمة السلام هو تزييف لكل مفاهيم العدل والحق والسلام، وجيل المحتالين والإرهابيين الجديد من الصهاينة، يملك القوة ولكنه لا يملك الحق؛ وعلينا أن نملك القوة لنملك الحق، وليس هذا مستحيلاً.‏
                          الزمن لم يستقر نهائياً على : أميركا زعيم أبدي للعالم و" إسرائيل " حاكم أبدي للعرب. وعندما نأخذ بهذا المنطق تبدأ عملية الانتقال على أرضية الإيمان والوعي والعلم من حالة التهافت التي يراد لها أن تتفاقم إلى حالة وقف الانهيار ثم البناء.‏
                          4- القدس كانت منذ اليبوسيين العرب عربية وسيبقيها الوعي بأهمية الحق وبأهمية القوة التي تحميه عاصمة لفلسطين. وكل عدوان عليها واحتلال لها تمَّ عبر التاريخ لم تضع له حداً سوى القوة. وأهل الواقعية الانهزامية يركزون على غرس التبعية والإحساس بالدونية واليأس والإفلاس في نفوس أجيال الأمة حتى لا تلتفت تلك الأجيال إلى حقيقة الحقائق :‏
                          امتلاك الوعي والعلم والإيمان، وامتلاك القوة؛ ذلك وحده هو مدخل التغيير وهو مدخل ممكن. وليست هذه الواقعة هي نهاية التاريخ ولن تكون، فليس للتاريخ نهاية. وانتصار الرأسمالية الأميركية الصهيونية نهاية لتاريخ صراع وليس نهاية للتاريخ.‏
                          5- لن يكون ازدهار واستقرار وتعايش وتقدم مع وجود احتلال ومشروع صهيوني نقيض. لأن ذلك يؤسس أولاً لهدر الكرامة والتقوقع في الذل ومع الذل لا يكون تقدم ولا تكون سعادة ولا يكون وجود عزيز كريم لائق، والحياة وجود حر عزيز كريم لائق .‏
                          ولأن المشروع الصهيوني تهديد مستمر واستنزاف مستمر وخوف مستمر.‏
                          ولأنه أساساً دفن شامل للحق والشرعية ولمعنى الوجود، وأمة تتنازل كل يوم عن جزء من جسمها وروحها وأرضها وشخصيتها سيؤول بها الأمر إلى الامحاء.‏
                          فهل نقبل باسم الواقعية الانهزامية، والمطالب الاستعمارية الغربية الصهيونية امحاءً لمجرد أن " الآن " لا يمكِّننا من تحقيق نصر حاسم!؟ والمستقبل مفتوح على كل الاحتمالات ويجب أن يبقى مفتوحاً عليها جميعاً؟‍!‏
                          لا مجال لإغلاق الباب أمام الأمة باليأس وقوة القهر ومنطق الانهزام، ولا يكون امتلاك شيء مما ينقذها بالكلام فنحن نؤمن وندعو ونعمل ليتغير الحال والوضع الراهنان، ولا يمكن أن يستقر ذلك إلى أبد الآبدين.‏
                          6- الأمة ليست أنظمة مهزومة وثقافة مهزومة تآختا وحولتا الشعب إلى كتلة من جوع وخوف وإحباط. ومنطق سياسة وثقافة تريان بعيون العدو هو منطق العدو الذي يخوض حرباً من خلال الطابور الخامس، من الداخل، وهي من أخطر الحروب على المستقبل والحق والأجيال .‏
                          منطقان يشلان العرب منذ زمن طويل :‏
                          منطق سياسة وثقافة يرتبطان بالعدو ويعتمدان عليه ويعيشان حالة تبعية مطلقة يريدان إشاعتها في الأمة كلها بدفع من الغرب والصهيونية هذه الأيام .‏
                          ومنطق سياسة وثقافة يريان عكس ما يرى المنطق الأول، ولكنهما في حالة حرب استنزاف مفتوحة منذ عقود، وفي حالة تشتيت للقوة بفعل عناصر كثيرة من أهمها أن السوس داخل الساق ينخر فيه، والعدو يحمل فأسه وينهال على الشجرة ضرباً.‏
                          فمتى يكون العرب اليوم مع العرب حقاً، ليصبح لطاقة العرب كلها فعل منقذ في إطار رؤية قومية سليمة منقذة. إن ذلك يحتاج إلى جهد ثقافي وسياسي مركَّز، ولا يحتاج لمناخ الإحباط، وللنظر في سلسلة النقائص التي تتكاثر للأسف في مجتمعنا.‏
                          إنه يحتاج إلى أن نركز على صنع الوعي وإقامة صروح الأمل ' ويحتاج أول ما يحتاج إلى أن تكسب الأجيال العربية الصاعدة التي يتم الرهان الأول عليها وعلى اهتماماتها وما ترفض وما تقبل من هذا المنطق أو ذاك، وما تحتمل وما لا تحتمل من تبعات الصراع العربي الصهيوني وتكاليفه الباهظة.‏
                          وإنه لرهان ينبغي أن يخاض بكثير من الجدية والمسؤولية والوعي والاهتمام، لأنه رهان المستقبل العربي كله، والصراع المشروع من أجله .‏

                          22/4/1997‏

                          الأسبوع الأدبي/ع558//26/4/1997.‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            القضية والشباب العربي
                            ـ1ـ‏
                            شباب قضية ما وحيوية حضورها وتأثيرها وتجددها يتعلق بإقبال الشباب عليها وتجديد اهتمام الأجيال بها، واستعداد تلك القطاعات البشرية لتحمل تبعات الصراع والمضي قدماً في تقديم التضحيات على طريق تحقيق الأهداف الرئيسة لتلك القضية ومتابعة نهج الذين ضحوا من أجلها.‏
                            ومستقبل الصراع العربي الصهيوني، الذي انبثق عن القضية الفلسطينية واستمر بسببها، لا يخرج عن هذه المقولة- الأساس ولا يشذ عنها؛ فمستقبله مرتبط باستمرار اهتمام الشباب العربي بالقضية وبجوهر الصراع الذي نشأ عنها وبأهدافه ونتائجه .‏
                            وعلى ذلك فإن طرح السؤال المتعلق بمستقبل الصراع العربي الصهيوني والقضية الفلسطينية بوصفها قضية قومية بكل الأبعاد والمفاهيم والتبعات والنتائج، إن طرح ذلك السؤال على شباب العرب اليوم وعلى أجيالهم الصاعدة، يشكل أهم مدخل لرسم صورة المستقبل وتلمس نوع الاهتمام والمشكلات في مجتمع الغد.‏
                            ويجوز لنا أن نطرح السؤال على أرضية الشك في تبني الشباب والأجيال القادمة للقضية بنفس الأهداف والاستعداد الذي لنا ولمن سبقونا، انطلاقاً من حجم المتغيرات وما يرافقها من ضخ إعلامي مركز لإحداث تغيير في البنية الفكرية والنفسية والاجتماعية للمجتمع العربي من جهة ولسبر غور الالتزام القومي والوطني، على أرضية السائد من مفاهيم وتوجهات واهتمامات، في عصر يشهد انتفاضات التغيير، ولدى أجيال تعصف بها أزمات ومشكلات ومعلومات تجعلها عرضة لكل الاحتمالات.‏
                            ولا ينطوي الشك الذي ننطلق منه على تسليم مسبق بأن طينة الشباب العربي الأصيلة قد تغيرت وأنه تنكر أو يمكن أن يتنكر للقضايا العربية ولتضحيات الأجيال التي تحملت تبعات ذلك الصراع الذي نتج عنها منذ نشأته، ولكنه مدخل على أرضية موضوعية تستدعي الاستعداد لمواجهة كل ما يقدمه العقل والمنطق من معطيات واستنتاجات.‏
                            ومن الأسئلة التي تتفرع على جذع ذلك السؤال الأساس أكتفي هنا بطرح سؤالين:‏
                            1- هل الشباب العربي، والأجيال الصاعدة، ما يزال يؤمن بعروبة فلسطين، كل فلسطين، وبأن عليه أن يرفض الاحتلال الصهيوني، ويقاوم ذلك الكيان العنصري المزروع في المنطقة بالقوة؟! أم أنه يسلم بأن لـ"إسرائيل" حقاً في الوجود والبقاء، وأن لها جزءاً من فلسطين التاريخية- صغر ذلك الجزء أم كبر- وأن التعايش معها والقبول بها هو الاختيار المستقبلي الذي اختاره؟!‏
                            هناك من يزعم أن هذا السؤال لم يعد قائماً أصلاً، فالعرب خضعوا لتوجه عام- عربي ودولي- يسلم بوجود "إسرائيل"، والتنازع الآن هو حول جزء من فلسطين محتل وأرض عربية احتلت بسبب القضية الفلسطينية وما دار من صراع قومي حولها، وأن مشاكل المستقبل ليست حصراً في الانسحاب والتوجه السلمي الشامل لدى جميع الأطراف. وطرح هذا السؤال يعني عدم تسليم بما يعتبره (البعض) من المسلمات، وإثارة لبعض وجوه جوهرية من القضية ووضعها أمام الشباب ليناقش ويتفحص ويختار .‏
                            2- هل الشباب العربي المنهك حتى العظم بقضايا مثل: تأمين فرصة العمل، والمسكن، وإقامة الخلية الاجتماعية "الأسرة"، وتأمين لقمة العيش، والوصول إلى نوع من العلاقات السليمة في مجتمعه : سياسية- اقتصادية- اجتماعية- يوفر له قدراً من الرجاء؟؟ هل ذلك الشباب الذي تطحنه ظروفُ المجتمع الاستهلاكي وشروطُه، والذي مضى بعيداً في تطلعاته المشتقة من معطيات ذلك المجتمع.. هل هو على استعداد الآن لتحمُّل تبعات حروب جديدة، وتقديم تضحيات قاسية، والسير في طريق الصراع لعقود جديدة من الزمن؟! وهل التفكير بالحرب تفكير له ما يسوِّغه في عصر تعلن فيه القوى الفاعلةُ والمؤثرة في سياسة العالم وقراره بأنه مضى زمن الحروب؟! وهل نملك أدوات الحرب وعددها والقدرة على خوضها؟! وهل هناك من سبيل لاستعادة ما نريد استعادته بغير الحرب؟!‏
                            في معرض تلمُّس أبعاد السؤال الأول وما قد تبنى عليه الإجابة من معطيات، لابد لنا من التذكير بالأمور الآتية بإيجاز شديد:‏

                            إن حقوق الأمم والشعوب، لا سيما ما يتصل من تلك الحقوق بالأرض والمقدسات، لا يذهب بالتقادم، ولا يجوز التنازل عنه بسبب عدم قدرة جيل على استرداد تلك الحقوق أو بعضها.‏
                            إن فلسطين- كل فلسطين- أرض عربية: وهي أرض العرب العموريين بفروعهم، وفلسطين جزء من سورية الطبيعية ومن ثم بلاد الشام؛ ونحن عندما قاومنا الاستعمار ورفضنا مشاريعه وثرنا على تجزئته لوطننا وشعبنا لم نفعل ذلك لنقدس ما ترك لنا من تجزئته لوطننا وشعبنا .. لم نفعل ذلك لنقدس ما ترك لنا من تجزئة وأنظمة وحدود، ولا لنحتفظ بتفاصيل ما رسمه لنا من مخططات لا تهدف إلا إلى إضعافنا وتمرير مخططاته- مخططات الصهيونية- في وطننا.‏
                            فهل ترانا نقول في أي قطر عربي تنشأ فيه مشكلة تلك قضية ذلك القطر، ومادام فريق من أبنائه - يمثل أبناءه أو لا يمثلهم- قد اختار اختياراً فهو صاحب الحق في ذلك الاختيار؛ حتى لو كان اختياره يلحق أشدَّ الضرر بالأمة والحق التاريخي والمستقبل؟! إن قضية فلسطين منذ نشأت، والمشروع الاستيطاني الصهيوني منذ بدأ خطواته الأولى في ظل الإمبراطورية العثمانية؛ إن تلك القضية وذلك المشروع نشأا في الإطار القومي وفي إطار تخطيطٍ استعماريٍ شاملٍ لترسيخ ذلك المشروع، كما أن الوعي القومي كان يفترض أن تكون المسؤولية عن تلك القضية مسؤولية شاملة.‏
                            ولأنه لم تتم مواجهة قومية بالمعنى الصحيح والدقيق والشامل، فإن البعد القومي للقضية من جهة ودخول الصراع على أساس عربي شامل من جهة أخرى، هو مما يستدعي وقفة ومناقشة وموقفاً، لا سيما من قبل الشباب والمسؤولين عن الوعي والذاكرة والوجدان، عن التربية والسياسة والإعلام.‏
                            إن الأمم لا تتنازل عن حقوقها الثابتة وقضاياها العادلة لمجرد أنها أُرهقت، أو أُرهق جيل من أجيالها؛ ولا تنهزم الأمم وتيأس بسبب صراع عادل يقيمه الإيمان ويدعمه، وإنما يهزمها الإحباط والضياع وتفكك الأواصر وتفتت الإرادة وتشتت الرأي وزوغان الرؤية؛ وصراع أي أمة من أجل حق من حقوقها وعدم تنازلها عن ذلك الحق وتقديمها التضحيات من أجل استرداده كل ذلك يبني شخصيتها وقدرتها وخلقية أبنائها لتدافع عن كل حقوقها، ولتصون وجودها على مراحل من التاريخ، والتاريخ لا يتوقف عند الانتصار في قضية أو الانهزام في معركة فاحتمالات المواجهة بين الشعوب والأمم احتمالات مفتوحة دائماً، هكذا يفيدنا التاريخ، وهكذا ينبغي أن يكون الاستعداد.‏
                            وعليه فإن محاكمة جيل ما، أو فئة ما، لموضوع هذا الحق من حقوق الأمة أو ذاك يجب ألا تبنى على أساس التعب- والتنازل- والحسابات الآنية الضيقة الأفق، وإنما ينبغي أن تبنى على أساس من الوعي التاريخي والمستقبلي الشامل بالحق واستمراره وبالقدرة على استرداده والمحافظة عليه وامتلاك مسوغات الدفاع عنه ومقومات ذلك الدفاع.‏
                            إن الأجيال العربية لم تختر الحرب مع الصهاينة وإنما فُرضت عليها تلك الحرب فرضاً؛ وإن المشروع الصهيوني مشروع توسعي -استيطاني- استعماري مستمر، وهو مرحلي الأداء والخطط والبرامج، وكل مرحلة تهيئ لما بعدها، ولا مسوغ أبداً للقول بأن سلام- الاستسلام سوف يؤدي إلى سلام دائم في المنطقة، فإسرائيل ليست كياناً مسالماً، وجوهر الصهيونية معاد للسلام.‏
                            كما أنه لا يوجد منطق مقنع في القول: إن العالم اليوم ليس مع الحرب وأن عهد الحروب قد انتهى، وأنه علينا أن نخضع لمنطق القوة المنتصرة لأنه منطق العصر الذي أرسى أمور الدول والأمم والشعوب على ما آل إليه أمر العالم بعد انتهاء الحرب الباردة بانتصار الولايات المتحدة الأميركية على الاتحاد السوفييتي.‏
                            - فالحرب مستمرة على الحقوق والشعوب والدول الصغيرة والضعيفة بكل أشكالها: الحرب الساخنة والحرب الباردة، وحروب الاستنزاف الاقتصادي، وفرض التبعية وأشكال الغزو الثقافي، وإلحاق العالم برؤية وحيدة الطرف للعالم تفرضها مصالح الولايات المتحدة الأميركية، والقوى المتحالفة معها.‏
                            الحرب تشنها علينا نحن العرب " إسرائيل " والولايات المتحدة كل يوم، وعلى من لا يرى استمرارها أن يدقق جيداً ليراها ساخنة وباردة في كل الميادين تستهدف الأرواح والأرض والمقدسات والاقتصاد والثروات والطاقة والقرار السياسي والإرادة العربية، وتستهدف الشخصية الثقافية والعقيدة الدينية، والأجيال المقبلة تحديداً.‏
                            وإذا كنا نرفض الحرب ولا نؤمن بها، ونختار السلام- حتى لو كان البعض يختار سلام الاستسلام- فإن الحرب مستمرة ضدنا ـ ضده ـ مفروضة علينا بشكل أو بأخر، وإذا كنا نرفض الاستعداد لها هروباً من تحمل تبعاتها فإننا سنواجهها عاجزين؛ أمّا إذا أردنا الاستعداد لها ونتذرع بعدم القدرة على ذلك لأن الهوة أصبحت سحيقة بين تقدم الأعداء وتخلفنا نحن؛ فإن هذا المنطق يقود إلى ما يلي:‏
                            - اليأس فالهزيمة من الداخل قبل أية مواجهة.‏
                            - القبول بالذل وبكل ما ترمي الأمم إلى فرضه على العربي.‏
                            - انحلال الإرادة فالأمة، واحتلال الأرض، وجعل أبنائها عبيداً.‏
                            - عدم السير في طريق امتلاك القوة على أرضية العلم والإيمان تأسيساً على اليأس وهزائم الأعماق.‏
                            وكل هذا لا يؤدي إلى ما يشكل أية أرضية إنسانية سليمة من أي نوع لأفراد أو مجتمع أو أمة من أي نوع. فضلاً عن أن تلك حالة يراد فرضها علينا لإدخال اليأس على نفوسنا وجعلنا نتهاوى قبل هبوب الريح.‏
                            إن استعدادنا لدخول معترك امتلاك القوة على أرضية العلم والتَّقَانَة هو الأساس الذي ينبغي أن نبني عليه توجهنا وتربيتنا وقرارنا السياسي وعلاقاتنا الاجتماعية، لأن امتلاك القوة شرط من شروط قيام الأمم والدول، ومن شروط حماية وجودها وحماية مصالحها والدفاع عن حقوقها وثرواتها وحدودها، ولا يمكن أن تقوم توازنات مثالية في العالم دون روادع مادية، منها روادع القوة.‏
                            وما إعلانات الإمبريالية الأميركية- والصهيونية عن عالم بلا حروب، في الوقت الذي تشنان فيه الحروب من كل نوع على العرب، إلا استخداماً لأساليب الحرب النفسية في حرب ما زالت مستمرة ضد هذه الأمة.‏
                            وعلى من يريد أن يتقصى حقائق التوجه الاستعماري لدى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل أن يقرأ جيداً نتنياهو وما يمثل، وصموئيل هنتنغتون وما يمثل.‏
                            إن امتلاكنا للقوة أمر ضروري وحيوي لكل المواجهات المحتملة، وهو المخرج لنا مما نحن فيه من حالة استنزاف وخضوع وضياع؛ وانعدام التوجه نحو ذلك أو التشكيك في جدوى ذلك التوجه، هو ما يعمل على ترسيخه الطابور الخامس الذي يعمل بين ظهراني الأمة، بإيحاء وتمويل ودعم من القوى التي تشن علينا الحرب المستمرة، حرب الاستعمار والاستيطان والاستنزاف والتفتيت والتيئيس، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني.‏
                            أما سؤال هل ننجح في ذلك أم لا فهو سؤال المستقبل، ولا أومن بجدوى مصادرة المستقبل ولا أقر بحق أحد في فعل ذلك؛ ولدي كل ما يعزز الثقة بإمكانية الشباب العربي، من خلال قدرات الأمة وتوجهها السياسي العام، على تحقيق تقدم في هذا المجال والوصول إلى نتائج طيبة تؤدي إلى حماية الذات والحقوق، وصوغ مستقبل أكرم على أرضية الأمل.‏


                            ـ2ـ‏
                            في القسم الأول من هذا الموضوع "القضية والشباب العربي" طرحت سؤالين، تلمست الإجابة على أحدهما، وبقي الثاني قيد المتابعة وهو:‏
                            " هل الشباب العربي المنهك حتى العظم بقضايا مثل: تأمين فرصة عمل، والمسكن، وإقامة الخلية الاجتماعية "الأسرة" وتأمين لقمة العيش، والوصول إلى نوع من العلاقات السليمة في مجتمعه: سياسية- اقتصادية- اجتماعية توفر له قدراً من الرجاء، هل ذلك الشباب الذي تطحنه ظروف المجتمع الاستهلاكي وشروطه، والذي مضى بعيداً في تطلعاته المشتقة من معطيات ذلك المجتمع.. هل هو على استعداد لأن يتحمل تبعات حروب جديدة، وتقديم تضحيات قاسية، والسير في طريق الصراع عقوداً جديدة من الزمن؟! وهل التفكير بالحرب تفكير له ما يسوّغه في عصر تعلن فيه القوى الفاعلة والمؤثرة في سياسة العالم وقراره، أنه مضى زمن الحرب؟! وهل نملك أدوات الحرب وعددها والقدرة على خوضها؟! وهل هناك من سبيل لاستعادة ما نريد استعادته من حقوق بغير الحرب؟!.‏
                            أبدأ من حيث انتهيت في تفريعات هذا السؤال مؤكداً حقيقة تعززها استقراءات عديدة للحوادث والتجارب والمسجل من خبرة الإنسان والمتناقل الراسخ في التقاليد منها، وهي أن حقاً لا تدعمه القوة معرض للضياع، وأن قوة لا تستند إلى الحق قد تغير الواقع وتفرض حقائقها. وإذا ما تمكنت قوة غاشمة من فرض واقع على الأرض وعززت فعلها ذاك بإعادة تكوين الذاكرة والوجدان لدى أجيال أصحاب الحق، فإنها تلغي حضوراً لتاريخ وتحيّد فعاليته، وتمهد لصنع تاريخ يملك قوة التأثير ما استمرت قوتها في الحضور عبر الواقع الجديد الذي خلقته.‏
                            وإن بقاء الحق حياً في وجدان أهله وذاكرتهم، وبقاء التاريخ حاضراً مؤثراً يؤدي حتماً إلى فعل يتنامى ليملك قوة تعيد تغيير الواقع ليستعيد التاريخ سياقه الطبيعي.‏
                            وعليه فإن صاحب الحق المنتهك مطالب بأمرين رئيسيين:‏
                            - إبقاء التاريخ فاعلاً عبر تكوين مستقر للذاكرة والوجدان.‏
                            - السعي لامتلاك قوة تمهد لاستعادة الحق وإعادة السياق الطبيعي للتاريخ.‏
                            ولن يكون ذلك دون امتلاك قوة معنوية ومادية، ولن يتحقق ذلك دون خوض صراع من أوجهه المشروعة والمقرة تاريخياً: الحرب. ولن تتراجع قوة غاشمة عن غيها وعما حققته باستعمال العنف إلا بتأثير قوة تجعلها تراجع حساباتها وتضع حداً لعدوانها عبر تدقيق في موازين القوى ونتائج الاشتباك، وإذا لم تفعل ذلك سلماً أُجبرت على فعله بالحرب.‏
                            وعليه فإن القوة هي عنصر الحسم الأول وأداته، وهي التي تردع نزوعاً عدوانياً متنامياً، أو تجبر صاحبه على التعقل بتأثير الخوف أو الحسابات الدقيقة لنتائج الأفعال التي يفكر بالإقدام عليها، وهي التي تضع حداً للأطماع التي تحرك الأقوياء لابتلاع الضعفاء أو إخضاعهم؛ وربما من هذا المنطلق تساعد- في عالم نشأ على مقولات القوة ونتائجها- على لجم الطيش والعودة إلى العقل من جهة، وإلى تدفقه على أرضية الطغيان من جهة أخرى، أي لدى فقدان القوة الرادعة.‏
                            فالقوة لا توقف زحفها إلا قوة، وما أخذ من حق بالقوة لا يعيده إلاّ تأثير قوة! إن سلماً وإن حرباً؛ وتاريخ الأمم حافل بالصراع من أجل الحقوق، ولكن لا يوجد في التاريخ إلا استثناءات لا يعتد بها، أعاد فيها قوي حقاً لآخر تحت تأثير الحكمة ومحبة السلام، وما يتم من ذلك دون حروب يتم حتماً تحت تأثير موازين القوى وحساباتها.‏
                            وانطلاقاً من ذلك، وبناء على تجاربنا مع العدو الصهيوني عبر تاريخ الصراع المرير المديد، واستناداً إلى مسيرة "السلام" الخائبة التي بدأت رسمياً منذ مؤتمر مدريد، نرجح أن استعادة حقوقنا المغتصبة وأراضينا المحتلة من قبل الكيان الصهيوني لا تتم بغير حرب، والحرب لا تتم من دون امتلاك لأدواتها وفي مقدمتها القوة بأنواعها.‏
                            فهل نملك أدوات الحرب وعددها والقدرة على خوضها؟!‏
                            إن مؤشرات ميزان القوى بين العرب والكيان الصهيوني تشير إلى امتلاك العرب لقوة تقارب قوة العدو في مجال الأسلحة التقليدية؛ وهناك تفاوت لمصلحة أحد الطرفين في بعض الأسلحة. أما الأسلحة والمعدات وأنواع القوة الأخرى التي تدخل في مجالات ما هو غير تقليدي من الأسلحة: أي تلك التي توصف بأسلحة التدمير الشامل، فإن العدو يملك منها ما لا نملك، وعلى رأس ذلك السلاح النووي؛ كما يملك الأسلحة الكيمياوية التي يملك بعض العرب شيئاً منها، وله في مجال أقمار التجسس والتصنيع الحربي، ووسائل الاتصال، والقدرة المعلوماتية الحديثة ما يتفوق به على العرب؛ وإذا أضفنا إلى ذلك الدعم غير المحدود الذي تقدمه الولايات المتحدة الأميركية له، وما يقدمه الغرب له عند الضرورة، وقدرة رأس المال والإعلام المهيأة لتعزيز قدرته، أدركنا أن ميزان القوى مختل لمصلحة الكيان الصهيوني.‏
                            وتتجسم هذه الفجوة بيننا وبينه في ضوء المعطيات الآتية:‏
                            1- إن ميزان القوى الذي تُقدَّم لنا مؤشراته يقوم على ما يملكه العرب من مقومات القوة العسكرية في مقابل ما يملكه الكيان الصهيوني، ولكن العرب ليسوا رأياً واحداً وقراراً واحداً وقلباً واحداً في الحرب، ولم يكونوا كذلك في أية معركة خاضتها بعض الأقطار باسم القضية وحق الأمة ضد العدو الصهيوني. وعلى ذلك فإن الحساب ينطوي على خلل، وتقوم به مراكز الدراسات العسكرية والجهات المعنية بهذه الأمور لإحداث المزيد من التضليل ولإيجاد مبررات أكثر لدعم قدرة الكيان الصهيوني القتالية، وتعزيز عدوانه واستيطانه ومشاريعه التوسعية.‏
                            2- إن العرب لا يملكون مصادرهم المضمونة من الأسلحة التقليدية؛ فهم لا يصنعونها من جهة، ويعتمدون في تأمينها على الغرب صاحب القرار والموقف المنحاز لمصلحة العدو الصهيوني من جهة أخرى. وعلى ذلك فإن الخلل سيبقى مستمراً في مجال تأمين الأسلحة التقليدية وصيانتها وتحديثها ما لم يملك العرب قدرة على التصنيع الحربي تمكنهم من تحرير قرارهم بتأمين مطلق لاحتياجاتهم، ولن يتأتى لهم ذلك من دون قرار سياسي وقدرة اقتصادية وتحالفات متينة تمكنهم من نقل التكنولوجيا وتوطينها في أرضهم وقيادتها - في كل مراحلها- من قبل أبنائهم.‏
                            3- إن العرب لا يأخذون بخيار القوة لتحرير الأرض، ويأخذون بخيار التسوية أو التصفية وما إلى ذلك من تعابير تدل على توجهات ثابتة: أو استراتيجية كما تقول قراراتهم وعليه فإن مجرد التوجه الشامل نحو امتلاك قوة تعزيزاً لأحد اختياري الحسم: سلماً أم حرباً، غير موجود في صلب القرار والإرادة لدى الأقطار العربية بقدر متوازن وبشكل مستقر وبتوجه ثابت.وهذا بحد ذاته يجعل التوجه نحو ذلك الاختيار الحيوي مفقوداً أو ضعيفاً إلى درجة الهزال.‏

                            وهذا كله، في نهاية المطاف، يجعل ميزان القوى مختلاً- على أرض الواقع وفي صلب التوجهات السياسية والفكرية والاستراتيجية العربية- لمصلحة العدو الصهيوني الذي يعزز قدراته القتالية في كل ساعة ويعزز صناعاته العسكرية، التقليدية وغير التقليدية، وهو يتبجح بالسلام وبتوجه ثابت نحو السلام.‏
                            ولا نجد في منطقه ذاك خروجاً على طبيعته، ولا تراجعاً عن برامجه المعلنة، ومشروعه المستمر: فطبيعته عدوانية عنصرية، وبرامجه الاستيطانية مستمرة عبر خطة واضحة لإسكان خمسة عشرة مليوناً في الأرض العربية المحتلة وتلك المرشحة للاحتلال أو الاستيطان، ومشروعه الاستعماري ماضٍ نحو أهدافه في الهيمنة على الوطن العربي أمنياً وسياسياً واقتصادياً. وسواء تحقق ذلك بالحب أم بالسلم، فهو يريد تحقيقه على أرضية امتلاك القوة وتعزيزها؛ وذاك منطق يستفيد من قراءات للتاريخ على أرضية رفض للأخلاق واستهتار بالحقوق المشروعة للشعوب، وأخذٍ بمقولات حق القوة، وإزراء بقوة الحق وما يستند إليه الحق من أخلاقيات وروحانيات.‏
                            وهذا الواقع الذي يسعى بأنياب وأظافر، ويجرحنا بشفراته صباح مساء، ويجعلنا ننزف كل يوم، وتختطف من بيننا أرواح كل يوم، وتستنزف طاقتنا على غير هدى في كل لحظة؛ هذا الواقع يجبرنا على مواجهة شق جوهري من السؤال الذي طرحنا: أعني: هل التفكير بالحرب تفكير له ما يسوغه في عصر تعلن فيه القوى الفاعلة والمؤثرة في سياسة العالم وقراره أنه مضى زمن الحرب؟!‏
                            إن الحقائق المحيطة بنا، وما يجري فعلياً على أرضنا، أرض الأمة العربية كلها، وما يخطط لنا؛ كل ذلك يشير إلى أن الحرب أو الابتزاز باسمها، أي التهديد بالقوة وإحداث شعور بضرورة الاختيار بين القهر أو الموت؛ تحت تأثيرها، من الأمور القائمة والمستمرة، ولا يفيدنا فعل النعامة شيئاً، فرأس في الرمل وعينٌ مغمضة لا تعنيان غياب الجسم الحي المكشوف تحت الشمس.‏
                            إن الحرب، أو تحقق نتائجها تحت ظلها الأسود، أمرٌ مفروض علينا؛ وإن الحرب لم تلغ من التاريخ البشري الراهن، وإن القهر والاستغلال والنهب وحتى القتل الذي يتم باسمها أو تحت مظلتها من الأمور المستمرة في عالم اليوم الذي يعاد ترتيبه تحت تأثير القوة ولمصلحة من يملكها ومن اشتط كثيراً في توظيفها ليحقق أطماعه ومصالحه وشهوة التسلط لديه.‏

                            وإذا كانت الحرب مستمرة ضدنا بأشكال مختلفة، وتشن علينا يومياً: سراً وعلناً، فما معنى أن نبتلع الوهم الكبير الذي يرمي إلى تخديرنا للفتك بنا، ونسكت على الكذبة التي تكبر وتتدحرج في شوارعنا ومعارج نفوسنا، وتزداد ثقلاً واتساخاً كل يوم، وتخنق الأمل والإرادة في أعماقنا؟!‏
                            إن معناه ألا نستعد لمواجهة ما يراد بنا، وأن نخضع لما يراد لنا، وأن نقدم ما يطلب منا، وأن نزداد تهافتاً وضياعاً وعجزاً، وأن نغرق تماماً في أعماق التيه، وأن نخسر العامل الأهم: عامل الزمن، ليحقق أعداؤنا تفوقاً نهائياً ونرتمي نحن في مستنقع استسلام نهائي.‏
                            إن الحرب النفسية والإعلامية والثقافية والسياسية والاقتصادية مستمرة ضد أمتنا، ومستمر ضدها النخر والتخريب والتفتيت، في الوقت الذي يزداد فيه قضم الأرض ونهب الثروات، والسيطرة على القرار، وتعزيز الحضور الفعلي للقوة العسكرية الغربية- الصهيونية بأشكال مختلفة؛ كما تستمر الحرب الساخنة، والحرب السرية القذرة ضد من يقاومون المشروع الصهيوني واتفاقيات الإذعان ووجود الاحتلال ومشاريع الغرب لتخريب البُنَى العربية.‏
                            الحرب مستمرة بكل الأشكال وغيابنا أو تغييبنا عن حقائقها هو أعتى أشكال تلك الحرب، وعلينا أن نستيقظ لنتخلص من ذلك الكابوس ولنحس الرؤية.‏
                            إننا لا نعشق الحرب، ولا نريدها، وليست لنا أطماع مرضية وتطلعات طغيانيَّة، نحققها بواسطتها، ولكنها مفروضة علينا من الطغاة والمستعمرين والعنصريين والحاقدين على أمتنا وقوميتنا وعقيدتنا، والمنكرين لتاريخنا ولدورنا الحضاري.‏
                            بقي أن نسأل بعد ذلك: ما هو الثمن؟! وهل هناك أمل؟! وهل من جدوى لما قد نأخذ به من توجه؟! وعلى عتبة هذا التساؤل أقول: الإنسان ليس مجرد معدة، والأمم ليست قطعاناً، والحياة ليست كأي نوع من الوجود، وحضارات الأمم وعقائدها وشخصياتها الثقافية ليست غباراً؛ والوجود الآمن والكريم لفرد أو مجتمع أو وطن أو أمة لا يتحقق في هذه الغابة البشرية من دون ثمن؛ وما لا يريد أن يدفع ثمن الحرية والكرامة والأمن والحضارة سيجد نفسه خارج ذلك كله، ويمكن أن يعيش عيش السائمة، وهو الذي يقرر ويختار، ولكل اختيار قيمة وثمن.‏
                            والثمن قد يكون باهظاً، ولكن الأمل موجود لمن يقرر أن يدفع ثمن الوجود الحي والكرامة؛ فالإنسان لا يخوض صراعاً من أجل أهداف إنسانية مشروعة دون ثمن ودون أمل؛ أما موضوع الجدوى وسائر التبعات، فلذلك مجال آخر إن شاء الله.‏

                            دمشق 14/5/1997‏

                            الأسبوع الأدبي/ع559،561//3،17/آيار/1997.‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              التـهديد والتحدي
                              الكيان الصهيوني يطلق تهديدات متتالية ضد سورية، ويعزز قدراته القتالية وتحالفاته الاستراتيجية في الوقت الذي يتابع فيه عمليات التوسع والاستيطان؛ ويقوم بمناورات عسكرية يعد لبعضها بتعاون وطيد مع القوات التركية والأميركية .‏
                              ويركز في هذه الأيام، التي يحيي فيها ذكرى الكذبة - الأسطورة، ذكرى إبادة " ستة ملايين "يهودي على أيدي النازيين، يركز على امتلاكه قوة عسكرية وأسلحة ذات قوة تدميرية شاملة، وعلى حقه في أن يمتلك من ذلك الكثير لأنه بهذه الوسيلة استطاع أن يفرض وجود " إسرائيل " وأن يفرض سلاماً على بعض العرب، كما يقول بملء الصوت، وأن هذه الوسيلة: القوة هي الكفيلة بجعل الآخرين ينصاعون لمعطيات العصر " الإسرائيلي " ومقولاته وسياسته.‏
                              وينبغي ألاّ نضخم ذلك التهديد إلى حد التهويل والفزع، فنحن نعرف أهداف العدو وحروبه النفسية، ونعرف جيداً أسطورة الجيش الذي لا يهزم وكيف انهزم في حرب تشرين. وكان يمكن أن تكون هزيمته نهائية لولا الدعم الأميركي المنقطع النظير في تلك الظروف، وما بيّته السادات من خطط ترمي إلى تحريك القضية وليس إلى تحرير الأرض العربية المحتلة وحسم الصراع مع العدو لمصلحة الأمة .‏
                              نعم ينبغي ألا نضخم ذلك التهديد، فلدينا خبرة وقدرة وثقة بالنفس والحق، ولكن ينبغي أيضاً، وبالقدر ذاته من الأهمية والاهتمام، ألا نقلل من شأن ذلك التهديد ومما يقوم به العدو من إعداد واستعداد وتهيئة لمناخ سياسي وإعلامي يكون ملائماً لتحقيق خططه وأهدافه، ولا سيما جهده الذي ينصب على موضوع تطوير الأسلحة وإنجاز البرامج العلمية والعسكرية التي تعزز قدراته النووية وغير النووية وتمكنه من امتلاك أسلحة تؤمن له تفوقاً مطلقاً ورداً محكماً على ما يفترض وجوده من أسلحة لدى (الغير) .‏
                              وهنا تبرز بإلحاح قضية فضح توجهات العدو التوسعية والعدوانية وتعرية ما يرمي إلى تحقيقه من أهداف وخطط من جهة؛ وإيجاد مصادر إسناد وتسليح ودعم عربية ودولية تمكننا من حشد طاقة لا غنى لنا عنها لرد كل عدوان محتمل ومواجهة التهديدات بثوابتنا المبدئية وحقوقنا التاريخية.‏
                              إن التسيق العربي والتضامن ولو في حدوده الدنيا وقيام مسؤولية قومية في كل موقع قادر على الأداء، كل ذلك لابد من التركيز عليه، لأن حلقة الأصدقاء تحمي وتعزز الثقة والقدرة.‏
                              بعد أسابيع يقيم العدو الصهيوني مع حليفه التركي والأميركي مناورات بحرية في المتوسط، ولا يخفى على أحد أنها موجهة لتهديد سورية ولاستعراض قوى بحرية عملت تلك القوى على تطويرها لتؤدي دوراً عملياتياً وسياسياً في الضغط على جبهة لا تتوفر لها إمكانات الأسطول الأميركي والغواصات النووية التي حصلت عليها " إسرائيل " من ألمانيا / ثلاث غواصات / بعد حرب الخليج الثانية، وأسلحة بحرية أخرى من مصادر متعددة.‏
                              وفي جبهة البر والجو من الشمال والجنوب يعمل العدو الصهيوني على حشد قوى في الهجوم والدفاع، بالتعاون مع تركيا والولايات المتحدة الأميركية؛ يرمي إلى جعلها مؤثرة تماماً في المواجهة ليس في سورية فقط وإنما في دول قد تفكر بمساعدة سورية مثل إيران .‏
                              وهذا التخطيط العدواني يبيّت ضربة محتملة تبدأ من لبنان أو من أي موقع آخر ليجبر سورية على القبول بما لا يمكن القبول به، ويرمي إلى أن يجعلها معزولة وعاجزة.‏
                              لقد رد الرئيس الأسد على هذا التهديد بثقة في مؤتمره الصحفي الأخير مع الرئيس مبارك في القاهرة، وقال :" إن سورية لم تشعر بزلزال ولن تشعر به " وهذا هو جوهر الثقة الذي ننطلق منه، ولكن العدو المدجج بالأسلحة لا يكتفي بالتهديد، ولا يتوقف تهديده عند تطلع محصور بإملاء مواقف وسياسات، وإنما يذهب في الأهداف والتطلعات إلى حد منعنا من امتلاك أي سلاح وتهديدنا بالتدمير بحجة أننا نمتلك أو نعمل على أن نمتلك أسلحة كيميائية، في حين يمتلك هو الأسلحة النووية ويطور الصواريخ والطائرات كما يمتلك الأسلحة الكيميائية.‏
                              وعند هذه النقطة نجد أن الأمر لا يتوقف عند حدود الصراع الحالية، عند الأرض المحتلة والمطالبة باستعادتها، وإنما يمتد ليشمل المستقبل. فالعدو يريد أن يحرم سورية وأي بلد عربي أو إسلامي من امتلاك سلاح استراتيجي رادع في المستقبل سواء أكان ذلك على أرضية السلم أم على أرضية الحرب .. والتالي أنه يريد ألا تقوم لأحد قوة في المنطقة ليبقى الجميع قيد حصاره وتهديده وسيطرته المطلقة.‏
                              وهو يرمي إلى منع أي دولة عربية أو إسلامية، لا سيما سورية، من امتلاك قوة تمكنها من التفكير مستقبلاً بالخروج على الهيمنة والسيطرة الأمنية الإسرائيلية، ليجبرها على أن تكون جزءاً من أدوات العصر الصهيوني مستقبلاً.‏
                              فالرهان إذاً ليس على الحاضر، واستعادة ما احتل من أرض وما انتهك من حقوق في الماضي. إن الصراع يشمل المستقبل كله، ويشمل تخطيطاً شاملاً للسيطرة على الاحتمالات كلها التي تكمن في أسرار الغيب .‏
                              وهذا الأمر يطرح الموضوع علينا كعرب بشكل واضح وسافر لنختار الاختيار الذي يتوقف عليه وجود نوعي لنا، وضمان لحق أي حق ننادي به، كما يتوقف عليه كل ما يتعلق بالكرامة والشخصية والحضور الفاعل بين الأمم .‏
                              فهل نفلح في مواجهة على أرضية العلم والإيمان وامتلاك مقومات القوة وأدواتها، تلك التي لا يقوم وجود فاعل من دونها ؟!.‏
                              السؤال بثقله، والتحدي بأبعاده جميعاً، ملقيان علينا. على عقولنا وضمائرنا..على وعينا وانتمائنا القومي...على وجودنا التاريخي، وتطلعنا المستقبلي كله. فما بين التهديد وتحدي التهديد : نكون أو لا نكون .‏

                              دمشق 6/5/1997‏
                              الأسبوع الأدبي/ع560//10/آيار/1997.‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                أسئلتنا الجذرية وأجوبتنا المسؤولة
                                "رزمة أوسلو تفككت" على حد تعبير مارتن انديك سفير الولايات المتحدة الأميركية في الكيان الصهيوني، والذين يرفضون لملمتها وإنعاشها ليسوا الفلسطينيين الذين وقعوها، بل "الإسرائيليون" الذين فرضوها ثم رفضوها بعد أن حققوا أغراضهم منها؛ وعلى رأس ما حققته لهم من أغراض:‏
                                أ- اعتراف معظم العرب "بإسرائيل" رسمياً أو ضمنياً.‏
                                ب- تبدل الموقف الدولي من الكيان الصهيوني على أرضية ذلك الاعتراف والإعلان الذي مهد له، وهو القائل بأن القضية الفلسطينية سويت وأن "السلام" حل في فلسطين، وبين العرب والصهاينة أيضاً.‏
                                جـ- انكشاف البيت الفلسطيني من الداخل أمام الكيان الصهيوني، ولا سيما بنية منظمة التحرير، وكذلك البيت العربي الذي ازداد تداعياً بعد تدخل "إسرائيل" المباشر في شؤونه.‏
                                ولأن "إسرائيل" ومِن ورائها الولايات المتحدة الأميركية، اكتشفت نقاط الضعف في الأشخاص والمواقع والسياسات والعلاقات والتوجهات /عربياً/ فإنها أخذت تعيد النظر بحساباتها وسياساتها على أرضية تعزيز الصهيونية: نظرياً وعملياً.. روحياً ومادياً، وتحقيق نقلة نوعية سريعة في الأداء الاستعماري ضمن هذه المرحلة من مراحل المشروع الصهيوني.‏
                                وهكذا تسارعت أعمال ومطالب "إسرائيلية" منها:‏
                                1- توسيع الدائرة الجغرافية للقدس والإسراع في تهويدها، وإخلائها من سكانها من العرب إن أمكن.‏
                                2- التمهيد لإحداث خلخلة أو زلزلة في الأبنية العربية: الإسلامية والمسيحية في القدس، ولا سيما المسجد الأقصى، وذلك تمهيداً لإقامة الهيكل في الذكرى الألفية الثالثة لما يسمونه "مدينة داود".‏

                                3- الاستيطان السرطاني في مناطق الضفة الغربية، وامتلاك الأراضي وهدم البيوت الفلسطينية.‏
                                4- جعل عربة الحقد والموت تدور داخل المجتمع الفلسطيني بفعل سلطة الحكم الذاتي حيث يطلب من السلطة إثبات قدرتها ومصداقيتها في القضاء على التيار الفلسطيني المناوئ لأوسلو داخل فلسطين ثم خارجها، وتحول صراع الفلسطينيين التاريخي ضد العدو الصهيوني وتحويل بنيانهم النفسي والوجداني وكذلك صراعهم من التمركز حول القضية الفلسطينية ومطلب التحرير وتقرير المصير بحرية واستعادة الأرض والحق والكرامة؛ إلى صراع داخل المجتمع الفلسطيني.‏
                                - سلطة ومعارضة، وحدة وتعدد، عسكر وحرامية..الخ- للوصول بالأجيال الفلسطينية إلى نوع من الإلهاء والإحباط والنسيان في آن معاً.‏
                                وإذا نجح الكيان الصهيوني في تنفيذ الأعمال العاجلة المدرجة على جدول أعمال الحكومة في هذه المرحلة، وكذلك في تحقيق التحول في توجه المجتمع الفلسطيني واهتماماته؛ - والقرائن تشير إلى أنه سينجح في ذلك كله مع وجود استعداد غير محدود لدى سلطة عرفات لاستبدال القدس بمطار تحت السيطرة الإسرائيلية التامة يقلع منه بطائرة ويهبط فيه- إذا نجح في ذلك فإنه سيقسم المجتمع الفلسطيني نهائياً إلى قسمين أو أكثر، لكل قسم منه سياسات وتوجهات واهتمامات وبرامج مغايرة لتلك التي للآخر أو مناقضة لها، مما يؤسس لصراع فلسطيني- فلسطيني وفلسطيني- عربي، وعربي- عربي حسب الدعم والولاء والتبني، وهذا هو المطلوب صهيونياً وأميركياً.‏
                                وعلينا /فلسطينياً وعربياً/ أن نعي ذلك وندركه جيداً، وأن نواجه هذا الواقع من جهة، وذاك الرهان الصهيوني من جهة أخرى.ولن نصل إلى نتائج إيجابية- فيما أرى وأقدر- على الصعيدين: الآني والمستقبلي، التكتيكي المرحلي والاستراتيجي المبدئي، ما لم نطرح على أنفسنا أسئلة جذرية نتحمل مسؤولية الإجابة عنها بإدراك تام شامل لتبعات ذلك واستحقاقاته ومستلزماته.‏
                                وعلى رأس تلك الأسئلة:‏
                                - هل أوسلو- حتى لو انتعشت هي حل ممكن ومقبول فلسطينياً وهي تنص على عدم إمكانية عودة أكثر من نصف الشعب الفلسطيني إلى فلسطين /عرب 48و67/؟! وهل أهل أوسلو يمكن أن يعودوا إلى حضن الثورة وطريقها إذا اكتشفوا خيبتهم وواجهوها؟! وهل يكونون قيادات ثورة ما بعد أوسلو- إذا قامت- أم يلتحقون بقياداتها؟!‏
                                - هل المشروع الصهيوني تغير أو يمكن أن يتغير سواء في سياسات العمل أو الليكود، ليتوجه نحو سلام حقيقي في المنطقة؟! وما هو السلام الحقيقي أصلاً؟! هل هو ذاك الذي يعطي فلسطين للصهاينة ويبقي للفلسطينيين سلطة جمع القمامة وقمع الشارع أم هو سلام يستقر فعلياً باستقرار الشعب الفلسطيني كله سيداً فوق أرضه التاريخية؟! وهذا يقودنا إلى سؤال أكثر جذرية وهو: هل يمكن التعايش أصلاً مع المشروع الصهيوني- العنصري- الاستيطاني، فلسطينياً وعربياً؟! وهو مشروع يهدف إلى تحقيق غاياته الاستعمارية الكبرى عبر نقاط مرحلية مدروسة؟!‏
                                وإذا كان الجواب سلبياً: أي أنه لا يمكن التعايش مع الكيان الصهيوني ومشروعه الاستعماري، فما هو السبيل لمواجهته؟! هل يكون ذلك بالرفض الكلامي ومضغ العجز ومراكمة التخلف والذل، أم باختيارات أخرى تمكن من السير في طريق الإعداد والاستعداد لمواجهة واعية بأدوات علمية وإمكانات عملية تحقق نتيجة إيجابية ولو بعد قرن من الزمان؟!‏
                                ومن أين نبدأ تلك المسيرة، مسيرة المواجهة؟! هل نبدأ من الشارع العربي الراهن المخترق بأشكال مختلفة، اللاهث وراء الأمن من جوع وخوف وسراب الحرية والكرامة، الغارق في أزمات وإحباط وصراعات شتى؟! أم يكون ذلك ابتداء من المدرسة والطفل والجيل الصاعد؟! ومن الذي يشرف على المدرسة والطفل والجيل أليس هم الغارقون في شواغل الوضع الراهن ومآسيه وصراعاته وفساده؟!‏
                                إذن؟! هل أسئلتنا تسد المنافذ أم أنها تدقق في الوقائع لتجد المخرج؟ وهل تراكم اليأس أم تبحث عن الأمل بواقعية جارحة؟!‏
                                لن يأتينا الخلاص إلا من أنفسنا ومن داخلنا، وكل خلاص مستورد له ثمن، وقد يكون الثمن أشد فداحة من الثمن الذي يعرض علينا الآن في محنتنا الحاضرة وامتحاننا في صراعنا مع العدو الصهيوني.‏
                                لن يكون الخلاص إلا من داخلنا، بالاعتماد على وعينا وإيماننا وإمكاناتنا وصداقاتنا وثرواتنا؛ ولكن كيف السبيل إلى بداية نظيفة تمهد طريق السلامة والخلاص؟!‏
                                لا أرى سوى الاعتماد على دور الثقافة التي تشكل رافعة وعي معرفي منقذ من جهة ومسؤولية قومية عن الحاضر والمستقبل وأمانة التاريخ من جهة أخرى، ولا أرى سنداً ومحشِّداً للثقافة في أدائها، وعامل مصداقية لها سوى المقاومة المستمرة للعدو، بالسلاح والوعي، حيث تجدد المقاومة استمرار الحق والتعلق به وتشد الوجدان القومي وتنبهه وتحيي الذاكرة وتغنيها، وتستلهم الثقافة من المقاومة أداءً نوعياً وإبداعاً في المجالات كلها بغية الوصول إلى استعادة الثقة ومواصلة السير على طريق العلم والعمل به من أجل امتلاك القوة المحررة، وتحرير الإرادة الخلاقة التي توظف القوة توظيفاً بناءً.‏
                                إن لدى شعبنا الإيمان والقدرة والأمل، وما زالت هناك عناصر كثيرة قادرة على أن تبدأ السير في طريق البناء الصحيح، نعم لقد تراكم الردم فوق جوهر كثير من النفوس ولكن ذهبها لم يصدأ و لن يصدأ.وعلينا أن نختار بسرعة، ونعرف معنى اختيارنا وتكاليف ذلك الاختيار، والمدى الذي علينا أن نذهب إليه والثمن الذي لا بد من دفعه نتيجة ذلك الاختيار.‏
                                ولنسر من بعد بخطاً ثابتة، بطيئة ربما، ولكن ثابتة، لا تراجع فيها ولا كساح، لنقطع مفازات لا بد من قطعها بالنسبة إلى الأمم التي لا تقاس أهدافها وأعمار صراعاتها بأهداف الأشخاص وعمر صراعاتهم وقصر نظرهم وما يصابون به من إرهاق؟! الأمة تاريخ ممتد في الماضي ومستمر في المستقبل، وهي شعب وحضارة، أجيال وأرض، شخصية وكرامة، وعليها أن تهيئ لماهيتها وشخصيتها وبقائها قوة تحمي وتحرر وتحفظ الثقة والكرامة، وليس لنا من خيارات منقذة سوى خيار الدفاع عن البقاء والحق، وامتلاك وسائل ذلك الدفاع وأدواته، والاقتناع بإمكانية تحقيق ذلك والعمل من أجل تحقيقه، وإلا فهناك ظلام مريع ينتظر من يتطلعون إلى غد مشرق، وهناك ذل لا حدود له أمام من يتعلقون بالكرامة ولا يملكون مقومات تحقيقها والحفاظ عليها.‏
                                فلنلق أسئلتنا الجذرية، ولنبحث بشجاعة عن أجوبتها، ولنتحمل مسؤولية الاختيار، فليس أمامنا سوى تلك المواجهة، وكل تأخير لها وللأداء على طرقها خطأ فادح ينطوي على خطر أفدح.‏
                                دمشق في 20/5/1997‏

                                الأسبوع الأدبي/ع562//24/آيار/1997.‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X