إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

امبراطورة الخراب العربي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • امبراطورة الخراب العربي

    امبراطورة الخراب العربي

    - جان الكسان -

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: امبراطورة الخراب العربي

    سلمى والحجارة
    حجارتهم تشج رأسي.. تقتلع كبدي.. تحكُّ في عيني بذور التراخوما القديمة، تلوّحني شلواً في ذراع طفل من غزّة، أو مقلاع يافع من نابلس.. توقظني من إغفاءة السدور التي امتدت أربعة عقود من الزمن.. من الثامنة والأربعين حتى الثامنة والثمانين..‏
    أربعة عقود وأنا قابع كالمقهور.. أقضم الشعارات، واعدُّ جنازات الشهداء، وسلمى تمد رقبتها المعروقة. وبين أصابعها دخينة فاخرة بثمن وجبة الخبز اليومي لأسرة كادحة وهي تقول:‏
    -. صدعت رأسي بحديث السياسة.. " فخّار يكسّر بعضو ".. ويتراكم الفخّار المتكسر في الدروب العربية أكواماً.. تلالاً. جبالاً.. على مدى أربعة عقود.. يسد الطريق والأفق، ويصبح أسواراً بيننا هنا، وبينهم هناك.. بين الأرض المحتلة والأرض المهددة بالإحتلال.. من سد الطبقة إلى سد أسوان.. من الفرات إلى النيل.. من عروش السلاطين على الخليج إلى شواطئ أغادير على المحيط.‏
    فخّار يكسّر بعضه بعضاً.. وسيوف عربية تتقاطع ولا تتلاقى، ومضيفة مكشوفة الركبة تبيع الإبتسامات بالمجان على إرتفاع ثلاثة وثلاثين ألف قدم في الجو " للشقيق " المغادر أو القادم.. وعلى الأرض - في المطارات العربية.. يقف هذا " الشقيق " أمام كوّة (الأجانب ) وتُفتش جيوبه وحقائبه ورموش عينيه.. وسلمى ما تزال تدخن وتمد رقبتها المعروقة وتقول: صدعت رأسي بحديث السياسة.‏
    . . .‏
    أمس.. مرّت الذكرى.. مرت فاترة، بل مقتولة.. ذكرى مرور عشر سنوات كاملة عل استشهاد صبية القضية ورفاقها.. تسألون من هي؟. ومتى حدث ذلك؟ هل يهم الأسم والزمان والمكان..‏
    هي دلال سعيد المغربي.. فتاة من قطر ذبيح أسمه فلسطين، صبيّة طالعة من خيمة النكبة، من خيبة النزوح.. من جراح النكسة.. من خندق الثورة.. شقّت قلب الفجر.. اخترقت جدار الخوف، انطلقت مع رفاقها بروح الحكمة العربية القديمة القائلة: "آخر الطب الكي ". الكي ، بالنار .. وبالبارود، وبالغضب.. وبالمتفجرات.. وبالرفض.. وبالقنابل..‏
    سأعود عشر سنوات إلى الوراء.. إلى آذار العام الثامن والسبعين بعد التسعمئة و الألف ...شبّت دلال و الأرض حولها جراح تنزف، وصراخ لا ينقطع إلا ليرتفع أكثر.. جراح في القلب، والعنق، والخاصرة، وصراخ يتعالى هنا وهناك، ولا ينتهي.. صراخ الجارة فاطمة فوق جسد ولدها المسجى.. صراخ الجنين الذي أجهضت به أمه..والآخر الذي ولد.. والثالث الذي لم يولد.. صراخ الإذاعات العربية.. وصراخ الإغاثة من الإغاثة..‏
    أرادت ان تصرخ بدورها.. شقّت حنجرتها وسحبت منها الصوت، لكنه ظل حشرجة مخنوقة..‏
    وأعوام.. وأعوام...‏
    والجرح يتحول إلى دمّل كبير ينز صديداً وانتظاراً، والصراخ يتحول إلى دويّ يثقب الأذن والشغاف ولبّ العظام‏
    وأعوام.. وأعوام...‏
    وما أزال قابعاً كالمقهور، أقضم الشعارات وأعد جنازات الشهداء وأنا أتساءل:‏
    -.من إذن للمهمّة؟. من للقضّية: هي؟. أنا ؟.. هم؟. أنتم الذين سيأتون؟ هؤلاء الأطفال في الضفة و القطاع والجولان؟. الذين يوجهون اليوم حجارتهم إلى رؤوسنا قبل أن يوجهوها إلى خوذات جنود الإحتلال؟.‏
    قبل دلال ورفاقها، بعشر سنوات أخرى (( هل تعدوّن معي العقود إلى الوراء؟ )) عادت القافلة الأخيرة تعبر النهر مقهورة بعد أن سدت في وجهها الحدود العربية التي تزنّر الأرض المحتلة..‏
    كنت في تلك القافلة.. عبرنا النهر عائدين.. أما الأثقال الأخرى فقد ظلت هناك.. في الأرض المحتلة: الجثث والركام والصور التذكارية التي كانت معلقة على الجدران.. خرجت بجراحي النازفة، وبصورة حفرت في قاع رأسي لمازن وبقية الرفاق، يتهاوون قبلي في بحر الملح، وقد شدَّت رقابهم عنوة إلى حجر الطاحون..‏
    لا تصدقوا كلام الشعراء..‏
    لا تقولوا أن هذه الدماء التي تروي التراب ستورق أشجار الزيتون.. مات الزيتون في أرضنا منذ سنين طويلة.. وأصبح البرتقال - هل جاءكم حديث البيارات - مجرد كتل دائرية في الصناديق المصدرة إلى الغرب، موشومة بشارة العدو بالنجمة السداسية..‏
    كان ذلك يوم العبور.. ولكن في المسار المعاكس.. من الغرب إلى الشرق.. كنت آخر فرسان القافلة التي عبرت.. عدت مقهوراً أقضم الشعارات و أعد جنازات الشهداء في المخيمات المقصوفة، والبيوت المنسوفة. والأراضي المحروقة .‏
    عدت لأجالس سلمى، وانفراج ابتسامتها عن أسنانها التي صبغها الدخان ينقر عيني.. حتى ساقها العبلاء التي بدت من ثوب الحمام ، والتي كثيراً ما اثارت شهوتي وأعصابي ، بدت كساق راقصة متقاعدة.. كانت تداعب شعري وتحاول أن تقنعني بعدم جدوى ما نفعل.. أنا ومازن والرفاق، وكنت أحاول أيامها أن أقنعها بدوري بأننا ما نزال نقفز إلى أعلى في الوقت الذي بدأنا نهوي فيه إلى بئر بعيدة القرار..‏
    سأعترف.. ( هل جاء إعترافي متأخراً )، بأننا نحن الذين أردنا هذه المهمة الصعبة عن اختيار وتصميم.. المهمة التي تعاورتها جيوش العرب، وكتائب الإنقاذ، وسرايا المتطوعة، وخلايا المقاومين.. أردناها مهمة فدائيين يخرجون من الصف إلى المواقع المتقدمة، ولكننا فوجئنا بأننا مطالبون بالكثير ونحن محشورون في قواعد ضيقة، ومحاصرة، بأن نفّتح الأزهار الربيعية على سطح الماء الآسن في بحيرة تمتد عبر الصحارى التي حولنا..‏
    مازن.. كان في موقع القدوة.. منذ سنين بعيدة وهو في هذا الميدان.. منذ أن كنا أطفالاً ينقسم صفنا إلى قسمين: العساكر واللصوص.. كان خير قائد للعساكر، وكم من مرة هزمنا، وكنت بين عساكر فئته - لصوص الحي المجاور‏
    وكبرنا.. وكبرت همومنا..‏
    دخلنا الجامعة وظل مازن في موقع القدوة.. وعندما أصبحنا معلمين، خيّل إلي أنه انتهى واحداً من الذين يبحثون عن الرغيف واقفين أمام السبورة السوداء يستعيدون معلومات محفوظة أمام التلاميذ..‏
    وفي يوم.. قذف مازن السبورة السوداء بقطعة الحوار، وخرج من المدرسة إلى غير رجعة، وخرجت بعده بأيام إلى حيث ذهب، إلى هناك.. كنت دائماً تابعاً لظلّه الشجاع..‏
    تسللنا تحت جنح الظلام.. عبرنا النهر بشجاعة على الرغم من البرد القارص.. وتغلغلنا بين صفوفهم.. أصبحنا تحت جلودهم، فجرّنا أنفسنا قبل أن نفجرّ القنابل.. تراكضوا أمامنا مذعورين في جميع الإتجاهات..‏
    ماذا لو كانت الجراح في صدورنا - نحن أيضاً - التأمت؟. هل تموت القضيّة؟. آه لو تعرف سلمى كم هو مؤلم معنى اليأس في محاولة الإنسان القفز إلى أعلى وهو في حالة سقوط إلى بئر بعيدة القرار..‏
    ماذا لو مات الصراخ في الصدور النحيلة والحناجر المتعبة؟. ماذا لو تركت دلال سعيد المغربي ورفاقها للزورق الذي تسللوا به في فجر ذلك اليوم البارد، مهمة صيد الأسماك فقط، ألايلعننا حتى السمك؟. ألا يلعننا أبناؤنا؟ ألا يستمر الحوت في مطاردتنا حتى يبتلعنا نحن والزورق؟.‏
    ويمضي الزورق.. زورق من نوع جديد، لا كزوارق الصيد، ولا كزوارق خفر السواحل، ولا كيخوت الملوك والأمراء‏
    كان يحمل الغضب.. والقنابل، وكان يحمل امرأة وأحد عشر رجلاً.. رموا همومهم الصغيرة بين مسارب المخيم، وخرجوا في مهمة صعبة، كان عليهم أن يصطادوا الحوت.. أن يشكوا خاصرته بالسهام.. أن يفجروا البارود في كيانه، أن يمنعوه من مطاردتهم.. أن يطاردوه هم بدل أن يطاردهم..‏
    كان الحوت ينتظرهم في كل مكان.. في المياه الإقليمية.. على الساحل.. فوق الطريق الاسفلتيه.. في السيارات العسكرية، في السيارات المدنية.. والأخرى العابرة.. وعلى الحواجز..‏
    وتقدمت دلال.. وتقدم رفاقها.. حققوا عملية اختراق عمودية للشريط الساحلي على طول فلسطين وهم ينشدون لفلسطين.. فحين ركبوا الزورق كانوا قد أعدموا كدسة من برقيات الإحتجاج التي أرسلت عبر ثلاثين سنة إلى الأمم المتحدة وغير المتحدة.. أفّرغوا الحقائب من الأوراق الصفراء اليابسة والتعيسة.. من الخطب والبيانات والقرارات، وملأوها بالقنابل، وبدات عملية حك بذور التراخوما في العيون المقرحة، بحجر النار..‏
    أوقفوا العالم على رجل واحدة.. أعلنوا للدنيا أنهم ليسوا إرهابيين.. بل هم مواطنون من فلسطين، ركبوا زورقاً مطاطياً وعادوا إلى أرض الوطن.. إلى بيوتهم.. إلى بساتينهم، فمنعهم الغرباء وكان عليهم أن يصلوا إلى أرضهم ومنازلهم فاستشهدوا دون ذلك.‏
    هل علينا أن نتذكر أكثر؟. أن نستعيد قصصنا وقصائدنا وحكايات فواجعنا لنغفر أو نستغفر..؟.‏
    " على جدار ذلك البيت الذي تهدم حتى نصفه، كانت هناك صورة ما تزال معلقة، وقد مالت إلى جانب، ولكنها ظلت متشبثة بالجدار.. صورة رجل شيخ، في عينيه غضب، لا أدري لماذا خيّل إلي أن عيني صاحب الصورة كانتا باسمتين قبل أن تنهال تلك القذيفة على الجدار "..‏
    الأثقال الأخرى ظلت هناك.. الجثث، والركام، والصور التذكارية القديمة التي كانت معلقة على جدران البيوت ، وبقيت زهور قليلة طافية على الوجه الآسن للبحيرة الصحراوية العربية الوسيعة..‏
    هل هي أولئك الصغار الذين حمّلناهم هم المواجهة ودعمناهم بالقصائد والأناشيد والتصريحات؟.‏
    أطفال الحجارة.. أبطال الحجارة.. وآلاف العناوين الأخرى عناوين قصائد، وقصص، ومقالات، وتصريحات، وافتتاحيات وكلام.. وكلام...‏
    وما تزال الصحف تتحدث، وما تزال القصائد تعلن عن المنابر، وما تزال الخطب تهز الأثير، وتملأ شاشات الرائي، تسبقها رقصة ويعقبها نشيد، وما تزال سلمى تمد رقبتها المعروقة وبين أسنانها دخينة فاخرة بثمن وجبة الخبز اليومي لأسرة كادحة، وهي تقول: " صدعت رأسي بحديث السياسة، فخّار يكسّر بعضو ".‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: امبراطورة الخراب العربي

      العنق .. والأنشوطة
      السكين في الخاصرة، والأمل حرون، وليس في المرتجى الداني أو في الأفق المياسر، أي بشير للخلاص..‏
      في هذه اللحظة، تنهي سفينة فضائية دورة جديدة في المدار، وتشحذ سكرتيرة كاعب ابتسامة متجددة للمدير وتكشيرة للمراجعين.. ويستوي أحد أباطرة المال فوق أريكة مصرفية وهو يلوي عنق الخط البياني للبورصة العالمية، ويموت طفل في ساحل العاج من التجفاف.. ويحدق نيلسون مانديلا في تاريخ الصحيفة التي سرّبت إلى سجنه في بريتوريا فيرتسم على وجهه الكابي شبح ابتسامة وهو يحسب زمن اعتقاله الذي يقترب من أعوامه الثلاثين..‏
      ها أنتم ترون أنني " متابع " و " مطّلع ".. اعرف امور الدنيا، واستقرئ أحداث العالم، وأصحح أخطاء مذيعات التلفزيون.. يعتبرني اهل الحي مثقفاً، وتعتبرني زوجتي رجلاً خائباً لأنني أقرأ أكثر مما أعمل، وأستمع إلى الإذاعات حتى ( أصفّي ) آخر موجة على الأثير دون أن أكترث باعلانها اليومي عن خيبتي المزعومة وهي ترمي ثيابها الداخلية فوق الشراشف لتوحي بأنها في حال العري المستلقي والإنتظار الذي طال.‏
      السكين في الخاصرة، والأمل حرون، وأنا في غرفة فسيحة لها باب واحد مغلق، يقبع خلفه - هكذا أتخيل - الرجل المربوع المتين الذي يبدو وكأنه قد صبّ من الرصاص.‏
      لا شك في أن الدنيا قد تبدلت حتى في هذه الأماكن، فالغرفة التي اقتادوني إليها فسيحة، عالية الجدران، جيدة الإضاءة وليست زنزانة ضيقة، كما نقرأ في الروايات وفي قصص بعض الكتاب المتطرفين.. حتى الحارس، ليس ضخماً، ولا طويلاً، ولا حاد النظرات، صحيح انه يبدو متيناً وكأنه قد صب من الرصاص لكنه ليس شرساً، لم يحدجني بنظرة، ولم يصفعني، ولم يركلني.. ولم يقل لي " يا إبن ال... ".. حتى عندما قدم لي الشاي وضع الصينية أمامي بهدوء..‏
      ها انذا أعزّي نفسي بشكل الحارس، وطريقته في تقديم الشاي ولكن السكين ما تزال في الخاصرة.. أجل.. سكيّن.. ضربة غدر من يد مجهولة جعلتهم يستدعوني ويضعوني في هذه الغرفة منذ ثلاث ساعات دون أن يستجوبني مستنطق أو يجيب أحد عن سؤالي التقليدي: لماذا أنا هنا؟.‏
      هل تظنون انني لم أسأل الحارس هذا السؤال؟. ستقولون أنه لم يجبني ..‏
      بل أجابني..‏
      قلت له: أخي أرجوك لماذا استدعيتموني إلى هنا؟.‏
      أجاب بهدوء: منشان نضيفك شاي..‏
      ووضع أمامي فنجان الشاي وخرج.. يسخر مني (إبن ال.... ) هذه المرة انا الذي سيشتم..أنا سأقول له ( يا إبن ال... )...‏
      ولكن.. كيف يقدم لي الشاي في فنجان بلّوري؟.‏
      عادة.. في السجون.. وفي غرف التحقيق ( هكذا قرأت في الروايات وفي قصص الكتاب المتطرفين ) يقدمون للسجناء والمعتلقين أدوات من البلاستيك أو الألمنيوم، فالأدوات البلورية يمكن أن تصبح - اذا كسرت- مدىً مناسبة للإنتحار...‏
      يبدو أن تهمتي بسيطة، مجرد دسيسة رخيصة سرعان ما تنكشف، صحيح أنني أشعر كأن سكيناً قد طعنت خاصرتي غدرأ، ولكني لا أتصور انها طعنة عميقة يمكن أن تصل إلى القلب.‏
      كان علي ان أخطر أحداً بأنني استدعيت إلى هذا المركز، مختار الحي على الأقل، فليس هناك من يعلم بقصة استدعائي سوى زوجتي، وهذه لن تبادر إلى السعي لإنقاذي، فما حاجتها لي وأنا إلى جانبها في الفراش قارئ للصحف أو مستمع للإذاعة؟. وجاء الحارس بفنجان قهوة...‏
      لا.. هذه حرب أعصاب.. انها الأنشوطة التي يبدؤون بلفها عادة حول العنق.. صحيح أن بعض الكتاب يتطرفون أحياناً في رصد مثل هذه القصص، لكن موضوع حرب الأعصاب حقيقي، ينقعون المعتقل في غرفة مغلقة لساعات او لأيام، دون أية كلمة أو صفعة أو استجواب، يجلس في ظل الزمن الثقيل والأسئلة الملحة تحفر رأسه وهو يتكهن حول أسباب اعتقاله دون ان يصل إلى جواب، حتى إذا انهارت أعصابه اخذوه إلى المحقق شلواً متهالكاً، لا يصمد أمام " ضربات " الأسئلة الذكية المتواترة من المحقق المحنّك سوى لحظات يتهاوى بعدها.. و ( يعترف )...‏
      -. بماذا ساعترف؟.‏
      أقسم لكم أنني أتمنى لو أن هناك بحقي تهمة حقيقية، وأفضّل أن تكون سياسية، إذن لما خفت ولا توجّست شراً، بل كنت سأقابل المحقق بشجاعة ورباطة جأش، فأنا صاحب موقف ومبدأ، واصحاب المواقف والمبادئ.. يرحّبون بالمشانق أراجيح بطولة.. أراجيح بطولة؟.‏
      أين قرأت هذا التعبير؟. أين قرأته؟.‏
      أي.. تذكرت.. قاله احد شهداء أيار الذين شنقهم السفاح التركي جمال باشا...‏
      أراجيح بطولة.. يا له من تعبير رائع..‏
      وجاء الحارس..‏
      وقدم لي سيكارة..‏
      سيكارة أيضاً؟. لقد أكتملت الأنشوطة.. الشاي والقهوة والسيكارة.. لم يبق إلا تلويحة واحدة ويصبح العنق داخل الأنشوطة وينتهي كل شيء..‏
      ولكن.. لن استسلم.. لابدَّ من المدافعة قبل الإستسلام المحتوم، لابدَّ من سؤال آخر أطرحه على الحارس:‏
      -. اخي.. أرجوك.. أليس في هذا المكان رئيس؟.‏
      -. طبعاً..‏
      -. وهل هو الذي استدعاني؟.‏
      -. أجل‏
      -.-. وأين هو الآن؟.‏
      -. في الإجتماع..‏
      -. ومتى سينتهي الإجتماع؟.‏
      -. لا أدري..‏
      -. هل أستطيع أن أقابله؟.‏
      -. قال انه سوف يطلبك..‏
      -. متى؟.‏
      -. لا أدري..‏
      -. أخي أرجوك.. هل تعرف لماذا استدعيت إلى هنا؟.‏
      -. منشان نضيفك شاي‏
      وخرج الحارس، وتركني لهواجسي من جديد..‏
      هل هو المختار؟. هل هو صاحب الدسيسة؟.‏
      لا أظن ذلك، فالرجل بحاله.. آدمي.. محشوم، ويدعوني دائماً إلى كأس من الشاي في دكانه، ويحب أن يستمع إلى ( آخر الأخبار ).. ولكن هل كان يستدرجني في الكلام؟.هذا ليس معقولاً، فهو يعرف أنني أنقل أليه أخبار الإذاعة والصحف المحلية، فهو لا يقرأ الصحف، ولايستمع إلى الإذاعة، ولهذا يكتفي بما الخصه له من أخبار..‏
      من أذن صاحب الدسيسة؟.‏
      هل هو صاحب الزاوية اللغوية التي تقدم في التلفزيون؟ صحيح انني انتقدته في المقهى، وقلت أنني سأسعى لأحتل مكانه على الشاشة، ولكن الأمر كله كان مجرد مزاح، مّنْ أنا حتى أقدم برنامجاً علىشاشة التلفزيون.. انا رجل درويش، أستاذ لغة عربية متقاعد.. لافي العير ولا في النفير..‏
      إذن هي المذيعة...‏
      أجل.. المذيعة التي تخطئ كثيراً وانتقدها كثيرا، علنا، لا شك أن إنتقاداتي قد وصلتها. وانها هي التي أوقعت بي.. يقولون عنها أن ( إيدها طايلة ) وانها (مدعومة )..‏
      ولكن.. لماذا توقع بي؟.‏
      كنت أتوقع أن تشكرني، وان تتابع لدي دروساً خصوصية في اللغة حتى يستقيم لسانها وتنتهي من عثراته..‏
      لا.. لا.. لا أظن انها هي..‏
      من إذن؟..‏
      زوجتي.. ليس هناك أحد غيرها له مصلحة في سجني وتأديبي.. فوجودي بالنسبة لها " مثل قلته ".. لعلها تحاول الإنتقام لليالي الذل التي تنشر أمامي فيها ثيابها الداخلية على الشراشف لتعلن انها في حالة الإنتظار وهي تستلقي عارية في حين انشغل عنها بالتنقل بين صفحات الصحف وإذاعات العالم..‏
      ولكن.. ما نوع الدسيسة التي يمكن أن تدسها هذه المرأة الغبيّة الجاهلة، وكيف استطاعت الوصول إلى مثل هذه الأجهزة؟.‏
      ستقول لهم: أن زوجي يتحدث في السياسة؟.‏
      ها.. جميع الناس يتحدثون في السياسة. والحديث في السياسة ليس ممنوعاً.. ثم ان أرائي معروفة.. أنا - أولاً - ضد حلف الأطلسي بمكاتبه وجنرالاته واساطيله وخططه ومناوراته العسكرية المشتركة وغير المشتركة التي ينفذها هنا وهناك..‏
      وانا ضد السياسة العنصرية في العالم.. كما انني أناقش البيروسترويكا بموضوعية، على الرغم من انني لم أقل فيها الرأي الفيصل حتى الآن.‏
      ماذا أيضاً؟.‏
      أنا وحدوي من يوم يومي.. منذ أن كنت طفلاً أردد مع أقراني: (( بلاد العرب اوطاني )).. صحيح أن لي بعض الملاحظات على بعض التجارب والإتحادات والمحاور الوحدوية، ولكني أرى خلاص العرب في وحدتهم.. جميع الذين يجالسونني في المقهى يعرفون رأيي..‏
      وانا إشتراكي حتى العظم.. وانتقد أي مظهر بيروقراطي يمكن أن يعرقل المسيرة الإشتراكية، وأدعم أرائي بما تنشره الصحف حول هذا.. كلنا مطالبون بمثل هذا الموقف.. حتى بالنسبة للسينما، أنا مع سينما القطاع العام، وضد السينما التجارية، وضد سينما المقاولين.. صحيح أن تعبير ( سينما المقاولين ) ليس من بنات أفكاري، وصحيح أنني قرأته في إحدى المجلات لناقد سينمائي يتحدث عن السينما في مصر.. ولكنه تعبير دقيق وينطبق على سينما السبعينات والثمانينات‏
      ما لدى زوجتي لتدس عليّ؟.‏
      لن تكون دسيستها مقنعة إذا دخلت بها باب السياسة، لن يقبض أحد كلامها، فهي تظن ان مارغريت تاتشر ممثلة سينمائية، وإن وكالة " ناسا " نوع من البوظة، وإن " فليت ستريت " نوع من البطاطا المقلية المستوردة في علب أو أكياس؟.‏
      من هو صاحب الدسيسة إذن؟..‏
      سأعترف بأنني عاجز عن اكتشاف غريمي، ولكن السكين لا تزال في الخاصرة، والأمل حرون، وليس في المرتجى الداني او في الأفق المياسر أي بشير للخلاص.. صحيح أنني لست في زنزانة، والحارس ليس قاسي الملامح او حاد النظرات، ولكني أشعر بالإختناق، فهذه هي المرة الأولى التي اجد نفسي معها في مثل هذا المأزق.. فهل سيطول برئيس المركز الإجتماع؟.‏
      . . .‏
      في مكتب رئيس المركز، كان الرجل جالساً على كرسي دّوار يتحدث على الهاتف ويقهقه.. وعندما أدخلني الحارس عليه، أشار إلي بالجلوس وهو يتابع المكالمة..‏
      جلست متهيباً وانا أوحي بأنني لا أسترق السمع إلى ما يقول على الرغم من انه كان يتحدث بصوت مرتفع...‏
      أنهى المخابرة.. انكب على ورقة يقرؤها وقال دون ان ينظر إلي:‏
      -. آسف.. لقد أخرناك.. كان لدي إجتماع طارئ..‏
      -. سيدي بسيطة..‏
      -. ما أخبار السياسة عندك هذه الأيام؟.‏
      " بداية غير مشجعة.. عن أية سياسة يتحدث هذا الرجل؟."‏
      -. سيدي.. أنا....‏
      قاطعني وسأل:‏
      -. ما رأيك في سياسة بوش؟ أفضل من سياسة ريغان.. أم أسوأ؟‏
      -. سيدي أنا...‏
      -. أنا أمازحك.. دعنا من بوش وريغان، وقل لي: ما آخر خطأ التقطته على مذيعات التلفزيون؟.‏
      " ها.. بدأنا نقترب من الأنشوطة.. الدسيسة إذن من المذيعة "..‏
      وقبل ان اجيبه على سؤاله قال:‏
      -. زوجتي، مثلك مدرسة لغة عربية.. هي ايضاً تسجل على المذيعات والمذيعين أخطاء كثيرة..‏
      -. على كل حال، هي ليست اخطاء قاتلة..‏
      -. زوجتي ليست من رأيك، وفي رأيها أن جميع المذيعين والمذيعات يجب أن يتبعوا دورة لغة قبل الظهور على الشاشة او الجلوس إلى المايكروفون..‏
      (( لماذا لا تعتقل زوجتك إذن ))..‏
      -. سيدي.. على كل حال.. هذه وجهات نظر..‏
      -. نعود إلى موضوعنا الأول..‏
      -. تقصد موضوع السياسة؟. يا سيدي أنا لا أتكلم في السياسة ... أنا أتابع الأخبار من الصحف والإذاعات‏
      -. هذا ليس مهماً.. ثم أن ما تنشره الصحف وتبثه الإذاعات ليس دقيقاً في جميع الأحيان..‏
      -. صحيح.. ولكني من خلال التجربة أستطيع أن...‏
      -. على كل حال، ليس هذا موضوعنا..‏
      -. حتى المذيعة سيدي.. أنا لا أعرفها شخصياً.. صدقني، وليس بيني وبينها أي شيء.. ثم أن زوجتكم....‏
      -. هذا ليس مهماً.. المهم.. لدينا نيّة لاستضافتك‏
      -. أين؟..‏
      -. في السجن المركزي‏
      -. ولكني لم....‏
      -. لا أقبل أي إعتذار..‏
      -. اعتذار؟.‏
      -. اسمع يا أستاذ.. في السجن المركزي عدد من السجناء الأميين، وقد اتخذنا قراراً بفتح صف لمحو الأمية في السجن، وقد اخترناك معلماً لهذا الصف.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: امبراطورة الخراب العربي

        حلم القمر الأسمر
        ينداح في ذهنه حلم اليفاع...‏
        يغمض عينيه ليتقرى رواء الصورة:‏
        رمال متماوجة لصحراء على امتداد الأفق.. وفي خط السراب يتبدى بهاء وجهها قمرأ أسمر، تنسدل عليه خصلات من شعرها تتناثر على الجبهة.. وعلى الشفتين إبتسامة، تشارك العينين الرائعتين البراقتين، وهما تدعوانه إليها بنداء آسر..‏
        يسعى إليها.. تغوص قدماه في الرمال.. تتوضح الصورة أكثر.. يسعى من جديد.. تنحدر عيناه إلى أسفل.. إلى الجيد الأتلع.. وعلى الحلمة اليمنى تتبدى قطرة ندى تلتمع تحت الشمس حبّةً من اللؤلؤ‏
        يسعى إليها من جديد‏
        تغوص قدماه اكثر في الرمال.‏
        يحاول عبثاً أن يتقدم..‏
        يحاول إنتزاع قدميه من الرمال..‏
        ينكفئ على نفسه..‏
        والقمر الأسمر ما يزال يرنو إليه بالنداء الآسر..‏
        . . .‏
        ويتكرر الحلم نفسه.. ليلة بعد ليلة.. في الواقع الذي حوله، في بلدته البعيدة ، يبحث عبثاً عن صاحبة الوجه الذي يتبدى في الحلم اليتيم..‏
        ليس حوله سوى وجوه محروقة، لسعتها الشمس في حقول العمل التي تتناثر فيها جوقات الصبايا في أيام البذار والغراس والحصاد وجمع الغلال ويصرخ:‏
        -. أين أنت يا قمري الأسمر؟.‏
        وتموت الصرخة في الحنجرة.. ويتطامن على نفسه كئيباً، وحيداً لا يريم.‏
        . . .‏
        ويرحل إلى المدينة‏
        يحمل زوادته الفقيرة وحلمه اليتيم..‏
        وتبدأ رحلة جديدة من المعاناة..‏
        ضاع في شوارع المدينة الكبيرة وأبنيتها المتسامقة..‏
        ضاقت عليه فسحة التأمل.. إنعدم الأفق المترامي الذي كان يتبدى له في أحلام النوم واليقظة.. وتقفز إلى رأسه السؤال:‏
        -. ترى.. هل أرى في هذه المدينة الكبيرة قمري الأسمر؟. هل يصبح الحلم واقعاً؟.‏
        كان أملاً مستحيل التحقيق في زحمة القامات والأقدام والمناكب..‏
        . . .‏
        وحدثت المعجزة..‏
        بعد أربعين عاماً تحقق الحلم..‏
        تبدى على أرض الواقع متجسداً في هذه الصبية التي تدلف إلى مكتبه برفقة شاب.‏
        صعقته المفأجاة.. ولكنه حاول أن يتماسك، وأن يتمالك نفسه..‏
        -. يا الله.. هل هذا معقول؟‏
        إنها هي.. هي ذاتها.. صاحبة الوجه الذي عاش معه حلماً منذ اليفاع.. القمر الأسمر.. خصلات الشعر المتناثرة على الجبهة، إبتسامة الشفتين الآسرة.. بريق العينين الرائعتين اللتين كانتا تدعوانه بنداء آسر...‏
        (( آه أيتها الصبية.. لو تأخذينني إلى مخدع.. تعرّين فيه صدرك لأرى قطرة الندى المتلألئة على حلمة نهدك الأيمن اذن.. لتمّت المعجزة..‏
        . . .‏
        جلس يتأملها مشدوهاً.. لم يهتم بالشاب الذي كان يرافقها.. تمنى فقط ألا يكون حبيبها.. فهي له.. له وحده.. منذورة منذ أربعين سنة.. أجل.. أربعون سنة وهي تزوره في حلمه اليتيم.. أربعون سنة وقدماه تغوصان في الرمال وهو يسعى إليها دون جدوى، أربعون سنة وهويحاول الوصول إلى قمره الأسمر، ويلعق قطرة الندى عن النهد الشامخ في استدارة رائعة..‏
        وتحدثتْ إليه.. في أمور لا علاقة لها بذلك الحلم الرائع..‏
        أحس بالإحباط..‏
        تطامن على نفسه من جديد‏
        تكلف الإستماع إلى حديث الشاب الذي يرافقها..‏
        كان بريق عينيها هو الذي يدفع أسياخ النار إلى صدره، كان يتوقع لحظة لقاء صاحبة الوجه القمري لحظة تاريخية، تسبقها عواصف ورعود وبروق وزلازل.. توقع أن يتوقف العالم عن الحركة.. وينصت الكون مستمعاً إلى معزوفة ربيعية.. فها هي الأميرة.. ها هي عروس الأحلام تهبط من عالمها المخملي إلى أرض الواقع..‏
        أربعون سنة من الإنتظار تستحق غير هذا اللقاء العابر..‏
        . . .‏
        ونهضت تودعه، وخرجت بهدوء مع الشاب المرافق دون أن تتألق في عينيها تلك الدعوة بالنداء الآسر..‏
        وتكسّر الحلم على أرض الواقع‏
        وهطل في قلبه مطر حزين.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: امبراطورة الخراب العربي

          شرخ في الزورق الوردي
          عندما أنهت غادة المكالمة الهاتفية الأخيرة، أحست بتنين الأسى يعتصر قلبها، فغامت أمامها الرؤى والأشياء، وشعرت أن فجيعتها تلف دنياها بوشاح أسود‏
          أهكذا؟ في لحظة هاربة من الزمن الجميل الذي عاشته طوال ثلاث سنوات، تتحول ألوان قوس قزح إلى شرائط رمادية، وتذبل السوسنة على غصنها، وينكفئ الطائر الغرّيد على نفسه مقهوراً؟. أهكذا ينتهي كل شيء؟.‏
          وماذا عن الأحلام الوردية التي عاشتها في الخيال وفي الواقع؟. ماذا عن الكلام الذي كان ينساب بينهما مثل قصائد الشعر؟ ماذا عن المثُل؟. عن القيم؟ عن الوفاء؟. عن الوعود التي كان حازم يزجيها بسخاء، والعهود التي تنعقد بينهما بتلقائية وانسجام وهما يبحران في زورق الحياة الزوجية الوردي الذي زفهما إليه الأهل والأحباب والأصدقاء قبل ثلاث سنوات؟.‏
          إنه يكذب عليها.. يخدعها.. ليس لديها في هذا أي شك، وهذه المكالمات التي أجرتها مع صديقاتها الأربع، شاهدة..‏
          قالت سوسن ان زوجها سيكون مشغولاً هذا المساء في تعزية أسرة صديقه الذي مات في المهجر، وقد يتأخر هناك‏
          وقالت وفاء أن زوجها مشغول هذا المساء بتوقيع عقد مع إحدى الشركات، اختارته ليكون محاميها الخاص‏
          وقالت أميمة ان زوجها مشغول هذا المساء في مناوبة ليلية.‏
          فماذا قال زوجها؟.‏
          قال انه سيسهر مع الشلة سهرة ( رجالية ) تقررت عقب إتفاق مفاجئ غير مخطط له عقد فجأة بين الأصدقاء الخمسة على قضاء سهرة في أحد المطاعم، وأصدقاؤه هم أزواج صديقاتها اللواتي أجرت معهن مكالمات هاتفية، فاكتشفت أن أزواجهن مشغولون مساء في أمور لا علاقة لها بالسهرة المزعومة التي اخترعها لها زوجها..‏
          لماذا يكذب عليها؟.‏
          ماذا حدث حتى دخل بينهما شيطان الكذب؟.‏
          (( هل بردت قهوتهما؟. ))..‏
          منذ ان قرأت هذا المقطع في قصيدة لأحد الشعراء عن حالة زوج يبرر إنفصاله عن زوجته، وهي تخشى ان تصل بهما الحال، وهي وحازم، إلى حالة بطل القصيدة:‏
          (( بردت قهوتنا.. واتنهت قصتنا ))..‏
          -. (( لا .. لا.. لم تبرد قهوتنا، فباستثناء كذبة اليوم ليس في الأفق ما ينبئ عن أية ريح قد تدفع بالغيوم إلى سماء حياتنا ولكن.. لماذا يكذب علي؟. أين سيقضي سهرته؟ هل هناك إمرأة أخرى في حياته؟. ))..‏
          مستحيل.. فحازم زوج مثالي، ملتزم.. ثم انه يحبها.. ولم تشعر خلال السنوات الثلاث التي قضياها وكأنها شهر عسل متواصل أنه يمكن أن يجد سعادته خارج هذا الزورق الوردي الذي ينساب بهما في سعادة وهناءة.. هل هي كذبة بيضاء؟.‏
          حتى لو كانت كذلك، فهي لن تقبلها.. ليس هناك كذبة بيضاء وأخرى سوداء، وثالثة رمادية، فالذي يكذب في الأمور الصغيرة يمكن أن يكذب في الأمور الكبيرة‏
          إلى أين سيذهب حازم هذا المساء؟.‏
          ورفعت سماعة الهاتف من جديد تطلب رقمه، وتستفسر.. من حقها أن تستفسر وأن تعرف إلى أين هو ذاهب هذا المساء..‏
          -. إلا تصدقينني يا عزيزتي؟. قلت لك سأسهر مع الشلة.. أنا لا أحب مثل هذه السهرات، وأنت تعرفين ذلك، ولكنهم أحرجوني.. أشرت عليهم أن تكون السهرة عائلية وتكون فرصة لأن تجتمعي بمها وسوسن واميمة ووفاء، ولكنهم أصروا على أن تكون السهرة رجالية.. هل تعرفين ماذا قال زوج أميمة؟.‏
          -. ماذا قال؟.‏
          -. قال انه يعتبر هذه السهرة نوعاً من (( التنفّس )) وعقبّ: (( حتى السجناء لهم كل يوم فترة تنفّس في فناء السجن خارج القاووش..))‏
          ووضعت سماعة الهاتف..‏
          لم تستطع ان تقول له انه يكذب، وأن زوج أميمة لديه مناوبة ليلية، وزوج سوسن سيكون في إجتماع طارئ لمجلس إدارة الشركة التي يعمل فيها، وزوج مها مشغول في تعزية أسرة صديقه الذي توفى في المهجر، وزوج وفاء مشغول بتوقيع عقد مع إحدى الشركات التي اختارته ليكون محاميها الخاص، وانه، هو وحده حازم، مرتبط بسهرة أخرى لا تعرف عنها شيئاً..‏
          ما الحكاية إذن؟.‏
          -. لا شك أنها السكرتيرة الجديدة.. كان عليها ألا توافق على أن يستخدم سكرتيرة، فقد حذروها كثيراً من السكرتيرات، ولكن هذه السكرتيرة لم تعمل إلا منذ أسبوع فقط، فهل يعقل أن.....‏
          -.(( لا.. لا.. لا أظن أنها السكرتيرة.. لا أريد أن أظلمها.. لقد رأيتها مرتين. وتحدثت إليها ... تبدو فتاة مسكينة وعلى خلق، وبحاجة للعمل، ثم انها عادية، ليس في شكلها ما يلفت النظر، كما أنها غير متبرجة، حتى حذاؤها ذو كعب واطئ ولكن الإنسان يجب إلا يخدع بالمظاهر.. أجل.. قد تكون هذه السكرتيرة تخفي عكس ما تظهر.. الناس أسرار والزمن غدار ))..‏
          . . .‏
          اخيراً.. قررت غادة أن تضع الأمور في نصابها.. أن تكشف له كذبته عندما يأتي إلى الغداء فتقطع عليه سبيل السهرة، وليحدث ما يحدث، ستقول له أنها اتصلت بصديقاتها، وأن أزواجهن مشغولون بأعمال أخرى، غير السهرة..‏
          وعندما جاء حازم في موعد الغداء، لم تفاتحه في أمر السهرة.. قررت في اللحظة الأخيرة أن تبدّل خطتها، فماذا تستفيد من قطع سبيل السهرة عليه إذا لم تعرف إلى أين كان سيذهب؟ ومع من كان سيسهر؟. عليها أن تكون أكثر فطنة وذكاء، وتحاول أن تكشف حقيقة هذه الكذبة التي دفعت إلى حياتها بصدمة تكاد تقلب الزورق الوردي بمن فيه..‏
          ضبطت أعصابها وهو يحدثها في موضوع السهرة، روى لها حكاية ( لا شكً انه لفّقها ببراعة) عن الطريقة العجيبة التي تم بها الإتفاق على السهرة، بل لم يتوان عن ذكر إسم المطعم الذي ستتم فيه السهرة.. أكثر من هذا.. أعاد على مسامعها من جديد عدم رغبته في مثل هذه السهرات، بل قال انه كان يفضل أن يقضي السهرة معها، ولكن الأصدقاء أحرجوه..‏
          وقال لها أيضاً: ( لا شك أن زوج أميمة قد عانى صعوبة في إقناعها بالسهر وحده مع أصدقائه فهي غير متسامحة في مثل هذه الأمور، ولها جملة مأثورة في مثل هذه الحالة عندما يناقشون في سهراتهم العائلية موضوع (السهرات الرجالية ) عندما تقول لزوجها: (( إياك يا فريد أن تحلم في يوم أنك يمكن أن تسهر وحدك خارج البيت، رجلي على رجلك )).‏
          كان حازم يتحدث وغادة تصغي إليه وهي تضغط على أعصابها لئلا تنفجر وتصرخ به:‏
          -. انت كاذب.. وزوج أميمة لن يسهر معك.. أنه اليوم في مناوبة ليليه..‏
          . . .‏
          في المساء ارتدى حازم ثيابا أنيقة، مشّط شعره مرتين، مسح وجهه بالعطر.. نظر إلى المرآة أكثر من مرّة، ومع هذا تظاهر وهو يهم بالخروج، بأنه غير راغب في هذه السهرة، ولكنه استدرك بأنه قد يتأخر، وقد يضطر لإيصال زوج وفاء إلى منزله في الضاحية، بسيارته..‏
          ومن جديد حاولت غادة أن تضبط أعصابها حتى لا تصرخ به‏
          -. (( زوج وفاء لن يكون معك في السهرة.. انه مشغول هذا المساء بتوقيع عقد مع إحدى الشركات التي اختارته ليكون محاميها الخاص.. أنه رجل مهتم بعمله، ولا يكذب على زوجته ويلفق لها قصة سهرة موهومة كما تفعل انت ))..‏
          . . .‏
          وكما تم الإتفاق بين غادة واخيها سامر.. خرج زوجها من البيت فتتبع أخوها خطاه..‏
          وكانت المفاجأة..‏
          سهر حازم مع الشلة.. في المطعم الذي أعطى أسمه لزوجته.. وتبين لغادة أن أزواج صديقاتها كذبوا على زوجاتهم، وأن زوجها كان الصادق الوحيد بينهم.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: امبراطورة الخراب العربي

            إمبراطورة الخراب العربي
            يتنزىّ الشبق من شدقيها حتى أطراف زغب الإبطين.. يتقرى طموحها المسالك المتاحة على تضاريس الجسد، فتدفع بالمحظور المتوارث على مدى دبيب السنين، إلى الزوايا المعتمة، وحتى حدود التطامن و الإستلقاء.. تقتلع اوتاد خيمة السلف الأكبر وتقفز فوق شاربي أبي ليلى المهلهل بعد أن نفضت ساقها العبلاء من ركاب حصانه الأشهب إلى المقعد الوثير في الـ ((كابريس)) الفارهة، فتغدو أحلامها - هكذا خيّل إليها في البداية - سطوراً أنيقة، ومتوازية، ومتلاحقة، تنزلق بسهولة على شاشة حاسوب من الجيل الخامس، لا يستهلك إلا جهد اللمسة الساحرة..‏
            من قال انها لا يمكن أن تكون إمبراطورة الخراب العربي؟.‏
            . . .‏
            كانت البداية عندما سعت - بلباس الأرملة الحزينة - بعد رحيل الزوج، وهي تتنقل بين مكاتب الروتين سعياً وراء المرتب التقاعدي للرفيق الراحل، ولكن الرجل الذئبي الصغير، القابع في دائرة المعاشات، خلف كدسة من مصنّفات المساومة والمراوغة، سحب عن وجهها برقع الحزن ليشيع الجمال المركون عبر سني الزواج الذي بدأ مبكراً، تحت أضواء محافل التآلف الإجتماعي في مقاصير سماسرة المفاتيح الذهبية، وردهات فنادق النجوم الخمسة.‏
            ما كانت تعلم شيئاً عن (( النقلة الحضارية )) الجديدة للناس والأشياء، وهي رهينة أسوار الزواج المبكر، والزوج الغيور، ومناخ شجرة الأسرة العريقة منذ الجد السابع عشر..‏
            لطمت الرجل الذئبي الصغير على صدغه صارخة:‏
            -. ولماذا هذه ( البداية ) المتواضعة يا إبن الكلب ما دامت الجعالة المنتظرة على هذا الهزال؟. سأبدأ من (سيد سيدك ) ومن هذا الرصيد الذي بهرك دون بهرج أو طلاء، فكيف إذا خرج بالأبهة العالية من التبرج والاستعراض؟.‏
            وتهاوى (( الأسياد )) أمام الساق العبلاء التي رفست حصان المهلهل الأشهب، ونشبت في ساح النخاسة الجديدة، تدحرجت أمامها عروض وعقود وأحجار كريمة هي أنفس ما أخرجت المناجم من المعادن الثمينة.. وعلى الرغم من المفاجآت المبهرة، فقد تمالكت رباطة جأشها، وراحت تتصرف كإمبراطورة تتكلف ابتسامة الرضى، وهي تتلقى هدايا الحاشية..‏
            وبدأت تتوق للتسلل إلى المجتمع العالي، مجتمع الذين يمثلون وقار المسؤولية على شاشة الرائي وفي الإحتفالات والمناسبات، يطلقون الخطب الرنانة والتصريحات النارية، وينثرون الكلمات الملونة هنا وهناك..‏
            . . .‏
            وجاءت فرصة سانحة، متجسدة في رجل تاجر، اوحى إليها بأنه سيد الميدان، وانه يضع السوق في جيب سترته...‏
            قدم أوراق إعتماده، ودفتر شيكاته، وتمت الصفقة، كانت تريده مداساً لطموحها الأكبر، ولكنه فاجأها بما لم تتوقعه: عرض زواج.‏
            بدا لها مثل ذلك الرجل الذئبي الصغير، وأن كان يختلف عنه بأنه ألبس المراوغة لبوس الشرع والسنّة‏
            -. أي رحْ عني يا... بلا زواج بلا وجع رأس..‏
            وقبل أن تنفض يدها منه، كانت قد قبضت باليد الأخرى على ( صوص ) آخر...‏
            بدا أول الأمر، أو هكذا حاول أن يبدو - مثل باشق ذي شموخ وعنفوان، ثم تكشّف لها عن قوّاد هزيل يريد أن يمد جسدها اللدن جسراً يعبر إلى من بيده امر إجازات التصدير‏
            أدركت لعبته، فبادرته بسلاحه نفسه.. طلبت إليه أن يتقاسم معها البيدر:‏
            -. أي بيدر؟.‏
            -. بيدر المكاسب يا إبن الشائنة.. وهرب‏
            . . .‏
            لن تكون بعد الان بحاجة ألى وسطاء.. هكذا قررت.. ستختصر الطريق بمواهبها الموروثة والمكتسبة... ستدوس بكعب حذائها الإيطالي هذه الهامات المنحنية أمامها على إمتداد ساحة الخراب العربي.‏
            ها هي في حالتها الجديدة، تنفسح الأمداء أمامها من جديد على إمتداد زرقة الأفق.. وتتقافز الأحلام إلى المرابع حلقات متتالية، منفتحة، ومتآلقة حتى الذرى السامقة.. ومع الأحلام الجديدة، تتهاوى ذكريات الأمس البائس.. تنزاح الصور والأصداء متناوحة بين الشماريخ وهي تهوى إلى بئر بعيدة القرار..‏
            تنفسح الأمداء أمامها، وهي جالسة في شرفة الشقة الجديدة التي أنتقلت إليها من ذلك القبو الرطب، فإذا هي في إطلالة خضراء، وإذا الطبيعة البادية أمامها واحدة من تلك المنمنمات التي تصوغها دورة الفصول لوحاتً معجزةً من الإبهار‏
            فردت امامها كدسة البطاقات الشخصية، وقائمة الأرقام الخاصة، كومة من الرؤوس والالقاب والثروات، ولم يطل بها الإختيار، فهذه هي بطاقته، تعلن عن نفسها بلونها الذهبي..‏
            ترى.. كيف سيكون وقع المفاجأة عليه؟.‏
            ستة أشهر وهو يطاردها، يفرش لها الدرب بالمخمل، ويمد لها في كل لقاء متعمد بطاقته الذهبية، فقد تكون قد أضاعت السابقة.. وفي كل مرة لا يأخذ منها إلا وعداً معلقاً في الهواء.. حتى كان لقاء، توعدها فيه بأنها لن تراه إذا استمرت في الصد والدلال..‏
            وعلى الرغم من أنه نفّذ وعيده، إلا أنها واثقة من أن ( ألو ) واحدة على الهاتف ستجعله يهرع لا هثاً وقد وقع طربوشه في حذائه..‏
            أنها صفقتها الحاسمة في لعبة الوصول.. ستتحدى صديقتها - غريمتها - غادة التي توحي بأنها تمتلك قرن الثور الذي يحمل الكرة الأرضية، وكل عدتها أمين جمركي على الحدود يمّرر لها صرة ثياب أو صندوق معلبات..‏
            مسكينة غادة.. هرّة جرباء.. تموء في الزوايا، وتلبس لبوس الإدعاء وتوحي لمن حولها بان يدها تطال أعلى تفاحة في جنة الأرض.. جنة؟..‏
            واهمة هي غادة.. فليس في الأرض جنة.. ليس إلا هذا الخراب الذي يمتد على إتساع الصحارى العربية..‏
            ستكون هي - وليس غادة - سيدة هذا الخراب .. امبراطورة هذا الخراب. فمثلها لا مكان له في جنان الطمأنينة.. أنها صفقتها الحاسمة..‏
            دقائق وينقلها هذا الهاتف اللاسلكي إلى سدة الامبراطورية..‏
            . . .‏
            أشعلت دخينة فاخرة.. وأمسكت بالهاتف المستطيل بعد أن ضغطت الأزرار ليأتيها صوت مغناج:‏
            -. ألو.. أنا السكرتيرة الخاصة.. أية خدمة؟.‏
            كانت غادة.

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: امبراطورة الخراب العربي

              المزنة
              عندما دوّت الصافرات، تركت مفيدة ثيابها الداخلية معلقة على حبل الغسيل في المشرقة، وهرعت تهبط الدرج الخشبي قفزاً إلى المربع الذي في أرض الدار‏
              كانت أمها جالسة أمام صينية صغيرة عليها كومة من العدس وهي تنقيّه من حبات القش والبحص الصغير، فرفعت رأسها إلى إبنتها الواقفة مرتجفة أمام الباب تسألها مستنكرة:‏
              -. ما بك؟.‏
              -. غارة يا ماما.. غارة‏
              -. وماذا يعني ذلك؟. لماذا أنت خائفة هكذا؟.‏
              -. هذه الصافرات تهد حيلي كلما إنطلقت.. تخلع ركبتي..‏
              -. وهل تركت ثيابك معلقة في المشرقة..‏
              -. لن أحضرها قبل أن تنتهي الغارة‏
              -. هيا إصعدي وأحضريها. حقاً انك مجدوبة‏
              -. لن أحضرها قبل أن تنهي الغارة‏
              -. وإذا عاد أسعد فجأة وصعد إلى غرفته هل من اللائق أن يرى امامه هذه البيارق.. هيا إصعدي واحضريها. الناس فوق الأسطحة يتفرجون وأنت تركضين لتختبئي مثل الفأرة في هذا المربّع..‏
              (( لماذا هذه الحرب؟. لماذا يطلقون الصافرات؟. ماذا يريدون منها حتى يخترقوا عليها عالمها الهادئ؟ هل استكثروا عليها المشرقة فطاردوها فيها بزعيق الصافرات وأنباء الغارات؟ هي لا تعرف شيئاً عن هذه الأمور.. ولا تريد أن تعرف.. هي فقط خائفة، وتريد أن تصمت هذه الصافرات بأي ثمن ))..‏
              توقف زعيق الصافرات، فجمعت مفيدة أطراف شجاعتها الهاربة، وراحت تصعد الدرج متمهلة حذرة إلى المشرقة..‏
              كانت أصوات الجيران على الأسطحة تختلط بالأصوات الأخرى المنبعثة من الزقاق:‏
              -.إنزلوا عن السطح يا أولاد..‏
              -. هات السلم يا أبا محمود‏
              -. هل رأيت شيئاً.. أنظر جيداً‏
              -. هاتي أخاكِ وادخلي البيت يا دلال‏
              -. لعينيك أبا الروض.. سنضرب الفانتوم بصاروخ على كيفك‏
              -. أين مفتاح باب السطح يا سميرة؟‏
              وقفت مفيدة في الشرفة قليلاً، زايلها بعض الخوف.. نسيت زعيق الصافرات.. كانت أصوات الجيران تتناهى إلى أذنيها أنيسة، فقررت ألا تهبط إلى المربّع بسرعة..‏
              صعدت درجتين بحيث أصبحت خلف الشباك المطل على الزقاق .. دفعت درفة الشباك ونظرت من خلال خشب الخص إلى أسفل..‏
              شبان الحي يرابطون في أول الزقاق وهم يتحدثون بأصوات مختلطة لم تفهم منها سوى كلمات متناثرة.. دكان أبي حمدي التي على ناصية الزقاق مفتوحة كعهدها بها كل يوم.. عامل التنظيفات يدفع أمامه عربته الصغيرة بهدوء وعيناه تبحثان في الزقاق عن قصاصة ورق أو قشرة بطيخ أفلتت من مكنسته الطويلة.. حتى بائع ثياب ((البالة )) كان واقفاً خلف بسطته في ركنه المعهود‏
              أهذه هي الحرب؟.‏
              ليس في الزقاق ما يدل على أن الحرب قائمة.. ليس هناك من يخاف الصافرات والغارات.. أحسّت انها الوحيدة بين أهل الحارة تقف خائفة...‏
              رفعت رأسها إلى أعلى وأصاخت السمع.. كانت الأصوات تأتيها من ناحية السطح أكثر وضوحاً: هذا جارهم، أبو حمدي، ينادي جاره أبا معتز: تعال.. لقد احضرت لك السلمّ.. ولكن لماذا تريده؟.‏
              فيرد أبو معتز : اريد أن أصعد إلى سطح غرفة الغسيل لأرى الطائرات..‏
              وفجأة.. يدوّي في الجو أزيز مرعب يطغى على أصوات الجيران، فأحست مفيدة بأن شيئاً مثل التيار الساخن يخترق رأسها وصدرها وأحشاءها، فتعثرت بالدرج وهي تهبط بسرعة لتلتصق بالجدار وقد إنخطف لونها‏
              وتناهت إليها أصوات متتابعة لدوي وانفجارات لم تعلم أنها أصوات قصف الطائرات الأحياء السكنية قبل أن يصرخ أبو معتز:‏
              -. قصفوا الشام.. ها هو عمود من النار يطهر من جهة المرجة فيرد عليه صوت آخر: ليس من المرجة.. هذا من الصالحية ويقول ثالث: بل من جهة ( أبو رمانة)..‏
              وصاحت أم مفيدة من أسفل: مفيدة.. تعالي.. إنزلي بسرعة..‏
              ظلت مفيدة مسمّرة في مكانها.. كانت جملة (قصفوا الشام ) تطن في أذنيها.. أحست أن يداً غريبة غادرة شكّت حربة في خاصرتها، وأن بيتها هو الذي قصف، وأن القذيفة دمرت المشرقة والرواق والمربعّين، الفوقاني والتحتاني ودفنت شجرة الياسمين العراتلي تحت الأنقاض، حتى القطة تصورتها جثة هامدة في ركن من أركان البيت المنهار..‏
              غلى الغضب في رأسها، وفي صدرها.. أحست أنها صفعت على وجهها، زايلها الشعور بالخوف، وتملكها شعور آخر مغاير، هو مزيج من الغضب والإستنكار والحنق.. لا تدري كم لبثت واقفة وهي على هذه الحال، ولكنها إنتفضت فجأة على صوت رنين جرس الباب الخارجي وصوت أمها وهي تنادي:‏
              -. الباب يا مفيدة..‏
              هبطت الدرج متمهلة حزينة، وعندما فتحت الباب كان وجه العسكري يبتسم بود‏
              -. عفواً.. هل يسكن أسعد هنا؟. انا أخوه..‏
              -. تفضّل..‏
              قالتها دون تفكير، ودون أن تخبره بأن أسعد غير موجود، في الحالات العادية لا يدخل مثل هذا العسكري الدار قبل إستجواب تفصيلي من خلف درفة الباب..‏
              كانت أمها واقفة في صحن الدار تستطلع خبر الطارق، وقبل أن ترتسم الدهشة على وجهها وهي ترى إبنتها تتقدم عسكرياً إلى الداخل، صاحت مفيدة:‏
              -. هذا أخو أسعد يا ماما..‏
              -. أهلاً وسهلاً.. تفضل يا بني..‏
              وفي دقائق.. كانت ام مفيدة التي تختزن في رأسها كل أخبار الحي من خلال استجواب النساء في ((الإستقبالات ))، قد عرفت كل ما تريد أن تعرفه عن شقيق جارها وحياته و موقعه من الحرب، وعرفت انه قادم من الجبهة في مهمة، وأنه سائق إحدى الشاحنات العسكرية، وانه ذهب إلى المستشفى الذي يعمل فيه أخوه فلم يجده هناك، فجاء يسأل عنه حيث يقطن، وعندما عرضت عليه أن تعد له كأساً من الشاي شكرها بكلمتين فقط: انا صائم...‏
              وتدخلت مفيدة في الكلام.. كان صدرها يغلي.. تريد أن تعرف شيئاً عن القصف والمواقع التي قصفت، وكم خاب أملها عندما فاجأها العسكري الزائر بانه بدوره لا يعرف شيئاً عن القصف، وانه كان في اول الحارة عندما مرت الطائرات ثم سمع الدوي والإنفجار...‏
              وتذكرت أم مفيدة المذياع فقالت لإبنتها: إرفعي صوت الراديو.. حتماً سيذيعون بلاغاً عن الغارة وادارت مفيدة المفتاح ليرتفع صوت مطربة تردد أغنية وطنية، قطعت فجأة، فهمست مفيدة: -. هس.. إسمعوا...‏
              وانطلق صوت المذيع يعيد إذاعة النداء الذي توجهه الإذاعة منذ أول أيام الحرب إلى المواطنين ليحافظوا على أرواح الطيارين الإسرائيليين الأسرى الذين يقفزون بالمظلات بعد أن تصاب طائراتهم، ويسلموهم إلى مخافر الشرطة والمواقع العسكرية.‏
              ثم أعقب النداء نشيد آخر، فخفضت مفيدة صوت المذياع وعادت إلى العسكري الضيف تسأله:‏
              -. انت تحارب في الجبهة؟.‏
              -. أنا سائق شاحنة.. انقل المؤن والذخيرة‏
              فعقبت أم مفيدة: جميع الذين في الجبهة يحاربون.. عندما تأتي القذيفة لا تفرق بين المدفعي والسائق..‏
              وعادت مفيدة: تسأل: هل ستطول الحرب؟.‏
              أجاب العسكري: لا أدري..‏
              -. ألا تخاف وأنت في الجبهة؟.‏
              ضحك العسكري ثم قال: كل إنسان يخاف، وخاصة في اللحظات الأولى من المعركة، ولكن الخوف يزايله بعد ذلك.. وإذا كان العسكري خائفاً فلن يستطيع أن يقاتل..‏
              صمتت مفيدة.. تذكرت حالها وهي في المشرقة عندما بدأت الغارة، ثم عندما جاءها نبأ القصف. (( ما يقوله هذا العسكري.. صحيح ))..‏
              واستطرد الضيف يوجه الخطاب إلى أم مفيدة:‏
              (( والله يا خالتي، ما لك على يمين.. الشباب في الجبهة يقاتلون العدو مثل النمور.. اخترقوا تحصيناته ودخلوا القنيطرة.. العمى في عيونهم هؤلاء الإسرائيليين، حفروا خندقاً بعرض ستة أمتار على طول الجبهة، ومع ذلك استطعنا أن نجتازه.. وضعنا عليه جسوراً واجتزناه.. ناطحناهم بالدبابات.. قصفنا مواقعهم بالمدفعية والطائرات.. هبطنا فوق رؤوسهم في جبل الشيخ.. العمى في عيونهم.. كل يوم إعتداء.. كل يوم إعتداء.. هذه المرة سيدفعون الثمن ))..‏
              كان الفرح يملأ كيان مفيدة وهي تستمع إلى حديث العسكري الشاب، وتنظر إلى بريق عينيه وهويتحدث.. تمنت أن تعانقه على الرغم من ذقنه الطويلة وثيابه المتسخة وحذائه الغليظ..‏
              وعندما همّ بالنهوض، حاولت ان تستبقيه، وكذلك امها.. قالت له: انتظر قليلاً فسيأتي أسعد ما دام قد غادر المستشفى وعقبت الأم: منذ أول الحرب وهو مستنفر.. ولكنه يأتي دائماً ليطمئن علينا.. أسعد بسعر ولدي.‏
              قال العسكري: كتب لي عنكم في رسائله.. قال انكم مثل أهله فردت أم مفيدة : ليحفظه الله لأهله.. أسعد ممتاز.. وشهم، وأخلاقه عالية ولسانه دافئ..‏
              فجأة.. بدأ المذيع يقرأ بلاغاً، فأدارت مفيدة مفتاح المذياع ليرتفع الصوت: (( في الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق قامت ست طائرات معادية من طراز فانتوم بمحاولة قصف مدينة دمشق، مستهدفة المدنيين، وتصدت لها وسائط دفاعنا الجوي وأسقطت منها أربع طائرات.. وأن إسرائيل تتحمل تبعة ذلك )).‏
              تمتمت مفيدة : ست طائرات؟.‏
              فقال العسكري: ذلك لأنهم متضايقون..‏
              لم تفهم مفيدة قصده فسألت: متضايقون.. كيف؟.‏
              -. أكلوها في الجبهة فجاؤوا يضربون المدنيين.. حرب نفسية ولكنها فاشلة..‏
              وقطعت الإذاعة الموسيقى العسكرية التي كانت تبثها وارتفع صوت المذيع من جديد فصمت الثلاثة ينصتون:‏
              (( لاحقاً لبلاغنا السابق.. في نفس الوقت الذي قصف فيه طيران العدو اهدافاً مدنية في دمشق، قصف أهدافاً مدنية أخرى في ضواحي مدينة حمص.. وقد اشتبكت طائراتنا مع طائرات العدو في معركة جوية فوق منطقة حمص، وقرب الساحل السوري واسقطت له ثلاث طائرات بالإضافة إلى الطائرات الأربع التي أسقطتها وسائط دفاعنا حول مدينة دمشق.. وقد نجم عن القصف المعادي بعض الخسائربين المدنيين..‏
              انتهى البلاغ فنهض العسكري من مكانه وهو يقول:‏
              -.إذا استمرت هذه الحرب فسيسخر العدو جميع طائراته.. ونظر إلى ساعته وقال: أنا أستاذن.. لم يبق وقت.. يجب أن اعود إلى الجبهة، بلغوا تحياتي لأسعد.. ساحاول أن أراه في مرة قادمة..‏
              وسار العسكري، فسارت معه مفيدة ترافقه إلى الباب وهي تقول له : (( دير بالك على حالك))..‏
              وقبل أن تغلق الباب إلتفت إليها مودعاً، وعلى وجهه إبتسامة عرفان ودود..‏
              مر النهار دون ان يعود أسعد.. وفي المساء جلست أم مفيدة تتابع أخبار الحرب وتتفرج على الأسرى الإسرائليين من خلال شاشة التلفزيون، بينما ذهبت مفيدة إلى غرفتها لتنام.. كانت تشعر برغبة ملحة لأن تختلي بنفسها.. وكانت أحداث النهار تشغل ذهنها والصور تترى أمام عينيها : المربّع الصغير.. المشرقة.. الثياب المعلقة.. أصوات الجيران.. شباب الحارة.. دكان أبي حمدي.. إبتسامة العسكري.. بسطة البالة.. والغارة.. الغارة الوحشية التي عرفت تفاصيلها بعد الظهر من أحاديث الجيران‏
              لم تستطع أن تنام.. كانت تفكر بالحرب، وبالعسكري الذي زار البيت مثل مزنة المطر المفاجئة في أول الربيع.. وأسعد.. أين هو؟ لماذا لم يأت؟.‏
              ليس من عادته أن يتغيب يوماً كاملاً عن البيت دون ان يطل ولولنصف ساعة..‏
              ولكن.. لماذا لا يبتسم لها بود كما فعل أخوه العسكري؟. إنه يتحدث إليها باقتضاب، وبنوع من الحذر، وحديثه إليها لا يخرج عن دائرة غسيل القميص، وإعداد القهوة، والسؤال عن الوالدة.. وأحياناً يتبسط معها فيحدثها عن حبه للشام ولأحيائها الشعبية..‏
              -. ولكنهم قصفوا الشام..‏
              مرّت سحابة رمادية في جو الغرفة.. ومدَّ طيار بلا ملامح يده فشد مفيدة من شعرها.. صرخت .. ضربته بقبضتها على وجهه وصدره.. فأفلت شعرها.. هجمت هي عليه هذه المرة.. غرست اظافرها في وجهه.. سحبته إلى الزقاق.. نادت الجيران، نادت اهل الحي.. "لست بحاجة إلى سلم يا أبا معتز لتصعد إلى سطح غرفة الغسيل وترى الطائرات.. هذا هو الطيار أمامك.. انه الطيار الذي قصف الشام.. وقصف بيتنا، والمربعين الفوقاني والتحتاني.. والرواق.. ودفن شجرة الياسمين العراتلي تحت الأنقاض.. وكذلك القطة"..‏
              . . .‏
              وفي الصباح.. أفاقت مفيدة متعبة، مهدودة الحيل، كان كابوس النهار قد اخترق رأسها وسريرها وأحلامها.. وعندما خرجت من المربع إلى أرض الدار كانت أمها تصب فنجاناً من القهوة لأسعد الجالس قرب البحرة الصغيرة وهي تسأله:‏
              -. ولماذا انتقلت إلى المستشفى الآخر؟.‏
              -. نحن مستنفرون لإسعاف الجرحى في هذا المستشفى‏
              _. وهل يأتونكم بجرحى كثيرين؟.‏
              _. طبعاً.. ليس هناك حرب بلا جرحى و لا ضحايا.. على كل حال انهم يدفعون الثمن غالياً.. أسقطنا لهم عدداً كبيراً من طائراتهم، وأسرنا عدداً من خيرة طياريهم..‏
              -. وما آخر هذه الحرب؟.‏
              -. لا أدري.. أنا طبيب أقوم بواجبي..‏
              وفجأة.. وجدت مفيدة نفسها تقول لأسعد دون مقدمات‏
              _. أخوك العسكري.. ظريف..‏
              نظر إليها و ابتسم.. ونظرت إليها أمها وقد فاجأها قولها، فعقب أسعد:‏
              _.إنه يبحث عن عروس.. ما رأيك؟.‏
              لم تعلق مفيدة على كلامه.. لم يعجبها كلامه.. أحست أنه يهزأ منها، وأنه يوحي إليها بألا تفكر به هو.. فهو طبيب على وشك التخرج، وهي فتاة من حي شعبي لا تحمل سوى الشهادة الإبتدائية، صحيح أنها جميلة، وخياطة ماهرة، وست بيت ممتازة... ولكن...‏
              ارتسمت في ذهنها صورة العسكري، وبدأت أقواله تطن في أذنيها، وبريق عينيه يأسرها وهو يتكلم...‏
              وعاد أسعد يتحدث.. تحدث عن النسوة المتطوعات للعمل في المشافي، فالتمعت عينا مفيدة.. حاولت أن تقول شيئاً لكنها أحجمت عندما نظرت إلى أمها..‏
              وعندما غادر أسعد البيت عائداً إلى المستشفى غافلت امها ولحقت به:‏
              _. أسعد.. أسعد..‏
              إستدار إلى الخلف.. فوجئ بها..‏
              -. ما بك يا مفيدة؟.‏
              _. خذني معك‏
              _. إلى أين؟.‏
              _. إلى المستشفى‏
              _. وماذا ستفعلين في المستشفى؟.‏
              _. أريد أن أتطوع، مثل اللواتي قلت أنهن تطوعن للعمل,, طقت مرارتي في البيت‏
              -. لكنك لا تجيدين أي عمل من أعمال الإسعاف..‏
              _. امسح البلاط.. أفعل أي شيء..‏
              -. وهل توافق أمك؟.‏
              _. لا تهمني موافقتها.. سأذهب معك..‏
              _. عودي الآن إلى البيت، وسنبحث الموضوع فيما بعد..‏
              _. بل سأذهب معك الآن..‏
              -. قلت لك....‏
              إرتفع فجأة صراخ إمرأة من آخر الزقاق، فهرع أسعد يركض باتجاه الصوت، وركضت مفيدة خلفه، وهرع معهما اناس آخرون تجمعوا امام البيت الذي ينبعث من عويل النساء مختلطاً بصراخ الأطفال..‏
              اقترب أسعد من أحد الفتيان الواقفين: ماذا هناك؟.‏
              _. جاؤوا بجثة أبي سعيد..‏
              أبو سعيد؟. تعرفه مفيدة..‏
              ولطمت خدها بيدها: يا حرام...‏
              سألها أسعد: هل تعرفينه؟.‏
              -. جارنا في الحارة.. يعمل في مؤسسة الكهرباء‏
              وقال الفتى: كان يعمل في الهامة.. قصفت الطائرات الإسرائيلية محطة الهامة، وكانت ورديته فيها..‏
              نظرت مفيدة إلى وجه أسعد.. كان صامتاً.. ليس على وجهه أي معنى.. لم ينفعل.. لم يتألم.. لم يقل شيئاً تذكرت وجوه الأطباء الذين تراهم على شاشة التلفزيون وهم يجرون العمليات الجراحية، فانفتلت تركض عائدة إلى البيت والدموع تملأ عينيها‏
              وقيل أن تصل البيت، دوّى في الجو أزيز الطائرات.. لم تخف.. لم يتملكها الرعب، ولا التجأت إلى الجدار..‏
              كان الشباب الذين حولها يرفعون رؤوسهم إلى أعلى...‏
              وصاح احدهم: هذه طائراتنا يا شباب متوجهة نحو الجنوب..‏
              صفّق الجميع.. وهتفوا مهللين، رمى أحدهم- وكان يرتدي ثياب الفتوة- طاقيته في الهواء..‏
              وإلى جانب مفيدة كانت إمرأة واقفة على كتفها طفل بيده كعكة يقضمها مبتهجاً.. أفلت الكعكة وراح يضرب الهواء بيديه الصغيرتين وكأنه يصفق..‏
              ومرّ سرب آخر من الطائرات.. فعلا الهتاف اكثر..‏
              -. إنها طائراتنا.. تتوجه نحو الجنوب‏
              . . .‏
              وهطلت الدموع من عيني مفيدة بغزارة.. احسّت انها دموع الفرح.. وانها مطر.. مثل المطر الذي تحمله المزن المفاجئة في بداية الربيع.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: امبراطورة الخراب العربي

                خيطان جديدان
                تلقفه الزقاق الجانبي من حي الطنابر، اخر حي بطرف المدينة الشرقي في السابعة من الصباح، وجو آب يحمل كآبة ثقيلة مبكرة وكان على وجهه إعياء، وعلى جبينه تقطيبة حادة..‏
                الطريق نفسها.. المشاهد نفسها.. البيوت الفقيرة تتراكب حوله كالصناديق المهملة، والمعمل القديم يرسل أزيزه من الضفة اليسرى للنهر الصغير، وحذاؤه القديم يضرب الإسفلت بعدم مبالاة عاجلة، بينما تدوي في رأسه أصداء كثيرة مختلطة تدق فيه بعناد وقسوة وإلحاح.. اصداء أصوات أطفاله الستة، وأنين زوجته الحامل، وطلبات والدته العجوز.‏
                ماذا لو لم تنسلّْ ريح شتوية من النافذة الخشبية تلك الليلة؟ ماذا لو لم تصرخ زوجته فاطمة وتعلن أن مغصاً حاداً يقطع امعاءها؟. والطبيب.. طبيب القرية الوحيد يهرع دائماً إنساني الخطوة.. ملهوف النظرات.. حلال ما يقبض.. لم يقبض منه شيئاً تلك الليلة.. في المرّة الأولى لا يستوفي أجراً عن المعانية.. هذه عادته.. ويظل هو، إبراهيم، يحمل الحليب كل يوم للطبيب، فاطمة بخير، لم يعد المغص يعرف أمعاءها.. ماذا لو لم تنسل ريح شتوية من النافذة الخشبية تلك الليلة؟‏
                كانت الأصداء تتزاحم في رأسه وأذنيه وعينيه فيشعر وكأنه يدور في دوامة يتغلغل صفيرها في مسام جلده بتلاعب خبيث، واستطاع ان يميز أصداء كلمات أمه المتلاحقة:‏
                _. يا ابني دبرنا.. زوجتك ستلد اليوم.. هكذا قالت ام خليل الداية نحن بحاجة إلى الطعام، وإلى أجرة الداية، وإلى مصاريف كثيرة...‏
                وضاعت أصداء صوتها فجأة مع صوت مرور شاحنة، وعندما إنقطع الصوت انداح إبراهيم في الدوامة من جديد:‏
                قال طبيب القرية: أنت طيب ومخلص يا إبراهيم.. سآخذك معي إلى المدينة عندما انتهي من مهمة خدمة الريف في هذه القرية.. سأفتتح عيادة كبيرة في المدينة، وستعمل فيها مشرفاً.. ستعيش في المدينة انت وأسرتك حياة مرفهة، أفضل من حياتك هذه التي تدفنها هنا بين تراب الحقل وروث البقر‏
                مسكينة أمه.. لا تحاول أن تتفهم وضعه.. ألم يستلف من أبي حمدي، صاحب الفرن، أكثر من نصف مرتب الشهر.. أم انها لا تعرف أبا حمدي الذي تحتقن اذناه باحمرار الغضب كلما طلب منه شيئاً على المرتب!. إنه يخشى إنفجار أبي حمدي يوماً فيطرده من العمل ويحطم حياته وحياة أسرته، كما فعل ذلك الطبيب.. ومن يدري كم من الوقت سيقتل في البحث عن عمل جديد. طرح الطبيب أمامه موضوع النزوح على طبق من ذهب.. ولم يتردد.. باع الأرض والبيت والزريبة والبقرة على الرغم من إعتراض أمه وصراخ زوجته، وحمل أسرته وصرة المال وأولاده الأربعة ( أصبحوا بعد ذلك ستة ) وسكن بيتاً في حي الطنابر بعد أن دفع من مقدم أجره ربع ما يحمل من مال‏
                آه من هذه الزوجة.. ألم تستطع أن تمنع نفسها هذه المرّة من الحمل كما تفعل بقية النسوة؟.‏
                لم يستطع أن يفاتحها أو يفاتح أمه في الموضوع.. ستصرخ كل منهما في وجهه: هذه جريمة.. إن الله يبعث بالطفل ويبعث برزقته معه.. ولكن رزق هذا الطفل الذي سيطل على الدنيا بعد ساعات لا يزال مخنوقاً في جيب أبي حمدي، فكيف يطلب دفعة أولى؟ وماذا يفعل إذا تمنع أبو حمدي عن الدفع؟.‏
                يا فتاح يا عليم.. كل يوم وهمه معه....‏
                في الأيام الأولى لنزوحه إلى المدينة شعر بفداحة الخطأ الذي ارتكبه يوم باع أملاكه في القرية وجاء يعيش حياة الضياع هذه في زحمة المدينة وضجيجها.. يحس انه يختنق وأنشوطة قاسية تلتف حول عنقه وهو يعمل في عيادة الطبيب عشر ساعات في اليوم ليعود ليلاً إلى البيت الذي تأكل أجرته نصف مرتبه، في حي الطنابر، ليرتمي على فراشه مثل القتيل‏
                حث إبراهيم الخطى.. عيناه تأكلان الطريق بتساؤل يائس والهموم تملأ كيانه فيدور في الدوامة وقد خيل إليه أن إسفلت الطريق حية سوداء طويلة ماكرة تتلوى أمامه لتعذبه.. وأن أزيز المعمل القريب لا يختلف في إزعاجه عن دقات إبنه محمود عندما يحاول في ساعة القيلولة التي تفصل بين دوامه الصباحي والمسائي إدخال مسمار في خشب قبقاب ثقيل..‏
                ليس هناك وسيلة ركوب توصله بشكل مباشر إلى الفرن، ولهذا يسير إليه على قدميه...‏
                فرن؟..‏
                .من قال انه فرن واحد؟..‏
                إن أبا حمدي يمتلك عدة أفران في المدينة.. بعضها للخبز، وبعضها للكعك وللحلويات، إضافة إلى العقارات والحوانيت...‏
                أين يذهب أبو حمدي بهذه الأموال؟.‏
                يقول أبو رشيد ان أبا حمدي يصرف على الراقصة سميرة ما يكفي لإعالة مئة أسرة فقيرة..‏
                (( يخرب بيتك يا أبا حمدي.. زوجتان.. ولا حق سميرة؟. ))‏
                ويمد ابو رشيد رقبته أكثر وهو يهمس:‏
                أبو حمدي يذهب إلى الملهى الذي تعمل فيه سميرة كل ليلة.. يجلس في مقصورة خاصة داخلية، وتجلس سميرة إلى جانبه تسايره وتمازحه وتعابثه ريثما يحين موعد نمرتها، وعندما تسلط عليها الأنوار ويبدأ الرقص، ينتقل إلى مائدة قريبة من الحلبة التي ترقص عليها، ويخرج من جيبه كدسة من ذوات الخمسمئة، وينثرها فوق رأسها فتتساقط تحت قدميها.. يفعل هذا كل خميس..‏
                (( واحدة فقط من تلك الأوراق تنهي تكاليف الولادة))‏
                ويتابع أبو رشيد: سميرة لا تحبه.. انها تحب ماله.. وماذا ستحب في هذا الكهل ذي الرأس الصلعاء والبطن الأكرش؟.‏
                بعد عام من نزوحه إلى المدينة كانت المفاجأة.. جاءت العيادة صبيّة مغناج، أدرك للتو انها متمارضة وليست مريضة سألت عن الطبيب.. دخلت عليه دون استئذان.. وعندما لحق بها إلى الداخل كانت قد جلست على الكرسي أمام الطبيب وقد وضعت ساقاً على اخرى..‏
                وكانت تلك البداية.. صرفه بعدها الطبيب من العمل، وعينها بدلاً عنه مشرفة وسكرتيرة.. وظل عاطلاً عن العمل ستة أشهر صرف خلالها ما كان يدخره، قبل أن يتدبر له أبو رشيد، قريب جاره، عملاً معه في أحد أفران أبي حمدي.‏
                كيف سيطلب من أبي حمدي سلفة جديدة على المرتب.. إنه لا يجرؤ حتى على الدخول إلى غرفته والوقوف بين يديه.. فهو يخشى أن يستبد به الغضب ويطرده من العمل..‏
                ليس له أحد يحميه.. ليس له نقابة أو نظام ضمان إجتماعي.. لقد اشترط عليه أبو حمدي أن يتخلى عن جميع هذه الحقوق حتى يوافق على تشغيله في الفرن‏
                . . .‏
                تنبه إبراهيم إلى نفسه عند أول منعطف.. وشعر انه بحاجة لأن يشغل رأسه بأي شيء غير هذه الأصداء المتناوحة والأفكار التي تعذبه، في هذه الزاوية حيث يتفرع الطريق خاصم سائق باص الحي الشرقي لأنه رفض أن يقف لأثنين من الأطفال كاد البرد أن يجمد أطرافهما.. أما البيت الذي على الناصية فلا يمر أمامه إلا ويتذكر حادثته مع ساكنيه: كان عائداً من العمل ليلاً، وعندما انعطف نحو الزقاق تناهى إلى أذنيه من ذلك البيت صراخ إمرأة تستغيث وتطلب النجدة، فما كان منه إلا أن اقتحم الباب ودخل ليجد رجلاً يضرب إمرأة شابة بقسوة ووحشية وهو يجرها من شعرها على بلاط الدار وقد استطاع إبراهيم أن ينقذها من بين يدي الرجل، ولكنه دفع ثمن ذلك ليلة باردة قضاها في ( النظارة ) لأنه تدخل في الشؤون الخاصة للناس، والتي لاتهم إلا أصحابها..‏
                ومنذ تلك الليلة لم يعد يتدخل في حياة الناس، بدأ يسير في ظل الجدار و لايطلب إلا الستر... حتى حكاية نعيمة لم يجرؤ ان يرويها لأحد.. ولا لأبي رشيد.. إنه الوحيد الذي يعرف قصة نعيمة مع أبي حمدي..‏
                إنها زوجة زميله أبي عايش الذي كان يعمل على العجانة... كان أبو عايش مريضاً، يشكو من الربو الذي إزداد معه بسبب تسرب ذرات الطحين إلى رئتيه وهو يفرغ كل يوم في المعجن عدة أكياس من الدقيق..‏
                زاره في بيته.. ودخلت نعيمة تقدم القهوة.. لفت انتباهه جمالها المبهر.. سبحان الخالق.. بدر مصور...‏
                غض الطرف ولعن الشيطان و خرج شبه هارب من هذا الجمال... وعندما مات أبو عايش تأثراً بمرضه، رفض أبو حمدي أن يصرف له تعويضاً، أو يعتبر الوفاة إصابة عمل على الرغم من وساطات ورجاءات حميع عمال الفرن.. ولكن أبا حمدي غير رأيه عندما زارته نعيمة تطالب بحق زوجها..‏
                بدأ يداور ويناور ويساوم وهو يستقبل الأرملة في الغرفة الخلفية الملاصقة للفرن وإبراهيم يراقب كل شيء عن كثب..‏
                كانت نعيمة النعجة السمينة البيضاء التي يتحايل عليها الجزار المتربص بها وقد حمل سكينه..‏
                وكانت نعيمة فقيرة، ومحتاجة، خلفت في البيت ثلاثة أطفال فاغري الأفواه ينتظرون طعاماً بعد أن رحل معيلهم الوحيد...‏
                حاولت نعيمة في أول الأمر أن تقاوم، ولكن أبا حمدي كان ملحاحاً.. وبدأ ضغط الحاجة يسوق قدميها إلى المسلخ.. وعندما حاول إبراهيم أن يحدثها وأن يحذرها من الولوج إلى المسلخ الذي يجرها إليه الجزار المتربص كانت السكين تحز الرقبة..‏
                ولا ينسى إبراهيم تلك المقابلة العاصفة بينه وبين نعيمة، وهو يلحق بها إلى حيث تسكن في حي الطنابر.. الحي الذي يسكن فيه قالت له: ماذا تريد؟.‏
                _ أريد أن أتحدث إليك في موضوع مهم..‏
                _. ولماذا لم تحدثني عندما خرجنا من الفرن؟.‏
                -. إنه موضوع خاص، ولا أستطيع أن أتحدث عنه في الشارع‏
                -. وما هذا الموضوع؟.‏
                _. أنت تعلمين محبتي للمرحوم أبي عايش؟.‏
                _. هل سننبش القبور؟.‏
                _. اعوذ بالله.. انني أشرح لك فقط عن مدى محبتي للمرحوم زوجك‏
                -. لم يعد زوجي.. أصبح مرحوماً.. وأنت الذي يقول ذلك.. المهم.. ماذا تريد؟. أوجز واختصر.. انا لا أستقبل رجالاً في بيتي..‏
                -. سأختصر.. سأختصر.. الموضوع يتعلق بأبي حمدي؟.‏
                -. ما به؟‏
                -. أريد أن أقول لك انه....‏
                وتقاطعه نعيمة.‏
                -. أسمع.. قبل أن تقول أية كلمة عن الرجل.. لقد قدمتم لي أنت وزملاؤك عمال الفرن صورة مغلوطة عن الرجل.. صورتموه وكأنه مجرم، أو دون قلب.. قلتم لي أنه سيأكل حقوق زوجي، ولن يدفع لي ليرة واحدة.. وتبين أن كلامكم كله كذب في كذب.. لقد دفع لي حقوق المرحوم كلها، وفوقها حبة مسك، وقدم لي بدل كسوة لأولادي.. ولما اخبرته أن صاحب البيت الذي أسكنه في حي الطنابر سيطردني انا وأولادي من البيت بسبب تراكم الإجار، دفع كل المتراكم، وسيقدم لي ولأولادي بيتاً مجانياً نسكنه في حي آخر.. ماذا تريد أن تقول عن الرجل بعد هذا؟. هل تريد أن تقول إنه نسونجي؟. كلكم هكذا أيها الرجال.. انت نفسك شعرت أنك تأكلني بعينيك يوم زرتنا في البيت وكان أبو عايش مريضاً.. أنت أنظم منه؟.‏
                -. ولكنك لا...‏
                -. أسمع.. لا أريد أن أسمع منك كلمة عن الرجل.. وانت تعرف مصيرك لو علم أنك زرتني لتستغيبه.. اضبط لسانك وهذا خير لك.. واعتبر هذه المقابلة كأنها لم تتم.. وانا كذلك ثم أن عليك ان تنصرف الآن.. لقد اقتربنا من البيت، وأنا لا أستقبل رجالاً في بيتي.. ماذا سيقول عني الجيران إذا رأوك تدخل بيتي وأنا إمرأة أرملة مستورة!. هيا.. مع السلامة..‏
                ماذا جئت تفعل في المدينة يا إبراهيم؟. كيف سمحت لطبيب القرية أن يخدعك بالوعود ويجعلك تبيع كل ما تملك هناك لتعيش هذه المعاناة القاسية؟‏
                كيف سيعود إبراهيم إلى بيته صفر اليدين؟.‏
                أحس بالضيق يشد أضلاعه إلى داخل قفص صدره، وخيبة كبيرة مثل الدوامة تلفه وهو فيها مثل قصبة فارغة في مهب الريح.. في القرية لم يكن كذلك، كان ملء ثيابه.. يحمل سكة الفدان بيد واحدة، ويعمل عشر ساعات في الحقل دون ان يتعب.. يأكل قدراً من البرغل ورغيفين وثلاث بصلات.. كان يشعر أن أحلامه تتحدى المفازات وتظل في إطلالة عالية كصهيل الخيل المتمرد وقد حطم عناد قمة..‏
                يشعر اليوم أنه انتهى من حيث كان عليه أن يبدأ.. فماذا بيده أن يصنع.. إنه عاجز تماماً عن قلب مفهوم بدايته ونهايته في هذه المدينة التي تتقاذفه أزقتها وشوارعها وساحاتها وبناياتها وأناسها الذين يبدون أحياناً حوله مثل العمالقة الأسطوريين وأحياناً مثل الخيوط الملونة الرفيعة التي تنضفر أنشوطة تلتف حول عنقه لتخنقه...‏
                وعندما اقترب من الفرن مرت إلى جانبه سيارة فارهة.. عرفها من لونها ومن وجه السائق.. ومن الراكبة في المقعد الخلفي..‏
                إنها نعيمة...‏
                واستفاق من ذهوله على صوت أبي رشيد وهو يربت كتفه بيده . التفت إليه وسأله:‏
                -. هل رأيت ما رأيت؟.‏
                -. وهل تستغرب؟.‏
                -. إذن انت أيضاً تعرف القصة؟.‏
                -. أجل..‏
                -. ظننت اني الوحيد الذي أعرفها..‏
                -. وماذا يبدل في الموضوع ان كنت تعرف القصة وحدك ام نعرفها معا ؟.‏
                -. وماذا نفعل؟‏
                -. لا نفعل أي شيء.. تعال معي.. لا يزال في الوقت متسع لبدء وردية العمل.. هنا مقهى قريب.. سأدعوك إلى فنجان من الشاي مع القرفة..‏
                -. أريد أن أذهب إلى أبي حمدي واطلب منه سلفة.. زوجتي ستلد الآن‏
                -. أبو حمدي مشغول الآن.. ألم ترّ الزائرة التي جاءته؟. تعال إلى المقهى، نرتاح قليلاً ونشرب الشاي ثم نذهب إلى الفرن..‏
                لم يكن إبراهيم قد دخل مقهى منذ أن قدم المدينة.. فهو ليس من زبائن المقاهي، وليس لديه وقت يضيعه في المقهى، ولا هو مستعد لدفع نفقات إضافية، فوجئ بمقهى غريب من نوعه.. قال عنه أبو رشيد انه مقهى شعبي.. مقهى الدراويش.. صالة مستطيلة، ممتدة نحو الداخل، صفت فيها مقاعد جلدية مستطيلة ومتقابلة..‏
                في آخر الصالة ملحق هو ديوان نصف دائري، صفت فيه بدوره مقاعد جلدية قديمة, وألصقت على الجدار الأيمن مجموعة من الصور الملونة تمثل الزير وعنترة وسيف بن ذي يزن.. في يمين كل منهم سيف مسلول، وتحته حصان أشهب، والغضب يتراقص على شواربهم المعقوصة.. والويل للاعداء..‏
                أما الجدار المقابل فخال إلا من إعلانين كتب على احدهما سعر الشاي، وهو المشروب الوحيد في المقهى، اما الثاني فيرجو الزبائن عدم إيداع امانات في المقهى..‏
                وفي منتصف المكان عدة الشاي يقف أمامها صاحب المقهى بصدارته القذرة ويديه المبتلتين ودخينته التي لا تفارق شفتيه...‏
                جلس إبراهيم صامتاً ينظر إلى صور الفرسان المعلقة بانتظار فنجان الشاي.. ولا يدري كيف أخذته الحال فتصور أن هؤلاء الفرسان هم ثلاثة قضاة خرجوا من التاريخ ليعقدوا محكمة ينظرون من خلالها في ظلامته..‏
                قال لهم: يا سادتي فرسان العرب.. نحن في زمن خاسر.. في زمن ردئ.. انقلبت فيه المفاهيم وزادت تخمة الأغنياء اما الفقراء فقد ازدادوا فقراً.. هل أروي لكم قصة أبي حمدي معي ومع أرملة أبي عايش؟. يبدو أن هناك كثيرين من امثال أبي حمدي.. القصة طويلة ومؤلمة.. هناك خلل كبير في هذه الدنيا لا نستطيع الخروج منه.. لماذا تخليتم عنا أيها الفرسان وهربتم إلى هذا الجدار؟.‏
                وتنبه إبراهيم من سدوره على صوت أبي رشيد يلكزه:‏
                -. ما بك؟. أراك شارداً.. لقد برد الشاي..‏
                ...‏
                في الفرن.. سأل إبراهيم عن أبي حمدي فقيل له أنه في الغرفة الخلفية. كان الوقت يمر سريعاً.. والحالة لا تحتمل التأجيل.. فقرر إبراهيم أن يجازف، وليحدث ما يحدث.. تقدم من الغرفة.. سمع صوت همهمات.. طرق الباب ودقات قلبه تتلاحق مع الطرقات.‏
                بعد قليل، فتح الباب، وظهر أبو حمدي غاضباً:‏
                -. أنت.. ماذا تريد؟.‏
                -. زوجتي ستلد بعد قليل.. أريد سلفة..‏
                -. تريد سلفة؟. خذ..‏
                ودوت صفعة قوية على خد إبراهيم، أفاق من هولها على صوت أبي حمدي وهو يصرخ به قبل أن يدخل ويصفق الاب خلفه:‏
                -. أغرب عن وجهي.. انت مطرود..‏
                وعند طرف الفرن كان أبو رشيد واقفاً يشهد ما يحدث.. فتقدم من إبراهيم وأخذه من ذراعه خارج الفرن، واخرج من جيبه ورقة مالية بخمسمئة ليرة قدمها له وقال: خذ هذه الآن وأذهب إلى البيت وتدبر أمر الولادة.. وغداً يفرجها الله..‏
                ...‏
                عند باب داره استقبلت إبراهيم الجارة أسماء بزغرودة ضعيفة سرعان ما اختلجت لتختنق في رقبتها الطويلة المعروقة: مبروك يا جارنا.. مبروك..‏
                ودخل إبراهيم الغرفة، فأذا وزجته ممددة في الفراش بوجه أصفر شاحب، على شفتيها إبتسامة لا معنى لها وفي عينيها حكاية قديمة.. وكان في اللفائف التي إلى جانب الفراش خيطان جديدان نزلا حديثا إلى الدنيا الكبيرة.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: امبراطورة الخراب العربي

                  السقوط
                  هذه هي المرة الثانية التي تتبدى فيها أمام عينيها صورة عنزتها (هرجة) التي كانت تحلب ضرعها في المعمورة، قريتها الغافية بين صخور الجبل الجنوبي في بلدها..‏
                  في المرة الأولى عندما كانت واقفة في شرفة برج (إيفيل) تطل منها على باريس.. أما المرة الثانية فهي الان، ويدها تمسك بكأسٍ مليئة بعصير الأناناس في (الامبايرستيت).. ناطحة السحاب الشهيرة في نيويورك..‏
                  عندما وقفت في شرفة برج إيفيل لم يكن قد مضى عليها منذ أن خلفت وراءها مطار دمشق سوى شهر واحد.. ولهذا ضاع حنينها إلى العنزة والقرية والسهرة مع القمر على السطح في غمرة لهفتها على استقراء مظاهر ودقائق الحياة الجديدة التي انداحت في دوامتها، ولولا خاطر عابر في ذهنها وهي تزور كاتدرائية نوتردام في الصباح راسماً صورة ( أزمير الدا وعنزتها ( التي قرأت عنها في رواية (احدب نوترام) لما بدت أمامها صورة عنزتها في باريس..‏
                  اما هنا، في الامبايرستيت، فإن أصابع يدها الممسكة بالكأس، هي التي تحدثت.. حدثتها عن نفسها يوم كانت الأصابع السمر القاسية، المصبوغة بالحناء، تمسك بضرع العنزة وتحلبه بخبرة ونشاط‏
                  وضحكت نايفة وهي ترى نفسها محاطة بمقصورة تسبح في هالة ضبابية حالمة تطل على ثلاث جزر يؤلف مجموعها هذه المدينة الأسطورية، عرفت الان مدى جهل أستاذ الجغرافيا الذي كان يحدث التلاميذ عنها في القرية فلا يتصورونها إلا بحجم ثلاث قرى متجاورة.‏
                  وعبثا حاولت نايفة أن تندمج بالموسيقى والضباب والجو الحالم، فقد استيقظ حنينها إلى القرية دفعة واحدة، وعجبت من نفسها كيف انتقلت من القرية إلى جامعة دمشق، ثم إلى جامعة طبية أخرى في مدينة الضجيج هذه لتدفع خمسين دولاراً وترضي فضولها بارتياد هذا المقصف، وحيدة إلى مائدة غريبة بين المتحلقين حول الموائد القليلة الأخرى.‏
                  ومرَّ نصف ساعة..‏
                  تقدم بعده من مائدتها شاب أشقر طويل يستأذن بالجلوس، فرفضت السماح له بذلك.. كان في عيني الشاب جرأة وقحة.. وتذكرت الذئب..‏
                  مرة.. في الجبل.. هاجم ذئب عنزتها (هرجة).. هجمت عليه وضربته بعصا غليظة ضربة جعلته يهرب وهو يرسل عواء متقطعاً، منذ ذلك اليوم وهي تواجه الناس، والرجال بصورة خاصة، غير متوجسة ولا خائفة.. أما هذا الشاب، فلن يكون أشرس من الذئب.. رأته يتقدم نحوها مرة ثانية.. بدا لها وكأنه ثمل.. وعاد يستأذن بالجلوس.. فأذنت له..‏
                  قال لها: انت لست أمريكية.. ولست زنجية.. أليس كذلك؟. فأجابت ببرود: هذا سؤال سخيف..‏
                  -. أوه.. آسف...‏
                  وضحكت فلمعت عيناه.. هي تعلم أن ضحكتها أعجبته.. ان زوجة خالها (لطيفة) كانت تقول لها دائماً: ولك تقبريني يا نايفة على هالضحكة..‏
                  وسألته: أنت لست إبن صاحب مصنع للسيارات أليس كذلك؟.‏
                  -. أنا ممثل من الدرجة الثانية.. هل تعرفين أن سمرتك جذابة؟‏
                  -. اعرف هذا؟.‏
                  -. وما سر هذه الجاذبية؟.‏
                  -. هذا السؤال أيضاً سخيف..‏
                  فانتفض رأسه مع انتفاضة يده: أوه.. سخيف.. سخيف اعتذر إذن.. انا لم أشرب كثيراً، ولكني لست سعيداً.. لقد سئمت الجلوس وحيداً‏
                  -. ماذا أتيت تفعل في هذا المكان وحيداً؟.‏
                  -. أشعر هنا أنني في مملكة الله..‏
                  -. لم أفهم قصدك‏
                  -. إن (جوان) تقول لي دائماً: فتش عن مملكة الله..‏
                  -. مرة ثانية لم أفهم ما تقول.. من هي جوان هذه.. وأين ستفتش عن مملكة الله..‏
                  -. إن جوان بطلة مسرحية ( الحياة السرية).. ونحن نمثل هذه المسرحية على مسرح شبه مجهول في الضاحية الشرقية من المدينة، وأنا لا أنصحك بمشاهدتها.. فهي مسرحية محيرة، مربكة.. من مسرحيات ما بعد الحرب العالمية الأولى، لست راضياً عنها، ولكن مدير الفرفة يقول أن لها زبائنها تبدو جوان في أكثر مشاهدها وهي تكشف عن فخذيها.. وقد كتب أحد النقاد مقالاً عن المسرحية يقول فيه: لا شيء فيها من التصاعد الدرامي.. وقال أشياء أخرى لا أتذكرها الآن، فالشراب يضيع مني نصف ذاكرتي.. ولكني لا أسكر.. هل تصدقين هذا؟.‏
                  -. بدأت أصدقك..‏
                  -. أستطيع أن أعطيك موجزاً عن حوار المسرحية على لسان ( شتراوس) الذي ألعب دوره.. وأسمي الحقيقي بلينكي.. إنني أقول لجوان وأنا أتقمص دور سياسي متعثر يقابل بعد مدة فراق طويلة حبيبته التي انفصل عنها دون أن يتزوجا: (( دعيني من ضلال السيطرة، فقد كانت لدي يوماً ما- وانني لأشكرك على ذلك- قوة مافي داخلي.. إلا أن تلك القوة لم تستجب لأي دافع بعد رحيلك..‏
                  وتقول جوان: حتى ولا لدافع سبب معقول أو مثير؟‏
                  فأقول: هناك الكثير من الأسباب المعقولة التي يسهر عليها الأدعياء البارزون الذين يغلب عليهم حب التظاهر بالقوة الفارغة، والذين يرقبون بعقولهم الصغيرة ماذا سيحدث، فإذا بحثت عن قوتهم الحقيقية التي لا يمكن أن تستعار أو يساوم عليها، وجدت انها تنبعث من الحياة السرية التي يعيشونها. وتسألني جوان عما إذا كان من الأفضل لنا لو لم نلتق ما دمنا لم ننته إلى سعادة، فأجيبها: كلا.. إن ذلك لتجديف.. على الأقل لا تجاري الذين يجحدون، فعجلات الحياة عندئذ ستجري إلى الجهة التي لا نريد‏
                  وتقول جوان: ولكن فتش أولاً عن مملكة الله فتتجرد من الرغبة في كل الأشياء الصغيرة ))‏
                  كان بلينكي يتكلم بسرعة وهو يحرك يديه وعينيه وكأنه على المسرح في الضاحية الشرقية.. ولم تستطع نايفة أن تستوعب جميع ما قال، ولكنها ظلت تتساءل: مادام هذا موضوع المسرحية، فما الداعي لأن تكشف جوان عن فخذيها في أكثر مشاهد المسرحية؟.‏
                  وراحت نايفة تفكر، وهي تتأمل بلينكي، في هذا النموذج من أناس الدنيا الجديدة، عندما قطع عليها حبل تفكيرها بقوله: انني افتش عن مملكة الله لأ تجرد من الرغبة في الأشياء الصغيرة، وهذا ما لا أستطيع أن أفعله على المسرح، فالجمهور والأضواء وصوت المدير خلف الكواليس، كلها أشياء تضعني في واقع متعب لدرجة الإعياء.‏
                  -. ولكن لماذا تريد أن تتجرد من الأشياء الصغيرة؟.‏
                  -. لم أجد فيها سعادة.. حتى وجهك الأسمر الجميل أشعر أنه بعيد عني.. لا.. لا تظني أنني أقول هذا بخبث.. أنا أحترمك لأنك تستمعين إلي..‏
                  -. ما الذي يتعسك على التحديد؟. لماذا لا تسعد نفسك؟.‏
                  -. لا أستطيع.. لا يستطيع أي إنسان في هذه المدينة كلها ان يسعد.. إن صديقي الدكتور هومر، وهو طبيب نفساني يقول لي: في حياتك فراغ يجب أن تملأه؟‏
                  -. ولماذا لا تحاول أن تملأه؟.‏
                  -. بماذا أملؤه؟.‏
                  -. الحياة في بلادكم غنية جداً بما يمكن أن يملأ به الإنسان فراغ نهاره وليله‏
                  قال بلينكي ونبرة أسى تبدو جلية في صوته: لقد جربت كل شيء، وعبثاً كنت افتش عن السعادة..‏
                  قالت نايفة: ما عليك إذن إلا أن تحلب العنزة..‏
                  تساءل دهشاً: ماذا تقولين!.‏
                  قالت نايفة وهي تضحك: لا شيء.. نصيحة سخيفة...‏
                  عندما ذهب بلينكي بدأت صور القرية تسرق نايفة من واقعها مجدداً، وراحت معها في استقراء داخلي لمعنى السعادة التي كانت تعيشها، تشعر بها وهي تحلب ضرع عنزتها ( هرجة ).. ولمعنى السعادة التي يفتقدها بلينكي في نيويورك في أعلى ناطحات السحاب فيها..‏
                  وعندما كان المصعد يهبط بنايفة وببعض رواد المقصف إلى الطابق الأرضي، كانت تشعر انها الوحيدة التي تتجه إلى أعلى.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: امبراطورة الخراب العربي

                    المدار الجديد
                    إني أختنق..‏
                    ضيق متعب يشد أضلاع صدري إلى الداخل.. خيبة كبيرة أحسها دوامة عنيفة انداح فيها بيأس، والعينان الآسرتان في وجه خطيبتي (هالة) تلوح فيهما سخرية حادة..‏
                    هناك لم أكن هكذا.. وأحلامي كانت تقطع كل المفازات وتتحدى جبالاً وتلالاً وسهوباً، وتظل في إطلالة عالية كصهيل الجواد المتمرد وقد حطم عناد قمة..‏
                    أشعر اليوم أنني انتهيت من حيث كان علي ان أبدأ.. انني عاجز تماماً عن قلب مفهوم بدايتي ونهايتي في مدينتي هذه الكبيرة التي أضاعتني.. أنا لست بطلاً فيها..‏
                    هناك قالوا عني انني بطل، ولكن للبطولة هنا مفهوماً آخر، لا أصلح له وفي رأسي هذه الأفكار التي تومض بشدة..‏
                    مدينتي بدأت تخيفني.. تثير الملل في نفسي.. تشعرني بضياع كبير لا أجد منفذاً للتخلص منه، لم تكن هكذا قبل أن اغادرها إلى هناك.. كانت في نظري عجوزاً فاتنة، أفتن من الصبايا‏
                    لم أكن أعرف حقيقتها قبلاً.. كنت ألتقي بعض أناسها في أحد الأماكن أو ألقاهم مجتمعين في المقهى يقتلون الوقت- وأنا بينهم- في الثرثرة، فأجد في هذه تسلية ما بعدها تسلية..‏
                    أبي أخطأ في تدليلي.. هذا ما ادركته الآن، وكذلك أمي، واختي سميحة، والمدينة التي أثارت فيّ هذا الملل تذكرني ببداية سابقة مضادة في المفهوم والمسار الذي سلكته.. كان ذلك بداية وعيي حقيقة المدينة وحقيقة الحياة يوم غادرتها إلى الخطوط الأمامية على الحدود‏
                    البداية.. يوم وقف والدي الكهل بقامة منتصبة في المحطة قبل ان أصعد إلى القطار، يشد على يدي ويقول: هذه الأرض قد رعتك يا ولدي حتى أصبحت هذا الرجل الذي يقف أمامي، لقد كان لي قبلك شرف اداء خدمة العلم، وكنت دائماً أعرف واجبي، وعليك أنت أن تعرف واجبك في حياتك الجديدة.‏
                    وسار القطار.. وأنزويت في مكاني أفكر في كلمات أبي.. كان قبلاً يدللني بكلمات رقيقة، كان يجعلني دائماً لا أرى في وجودي إلا معنى سعي لا مبالٍ انطلق فيه متواكلاً، كنت أتوقع أن يعانقني ويقبلني بحنان ويبكي ويقول: حاول أن تعود نفسك على حياة الجندية يا ولدي.. إنها حياة قاسية ولكنها ستنتهي..‏
                    لكنه لم يفعل شيئاً من هذا.. لقد قال كلماته تلك وربّت كتفي بهمة شاب معتد بقوته..‏
                    شعرت باعتزاز كبير.. شعرت بدماء حارة تتدفق في عروقي ورأسي، وبقلبي يكبر ويكبر حتى خيّل إلي لحظتها أن في وسعي أن أوقف القطار بسبابة يدي.‏
                    في المعسكر.. قالوا في الأيام الأولى انني جندي جبان.. إهانة قاسية كأنها ضربة مطرقة هائلة ارتج لها كياني، وزاغت عيناي فبدت امامهما الرؤى باهتة مهزوزة.. وانزويت في (البلوكوس) افتش عن الجبن في ذاتي، فلا اجد له ظلاً سوى انطوائي على نفسي، واجتراري ذكريات المدينة، وصور التجهيز، والمقهى، وخمارة أبي إبراهيم، وشلة الرفاق، وعيني هالة الآسرتين..‏
                    ووجدتني حبيس ذاتي.. حبيس هذه الذكريات التي ما تنفك تسلب إرادتي فإذا أنا أدور معها.. وادور.. وأدور.. جندي جبان!!.‏
                    كنت لم أخض معركة بعد.. ولم يعجم عود شجاعتي، فلماذا الإهانة؟ حاولت جاهداً أن أقنع رفاقي بأنني لست جباناً، وأن تهمتهم باطلة، ولكني عبثاً كنت أحاول.. وأدركت الفرق بين حياتي في المدينة وحياتي في الخطوط الأمامية..‏
                    في المدينة كنت أرد بتزييف الحقائق.. باجتراح موهوم ابديه بانتقال امام الكاذبين والحا سدين، فيصدقني الناس.. أمي كانت تفعل هذا.. كانت تقول لجارتنا أم سهيلة عندما تسألها كم تقدر لها من العمر: لا أظنك تتجاوزيين الثلاثين... فتشيع ابتسامة رضى عريضة على وجه أم سهيلة طيلة الجلسة، حتى إذا انصرفت، وثرت على مراءاة امي، ربتت خدي بيدها وهي تقول: أنت لا تعرف الحياة بعد.. يجب أن تساير الناس حتى تستطيع أن تعيش بين الناس.‏
                    وأظل في انطوائي، أحتل ركناً منزوياً في البلوكوس وأنا سادر مع ذكرياتي في المدينة، أجترها مع جرعات الشاي الأسود الثقيل، ولعنة الكلمة (جبان) تصطرع في نفسي بعنف وأنا أنظر إلى وجوه رفاقي: سعيد، وعايش، وسمعان، وسلمان القصير ذي السحنة الصفراء والأسنان الكبيرة وهو يضج في المكان..‏
                    كم كرهت هؤلاء في اول عهدي بالمعسكر.. شعرت بخيوط النقمة تتدافع من كياني ليلتف كل منها على واحد منهم، وكان الخيط الذي يلتف حول سلمان أغلظ الخيوط، واشدها قسوة، وأقدر على عصر رقبته.‏
                    -. جبان.. جبان..‏
                    وصحت به: لماذا يا سلمان.. لماذا تهينني؟‏
                    -. جبان.. جبان.. جبان...‏
                    لم اكن أتصور أن لكفي كل هذه القوة إلا عندما رأيته يتداعى على نفسه ويسقط.. ولولا أن أنقذه مني العريف ناصر في اللحظة الأخيرة لاجهزت عليه..‏
                    قال الملازم عدنان آمر السرية: لماذا ضربت رفيقك؟.‏
                    -. ....‏
                    _. قلت لك لماذا ضربته؟.‏
                    -. لأنه أهانني..‏
                    -. ماذا قال لك؟.‏
                    -. قال انني جبان‏
                    -. ولكنك أخطأت في تصرفك.. سأرفع تقريراًبسجنك ثلاثة أيام مع طلب الزيادة، وحاول أن تكون ملتزماً مثل رفاقك.. انت تتهرب من التدريب، وتتمارض، ولا تحاول أن تتسلق التل معهم، وتدعي دائماً أن حذاءك غير مريح، وتلح في طلب الإجازات لزيارة اهلك.. هذه الأمور كلها، وأن كانت لا تدل على الجبن الحقيقي إلا أنها ليست من صفات الجندي.. هل فهمت؟. اذهب الآن وحاول ألا تثبت لي ما ينعتك به رفاقك...‏
                    وأصبحت بطلاً..‏
                    قال لي كل من في القطاع: (( أنت بطل )).. كان اولهم سليمان.. وعبثاً حاولت أن أقنع رؤسائي ورفاقي بأنني لست بطلاً، وبأن ما قمت به يستطيع أن يفعله أي واحد منهم.. لقد أسكتوني غير مقتنعين.. وقال الملازم عدنان وأكد على ذلك النقيب شوكت: لا شك أن كل اخوانك الجنود بواسل شجعان، ولكن للبطولة معنى مختلفاً في الميدان.‏
                    كان آمر السرية قد قال لنا في اجتماع مفاجئ: امامنا عمل خطير يجب أن يتم.. يجب أن يتطوع احدكم لنسف الجسر..‏
                    (( كان الجسر عقدة مواصلات العدو في القطاع))..‏
                    وفي صباح اليوم التالي كان خبر تسللي إلى مواقع العدو ونسفي الجسر حديث الخطوط على طولها..‏
                    وأصبحت سعيداً.. كدت أبكي من فرحي عندما أثنى علي قائد الفوج وقرأ على الجنود ثناء القيادة أيضاً..‏
                    وبعدها تكامل ايماني بالقيم الحقة، وكفرت بفلسفة أمي، وأم سهيلة، وألف ألف واحدة من امثالهما.. الحقيقة وحدها أقنعتني بأنها فوق التهم الباطلة..‏
                    ...‏
                    إني أختنق..‏
                    كنت آنذاك أكثر سعادة، وفي عروقي كنت أستشعر استمراراً حاراً لتوثب دافق، كنت أشعر بنفسي أكاد الأمس حدود المطلق من السعادة عندما أتمدد بثياب الميدان على العشب، وجهي إلى الأرض، أمرغه في قطرات الندى الباردة اللامعة على السوق الصغيرة، وذهني صافٍ خالٍ من خواطر المدينة التي عدت أحياها اليوم واقعاً متعباً يجعلها تتسلق جبهتي بضنك، ثم تتساقط كالعقارب‏
                    مدينتي كلها، العجوز الفاتنة.. أصبحت امامي عجوزاً مريضة، وأنوارها التي كانت تبهرني في الأمسيات الدافئة، أصبحت بدورها كومة من عيون عفاريت وقحة تتراقص بجنون فوق الواجهات، أو تجثم ببلادة على أعمدة طويلة. وشلة الأصدقاء.. ندماء المدرسة والمقهى والتسكع.. أصبحت أمقتها.. أصبحت غريباً بين أفرادها.. بدأت احس بسكاكين تمزقني في قهقهاتهم الجوفاء وهي تنفجر في وجهي حمقاء بلا رجولة، كلهم بدوا أمامي ضائعين في ثيابهم وفي أشيائهم الأخرى الصغيرة..‏
                    لماذا يضيعون عن الحقيقة؟. لماذا لا يتخلون عن فلسفة أمي وأم سهيلة؟.‏
                    يقول (نعيم) وهو الذي كان يفاضل لمدة ساعة بين أنواع الدخان الأجنبي: إسمع يا بطل.. لولا أن أبي دفع لي بدل الخدمة نقوداً لسبقتك إلى هذه البطولة، ولكن حظك أقوى من حظي..‏
                    وأسأل نفسي: هل أنا مريض؟. ألم أعد أصلح للحياة الاجتماعية بين الناس؟.‏
                    وأتذكر قول أمي: ((يجب أن تساير الناس لكي تستطيع أن تعيش بين الناس ))..‏
                    ولكن.. لماذا لا يسايرني الناس بدل أن اسايرهم؟. أنا عرفت الحقيقة وهم غافلون عنها، فلماذا اشد نفسي إلى الأرض بكلمة إنهزامية: مسايرة؟.‏
                    (( يا مدينتي.. سأرحل.. إلى هناك.. لا أريد أن أؤمن بعد اليوم أن الشمس يمكن أن تكون باردة في خط الإستواء)).‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: امبراطورة الخراب العربي

                      أشقياء في مياه مالحة
                      قادم من قرية في الشمال.. هذا أنا.. من أرض كان ربيعها يزحف فوق التلال والبيوت، ويورق حتى في تنور جارتنا السمراء.. لست متواضعاً، ولا متبجحاً.. فأنا أحمل همومي مصابراً، ولكني أرزح أحياناً تحت ثقلها في عثار الطريق...‏
                      الأيام في المدينة انستني كثيراً من حكايات الشمال.. تنورة الصبية التي أصبحت زوجتي ذبحت كدسة من تلك الأيام، ولكن الوجه الذي بدا اليوم في الزحام رماني في دوامة من التداعيات تنتهي ولا تنتهي..‏
                      بدا وجهها في زحام المدينة رسالة ود قديم من بلدته البعيدة الوادعة قرب نهر الخابور تحلم بخمول...‏
                      قلت لها: لماذا أتيتِ؟.‏
                      أجابت هازئة واختناق الدمع في صوتها: جئت استعرض شارات التقدير تحفرها المدينة الكبيرة على صدرك..‏
                      -. وماذا رأيتِ‏
                      -. رأيتها محفورة باسياخ من نار.. تبدو في عينيك المتعبتين..‏
                      -. النار تطهر كل شيء‏
                      -. يقولون في القرية انك اصبحت مشهوراً في المدينة‏
                      -. لم أشعر بهذا‏
                      -. لقد افتقدناك في جنازة والدك‏
                      -. كنت مندمجاً في دوامة العمل، فلم أستطع سوى تحويل المال الذي يكفي لدفنه.. كان المال- لاتضحكي- بدل إعلانات باب الزواج والوفيات في الصحيفة التي هي مورد رزقي‏
                      -. أهذا كل ما فعلت؟. ألم تصلَّ من أجله؟.‏
                      -. رجوت التراب ان يترفق به‏
                      -. هل انت سعيد في المدينة؟.‏
                      -. ولم أكن سعيداً في البلدة‏
                      -. عد إلى بلدتك، لعل حبنا الذي مات، تورق اعواده من جديد‏
                      -. لم يبق في الكرم إلا الحطب‏
                      -. نسيت أنك تزوجت..‏
                      -. وورائي يرتفع نداء منغوم لثلاثة أطفال‏
                      -. ولماذا لا تسعدك زوجتك؟.‏
                      -.إنني أبحث لها عن السعادة‏
                      -. معنى هذا أنك لن تعود إلى القرية؟.‏
                      -. لا يا شقية.. فانا لا أستطيع ان أصلي بعد اليوم في معبد بارد‏
                      ...‏
                      في المقهى...‏
                      قال لي عنكبوت بهيئة إنسان يدّعي المعرفة: انت رجل فقد ظلّه‏
                      قلت: إنك تردد كلاماً تقليدياً بغباء..‏
                      قال: ألم تقلص الزنزانة ظلك؟. ألم تفقدك إياه نهائياً؟.‏
                      قلت: الزنزانة صغيرة.. وظلي كان دائماً خارج جدرانها.. أكبر منها، ولهذا تراني الان طليقاً..‏
                      قال: ولكنك دفعت الثمن باهظاً..‏
                      قلت: تريد الحياة أن نعطيها اكثر مما نأخذ منها..‏
                      قال: أنت متطرف في غرورك..‏
                      قلت: اتهمت نفسي مرة بهذه التهمة فسخرت مني..‏
                      قال: إن نفسك تخدعك‏
                      قلت: حاولت ان أقنعها مرة بأن تخدعني فلم تلبِّ‏
                      قال: كيف؟.‏
                      قلت: طلب إلي جرذ، وأنا في الزتزانة، ان ألبس لبوسه وأخرج من جحر في الظلام .. وحاولت اقناع نفسي بأن هذه هي وسيلة الخلاص العاجل فلم تقتنع‏
                      - ولماذا؟‏
                      - لانها لا تحب الرجال الجرذان.‏
                      في واحدة من علب الليل...‏
                      أبحث ضائعاً عن ضياعي.. وأمامي إمرأة سترها يفضح عريها، وأظافرها تمتد في وجهي همجية طويلة مصبوغة..‏
                      قالت: كنت فنانة عظيمة في بلادي.. وقد قمت بدور البطولة في تمثيل فيلم سينمائي عنوانه: العيون تترك اثراُ‏
                      قلت: ولماذ1 لم تمكثي عظيمة في بلدك؟.‏
                      قالت: انا لا أحب مجرى النهر العريض الذي يسير هادئاً غير عابئ بما يرمي على ضفتيه من أغصان يابسة وثمار قبل أوانها، انا أبحث عن الأشياء المختلفة‏
                      قلت: وهل وجدت هذه الأشياء المختلفة؟.‏
                      قالت: وجودها في عدم إيجادها، وهذا منتهى المغامرة في شعاب مغامرة مجهولة..‏
                      قلت: لم أفهم قصدك تماماً..‏
                      قالت: لقد ضحكت مرة من اعماقي عندما كتب عني صحفي عربي وصفاً بالمجلة التي يعمل فيها وقال! هذه الإسبانية تحمل الملامح الشرقية الأصيلة التي تنبئ عن تاريخها العريق‏
                      قلت: وما وجه الغرابة في الموضوع؟.‏
                      قالت: إنني من فنزويلا، ولم أزر إسبانيا في حياتي‏
                      قلت: وأين المغامرة المجهولة التي تبحثين عنها..‏
                      قالت: قد تكون هذه الليلة معك..‏
                      قلت: أستطيع ان اهنئ نفسي على صحبتك هذه الليلة، فأنت في حقيقتك غيرك في مظهرك..‏
                      قالت: هل تراني مثقفة؟.‏
                      قلت: هكذا يبدو من آرائك وحديثك..‏
                      قالت: وهل هذا ما أعجبك فيَّ أكثر من أي شيء آخر؟.‏
                      قلت: نعم..‏
                      قالت: أنت كاذب.. فمنذ أول الجلسة وأنت تكاد تلتهم صدري بعينيك‏
                      قلت: ومع هذا فأنا أبحث لديك عن شيء آخر‏
                      قالت: و لماذا؟.‏
                      قلت: لأن زوجتي أكثر جمالاً وإثارة منك...‏
                      قالت: هل أطلب ليتراً آخر من الويسكي؟.‏
                      قلت: يكفي ما شربنا حتى الآن..‏
                      قالت: إذن.. ارجو المعذرة.. هناك زبون آخر بانتظاري‏
                      ...‏
                      أمام دكان بائع السمك...‏
                      -. أسعدالله يومك يا عمّ‏
                      _. و أسعد يومك يا سيدي..‏
                      - هل هذا السمك طازج...‏
                      -. وصل اليوم والله العظيم..‏
                      -. لا يمكنك أن تبيع الكمية كلها اليوم، فهل ستقول للشاري الذي سيقف عليك غداً: وصل اليوم والله العظيم؟.‏
                      -. ولماذا تريد إحراجي يا سيدي؟ إنه ليس سمكاً فاسداً على كل حال..‏
                      -. وليس طازجاً أيضاً..‏
                      -. هذا ما عندي، فإن أردت بعتك، وإلا فالرأي لك..‏
                      -. سأشتري منك بشرط أن ترضي فضولي وتصدقني القول فتعترف بتاريخ وصوله الحقيقي.‏
                      -. صدقني يا سيدي أنه وصل اليوم..‏
                      -. ولماذا لم تظل عند قولك الأول ما دام سمكاً طازجاً، فاعترفت بأنني أحرجك؟.‏
                      -. لأنني تاجر يا سيدي، وفي دنيا التجارة أوزان كثيرة نرمي بآخرها في وجه الذي نستنتج انه لن يشتري، وان كنا نوهمه بإننا نعمل بالقول المعروف: الذي لا يأتي معك تعال معه.‏
                      ...‏
                      في غرفة امرأة.. تحت سقف داكن..‏
                      قالت المرأة: هناك أوساخ تحت أظافرك.. هل تعمل في مصبغة؟.‏
                      -. اعمل في مطبعة.. هذا حبر المطبعة..‏
                      -. كنت مسلياً وأنت تحاول أن تداعب وجهي، بينما أتأمل أنا ما تجمع تحت أظافرك من اوساخ..‏
                      -. هل وافقت على استقبالي في غرفتك لتسخري مني؟‏
                      -. مجرد موافقتي على استقبالك معناه أنني لا أسخر منك‏
                      -. سأقلم هذه الأظافر.. ماذا تريدين أيضاً؟.‏
                      -. لن أكون راضية عنك إذا فعلت ذلك‏
                      -. لماذا؟.‏
                      -. أنا أحب الأظافر تنغرس في لحمي‏
                      -. هل عدت تسخرين؟.‏
                      -. هذا غزل وليس سخرية‏
                      -. غزل؟.‏
                      -. انه غزل من نوع جديد.. ألم تقل لي أول الليل انك رجل من طراز مختلف، وانك تبحث دائماً عن أشياء ليست لدى الناس، وانك رأيت في عيني إنعكاساً لنفسك؟.‏
                      -. هل تقولين هذا صادقة.. أم انك تتصرفين من قبيل الشفقة؟.‏
                      -. يبدو أنني صادقة، ألا تريد أن اكون صادقة مرة واحدة مع الآخرين؟.‏
                      -. تتكلمين كفيلسوفة..‏
                      -. أنتم تنظرون إلى مثيلاتي، وكأننا لا نصلح إلا للفراش..‏
                      -. أنا لا أنظر إليك هذه النظرة‏
                      -. وماذا أتيت تصنع عندي إذن؟.‏
                      ...‏
                      مع الرجل البدين.. صاحب العمل..‏
                      يقول الرجل: هذا كل ما بقى لك‏
                      وتصيح إمرأة في بيتي: ولكنها حياة كالموت.. اهذا كل ما بقي لك؟‏
                      - وماذا نفعل بمبلغ تافه كهذا؟. عد إلى الرجل.. اطلب إليه ان يكون كريماً معك فيعيد إليك السلفة التي استردها منك.. إننا لن نجد خبزاً في البيت يوم غد..‏
                      -. لا أستطيع أن أستجدي الخبز..‏
                      -. حتى من أجل أطفالك؟‏
                      -. انا اكره عبيد الخبز.. أكرهك.. أكره أطفالي.. أكره نفسي..‏
                      ترتمي زوجتي على قدمي.. تبكي.. اشعر بزهو عظيم يجتاح كياني.. أتصور نفسي بطلاً من أبطال التاريخ يتهاوى الاعداء على قدميه مستسلمين.. أرفع سيفي في وجه الشمس.. ولكن أعصابي تتشنج.. وأحس برغبة في البكاء.. يتهاوى التاريخ.. يتهاوى السيف.. يتهاوى البطل ، وتمتزج دموع إنسانين معاً.. وتنهمر قطرات كثيرة.. ويمتد بحر عظيم.. وتتعلق المرأة برقبتي، وتتقاذفنا الأمواج ونحن نداعبها سعيدين‏
                      وتقول المرأة: سنغرق...‏
                      فأقول: لنغرق...‏
                      وتقول المرأة: ونموت...‏
                      فأقول: لن يكون قبرنا تافهاً هذه المرة.

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: امبراطورة الخراب العربي

                        الصلصال
                        قفز إلى ذهنه سؤال جديد:‏
                        -. ترى.. هل ستكون هذه أيضاً من القطيع؟. أليست متميزة؟. لقد قرأ في عينيها البنيتين سيرة جديدة لم يقرأ مثلها في أية عينين مرتا به أو مرّ بهما.. فهل يتابع الطريق ويدخل معها تجربة جديدة؟. أما يكتفي بما في صدره من سهام؟.‏
                        كان يومئذ جالساً في مكتبه بإدارة الجريدة يدخن وحيداً ويتسلى بقذف كرات ورقية صغيرة من بين أصابعه، عندما ارتفع رنين الهاتف وكأنه يلح بإصرار:‏
                        -. أنت الأستاذ صبحي إذا لم يكذبني حدسي..‏
                        -. حدسك صادق‏
                        -. انا نجوى حلمي.. هل عرفتني؟.‏
                        -. أنت إحدى بطلات مسرحنا..‏
                        -. وهل لقب البطولة رخيص لديك إلى هذا الحد لتمنحه لأول هاتفة‏
                        -. لست أول هاتفة كما أعتقد..‏
                        -. معنى هذا انك تمنحني لقباً مكروراً‏
                        -. أعرفك ممثلة بارعة على المسرح، لكني أكتشفت الآن انك محاورة ذكية‏
                        -. ما دمت بارعة على المسرح.. لماذا أهملني قلمك حتى الآن؟‏
                        -. لا تزالين في أول الطريق..‏
                        -. بل قل ان غيري يحتل الدور الآن‏
                        -. أحكامك جائرة.. مهما يكن، هل هتفت لي لهذا أم لسبب آخر؟..‏
                        -. سأكذب عليك إذا تعذرت بسبب آخر‏
                        -. تعجبني صراحتك..‏
                        -. هل اعتبر الموضوع في حكم المقرر؟.‏
                        -. أنا لا أقرر أموري بمثل هذه السرعة..‏
                        -. إذن لا بدً لنا من لقاء.. سأتصل بك مرة ثانية..‏
                        ...‏
                        السؤال يلح عليه.. السؤال نفسه الذي كان يلح عليه كلما وجد نفسه أمام تجربة مع واحدة من الباحثات عن الشهرة في الصفحة التي يشرف عليها بالجريدة.. آخر واحدة في قطيع هؤلاء الصبايا كانت فتاة على المسرح أيضاً.. زميلة لنجوى هذه، جاهدت كثيراً حتى استطاعت أن تثبت قدميها على الخشبة، وتألقت بين الأضواء التي وجهت إليها من هنا وهناك، ولكنها وجدت أن هالتها ناقصة إذا لم يكتب عنها قلم صبحي.. دعته إلى عرض مسرحية كانت تمثل فيها دور البطولة، واعطت يومها عطاء باهراً، وعندما دوّت الصالة بالتصفيق كان هو واحداً من المصفقين.. ودارت عيناها في الصالة تبحث عنه حتى وجدته، فانحنت قليلاً وابتسمت شاكرة، وكتب عنها: (( انها الأولى بين الواقفات على خشبة المسرح في البلد )).‏
                        ومرّ عام، فإذا هي تدلي لإحدى الصحف بتصريح حول بعض الأمور الفنية، وتأكد صبحي وهو يقرأ الحديث إن الغرور، ركب رأسها الصغير.. خاف عليها من هذا الغرور، فاتصل بها يحذرها من نتائجه، وكم كانت الصدمة قاسية عندما قالت له: (( أنا أعي ما أقول.. وأعرف حدود طريقي.. ثم لا تنسَ أنني لست ممثلة ناشئة.. ولا تنسَ أن النقاد قالوا عني إنني الفتاة الأولى على خشبة المسرح..‏
                        وأصبحت في آخر القافلة.. سقطت.. تهاوت إلى الأدوار الثانوية.. أصبحت مقدمة اعلانات.. وهذه الجديدة هل ستكون مثلها.. مثل الأخريات؟. هل ستنتهي بدورها إلى الغرور والضياع؟. هل يدخل معها التجربة؟.‏
                        رن الهاتف.. عرفها هذه المرة من صوتها..‏
                        -. أهلاً نجوى..‏
                        -. كيف عرفت صوتي؟.‏
                        -. أرجو ألا يضيع مني بعد اليوم‏
                        -. ألم تكن تنتظر مني مكالمة طيلة الأيام الماضية؟.‏
                        -. أصدقك القول؟. بلى..‏
                        -. إذن.. فنحن الآن في طريق التفاهم.. هل أستطيع أن أسرق من وقتك ساعة نجلس فيها ونتحدث؟.‏
                        -. أين؟.‏
                        -. في بيتي.. في المقصف.. في الشارع.. على العشب في طريق ترابية بإحدى مناطق الريف..‏
                        -. الإقتراح الأخير يوافق مزاجي..‏
                        -. مزاجك غريب..‏
                        -. إنني أبحث دائماً عن الأشياء المختلفة‏
                        ...‏
                        -. في الطريق الترابية قالت له: حول المدينة مناطق كثيرة أجمل من هذه المنطقة.. إنها فقيرة..‏
                        -. أنت اقترحت المكان‏
                        -. ولكني طرحت الإقتراح دون تفكير.. انه أول شيء مر بذهني..‏
                        -. ولهذا اخترته..‏
                        -. ولكنها منطقة فقيرة.. وسواقي الماء فيها ضحلة..‏
                        -. مرّة.. وكان ذلك في ريف الشمال، وكنا نحصد الشعير.. عطشنا.. ولم يكن هناك ماء سوى غدير تكومت فوق مياهه جثث الجراد التي سقطت بمبيدات دائرة الزراعة. ازحنا جثث الجراد وشربنا..‏
                        -. إذن فعلي أن أقبل المكان ولو كان زريبة..‏
                        كان يدرك انها ممثلة بارعة، ولكنه لم يكن ليتصور أنها بارعة في التمثيل على الطريق الترابية، كما هي بارعة على خشبة المسرح..‏
                        وسألته فجأة: هل أنا جميلة؟..‏
                        -. ما كياج المسرح يفسد جمالك الطبيعي..‏
                        -. ما هو أجمل ما فيّ؟.‏
                        -. عيناك..‏
                        -. أرجو ألا أكون بالنسبة لك مجرد عينين جميلتين‏
                        ...‏
                        على المسرح..‏
                        هذه المرة بدت أكثر تألقاً.. أعطت عطاء باهراً، وعندما دوّت القاعة بالتصفيق كان هو واحداً من هؤلاء المصفقين.. وتبدل المشهد.. وفي ذروة تأزم إحداث المسرحية في المشهد الثاني، قدمت هي منولوجاً بديعاً من الأداء الفردي، فالتهبت الاكف وهي تصفق لها.. وكان هو يصفق فرحاً، ورأته فرمقته بعينين شاكرتين..‏
                        وعندما أسدل الستار هرع إلى الكواليس ورمى معطفها على كتفيها العاريتين، ثم سحبها من يدها إلى أقرب سيارة.‏
                        -. كنتِ اليوم رائعة..‏
                        -. إنني مدينة بنجاحي لتشجيعك‏
                        -. يسعدني أن أراك متفوقة‏
                        -. هل لديك ملاحظات حول الدور؟.‏
                        -. ارتكبت مخالفة لاأريد أن تتكرر مرة ثانية..‏
                        -. وما هي؟.‏
                        -. نظرتك إلي وهزة رأسك‏
                        -. ولكني كنت أشكرك..‏
                        -. كنت تمثلين مشهداً على المسرح.. والممثل على المسرح يجب أن يكون مع دوره فقط..‏
                        -. في المسرح الحديث لا يحدث هذا.. الممثل يجلس أحياناً مع الجمهور.. مع هذا سآخذ بملاحظتك..‏
                        -. لم تطلبي إليّ ان اكتب عنك..‏
                        -. لم يعد يهمني أن تكتب عني للناس ما دمت انت راضياً عني‏
                        -. حديثك هذا يذكرني ببراعة طالبات المدارس في تملّق الأستاذ قبل الفحص النهائي..‏
                        -. وهل أمامي إمتحان قادم؟.‏
                        -. الغرور.. آخر سهم في جعبة التجربة‏
                        ...‏
                        وسقطت بدورها... بعد عامين فقط.. لم تستطع أن تقاوم إغراء الشهرة.. خدعها بهرجها.. بدأ الغرور يحرق في عينيها ذلك التألق..‏
                        كانت تحمل (البوم) المقالات التي كتبها عنها صبحي.. وتتحدى به زميلاتها، بل انها بدأت تطلق تصريحات غريبة: خشبة المسرح ضيقة.. إن المسرح يخنقني.. يجب أن أنطلق إلى اجواء أخرى.. إلى السينما.. إلى العالمية ))‏
                        وعندما ضمتهما جلسة عرف أنها تلحق حثيثاُ بالقطيع، حتى طريقة إشعالها السيكارة تغيرت..‏
                        لم يقل لها شيئاً.. كان يعني في أعماقه التمثال الأسطوري الذي ظل ازميله يحدد ملامحه لتبدو واضحة.. نبيلة.. كبيرة.. فإذابه يتهاوى إلى كومة من الصلصال الرخيص..‏
                        وبدأ الموسم المسرحي الجديد.. عرف انها ستكون بطلة المسرحية الجديدة.. دخل الصالة ليلة الافتتاح وجلس في الصف الأخير..‏
                        على الخشبة كانت الصبية تتعثر بأثواب الفشل.. وكانت في عينيه هو دموع مالحة.‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: امبراطورة الخراب العربي

                          محيط الدائرة
                          -. أنت الفأر.. وأنت صاحب التجربة..‏
                          ظلت هذه الكلمات تشغل ذهنه عدة شهور.. تتحدى محاكماته العقلانية وأعصابه التي باتت مستنفرة باستمرار..‏
                          قال له صديقه القادم حديثاً من لندن حاملاً شيئاً من ثقافة اهلها وكثيراُ من ضبابها: في المخابر يجري العلماء التجارب العضوية على الفئران البيض. وأنت الآن فأر أبيض، ولكنك في الوقت ذاته العالم الذي يقوم بالتجرية، فعليك أن تهتدي إلى نفسك بنفسك..‏
                          -. معنى هذا أنك تعارض فكرة الذهاب إلى طبيب نفسي؟.‏
                          -. أجل.. وأصر على ذلك.. سيعقد الطبيب المشكلة..‏
                          -. ولكن مشكلتي أنني بلا مشكلة حقيقية.. هلاّ فهمتني أكثر؟.‏
                          -. انني أفهمك جيداً..‏
                          -. لا أصدق هذا، فأنا برأيك لستُ سوى فأر أبيض قد أصلح للتجربة أو قد لا أصلح.. إذهب إلى الشيطان أنت ولندن والعلماء..‏
                          ...‏
                          مدّ سبابته إلى الأمام فكانت ترتجف.. إنفتل إلى المرآة ونظر إلى وجهه.. لم يكن على صورته المعكوسة في صفحتها أية علامة من علامات الحزن أو الفرح.. رشق المرآة بالماء وعاد فتمدد على السرير يتأمل صوراً مرشوقة على الجدران لنسوة عاريات بأوضاع مغرية..‏
                          قبل ذلك، كانت صورة (حبيس الدائرة) تشغل ذهنه كثيراً فمنذ أن حدثه صديقه الآخر القادم من الشمال عن ذلك الرجل وقبيلته وهو يسأل نفسه عما إذا كان واحداً منهم تاه مع الأيام عن موطن القبيلة؟‏
                          قال له الصديق: في الجهة الشمالية الشرقية من بلدنا تعيش قبيلة إذا كان أحد أفرادها واقفاً في مكان ما، وجاء أحدهم ورسم حول مكان وقوفه دائرة، اما على التراب أو بقطعة فحم أو حوّار، فإنه يظل حبيس هذه الدائرة حتى يأتي أحدهم ويمحو جزءاً من محيط الدائرة ليخرج منها، وإلا فإنه يبقى ضمن محيطها حتى يوم القيامة.‏
                          كانت الدوائر التي وزع عليها الشاب اناس العالم أربع دوائر متتالية بصورة عمودية، فالدنيا منها أسماها الدائرة القردية وطوّق بخط محيطها فئة من البشر لا يدبُّ أفرادها إلا في المسالك الحيوانية البعيدة، متنكبين ميادين العواطف والعطاءاءت الانسانية كلها..‏
                          اما التي تليها فدائرة التواطؤ، وهذه حشر فيها الذين حوله جميعهم، والديه وأصدقاءه، وعاثرات الليل، وساقي المقهى، وبقية المخلوقات البشرية التي تنتظمها خيوط الحياة الاجتماعية.‏
                          اما الدائرة الثالثة فيتخطاها رأساً إلى الرابعة ليقف أمام محيطها عاجزاً عن حصر أي انسان فيه، فهذه دائرة الفارس وهذا الا نموذج مات في دنياه وفي أذهان القطيع..‏
                          ويعود إلى الثالثة، إلى دائرته هو.. ليجد نفسه وحيداً فيها، ويروح مع الأيام يحاول ان يجد نعتاً لها، وأخيراً يهتدي إلى تعريفها بدائرة الوعي المشلول‏
                          أتعبه الوقوف ضمن محيطها.. تذكر حديث صديقه عن تلك القبيلة، وبدأ يقنع نفسه بأنه واحد من رجالها تاه عن موطنها، وظل رهين دائرته ينتظر قدراً يمحو أمامه شيئاً من محيط الدائرة يكون باباً للخلاص.‏
                          هنا.. يقفز إلى ساح شعوره سؤال جديد: ماذا بعد الخروج من الدائرة الثالثة؟.‏
                          -. ليس أمامك إلا أن تقفز إلى الرابعة، وتكون الإنسان الفارس أو تعود إلى الدائرة الثانية وتصبح واحداً من افراد القطيع المتواطئ.‏
                          -. أنت الفأر.. وأنت صاحب التجربة..‏
                          ماذا يريد هذا الصديق أن يقول؟. قبل أن يتكلف الحكمة ويستعرض أمامي رصيده من الثقافة، عليه ان يخرج من الدائرة الثانية، أن يكون- على الأقل- واحداً متميزاً في القطيع.. سأهزأ من الثقافة بطريقة جديدة، وأعرض حالتي على طبيب نفسي.. أليست تجربة مثيرة؟.‏
                          ...‏
                          كانت ساق سكرتيرة الطبيب أول ما لفت نظره وهو يدخل العيادة، ذلك لنها كانت بارزة بوضع مغر من خلف الطاولة التي تجلس إليها.. أما الساق الثانية فقد اختفت خلف المكتب..‏
                          قال لها: جلستك مغرية.. ورائعة..‏
                          قالت: ماذا تريد؟.‏
                          قال: كنت أرغب في مقابلة الطبيب.. أما الآن فلا بأس أن تكوني أنت الهدف..‏
                          قالت بهدوء: باستطاعتي أن أحدد لك موعد المقابلة مع الطبيب في الساعة السادسة من مساء الغد..‏
                          -. هل لي أن أسألك: لماذا لم تغضبي من طريقتي في الحديث معك وأنا أراك للمرة الأولى؟.‏
                          -. من واجبي أن أكون طويلةالبال مع الذين يقصدون العيادة.‏
                          في اليوم التالي.. جاء في السادسة والنصف فمنعته سكرتيرة الطبيب من الدخول، قالت أن وقته المحدد قد فات، فصاح في وجهها: وهل نحن في مدرسة داخلية؟.‏
                          وقبل أن تجيب، ظهر الطبيب أمام باب غرفته مستفسراًً عن سبب الصياح، فقالت السكرتيرة: إنه مريض الساعة السادسة..‏
                          فصاح الشاب: لست مريضاً.. لم أتقدم لأي فحص حتى الآن.. قال الطبيب بهدوء وهو يبتسم: باستطاعتك أن تدخل لتواجه أول الفحوص..‏
                          وعندما دخل الغرفة أشار الطبيب إلى أريكة وقال له:‏
                          -. تستطيع أن تستلقي..‏
                          قال: لن أفعل هذا.. إلا يمكن للطبيب النفسي، أن يتحدث إلى زائره دون أن يجعله في وضع المستلقي..‏
                          قال الطبيب: كما تريد.. احلس على هذا المقعد..‏
                          فرد الشاب بإصرار: بل سأظل واقفاً.. هل يزعجك هذا؟.‏
                          قال الطبيب وهو يجلس خلف مكتبه: بالعكس.. تستطيع أن تكون في الوضع الذي تريد.. المهم أن ترد على أسئلتي..‏
                          قال متسائلاً: ولماذا لا ترد أنت على اسئلتي؟‏
                          رد الطبيب: ومن قال لك أنني أرفض الرد.. المهم أن يتحدث أحدنا إلى الآخر.. فقد أكون أنا بحاجة إلى نصيحة منك، أنا أرجو أن تفيدني عن اسمك حتى اعين لك خانة بين أصدقاء عيادتي..‏
                          -. اسمي زياد..‏
                          -. هذا الأسم الأول.. فما هو إسمك الكامل؟.‏
                          -. زياد ليس إسمي..‏
                          -. لماذا لا تقول لي إسمك الحقيقي؟.‏
                          -. نفرض أن اسمي زياد.. أو ممدوح.. او بطرس.. هل يبدّل هذا من الموضوع شيئاً؟.‏
                          -. إنها شكليات.. على كل حال أرجو أن أعرف اسمك، وثق أن دفتري بئر عميقة..‏
                          -. اسمي ذوقان سفل التلة..‏
                          -. هل تمزح ؟.‏
                          -. بل هذا هو اسمي الحقيقي.. هل تريد أن ترى هويتي الشخصية!‏
                          -. لا حاجة لذلك، لقد صدقتك‏
                          -. قبل أن تكتب الاسم تذكر أنه لا يشكل بالنسبة إليّ أية عقدة.‏
                          -. اعدك بأنني سأتذكر ذلك، والآن، هل أنت مصمم على توجيه الأسئلة؟.‏
                          -. طبعاً..‏
                          -. تفضل.. وتذكر أن مريضاً آخر ينتظر الدور بعدك..‏
                          -. أنا لم أحضر إليك لأحلق ذقني.. سأدفع لك ما تشاء من المال بشرط ألا تقيدّني بالوقت..‏
                          -. كما تريد.. والآن سل ما تشاء..‏
                          -. ما هو اسم والدتك يا دكتور؟.‏
                          -. رمزية..‏
                          -. منذ متى تخرجت من الكلية؟.‏
                          -. منذ ثلاثة أعوام..‏
                          -. هل تتبوّل في فراشك؟.‏
                          -.لا..‏
                          -. لماذا بدأ الغضب على وجهك..‏
                          -. لأنك.. آه.. عفواً.. انني لست غاضباً.. ولكنك تتخيل ذلك..‏
                          -. هل اتابع أسئلتي؟.‏
                          -. طبعاً.. تفضّل..‏
                          -. هل حاولت أن تقيم علاقة مع سكرتيرتك؟.‏
                          -. لا أسمح لك بهذا السؤال..‏
                          -. ولكنك سمحت لي بأن ألقي ما أشاء من الأسئلة..‏
                          -. إنك تتجاوز حدودك..‏
                          -. هل يغفر لي هذا إعترافي بأنني مريض؟.‏
                          -. الذي يعرف انه مريض، عليه أن يساعد الطبيب في تشخيص الداء.‏
                          -. إذن.. ادع السكرتيرة..‏
                          غضب الطبيب، وصاح بالشاب الواقف امامه: ولكن لماذا تحشر السكرتيرة في الموضوع.. هل تعرفها قبل الان ؟.‏
                          -. لم أرها قبل الآن أبداً..‏
                          -. إذن لماذا تريدني أن استدعيها؟.‏
                          -. لتكون وسيلة ايضاح..‏
                          -. ماذا تقصد؟.‏
                          -. سأجعلها تجلس على هذا الكرسي، وسأرجوها أن تضع ساقاً فوق اخرى، ثم أروح أروي لك ماساتي صادقاً.. وقد أبكي..‏
                          -. تصور أنها موجودة.. على الكرسي، وقد وضعت ساقاً على ساق.. وابكِ إن شئت..‏
                          -. مأساتي يا سيدي الطبيب هي هذه المسافة القليلة التي ينحسر عنها ثوب المرأة.. أية امرأة، عن ركبتها عندما تجلس.. إن هذا البياض ينقر عيني.. يتحداني.. يجعلني أرتكب حماقات سخيفة، وحادة، ومختلفة، فاحاول أن أجد العزاء لدى العاثرات الأجيرات.. ويزداد اتساع المسافة البيضاء أحياناً، ولكني أحس بالقيء.. أريد علاقة نظيفة، غير مأجورة ولا رخيصة، أريد أن اتخلص من عقدة الركبة هذه..‏
                          قال الطبيب بهدوء: أنت بحاجة إلى الحب..‏
                          انفجر الشاب يضحك.. يقهقه.. كان يعلم أن الطبيب سيصل إلى هذه النتيجة.. كم هو غبي هذا الرجل الذي يتسربل بالبياض ويضع على عينيه نظارة طبية، ويكدس في غرفته الكتب الأجنبية..‏
                          وقام الطبيب عن كرسيه كأنه يوحي للشاب بانتهاء المقابلة، فمد هذا يده إلى جنب بنطاله وأخرج ورقة نقدية كبيرة، رماها على مكتب الطبيب وقال: أنت أيضاً في الدائرة الثانية‏
                          سأله الطبيب وهو يتقدم نحوه غاضباً: ماذا تقول؟.‏
                          فرد الشاب: أقول أنك من القطيع المتواطئ..‏
                          وهنا صاح الطبيب: اخرج من العيادة..‏
                          ...‏
                          وفي اليوم التالي، دخل الشاب عيادة الطبيب قبل موعد حضوره، وفوجئ بأن السكرتيرة ردت عليه التحية بابتسامة عذبة..‏
                          قال لها: سأطلب منك معروفاً..‏
                          قالت: اطلب..‏
                          قال: اريد أن أطلع على الملاحظة التي كتبها الطبيب بجانب اسمي في سجله..‏
                          قالت: آسفة.. هذا من أسرار المهنة المقدسة، ومن واجبي أن أظل أمينة عليها..‏
                          قال: ولكني أريد الاطلاع على الملاحظة من قبيل الفضول فقط..‏
                          قالت: آسفة.. لا أستطيع أن أطلعك على شيء.. ثم إنني لا أطلع عادة على السجل الخاص بالمرضى..‏
                          قال: إذن.. سأطلب منك جميلاً ليس من أسرار المهنة..‏
                          قالت: اطلب..‏
                          قال: إخمشي ظاهر كفي بظفرك هذا الطويل..‏
                          ...‏
                          في المساء، كان الشاب والسكرتيرة يجلسان في حنوة حالمة باحد مقاصف المدينة..‏
                          وفي نهاية الجلسة، اكتشف الشاب أن دائرته الثالثة كانت بلا محيط.‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق

                          يعمل...
                          X