الكـتـاب وثقافة أمة
مصطفى الكيلاني - تونس
مئات العناوين من الكتب تظهر في كل عام بوطننا العربي .لكن ماالذي يتبقى في الذاكرة الجماعية منها ؟ بالأمس البعيد و القريب كانت هناك ربما نصوص ذات قيمة فكرية وأدبية هي أعلى أو أقل من اليوم ، إلا أن آثارها ظلت باقية مؤثرة في أوساط الأدباء وعامة المثقفين طيلة أيام ،بل شهور وأعوام .
اليوم تصدر كتب ، تليها كتب منها البعض الكثير مما ثبتت قيمته الفكرية والأدبية بشهادة المختصين من النقاد غير أن القراءة التي هي بمثابة البعد الآخر للذائقة النقدية تظل محدودة بعدد الأشخاص المتقبلين وأقلام النقاد والصحفيين المختصين في الشأن الأدبي والثقافي عامةً ممن يتناولون الجديد بالقراءة والتعريف .
كتبٌ عديدة تظهر وكأنها لم تظهر ، والسبب في ذلك أن الكتاب في حدَِّ ذاته لم يعد يمثل قيمة ثقافية مرجعية ، كما هو الشأن في الأزمنة السابقة .فنشره هو حدث عارض كغيره من الأحداث ، بل قد يشبه ميلاد أحدهم في مستشفى عمومي أو عيادة خاصة (لا يهم ) ليثبّت اسمه في قائمة الولادات الجديدة في انتظار أن يكبر ليكون كغيره من الناس،وفي حالات استثنائية نادرة جداً يكون شخصاً مختلفاً عن غيره من ملايين أو مليارات البشر بعبقرية أو زعامة خاصة ، ولكن مآل الكتاب الصادر جديدًا هو أشبه ما يكون بوليد ميت بعد مخاض عسير أو رضيع ملقى به في شارع خلفي في انتظار المجهول،أما المحتفى بهم قبل الكتاب فهم النجوم الساطعة في سماء تهلك أضواؤها باستمرار ليتولد عنها أضواء أخرى بأسماء مغنين استعراضيين ولاعبي كرة قدم ،وومضات إعلان تندس في مختلف البرامج التلفزيونية وتقتحم بيتك دون استئذان وتحول المشهد السينمائي إلى مشهد آخر جمالي يتماهى والقيمة التسليعية .
فيستمد الكتاب قوة نفوذه المعرفي في السابق من سلطة النص لما يعنيه لفظ الكتاب ، هنا من قداسة خاصة تحيل على القداسة الدينية وتتعدد مصادر تأثيرها بألوان المعرفة المختلفة . أما اليوم فإن اهتزاز سلطة الكتاب لم تعوضها سلطةأخرى ،لأن الذي أربك وجوده هو الصورة بجاذبية تأثيرها الآسر عند مخاطبة العين، أم الحواس، واللعب داخل المناطق الواصلة بين الواقع والواقع الافتراضي، بين ما يُرى حساً وينفلت عن أي واقع ، بين المعلومة وإمكان الفكرة أوغيابها نتيجة فيض الصور الذي لا يدع للذهن وقتاً للتأمل والتفهم كما هو الحال عند تواصل الفكرة والمعلومة ضمن لحظة استقبال الكتاب.
فالصورة منافسة اليوم لثقافة الكتاب، إلا أنها أعجز من أن تقدم البديل له، رغم التطور الهائل الذي شهدته بثورة تكنولوجيا الاتصال يكفي هنا، أن ننظر في الحواسيب والأقراص المرنة الهالكة بعد تقادُمها السريع ليظل الكتاب هو الكتاب لاتهرم روحه وإن اصفرت أوراقه.
أما الصورة فهي كائن لا يعمر، بل يظهر حثيثاً ويختفي حثيثاً من غير أن يترك أثراً، وأداة تشكيله واحتضانه تهرم هي الأخرى، لما يعنيه الضوء في الأصل والمرجع من دلالة الاحتراق حد النفاد.
لاشك أن الكتاب اليوم استفاد من تكنولوجيا الاتصال الحديثة أيّما استفادة لتشهد صناعته تطوراً هاماً يشهد له الجميع، دون استثناء، ولكن موضوع قراءته يطرح أسئلة مربكة حول عدد القراء في وطننا العربي، وأسباب تراجع الإقبال عليه وأداء المعارض الخاصة به وعدد المكتبات الفردية ومحتوياتها وفضاءات المطالعة العمومية ووسائل الترغيب فيها..
موضوع قد يبدو للبعض الكثير ثقافياً صرفاً، ولكنه أبعد من ذلك بكثير، فهو مجال بحث سسيو-ثقافي يشمل وجود مجتمع /مجتمعات، وكيان أمة.
تعليق