إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هل من سبيل للدفاع الوطني .. في ظل الهيمنة الأمريكية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هل من سبيل للدفاع الوطني .. في ظل الهيمنة الأمريكية


    هل من سبيل للدفاع الوطني .. في ظل الهيمنة الأمريكية .؟؟

    د. فيصل سعد




    يحفل النظام العالمي، اليوم أكثر من أي وقت سابق، بمروحة واسعة من التناقضات الحادة تتباين درجات خطورة كل منها تبعاً لدورها في تكريس وإعادة إنتاج منطق النظام وآليات عمله داخل البلدان المتعددة وعبر العالم بأسره، ولعل أبرز وأخطر تلك التناقضات الحادة هو الاستقطاب العالمي، بمعنى استقطاب العالم إلى شمال مهيمن متبوع وجنوب خاضع مقموع، آخذاً بالحسبان التداعيات المأساوية على هذا الجانب الأخير التي يتسبب بها، وقد أفضى إليها تباعاً، الاستقطاب العالمي الخطير.
    تلك هي الحقيقة المدوية التي يؤكد عليها الباحث الفرنسي المعروف إيمانويل تود في كتابه الهام (ما بعد الإمبراطورية)، بقوله: «العولمة حرب عالمية ثالثة تدور رحاها بين أقلية ثرية وأكثرية فقيرة على مستوى الكرة الأرضية»، في إشارة واضحة من جانبه إلى أن الاستقطاب العالمي في ظل العولمة الراهنة قد بلغ حدوداً قصوى فلكية، وقد عبّر وليام روبنسون (أستاذ الاقتصاد في جامعة تينيسي الأمريكية) عن تلك الحدود المخيفة قائلاً: «حتى أوائل القرن التاسع عشر لم يتجاوز مدى التفاوت الأقصى في توزيع الثروة العالمية بين البلدان الأكثر تقدماً والبلدان الأكثر تخلفاً نسبة (2:1) لصالح البلدان الأولى، لكن، بعد قرنين من التوسع الإمبريالي ارتفعت تلك النسبة إلى( 6:1) لصالح البلدان ذاتها».
    ولطالما تركيز القوة الاقتصادية على نطاق العالم يفضي إلى تركيز السلطة السياسية على هذا النطاق فإن الاستقطاب العالمي على الصعيد الاقتصادي يفترض، بالضرورة، الاستقطاب على الصعيدين السياسي والإيديولوجي، فعلى الصعيد الأول تشغل بلدان الشمال مراكز النظام العالمي، وهي، بذلك، عواصم صنع القرار السياسي الأولي، فيما تتموقع بلدان الجنوب على محيط النظام أريافاً نائية، وأما مؤسسات الأمم المتحدة فهي، إلا في حالات جد نادرة، بمثابة مؤسسات وطنية أو محلية برسم البلدان الأولى التي تلجأ إليها، تحت عنوان العالمية أو الكونية، لاستصدار قرارات «دولية»، على مقاس وارتفاع مصالحها الضيقة والأنانية في حالات غير نادرة.
    ولهدف فرض واقع الاستقطاب العالمي القائم ولهاثاً وراء تعزيزه وتعميقه، تباعاً، فإن الاستراتيجيا التي يعتمدها الغرب ويلجأ إليها، من حين إلى حين، هي استراتيجيا الكف العسكري، بالدرجة الأولى، إلى جانب استراتيجيات كل من الاستغلال الاقتصادي والإكراه السياسي والتضليل الإيديولوجي، ودائماً في سبيل توسيع دوائر الهيمنة الشاملة التي تمارسها بلدان الشمال على حساب قوت بلدان الجنوب وسيادتها الوطنية، الأمر الذي يعمل على تكريس تخلف البلدان الأخيرة ويضمن أسباب تفاقم عجزها عن الانتقال من المواقع المنفعلة التي تشغلها على محيط النظام العالمي وأريافه النائية إلى مواقعه المركزية الفاعلة عواصم صنع القرار السياسي والخيار الاقتصادي محلياً وعلى المستوى الدولي.
    وبالفعل، فإن عشرات، وربما مئات، الحروب المحلية والإقليمية الأخرى شبه الدولية التي نشبت منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها قبل نحو ستة عقود وإلى اليوم في النصف الثاني من القرن الماضي كانت، في جزء كبير من استراتيجيتها، ترمي إلى إعاقة البلدان والقوى الإقليمية الناشئة، في حينه، عن النمو والارتقاء إلى مرتبة القوى الدولية الكبيرة التي كانت سائدة ومهيمنة في تلك المرحلة التاريخية.
    واليوم، ومنذ انهيار المعسكر الاشتراكي (1990)، تبرز سياسة الكف العسكري على نحو غير مسبوق في تاريخ العلاقة بين المجتمعات البشرية، فقد غدت الحرب منذ ذلك الحين هي الشكل الرئيس للعلاقات الدولية، إذ اندلعت منذ ذلك الحين وحتى هذه الآونة عشرات الحروب الدموية قامت بها الولايات المتحدة، مباشرة أو بالوكالة ودائماً لهاثاً وراء هدف محاصرة القوى الدولية الصاعدة ومصادرة أسباب التنمية لدى بلدان أخرى ناشئة.
    ولطالما الصين وروسيا والهند وإيران، هي اليوم أبرز مشاريع القوى الدولية المرشحة إلى المنافسة على المستويين الإقليمي والدولي، فإن سياسة «القطع الاستعماري» على مستوى العلاقة بين الولايات المتحدة وتلك القوى الصاعدة «بمعنى الرغبة الأمريكية في قطع الطريق أمام صعود البلدان الناشئة إلى حلبة المنافسة على الزعامة العالمية)، تبرز اليوم، جلياً، بصور متعددة.
    فالعقوبات الاقتصادية وسياسات العزل السياسي أو الدبلوماسي وكذلك العزف الخطير على وتر التناقضات الداخلية للبلدان الأخرى المعنية، ناهيك عن استراتيجيا نشر الدروع الصاروخية والتلويح، أحياناً، بعصا الحرب النووية (كأن يُقال، مؤخراً، على لسان كل من الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته: سوف نعتمد السلاح النووي ضد أي بلد يتهدد مصالحنا في أي مكان من العالم)، هي اليوم، كما كانت في الأمس، أبرز أشكال العرقلة الإمبريالية لمشاريع التنمية الوطنية في تلك البلدان الناشئة منها والعائدة إلى مسرح القوى الدولية الفاعلة من جديد، كروسيا بصفة خاصة.
    وبهذا الصدد يكشف الصحافي الأمريكي وليام فاف عن نص الوثيقة الجديدة للأمن القومي الأمريكي التي أصدرتها الإدارة الأمريكية السابقة عشية مغادرتها البيت الأبيض، وقد أعلنت الوزيرة كلينتون، غير مرة، عن التزام الإدارة الحالية بها، وملخصه: «لا تزال الولايات المتحدة في السنوات الأولى من حرب طويلة الأمد قد تمتد لتصل إلى الصين وروسيا والهند، والحروب الأمريكية في البلقان وأفغانستان والشرق الأوسط هي بمثابة وضع حجر الأساس لمشروع حرب أمريكية شاملة وكونية».
    وبهذا الصدد يرى سمير أمين: «إن واحداً من أبرز الأسباب التي تجعل الشرق الأوسط ذا همية خاصة في الجيواستراتيجيا الأمريكية هو رغبة الولايات المتحدة في تشييد قواعد عسكرية فيه، باعتباره البطن الرخو في النظام العالمي، تكون بمثابة نقاط استناد ميدانية متقدمة تنطلق منها حروب أمريكا المستقبلية ضد كل من الصين وروسيا والهند وإيران»، وبالصدد نفسه، يشير السوسيولوجي الكندي المعروف جون صاول في كتابه «انهيارالعولمة» إلى أن : «الأمريكيين يعتبرون الصين عدوهم الرئيس الذي ينبغي تدميره يوماً ما إن هو مضى في طريق التنمية والازدهار».
    وأمام هذا السد المنيع الذي تعمل على بنائه القوى الإمبريالية في الغرب للحيلولة دون أن تتمكن البلدان الصاعدة اليوم من المضي قدماً على سكة التطور التاريخي، فقد اكتشفت البلدان الأخيرة حقيقة أن الدفاع الوطني ليس عبئاً على مشروع التنمية بقدر ما هو درع لها ورافعة عضوية من روافعها الضرورية في عصر الصلف والأنانية الغربية الضيقة، الأمر الذي دفع، وسوف يبقى يدفع، بتلك البلدان« النامية» إلى تخصيص ميزانيات مرتفعة، نسبياً لأغراض تطوير الدفاعات العسكرية الوطنية، بحيث تغدو قادرة على حماية مكتسبات مشروع التنمية وضمان أسباب المضي بعيداً في تعميق وتوسيع منجزاتها الوطنية، دونما الانجرار إلى جحيم« حرب باردة» عبر سياق تسلح تسعى إليه وتعمل عليه الولايات المتحدة، لهاثاً وراء هدف تبديد الرساميل المحلية للبلدان المعنية في أغراض محض عسكرية غير اقتصادية، وبالتالي مصادرة أهم عوامل التنمية ودينامياتها المحلية.
    على هذا النحو نكشف عن السبب الذي يكمن خلف ظاهرة تطوير الدفاع الوطني، كقاسم مشترك أعظم، بين القوى الدولية الصاعدة، إلى حد يبدو عنده وكأنه عامل إنتاج حقيقي، يضاف إلى مجموع عوامل الإنتاج المعروفة في علم الاقتصاد السياسي، كالأرض والعمل ورأس المال و..الخ، ولعله العامل الأبرز في هذه الآونة بالذات.
    وبالفعل، تشير معطيات مكاتب الأبحاث والدراسات الاستراتيجية، وكذلك منشورات المواقع الالكترونية المعنية إلى أن ميزانية الدفع الروسية لعام 2009 بلغت (40) مليار دولار، وقد خصصت إيران لأغراض تصنيع وتطوير دفاعاتها العسكرية نحو تسعة مليارات دولار، للعام نفسه، وبينما تشغل الهند اليوم المرتبة الثانية على لائحة البلدان الأكثر استيراداً للسلاح في العالم، فإن الصين تحتل المرتبة الأولى على اللائحة نفسها، وقد بلغ حجم مستوردات الصين من السلاح، في العام الماضي حوالي 14٪ من إجمالي واردات العالم منه، وقد بلغت ميرانية الدفاع الصينية للعام الفائت نحو ثمانين مليار دولار.
    وأما بعد، فإن العجب يعصر عقولنا والغضب يستنفر أعصابنا، ونحن نرى بلداناً كبيرة تعمل، حثيثة، على إعادة بناء وتطوير قدراتها الدفاعية لأغراض تنموية، في الوقت الذي تدعو فيه أنظمة وقوى سياسية في بلداننا إلى تجييش العالم وتحريضه ضد قوى المقاومة في البلدان العربية التي تسجّل نقاطاً عالية على حلبة الصراع المرير ضد إسرائيل والطامعين الآخرين في ثروات أرضنا وخيرات مياهنا وشواطئنا، وهذه دعوة صادقة، بأمانة علمية كبيرة، إلى تعميم نموذج المقاومة الوطنية، في لبنان وفلسطين ووالعراق، على جميع البلدان الأخرى العربية شرطاً أكيداً لمواجهة قوى الهيمنة وبناء التنمية الوطنية غير التابعة في عصر الهيمنة الأمريكية المتراجعة.

    د. فيصل سعد

يعمل...
X