Announcement

Collapse
No announcement yet.

حلب.. سنـــــــــــــــــديانة التاريخ

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • حلب.. سنـــــــــــــــــديانة التاريخ

    حلب.. سنـــــــــــــــــديانة التاريخ

    في أغوار الزمن البعيدة تغيب حكاية الوجود الأول لمدينة معمورة هي إحدى أقدم مدن العالم، ولعلها الأقدم، ما تزال تنبض فيها حركة الحياة إلى اليوم.
    حلب هذه المدينة الرابضة في شمال سوريا استطاعت بحكم مركزها الديني والتجاري القديم، وموقعها على طريق الحرير، أن تتصدى لعاديات السنين وتبقى ماثلة إلى اليوم في موقعها الحالي نفسه، تسيل الحياة في شوارعها، لقد دثرت لِداتها بابل ونينوى وإيبلا وماري، ودثرت مدناً بنيت بعدها، وبقيت حلب تمد جذورها في ليل الزمن وترفع رأسها نحو الشمس في كل صباح.
    يذكر البروفسور ألفونسو أركي عضو البعثة الإيطالية والمختص بقراءة ألواح إيبلا أن أقدم ذكر لحلب باسمها الحالي يعود إلى خمسة آلاف عام.
    كانت حلب نهاية السهم في مسارات القوى الغازية عبرالتاريخ: الحثيون القادمون من البلقان إلى الأناضول عبر البوسفور 2000ق م، والمصريون في عهد تحوتمس الثالث 1483 ق م، والآشوريون 1280 ق م والآخيون الذين قضوا على الإمبراطورية الحثية 1180ق م، والميديون والفرس والسيت والبابليون وفرس قورش الذين احتلوا سوريا عام 539 ق م والإغريق بقيادة الإسكندر المقدوني الذي استولى على حلب عام 333 ق م، ويذكر أن الإسكندر عندما وصل إلى حلب استأذنه أستاذه أرسطو وكان في صحبته أن يقيم في حلب لحال تربتها وصحة هوائها فأذن له. وجاء الرومان بقيادة بومبة وأنهوا الحكم السلوقي عام 64 ق م . ثم راح الفرس والبيزنطيون يتنازعون السيطرة على حلب إلى أن حررها المسلمون بقيادة أبي عبيدة بن الجراح عام 41 هـ 636 م.
    سميت حلب بعدة أسماء منها في العهد اليوناني بيروا Beroia وقد زالت جميعها وبقي اسمها القديم "حلب" وصفتها " الشهباء " بلون حجارتها. وشهدت فترات سياسية متألقة عبر تاريخها بدأت في الفترة العمورية من أواخر الألف الثالث ق م وحتى أوائل الألف الثاني حيث كانت حلب عاصمة دولة يمحاض القوية، تولي وتعزل الملوك في منطقة الهلال الخصيب، وملكها ياريم ليم يفرض سيطرته على عشرين ملكا من الفرات إلى البحر. ومن المعروف أن حمورابي (الحلبي) ابن ياريم ليم قد أرسل عشرين ألف جندي لإنقاذ بابل ومساعدة حمورابي البابلي صاحب الشريعة .
    كما شهدت فترة متألقة في عهد سيف الدولة الحمداني وخلفائه (333 ـ 404هـ) بما اجتمع في بلاطها من رجال فكر وأدب، وبتصديها للدفاع عن العرب المسلمين ضد الأطماع البيزنطية. وفي العهود السلجوقية والزنكية والأيوبية كانت حلب درع الأمة العربية والإسلامية وخندقها الشمالي في التصدي للغزو الأوروبي الاستعماري (الحروب الصليبية)، ومنها كانت تنطلق كتائب المجاهدين لتحرير القرى والحصون والمدن، ولو أن المدن الداخلية : حلب وحماه وحمص ودمشق قد سقطت في أيدي الإفرنج لكان للحروب الصليبية شأن آخر.
    أما في فترة الحكم العثماني فقد كانت حلب ثالث أكبر وأهم مدينة في هذه الإمبراطورية بعد إستانبول والقاهرة وقد لقبت بلندن الصغيرة وأثينا الآسيوية، وكانت لها علاقاتها التجارية الواسعة مع الشرق والغرب حتى قيل في المثل الشعبي " أعرج حلب وصل للهند "
    لا تجد منظراً أجمل من أن تقف على جبل الأنصاري المطل على حلب من ناحيتها الغربية، وكان اسمه جوشن وقد أبطل الحلبيون هذا الاسم لما له من دلالة تاريخية سيئة، و يقوم على سفح الجبل صرحان من أهم العمائر الأثرية الإسلامية، ويعودان إلى عهد سيف الدولة الحمداني وهما : جامع مشهد الحسين (ر) حيث كانت ولا تزال تقام احتفالات عاشوراء وتطبخ فيه القمحية للزوار وكان يحضر الاحتفال والي حلب وكبار الأعيان، وقد تهدم في الحرب العالمية الأولى بعد انسحاب العثمانيين وأعاد إعماره أهل الخير، وبني حديثاً ملحق له. وجامع مشهد الدكة أو الصرح الذي تصعد إليه بأدراج تتسلق الجبل.
    وتسرح بنظرك بعيداً فتمتد أمامك مدينة المآذن حلب الشهباء بأحيائها القديمة والحديثة وشوارعها وعمائرها الأثرية وقلعتها التاريخية التي وقف أمامها الغزاة عاجزين عن اقتحامها. وقد امتد العمران وامتد حتى إن هذا الجبل الذي كان ذات يوم مشرفاً على المدينة أصبح اليوم في وسطها.
    هنا على هذا الجبل الذي كان يسمى جبل النحاس لأنه كما يروى كانوا يستخرجون منه النحاس، ويسمى اليوم بجبل الأنصاري نسبة إلى قرية الأنصاري التي أصبحت واحدة من أحياء المدينة، ونسبة إلى الصحابي الجليل سعد الأنصاري ابن أيوب وقبره لا يزال فيها وأخيه سعيد الأنصاري..هنا تشم عبق التاريخ. .
    هاهو سيف الدولة على ظهر جواده يقبل عائداً من غزو الروم منتصراً مطلاً على أسوار المدينة، ثم ينحدر إلى دير مارماروثا يأخذ قسطاً من الراحة ويتفقد رهبان الدير، ثم يتابع طريقه إلى قصره العظيم على نهر قويق. وعلى أنقاض هذا الدير قام مشهد الحسين اليوم.
    وهاهم الصليبيون يحاصرون المدينة وجيوشهم تعسكر فوق هذا الجبل ثم يعودون مندحرين.
    وهاهو صلاح الدين الأيوبي ينشر جيوشه فوق هذا الجبل في سعيه لتوحيد بلاد الشام قبل أن يخوض معركة حطين.
    وهاهم المغول والتتار والفرنسيون وغيرهم يطلون على حلب من فوق هذا الجبل ثم يمضون وتبقى حلب.
    مركز ثقافي تاريخي
    كانت حلب ولا تزال واحدة من أهم مراكز الثقافة الإسلامية في العالم، كان يقصدها الطلاب من جميع الجهات لتحصيل العلوم، وكانت محط رحال الكثير من رموز الثقافة والفكر الإسلامي، وبرز فيها أسماء كبيرة في الفقه والتفسير والحديث النبوي والأدب والشعر ومختلف أنواع العلوم. يقول ياقوت الحموي في معرض حديثه عن ابن العديم: "وحلب أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الرواسخ"
    وبعد الفتح الإسلامي نشأت في حلب طبقة واسعة من العلماء والمحدِّثين يقصدهم طلاب العلم من جميع الأقطار البعيدة. ويقول مؤلف كنوز الذهب: إن حلب بلدة العلماء والمحدثين والنحاة. دخلها العلماء قديماً وسمعوا بها على شيوخها وعلمائها، منهم أبو القاسم الطبراني قدم حلب سنة 278هـ، وأحمد بن الخليل الحلبي، وأحمد بن المسيب، وعبد الله بن إسحاق الصفري، وشيخ الإسلام أبو داود، ومنهم أيضاً أحمد بن حنبل، وخلف بن سالم، وابن بويه الربيع بن نافع وغيرهم كثير، أما أئمة الحديث فيها فيطول تعدادهم. وحكى ياقوت الحموي أنه وجد فيها الباشقردية وهم طائفة من الهنكر (شمالي أوروبا) شقرالوجوه والشعور قدموا للدراسة في حلب.
    وكان العلماء في حلب يدرِّسون طلابهم في المساجد والبيوت قبل أن تبنى المدارس وتتسع في العهود الزنكية والأيوبية والمملوكية والعثمانية وإلى يومنا هذا. وفي العهدين الحمداني أيام سيف الدولة والمرداسي وجد في حلب فحول من العلماء الآتين من الأقطار الإسلامية، ومن الحلبيين، بالإضافة إلى فحول الشعراء والأدباء والنحاة كالمتنبي وكشاجم وابن خالويه وأبي علي الفارسي.
    وكان من يريد التخصص في العلم يقصد حلب، أم البلاد، وواحدة من أهم مراكز الثقافة الإسلامية، يقول شمس الدين بن خلّكان في وفيّات الأعيان: "ولما وصلت حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف وكان دخولي إليها يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة 626 هـ وهي إذ ذاك أم البلاد مشحونة بالعلم والعلماء والمشتغلين"
    وفي حلب مقام ومثوى كثير من رجال العلم والفكر والثقافة منهم الرحالة أبو بكر الهروي، والمؤرخ الأديب ياقوت الحموي، والشاعر والحكيم الإشراقي شهاب الدين السهروردي، والشاعر المتصوف الحروفي الأذربيجاني عماد الدين النسيمي، عدا عن كثير من الملوك والولاة والأمراء الذين تعاقبوا على حكم حلب كالملك غازي بن صلاح الدين الأيوبي.
    كان الجامع الكبير بحلب من أهم مراكز الثقافة العلمية والأدبية والإسلامية فيها، وكان من الذخائر الفنية العلمية، في هذا الجامع شجرة عظيمة ذات جذع ضخم وأغصان وأوراق تدعى شجرة الإفادة، غرسها خليل بن أحمد غرس الدين شرقي الجامع، مصنوعة من حجر ونحاس وحديد، ذات خطوط وجداول في أصول العلوم الرياضية، فكان الطلبة يأتون إلى حلب من البلاد القاصية للاشتغال بالعلوم الرياضية المرسومة على هذه الشجرة.

    مدارس وعمائر
    يطول الحديث عن حلب وعمائرها الأثرية وتاريخها وأعلام الثقافة الإسلامية فيها، ومدارسها التي كانت مراكز إشعاع ثقافي. فمنذ أن تدخل باب إنطاكية يطالعك جامع الأتراس أو الشعيبية، أول مسجد بناه المسلمون حين فتحوها، إلى الجامع الكبير الأموي الذي بني في القرن السابع للهجرة، فباقي المساجد والمدارس الإسلامية القديمة والحديثة التي كان لها الدور الكبير في نشر العلوم والمعارف كالمدرسة الأحمدية، والأشرفية، والبلدقية، ومدرسة ابن الشحنة، ومدرسة ابن العديم، والحدادية والحلوية والحسامية والسيافية والشعبانية والخسروية ..إلخ ومن هذه المدارس ما قد انقرض، ومنها ما يزال قائماً يمارس التعليم كالخسروية والشعبانية والكلتاوية، بالإضافة إلى انتشار التعليم الشرعي والعصري وتوسعه في حلب بافتتاح الثانويات الشرعية في المدينة والأرياف، والتوسع في افتتاح الثانويات العامة والمعاهد والجامعة بكلياتها واختصاصاتها المتعددة، مما يجعل الثقافة الإسلامية والعامة في حلب حلقات متصلة من الماضي إلى الحاضر.
    ومن الطبيعي أن تكثر المكتبات فيها، مدينةً تعتبر من أهم المراكز الثقافية في العالم الإسلامي، وأن تنتشر فيها حرفة نسخ الكتب. وولع الحلبيون باقتناء الكتب ولا سيما المخطوطة منها والنادرة، فمنهم مثلاً من استنسخ كتاب "رد المحتار حاشية الدر المختار" في الفقه الحنفي، وودفع مقابل استنساخه مئة ليرة ذهبية عثمانية، ومنهم من استنسخ كتاب تاج العروس للزبيدي وهو شرح قاموس الفيروزبادي فصرف على استنساخه مئتي ليرة ذهبية. وكان أهل اليسار في حلب يعنون باقتناء الكتب وتجليدها ويحرصون في بيوتهم العربية على أن تكون هنالك زاوية لها فصدر الغرفة الحلبية يعرف باسم الكتبية التي كانت توضع فيها الكتب والمخطوطات ثم صارت توضع فيها النحاسيات والزجاجيات، والاعتقاد السائد بين كثير من الناس أن اقتناء الكتب يورث الغنى، وهو وسيلة لكسب الاحترام والوجاهة.
    مكتبات ومخطوطات
    إن مكانة المدينة الثقافية تقاس بما تحتويه من مدارس ومكتبات غنية بالمخطوطات، وبما فيها من أسر علمية تكون دورهم بيوتات للعلم، وبما يقيم فيها أو يفد من العلماء، وقد فقدت حلب العديد من مكتباتها كمكتبة بني الشحنة ومكتبة بني العديم ومكتبة بني الخشاب، بالإضافة إلى مكتبات المدارس الكبرى كالمدرسة السلطانية والعصرونية والحلوية والشرفية والرواحية، وجميع هذه المكتبات فقدت محتوياتها حين دخل تيمورلنك إلى حلب عام 803 هـ، ولكن بالرغم من هذا فقد بقي كم كبير من المخطوطات النادرة توزعت في البيوت التفت إلى شرائها المستشرقون وتجار الكتب منذ بدايات القرن الماضي، وفي ذلك يقول مؤرخ حلب كامل الغزي: "إننا منذ الصبا وحتى الآن نرى تجار الكتب المخطوطة يترددون إلى حلب ويملؤون الصناديق الكثيرة، عدا مانراه من سواح الغرب وسماسرة المستشرقين الذين يختطفون الكتب النفيسة الخطية من أيدي طائفةالبسطاء، لا يفرقون بين الطين والعجين فيشترونها بأبخس الأثمان."
    ويذكر الغزي حادثة طريفة جرت معه حول كتاب بحث عنه طويلاً يقول:
    " من الصدف الغريبة أنني بقيت مدة طويلة أبحث عن كتاب " كنوز الذهب في تاريخ حلب" فلم أظفر به، ومضى على ذلك أعوام وقد يئست من الظفر به، إلى أن كنت في يوم من الأيام ماراً في سوق من أسواق حلب إذ بصرت بامرأة عجوز يدل إزارها على فقرها، وفي يدها كتاب يلوح عليه القدم، فاستوقفتها وقلت : ما هذا الكتاب؟ أجابتني بقولها : "قصة حلب" فتناولته من يدها وسرعان ما فتحته وقرأت من خطبته سطوراً فإذا هو ضالتي المنشودة " كنوز الذهب" بخط مؤلِّفه نفسه، فقلت بكم تبيعينه؟ قالت: دفع إليّ بائع الكتب خمسة قروش وأنا لا أبيعه إلا بعشرة، فنقدتها عشرة قروش وأخذت منها الكتاب، ولو أنها طلبت مني ثمنه ألف قرش لما استكثرتها".
    هذا يعني أن بعض هذه الكتب النفيسة كانت لدى جماعة من العامة لا يعرفون قيمتها، وكانوا ينزلون بها إلى سوق الجمعة فيبيعونها على البسطة في ركن الكتب والمخطوطات في السوق، وهؤلاء العامة انحدروا من أسر علمية عريقة ونوابغ في الثقافة والأدب والعلوم، ولما ران الجهل على الأسلاف بعثروا ما أبدعه أجدادهم.
    وفي منتصف القرن الماضي كانت لا تزال هنالك مكتبات في حلب عامرة بالكتب والمخطوطات النفيسة، ثم نقل ما تبقى منها فيما بعد إلى دار الأسد بدمشق، ومنها مكتبة المدرسة الأحمدية وتضم 3000 مخطوط مجلد، فيها ماهو نادر كدر الحبب في تاريخ حلب، وتاريخ ابن كثير، وتارخ الذهبي. والتفسير المهمل للفيض الهندي.
    مكتبة المدرسة العثمانية وتضم 1500 مجلد مخطوط في مختلف الموضوعات. ومما كانت تشتمل عليه كتاب عمدة الحفاظ للحلبي، والمقدمة السنية للصفدي، والحدائق الأنسية في الحدائق الأندلسية، ومكتبة الجامع الكبير وقفها محمود الجزار وتضم 1000 مجلد مخطوط، هذا بالإضافة إلى المكتبات الأهلية الغنية التي تضم نوادر الكتب والمخطوطات كمكتبة أسعد الجلبي، ومكتبة ناجي العينتابي المعروف بإمام زاده.
    اليوم وقد تعددت المكتبات وتنوعت اختصاصات محتوياتها مع افتتاح المعاهد والكليات في الجامعة لابد من ذكر دار الكتب الوطنية التي دأب طلاب العلم على ارتيادها واستعارة الكتب منها، كما كانت مركز إشعاع ثقافي كبير في حلب ولا سيما في عهد مديرها الأديب سامي الكيالي الذي استقدم للمحاضرة فيها كبار الأدباء والمفكرين في الوطن العربي.

    هذه حلب التي صنفت فيها عشرات الكتب والموسوعات، ووضعت مئات البحوث والدراسات. وما يزال مجدها في القلوب قائماً إلى الآن، وكنت ألمسه حين حضوري المهرجانات العربية الفكرية والمسرحية، إذ ما يكاد المشاركون فيها يعرفون أنني من حلب حتى تطغى على نبرة حديثهم الاحترام التاريخي الكبير لهذه المدينة.
    هذا غيض من فيض، من شهادات المؤرخين والفضلاء التي تؤكد أن حلب عبر تاريخها كانت عمارة شامخة للثقافة الإسلامية.
    أسواق حلب القديمة أكبر سوبر ماركت في العالم
    كانت حلب عبر العصور مركزاً تجارياً كبيراً، وأول اتفاقية تجارية وقعها ملك حلب الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي كانت عام 1208م مع أمير البندقية وفيها يضمن إقامة البنادقة في حلب وحمايتهم فهي أول قنصلية في الشرق، وأعيد تثبيت هذه الاتفاقية عام 1229 . وفي عام 1254م وقع سلطان المماليك على معاهدة بين حلب والبندقية أيضاً.
    ويصف تشيسني في كتابه الصادر عام 1850م أنه كانت تخرج من حلب ست قوافل تجارية سنوياً متجهة إلى بغداد، وكانت تتألف أحياناً من اثني عشر ألف جمل محمل بمختلف البضائع، وأقلها ما بين 5000و6000 جمل، ويقول إنه في أحد السنين بلغ مجموع الجمال التجارية التي خرجت باتجاه الأناضول والعراق أكثر من خمسين ألف جمل، هذا عدا عن القوافل المتجهة إلى دمشق وبيروت.
    كانت تجارة حلب متمركزة في الأسواق القديمة والخانات التي يسميها الحلبيون المدينة( وتلفظ بتسكين الميم)، ومع توسع حلب خارج الأسوار التاريخية نشأت أسواق حديثة متفرقة في الأحياء، أو مجمعة في وسط المدينة كأسواق التلل والعزيزية. وتعتبر الأسواق التاريخية من أجمل أسواق مدن الشرق العربي والإسلامي لطبيعة بنائها وسقوفها المغموسة بحيث تحتفظ بدرجات حرارة معتدلة في الصيف والشتاء مع توفر الإنارة والتهوية، وكون كل مجموعة من هذه الأسواق مخدّمة بمرافق حيوية: مسجد، ميضأة، سبيل ماء، شاي خانة، تكية أو زاوية، خانات لإقامة التجار والبعثات التجارية، حمّام، مخازن للاستيراد والتصدير، محلات تجارية، مطعم… ولهذه الأسواق أبواب تغلق مساء بحيث تفصلها عن أحياء المدينة، ويتم الدخول إلى هذه الأسواق من أبواب حلب التاريخية كباب قنسرين وباب أنطاكية وباب الفرج وباب النصر. وهي أطول أسواق تاريخية في العالم، يبلغ طولها على الجانبين 15 كم ومساحتها 16 هكتاراً. ومن السوق الرئيسة الممتدة من باب أنطاكية إلى سوق الزرب تجاه قلعة حلب تتفرع عشرات الأسواق المسقوفة وتتداخل بشكل هندسي رائع يضعك في أجواء خيالية، ويدل على خيال وإبداع المعمار الحلبي.
    يجد السائح متعة كبيرة في زيارة هذه الأسواق التي تضعه مباشرة في أجواء الشرق السحرية وعوالم ألف ليلة وليلة، وعندما زارها الرئيس الأمريكي سابقاً كارتر وزوجته أخذتهما الدهشة بما رأياه في هذه الأسواق من كرنفال دائم ليس بالمعروضات فحسب وإنما بالنماذج البشرية التي ترتادها من جميع الأصقاع والمدن والأرياف بألبستها الفولكلورية والحديثة.
    يبلغ عدد هذه الأسواق 37 سوقاً هي شرايين المدينة التجارية، كل منها مختص بنوع أو أنواع معينة من البضائع كسوق العطارين وسوق الصاغة وسوق الفرائين وسوق الجوخ وسوق الزرب وسوق الصابون وسوق الحدادين وغيرها. وتعود أصول هذه الأسواق إلى القرن الرابع قبل الميلاد ثم أخذت شكلها الحالي في العهود الإسلامية ولا سيما في فترات الحكم الأيوبي والمملوكي والعثماني.
    يجد المرء متعة في التنقل في هذه الأسواق بالرغم من صعوبة السير فيها لشدة الزحام، النساء يتقاطرن إلى سوق النسوان حيث تجد المرأة كل ما تحتاجه من أنواع الزينة والهدايا وثياب العرس، وفي سوق العطارين تباع شموع العرس الملونة وأقراص الشراب وهي أقراص من السكر المصنوع والمزين تكسر ليلة الزفاف فوق رأس العروس ليلة الزفاف وتوضع كِسَرها مع آلة الخزانة وتضيَّف للمهنئين تيمناً بأيام حلوة لها طعم السكر.
    وفي هذه السوق تباع جميع أنواع التوابل والحشائش المستعملة في الطب العربي بالأعشاب. وبالرغم من سيادة الطب الحديث فإنه ما يزال بعض الناس يقفون أمام حوانيت العطارين يصفون لهم المرض فيهيئون لهم خلطة مناسبة من مساحيق الأعشاب . ويحرص الزائر لهذه السوق على شراء الصابون المطيب والدريرة ( التربة الحلبية ) التي تستعملها المرأة أثناء الاستحمام فتعطي جسدها نكهة طيبة أخاذة.
    الخانات حركة وحياة
    إذا كانت الأسواق هي الشرايين التجارية والاقتصادية فإن الخانات الموزعة في الأسواق التاريخية وفي الأحياء الأخرى من المدينة هي بمثابة القلب، وقد شيدت لأغراض التجارة والصناعة والإقامة والسياحة. وهي تتألف من طابق أرضي تتوزع حول ساحته الدكاكين والمخازن التجارية والصناعية، وطابق علوي يضم غرفا للتجارة ولإقامة المسافرين والتجار . وسوق تجارية وصناعية، فهي بمثابة مجمعات ضخمة تنبض بالحركة والحياة، منها خان الجمرك المبني في القرن السادس عشر وتبلغ مساحته نصف هكتار ويضم 52 مخزناً أرضياً و77 غرفة في الطابق العلوي بالإضافة إلى المسجد وأسبلة الماء والمرافق الخدمية الأخرى، وكان فيه مركز شركة الهند الشرقية ومقر القنصلية الفرنسية عام 1562م والإنكليزية عام 1583م والهولندية عام 1613م. وقد آثرت القنصليات الأجنبية قديما الإقامة في هذه الخانات حتى إن بعضها كان يعتبر بمثابة حارة أوروبية مغلقة.
    وللخان باب كبير لدخول العربات والبضائع، وفي وسطه باب صغير يدعى خوخة لدخول الأشخاص. ويبلغ عدد هذه الخانات 23 خاناً و 6 قيسريات ومن هذه الخانات الأثرية خان الحرير ـ النحاسين ـ البنادقة ـ العلبية ـ الصابون ـ وأجملها خان الوزير المنشأ عام 1682م. وقد أعيد حديثا ترميم خان الشونة المنشأ في عهد والي حلب خسرو باشا في القرن العاشر الهجري تجاه قلعة حلب، ويضم حالياً سوقاً للمهن اليدوية والصناعات الفنية التقليدية التي اشتهرت بها حلب كالزجاج والحفر والنقش على النحاس والخشب والألبسة الشعبية والفخار والمصوغات والحلويات وغيرها، وفي هذا الخان الكبير مطعم ومقهيان لهما إطلالة ساحرة على القلعة.
    لم تقتصر الأسواق التاريخية والخانات على مهمتها الاقتصادية فحسب، وإنما اضطلعت بمهمات ثقافية فقد كان القادمون إليها من مختلف الأقاليم يحملون معهم أخبار بلادهم وثقافاتهم وفنونهم ويتبادلون مع الحلبيين التأثر والتأثير وذلك واضح في الإبداعات الفكرية والأدبية والفنية ومنها القدود الحلبية التي صيغ قسم منها على ألحان أغان شعبية وافدة من الأقاليم.
    اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
    ولاتؤاخذني بما يقولون
    واغفر لي مالا يعلمون
Working...
X