كتاب / الحفـظ .. (أهميته . عجائبه . طريقته . أسبابه)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أفضل الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن منزلة العلم لا تخفى، فهو من الشرف في المحل الأسمى، وله من الفضل الحظ الأوفى، والقدح المعلى.
والأدلة على فضله كثيرة، آيات كريمة، وأحاديث شريفة، وآثار موقوفة، وأقوال منقولة... لكن العلم لا يحصل إلا بالحفظ، فمن حفظ المتون حاز الفنون، ومن لم يحفظ الأصول حُرم الوصول. فمنزلة الحفظ من العلم أرفع منزلة.
بل الحفظ شرط للعلم، والشرط ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.
ولما كان للحفظ هذه المكانة، وتلك الأهمية، كتبت هذه الوريقات حثا لنفسي وإخواني طلاب العلم على حفظ العلم، فأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم.
وقد جعلت هذا البحث في فصول تحتها مباحث، وإليك التفصيل:
الفصل الأول: أهمية الحفظ.
الفصل الثاني: عجائب الحفظ.
المبحث الأول: عجائب في سرعة الحفظ.
المبحث الثاني: عجائب في قوة الحفظ.
المبحث الثالث: عجائب في كثرة المحفوظ.
الفصل الثالث: طريقة الحفظ.
الفصل الرابع: أسباب الحفظ.
الأول: الدعاء.
الثاني: ترك المعاصي.
الثالث: الاهتمام.
الرابع: التعود.
الخامس: العمل به.
السادس: اختيار الوقت المناسب.
السابع: الحفظ في الصغر.
الثامن: المراجعة.
هذا ما تيسر ذكره، وأسأل الله جل جلاله أن يوفقنا لحسن العمل، والجد في الطلب واستغلال الوقت.
الفصل الأول
أهميــة الحفــظ
حفظ العلم في الصدر، من الأهمية بمكان، وبدونه لا يمكن لطالب العلم مواصلة الدرب، فقدر الطالب في العلم قدر حفظه من نصوص الكتاب والسنة والمتون العلمية واستحضار أقوال الأئمة فكلما زاد حفظه ارتفع قدره.
فقد قيل: من حفظ المتون حاز الفنون. وقيل: من حفظ الأصول ضمن الوصول.
والحفظ: أن يستظهر الكلام عن ظهر قلب، فيضبطه في صدره ويثبته، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.
يقال: حفظ القرآن، آي: وعاه عن ظهر قلب([1]).
قال عبد الرحمن بن مهدي: الحفظ الإتقان([2]).
سأل مهنا أحمد: ما الحفظ؟ قال: الإتقان هو الحفظ([3]).
ولأهمية الحفظ، وعلو شأنه، أوصى به العلماء طلابهم، وأرشدوهم إليه، مبينين لهم أنه أنفع من مجرد جمع العلم في الدفاتر.
قال الأعمش: احفظوا ما جمعتم، فإن الذي يجمع ولا يحفظ كالرجل كان جالسًا على خوان يأخذ لقمةً لقمة فينبذها وراء ظهره فمتى تراه يشبع؟!([4]).
قال القاسم بن خلاد: قيل: الاحتفاظ بما في صدر الرجل أولى من درس دفتره، وحرف تحفظه بقلبك أنفع لك من ألف حديث في دفاترك ([5]).
قال العسكري: إذا كان ما جمعته من العلم قليلاً وكان حفظًا كثرت المنفعة به، وإذا كان كثيرًا غير محفوظ قلت منفعته ([6]).
بل لأهمية الحفظ، وكبير قدره، عده بعض العلماء العلم، دون سواه مما حوته بطون الكتب.
قال عبد الرزاق بن همام: كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فلا تعده علمًا ([7])، وأنشد:
وليس بعلم ما حوى القمطر
والبيت للخليل([9])
قال هشام بن بشير: من لم يحفظ الحديث فليس هو من أصحاب الحديث، يجيء أحدهم بكتاب يحمله كأنه سجل مكاتب([10]).
قال محمد بن يسير الأزدي:
قال بعضهم:
استودع العلم قرطاسًا فضيعه
قال ابن عبد البر: ومما ينسب إلى منصور الفقيه من قوله:
علمي معي حيث ما يممت أحمله
بطني وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي
قال صديق بن حسن القنوجي: وينبغي أن يحفظ ما كتبه من العلم، إذ العلم ما ثبت في الخواطر لا ما أودع في الدفاتر ([15]).
ومما يبرز أهمية الحفظ، ويظهر كبير شأنه، ما قد يحصل للكتب من أمور تتلفها، فيفقد ما فيها من العلم، إذا لم يكن محفوظًا في الصدر.
قال بعضهم ([16]):
عليك بالحفظ دون الجمع في كتب
فإن للكتب آفات تفرقها
الماء يغرقها، والنار تحرقها
والفأر يخرقها، واللص يسرقها
وقد حدث هذا لبعض أهل العلم، تلفت كتبهم لسبب ما، أو ابتعدوا عنها، فرجعوا إلى المحفوظ في الصدر، ومن هؤلاء:
1- أبو عمرو بن العلا (ت154) كانت كبته ملء بيت فاحترق، فكان جميع ما يؤخذ منه إلى آخر عمره من حفظه ([17]).
2- ابن أبي عاصم (ت287) قيل: ذهبت كتبه بالبصرة، في فتنة الزنج، فأعاد من حفظه خمسين ألف حديث ([18]).
3- أبو بكر محمد بن عمر الجعابي (ت355) يقول: دخلت الرقة وكان لي ثمة قمطران، فأنفذت غلامي إلى ذلك الرجل الذي كانت عنده الكتب، فرجع الغلام مغمومًا، فقال: ضاعت الكتب. فقلت: لا تغتم فإن فيها مائتي ألف حديث لا يشكل علي منها حديث لا إسنادًا ولا متنًا ([19]).
4- أبو عبد الله عبد الرحمن بن أحمد الختلي (ت335) دخل البصرة، وليس معه شيء من كتبه، فحدث شهورًا إلى أن لحقته كتبه فكان يقول: حدثت بخمسين ألف حديث من حفظي إلى أن لحقتني كتبي ([20]).
5- أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري (ت202) يقول: لا أبالي أن يسرق مني كتاب سفيان أني أحفظه كله ([21]).
([1])المصباح المنير ص55.
([2])الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/13).
([3])الآداب الشرعية (2/119).
([4])الجامع لأخلاق الراوي (2/248).
([5])الجامع للخطيب (2/266).
([6])الحث على طلب العلم ص74.
([7])الجامع للخطيب (2/250).
([8])الحث على حفظ العلم لابن الجوزي ص25-26.
([9])انظر: جامع بيان العلم ص115.
([10])الكامل لابن عدي (1/95).
([11])الجامع لأخلاق الراوي (2/251-525).
([12])جامع بيان العلم ص116.
([13])جامع بيان العلم ص116.
([14])الجامع لأخلاق الراوي (2/250)
([15])أبجد العلوم لصديق حسن (1/244).
([16])تحصين القبيح وتقبيح الحسن للثعالبي ص84.
([17])الحث على طلب العلم ص74.
([18])تذكرة الحفاظ (2/641).
([19])الحدائق لابن الجوزي (1/27)، والحث على حفظ العلم ص61، والسير (16/89).
([20])الحث على حفظ العلم ص45. وانظر: السير (15/436).
([21])تذكرة الحفاظ (1/357).
([2])الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/13).
([3])الآداب الشرعية (2/119).
([4])الجامع لأخلاق الراوي (2/248).
([5])الجامع للخطيب (2/266).
([6])الحث على طلب العلم ص74.
([7])الجامع للخطيب (2/250).
([8])الحث على حفظ العلم لابن الجوزي ص25-26.
([9])انظر: جامع بيان العلم ص115.
([10])الكامل لابن عدي (1/95).
([11])الجامع لأخلاق الراوي (2/251-525).
([12])جامع بيان العلم ص116.
([13])جامع بيان العلم ص116.
([14])الجامع لأخلاق الراوي (2/250)
([15])أبجد العلوم لصديق حسن (1/244).
([16])تحصين القبيح وتقبيح الحسن للثعالبي ص84.
([17])الحث على طلب العلم ص74.
([18])تذكرة الحفاظ (2/641).
([19])الحدائق لابن الجوزي (1/27)، والحث على حفظ العلم ص61، والسير (16/89).
([20])الحث على حفظ العلم ص45. وانظر: السير (15/436).
([21])تذكرة الحفاظ (1/357).
تعليق